منذ صغري ما تعودت أن أنام وحيدا في ظلمة، ولا طقت أن تقفل دوني باب، حتى في ليالي الشتاء الباردة كنت افرض على مربيتي أن تترك باب غرفتي مشرعا، فغطائي الصوفي و المسخن الكهربائي كانا كافيين أن يجعلا غرفتي ترمي شواظها..
كثيرا ما كانت مربيتي تستغل استغراقي في النوم لتقفل دوننا باب الغرفة فسريرها الرحب والذي يحاذي جدار الباب كان يعرضها لنزلات البرد. هذا ما كانت تدعيه..
لم أتعود الصحو ليلا لأي سبب من الاسباب فقد وهبني الله نعمة النوم العميق، حتى حين ضرب المدينة زلزال خفيف في احدى ليالي عيد الاضحى استغربت لما كان يروج من حديث بين اصدقائي في المدرسة؛
لما رجعت في الزوال واستفسرت عما تداوله الاطفال، أمي قالت: الارض تعبت من سكانها الخاملين، أبي قال: الله يحذر عباده..
ما فهمت معنى لما قالاه، وحدها مربيتي شرحت الأمر ببساطة قائلة: ضع يديك على صدرك، تنفس بقوة، ازفر، هل أحسست بحركة يديك؟ ذاك ما فعلته الأرض..
كنت احب مربيتي مذ كانت زوجة لخالي قبل أن يموت في حادثة سير وتستقر معنا في البيت رافضة العودة الى وطنها الاصلي فرنسا خصوصا وانها لم تنجب أولاد ا..
كنت أحب سمرتها العسلية ومزيج عينيها الضيقتين النفاذتين حيث يمتزج في أعماقهما اللونان الاخضر والازرق، كما كان يثيرني أنفها الدقيق الذي لا يناسب شفتيها المكتنزتين الملونين دوما بأحمر الشفاه الوردي..
في يوم عطلة عاقبتني أمي بعدم الخروج لأني ضيعت أحد كتبي، وهكذا تعدت قيلولتي الساعتين..
في الليل نمت بعد أن راجعت معي المربية دروسي وتناولت عشائي..
الى حدود اليوم لا أدري أي شيطان جعلني استفيق ليلا على غير عادتي: أهي التاوهات التي كانت تملا فضاء الحجرة ام الحركات غير العادية التي كانت فوق سرير مربيتي..
تجمدت في مكاني وأنا ارى مربيتي على أضواء الشارع التي تعكسها النافذة في اوضاع ما رأتها قط عيني وهي تمارس سلوكات مع رجل كثيرا ما شاهدته في بيتنا أو أخذتني أمي اليه..
ما تملكني احساس بخوف ولكن خالجتني رؤى وأفكار، فمنذ هذه اللحظة أدركت لماذا كان يمنع علي النوم في غرفة ابوي، ولماذا كانا يقفلان عليهما الباب بالمفتاح..
وخلال اسبوع من مغالبة النوم ليلا عرفت كيف كان الرجل يتسلل الى بيتنا كل ليلة عبر حديقة منزله الى حديقتنا، ومن تم الى غرفتي عبر باب ثانوية تشرف على الحديقة حيث تستقبله مربيتي..
بدأت أمتنع عن النوم في سريري مفضلا سرير مربيتي التي ما استطاعت ان تشعر أمي خوفا من فضيحة قرأتها في عيوني، فهي حتما أدركت سبب عنادي واصراري على النوم معها على نفس السرير، وتوقف السيد عن التسلل الى غرفتي بعد تحذير من مربيتي لا شك..
شيئا فشيئا بدأت اتلذذ بالنوم قربها، التصق بها، أعانقها، احاول أن أدس يدي الصغيرة بين نهديها حتى اذا اخرجتها اعدت الكرة الى أن تنام..
كلما امتدت الأيام زدت ألفة بما يدور في خلدي وبما أحاول أن أنفذه مع مربيتي، هي نفسها تعودت حركاتي، كنت أمسك بحلمتيها وادعكهما تماما كما رايت الرجل يفعل، ثم بدأت اصر على أن امتصهما حتى إذا قاومتني هددتها بالذهاب الى امي فترضخ، ثم شرعت ألعق بطنها وادس أناملي في أماكن حساسة من جسمها..
تنبهت امي إلى أني ما عدت استطيع الصحو مبكرا كعادتي وأن صفرة بدأت تعلو وجهي، ثم كلمتها مديرة المدرسة عن رغبة النوم الشديدة التي بدات تغالبني في الفصل..
اسئلة متعددة طرحتها علي امي، ثم ابي ومن بعدهما معلمتي كنت اجيب عنها بمهارة أثلجت صدر مربيتي وأراحت الى حد ما بالها مما جعلها تحضنني اكثر، بل تمادت الى أن تقنعني بإقفال باب الحجرة دوننا حتى نمارس طقوسنا بلا خوف من احد..
زاد جسمي هزالا أخاف امي علي...
ذات مساء وجدت ابي بنفسه ينتظرني بدل السائق بباب المدرسة، استلقيت على المقعد الخلفي، نمت.. لم أحس بنفسي الا وانا ممدد على سرير ابيض في عيادة، أول من وقع عليه بصري رجل عرفته وعرفني، نظر الي بعينين قرأت فيهما الرعب والخوف، كنا وحيدين في الغرفة، ما ان اقترب مني حتى توهمت انه سيقتلني..
لم اجد بجانبي غير قنينة سيرو تتدلى من حاملتها نثرتها وضربت بها الرجل على راسه..
بعدها لا ادري ما وقع.. هو ترنح وسقط أرضا بعد أن فار دم جبهته، وانا اسغرقتني غيبوبة أفقت منها على صوت مدير العيادة ومعه ضابط شرطة يسألاني ماذا وقع؟
بعد يومين كنت أركب الطائرة في رحلة علاج الى فرنسا..
وانا في الطائرة فتحت عيني مرتين: مرة تخيلتني وكأني ساهوي الى بئر عميقة، ومرة حين احسست أن ابرة قد نفذت في ذراعي.
كنت محاطا بممرضتين، في عيونهما كنت اقرأ الفضول ونوع من الشماتة: كيف يتم غض الطرف عن طفل مع مربية بلا مراقبة؟
بين صحو وغياب سمعت احداهما تهمس لصاحبتها:.
ـ غبية، كيف كانت قانعة تعوض رغباتها باللعب مع طفل صغير؟
حين وصلت مطار" أورلي" تظاهرت بالنوم، وظلت اسماعي وحدها تقتنص الصدى من حولي..
بعد يومين كنت ممددا على اريكة مريحة وامامي طبيب.. أجفلت بادئ الامر..فكل طبيب صار عندي نسخة شبيهة بالذي كان يتسلل الى مربيتي.. بيننا كانت آلة تسجيل على منضدة صغيرة ؛كانت أسئلة الطبيب عميقة: عن تعلمي، عن علاقتي بوالدي، بأمي، بمعلمتي وأصدقائي...عن الأطفال الذين ألعب معهم في الحي وعن الذين لا أحبهم...
لم يسألني عن مربيتي الا بعد أن طرح أسئلة كثيرة عما احبه في حياتي وما لا أحبه، ثم فاجأني:
ألا تذكر مربيتك وتحن اليها؟
قلت: لا.. تلاعبت بي رغم أني كنت أثق بها.. وبصراحة كنت لا اعرف ما اريد..
قال: حسنا وماذا تعرف عما كنت تريد؟
قلت: مارايت الطبيب يفعل مع مربيتي..لقد كنت ألاحظ أشياء ماعهدتها في حياتي..
ـ الم تحدثك ماما عن ذلك يوما؟
ـ لا..ماما كانت تصر دوما على أن تعلمني ان كل انسان له جسد..هو ملك له وكل من فرط فيه يعاقبه الله، ومربيتي فرطت في جسدها، واستغلت جسدي، كانت أمي دوما تقول لي: جسدك ملكك واياك ان تترك أحدا يعبث به او يلمسه.. فقط ماما وبابا لهما الحق في لمسه ومسؤولان عن نظافته وسلامته..
حرك حاجبيه رضى ثم قال: وهل راقك ما كان يفعله الطبيب مع المربية؟
صمت لحظة ثم قلت: لا ادري.. ولكن حين خلعت ثيابها توهمت اني كنت قادرا على أن أحاكيه..
قال وقد فاجأني: وهل كنت قادرا حقا؟
قلت:بصراحة كنت لا اعرف نفسي ولا اقدر سوء رغباتي..
قال: هي مازالت تريدك؟ هل تبادلها الرغبة؟
قلت بعصبية: أكرهها..لا اريد ان اراها مرة أخرى.. فقدت أصدقاء مدرستي..تغيبت عن دروسي.. جلبت المشاكل لابي وأمي....
ضحك وقال: الكل راض عنك..والكل يحبك، اصدقاؤك ينتظرون عودتك الى المدرسة..معلمتك هاتفتني من لحظات تسأل عنك...
سكت قليلا.. تبسم ثم قال: هل لك صديقة؟
افرحني السؤال..قلت: طبعا كل بنات فصلي صديقات لي..
هز راسه وانحنى علي قائلا: صحيح..طفل مليح الوجه مثلك..مجتهد..من اسرة بأصل ونسب لابد ان يكون محبوبا..
وقف وقد كانت بوادر الارتياح بادية عليه وقال:
هل تعرف انك ساعدتني في معرفة ما في عقلك..كنت أظنك ستكرهني كطبيب وربما تضربني كما ضربت طبيبك المغربي.. الحمد لله انه بخير وهو يتمنى ان يقابلك ليعتذر لك..هل تقبل اعتذاره؟..
صمت..ثم قلت:
ما تعودت أن اضرب أحدا.. الخوف وحده جعله امامي شيطانا..ذكرني بقصة عزازيل ابنة الشيطان التي قراتها..
أجهشت بالبكاء.. ماتصورت يوما أن اجد نفسي في موقف كهذا..
تابع حديثه:ساخرج من عندك وانا مرتاح لاني تعرفت عليك أولا...ولاني فجرت دموعك..ابك حتى تغسل كل مافي عقلك وبين ضلوعك..
ناولني منديلا ورقيا ابيض ثم انصرف.
بعد يومين نظمت إدارة المشفى مباراة في كرة اليد بين فريقين احدهما من خارج المشفى وحيث أني كنت اتقن اللعبة فقد اشركوني ضمن الفريق المحلي..كنت أصغر اللاعبين ولكني سجلت ثلاث إصابات رائعة..
كنت الاحظ الطبيب المعالج يراقبني من نافذة مكتبه وقد كانت أمي معه؛سرني ان أبصرتها سعيدة بلعبي..
أعرف انها لن تحقد علي وانها ستسامحني ولكني مع الأسف لم أكن في مستوى ثقتها ولا ثقة والدي الذي أحبني بلاحد..
هكذا كنت ولمدة عشرة أيام أشارك في نشاط رياضي او سنمائي او مسرحي؛احسست اني دخلت عالما جديدا خصوصا وخلال ثلاث جلسات أخرى مع طبيبي الذي اقنعني ان مامر بي مجرد حلم.. وكان كل مرة يرد الحلم الى شيء كنت أنا السبب فيه..
بصراحة بدأت انسى تلك الكوابيس التي ارقت ايامي بل صار عندي ميل الى نوم لايترك لي فرصة لاسترجاع مامر بي.. فانا وطيلة وجودي في ذلك المشفى كنت نائما او مشاركا في نشاط او اساعد مرضى المشفى في الحديقة او المقصف..
بعد عودتي لوطني كان استقبال طاقم مدرستي مبهجا من خلال حفل صغير نظمته الإدارة..كان الكل سعيدا بعودتي..
في نهاية السنة الدراسية واثناء حفلة توزيع الجوائز قدم الى رجل جائزة المثابرة والنجاح.. أحسست كأني اعرفه.. شكرته بقبلة على خده، لكن صورته ظلت تشغل بالي..من هو؟ وأين رأيته..
حين تذكرت.. ضحكت من نفسي.. كم تتلاعب بنا الأحلام والذكريات !!..
قضيت عطلة تلك السنة في بيتنا الصيفي بالجنوب المغربي، طيلة العطلة كان أبي لا يفارقني، صرنا معا أشبه بصديقين حميمين، كل منا يمتطي فرسا ثم نقطع المسافات الطويلة..
كان يحكي لي عن دراسته في العراق، عن ثورة عبد الكريم قاسم التي حضرها في الستينيات، عن محاولة زواجه بعراقية امتنع أهلها ان تصاحبه الى المغرب.. عن بداية حياته العملية كاستاذ للتربية الإسلامية قبل ان يترك مهنته الى القضاء بعد ان حصل على دبلوم المدرسة العليا للدراسات القانونية، عن حبه لأمي وزاوجهما....
لم ينس ان يذكر المرحوم خالي وزوجته التي صارت مربيتي بعد موته..
كنت ألاحظ انه كان يراقب كلماتي وانفعالاتي بدقة متناهية وهو يحدثني عنهما..
كنت اصمت وأحس بضيق من ذكرها الى أن كان ذات مساء وقد خرجنا من المسرح بعد مشاهدة مسرحية رائعة اسمها فولبون: لبن جونسون..
سألني: مارايك في فوسكا خادم فولبون؟
قلت: الخدم قد يظلون خدما ولو استغنوا، لكن اول ما يستغنون يصيرون خطرا على من أحسن اليهم..
صمت قليلا ثم قال: ليس بالضرورة يابني لكنها النفس البشرية تصير شرسة اذا غزاها الخوف وقلة الوعي، كذلك كانت زوجة خالك، الخوف مني جعلها تتجاوز حد الاخلاق والقيم، هي غير ملومة على ما اقترفته مع صديقنا الطبيب، فهو من تعدى على حقوق الجوار وحرمة الصداقة.. لو لم يتحرش بها ويستغل وحدتها وطيبتنا لما وقعت في ما وقعت فيه...
كان يتلفظ كل كلمة ويترقب ردة فعلي...
قلت له:هل تعلم انه هو من قدم الي هدية النجاح؟
ضحك وقال: ادري وانا من اقترحت ذلك على إدارة المدرسة..كنت أحب ان أرى ردة فعلك..وان اغيضه عساه يدرك ان ليس جميع الناس حيوانات بلاعقل مثله، فما جدوى علمه اذا لم يفده في حماية الإنسانية؟
أحسست كانه يحدث رجلا عاقلا كبيرا لاطفلا في مثل سني، وتذكرت انها كانت عادته حتى حين كان يناقش معي مضمون كتاب فلسفي اوقصة مما كان يدفعني لقراءته..
قال بعد صمت ساد بيننا:
ـ هل تعبت ام تفكر؟
قلت أفكر..
بسرعة اتاني رده: لاتفكر في شيء كلنا خطاؤون..هي تجربة كم اسعدني ان تمر بها وان نتادرك نتائجها قبل أن تستفحل، لكن اظن أن ابني اكبر من ان تؤثر فيه حادثة بسيطة... هي تجربة مفيدة لكنها في غير وقتها اخرجتك عن طهرك واوقعتك في انفعالات قبل الأوان، ولكنها علمتك معادن بعض الناس وكيف يجب ان نتعامل معهم بالحذر لكن بلا حقد عليهم، لان لهم ظروفهم الخاصة.. بالمناسبة هل تعلم ماذا قالت مربيتك في التحقيق:
وقبل ان ارد عليه قال: قالت: وحدي اتحمل مسؤولية كل ما وقع..انا من أغريته وشجعته، لماضبطني مع الطبيب كنت أخاف ان يبلغ عني..
وبدل ان افجر الحدث تكتمت عليه وأغريت صبيا بما لا يستحق..
قلت: ماعاد يهمني أمرها ولن انام بعد اليوم الا وحدي..
ضحك وقال: يابني !!.. الانسان الحقيقي هو من يشعل شمعة، يخرج بها في يده والجو عاصف، فيحتاط من ان تطفئها الرياح..اين قوة العزيمة اذا عالجناها بالهروب؟
ادركت ماذا كان يرمي اليه.. كان يريد مني ان اصير رجلا بعقل وعزيمة لا امعة اميل حيث الريح تميل.....
بعد نهاية العطلة كنت انسانا آخر، انسانا هو ما اجده اليوم في شخصيتي وقراراتي، في تعاملاتي مع غيري..
بعد ربع قرن مرت على الحادثة، التقيت بمربيتي خلال هذه المدة مرتين، مرة حين أتت تودعنا بعد ان قررت العودة الى وطنها، وقد احسست نحوها ببعض من نفور اما في الثانية فقد صادفتها حين انتقلت لأتابع دراستي في فرنسا كانت كاي امراة قد رسمت السنوات اثر الضنى والتعب على وجهها، وفي عيونها الزرقاء التي صار يتخللها نوع من الضبابية، حتى سمرتها قد تحولت الى لون قمحي باهت وتوزعت على جبهتها بقع بيضاء، كانت تجتهد في تغطيتها بمساحيق وادوية..
***
محمد الدرقاوي