نصوص أدبية

نصوص أدبية

ارسم على

مراة قلبي

بنفسجا

نرجسا

واقحوانا

وقرب نبع

الكرستال المضيء

اطارد الدود

العناكب

والجراد

والاعب البرق

الريح والنسيم

غازلا من حرير

احلامي ورؤاي

خياما لاحبتي

العشاق الحزانى

الفقراء وعازفا

على قيثارة قلبي

لحن الشفق

الازرق وقوس

قزح الصباح

داعيا كل غزلان

الكون وكل ايايله

كي ننصب فخاخنا

في طريق بنات

اوى والثعالب

وفي طريق

الشواهين

العقبان

والبزاة

وقرب حدائق

وبساتبين العشاق

ننصب خيام امالنا

واحلامنا مغنين

للبرق للشفق

الازرق وللمطر .

***

سالم الياس مدالو

 

تَمادى الغيبُ ما بقيَ اسْتتارا

ويُدرينا إذا رَفعَ الستارا

*

حِجاباتٌ بها الأفهامُ حَيْرى

وإنْ بَعُدَتْ فقد زادَتْ وَقارا

*

يَفيضُ الصَمتُ قَطْرا مِن مَديدٍ

فيَجْعلُ وعْيَنا لجَجا مُثارا

*

تَماسَسَتِ العقولُ بلا لقاءٍ

وأطلقتِ الرؤى وهَجا ونارا

*

وقالَ الروحُ مَنْ دَهَمَ الخفايا

ومَنْ وهبَ المعانيَ إنْبهارا؟!

*

وإنّ النفسَ ناطقةٌ هَواها

بساجعَةٍ تُبادلها اسْتعارا

*

فهلْ جُهِلَتْ جَواهِرُها وخابَتْ

وهلْ صدَحَتْ مَعارفُها جَهارا؟!

*

توارى كلُّ مَكنونٍ بحُجْبٍ

وبانَ مُبهَّماً لَبِسَ الدِثارا

*

فوعْيُّ الشيئ مَرهونٌ بجُهْدٍ

يُجاهدُ خَنْدَقا مَنعَ ابْتصارا

*

خَلائقُ رَحْلها تُلقى إليْهِ

وكمْ وَفدَتْ وما قطعتْ مَسارا

*

وما نظرتْ بزاويةِ اعْتمادٍ

تُسطّحُ حَوْلَها فترى الغبارا

*

وما نَهَضتْ بدائرةِ انْغلاقٍ

ولا كشفَتْ مَفازاتاً ودارا

*

تَعَثرتِ الخُطى في وَحْلِ ظنٍّ

يُقيّدها ويَمنَحها انْكِسارا

*

وأُجْبَرتِ العقولَ على انْصفادٍ

بأوْديةٍ توافيها انْحِسارا

*

وتأخْذها لشطآنٍ تلاحَتْ

لتُغْرقها وتَجْرفها حَيارى

*

وتؤنِسها بأوهامٍ ورُغْبٍ

وقد رَسَمَتْ لها سُبلا عِثارا

*

يُوالدها ترابٌ مِنْ ترابٍ

ويَخدَعُها ويُلقِمُها انْصِهارا

*

وما عَلِمَتْ ذواتٌ مُحتواها

ولا وَصلتْ قوافلها مَطارا

*

رأيْتُ الغيْبَ غيّابَ اغْتفالٍ

ومُنتهلا يُعاطينا اخْتبارا

*

فلا غَيْبٌ إذا غابَتْ نفوسٌ

وأوْرَدها التنائيُ إحْتِضارا

*

قيودُ الخَلقِ طاقاتٌ تَنامَتْ

بأعْماقٍ وما مَنحَتْ خَيارا

*

كأنّ وجودَها طغيانُ أمْرٍ

يُعذبّها ويُشبعُها انْقِهارا

*

وما غَنِمَتْ منَ الويلاتِ دَرْسا

وما سَئِمتْ بها يوما جِوارا

*

وإنْ ظفرتْ بعاليةٍ تهاوتْ

وأرْدَتْ كلّ ساميَةٍ نِثارا

*

سُقينا من مَشاربها فخُرنا

وما زالتْ تُساقينا المَرارا

*

نغارُ على هواها منْ غَريمٍ

فيُلقينا على حُصُرٍ خُسارى

*

تداوينا بأوْضارٍ وداءٍ

وما غَفلتْ وكمْ خاضَتْ غِمارا

*

تَحاوَرَتِ الخَطايا واسْتراعَتْ

وألقتْ حِمْلها ونَضَتْ خِمارا

*

تُعاصِرُنا المَنايا كيفَ شاءَتْ

فأضْحى المَوتُ في زَمَنٍ عِقارا

*

تُخاطبني بمُنْطلقٍ لجَوْرٍ

وتَنْهرني وتُهْلكني انْسجارا

*

وما الغيبُ الذي غابَتْ سُداهُ

وإنّ الغيْبَ يُدْركُنا كبارا !!

*

يَبوحُ لسانُها بلغاتِ كنّا

فيوقِظنا ويُلْهِمُنا افْتكارا

*

وإنْ قَفزَتْ إلى العَلياءِ خَطوٌ

تَشاسَعَ خَطوُها وبَدى اخْتِصارا

*

رُبوعُ الكونِ في كوْنِ انْفِلاقٍ

يُعاجلُها ويُلْقِمها ابْتِدارا

*

غَياهِبُ نورِها كَنَزتْ غُيوبا

بأفئدةٍ وما ظهَرَتْ عَيانا

***

د. صادق السامرائي

7\4\2015

أُسَائِلُ نفسي: الزمانُ بغى؟

تُجيبُ: ويحملُ عُنْف الزمنْ .

*

ويغلظُ في كل حينٍ يُريد

ويُضْمِرُ في وجْنَتيهِ المِحَنْ!

*

ويَعْجَبُ للمفرداتِ اللواتي

عَشِقْنَ وكُنَّ مَثَار الشجنْ!

*

ويَغسِلُ وجْهَ الحقيقةِ صِدْقاً

بإفكِ اللحى و(عمائِمِ لنْ)!

*

ويَدْهمنا بينَ حينٍ وحين

بآفاتِهِ الحارثاتِ البدَنْ!

*

فأوبِئةٌ وارداتُ الأذى

وأوبِئةٌ قابضاتُ الثمن!

*

وأنظِمةٌ جائحاتُ الردى

وأنظِمةٌ أعْطَبَتْ كل فنْ!

*

واللصُّ في ثوبِ دينٍ نراه

يؤمُّ ويَخطبُ فينا عَلَنْ!

*

وأوطاننا في أتونِ الحروب

تَظَلُّ زماناً...تَطْحَنُ منْ؟!

*

وحُكَّامنا ضيعوا قدسنا

وغطوا( الرؤوس)...وماذا إذنْ؟!

*

و(قيسٌ) يموتُ بكلِّ  وباءٍ

و(ليلى) تخونُ علاج الوطنْ!

*

إذا لَمْ نَرَ يوم سعْدٍ لنا

من الدهرِ فاسْعَد بماقد يَقَنْ!

*

فمابالُ هذا الزمان بغى؟

متى الحل يأتي؟ متى يازمنْ؟

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

 

شجرتي

لست من يتحجّبُ عن مخفياتي

ولا أنت من يراني مجرَّدَ دخانٍ في الغابة

أوَّلَ أمسٍ

تفتتتْ أوراقك بضحكةٍ غرائبيةٍ

وغاب عنكِ اللَّمع

طبعاً كنت مدجّجاً بأصل الكونِ

ليس الماء.. ليس الهواء فقط

بل بالنقيض والمضاد

بالشيء واللاشيء..

أنا برادوكس أتلف نعمانة صغيرة

في حدائق جنَّتك..

كل من ينقب من فوق رأسي حبَّةَ جنونٍ

هو حرٌّ..

ليس لي خاتم سليمان

ولا أحتمي بحضنِ مُرضِعةٍ

لأردَّ دورةَ الأرضِ الى الصفرِ

ليس لي عصا موسى الحكيمِ

لأزلزلَ البحر..

رحلاتي لا تتوقفُ أبداً..

سفينتي تخلَّتْ عنِ الشِّراعِ الأزلي للجاذبية.. بوصلتي في كف ساحرٍ معتوهٍ..

مجدافي أقصر من قامتي..

غالباً ما تتحاشني الدلافين أمام بوابة البحر.. لكنَّ لحمي مالحٌ..

ليس لي بوراق يقودني الى أفقٍ أبعد من السَّماءِ..

في حينٍ أسأل الرّبَ طلةً من وراء الحجاب..

لقد سخّر لي الشرُفات، وألهم الجبال مرونةً لأسعى فيها بلا كلاٍ..

رأيتُ ما لاتراهُ العيون..

أبو الهول مشنوقاً..

رأيت كارل ماركس وسبينوزا يعرقان..

رأيتني بدون صلاةٍ..

وجهتي بتلفِ العُميان ترصدُها الخوارقُ..

عاكفٌ على حفرِ كفوف الموتى..

لا جدل ولا جدال..

وحدها سعاد عروسة بين يدي القديس..

كانت تقامرُ بعيونها لأجلي..

بودها لو تعرف مآل السًجَّان..

عمر الإنتفاضة..

ثورة الخبز..

وعشقِ الإنسانِ للإنساِن..

ما ألهمني ربي بطلةٍ الاَّ والقمر جانبي..

هنا لا جدوى للكلام..

لا طائلة من التفكير وصياغة أفق السعادة..

لا خيال ولا تخيُّل..

طلقة يتيمة تركت الأعراف في يدٍ واحدةٍ

شعلةً ُمطفأة..

ترى من صفَّد الأقدام بحبلٍ فولاذي.. ؟

وصنعَ ثابوتاً بخشب شجرتي..

أأضاعت قدسيتها بين شهوة الرجالِ.. ؟

هي أثمرت مرةً واحدةً..

لتسقطَ آدم ..

المهزومون ينتظرون انتهاء ضجيج المرايا

ليبتلعوا صبيب الصَّمتِ في شكٍ وارتيابٍ..

الكلُّ يرى ساعة حائطه تنكسر

لحسن الحظِّ بُعِتنا جمعياً مبصرون.

آه شجرتي من أعياكِ..

هذا كتابي بيميني أو بيساري

أنا صاحبُه..

لا تنشغلي فهو أضخم ممَّا كنت أتصورُ

أسأل من وهبني طلّتي

أن يغفرَ ذنبي

شجرتي..

لا تبكي ..

سأستظلُّ بظلّك يوم تنتهي الظِّلالُ

سأحرسُكِ من الآيادي الطَّويلةِ

من البندُقياتِ والعيُّون..

صوتي لا تأكل منهُ العُقبان..

ولنْ أطأ بقدمي رماداً دائمَ الإشتعالِ..

أنا عرشٌ من أعراشكِ

وإنْ أخذتني العزَّةُ بالتَّمنِي..

أنا عينٌ في مجسَّمكِ الفضيِّ أقرعُ أجراسَ السكوتِ..

وأمتصُّ صدأ تعب السِّنين..

لا تقتلعي من أدغالكِ ندى الأفنَانِ

زهرتي اليوم تشرب من طيفِكِ تمهُّداً لإحترافِ الهاويةِ..

***

عبد اللطيف رعري

03/03/2023

.................

دائماً.. وفي مثل هذا اليوم أستحضرُ تاريخاً عميقاً بذاخلي، كلُّهُ أوهام وحسرة، وانزعاج، مضايقات، كلُّه اعتراضٌ لسبلِ

الحُرية وحقوق الإنسان.. واليوم وأنا أرسمُ الطريق المؤدي الى حتفي يحضرني نفسُ الإحساس..

في جوقة مروعة لإستعراض فنون النصب والإحتيال خطفتُ قصيدتي هذه..

لا أعرف يدي ترتجفُ.. وجسدي بدأ يعرق.. هل تخلّصت من ثقلي أم لا.. هل أنا الان محاطٌ بمن يقرأ على جثتي بعض ما تيسَّر من الذكر الحكيم.. سلام وبعده سلام

فاجأنا عمّي، بعد انتقال زوجته المصون إلى رحمة الله، عن عمر ناهز السبعين عامًا، بأنه ينوى الارتباط بامرأة تستر عليه شيخوخته وتكون سندًا له في ارذل العمر، ولم يكتف بهده المفاجأة وإنما تجاوزها بزيارة ليلية ليطلب مني المساعدة بالعثور على زوجة مناسبة له.. تملأ الفراغ الرهيب الذي تركته زوجته المرحومة، هززت راسي محبذًا ومباركًا، فنحن نعيش في فترة تختلف عن سابقاتها من الفترات، بما فيها فترة تهجيرنا من قريتنا، بقوة السلاح، وأكدت رأيي قائلًا إنها فترة لا يوجد للمرء إلا نفسه، وقلت له بالعبرية "ام اين لي أني مي لي"، فطلب منّي عمّي أن اترجم له ما قلته بالعبرية، إلى العربية فرفضت، وأردفت حتى لا أزعله "بحكّش جسمك غير اظفرك"، ابتسم عمّي ومضى في ليله، لاكتشف في اليوم التالي أنه شرع في إخبار الجميع بما انتوى أن يفعله.. وأن قصة رغبته بالزواج، قد انتشرت على كل شفة ولسان من السنة أبناء الحارة.

سمعت في الايام التالية أنه لجأ إلى أحد متشرّدي الحارة وشذّاذي آفاقها ليساعده بالعثور على زوجة تملأ ما خلّفته زوجته الراحلة من فراغ، وأن هذا أوصله بعد دعوته على ثلاثة أرغفة فلافل، إلى إحدى العوانس، المعروفات بهبلهن، فحملت نفسي وهرعت إليه: هل ما سمعته يا عمي صحيح؟ ماذا سمعت يا ابن اخوي؟ سمعت أنك تفكّر بالزواج من تلك الهبلة. آه.. وشو فيها يا ابن اخوي.. على الاقل بتدير بالها على عمك. بس هاي هبلة يا عمّي. هبلة.. هبلة يا ابن اخوي.. ولك إن شا الله بتشُخ على حالها. بدّي وحدة تونسني بوحدتي.

تركت عمّي وأنا افكر في كلماته الجارحة.. هل أوصلته وفاة زوجته إلى تلك الحالة التي تحدّث عنها؟ هل هو يعيش مثل هكذا وحدة ونحن حوله موجودون؟ ركبني شيطان الاسئلة، لقد بات أمر ارتباط عمّي جديًا، لكن هل يوافق أبناؤه وهم كثر وبينهم الشرس الحاضر طوال الوقت للشجار، هل يوافقون على ارتباطه في سنّه تلك المتقدمة؟ هكذا وجدت نفسي أردد سؤالًا يحتاج إلى إجابة ليست بيدي. اتصلت بعمّي وسألته عمّا إذا كان أبناؤه موافقين على زواجه؟.. فجاءتني إجابته الفورية: شو دخل اولادي.. وين بكونوا لمّا بكون لحالي في الليالي الطويلة.. كلّ واحد منهم ملتهي بتَبع مرته.

أثّرت فيّ كلمات عمّي، وقرّرت من فوري مساعدته.

في اليوم التالي ابتدأت رحلة البحث عن زوجة لعمي، فرحت أسال عمّن ترضى به زوجًا لها في تلك السن المتقدمة، وكان أن قلّلت عقلي واتصلت بمن سبق لعمّي وأن اسأله، فأخبرني أنه توجد في بلدة مجاورة امرأة في الخمسين من عمرها وتريد أن تتزوّج. وراح يعدّد مناقبها الطيّبة، توجّهنا، عمي، أنا وذاك المتشرّد، من فورنا إلى تلك البلدة، عندما أوقفنا سيارتنا بعيدًا عن بيت كبير فاره، أخبرنا مرافقنا المتشرد أن ذاك هو البيت المقصود، طلب منّا أن نبقى في السيارة، وترجّل منها قبل أن يستمع لإجابتنا، وولّى مسرعًا كمن ضربته بعصا على قفاه. لم يطل انتظارنا، لنستمع إلى جلبة وصراخ، وشتم وسباب، تنبعث من البيت قُبالتنا، عندما عاد المتشرّد بثيابه الممزّقة، أدركنا ما حدث معه، فقطّب عمّي ما بين حاجبيه، فيما لاحت ابتسامة على شفتي. ومضينا في طريق عودتنا إلى بلدتنا خائبي الرجاء، على أمل أن نجدّد البحث في اليوم التالي.

في اليوم التالي تكرّر موقف اليوم السابق، لكن بفداحة أكبر، فقد رأينا امرأة ضخمة معافاة تقذف متشرّدنا من بوابة بيتها، وتلحق به، ليدخل إلى سيارتنا وليطلب منّا أن نهرب ناجين بجلدنا، غير أن تلك المرأة تمكّنت من منعنا من الانطلاق، وراحت تتساءل مين هذا الشايب العايب اللي بده يتزوجني؟ انكمش خالي، فيما هتفت بها قائلًا..إانه كان معنا وهرب خوفًا منها. تقبّلت المرأة الضخمة الحانقة الغاضبة روايتي وسط علامات شك بدت على وجهها، وسألتني عمّا إذا كنت متأكدًا مما أقول؟ فأرسلت نظرة استجارة بعمّي، عندها مد لي حبل النجاة وهو يقول، نعم نعم هو هرب. ابتسمت المرأة ومضينا نحن الثلاثة هاربين، وحامدين الله أنه نجّانا من براثنها ومن لكماتها.

بعد يوم من هذه الحادثة وقعت الحادثة الثالثة، فقد انتهت بأن أكل مرافقنا المتشرّد نصيبه من اللكمات والصفعات، ووزّعت العروس العتيدة، هي وأهلها، علينا ما تبقّى من لكمات لا تنسى، بعد أن أكلنا نصيبنا من الضرب، وتوقف مهاجمونا عن توجيه الاهانات رأيناهم يبتعدون عن سيارتنا واحدًا وراء الآخر حتى أنهم بدوا مثل صف عسكريّ أدى مَهمته على وجهها المنشود وعاد غانمًا سالمًا، فما كان منّا إلا أن لجأنا إلى ما تبقّى في سيارتنا من قوة واندفعنا اندفاع عاصفة قاصفة مبتعدين عن تلك الشريرة وأهلها الكرام.. سامحهم الله.

عندما اتخذ كل منّا، نحن الاشقياء الثلاثة، لم أجد أفضل من هذه التسمية، مجلسه في أحد المطاعم الشعبية في حارتنا، لم يسألنا عمّي عمّا ننوي أكله وطلب لكلّ منّا رغيف فلافل كبيرًا، فأتينا عليه.. من غلّنا.. وفتكنا به عن بكرة أبيه، ما دعا عمّي إلى طلب رغيف آخر وبعده آخر.. بعد أن شبعنا، أولًا ضربًا وثانيًا فلافل، تفرّقنا وقد تأكد لنا أننا لن ننجح فيما وطّنا أنفسنا عليه، غير أن ما حدث في الايام التالية جاء مختلفًا، كما تبيّن لي على الاقل فيما بعد، ويبدو أن ذلك المتشرّد، بحث عن طريقة أخرى يلهي بها عمّي، فاقترح عليه أن يجلس في المحطة المركزية للحارة، وهناك تجد ما هبّ ودبّ من النساء، كلّ ما هو مطلوب منك، هو أن تفتعل أي حركة، أن تقول على مسمع من تروق لك، مثلًا، إن الباص قد تأخر، فإذا تجاوبت معك، تابع معها، أما إذا لم تفعل، فانصرف إلى غيرها.

ما إن دخل كلام متشرّدنا عقل عمّي وركب على عقله، كما علمت فيما بعد، حتى سارع من فوره لارتداء كلّ ما على الحبل من ملابسه الجديدة، وأغرق نفسه في بحر من الروائح العطرية، وتوجّه في ساعات الصباح المبكّرة إلى محطة الحارة المركزية. اتخذ هناك مجلسه مثل ملك غير متوّج، وجعص يعج على سيجارته المارلبورو الثمينة، وما إن لاح له طيف بغيته من النساء، حتى شبّ على قدميه وتعمّد الوقوف قريبًا منها، وهو يتمتم بكلمات عن تأخر الباص، افتعلت المرأة حركة، فهم منها أنها غير معنيّة بالتحدث إليه، فعاد إلى مجلسه كسيرًا متهدّل الاذنين. بعد ساعة من الانتظار شاهد امرأة.. تقترب من المحطة فراودته أحاسيس جدّية أن صنّارته قد غمزت، إلا أن نقبه طلع على شونة هذه المرة أيضًا. فعاد إلى مقعد الرئاسة في محطة الحارة المركزية. بعد ساعات من الانتظار، وقع حادث مكّن عمّي من تحقيق بغيته. كان ذلك عندما رأى شابًا يحاول معاكسة إحدى الواقفات فانتابته حمية ونخوة عُرف بهما في أيام الصبّا والشباب الغابر، فدنا من الشاب مشددًا قبضته في محاولة منه للكمه، الامر الذي لفت نظر تلك المرأة. الشاب على ما يبدو فضّل الانسحاب وولّى مختفيًا في الفضاء الرحب. اقترب عمّي من تلك المرأة فابتسمت له، فتجرّأ وهو ينتقد شبيبة هذه الايام: أما شباب. عندها انفكت عُقدة لسان الاثنين، خالي وبعده تلك المرأة التي اكتشف أنها حسب الطلب .. ربلة.. ملانة وملظلظة، وأخذهما الحديث، إلى أن جاء باصها فانصرفت.

هكذا وجد عمّي ضالته.. وبادر في صبيحة اليوم التالي إلى المحطة ليجري محادثة عمره مع تلك المرأة.

دبّ هذا النجاح الحمية في راس متشرّد حارتنا، فتحدّث عنه لآخرين بصورة هامسة.. وبعدها مدوّية.. بلغ خبر علاقة عمّي بتلك المرأة اسماع أبنائه.. واحدًا تلو الآخر، فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليه أشرسهم، ليخبره أن أمر علاقته بامرأة محطّة الحارة، قد انتشر وذاع، وأن اخوتها قرّروا إطلاق النار عليه في أول فرصة يرونه يتحدّث فيها لأختهم. ما إن سمع عمّي هذا التهديد الواضح المكشوف، حتى انكمش وانطوى على نفسه.. وأغلق باب بيته على نفسه.. منذ ذلك اليوم لم يرَ أحد عمّي.. فاعتقد البعض أنه مات.. علمًا أنه حيّ يرزق.. ويتطلّع إلى يوم آمن.. يجمعه فيه رب العالمين بفتاة أحلامه.

***

قصة: ناجي ظاهر

وقصص أخرى قصيرة جدّا

هذيان

أضع يدي على جبينه المتّقد فينفطر قلبي.. وتطوف بذاكرتي صور من ماضينا السّعيد فأزداد وجعا وأقول ها هي سُنّة الحبِّ تمضي فينا...

ويأخذني البكاء...

سمعته يرطن بكلام غريب جاءت به الحمّى. يذكرني ويذكر امرأة أخرى. وبدا لي كأنّه يناجيها، فتيقّظ في داخلي حدس الأنثى بخطر ما...

"في بيتي أفعى. دعيني أتخلّص منها أوّلًا!"

**

بحر الظُّلمات

دفعوني في قوّة فمضيت أتعثّر في جوف الحبس حتّى كدت أنكفئ على وجهي.. كان خافت الإنارة يقطع سكونه الثّقيل أنين متقطّع.. رأيت أحدهم متهاويا كخرقة بالية وتحته خليط دم وبول وغائط... قلت في نفسي: "هذا مصيري إذن؟"

وحينما دخلوا عليَّ كذئاب جائعة درت في وسطهم كعاصفة عمياء، فجعلتهم يفرّون من وجهي وهم يتلاطمون أمامي ويتعثّرون ويسقطون...

**

سنة 1985

مدّ بصره الجائع نحو أجسام بضّة تتحمّم بماء حارٍّ جاء به الوادي من أعلى الواحة.. وشعر بدمائه تُحشى ببارود غاشم وخياله المحموم يرحل نحو إحداهنّ...

بيد أنّ التفاته حواليه خشية أن يُضبط بجرمه لم يفلح في جعله يتفطّن إلى تلك اليد التي هزّته هزّا وكادت تقذف به من أعلى..

والتقت نظراته المرتبكة بنظراتها. نظرات زوجته...

"خائن! هذا آخر يوم في حياتِك!"

**

ويحلو السّمر

اللّيل بهيم بلا نجوم، والسّكون شامل محيط، وكلّ شيء في الجبّانة يدلّ على أنّها في بُعد آخر...

تحسّس الأديم من حول القبر بيد مرتجفة، وهو لا ينفكّ عن تخيّل مخلوقات غامضة تشمله بنظراتها الشّرّيرة... وما كاد يعثر على برهان شجاعته حتّى نفر كما ينفر الأرنب المذعور. بيد أنّه انجذب إلى الخلف في شدّة وعنف ليسقط مغشيّا عليه...

وهنالك ثارت عاصفة من الضّحِك...

***

حسن سالمي

 

كنتُ مُحاطاً بجبلٍ من نارٍ

لمّا عدتُ من رحم المتاهة

كان لي منقار

مغمسٌ في الطين

منذ البداية ….

لا أغتاظ من تورُّم أنفي …

ولا أشكو الأنام معصية نظمي …

كانت أمّي تلعنُ وجهي

وتتمتم طولَ الظهيرة بقولٍ مبثورٍ

هي لا تكرهني

لكنَّها تحسبُ أنّ الملعقة التّي في فمي من ذهب

وأنِّي سأصيرُ كاهناً…

بعد أن اخترتُ الجبلَ

عدتُ أنشدُ تآويلي الحزينة

ألطِّخُ مقصورة الإمام

بما تبقى من وحلِ المقابرِ

أجنّ لفراغ الأقبية من ضجيج العصافير

أترعُ أبواب الدّمار في وجه أعدائي

أسحلُ بالقدر الكافي الأشرار والغزات

عصاتي تشهدُ على جرائمي

التَّمردَ

والعصيان…

لا أستبشرُ رحمة من أقنان القصور

وبين الفينة وطول نحسي،

تحترقُ بين أصابعي ومضات البحر

الأسطورة تقول:

إنِّي مخلوقاً ورقي

مهزوماً حين المطر…

والشّرط ذمَّة للغائب ومن ظهر….

قسماتُ وجهي حين يصفعني الهُزال

تشبهُ ثقب في مجرَّة تحتضرُ…

من أصلٍ خرافيّ

أضمُّ البحر بعرضه بين أنينٍ وأنين…

قالت عنِّي العرافات:

إنِّي أسرقُ زرقةَ السَّماء

أزعجُ نومة القمر..

وتُؤسَرُ العصافير في أقفاصي…

وأنا الآتي بها من عدمٍ

والمضافُ الى خمائري دمويٌّ

لذا مصابيحي باهتة

كاشفة للعيَّان غبشَ من أكون؟

عفوا الطبائع ليست وفق المشيئة….

أنا بارٌّ بالكائنِ الذي يمتلكني…

وأكياس الملح التي على ظهري

سأنثرها

لربيعٍ أكثر شراسة

من هذا الربيع

أعتذرُ فقط لليد التي استقبلتني

ولم أقبلها….

والعين التي لم تنم ليلة مخاضي

ولم أضع فوقها كحلاً حراً…

أمَّا عن هجرتي واغترابي

فالأمر سيان

عودة للجبل

او عودة لقرن الأسطورة.

***

عبد اللطيف رعري

06/03/2023

......................

عادة أحسب نفسي ثقلاً لا يُحتمل ،عنصراً غيرمرغوب فيه، بلا أهميَّة، وكأني أنا من اختار هذا القدر المشؤوم،لدرجة انّ العالم فوق رأسي يطفو.. بجانب شرذمة بشرية عافها الزمن، ولم تقو على البقاء، تتهاطل عليّ الإستفهامات كأني طبيب نفساني او فقيه حلّ ببركته ليحمي المكان…

من يستشيرني عن عملية انتحار..عن الجنّة والنار …عن الحساب والعقاب..من يقرأ لي رواية سجنه الأخيرة وسبل النجاة من أبشع الجرائم ..وهناك من اكتفى بمراقبتي وكأني وحش قادم من وراء الشمس ..الذي ينفث الأرض ..سجائر رخيصة..نتانة واتساخ خلوي ..

ما أحوجني الى حمام سيكولوجي كذالك …ليتني ما استيقظت اليوم..-

هي لا تعرف لها أبا ولا أما، فمذ رأت النور وهي لا تجد أمامها غيرهذا الشيخ الهرم الذي هبرالزمن من قوته.. وما ابقى له غير صورة لحم ودم لليث أبيض غزا الشيب وجهه وراسه، أشفاره وحواجبه كوَسم لتاريخ هو نفسه يتكتم كيف مرحله تكتمه عن حقيقتة ومن هي بالنسبة اليه:.

"وجدتك كسخيلة في قماط رث واحدى النعاج تقطر حليبها في فمك فتكاد تخنقك "..

هل هي الحقيقة ما يحكي ويعيد ؟.. لا تدري !!..

كانت تضحك لتصريحه، ثم صارت تشك، ثم قمطها تفكيرعميق ؛هو الوعي الذاتي بوجودها.. قدرها الذي أوجدها ووضع هذا الشيخ في طريقها أو وضعوها عمدا في طريقه فهو ليس أباها ولا جدها ولايريد أن يفصح حتى عن الرابطة القوية التي تجعلها ملتحمة به..

"ما أصعب أن توجد وأنت لا تحمل حقيقة نفسك ومن أوجدك ؟.. "

يزورالرُّحل الأصدقاء العابرون الخيمة اذا عطشت الأرض من حولها وضحل العشب، فيفكونها إذا رغب الشيخ و أذن، ثم ينتقلون بها حيث لا يقيمون لان الشيخ يمتنع أن يقيم في مكان يضايقه فيه غيره، لا يشترط غير ماء قريب ومساحة ارض صغيرة ترعى فيها شياهه التي هي أقل من أصابع اليد الواحدة.. كان عند الكل مطاع الكلمة مستجاب الرغبة..

كانت عيونه كزرقاء اليمامة، يرى القادم عن بعد أيام، ولكل غريب آت يسمع حسا وصدى، فيأمر الصغيرة بكلمة أو إشارة بالمكوث متخفية وراء حصير الحلفاء لا تخرج حتى يمر الغاشي الزائر منفردا كان او في رفقة..

هكذا ترعرعت أمامه وفي رعايته، صبية نحيلة الجسم، ضعيفة البنية، لكن بقد مياس، بشرة سمراء، أنف خناسي صغير، وعيون يختلط فيها الأزرق بالأخضر، أما الشعر فحريري أشقر يعاكس بشرتها، يتطاير مع كل هبة نسيم كانه يساير ذاتها وهي تهفهف وتطول بالليل والنهار..

كانت كثيرا ما تسائل نفسها:

"لماذا يحتويني هذا الشيخ بخوف ويدفدف علي بحرص"؟

كان يجلس عند باب الخيمة يتطلع الى البعيد بمتابعة، ويتفرس في القريب دون أن يبالغ معه في ثرثرة، حتى اذا استطاب الزائر الحديث معه وقلما يحدث هذا، بسرعة يحسسه بالنفور فيتحرك الزائر متابعا سيره..

كان يصفق أو يصفر، فتخرج الصغيرة من وراء الحصيرجذلى يغمرها الفرح لتعانقه أو تجلس على ركبتيه وقد عانقت حريتها يستغرقها تفكير فيما كان يتبادله من حديث مع غيره، فقد كانت لاتفهم لهم كلاما، وان كان الشيخ الهرم "بويا ' كما علمها أن تناديه لا تستعصي عليه كلمة مما ينطقون ولا إشارة مما يرسمون؛ عالمي النزعة يتفاهم مع الجميع بسرعة كانه منهم وهذا ماجعله محبوبا مطاعا عند كل الرحل مثله، او الزوار من السياح العابرين، في حين كان يكتفي مع الصغيرة بكلمات قليلات وبإشارات بليغات.. حين كانت تسأله:

لماذا لاتعلمني الكلام؟ كان يضحك متأملا مساحة وجهها التي تعود به الى صورة تسكن خياله فيقول:

ـ وهل منعتك؟ تكلمي كيف تسمعينني أتكلم..

ـ لكني أجهل ما تقول

كان يتنهد بغصة، تداريها بسمة، يضمها وقد تدمع عيناه:

ـ كان يلزم أن نكون ثلاثة بسمع وبصر ولسان..

لا عليك سوف تتعلمين..

كثيرا ما كان الزوار يتركون لهم علبا بها طعام من شرائح اللحم او الدجاج او السمك ؛كانت وحدي تستطيب أكلها أما هو فكان يكتفي بماء وكسرة خبز وتمر.. كانت له رغبة قوية في الصيام وقدرة عجيبة على تحمل الجوع..

شيئا فشيئا بدأت الصغيرة تتحرر من مراقبته حين ارتفعت قامتها طول شجيرة، كانت تستغفله اذا غفا او تلبسه تعب مفاجئ؛ فترود خلف الخيمة اذا ماغابت الشياه عن عيونها، لا تسرح بعيدا، فكأنها كانت قانعة بما تسمع وترى منفعلة ومتفاعلة بواقع ما يحط بها، وما أحست حقيقة وجودها الا حين تجاوزت حدود الخيمة أكثر فبلغت عينا يتفجر ماؤها من تحت صخرة سامقة، تحتها تجتمع الفتيات للسقي أو تنظيف ملابسهن، وفي الصيف كن يصنعن نصف دائرة وخلفهن تتناوب البنات على الاغتسال بنتا بعد أخرى، وقد تلتحق بإحداهن رفيقة تضع ليفة في يمناها وتشرع تفرك ظهر صاحبتها قبل ان تصب سائلا لزجا يتحول رغوة بيضاء ناصعة من قنينة لدائنية على جسدها.. بينهن عاشت لحظاتها الواعية فبعد أن كانت لا تعرف ما يقلن وباية لغة يتحدثن.. صارت مع تكرارحضورها تتعلم لغتهن، تستوعب معناها وتستنبط مدلولها من اشارتهن،، من ضحكاتهن وسلوكهن..

صارت بينهن معروفة ببنت "بويا الشيخ "، تساعدهن وتغتسل معهن كما يغتسلن، كان لون عيونها لديهن مقارنة ببشرتها مفاجأة تحرك في كل بنت منهن ما تطبق عليه في أعماقها،

كما كانت سيقانها الطويلة الملفوفة مبعث انبهار وتمنيات حتى أن من البنات من كانت تقيس سيقانها بقبضة اليد كافتتان بجمال أنوثة ظاهرة، ناهيك عمن تتغنى و تزجل بكلمات ترددها الأخريات.. كما كانت تستغرب من رسومهن لصورتها بالرمل على الصخور أو نقشها على الأشجار الضخمة.كما تنقش الحناء على الذراعين.صارت لديهن كبنت غريبة عن عالمهن البشري..

بدأت تعي أنها صارت تفهم قيمة وجودها ككائن يأخذ ويعطي ويتبادل مالديه بما لا يملك كلما وجدت نفسها خارج نطاق خيمتها..

صارت ترى نفسها تنمو وكل ما فيها يتغير، طولها، صدرها، نظرتها لصويحباتها في النهر، وابلغ من ذلك عقلها الذي أضحى يستوعب أكثر مما كان يختزن.. هن نفسهن صرن ينعتنها بتعابير تمدح صمتها الكثير، تناسق قدها وجمال وجهها الذي يشرق مع لمعان الشمس، أما عيونها فكانت السحر الذي بوأها لديهن أنثى فوق الخيال والشعروالجمال..

حين ضبطها "بويا "تتسلل الى العين وتجالس بنات الخيام والدواوير القريبة غضب كثيرا وان في صمت كانه كان يخاف عليها من عين حقود حاسد، أورصاصة طائشة من بندقية قناص، فعوَّل على الرحيل وتغيير الرقعة التي ارتاحا اليها، بكت، ولأول مرة تحس الدمع حارا غزيرا يكوي وجنتيها..

لم تجرؤعلى البوح لصويحباتها بما عول عليه "بويا "..

كم تماطلت في لملمة أثاث الخيمة، وأمام عدم قدرته على الحركة ووهنه كانت تتعلل بانتظار من يساعدها على فك أوتادها..

"يلزمني أن أفكر في حل لايؤذيه أو يغضبه

فيضاعف من احساسه بمرضه وعدم قدرته على التحمل، أكره أن يعاني بسببي"..

وغاب عن ذهنها أنه هو نفسه قد أحس بدنو أجله ويخطط لمكان يَطمئِّن عليها فيه، أو يجد من يأتمنه عليها..

يموت "بويا الشيخ"، ويداها بين يديه يضغط عليهما كرغبة بقاء تقول من خلال نظراته وتمتمات لم تع منها غير هذه الكلمات:

"وفيت بما وعدت وأني أحبك حبها لك والحرص على أن تستعيد حياتها على يديك "

بموت "بويا" تتعرف على الموت لأول مرة كمفاجأة مزعجة قاسية مُرة، تهددها بالضياع والوحدة، ما اشد مايخامرها فألم فقده أكبر منها..

أقبل علي الخيمة رجال لم تشغلهم رهبة الموت عما يسكن عقولهم، فعيونهم كانت متدلية عليها ونساء كن حريصات على مراقبة أزواجهن، لم تكن "بنت بويا الشيخ "تعرف كل هذا الحضور وان كانوا جميعا من آباء وأمهات صويحبات العين الذين لم تميز غيرهم ممن قام بالواجب.. كم أكلها الاستياء لانها لا تعرف ما يقال ولا مايجب فعله، كانت تبحلق في وجوه الحضور تستمع الى مشاعرهم بلا ردة فعل ليس في عقلها الا كيف ستعيش بعد "بويا الشيخ"؟ ومع من ؟

أصرت أم أحدى صويحباتها أن ترافقها في نهاية العزاء الى خيمتهم الواقعة بعد عين الماء بمسير، فمنذ حضورها الجنازة وهي لصيقة بها لا تفارقها..

"كم تضايقني هذه المرأة بإلحاح لم أتعوده، وريبة لا أدرك دواخلها "

فقد جعلتها بحق تحس بفقد حرية التفكير فيما يجب أن تقوم به بعد أن تختلي بنفسها وتواجه وحدتها، خصوصا بعد أن همست لها إحدى البنات سراعن المرأة ما ارعبها!!..

"لم تكن غير راعية تعيش على الحدود الشرقية في الفقر والضنى الى أن أغراها متسكع منبود فار من قبائل ليبية بالهروب معه ؛ يقال أنهما صادفا فقيها أعاناه على حفر كنز ثم قتلاه.. أصبح الفار المنبود غنيا وصارت لديه الراعية فأل خير فتزوجا بالفاتحة ولاعقد، لهذا فهي تتحمل شراسته رغم ضرتين شاركتاها فيه عدا خياناته وما أكثرها مع السائحات اللواتي يختلفن على المنطقة..

صار المنبود وأهله كثير الترحال ظهرت له بعد ان استغنى عزوة ممتدة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا منتشرة تتاجر في كل شيء..

لبت بنت" بويا الشيخ" الدعوة مضطرة فدخلت خيمة جديدة، مؤلفة من عدة قطع ومصنوعة من شعر المعز والضأن بأفرشة منسوجة بعناية وبتأثيث لم تكن تراه الا في صور المجلات التي كان يخلفها السياح في خيمتها، وجدت عادات وطقوس جديدة لم تعشها مع "بويا الشيخ "من قبل

صارت ثالثة ثلاثة من بنات في عمرها تقريبا وثلاث زوجات لرب الخيمة الذي لم تتشرف برؤيته الا بعد شهرين من اقامتها، حتى في حضوره فهو غائب بليل نائم بالنهار، ثم عجوز"جدة شمطاء " قولها يسير على الكل بدون مناقشة ولا اعتراض، قليلة الحركة تستقل بزاوية قريبة من مخرج ضيق تستغله وحدها لحاجاتها..

أول مرة ترى فيها صاحب الخيمة كانت تساعد فيها العجوز للخروج من منفذها الخاص، أقبل يركب فرسا وكأنه قطع فيافي وقفاراعلى عجل، ما أن واجهها حتى تسمر في مكانه، راعها استغرابه، بتلون وجهه بين صفرة وزرقة، ترجل أمامها مبهورا مبهوتا ثم سألها في عدوانية وجهد مضني يركب صدره:

ـ ما اسمك ؟

لم تستطع أن ترفع اليه بصرا، فالسؤال أتى عنيفا قويا أرهبها، موقف لم تعشه في حياتها " مع بويا" الذي كان رحمة إذا تكلم وبسمات سعادة إذا أشار. مسحت الأرض بعيونها وقالت:

ـ كان بويا يناديني ايناس..

استغرب، وبنفس العنف اللفظي وعينين جاحظتين تابع:

بوك ومن بوك هذا؟ومن أتى بك الى هذه الخيمة؟.

بادرالرجل الى جدة يقبل يديها وكأنه لم يرها الا بعد أن اطلت من وراء ثقب صغير في الخيمة، في لحظة خرجت فيه احدى زوجاته، قبلت يده وحمدت له سلامة العودة ثم جرته بعيدا عنها..

لا تدري ماقيل وأي حديث جرى ضدها بعيدا عنها، كل ما تنبهت اليه أن سلوك أهل الخيمة انقلب رأسا على عقب، تغير إعجاب البنات بها، وصرن يحترسن الكلام معها خصوصا عند حضور والدهن ؛ فعيونها الساحرة قد صارت "عيون القطة الحولة" والسيقان الملفوفة الطويلة "رجلين القرعة الخضراء"إحدى الزوجات الثلاث وهي من دعتها الى خيمتها بدأت تخاطبها بلغة جافة وطلبت منها ان تستعد للعودة الى خيمة "بويا"؛الزوجة الثالثة الصغيرة شرعت تحدثها بالإشارة واضعة سبابتيها تحت عيونها كأنها تحرضها على الانتباه، وحدها العجوز الشمطاء التي أجلستها بجانبها وقالت:

ـ لازمي رفقتي ولن تغادري الخيمة الا بارادتي أنت في بيتك..

اختلط عليها الحال وما عادت تفهم شيئا مما يحيط بها، شك وارتياب هو ماصارته العيون حولها، وقلق داخلي حولها الى فريسة للاجترار..

"أية عيوب ظهرت في سلوكي لم أنتبه اليها، أو أية أقوال تلفظت بها أحدثت هذا السلوك المفاجئ الذي حل بالخيمة بعد عودة صاحبها ؟ ماسر تلونه وقلقه حين واجهني أول مرة ؟

أنا شخصيا لم يسبق لي أن رأيته أوصادفته ؛ربما هو يعرفني.. لكن اين ومتى ؟ كل تاريخي ليس فيه غير خيمة "بويا "، وشجيرة أقيس بها طولي، والعين التي لا يصلها رجل.. "

هو ذا التفكير الذي كان يستغرقها ويلفها في خوف داخلي تجاوز حدود عقلها..

ذات ليلة وهي متكومة قريبا من جدة بين صحو ونوم، تناهت اليها خطوات قادمة ؛ فارسٌ يترجل رَكبْه، لم يكن غير رب البيت ما أن لمحها حتى سأل العجوزان كنتُ نائمة، حركت الجدة راسها بايجاب فقال لها في حديث مهموس:

ـ يلزم أن تدعيها تعود الى خيمتها !!..

لم ترفع اليه عينا، فقالت وكأنها ترفض قوله:

ـ ولماذا تصر على ذلك ؟ هل تنوي ذبحها فتفشل كما فشلت مع أمها، لقد أيقنت أنها بنت النصرانية وبناتك من أكدن ذلك من نطعة على كتفها، دعنا نعيش في سلام.. وكفى.. ألم تشبع من الدوران وسفك دم الناس ؟

أغضبه ردها فأجاب بانفعالية زائدة:

ـ أنا لم أفشل، ومافشلت يوما في أمر، بالكاد مررت الموسى على عنقها فتناهى الي صوت حسيس خلته خطوات من خلفي لرجال الدرك فالقيت بها في الترعة ووريدها يفور.يقينا مني انها ستموت غرقا.

ــ لم يكن قتلها ضرورة فالنصرانية أصلا لم تكن تفكر في التبليغ عنك الا بعد أن استحوذت بالقوة على الأموال التي اكتشفتها في رحلها، وبالغت في اغتصابها وحرق لحمها كيا بسجائرك، والنتيجة أمامك اليوم بعد خمسة عشرة سنة..

ـ كافرة لم أكن أثق بما تقول.. لكن مايحيرني كيف خرجت من الترعة ؟ ومن أنقدها وقد بقيت أطل من فوق الصخرة ولم يظهر أثر لغاشي قبل أن أغادر المنطقة ؟ كيف ظهرت البنت ؟ولم تظهر أمها؟ قالت أن الشيخ هو من رباها.كيف؟ وهي لم تظهر أبدا في خيمته ؟

ـ الشيخ كان حالا مرتحلا ولم يستقرأبدا قريبا منا؟

ـ ألم تسأليها عن أمها ؟

ـ سألت، هي لا تعرف أحدا غير من رباها.. البنات أنفسهن أكدن انهن من علمنها لغتهن وكتابة بعض الحروف حين كانت تأتي الى العين..

زفر بقوة وقال:

كان يلزم أن أراها وأتأكد منها وأنهي الامر هناك في العين منذ أن تحدث عنها البنات، لم يكن يخامرني شك في موت أمها مذبوحة وغريقة في الترعة، غيرها قد مات غريقا دون ذبح، خمسة عشرة سنة و لم يظهر لها اثر ولا السلطة أعادت تحريك الملف..

صمت قليلا ثم تابع:

لقد فاجأتني !!.. توأم متطابق من أمها..

ألح على العجوز ان تشجها للعودة الى بيتها الذي تربت فيه قبل أن يستدير ويشق الخيمة الى الداخل..

لم يطل بها وقت، في نفس الليلة تسللت من الخيمة بعد أن أدركت من هي وماينتظرها، كانت تسير على غيرهدى، يلفها ليل بهيم، كانت لا تخشى غير عواء الذئاب وهي تقطع المسافة الى خيمة "بويا الشيخ"تستعيد كلماته كأنها سوط يحرضها على السير..

" يوم أموت و أنتفضلت الرحيل عن الخيمة اياك أن تنسي التليس ففيه ما يعينك "

لم يكن يشغلها غير وسواس الموت وقد أطبق عليها يتعقبها مع رهبة الليل وامتداد الطريق حاملا صورتين متناقضتين: صاحب الخيمة أبوها القاتل السفاح، وصورة "الليث " بشعره الأبيض وضحكته ونظرات الحياة تشع من عينيه

كان عليها أن تفتش ما بداخل التليس فكثيرا ما رأت " بويا "يفتق غرزاته أو يرتقها بمئبر.. كتيب صغيرمكتوب بحروف صغيرة دقيقة كان مندسا قلب التبن، وكيس من خيش ملئ بأوراق نقدية وضعت الكتاب في جيوبها بين نهديها وحملت الكيس في يدها ثم خرجت مسرعة..

أشرقت شمس الصباح على دورية من الدرك تضع علامات تشويرللمراقبة.. لم تتكلم، قدمت لهم الكتيب وفي مركز الدرك أدركت أنها كانت تفر من أبيها ؛الذي ذبح أمها كعالمة سائحة تاه بها رحلها عن قافلة للبحث ذات زمن، تربض لها، هتك عرضها الى درجة تمزيق جسدها بكي، وسرق أموالا كانت معها، ثم رماها في ترعة فأتت على لوحة صغيرة كانت سبب نجاتها.. لم تمت، لكن الصدمة أفقدتها البصر والقدرة على الكلام.. وبويا الشيخ من أنقدها وسهر على شفائها، تنبهت لحملها فأخبرته وطلبت منه الرحيل لكنه اصر على بقائها معه ؛ضاعف من عنايته بها الى ان وضعت حملها..

"لم أفكر في التبليغ عمن كان سببا في ايذائها وهي من أصرت على ذلك "

" فاذا لم يعاود قتلي فحتما سأموت بيد غيره من فصيلة عزوته "، وأنا أريد أن أحتفظ بما في بطني فهو الفاصل بيننا "

ثم بألحاح منها حاول ترحيلها الى أحد الاديرة لكن بادرها الأجل في الطريق.. طال البحث سنوات الى أن سجلت الجناية في اسم مجهول و تم اليأس من إيجاد جثة المرأة وقاتلها الحقيقي، فطوي الملف..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

كنت أسافر من وقت لآخر إلى البادية، هروبا من التّعب الذي ينالني من العمل الـمُضني بالمدينة؛ إلى أن يحين وقت للعودة أنا مُلزم به، وكانت تجمعني بابن عمتي هنالك جلسات عائلية حميمية، وكان ألذ لي هو ما يحكي علي؛ مما حدث في تلك البادية الواسعة، التي تمتد أراضيها؛ إلى سفوح، وأودية، وفجاج جبال عالية؛ تضرب بقِممها إلى الأعلى؛ إلى أن يتجمد فيها الماء؛ بانخفاض درجة حرارة الأجواء العليا، فتكسوها ثلوج في فصل الشتاء البارد...

فمِما رواه علي؛ هو ما وقع أيام الاستعمار الفرنسي للبلاد، واحتلال دولة لبلد آخر؛ فيه استضعاف وقهر، واستعراض لقُوة العَدد والعُدّة، التي لا تُقاوم ولا تُقهر، ونشرٌ لفُرق عسكرية مُدججة بالبنادق والقنابل والمدافع، والدبابات المدرّعة، وبناءُ الثكنات العسكرية، فيقوم أفراد من تلك الفُرق المنظمة باجتياح المدن والقرى والدواوير؛ المنتثرة في بِطاح البادية؛ لجهض أي محاولة دفاع عن النفس أو مقاومة، فقد يفعلون بأناس عُزّل أشياء كثيرة، ولا يعترض طريقهم إلى ذلك أي أحد، ولا يَثنيهم عنه أو يردعهم...

فماذا نطق به ابن عمتي على مسامعي؟ وكان قد شاهده بعينيه اللتين لا تُكذِّبانه، وفي لحظات من وقت حكيه كانتا تشعان بحماسة الأبطال، لأنه كان حاضرا، وإنه لَـحَظٌّ لم يُؤت لغيره، وفرصة تسنح له؛ ليُخبر أيَّ أحد بما رآه؛  يلتقي به أو يضُمّه وإياه مكان يحلو فيه سمر الحكي؛ على ضوء قمر الخلاء، وهدوء الليل المطبِق...

حكى فقال؛ وعيناه تدمعان حنينا، بأن الجو في ذلك اليوم كان صحوا، فقد خلت السماء من الغيوم، ومن ضباب قد يُغطي وجهها الصّبوح دائما، فبدت زرقتُها الغير المخفية الغامقة، فأضافت بها جمالا على الدنيا؛ جنبا إلى جنب مع خُضرة النباتات، وإزهار هذه في شهر (يونيو)، ولون بُني تصطبغ به تربة غير مزروعة، وألواح صخرية عرّتها المياه؛ فيما مر من أزمنة سحيقة في القِدم، فانشرحت الصدور بالألوان المختلفة والعديدة، وجرى ماء العيون رقراقا، ومُتلألأ بأشعة الشمس، وصهل حصان هنالك بعيدا، ونبح كلب حراسة، وسُمع ثغاءُ قطيع من الأغنام...

وفي غمرة هذه الطبيعة التي تملأها تغاريد العصافير، وتُصدر أجنحةُ الطيور المحلقة حفيفا، وبرغم كل هذا فهناك صمت البادية وسكونها الغالبان، كان يرعى ابن عمتي قطيعا من الشياه؛ غير بعيد عن جانب الطريق الـمُعبّد، الذي يربط بين المدينة وسوق أُسبوعي؛ نادرا ما تمر منه سيارة أو شاحنة أو دراجة نارية؛ في غير يوم السوق، وتسير فيه عربة واحدة أو عربتين؛ يجرها واحد، أو زوج من الخيل، أو الـحُمر، أو البغال؛ تُنقل بها أكوام تبن الحصاد، أو حُزم سنابل  محصودة إلى مكان الدّرس، أو صناديق خشبية أو سلال مجدولة بالدوم؛ تحتوي على ما تُثمره الحقول المسقية؛ من خضروات وبُقول، وغير بعيد عنه؛ في الجهة المقابلة له؛ ما بعد عرض الطريق؛ راع آخر لا يتوقف عن التلويح بعصاه؛ في اتجاه خرفان ابتعدت واقتربت من جانب طريق أَسْفلت خشن، وعن التصفير بلسانه؛ مُنبِّها إياها، وكابحا جماحها واندفاعها بشراهة؛ إلى سيقان السنابل الممتدة والحلوة المذاق.

ويمضي كل واحد منهما كأنهما يتنافسان في إطلاق العنان لـمُجترّاتهِما؛ كل في حِماه، ويصل ابن عمتي في روايته إلى ما تفاجأ به وقتها، وقد طرق سمعه أصوات مُقعّرة وحادة؛ تصدر من محرك مركبات ميكانيكية، فالتفت فرأى سيارة من نوع (جيب، JEEB)؛ يجلس بانتباه إلى مقود عجلاتها عَسْكري، وإلى جانبه عسكري آخر، وكلاهما يُثبّتان قُبعتيهما الخضراوان بعناية وبحزم، تتبعهما شاحنة غير مَغطاة، يركب في جزئها الخلفي جنود يجلسون إلى حد ما بانضباط؛ كانوا يمرحون، وترتفع حناجرهم بالصياح، وترديد نشيد وطني عسكري، ومرت بهما المركبتان بهؤلاء العسكريين؛ ذوات محركات الوقود، واستمرتا في الطريق، ولم يُمِل ابن عمتي - كما قال- بوجهه عنهم، فقد ظل يتتبّعهم مُتسائلا عن المدينة أو القرية التي تؤدي بهما الطريق، وفُوجئ مرة أخرى، ودب إلى نفسه بعض الخوف، وقد شاهد سيارة (الجيب) تقف، وتُفرْمَل خلفها الشاحنة، ويدور السائق بالسيارة، فتبدو مُقدمة هذه تدنو راجعة، ويقترب صوت محركها فيُثير التوجس والوحشة في باطني الراعيين، وينظران إلى بعضهما البعض بعجب، وإلى السيارة العسكرية المرهِبة، فكان سؤال واحد يسيطر عليهما وهو: ماذا يريد هؤلاء العسكر منهما؟ أسيُسألان عما لا يعرفونه، أهو المكان الذي ينتهي به الطريق؛ هل سيخطِفون أحدا منهما؛ ليتخذوه خادما مُستسلما لقدره في ثكنتهم العسكرية؟ وسمعت الأغنام دنو السيارة، فالتحمت واضطربت، وضلت عن الاتجاه الذي ستهرب إليه، وحاول الراعي تهدئتها، وإرجاع الطُّمأنينة إليها.

ترجّل القائد، والـمُميّز في قَوامه، وفي قُبعته وبنياشِينِه، وسار قاطعا أجمات لنباتات يابسة قصيرة؛ إلى أن اقترب من الراعي، وتحدث إليه، وابن عمتي كما أكد كان يتابع ما يجري بقلق، ولم يطُل كلام القائد مع الراعي، وخطا راجعا ونادى على أربعة من الجنود، فنزل هؤلاء من الشاحنة باستجابة خُضوع وسريعة، فتلقوا أمرا من قائدهم العريض الجسم والفارع الطول، والراعي يأتي بحركات من يديه مُتضرّعا ومُستعطفا، وجرى يحاول أن يحول بين الجنود وخرفان من قطيعه، فدفعه أحدهم حتى سقط على الأرض، ولم يستسلم هو، فقام وحاول أن يضرب المتعدّي عليه بعصاه الغير الـمُقلّمة اللّحاء والناتئة الفروع، فأخذها الجندي من يده بعَنوة وبقوة، وكسرها إلى نصفين؛ بالضغط عليها على ركبته الصلبة ورماها، وعاد مرة أخرى وأبعد الراعي؛ مُهدّدا إياه بتوجيه قبضة يده المعقودة الأصابع القوية؛ إلى وجهه الممتص الوجنتين، والمحترق بأشعة شمس البادية، فخلت الأرض، ومُهّدت للأربعة المندفعين بعمى مرضي، وقبض كل اثنان منهم على كبشين أقرنين سمينين، وجروهما، والتراب ينتثر ويرتفع بالأظلاف العصية والصعبة الانقياد، ثم حملوهما في الشاحنة، وكان القائد قد أخذ مكانه على كرسي السيارة المتأهبة، وأشار بيده القابضة بالعصا المصقولة، والملمعة والمطعمة بالمعدن، وبتيْه؛ بالتحرك؛ مرفوع الرأس، فما يُنجِزه من أعمال؛ هو مستمد من نظام عسكري متماسك وصارم، ولم تكد الكتيبة تترك المكان، وتبتعد سيارة القائد والشاحنة؛ حتى شوهد فتية ونسوة يعدون حُفاة؛ في اتجاه الراعي المسلوب الخروفين والضعيف، وقد حركتهم دماء الانتماء إلى القبيلة، واستعرت فيهم عاطفة القرابة، وتحمسوا للذود والمناصرة؛ حاملين الـمَدارَى، والـمُديات، والمناجل، والهراوات، والعصي، والحجارة، ووقفوا يتوعدون أولئك الجنود وقائدهم، وقد اختفوا في إحدى مُنعطفات الطريق.

تصوّر ابن عمتي آنذاك -كما نطق بذلك- كيف سينحرون أولئك الـمُرتدِين للزيّ العسكري، الـمُحاكة خيوطه بإحكام خاص الخروفين؛ طعنا في نحريهما بالسكّين، وكيف سيشوون لحمه على جمر ملتهب بالنار، وسترتفع رائحة الشواء في أرجاء الثكنة العسكرية، وسيمزِجون قِطع اللحم الناضجة باللهيب والساخنة؛ بجُرعات من مشروب النبيذ الأحمر، وجِعة مُسكرة مُقطّرة، من حبوب نباتية، وبقُبلات يطبعونها عل وجنات وأعناق وصدور نساء؛ يحترفن مصاحبة الحاملين للبنادق، والمحافظين على دم وجه بلادهم، التي لا ينبغي أن تتقهقر عن ساحة منافسة قريناتها من الدول الأخرى؛ والمستميتة في الاستيلاء على المزيد من مساحات الأرض الجغرافية.

وقد انتهى ابن عمتي من حكايته مُتأسّفا، وغُصّة الاحساس بالاستضعاف التي ظلت في حُلوق القرويين، ما تزال في حلقه هو أيضا، لأنه فرد من دمهم، واستغربوا بعض الشيء لفعل أولئك العسكر، لأنهم لم يعهدوه، لا هم الأحياء ولا أجدادهم الأموات.

***

احمد القاسمي

لمعانُ البحرِ

شدَّ عيونَ العاشقينَ

تكسرتْ أوتارُ العودِ

*

انتظرنا زوالَ مواسمِ الخيانةِ

تجمدَ العقلُ

غردَ عندليبٌ خوفاً

*

أبحرَ الناقدُ  بصمتٍ

قرأَ مجاميعَ شعرٍ

أنتبذَ الفارسُ خمراً

*

لي رحلةٌ لغاباتِ السحرِ

رافقتني ذكرياتٌ

تسمرتْ الموجةُ نورسةً

*

إليك تراتيلَ الغزلِ والفرحِ

تصفقُ لها الطيورُ

يعاندُ القلبَ الخفقانُ

*

الموتى يتغزلونَ بالارضِ

الترابُ يشدو

بُعثَ يتجددُ في الكونِ

*

شجارٌ منذُ الخليقةِ

خسارةٌ دائمةٌ

خلاصٌ ينتظرُ الغزلانَ

*

ترحمٌ على أفاقِ الزمنِ

خذْ أغنيةً

شمعةً تبكي دماً

*

تمهلْ عندَ الصعودِ

تمتعْ بالتسلقِ

الجموعُ طفلٌ أخرسُ

*

لا تحاكي الصمتَ

النطقُ عدوهُ

نورسةٌ خارجَ الديارِ

*

تعلمْ الموسيقى والتغريدَ

كلَّ السمفونياتِ

تأتِكَ ارضاً ساجدةً

***

عبدالامير العبادي

كل الاوراق التي

انتعشت من صمتي

كتبت عليها

الرياح أسماء

وهمية وطيرتها..

هل علي ان  ألهث

وراء قصيدة

ينفخ عليها

فتطير بخفة ريشة..

هل علي أن أستجدي الكلام

من عتمة ليل عقيم

ربما علي أن

سأسمي الاشياء بمسمياتها

القطيعة هي القطيعة

والخذلان هو الخذلان

والخيانة هي الخيانة

حتى لو جاءتك

بإبتسامة عريضة على وجهها

حاملة بين يديها

باقة من زهر التوليب الأحمر

ربما علي ان لا

ارسل  حاستي السادسة

وراء

هذيان لا لون و لا رائحة

ولا طعم له..

سأضرب على أذني

حتى تمر القوافل

المحملة  بطنين الذباب

ربما..

لم يعد الوقت يشبهني

الان ..

الوقت صار  يشبه القيامة

دعوني  أكلم حزني قليلا

قبل أن  أغمض  عيني

للأبد..

على من أغمضوا عيونهم عني..

وأغلق الذي مايزال مواربا

من أبوابي..

وأغلق قصيدتي

المفتوحة على المدى

والبحر..

وأقف بعيدا..

أمحو عن كفي خطوط الحب

الوهمية..

وأمحو عن أصابعي  بصمات

قصيدة عابرة

وأتركها فقط

لألوح بها تلويحة الوداع

للغرباء و العابرين..

وحين تناديني

من وهمها الأسماء

سأقول لا وجهة  محددة

للمشتاق..

ولن  أدخل جنة

يسألني حراسها

من أنت !؟..

سأعلم كلماتي

كيف تسير علي قدميها

بحذر شديد على

أطراف الأحجية..

وتمنحها نصف الجحيم

الموعودة به..

لن أوقع بإسم  مستعار

على أوراق الصمت

سأترك  الرياح  توقع

عليها كيفما تشاء

وأينما تشاء..

لن اكتب على الظل

حرفا واحدا من إسمي

انا التي

منحت ليلك

حلما جميلا  لتستر به

عورته

أمام

النجوم البعيدة..

سأكتب  اليوم

دون ان أفتح قواميس

اللغة القديمة

الآن .. الآن

لا وقت لشروقي

ولا وقت لغروبي

لا صلاة ترهق كاهل

الليل ..

ولا وهم يغني

علي وتر

نشاز..

***

بقلم: وفاء كريم

 

 

سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِقَلْبِي الْمُتَيَّمْ

 سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِكَيْ أَتَعَلَّمْ

*

سَأَكْتُبُ عَنْكِ بِأَنَّكِ حُبِّي

 وَأَنَّكِ قِبْلَةُ عِشْقٍ لِقَلْبِي

*

سَأَرْوِي أَقَاصِيصَ بَحْرِ الْغَرَامْ

 لِقَلْبِكِ بَعْدَ شَدِيدِ الزِّحَامْ

*

سَأَرْفَعُ فِي الْكَوْنِ رَايَةَ حُبِّكْ

 وَأَدْخُلُ بَعْدَ انْتِصَارِي لِقَلْبِكْ

*

سَأُخْبِرُ قَلْبَ الْخَلَائِقِ أَنِّي

 أُحِبُّكِ بِعْدَ بُحُورِ التَّمَنِّي

*

سَأُنْشِئُ فِي الْحُبِّ أَحْلَى قَصِيدَةْ

 أُهَنْدِسُهَا وَتَكُونُ فَرِيدَةْ

*

سَأُعْلِنُ أَنَّ الْحَيَاةَ سِجَالْ

 وَأَنِّي ظَفِرْتُ بِأَحْلَى وِصَالْ

***

شعر: د. محسن  عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

من رخام

الحكمة الخضراء

اشيد جدارا

بيني وبين

ثرثرة الثعالب

الشواهين

والبزاة

واعكس على

زجاجات مرايا قلبي

روعة النسيم

الشفق الازرق

والمطر

ومن ثم امضي

صوب كرمة

ذاكرتي الخصبة

لا زرع في تربتها

ازاهير اوركيد

بنفسج واقحوان

وهناك هناك

قرب دالية

الشوق المضيء

انتظر عندليب قلبي

لنغني معا

اغنيات

البرق والريح

واغنيات المطر

***

سالم الياس مدالو

كيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

من يراني أمجِّدُ خجَلي،

و أسوِّي ظلِّي لحاشية تهوى جورَ الخريف ..

أتلذذُ حطَامَ الفراغاتِ على صدري..

ويغلب على خطوي تثاقل الرِّيحِ ..

فليعلم:

أنَّ أخطائي كانت بالقصد المستباح..

ومُوَّلدتي ضريرة

تحسستْ بعكس الطَّالع،

أنِّي قادمٌ

لاقتلعَ الغَضبَ من ظمأ القصيدة..

فاجأها صراخي

لم ينقطعْ..

تمتمتُ لها بآيةِ الصلاحِ ..

وعدتُ للصُّراخِ..

**

فليعلم:

أنَّ أوجاعي أمطَرت في الأرض سنابلَ

أينعَ حبُّها

وتلقفهُ غرابٌ

مسعورٌ

عائدٌ من فرشة السَّقمِ…

أتذكّرُ أنِّي طلبت ُ رغيفاً مقابلَ أعضائي

وفي عزِّ طيشي استهواني عنفواني

وبطولاتي ..

استهوتني الأرقام والأسماءُ …

اغتالتني آخر الصيحات .

.وأثملتني معزوفات الشرق والغرب…

وتملكتني الحيرة  حين  لطمني الخريف بعزفٍ حزينٍ…

لكنّي هيَّأتُ لنفسي رَشَداَ..

أكلتُ تراباً

شربتُ حنظلاً..

ونمتُ كما الجُردانِ…

**

فليعلم:

قأنَّ تشرُّدي ليس ابتلاءاً من أحدٍ..

بل تطاولتُ بالرَّقص مع الإمبراطور

وعيني زاغتْ في مقصورة الأميرة…

قالوا:

هذا مارق…

هذا سارق..

لتنصب  لهُ المشانق

وتطرق له الطرائق…

حرروا الجنود من الخنادق….

صففوا رجال البيارق..

امسحوا دموع الأسرى …

واتركوا أبواب القلعة بدون حرس اليوم في القصر حصل طارىء….

**

فليعلم:

لقد هاجمني صيَّادُ الذكرياتِ

وأخذ منِّي حُلمي

كسَّر قلمي

شتت حزمتي  …

وراحَ منشغلاً برثَاءِ الكرامةِ ..

لقد داهمني شيطان طفولتي بالليل وعزمني الى ماخور الكلاب ..

ترادف على حالي البلاء ..

فخطف منِّي ظلِّي ..

آخرَ سهدي..

أخذَ استعاراتي والصُّورِ…

وراح هو الآخر يلعق ماء الغديرِ..

فليعلم:

أنِّي لستُ قطاً بقرب مدفئة ولا أنتظر ظهور وردة من النافذة…

ولا بريديّاً مصحوباً بالهدايا..

قاموس ميلادي مثخمٌ بالأعطاب….

تكفيني عينُ الشَّمسِ…

ولم يشخ مزماري حتى الان…

في قُبِّ جلبابي  وأدتُ الوراء ..

قال  أبي:

اخلع جلبابك ونم طويلاً ياطويل الجّبهةِ…

قلت:

أنامُ ووسادتي أثقل من الحاضرِ..!

قال:

كسِّر المصابيح والمزهرياتِ

وكؤوس الطِّلا

ونمْ

قلت:

وكيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

***

عبد اللطيف رعري

 02/03/2023

كل الأشهر تتشابه وكأنّ لعبة التعاقب لم تفض الى حال.. في مستودعٍ للأموات ضاعت منّي بوصلتي … الحيطان تتشابه ..الممرض الوحيد هنا بسحنةٍ داميةٍ…دائم العتمةِ….كل الناس

تعرفهُ بقسوته وتطيّره …وحدي بسوادٍ مطلق ..مهمتي ملأ الفراغات بامتياز. ..دخل من دخل وخرج من خرج…هذا يضمر وجهه ، والآخر أتلف القبلة..أنا أجهل كل الممرات…لا تأشير ولا تفسير ..ولا من يشُدُّ بيدي الى الخارج…تتعالى الصرخات… ويتعالى الألم .. تعصبَّ الجميعُ..قلت لنفسي هذا يوم حزين…! رنَّ هاتفي  فقفزت مذعوراً ،إنَّه مدير الوكالة ،يأمر بانسحابي فوراً من بوابة المستودع ..مخافة انهياري أمام الملأ…

 

فتنته الزهرةُ ذات الحمرة الفاقعة، هام بها كما هيام عشقه الذي أسرى بروحه المغرمة بتلك التي صار يلهج باسمها.

بات يحاكي نفسه بحثا عن أقرب فرصة للوصول إلى روحها التي لم تدنُ بعد إلى خياله العاشق.

أخذ يتحدث إلى الأغصان المتدلية، متأملًا الفراشات المنتشرة بين أريج الوريقات المتوجة بالألوان، ليته يجعل من ذلك الزهو جسرا إلى قلبها الذي لم يشدُ استجابته بعد.

جلس عند دفئها المستدير متناغما مع أحاسيسه المتيمة، دنا قريبا، همس ببطء شفيف في عروق اجزائها المتربعة، أحس بالتوهج، سرت رعشة خفيفة بين خباء تركبها الندي، أطلقت حسراتها انتابها الأسى، دب فيها شعور بالوجل، حاولت أن تحتج، لكنها سرعان ما وجدت نفسها مذعنة لأصابع باغتت تماسكها العالق، بينما تفقعت أطرافها المتدلية عبر دموعها التي جرت بحرارة شجية.

عادت تلومه بحزن مذكرة إياه بأطياف بريقها المشع

عند فضاء شرفته، بكت مواسية لحظة اقتطاعها، استأثر المكان بالفجيعة. استفز مسامعه نداؤها الشاجن، أدرك عبره أنه استأصل عطر رقتها الحنون.

فكر مع نفسه طويلا، انتابه الغم، استرسل مع أفكاره، أصبح يحاور أوجاعها بعد أن أضحت بين يديه،

أوعز إلى نفسه أن يفلح بإهدائها لتكون رابطة بينه وبين من أحبها.

اقتربت الفتاة، استأنفت مشيتها، تهيأ الجميع للمحاضرة المقبلة، باتت قريبة إليه، ارتجفت الوردة، حاول أن يمسك بها، لم تلتفت إلى ندائه الخفي، حاول أن يناديها باسمها، تثاقلت قدماه، أراد أن يمسك نفسه دون أن يفلح، سقطت الوردة بعدها مغشيا عليها تحت أقدام من لم تكترث له، أدرك أن الفتاة لم تبادله ما يشعر به، أحس بالاعياء، ارتدت الزهرة ثوب الحداد.

***

عقيل العبود

...................

- الخباء أوالكربلة: الجزء المؤنث من أجزاء الزهرة.

الى روح صديقي الشهيد الفنان التشكيلي

 أَمير الشيخ

***

الشهداءُ

نزيفُ الأَرضِ

الشهداءُ

قناديلُ السَماءْ

**

الشهداءُ

قلوبُ الآباءِ والأُمَّهاتْ

والشهداءُ

دموعُ اليتامى والأَرملاتْ

**

الشهداءُ

شهودُ الحروبِ والهزائمْ

الشهداءُ

رواةُ المسكوتِ عَنْهُ

والتاريخِ الدمويِّ الكاذبْ

**

الشهداءُ

ليسَ هُم القَتلى المَغدورينْ

الشهداءُ

هُم الذينَ يرثونَ الأَرضَ

وجنائنَ اللهِ الموعودة

**

الشهداءُ

ليسوا خونةً

الشهداءُ

ضمائرُ أَوطانٍ

وشعوبٍ مقهورة

**

الشهداءُ

نزيفُ الذاكرةِ

وقرابينُ البلادِ المهدورة

**

الشهداءُ

هُم الخالدونَ الابديونْ

ونحنُ ضحايا الطُغاةِ

والخوفِ والقهرِ والجنونْ

**

في الشرقِ النائمْ

والمظلومِ والظالمْ

الشُهداءُ مُجرَّدُ أَمواتْ

وفي فراديسِ السَمَواتْ

هُمْ ملائكةُ الحكمةِ والرحمةْ

وهُمْ جنودُ اللهِ والقياماتْ

**

الشهداءُ

ليسوا ضحايا التُرابِ والخَرابِ

وأَوهامِ وحماقاتِ الجنرالاتْ

الشهداءُ

حُرّاسُ خزائنِ السماءِ

وبُسْتانيو فراديسِ الأَبديَّة

**

الشهداءُ

ليسوا ملوكاً ولا سلاطينْ

الشهداءُ

فقراءٌ وطيّبونَ ومساكينْ

والشهداءُ

أَطفالٌ وملائكةٌ وأُمراءْ

وأَنتَ واحدٌ منهم:

صديقي " الأَمير" المُتوهّجُ

بالحبِّ وطقوسِ اللونِ

والكونِ والعطرِ والبهاءْ

***

سعد جاسم

ويدٌ تلوحُ من بعيد

أم انها يدُ الغريق

*

العمرُ يلهثُ في سباقٍ

وله عويلٌ وشهيق

ونثارُ أيامي شظايا

على طولِ الطريق

*

الذكرياتُ صدى تلاشت

صورٌ ملونةٌ

خبا فيها  البريق

للهِ دركَ كم وفيٌ أنت

يا حزني الصديق

*

نحنُ أرتفقنا الدربَ من أولهِ

ثم افترقنا عند مفترقِ الطريق

لا أنتَ بعد الآن تأنسُ رفقتي

ولا أنا يا صاحبي في جعبتي

شئٌ كثير فأطيق

*

يا صاحِبي

كم قد ضَحِكنا او بكينا

وفرحنا أو شَقينا

فأرقصْ لي اليومَ  واطربني

فأنا حرٌ طليق

*

هاكَ خذْ اغلالي وقيدي

وتعالَ نتبارى

فلنا الكأسُ المعلى

ولنا الخطو الوثيق

*

يا صاحبي

إياك أن تندم أو تأسى

فها نحن وإياهم سواء

يومان:

هما كل الحياة

يومٌ قريب ورحيب

وآخرٌ بعيد وعصيب

*

أقدامنا نحنُ

مدماةٌ حفاة

لكنها كالطودِ ثابتةٌ

وطيدةٌ لصقَ الطريق

على الصراط المستقيم

أما هم يا ويلهم

ستنزلقُ أقدامهم بدموعنا

يهونَ كالأحجارِ

في وادٍ سحيق.

***

صالح البياتي

انتشرت في نداء بعيد

لعل المدى يضج بأغنيات اللقاء

كان الصدى خريفا..تزوبع في ذاكرة الوجد

حتى الطريق الذي سلكت

حين غادرْتَ قلبي الموصد على المرارة

لم يفض إلى شجر أو مسافات

تعترش فيها الدجى

وتفرد فيها السنونوات رجفتها

*

وجدتني بين قصائد عارية كالليل

عند آخر السطر..تتهاوى انفاسي

تسقط أشكالي وما أوتيت من صدود

في دهشة مثلومة

على مرأى الكبرياء تتقافز ..زبدًا

يبدده الصمت.. واليقظة الحارقة:

هنا صورة للبحر

يحمل ما وهن من أمواج

ما أعياه الترقب من صدفات

يدخل قيود الرمل

على الملمح دمعة انكسار

*

هنا ظل غجرية

يتسلل نحو أحراش النشيد

يقنص المتاهات

وما سقط سهوا من الجمل الآبقة

*

كيف يصير السيسبانُ المرُّ

فاكهة العشاق؟

كيف يصير جسرُ الموت أرض لقاء؟

وكيف يُعد الانهيار

منازل لما تشرد من نبضات؟

*

سأستلُّ سيف الحنين من أضلعي

رغم ما في الروح من متاريس

وأرحل دون مراسيم

فقد كانت الرؤيا

أصغر من مرثية الحلم!

***

مالكة حبرشيد

 

 

لم ندرِ ماذا تضمرُ الأقدارُ

طلعَ النَّهارُ ولم يَعدْ يا دارُ

*

ما زلتَ تحلمُ بالرجوعِ وقد مضى

عامانِ، لا طيفٌ، ولا تذكارُ

*

أشكو إليكَ الحالَ،  وهو ممزقٌ

وأَنا على الحالينِ  قلبيَ نارُ

*

اطلقْ سراحي، تهتُ فيكَ مدائنا

وبقى يجاورني الهوى الدَّوارُ

*

أشكوك ماذا؟ كلُّ شيءٍ سائلٌ

وأنا جوابٌ صامتٌ محتارُ

*

يا ويحَ نفسي كيفَ  بتُّ مكتَّمًا

وأَنا الذي ضاقتْ بيَ الأسرارُ

*

أَنساك، لا أقوى، هواك ربيعُنا

فمتى يعودُ الماء والأطيارُ

*

ساءلتُ عنكَ الغيمَ، قال: غمامةٌ

ستزولُ مهما  طالتِ  الأَسفارُ

*

ويعودُ ذاك الوجهُ أسمرَ مشرقاً

وعليهِ ملحُ الأرضِ والأنوارُ

*

وتفيضُ من حولي جوابي ربعِنَا

وغناءُ راعيها عليكَ مدارُ

*

لكنَّهُ حلمٌ ولستُ مبالغًا

إنْ قلتُ ليلي ما إليهِ نهارُ

*

يا أيُّها الوجهُ الذي  لازالَ عنـ

دي ساكنًا، ما دارتِ الأقمارُ

*

اطلقْ سراحي، ليسَ مثلي صابرٌ

من أين تُقبلُ أيُّها المدرارُ

*

أرجوكَ عُد قلبي يفيض صبابةً

لا أهل  من حولي ولا أَنصارُ

*

يرضيك أنِّي  ألتظي بأوارها

والماءُ غادرني ولا أمطارُ

*

سُحقًا لعمرٍ ينقضي بمصيبةٍ

وتموتُ في قيثارتي الأوتارُ

***

د . جاسم الخالدي

لم أختر مكاني قرب النافذة، حيث كان ضوء الشمس في صباح ذلك اليوم الخريفي، يخترق الزجاج، ليملأ الصالة التي تضج بالمدعوين.

لكني وجدت نفسي مرغمة أجلس هناك، في تلك الزاوية حيث لم يكن ممكنا سوى مشاهدة جزء من وجه الشاعر ذا العمر المتوسط وهو يلقي قصائده ويتحدث عن تجربته في الشعر ويستمع لملاحظات الجالسين. في الحقيقة كانت القصائد مملة جدا. ربما أنا وحدي لم أفهمها! لقد أخفقت تماما في اكتشاف ماذا يريد أن يقول الشاعر.  ولوهلة شعرت بالغباء. أخرجت هاتفي لأدفع الملل. لاحظت أن ثمة دائرة بيضاء مشعة صغيرة تتحرك على الجدار مع حركة الهاتف، بدا ذلك الإنعكاس مبهرا حقا، وكانت اللعبة مسلية  وسط أجواء السأم تلك. كنت أحرك بقعة الضوء بالطريقة التي أحب، صعودا وهبوطا، يمينا وشمالا، حتى إني كتبتُ على الجدار بضعة  كلمات، ورسمت شجرةً وحمامة وفتاة تلعب بالحبل وعشبا ونجوما.. وكدت أرسمُ صمتا عميقا لولا أن آهةً ندّتْ من فم الشاعر.  وغمرت المكان لحظة صمت مفاجأة قاسية، أعقبتها همهمات رافضة غاضبة وعيون متسائلة منصبة على وجهي، شعرت أنني ارتكبتُ إثما مريعا، وسوف يتم إلقاء القبض عليّ بتهمة إرباك الشعر. لقد انزلقت بقعة الضوء إلى عينيّ الشاعر تماما. كان هناك جالسا على كرسيه، يضع يديه على عينيه ويتأوه، حوله الكثير من المتعاطفين، وقد سكت الشعرُ تماما في ذاك المكان، وحلتْ بعض الفوضى، حتى بقعة الضوء نزلت للأسفل بخجل. كان كل ما أفكر فيه هو الإختفاء، والهرب، هكذا أنتشل بقعة الضوء وأتلاشى بعيدا عن هؤلاء. لكني لم اتزحزح عن مكاني، أدركت خطورة الهرب آنذاك، وقررت تجرّع الشعور بالعار. كنت ساكنةً في مقعدي. أنتظر أن يتحسن الشاعر ليهدأ الجميع، ومع عودة كل شيء لسابق عهده، سأنسلّ للخارج بخفة.

عندما زادت حدة التأوهات، قلقت فعلا، حتى إني لم أستطع السيطرة أبدا على نبضات قلبي المتسارعة، فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما إرتفع صوت الشاعر. لقد عزموا على طلب سيارة الإسعاف. بدا الأمر خطيرا، قال أحدهم (قد يفقد نظره)!  يا للهول! سيحاكمونني ويزجون بي في السجن. كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء. هاتفي كان لايزال في يدي، أما الشمس فهي أكثر سطوعا من قبل، تخرق زجاج النافذة بكلّ بهاء.

لملمت قوتي المتناثرة وكبريائي الذي جرحته النظرات الناقمة، ورحت أحرك الهاتف بجميع الإتجاهات. كانت نقطة الضوء المذهلة تتحرك على وجوههم بشراسة وبلا رحمة، وأصواتهم تتعالى، فيما كنت أنا أتراجع حتى غابوا عني وخَفتت أصواتهم وتشظت في الفراغ.

تنفست بعمق وكنت وحيدة إلّا من بقعة ضوء ترافقني.

***

تماضر كريم

 

 

لفظتها القرية كما لفظت مثيلاتها ممن صرن على هامش الحياة، وقد ضاق بها جفاف الدوار وقسوة الأهل وذئاب الليالي.. أو ربما هي من لفظت الدوار هروبا من ذئاب انقضت على أمها وقد تعوي خلفها ذات يوم، ثم دخلت المدينة طفلة في عمر الزهور، ابنة الرابعة عشرة ربيعا، بعد قتل الأب في معركة انتخابية مدروسة، وهو الذي كان من الممكن أن يحميها من ثعالب الردى لو ظل حيا، وما بقيت الا الام التي أرخت الحبل واستسلمت بعد مقاومات شديدة، وسلمت نفسها بدءا من قائد المنطقة بعد أن رآها تقطع الطريق الى الساقية لجلب الماء..

انبهرالقائد بجمال أمها.. وكأنه استكثر على قرية منسية، قست عليها الطبيعة و تحجرت عنها دموع السماء أن تنجب أنثى بجمال أمها..

أنثى لا تتعدى الثلاثين، وجه قمحي وحاجبان رفيعان اصبغا على العينين الواسعتين جمالا أخاذا فوق أنف خناسي وقد رياضي متناسق، ورغم ما ترتديه من ثياب فضفاضة فقد أعلن النهدان من داخلها تهاليل التسبيح في شموخ صارخ..

ثم ما لبث القائد أن بدأ يتسلل بليل بين حين وآخر الى كوخهم تحت جنح الظلام، يختلى بأمها، وقد عاينت من شقوق الباب كيف أخذ في اقناع أمها تارة بالتهديد وأخرى بالسجود تحت اقدامها ذليلا حقيرا عبدا لشيطان نزوته الى أن تعرت له وكان ماكان..

هكذا صار القائد كلما قضى الليل في بيته القروي أو تعمد أن يقضيه، وحمد سراة الليل، تسلل كلص الى الكوخ، فيبيت بين أحضان أمها، بعد أن يكون قد أرسل قفة فيها كل ما لذ وطاب مع قاضي حاجاته وكاتم أسراره، ثم لا يغادر قبل الفجر حتى يترك ورقة نقدية زرقاء..

كم احتقرته الطفلة وثيابه تنشر عطرا خلفه ثم يخلعها ويرميها على افرشة من تبن وسخة، فيتعرى حيوانا يقتات من أنثى قهرها الزمان وصيرها كجيفة صيد بلا كرامة، جمالها وحده يعلن عن وجودها ككائن يعيش على رقعة ارضية غير نافعة، لا تحظى بدعم، ثم يغادر وقد احتفظ فراش التبن ببقايا عطره..

كثيرون هم شباب القرية الذين حاموا حول أمها طلبا للزواج لكن ما ان رأوْا كلب القائد يحمل فتات القائد الى كوخها حتى تواروا، فأمها ليست هي الاولى التي طوتها يد رجل سلطة يتم تعيينه بالقرية، لكن الساقطات في براثن الاطماع كن أغنى وأيسر عيشا من أمها، بل منهن من كن أمهات متزوجات جنى عليهن جمالهن وهو ما تهبه طبيعة القرية لنسائها بسخاء..

ذات ليلة وقد خلا القائد بأمها جمعت الطفلة من البيت القليل مما خف، وتسللت خارج الكوخ، سارت بمحاذاة سكة القطارالى أن بلغت موقفا اختياريا ؛ركبت القطار، ثم نزلت عند أو ل محطة في المدينة..

كان الليل عند وصولها قريبا من ان ينزع عنه عباءته السوداء، احتمت تحت سقيفة أحد المتاجر، حذرة متيقظة، منتبهة، وما أن بزغ الفجر حتى يممت نحو سقاية ماء، غسلت وجهها ثم قصدت امرأة تبيع الحريرة، سمعت من أتوا بعدها ينادونها:أمي خدوج، قرفصت بجانبها وطلبت زليفة حساء، ظلت امي خدوج وهي احدى العيون الخفية للسلطة تراقبها.. اذ لأول مرة ترى الطفلة من بين زبنائها، فهي ليست من بنات الحي ولا يمكن أن تكون تلميذة ممن يقصدنها لتناول الحريرة صباحا قبل الذهاب الى المدرسة، كما لا يمكن أن تكون خادمة، فلاخادمة تستطيع الخروج في هذا الوقت.. ما أن انهت الطفلة حساءها حتى سألتها أمي خدوج من تكون؟ ومن أين أتت؟ وكأن امي خدوج قد فجرت سواقي من عيون الطفلة التي وجدت نفسها عزلاء من اي حب او حماية، شرعت تذرف دموعا حارة و من صدرها تتصاعدغصات ألم وكأنها قد فقدت شيئا أو سرق منها أحد شيئا ثمينا. قالت أمي خدوج:

مابك؟ قولي، لا تخشي شيئا.. هل لك أم؟ أين هي؟

هل سرقت شيئا فطردك اهل البيت في هذه الساعة؟

ضمت امي خدوج الطفلة الى صدرها بعد أن علا نحيبها عساها تهبها قليلا من الطمأنينة، ثم أدخلتها من باب خلفي الى بيت صغيروقالت لها:

الآن نامي، ونتحدث بعد انهاء عملي..

لم تستغرب أمي خدوج مما روته الطفلة عن قتل أبيها إثر معركة انتخابية، عن كلاب الردى كيف اسقطوا أمها وقد كان جمالها وباء عليها، وكيف كان الألم يعصرها وأمها قد استحلت ماصارت اليه، فجعلت منه حرفة تقتات منها، ورغم ما في حديثها من حرقة فهي لم تذكر الاسم الحقيقي لقريتها، ولا من اسقط أمها، او توحي اليه بلقب، فقد كانت حذرة لا تعرف ماقد يصادفها..

تمعنت أم خدوج في الطفلة، وقد أدركت بخبرتها أن ملامح من جمال طاغ قد يبرز بمجرد أن تستقيم حالاتها، فهي كما حكت عن أمها صورة منها وربما تكون أجمل وادق، لم تفكر أن تشغلها معها لانها تخشى المستقبل، ولم تستطع أن تتركها لمصيرها لان متشردي الليل قد يجدون فيها ضالتهم.. قالت لها:

ستبقين معي، الآن ساعديني الى أن أدبرلك مكانا تستقرين فيه..

كان تفكير أمي خدوج منصبا على رجل سلطة، يمتلك إضافة الى وظيفته معملا للتصبير سبق لها أن اشتغلت فيه قبل أن تصاب بالربو وتغادرالمعمل؛ ابلغته الخبر عن طريق احدى عيونه فما لبث ان أرسل سائقه وأخذ البنت تلبية لرغبة زوجة رجل السلطة بعد وضع عطية في يد أم خدوج من صاحب المعمل..

دخلت الطفلة بيتا جديدا ماتعودت ولا حلمت أن ترى مثله، بين عيونها تبدت حياة غير حياة القرية بكل أوساخها وحنظل ناسها الذين لا يقلون رتبة عن البغال والحمير، حتى من أتوا لحراستها والنهوض التنموي بها، حولوا سكانها عبيدا يستصغرون الرجال ويستحيون النساء لملذاتهم..

هي الان قلب منزل كبير هو واقع آخر لحياة أخرى، القائد الذي أسقط أمها في حبائله أحد امتداداتها، جعل أمها في القرية واحدة من آلات ترضي نزوات الكبار، تبني مستقبلهم وتشيد قلاع سعادتهم.. لكن لماذا تتصاغر نفوسهم أمام نساء وسخات لاتفوح منهن غيررائحة أدخنة الافران، وغوث الزرائب؟.. حارت أفهام الصغيرة وهي تقارن بين حياة كانتها وأخرى دخلتها..

تسلمتها زوجة صاحب البيت وهي امرأة وديعة مربوعة القد، تحسس المتحدث اليها اعتزازا بالنفس بلا كبر، ذات وجه بشوش يوحي بالاحترام، لا يخلو من مسحة جمال، سألتها عن اسمها، عن أهلها وذويها، ثم أنهت كلامها:

مرحبا بك على شرط ان تكوني بعقلك، عين مغمضة وفم مسدود..

كانت الصبية ترد بخجل، رأسها مركوز في الارض وعيونها تمسح أقدام سيدتها:

ـ اسمي نجلاء، ابي ميت وأمي بلا عمل في البادية..

حركت صاحبة البيت راسها اسفا في لطف يكشف أعماقها الطيبة وقالت:

اسم جميل لوجه أجمل، مرحبا بك..

نادت صاحبة البيت امرأة باسم زهور، نزلت من الطابق الثاني ونصحتها بنجلاء خيرا..

نزلت بها زهور الى قبو تحت أرضي به غرف صغيرة كل غرفة بسرير وخزانتين، واحدة صغيرة عليها مذياع، ثم قالت لها: هذا القبو هو بيتنا جميعا، ثلاث غرف صغيرة الطباخة وانا والثالثة صارت لك مسكنا..

كم كانت غبطة نجلاء كبيرة، سرير عصري نظيف وغرفة لوحدها، ومذياع.. حمدت الله في سرها، ستنام في بيت أكثر راحة وأوفى نظافة مما يبيت فيه القائد حين يزورأمها.. ركبتها غصة على قوم اعطاهم الله نعما فنفروا منها الى اعتناق الحرام ومذلة النفس..

أدخلتها زهور حماما بعيدا عن الغرف واهتمت بحك بدنها بليفة خشنة سوداء ثم بأخرى لينة مع صابون سائل.. لأول مرة تتنسم نجلاء رائحة زكية تفوح من جسدها بعد حمام ساخن، أحست بانتعاشة قوية تسري في بدنها..

سلمتها زهور وزرة صفراء جديدة ثم عقدت لها ظفيرتين طويلتين من شعرها الغزيرشدتهما وسط راسها ؛ عند الخروج وجدت نعالا رطبة جلدية فانتعلتها.. قالت لها المرأة بعد أن سلمتها منديلا مزركشا للرأس:

ـ الراس عار ممنوع، ظهور الشعر اثناء العمل ممنوع، المشي بلا نعال ممنوع، كل مانراه لايمكن أن نتكلم به مع أي كان، مهمتنا نحن جميعا هنا تنفيذ الأوامر والطاعة لاهل البيت ومن يحل بينهم من عائلة وضيوف..

كانت نجلاء تسمع، وتحرك رأسها بالإيجاب..

طيلة الأسبوع الأول ونجلاء مندهشة لماترى، كانت تنفذ ما يطلب منها بمهارة نابعة من ذكاء وفطنة، وقد ساعدتها ذاكرتها القوية على ان تختزن الكثير من التعليمات والوصايا بلا تكرار من زهور..

صارت كل غرفة تدخلها في البيت تتملى محتوياتها وتدقق النظر في أركانها، حتى اذا كلفت بعمل في إحداها أنجزته بلا تباطؤ أو خطأ، وما كانت تتكلف به ليس كبيرا، جمع منفضات السجائر ان وجدت، نفض الوسائد، ومسح الغبار عن الطاولات، وأحيانا مسح بلاط الأرض بمكنسة كهربائية ومادة معطرة كانها شحم ذائب، ولا تخرج من مكان حتى تأتي زهور لتراقب ثم تصدر أمرا آخر..

كانت الغرف بالنسبة لنجلاء كأنها بيوت الملوك كلها رخام وزليج مختلف الألوان والاشكال والأحجام، حتى سلالم الادراج الموصلة لكل غرفة مغطاة بزليج مربع صغير من الأرض الى السقف، أما الأرض فهي عبارة عن مربعات رخامية متقاطعة بزليج أسود، في حين أن السقف كله تخريقات خشبية أو جبسية الا بعض غرف النوم الصغيرة وحدها مدعمة بأعمدة خشبية مخروطة الحافتين، أغطية الافرشة كانت من أثواب لم يسبق أن رأت مثلها، حين سألت عنها زهور قالت: الغلاف الأول هو التلامط من الموبرا وما فوقه نسميه اللحوف، اما في الصالونات فالتلامط من الخريب، او البهجة، الوسائد الكبيرة منها المزركشة بطرز الغرزة والتكرير، ستائر الأبواب نسميها الخوامي وهي تشكيلات من جوهرة وموبرا و خريب و بهجة..

كانت زهور وحدها مكلفة بالبقاء اثناء أكل أصحاب البيت قريبة من غرفة الأكل اما نجلاء فتنتقل الى المطبخ لتساعد الطباخة في ترتيب الاواني الى حين انتهاء زهور فيجلس الثلاثة للغذاء ثم تنزل مع زهور الى القبو بلا حركة خصوصا اذا كان صاحب البيت موجود ويفضل أن يقيل بعد الغذاء لفترة طويلة لأنه قلما يعود في أول الليل وأحيانا لا يعود..

كم سالت نفسها من يكون صاحب البيت، فهي قلما تسمع بوجوده، كم مرة همت ان تسال زهور لكن امام الممنوعات التي نبهتها اليها منذ اليوم الأول كانت "تنكتم"، سوى ان الطباخة سالت زهور ذات يوم، هل وصل القايد؟

يتغير نظام البيت حين يحل به ضيوف، وكانوا لا يأتون الا بليل، فكل ما يقدم يتكلف به ممون خاص يرافقه خدم من نساء ورجال، تبدا السهرة بالمشروبات والفواكه الجافة، يتلوها العشاء ثم تصفف موائد الخمور والطرب، كانت نجلاء تراقب من بعيد..

وهي واقفة عند مدخل صالة الحفل بأمر من زهور وصل الى اسماع نجلاء همسات من غرفة صغيرة تقع على الأدراج المؤدية للطابق الثاني (قوس)، خشيت ان يكون أحد أعوان الممون قد تسلل اليها، اقتربت من الباب لتسترق السمع قبل أن تبلغ زهور، كان الصوت لرجل وامرأة ؛قالت المرأة وكأنها تتمم حديثا سابقا: وهل معنى هذا ستتركه ليدخل السجن، أنسيت خيره الماضي فيك؟

رد الرجل: لم أنس لكن كل بثمن.

قالت المرأة: أنا معك ماذا تريد أكثر؟

قال الرجل:أنت لي لا انكر ومتى شئت.. لكن العقدة ليست في يدي، يلزم تدويرة لمن يحلها ولن يقنع باقل من خمسين مليونا..

قالت المرأة جاتك.. متى ساراك؟

لم يكن صوت الرجل غريبا عن نجلاء وقد تيقنت بذكائها أن الحديث ليس بين أعوان الممون فالحديث فيه مساومات مادة وعرض.. تنحت الى مكان قريب وظلت تراقب من سيخرج من القوس ؛ولأول مرة ترى صاحب البيت، لم يكن غير القائد الذي لن يلتبس عليها صوته أو تغيب عنها صورته وهو متوسل راكع أمام أمها، نفس الصوت الذي كثيرا ما تناهى اليها وهي في القبو، فهو من كان يساوم المرأة التي لم تكن غير زوجة أحد الشباب الحاضرين في السهرة والذي كان مستغرقا في حديث مع صاحبة البيت داخل صالة الحفل، اهتز قلب نجلاء من ذهول، وأحست بغشاوة على عينيها..

"أي قدر ساقني لأجد نفسي في بيته ومع أهله؟"..

اخترقت خياشمها رائحة عطره والذي كثيرا ماخلف اثره على لحاف التبن في كوخ القرية، كيف لرجل يملك كل هذا الثراء، أن يطمع في امرأة قروية في دوار منسي لاحول لها ولاقوة، لباسها خرق، وفراشها من تبن ضمخته الرطوبة.. وها هو اللحظة يساوم غيرها وكأن يداه سطوة عليا تطويان الكل بإرادة من حديد. !!. جلست نجلاء على احدى الادراج وشرعت تبكي.. رأتها زهرة فأقبلت اليها:

ـ مابك نجلاء، هل تعبت؟ يلزم ان نصبر، هذه لحظات عمل لالحظة بكاء، انتبهي جيدا، افتحي سمعك وبصرك..

وقفت في مكانها وهي تردد مع نفسها:

فتحت.. لا ادري ماذا وجد القائد في أمي؟ ماذا اثاره في رائحتها؟ كيف يترك انثى بأناقة زوجته ونظافتها ومساحيقها، نسبها وغناها ثم يطمع في امرأة لا حول لها ولاقوة، يخرجها من طهرها الى نجاسته، أهو طغيان الغنى وسطوة جبروت الكبار أم شيء آخر لم أدركه؟

والوسخ، وروائح روت البقر، أهي كذلك تدخل ضمن شهوة التسلط؟ !!.. أن يساوم القائد زوجة صديقه أو قريبه فهي من "سهمه " ومستواه لكن أن يركع تحت اقدام أمها ويستمتع بها وهي عبقة بروائح روت البقر وأدخنة موقد الحطب وعرق القرية، فهذا مرض وأي مرض !!..

لم تنم نجلاء ليلتها، حاولت زهور أن تعرف السبب فلا تزيد نجلاء عن القول:

تعب اصابني و معه صداع قوي..

بعد أزيد من ثلاثة اشهرعلى رؤيتها للقائد، ، كانت نجلاء صاعدة من القبو حين واجهته مقبلا من الطابق الفوقي نازلا الى الطابق السفلي، انفزعت، واهتز قلبها حتى أوشك ان يغمى عليها، بسرعة تراجعت و استدارت الى الجدار حتى لا يرى لها وجها، ظل واقفا يتابع حركتها، وما لبث ان صاح بها وكأنه يصدر أمرا عسكريا:

التفتي بوجهك الي !!.. من انت؟

بسرعة استعادت نجلاء وضعه وهو ساجد تحت اقدام أمها يتوسلها ان تتعرى له.. حقير ضعيف لا يملك الا صوته وعينين ضيقتين كعيني ذئب تنفتحان بمكر عند الغضب، صورة لا يمكن ان تمحى من ذاكرة بنت مراهقة، قتلوا أباها لهدف انتخابي وقتلوا عفة أمها بان أرغموها على التنازل عن شرفها، كل الاحقاد تجمعت الان في عيون نجلاء التي رفعت رأسها وصارت تنظر الى القائد بنوع من التحدي حين أعاد سؤاله بصوت أقوى من المرة الاولى، حتى بلغ الى مسامع زهور وهي في الطابق الفوقي فاتت مهرولة تستخبر ما وقع، ظلت واقفة في اعلى السلم تتابع الوضع، احست نجلاء وهي ترى نصف جسد زهور في الأعلى بشجاعة وقوة دافقة في ذاتها فردت عليه وعيناها مغروستان في عينيه: خدامة لآلة..

نزل درجين حتى صار قريبا منها وقد اثاره قدها وجمالها ثم قال:

هنا كاين سيدك ماشي لالاك..

زاد منها اقترابا فمد يده وأمسك حلمة نهدها بأصبعيه كمن يريد سحقها وقال:ماذا عندك هنا؟

صاحت نجلاء من ألم، ولم تدر الا ويدها مرفوعة في الهواء ولطمة قوية تنزل على وجه القائد !!..

بسرعة ركلها برجله ثم نزع حزامه من وسطه، وظل ينزل على نجلاء بقفل الحزام بضربات قوية على الرأس والكتفين وقد تكومت في ملتقى الأدراج، نزلت زهور وهي تتوسله ان يرحم البنت من ضرباته فقد يقتلها بعد أن رأت دماء رأسها تفور؛وكلما توسلت زادعنف القائد أكثر؛أقبلت الطباخة تهرول وهي تستغيث بسيدتها التي لاحت من بهو الدار تستطلع ما يقع منبهة زوجها:

ـ كفى هل تحلم نفسك في "حبس قارا "؟ماذا فعلت البنت لتنال هذا العقاب منك؟

تراجع وحاول الانسحاب أمام صيحة زوجته وحضور خدم البيت خوفا من ان تتطور الأمور وهو يقول:

سأعود الليلة ولا اريد ان اجدها هنا وسيظل حسابي معها عسيرا..

بسرعة خرج وهو يلف حزامه على قبضة يده..

مدت صاحبة البيت يدها الى نجلاء، احتضنتها ثم قالت لها تعالي معي اريد ان اسمع ما وقع بالتفصيل بعد أن اضمد جروحك..

لم تبك نجلاء او تسمح لدموعها بجود، لكن مع الم السوط على وجهها وكتفيها ورأسها ودمها السائل، وبين انفاسها الصاعدة النازلة كانت حائرة هل تبوح بالحقيقة ام تطلب مغادرة البيت، في كل الحالات لابد ان يطولها القائد ولو عن طريق أحد كلابه، ولن يكون عمرها طويلا، خادمة تصفع القايد فهذا قمة التطاول على الأسياد، تستلزم القتل، اما و ان يخضع القائد أمها لنزواته وان يكسر شرف القرية بكاملها فذاك حق من حقوقه..

لا لن أصمت، كلنا أبناء تسعة أشهر، سأفجر الدلاحة وليكن ما يكون، لكن هل تصدقها صاحبة البيت؟وهل تشهد زهور بما رأت وتابعت من بداية الواقعة؟لا احد يرمي نفسه في جهنم، زهور قبلها هنا وتعرف كل شيء عن اصحاب البيت، وهم واثقون منها مؤتمنة على أسرارهم، فكيف تشهد لصالحها، تقطع رزقها وتعمي عينيها بأصابعها !!.. لم يعد لها شيء تندم عليه، منها ضاع الأب بقتل، وضاعت الام بفساد أخلاقي وسمعة سيئة، وضاعت القرية بإهمال حتى صار رجالها يتابعون نساءهم وهن يقتتن من أرحامهن ولا احد يحرك ساكنا جبنا وخوفا، ومن جبروت سلطوي، ما بقي لها شيء تندم عليه.

ظلت صاحبة البيت تنتظر ان تهدا نجلاء بعد أن توقف دم رأسها ثم عاودت سؤالها، ماذا وقع بالضبط؟

روت نجلاء الواقعة بصدق وقد تفاجأت من زهور بعد ان سألتها السيدة:

هل رأيت شيئا مما وقع؟

اتي رد زهور:من الاول الى الختام وما قالته نجلاء صحيح !!

قالت صاحبة البيت:

هذا حدث يجب ان يموت هنا وسأعرف كيف أعالجه مع زوجي..

انبرت نجلاء وفي محاجرها تجمدت دمعات:

الحديث لو انتهى هنا فسيظل يجر في قريتي ذيولا، جروح رأسى والم الضرب لاتساوي شيئا أمام جروح نفسي وكرامة أمي، وروح أبي في قبره..

جحظت عيون صاحبة البيت وقالت:

ماذا تقصدين؟

وشرعت نجلاء تحكي عن قتل أبيها، عن نظرة القايد لامها في الساقية، عن هجومه على كوخهم ليلا و ركوعه تحت أقدام أمها الى أن اسقطها في حبائله، ثم خروجها من القرية خوفا على مصيرها، والصدفة التي جعلت مي خدوج ترسلها الى هنا.. عن حديث "القوس" ليلة السهرة..

وتفاجأت نجلاء و صاحبة البيت تقول:

الان ادركت سر الرائحة، وأدركت سر حبسي بحديث تافه من قبل زوج من كانت مع القائد في القوس !!.. ديوث بلا كرامة ولا أخلاق !!..

نجلاء اجمعي ثيابك وكل أغراضك وسأرسلك مع سائق الى بيت والدي، ولن يستطيع مخلوق ان يمسك بأذى..

أخذت السيدة هاتفها، حدثت أمها قليلا، ثم طلبت أباها بالقدوم اليها..

وجدت نجلاء راحة عند والديّ سيدتها، كما وجدت نفسها في بيت أهله مسرورون بها، مما أصبغوه عليها من عناية لذكائها وخلقها، وقد أحست بعلو نفسها، فاختلاف الطقوس جعلها تتعلم الكثير مما لم تستطعه في البيت الأول، من تحضير تشكيلات متنوعة للحلويات وما تتطلبه من فن وإتقان، وطقوس الشاي وطريقة إعداده، وابداع في إتقان أنواع من الطبيخ الذي استلذه أهل البيت وشجعوها على مزيد من الابداع فيه، وكما قالت عنها أم سيدتها:

ـ نجلاء خلقت لتكون سيدة بيت لاخادمة..

بعد اقل من سنة عادت نجلاء الى مقرها الأول، لتحتفل بسيدتها التي تزوجت رجلا آخر بعد طلاقها من القائد، كان رجلا من اشرف أصول المدينة، ضاحكا بشوشا، وقد قدمت لها زهور العزاء في موت أمها، و أخبرتها ان القائد هو من تورط في قتلها بعد ان ذاع حملها في القرية وبعد شكه أن هي التي أرسلتك للانتقام منه، كما تم الحجز على المعمل الذي لم يكن يؤدي ضرائبه ولا يصرح بعماله وقد تدخل والد سيدة البيت وصاحبته بكل ثقله كقاض سابق مشهور الى ان أخذ القانون مجراه الطبيعي..

تألمت نجلاء لمصير أمها، فقد قضت بنفس مصير ابيها اتحدا في الموت قتلا، واختلفا في السبب، وقد أسعدها ان القرية قد رفعت عنها اللعنة بعد إضرابات شبابها وقومة رجالها، فشرعت تعرف نموا بعد بناء معامل للورق من الدوم كما تمت إعادة هيكلتها كمركز سياحي جبلي..

***

محمد الدرقاوي

 

 

برْحاءُ ضَمَّتْنا إلى برحاء ِ

ومعيشةٌ..

بنا تستبدُّ بأضنك ِالإشياء ِ !

*

وتُلينُ جانبها

لمن عاثوا بنا

واستغفلوا أيامنا

وتقاسموها شطارةً

واستفحلوا..بتجارة ٍسوداء ِ !

*

وتفارقوا بتوافق ٍ

ولكاعة ٍ..

ووضاعة ِ ٍالرخصَاء ِ

*

كلٌّ يزايد باسمنا

ويزيد في أوجاعنا

ويذر ملحاً

كي ينامُ

ولاتــنامُ من اللهيب ِبلادنا !؟

وتظل  دامية الرؤوس تَشُقُّنا

ونظل نخبطُ بعضنا

ليعضنا

ويقودنا

نحو المتاهة ِ

أتفه الأجراء ِ !

*

بَرْحَاءُ آلام ٍ

وإيلام ٍ

وأسقام ٍ

بما لا ينتهي ..!

هل تنتهي ؟

ونعيش يوماً

فسحة  الأمراء ِ!

***

محمد ثابت السميعي

 

 

على جَبلٍ من الأخطارِ كُنّا

تُحاوطُنا حَنافيشٌ ودُمْنا

*

بنا عَبثتْ حروبٌ دونَ جَدْوى

نقاتلُ بَعْضَنا والخُسْرُ إنّا

*

ثلوجٌ مِنْ تَحامُلِها عَليْنا

تُدَثّرُنا بأطنانٍ وعِشْنا

*

تمُرُّ بنا ليالينا برُعْبٍ

كأنّ النومَ قتّالٌ تَجَنّى

*

خَنادِقنا مَغاراتٌ بصَخْرٍ

بها عُمْراً على عُمْرِ حَجَرْنا

*

إلى قِمَمٍ بإجْهادٍ صَعَدْنا

ومِنْ قِمَمٍ على سُفُحٍ دَرَجْنا

*

تُراقبنا عيونُ الرصْدِ دَوْما

وتُرْدينا بما أهْدَتْ إليْنا

*

تَذكّرْتُ المَنايا حينَ طاشَت

تُخبِّطنا بعْشواءِ احْترَنّا

*

نَجيعُ شَبابنا رهنُ انْسِكابٍ

على رَمْضاءِ مَبْقولٍ تَشنّى

*

فكم طاقاتُنا ذهبَتْ لهَدْرٍ

وكمْ خَسِرَتْ بلادٌ أحْرَقتنا

*

نُكرّرُ فِعْلةً ذاتَ انْسِجارٍ

وما تُبْنا ولا مِنها اتْعَظنا

*

تَعيلُ شبابَها نيرانُ شرٍّ

تُحَنّذهم على حَجرٍ مُدَنّى

*

مَطالبهمْ بها أمِنَتْ حَياةٌ

فتحْبطُهمْ عَقابيلُ المُكنى

*

قسائمُ حَتفهمْ تُهْدى لأهْلٍ

وجُثمانٌ يُبعّثهمْ أنيْنا

*

يَديْ خَطّتْ شهادةَ مَنْ تهاوى

إلى حَتْفٍ يغيّبه ُحَزينا

*

يَطيشُ رَصاصُها والقتلُ نَصْرٌ

وما انْتصَرتْ وإنْ دارتْ سِنينا

*

صِراعاتٌ بلا جَدْوى ومَغزى

يُنازلُ غَرْبَها والشرْقُ يَضْنى

*

أحاطونا بليْلٍ مِنْ صَقيعٍ

تأسّرَ بعْضنا والبَعْضُ يَفنى

*

وجاءَ الصُبْحُ يُخبرُنا بصَوْلٍ

ومَعْركةٍ على جَبلٍ فغِرْنا

*

تَساقطَ بَعْضُنا طُعْماً لوادٍ

وسارَ البعضُ مَأموراً مُعنّى

*

تقدّمْ أنتَ مقتولٌ شهيدٌ

كذا صُنِعَتْ حُروبٌ تَشتهينا

*

وَثَبْنا نحوَ مَقتلِنا بجَهْلٍ

تؤازرنا العواذلُ فاحْترَقنا

*

وما بلغَتْ كما شئنا سلاماً

وقد ذبَحَتْ على نزقٍ فَطينا

*

ومنْ رُعُبٍ إلى رُعُبٍ خُطاها

تُمزّقنا وتجْعلنا طَحيْنا

*

جًحيمُ الليلِ في جَبلٍ أرانا

نجوماً ذاتَ نارٍ تزْدَرينا

*

هو الموتُ الذي فينا تَواصى

وحتفُ وجودِنا أضْحى القَرينا

***

فكانتْ جَبهةً فيها انْتِحارٌ

تُبادلهُ الأوامرُ إمْتِهانا

*

تبقّلَ رأسُها فحَمى وَطيْساً

وأشْعَلها وألقمَها ارْتِهانا

*

تَساقطَ جيلُها هَدراً وجُرْماً

فدربُ الموتِ قد أدْمى مُنانا

*

تسجّرَ عَقلها والقلبُ يَشقى

وقاضيةٌ كأرْقامٍ تَرانا

*

بَلغنا بَلغةَ الأرْدى كجَمْعٍ

لتأكُلنا جَوارحُ مُنتَهانا

*

أرى جُثثا مِنَ الآنامِ تَبقى

تُراقبُها لتقتلنا عِدانا

*

فلا أحدٌ يُحاول أنْ يَراها

عَدوٌّ قانِصٌ أشْقى خُطانا

*

خَسِرْنا من سَذاجَتنا رجالاً

وأشبالاً فطاشتْ مُبْتغانا

*

بخفَّيْها رجَعَنا مِثلَ بَدْءٍ

تُسائِلُنا عَواقِبُ مُنْطوانا

*

تذكرتُ المَواجعَ يومَ أجّتْ

على قِمَمٍ توطنَها أسانا

*

حُطِبْنا دونَ ذنبٍ أو لجُرْمٍ

وجَوْهرُنا تطامى مُسْتدانا

*

بها جارَتْ نوازعُ إسْتياءٍ

لسيِّئةٍ تؤمِّرُ مُحْتَوانا

*

لقد ماتوا وعِشنا باغْترابٍ

تُعذّبنا مَواجِعُ مُكْتوانا!!

*

فلا وطنٌ بنا يرقى عَظيماً

ولا شعبٌ تَسامى في رُبانا

*

تقيّحَتْ النفوسُ وما تشافَتْ

ومِنْ دُمَلٍ على بَعْضٍ حَنَقنا !!

***

د. صادق السامرائي

2\2\2016

.................

*من الجبال العاليات العاتيات في شمال العراق، أمضينا أشهرا على قمته النائية الزمهريرية القاسية البيضاء، وتفوح من حولنا رائحة الموت والدماء.

قفزَ اللاشيء في حضنِ الهاوية

على شفيرِ الفناءِ

سقطَ كلُ شيء..

الدُّموعُ تجلدُ ذاتها

بغصنِ رُمَّانة

أحلامٌ مؤجلةٌ تلحقُ

ريحِ الأملِ

*

أنا ابنةُ الوطن الذي لم يُولَد بعد

أحملُهُ جنيناً في أحشائي

*

شهقاتي صدى التُّراب

تتلولبُ أنفاسي ..

قلبي سقطَ  بين الحُفرات

*

أبحثُ عن كوخ ٍ سرمدي

كي ألِدَ فيه وطنَ البقاء

وأولدُ فيه عذراءُ  الخلود

*

أبحثُ عن فخَّارةٍ أُعتِّقُ فيها

دمي المُخَضّبْ

برقائقِ ياسمين الشَّام

من أثداءِ الضُّوءِ الأزلي

أقطرُ الصَّحوةَ بين شفتيه

*

إنه اليوم الثالث بعد الموت

إنها  الولادة الخضراء

لا للصَّلبِ .....ثانية

لا للموت .......ثانية

***

سلوى فرح - كندا

في مخيلتِي أنِّي سأقتَرِفُ مزيداً من الهَفَواتِ ….

سأحترفُ ساعات حزني

بدلَ انشغالي

بالثورة..

سأركضُ كغزالٍ هاربٍ من عين الشَّمسْ.. أتغنَّى بالمحرّمات كلها

وأنتهي في قمم الجنون..

أغالطُ حقائق الأشياء…

أمارسُ طقوسي السحرية

لتنهار تحت قدمي سلفيات الفكر العقيم…

وأراهم بعين الحق….

سكارى….

عراة….

أختلقُ لهم الهزائم ثمَّ ألوي الأكعابَ  بحبل كان في الماضي وصمة للعار…

سأحرق كلَّ القوارب البئيسة من شطِّ عزلتِي ..

وأصلب الأشجار  جدعاً جدعاً لأثقاب  الجدران..

أرخي على الجبلِ فورة غضب الأولياء..

نعم سينهار الدير والخلوة…

ويتدفق مداد الكهنة على الألواحِ…

نعم  سأحطم السَّرَايَا وصالات المتعة  وقاعات الخطيئة الكبرى…

سأعدم أدميَّاتي  بمسامري أنا

ليس بمعول جدنا المعظَّم ناهب سحنة الفرح عن السَّماء….

سأكنس الأرصفة من مصفاة السجائرِ..

من آثار الكسلِ..

من بقعِ الدمِ المغدور ..

وخزرة العملاء..

من اندسَّ منهم وماانجلى…

من بطش البذلة الموحدة وأصدافها وأصفادها…

سأنصب تمثالاً من الذهب لمن يزن ذهباً…

هذه الأرض تملكها الفراشات وتتَّسعُ للغائبين عن عرسنا…

لمن مشت أقدامهم حافية وسط الوحل…

لمن حوَّلوا الوادي أحمراً مقابل قطعة خبزٍ…

هي لسنبلة  احتمت بظهر النَّهرِ

حتَّى تنطَّرَ في اليد منجل…

نعم سأشحن بطارية مصابحي  بأعوادٍ هيَّأتها لموسم احتراقي…

وأعزمُ من  كلِّ فجٍ عميقٍ

جاراتي

وأطيافي…

بائعة الخبز بالحارة..

حفظة ألغاز الطير..

ونكسُّر السَّاعات..

ونقوِّمُ العاهات..

وأمسحُ تجاعيد الوقتِ عن الوجوه..

أمَّا عن وسادة السلام فلكلٍ منَّا شجرته الأصلُ…

يستظل بظلها…

يستأنسُ يهذبها

ويستبيحها للشهوة والتَّشهي….

***

عبد اللطيف رعري

01/03/2023

منزوياً في مارستان للأمراض النفسية أنتظر إخلاء الممرات من المرضى، لنرصعها بمزهريات مختلفة احتفالاً بعودة الروح للجسد لشاعرٍ أحسَّ أنّهُ لا يشبهُ باقي الشعراء…قد أكون أنا المعني بأنانيتي وقد يكون شاعر آخر في مكان ما…

 

في جلسةِ شواءٍ مع زُمرةٍ من الصَحبِ، حين هربنـا من وَخْمَةِ برلين إلى ضفة النهر..

كَرَعنـا ما تَيسَّرَ من "الزحلاوي" وآثرَ أَحدُنـا "إبنَةَ العِنَبِ.. ولَمّـا إنتصفَ الليلُ، وغدا الهواءُ عليلاً، طابت النفوسُ..

- زُرنـا بلقيسَ، كانت تُلمِّعُ خُلخالَها، قبلَ أَنْ تدخُلَ على سُليمانَ وتَكشِفَ عن ساقيها ...

- صعدنـا سفحاً، ودخلنا كهفاً، فوجدنا "أهله" نياماً .. لَمْ نُعكِّرْ رقدَتهم ..

- زُرنـا بِـلالاً، أَيقظناه .. كـي لا يفوتَه أذانُ الفجر، لأنَّ الخمـرةَ أَثقَلَتْ رأسه..

- مَرَرْنا سِراعاً بدارِ أبي سفيانَ، لكننا لَمْ ندخُـلْ..!

- ومن وراءِ، ما لا أدري كمْ من الحُجُبِ، زُرنـا أُمهات المؤمنين،

وجدناهن شَمطاواتٍ، إلاّ عائشة وزينب .. كانتا حلوتينِ تسلبان العقلَ،

بَضَّتَينِ، فيهما عَبَقُ أُنوثةٍ طاغية..

- رأينا أبا ذرٍّ يَتسوَّلُ تارةً عند بابِ بن عوف، وأخرى عند بابِ أبي سفيان !!

- زُرنـا الحلاّجَ .. لَمَمْنا ما قَطَّعه بنو العبّاس من جسده، نَفَخنا فيه.. ولمّا إعتَدَلَ، أَهديناه نظّـارةً من ماركـة " أبولو " وإشتراكاً كي يسوحَ مجاناً في "الشبكةِ العنكبوتية"..

- زُرنا سرفانتس، وجدناه مُنشغلاً، على ضوءِ سراجٍ كليلٍ، بمخطوطة لسيدي أحمد بِنغالي عن دون كي خوته، فلمْ نُزعجهُ،

- أبصرنا مولانا جلال الدين الرومي يَرقصُ الهب هوب، لكنه تَعثَّرَ بجُبَّته فسقطت عمامَتَه،

- رأينا بروميثيوس یرتعشٍ عارياً تحتَ الجسر في كرويتسبرغ، يتسوَّلُ وَلعَةً لسيكارة حشيش تُرتجفُ بين أصابعِه... فصَعَدنا الأولمب ورمينا بصندوقة پاندورا عند قَدَمَيْ زيوس !

- زُرنا فيدريكو لوركا، نَزَعنا الرصاصَ من قفاه، فأنْشَدَ لَنَا غجريته " أمبارو "(2)

- زُرنـا بول روبسن، طَمَعـاً بواحدة من إسطواناته، أحالنـا إلى لِيوِي أرمسترونغ، ونام..

- زُرنـا ماركس، فأَخبرَنـا أنـه ليس ماركسياً (3)

- رأينـا عصـا موسى، نَخَرَهـا السوسُ من الداخل ..

- أبصرنـا خبزَ المسيح في عيـونِ الجيـاع..

- ورأينا ما لا أجرؤُ على البوح به ....!

لكننـا لَمْ نَزُرْ حاتم الطائـي، كي لا يُفَتِّتَ لنا شحمَ فَرَسِه..

***

الحاناتُ نامت فَرْطَ السَهَر،

بائعاتُ الهـوى ذهبن يُجرجرنَ أَذيالَ النُعاسِ، بعدَ ليلةِ عملٍ شاقّة..

الدجّالونَ بائعو الأوهام حملوا حقائبهم بخفةِ لصوصٍ مَهَرَةٍ، ليدفنوا رؤوسهم في وسائد توفِّرُ لهم أحلاماً بصيدٍ سهلٍ في اليوم التالي .

وهكـذا عُدنا، قبلَ أَنْ يَقرِضَ الفجرُ الليلَ .. ويرحلَ آخرُ قَطـارِ مترو !

***

یحیى علوان

.....................

(1) (الوخمة: قيظٌ شديد مصحوبٌ برطوبةٍ عالية (عاميّة عراقيّة، بصرية تحديداً، لأنَّ البصرةَ تقعُ على فم الخليج العربي).

(2) آخر قصيدة له، كتَبها قبل يومٍ من إعدامه على يد الكتائب الفرانكوية الفاشية .

(3) قالها في معرض نقده للإشتراكيين الفرنسيين، لاسيما صهريه بول لافارغ و شارل لونك.

 

من مرآتي تخرج سمكة

تقفز في هلع

طوال الوقت

ولا تموت

تهزم الرتابة المرسومة

على وجهي

أرفع حاجباً

وتتسع عيناي

في دهشة ...

*

على حافة نافذتي

ليلة ترقص

من دون دف

ولا تتعب

همس القمر في أذنها

انك أجمل النساء  ...

*

في غرفتي مساحة

للجنون

ينثر كل محتويات حقائبه

ولا يسألني الإذن

ينام على وسادتي !!!

لذا يضج رأسي بهفوات صغيرة

أن أفتح حديثاً مع تلك السمكة

أو

أن أقف على الحافة

لأشارك الليلة المُغرمة

الرقص ...

*

في كلا الحالين قد أبدو مجنونة

ولكنني أحتاج هذا

الجنون

لأدرك مالا يدرك

لأستحم في ذلك البحر

وأخرج مبللة الشعر

لأؤكد لمن حولي أن داخل المرايا بحار

أحتاج أن أصدق

همسات الغرام

لأرقص حافية في قلب الليل

من دون خوف ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

 

المساء يقترب وسطح البحر الصاخب يظهر للعين المجرّدة كأنما هو يُخبّئ عاصفة تنذر بخراب آت.. ولا بدّ منه. هناك على الشاطئ تبدو نقطتان بعيدتان مثل قفتين وضعهما مجهول مسرع على حافة الماء ومضى ناسيًا اياهما. إذا ما اقتربت أكثر سيسعفك ضوء القمر الشحيح لتراهما وكأنما هما صيادان ماهران يلقي كلٌّ منهما بصنارته إلى الماء بانتظار الرزقة المقبلة. أنفاس كل منهما تتلاحق ارتفاعًا وانخفاضًا، وكأنما هي ارتبطت بسمكة بوري او انتياسة أو.. قردة، تتلقفها صنارة عمياء في غفلة من عين الماء العلوية.

أحد هذين رجل وعد جارته الارملة بأن يأتي لها بفرش يلعب فيه السمك بذيله حُبًّا وفرحًا بالحياة، والآخر فضّل ألا يقول لزوجته إنه ذاهب إلى البحر للصيد وضمر بينه وبين نفسه، أن يفاجئها باسماك طالما حدّثها عنها دون أن يريها إياها. "هذه الليلة سأضع بين يديها مفاجأة من عيار ثقيل". قال في نفسه وهو يرسل نظرة آملة.. رانية إلى رفيقه الذي تعرّف إليه قبل فترة ورأى فيه الرُبّان المخلُص لسفينته من لجج حياته العاتية.

"شوف الصنارة بتهتز بايدي.. شكلها غمزت"، قال أحد الصديقين، فردّ الآخر وهو يرسل ابتسامة من طرف فمه:" وشو بتستنى.. قلتلك لما تغمز صنارتك.. اسحبها واش واش شوي شوي.. انتبه.. إذا تسرّعت بسحبها.. بتفلت حبّة السمك منها".

ما إن استمع الصياد إلى هذه النصيحة من رفيقه، حتى بادر إلى جذب صنارته باتجاه صدره بنوع حافل باللطف الحنون، غير أن عنادًا غريبًا ركب الصنارة فلم تستجب له. رغم أنه كان يتمنّى طوال الطريق من مشارف الناصرة حتى أطلالة البحيرة، يتمنّى أن يتمكّن من اصطياد ولو سمكة واحدة تُثبت لزوجته أنه رجل ومن أهلها من ناحية، وتؤكد لرفيقه أنه جدير وبإمكانه أن يفاجئ العالم بما اذخره من حظّ وحرفية من ناحية ثانية. رغم هذا كله فقد وجد نفسه يطلب المساعدة من رفيقه:" شكلها السمكة كبيرة.. تعال ساعدني في سحبها". خفّ الصديق لنجدة رفيقه المستغيث به، أمسك بقصبة الصنارة، شدّها الاثنان معًا. قال المُغيث لرفيقه إلى جانبه:" فعلًا شكلها انتياسة كبيرة.. الانتياس عنيد وكبير راس.. لازم نتحلّى بالصبر.. الصيّاد الماهر لازم يكون صبور..".

تقدّم الليل إكثر نحو عتمته، ومضى الاثنان يحاولان استخراج الانتياسة المجهولة من أمواهها الصاخبة، وفي خاطر كلٍّ منهما أنها ستصير بعد قليل معروفة. الصياد الهُمام الاول أضمر أن يقدّمها وجبة دسمة إلى جارته الارملة الحبّوبة لتحنَّ عليه، في حين برقت عينا الآخر وهو يفكر في زوجته وفي مفاجأتها المذهلة بانتياسة دسمة تأكل منها عدة أيام وتتذوّق طعم السمك الحقيقي. الاول فكّر في أن يستبق الامور فيشترط على رفيقه أن يتقاسماها، غير أنه عدل عن اقتراحه.. قبل أن يغادر فمه بشعرة. أما الآخر فقد خطر له أن يتقاسمها معه، سوى أنه ما إن تخيّلها وهي تلعب بذيلها حتى عدل عمّا خطر له.

في هذه الاثناء كان وجه كلّ من الصيادين صافيي النية كلٌّ تجاه الآخر، ينشدّ حينًا ويرتخي آخر، غير أنك لو تمعّنت في وجهيهما سترى التوتر الشديد وقد افترش مُحيّاهما.

"شد يا اخوي". قال الصيّاد الاول، فردّ الثاني:" مش قادر اشد أكثر.. بخاف إنها تفلت".

الوقت يمضي والاثنان يشُدّان حينًا ويرخيان آخر، على أمل أن يكون ليلهما طويلًا طويلًا، من منطلق أنّ كثيرَ اللقاء بأسماك البحيرة.. كان قليلًا. إنهما يحرصان على ألا تفلت تلك الانتياسة المباركة من بين فكّي صنارتهما السحرية، لهذا اتفقا على أن يتحلّيا بالصبر الجميل وطولة الروح، في هذه الاثناء خطر لأحدهما أن يتحدّث عن الشيخ سنتياغو، وكيف أن سمكته علّت قلبه قبل أن تغادر بحرها، وعندما تذكّر أن سانتياغو شيخ همنغواي العظيم، وصل بها في النهاية إلى برّ الامان هيكلًا عظميًا، ابتلع القصة ولم يفه بأية كلمة منها، فعل ذلك من قبيل الحيطة المطلوبة في حضرة البحر، والحذر المرغوب به في حضرة أسماكه. أما الصديق الآخر فقد فكّر في أن يروي قصة قديمة عن صيّاد منكود الحظ دارت عنه وحوله، إحدى قصص الف ليلة وليلة. مُفاد هذه القصة أن صيادًا رُزق ذات مشوار بحريّ بسمكة غريبة الشكل واللّون.. قلبت حياته رأسا على عقب. سوى أنه ما إن أحس بكلمة.. قبلت حياته.. هذه، حتى ابتلع ما تبقّى من كلمات القصة.. وعاد إلى صمته الليّلي.

نسي الاثنان أن هناك من ينتظرهما في ناصرتهما الغاطّة في نومها، الأول نسي تلك الأرملة الحبيبة المنتظرة تنفيذ وعده، في حين أن الآخر نسي زوجته وما أراد أن يُنعم به عليها من مُفاجأة سَمكية، تهتزّ لها جدران البيت وربّما سقوف الحارة.. ويتحدّث عنها الحُداة والرُكبان. الكثير من الكلام أراد أن يخرج من فم كلٍّ من الصيادين الحالمين، إلا أنه توقّف قبل أن يغادر بقليل، انتظارًا لانتياسة قلّما حلُم بها صيادو المنطقة. انتياسة قذفها البحر الابيض المتوسّط إلى فم البحيرة الطبَرانية الحالمة.. لتكون هِبة الامطار الغزيرة لصيادَين هاويين.. ومحبّين أيضًا.

"أرجو أن نتمكّن من احتضانها قبل انتهاء الليل". قال الاول، فردّ الثاني "على إيش مستعجل.. الانتياس بستحق.. أكثر من ليلة".

مع هذا.. واصلت الانتياسة الغالية مشاكستها الليلية لصياديها العنيدين، بل قُل المؤمنَين بحاجتهما للصبر من أجل أن يحقّقا حُلمَهما.. ويحظيا بإطلالتها البهيّة، وواصل الليل رحلته نحو نهايته غير عابئ بما يجري بين صيادين هاويين وانتياسة مجهولة تقبع في قلب الغيب، حتى وصل إلى هزيعَه الاخير، فاشتدت الظُلمة واشتد بالمقابل أمل كلٍّ منهما بالفوز.. ورويدًا رويدًا لاحت تباشير الفجر الاولى.. ليتبيّن الصيادان الآملان.. لمفاجأتهما غير المتوقّعة، أن ما علق بصنارة أحدهما ما هو الا شبكة قديمة ملأتها الطحالب البحرية.. وفغرا بالتالي فميهما.. كأنما هُما بُحيرةٌ وبحرٌ من عالم آخر.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

ما الذي يعرفه العصفور عن قلق النمور

قالها وانصرف محمد محسن

الذي ياسره  طفل اللحظة

موت الآن

ومازال يحاول حل طلاسم

فقدان الصدفة بوصلة الأحساس

قالها وهو يحزم أمتعة اللذة

ويخادع صمتا

يمارس عمله وسط ضجيج اللاهين

وهو يدخن رغبته

في افق الوطن

ذاك اليقلق من اختباء حقائق هذا الكون

في غصة طفل يستجدي بتقاطع سوق الگيارة

وينتقد اللامعنى حين تستاصله الرغبات

لم يقف الى جنب سدنة التاريخ الكاذب

الذين اورقوا كشجرة سامة

وتطحلبوا مثل الموت

ويدورون كدورة حياة الضفدع باستمرار

لم يخدعه الذين يتحدثون بوجهين

وينسون احدهما في لحظة نسيان طاهرة

ما الذي تعرفه العصافير عن قلق النمور

هو استبطان  للغتين، تنتصفان عند شروق المعنى

ومحاولة اقتحام خلوة وجودين

يستحمان برغوة ذاتهما

وما بين الرغوة  ورؤوس الدبابيس الشائكة

يقبع طفل الوجود الخائف

يمارس محمد محسن نقده

بين اغماضة طفل، وبين الغيض المتقد بداخلنا

بين حدة سكين شرهة

وبين استسلام البطيخ لمصير الخاصرة الرخو

يتوقف، كان كثيرا، كي يفكر بالركض

ويمهل ذاته ان تبطىء باستمرار

كي يقفز معنى الكهل

ويظل يفكر بذاك المعنى ببطىء

***

ا. د. رحيم الساعدي

لاشيء اكثر بؤساً مثل ما أجدُ

ليت التقاعد يا اختاه يبتعدُ

*

أحاور النفس ما ابقى لنا زمنٌ

مشى التبغددُ حتى سامه الكمدُ

*

في الليل آهٌ وفي الأصباح منغصةٌ

وفي صدى الطرق مايشقى به الوتدُ

*

دعِ التقاعد ليلٌ ماله أمدُ

بلواه بلوى مع الأمراضِ تتحدُ

*

حيث المرتب لايغنيك عن ألمٍ

وحيث يجفوك من قد كنت تعتمدُ

*

تنهارُ اجزاؤك الأخرى بلا ألمٍ

يموت جزءٌ وجزء منك يزدردُ

*

جميلُ ثوبك يغدو رثَّ أمنيةٍ

مشى بها الكأسُ حتى ملّهُ الرشدُ

*

الموتُ أقربُ ماقد كنت تحسبهُ

ترجوه حيناً وحيناً يلعبُ الحَرِدُ

*

ينذركَ جزءٌ من الأجزاء في عطبٍ

فيستغيثُ بأجزاءٍ له تجدُ

*

ليت الغرام الذي قد عاد ثانيةً

يغادر اليوم حياً مابه أحدُ

*

وليت صرح الهوى ينهارُ آخرهُ

إن كان اولهُ نارا ستتقدُ

***

محمد الذهبي

 

 

تلك هي حكايتنا.. لدي هوس الكآبة في هذا التأريخ.. اليوم استلمت راتبي ولا أدري لماذا قطعوا عشرين الفا منه وهذه حكاية كل شهر احيانا اكثر وأخرى أقل ربما البعض يعده مبلغا بسيطا لكني اشعر بالغبن والتجاوز ليس على راتبي انما على كرامتي وحين سألت موظفة المصرف أجابتني.. عليك بمراجعة الدائرة المختصة بإصدار بطاقتك.. الدائرة تبعد عني عدة كيلو مترات.. اما جواب الدائرة فكان راجعي بعد اسبوعين.. أعترف اني أشعر بالخجل لما آلت اليه أوضاعنا.. لذلك تناسيت الموضوع تجنبا لإصابتي بصداع شديد..

تذكرت قائمة المشتريات التي سجلتها لي ابنتي.. انشغل تفكيري بأمور عديدة حتى لم انتبه للمكان الذي سرت فية.. أوقفت السيارة للتبضع.. كان دخولي بالجهة المعاكسة للسير.. ربما بسبب الضجيج والحركة الغير طبيعية للسيارات في الشارع وذلك لتغير مسار الطريق فقد كانت هناك تحويلة مؤقتة من أجل ترقيع الحفر الموجودة فيه لذلك أستوقفني شرطي المرور قبل مغادرتي للمكان ولصق ورقة على السيارة لغرامة مالية.. الحمد لله.. ما هذه الاحباطات التي نزلت فوق رأسي.. قلتها بعصبية مفرطة لكن هاجسي يقول.. بان الجميع يعانون مثلي.. وكل منا لديه قصة أغرب من قصص الف ليلة وليلة..

كنت أسير ببطء شديد لأستعيد نشاطي وحيوتي.. لكن شيئا ما استرعى انتباهي فمن بعيد لمحت وجه صديقتي انها مفاجأة غير متوقعة لكنها جعلتني ابدو سعيدة نوعا ما.. آه انها نجاة.. صديقة الطفولة والشباب.. تمتلك روحا طيبة وتتحدث بأريحية محببة وتميل للمزاح دائما.. كانت تقف على الرصيف في انتظار سيارة.. عندها نسيت مسألة غرامة المرور والعشرين الفا وحتى أخبار الفيس بوك (صعد الدولار.. انخفض الدولار) يا لها من لعنة ممقوتة حلت بنا.. على كل حال تفاءلت خيرا برؤيتها.. أوقفت سيارتي حين اقتربت منها.. صعدت بجانبي ووجهها يتهلل فرحا مثلي تماما.. تبادلنا العناق والتحية والسؤال والجواب عن أحوالنا وأبناءنا.. وطالت احاديثنا بشتى المواضيع ثم تذكرنا ايام طفولتنا التي لا تنسى والمواقف المضحكة التي كنا نمر بها وكيف ان جارتنا العجوز التي تسكن وحدها في بيت كبير موحش يحتوي على غرف كثيرة وباحته الوسطية مفتوحة على الفضاء الخارجي.. كنا نزورها دائما ولا ندري ما الذي يشدنا لزيارتها المستمرة ربما تعاطفا مع وحدتها مع انها لم تطلب منا ذلك.. لكنها كانت تحدثنا عن خيانة زوجها الذي لم تنجب منه وكيف كانت تهتم به وترعاه كأنه ابنها ثم غدر بها وتزوج من امرأة أخرى.. تلعنه وتشتمه بأقسى الكلمات ثم تقول بصوت خفيض انه الآن في قبره وبالتأكيد يسمعني..

كانت عجوز شرسة وقاسية وكانت تستهوينا شراستها وقسوتها.. وبفضل معجزة من السماء ان نضع اقدامنا على دكة الباب ونهرب بسرعة البرق ان سمعنا صرختها المدوية في ارجاء المنزل في حالة تبدي انزعاجها منا.. قلوبنا تكاد ان تخرج من صدورنا خوفا وترتجف أبداننا رعبا..

والغريب في الأمر ان نجدها أحيانا أخرى عجوزا وديعة وهادئة ولا ندري انها مثل أبن آوى حين يخطط لأمر لصالحه.. نعم كانت تكلفنا ان نقوم بأعمال شاقة لتنظيف دارها أو غسل ملابسها وأوانيها غير عابئة بطفولتنا وبراءتنا وكنا نساعدها بسخاء مفرط ونقوم بتلك المهمات ونحن نشعر بسعادة غامرة نضحك ونمرح ونغني لها اغنية ست الحبايب.. وهي تبتسم لنا وترفع يديها بدعوات مباركة لنجاحنا في المدرسة.. تسألنا عن أخبار اهلنا ونفرح حين نسمعها تمدح امهاتنا وعوائلنا..

وبعد برهة من الزمن تشعر العجوز بالتعب والنعاس وتبدي لنا رغبتها بالنوم لكننا وبعمرنا الطفولي لا نقدر ذلك ونبقى نلهو ونمرح وضحكاتنا العالية يملأ صداها غرف المنزل.. وهنا تمسك بعصاها وتطردنا شر طردة وتسمعنا كلمات نابية وتلعن جميع أهلنا.. حينها نستخدم أقصى طاقاتنا للهرب.. ولكن بعد مرور عدة أيام ننسى كل شيء ونعيد الكرة ثانية لزيارتها..

ضحكنا انا وصديقتي كثيرا حتى سالت دموعنا فشعرت كأنني طفلة لحد هذه اللحظة ومما اسعدني أكثر ان صديقتي ما زالت تحتفظ بصفة مرحها الدائم وتعليقاتها المثيرة للضحك رغم ما تعانيه من تعب في تربية أولادها الأربعة بعد وفاة زوجها..

كنت اسير وئيدا لإطالة الوقت معها.. توسلتها لضيافتي فبدرت منها ابتسامة مريحة للنفس مع كلمات شكر وامتنان ثم قالت ان أولادها بانتظارها لتحضير وجبة الغداء.. وحين وصلت صديقتي قرب دارها ودعتني بقبلة ونزلت.. تابعت السير الى داري وعند نزولي من السيارة افتقدت محفظتي فلم أجدها بحقيبتي ولا بالسيارة.. بحثت عنها وعدت للسيارة مجددا فلم أجدها.. رانت على روحي كآبة موجعة !! فتح أولادي الباب ثم تسمروا بمكانهم فهم يقرأون ملامحي جيدا

يا الهي.. لا أحد صعد معي سوى صديقتي نجاة.. أيعقل هذا.. لا والف لا انها فكرة مرفوضة ومستحيلة اذ اني أعرف اخلاقها جيدا.. أذن يتوجب البحث مجددا في السيارة وفي الحقيبة وافراغ كل محتوياتهما واحدة بعد الأخرى.. وبعد ان تعبت تماما اتكأت على حائط بجانب باب داري.. وأنا أضرب كفا بكف ولا اعرف كيف اتصرف تاركة باب السيارة الامامي مفتوحا.. حاولت وبشتى الطرق ان استرجع جميع خطواتي من لحظة استلام راتبي وحتى صعودي الى السيارة وكذلك حاولت ان أتذكر تحركات صديقتي هي الاخرى ثم غاصت روحي ندما.. وتعوذت وأستغفرت ربي ( ان بعض الظن أثم ).. لم يبق أمامي سوى دعاء الله ان يخرجني من هذا المأزق..

وفي تلك اللحظة سمعت صراخ ولدي منبها اياي لما فعله اخوه الأصغر منه.. ها هو طفلي الصغير ينثر الدنانير فوق الارض وهو يقول هذه فلوسي ولا اسمح لاحد ان يأخذ شيئا منها.. عندها تنفست نفسا عميقا وانتابني فرح غامر ثم شرعت بالتقاطها واحدة بعد الاخرى.. وسألته اين وجدتها ايها اللعين.. ؟؟ وكيف صعدت للسيارة دون ان اراك.. !!.. فأجابني بهدوء وبصوت خفيض.. هناك.. واشار بيده الصغيرة على مخبأ بين الكرسي وحافظة السيارة..

فشكرت الله كثيرا.. ليس لأني وجدت راتبي.. ولكن الحقيقة اني وجدت صديقتي..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

رفع الطبيب صوته ناصحا:

- كم مرة أخبرتك سيدتي ان الانفعال يضرك، عليك ان تكوني هادئة في تقبل الأمور.

- فلت مرارا انك يجب ان تطيعيني، فانا رب الأسرة وأنت عاجزة عن القيام بأي شيء.

هي في صراع بين ما تتطلبه الصحة من إتباع تعليمات الطبيب وان تحافظ على بناء الأسرة التي أخذت تنبيء بالانهيار

- خذي الأمر ببساطة واخرجي وتمشي وتمتعي بدفء الشمس والهواء النقي تنفسي بعمق، ولا تدعي المتاعب ان تهز كيانك.

- حين أقول شيئا عليك السمع والطاعة صحيح انا اعمى لكني اشد بصيرة منك.

تستحي ان تحدث أحدا بمتاعبها، مضى العمر سريعا ولم تر طعم الراحة، كل وقته صراخ وعويل وارتفاع بالصوت يسبب لها التوتر وانعدام الرؤية وعدم القدرة على التحدث بشيء مما يرعبها ويقض مضجعها، لم كل هذا؟ وماذا جنت ؟حتى تعاقب بهذا العقاب الذي لا ينتهي مهما بلغت من العمر، دائما هي الفعالة والمبادرة،قامت بنجدته حين سقط أرضا وسارت به نحو الطبيب الذي فحصه واخبرها انه بحاجة الى عملية فهل بامكانها أن تجريها في مستشفى حكومي أم تبقى هنا حيث المستشفى الأهلي والرعاية الضرورية، تناست ما بها من متاعب صحية واسرعت لنجدته كما تتطلب عشرة العمر.

- لم تفعلي شيئا من اجلي ولم تسرعي، كما تهرعين لآمر عزيز عليك، وها انا اعمي بسبب تقصيرك.

قالت جارتها:

- لولاك لفقد عمره ولكنك عجلت في الذهاب به الى الطبيب ففقد عينيه وكان قبل ذلك قصير النظر يشكو من أمراض عديدة مزمنة،ولا يرى بوضوح كما ترين انت.

- ماذدا يتعبك سيدتي ؟أجدك لا تتقدمين، هل أنت مواظبة على اخذ العلاج ؟

- علاجي يتطلب نقودا كثيرة وأنت بخلت بها علي. ماذا تنقصين ان صرفت على علاجي من راتبك، فهل تقولين انك تصرفينى على الايجار والطعام، اضافة الى ما تقومين به، ام انك ترين اني لا أستحق ؟

كانت مدينة لأشخاص عديدين، للقيام بالعملية وإجراء العلاج، واثمان العناية المركزة وبقيت تدفعين لمن وقف بجانبك واستلفت منه النقود، كل شهر تدفعين فسطا من راتبك، وهو يبالغ في لومك وتقريعك، أنت حريصة على صحتك كما تحرصين على صحة من يرافقك في الحياة لكنه لا يرضى بما قدمت له.

- عليك ان تطيعيني فانا اعرف بمتاعب الطرق وتعرجاتها، وانت امرأة بلهاء لا تدري ما الذي يسيء اليها وما ينفعها؟

حرصه على مصاحبتها أينما تذهب اثأر استغراب الأصدقاء والمعارف، فهو الأعمى يذهب معها الى اي مكان تريد وعليها ان تجلسه في مكان يريحه، ويجلس مع الصديقات ويسمع أحاديثهن وهذا سبب إحراجا لها وللصديقات.

- ما الذي يتعبك سيدتي؟ أحسن الدواء هذا الذي وصفته لك. والدواء لا يمكن ان يشفي الا اذا أراد المريض الشفاء.

- يجب ان تقوذيني حين اسير معك فانا أرى ببصيرتي وأنت البليدة لا يمكنك ان تري.

تنفسي بعمق سيدتي المتاعب لن تكون قادرة على هزيمتك،الا ان رغب بالانهزام. وسوق ترين الهموم وقد انجلت والفجر آت لا محالة.

***

صبيحة شبر

15 شباط 2023

قبل هطول مطر يناير

كانوا يمدحون الظلال

اخذتهم خطاهم إلى مدن الثلج

والرماد

ليس في دفاترهم حكايا الرحيل المباغت

إلى الملكوت

اصواتهم تجاوزت الشرفات

قبل مجيء الغروب، يأتي الغرباء

ذاهلين تراهم عيون العسس

حالمين بالافق والتلال البعيدة

كانها منارة امراء الحرب قبل ضياع

الفريسة

هنا وصايا الولد العنيد تكتبها سواعد

فتيان الرصيف

لم نر في وجوه العابرين

دهشة الأجداد حين غابت عنهم حكايا

الولد الأسير

كثير من نبيذ الشرق على طاولة الذكرى

قليل من بياض الروح حذو النهر المتاخم

للحنين

*

قيل لاولاد الروابي انهم جاؤوا من ضفاف

المدى

ليس لهم في المدينة ذاكرة وأحفاد

لا يخافون من الأنواء

لا يهابون الضجيج الطالع من افواه

السفهاء

لا مكان لهم في مشهد الغيم المتناثر

في الزوايا

ربما خذلتهم الأجساد

و تبعثرت ألأوراق

بامكان القوافل الآتية من بعيد

أن تحفر في دهاليز الزمان

للمدى ذاكرة وانوار

للصدى إنفتاح المسافات على بهاء

الصياح

للريح الآتية من جنوب الأقاليم

ولد جسور وصبايا ذاهلات

هنا حبري وغضبي وذاكرتي ودعاء الأمهات

إحداهن إسمها آمنة

كانت تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي

ولا تلتفت إلى الوراء

حبرك محلق في سماء الينابيع

أكتب أيها الآتي من الزمن البعيد

ولا تخف من سفهاء المرحلة

في البدء كانت الكلمة ونوارة الروح

ربما نسي الأحفاد ذاكرة الأجداد

و صار المكان القصي ملاذا للعابرين

هنا قريباً من الصدى ينام الفتى

بلا حقيبة باذخة

ولا مدد يأتي من الأنصار

لا خوف في الجسد النحيل

لا افق تراه العيون

لا أمل في القادمين من الأنفاق

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

يحملون على الأكتاف بهاء اللغة

المشتهاة

هنا حبري ودمع الرجل الشريد

لم نكن وحدنا في لهيب العاصفة

كانت معنا الرياح اللواقح

ذاكر الأيام

إنفتاح الكلام على ورقات الحنين

إخضرار الشجر الحزين

قبل هبوب العاصفة

رحيل الخطى إلى الملكوت

*

للجسد الغارق في المتاهة

آهات وصيحات الآتين من الأقاصي

قبل مرور الشاحنات تباغتني امراة

النور بالسؤال اليتيم:

كيف صار المشهد قريباً من الغيم

و البلاد صارت سرابا....؟!

ستبقى أصوات الرعاة ملاذا للعابرين

هنا سرب من حمام الشرق

يعبر الأقاليم

على الأجنحة ذاكرة الفيافي

وإرتمام الجسد في النهر المتاخم

للرخام القديم

***

لبشير عبيد - تونس

28 فيفري / فبراير 2023

 

في عينيك

اكتشفت مجدي

حلما بلوري اللون

فقلت للحياة:

السُّؤدد في مقلتيها

امتداد للحقيقة

الخالصة...

*

يا روعة التوحد

في رَشْف الكأس

المُعتقة...

يا صحوة القلب

في رسم الخطى

الشّاردة..

*

أَعْبرُ الى زمنك

الوردي

فأقطف ثمار

حلمي اللذيذ

كًمّثرى

وشطائر موز

أحتمي باليقين

وخلاصة الحقيقة

واِنبلاج الفجر.

أُطارد غيمة

مبتسمة ..

أعانق نجمة

خضراء

أرتشف فنجانا

من شفق

وألملم على سبابتي

خيوطا من نور

أمد شراع مركبي

وأبحر في محيط

الوهج....

*

أفتح شرفات

تطل على حقول

الوجد

وانساب

كهبة نسيم في مجرى

الورد..

اعلن للفراش الهائم

بدء موسم الرحيق

ولقُبرات الميلاد الابيض

موعد السّفر

الى جزر العُنفوان..

*

وكما حَدث وقيل

في سفر الكمون

أحتفي بقطرات

النَّدى

وعناقيد السنا...

وأدون على رقّ

الاِنشطار

أجزاء وميض

لا ابعاد له

***

محمد محضار

2009

 

في قيلولة الشفق

ارى شعلة الحرائق

تمتد نيرانها على مدى النظر

فتحرك الذكريات البعيدة

لتطفو على بحر آلامي

انه الحلم القديم الجديد

يتسلق كالشبح اكتافي

أتأمل نفسي في وحشة الطبيعة

قدمايَّ تثبتان في مكانهما كالمسمار

صوت يتناهى من مكان ما

حسبت من يناديني باسمي

صراخ ينبثق من عمق التراب جروح

تعبنا من ظلم الزمان

ومن اهانات لدمائنا النازفة

وتضحياتنا من أجل الحرية

الى متى يبقى الوطن مهزوماً

والشعب تحت السياط مهاناً

وقفت مشدوهاً من هول الخجل

أصابني البكم

لا املك تبريراً في الرد على تضحياتكم

سوى انها ذهبت هباءً منثورا

وشقاء لنا نحن الأموات الأحياء

الضمير حذفت من قواعدنا اللغوية

اليوم احتل المال منصة الأخلاق

يتهافت الجميع لا لبناء الوطن

فأملاء الجيوب على حساب الشرف

غدا ثقافة اللصوص منهجاً في عالم السياسة

***

كفاح الزهاوي

 

في مدينتي فاجعة

صوتي مخنوق

هنا في الأبعاد،

صوتي شبيه

بتلك الأصوات الكتيمة

تحتَ الرّكام والأنقاض.

*

دقيقة واحدة

من فعل الطبيعة،

دقيقة واحدة

ومصير أليم.

*

قولي لي

أيتها المدينة

هل ما أراه حقيقة؟

أجل يا أختاه

إنها حقيقة مُرّة،

قولي لي

إني أعيد النظر

ولا أصدّق،

نعم  في مدينتي فاجعة!!

في مدينتي

صَرخاتٌ، ورُعبٌ، وكآبة ْ،

ألم، وأملْ!!

**

صوتي مخنوق

وأنا عاجز

حتى عن الصراخ،

الحزن في مدينتي

في كل الأنحاء:

في البيوتِ

في المنازل ِ

في الشوارعْ.

**

لماذا لا يلعَبُ الأطفالُ

في الساحات؟

لماذا لا تفتحُ النوافِذ ُ

كي تعانق الشمسَ؟

يؤلمني هذا الصّمت!

يؤلمني هذا القبح!

*

أفتحُ هذي الشاشة الصغيرة

أسمعُ أصوات رجال الإنقاذ

تتلوها صرخات الأقرباء ....

نظرات نحو الحطام،

نظرات نحو البيوتِ المُهدمة،

وفي العمق ِ أحياء

بالعمق ِ أحياء.

*

إنه بؤسٌ

لم نرَ مثله من قبل

سَبَبهُ العَجزُ،

إنكَ عاجزٌ أن تفعل شيئاً

تفتدي به من تحب

تفتدي به من هم هناك!!

*

أخبار مُقلِقة

وهذي الشاشة تجرحُ الفؤادَ!

بلدي هناك يكافح،

بلدي يكافحُ بؤساً لا مثيلَ لهْ،

بلدي، الذي لم ألمسه في البعد

لكنه

بين أضلعي يغلي

منتظرا فزعة الشجعان.

*

كلمة ٌ

تتلوها كلمة ٌ،

كلمات فظيعة

تصيبني بالألم والأسى .

*

هناك

خطوات

خطوات

خطوات ...

خطواتُ رجال الإنقاذ

شبيهة بخطى الأنبياء،

الرسلُ

والأنبياء

يأتون لتأدية الرّسالة،

ها هم رجالُ الإنقاذ

جاؤوا

تحدوهمُ النخوة والمَحبّة.

*

ماذا نقول لهذي الوجوه الحَزينة

على أطراف ِ الهاوية؟

ماذا نقول لهذي الأصوات ِ المخنوقة؟

ماذا نقول للأطفال؟

ماذا نقول للنساء؟

ماذا نقول للعذارى

في العراء؟

نعم إنها الفاجعةّ!!!

*

كثيرون في سباتٍ عميق،

كثيرون رحلتْ أرواحُهم إلى جوار الخالق،

صعبٌ وقاس ٍ

صَمتُ الإحتضار،

ظلامٌ في القلبِ

والدنيا لا تزال صَباحْ،

إنه ظلامُ النهار.

*

أصواتُ الأحياء

تحت الأنقاض،

أصواتهم تناديني

تمزق الصّمتَ في المكان،

وتدعوني،

تدعو الجميع،

كأني بها تقول لنا:

هَيّا إلى العَمَل ِ....

*

إنه بؤسٌ أوجدته الطبيعة:

الزلزالُ

والثلوجُ

والرّياحُ العاتية

والبردُ القارس!

*

حصارُ أمريكا

"قانون قيصر"

لا يعرفان مَعنى الرّحمَة،

أمريكا لا يعنيها أبداً

تعب الأجسادِ،

التي تهتزّ وترتجفُ

تحتَ الأنقاض.

*

نعم

صوتي مَخنوقٌ

هنا في الأبعادْ .

***

بقلم إسماعيل مكارم

روسيا الإتحادية

إلى نور

لا تربي الحلم في هذي البلادْ

ولْتُرَبّي غضبكْ

واحرسه بالنار التي أضرمها القهرُ

واسْقه إن لزمَ الأمرُ دمَكْ

لا تربي الحلمَ إلّا إن استوى العابدُ والمعبودُ

لا فقير ولا أجير ولا أسيرَ.. لا أميرَ ولا ملكْ

*

لا تربّي الحلم في هذي البلادْ

سوف يسرقه الفسادْ

ويخونك ويُقالُ إنّ الله في عليائه قد أهملكْ

*

لا تربّي الحلمَ دون ثورةٍ

لا تربّي الحلمَ إلا ثورةً

تتفقّد الأسواقَ وشوارع الفقراءِ

تعيش بين النّاس تحميهم

تكبر فوق أيديهم

إن الحياةَ أملٌ دائمٌ مشتركْ

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

 

حرية لها قضبان

لما ظلم الحكام والرعاة تذئبَ الناس، فانقلبَ الميزانُ، وباتت القضبان رمزا للحرّيّة، والظلام رمزا للنور، وطُوي الحق بلفائف من الباطل، وعلا صوت عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، وزئير الأسود وزمجرة الضباع، حينئذ لم يكن بوسع الملائكة سوى الإعلان عن قيام دول الغابات.

***

لم تطق كلماته، فقد كانت تترامى على سمعها كالصاعقة، وتنزل على جسدها كسياط من لهيب بركان جائع، ففرت منه ركضا -لا تلوي على شيء- إلى حيث لا تدري، شعرت بقدميها تركضان على ذوائب سيوف باترة، وأن الليل أرخى سدوله ليعلن عن نهاية الأمل الوحيد الذي كانت تبتغيه ليبدلها عن سنوات الملجأ المريرة.

ورغم أنها صدقته القول -حيث إنها تعلم أن أبلغ الصدق أن يكون من ضفائر دموع ساخنة مجدولة- داس بكلماته على وجيعتها.

لم يفارقها ما دار بينها وبينه وهي تركض ركض الخائفين.

واستعادت في مخيلتها الحوار: «نشأتُ في الملجأ»، فدهش دهشة رشح من بين ثناياها غضب جارف، واستدار ليتفحصها بنظرة استعلاء وغضب، ثم اتكأ مرة أخرى على السيارة.

شعرت به، لذلك عاجلته رغبة في امتصاص غضبه واستدرار عطفه بقولها: «الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام، وسقفه أغلال في الأعناق، وهواؤه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء، ولم أدر ماذا جنيت، فلم أجد إجابة غير قولي: فكم من زهرة عُوقبتْ لا تدري يوما إثمها!»

استدارت هي الأخرى هذه المرة تحدق به، لتستشرف ما بداخله، فتأكد لها أن الكلمات لم تؤثر فيه، بل ازداد  منه زفير الأعماق ضيقا وغضبا.

فقالت له كلمات أخرى رغبة في تحطيم الصخرة التي تتمركز في صدره وتلين بعد أن اتكأت بظهرها على السيارة مرة أخرى: «وما كتمَ أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله، لماذا رماني أهلي؟»

وأنّت أنين المصاب الجريح، وانهمرت الدموع وجسدها يرتجف وهي تحاول أن تصل إلى الحقيقة بطرح أسئلة أخرى على نفسها: «هل أنا بشرٌ من طينة غير طينة آدم؟ لعلي مررت بمراحل نموي من بداية النطفة حتى إكساء لحمي في رحم شيطان مارد، فطردتُ من أرض البشر لأحيا في عالم الشياطين، ويكأنّ نفسي عفّ عنها كل مَن في الأرض وكل مَن في السماء؟»

سكت برهة، ثم التفتت إليه مرة أخرى فوجدت أوداجه تنتفخ، مدفوعة من طوفان غضب جارف فسألته: «كل مَن في الملجأ يشهد لي بخلقي الرفيع وجمالي المنقطع النظير، هذا أنا، فما قولك؟»

لم يجبها، وظل متصلبا غاضبا، بيد أن الدهشة زالت عنه، هو يحاول أن يستجمع قواه محدثا نفسه: كيف أواجه هذه الحثالة بنت الزناة.

شعرت ما يدور برأسه، فتماسكتْ، تعرت عندئذٍ من ثياب الألم واليأس وارتدت ثوب العزيمة والأمل، فقالت: «لكني كنتُ أبث العزيمة في نفسي خوفا من أن يقتلني اليأس، فكثير ما كنتُ أقول: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، وكنتُ أبحث عن الأمل في ثنايا فاه الشمس المشرقة، وفي حياة الأرض المهتزة المربوّة من سقيا السماء بعد أن كان قد مزق أحشاءها الجفاف.»

دارت عيناها عليه وهي تنكر موقفه في نفسها، لذلك قالت وهي تهزه من ساعديه: «لابد أن نحيا بالأمل، ليس كل الناس رؤوس شياطين، وليس كل من يعوي من الطامعين، وليس كل من يزأر من المتوحشين، وأنت أكبر دليل.»

لم يعلق أيضا.

عادت ووقفت بجانبه يائسة، واتكأت على سيارته وقالت بصوت منخفض: «لذلك خرجت من الملجأ لأكسر رُغام اليأس والتشاؤم وأُعلو راية الأمل والتفاؤل، ووجدتها فيكَ، فما قولك؟»

سكتت برهة ثم صرخت بترديد نفس السؤال.

لكن لا مجيب.

فاستدارت وهزته مرة أخرى من ساعديه ورددت على مسامعه نفس السؤال.

ظل ساكنا أيضا، وشعرت حينها بأن غضبه ينفجر من معين الغيظ والحنق عليها، وقد صدقت مشاعرها بالفعل، فقد تبدل حاله تماما بالفعل، وخرج عن سكونه وتحول إلى بركان ثائر، رفع رأسه مستنكفاً، فاغرا فاه كي يتمكن من قذف كم هائل من كلمات لاذعة وارتفع صوت كالخوار: «أنا أتزوجكِ يا بنت الملاجئ، إني من أصول راسخات كالجبال وأنتِ من أصول خيوط عنكبوت هوت من قديم بزفرة نملة ضالة، اغربي عن وجهي يا بنت الزواني.»

وصفعها على وجهها، صفعة باليمين والأخرى باليسرى.

***

أسرعت في عدوها حتى أعياها الركض فهدأت من خطاها وقالت لنفسها مستعبرة: «مجتمع كالتماثيل الصماء، يسبحون بحمد التقاليد العمياء، تقاليد توارثها الأبناء عن الأجداد، آفة القرن وكل القرون، تقاليد جسدوها تماثيل في نفوسهم ففريق عبدوها طواعية وفريق ذلت لها أعناقهم فعبدوها كرها، وكنت أنا أحد قرابين آلهتهم، فيا ويل أمثالي من هؤلاء المكفوفيّ الأبصار، يا ويلي، وويل كل الضعفاء.»

وظلت تلتفت يمينا ويسارا بقلب فارغ ووجه شاحب تتأمل في كل من حولها وتقول: «مجتمع يحب الجمال وإنْ كان زائفًا، والمظاهر ولو كانتْ كاذبة، والمناصب ولو كانتْ طاغية، والعائلات ولو كانوا جبابرة، والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية.»

وبدأ يبلغ منها التعب حتى توقفت تماما عن الركض وسارت تترنح وهي تسير، قالت: «التهمتني تماثيلهم، وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا، أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.»

وعادت تجهش بالبكاء وهي تتذكر سبب جراحها الذي انفجر منذ لحظات،  تذكرت ما قال مدير الملجأ لها: «وجدكِ رجل شحّاذ على باب مسجد تصرخين من الجوع والعطش، فجاءني وقال: «خذْ هذا المولود يا "بيه"، ارعه واعتني به، فإني رجلٌ لا أكاد أحمل نفسي، فإني أجوع أكثر مما أشبع، وأتعرّى أكثر مما أكتسي، ولا أبيتُ إلا على جوانب الطُرقات، وها أنتَ ترى عاهتي، وولّى مستاء وقد أجهش بالبكاء.»

لم تدر بنفسها بضع لحظات حيث أخذتها غفوة السكارى، رأت أمامها الزهور تعوي عواء الذئاب، وتسير نحوها وهي تزأر زئير الأسود الجائعة، فانتبهت لها فنهضت وعاودت الفرار وقد عاد إليها وعيها وقالت: «ماذا كنتُ أرى خلفي رباه.»

وواصلت السير وهي تتأمل بحزن بالغ وتقول: «ما أراه أمامي ما هم إلا أشباح الإنسانيّة، وظلام النفوس الساديّة، وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة، وحضارات من خيوط العنكبوت تسكن الحدائق قبل اليباب، وسمعتُ أقبح عواء، وفزعتُ من زمرة أسود ملكية، وتصافّتْ الأفاعي لتفحّ في فمي سُمّاً ناقعاً.»

***

وفجأة رأت أمامها خمسة من رجال يدلعون ألسنتهم على جسور شفاههم، ويتحسسون قضبانهم وينظرون إليها نظرات شغف، وبعضهم كان يعضّ بأسنانه العلوية على شفته السفلى، وسمعت أحدهم يقول: «أليست هذه فتاة الملجأ؟»

أجابه أحدهم: «نعم هي بجسدها وجمالها.»

قالوا: «إذن، فجسدها مباح.»

وهجموا عليها ينهشون جسدها نهشا، كأنهم مجموعة من الأسود تأكل فريستها بعد أن نجحت في الإيقاع بها.

واغتصبوها واحدا واحدا ولم يعبأوا بالمارة، حيث إن نظرتهم لها كنظرتهم هم لها، لحم رخيص مستباح.

ولما انتهوا منها بعد التناوب واحد بعد الآخر ضربوها وهم يشيرون لها ناحية الملجأ ويقولون: «امضي الآن يا بنت الملاجئ.»

***

وسارت تترنح، حتى إنها لم تستطع السير إلا اتكاءً على جدران المباني، تستغيث بالملجأ، فلما كانت على مقربة منه سقطت من الإعياء، حاولت النهوض فلم تستطع، فزحفت، زحفت بقوة رغبة في النجاة، وما بين فخذيها يؤلمها، ودم فرجها قد لطخ حوضها، نظرتْ إليه، وقالت بأسى بالغ: «أَظْمَؤُوا شهواتهم على انفجار خاتمها.»

***

قابلها المدير فزعاً وقال: «ماذا حدث يا روضة؟ وما هذا الدم الذي يلطخ ثوبك؟ ومَن مزق ثوبك؟»

قد بلغ بها الإعياء إلى حد جفّ فيه حلقها، فرفعت يدها اليمنى وهي تلف أصابعها نحو نافذة حجرتها كأنها تلوذ به وتقول بشق الأنفس: «احملني إلى الداخل.»

فلما حملها وانتهى بها إلى سريرها جلس بجانبها بوجه فزع، وكرر سؤاله السابق.

أجابته: «الآن علمتُ لِمَ رماني أهلي، الآن آمنت أنّ الفقراء يقتتاون رفات العظام، وأن الضعفاء يستقوون من الوهم والسراب، وأن الحق توارى خلف السحاب، وأن العدل هو عدل أصحاب القوة والسلطان، والباطل هم كل أصحاب الفقر والضعف.»

قال: «قلتُ لكِ ذلك من قبل ولم تصدقيني.»

وظلّ ينظر إليها وكلتا عينيه تذرفان الدمع ذرفا، أما هي فقد كانت تكلم نفسها وهي تتحسس بطنها: «تُرى، كم حملت الأرض من أجنة باسم روضة، أو روضتين أو ثلاث، أو عددا لا يحصى منها؟ لعلني كنتُ بذرة تبرعمت من فرج أمي نتيجة ذئاب مثل الذين اغتصبوني، آه من شوادن الغزلان التي خرجت من صلب ظهور الذئاب.»

نظرتْ إليه بوحه شحب شحوبا غريبا، والدمع قد لطخ وجهها البريء، وقالت: «هذا زمان انقلبت فيه الموازين، فباتت الحرية خلف القضبان، والحبس في الفضاء الفسيح، والآن باطن الأرض أولى بي من ظهرها.»

قالتها وسكنتْ إلى الأبد.

***

قصة قصيرة

إبراهيم أمين مؤمن - مصر

أما بعد

مازلت أشتاقك

ولاشيء يهون علي

هي نار أشعلها

تأكل نفسها

وأجد كل شيء

باقياً تحتها

كفينيق

ينهض بكل عنفوان

جناحاه

يحددان المسافة

ما بين

قلبي وقلبك

يظلانها

كغيمة

لأبقى دائماً في انتظار البشارة

ستمطر حباً ولو بعد حين

وإني أحبك

تعرف أكثر مني

وتزدادُ خوفاً

كلما ابتعدت أو اقتربت

وسيان حبك لي والعاصفة

تأتي جسوراً

تحتل كل المواقع

تغير المعالم

وتمضي

أسميك الرجل الخراب

بلا اي سحنة

حضورك محنة

غيابك محنة

أعدو على ممرات الوجع

أعد الجراح

لنصل جديد

لنص مليء

بشؤون صغيرة

قتلها التجاهل

يؤرق عاشقين

في طور البراءة

على هيئة خوف

يقض المضاجع

أسميك الرجل الخراب

لك ألف ظل وظل

ووجهك الذي أنكرته المرايا

تبخر

كفزع يجول في أنحاء المدينة

حيناً كعاصفة

وآخرَ

مثل جوقة موت

تنهض من توابيت قديمة

وأنا وحدي أغني

سأذهب يوماً إلى حتفي

وحيدة

بلا شؤون صغيرة*

لا تثير انتباهك

ولكنها الآن كل حياتي ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

..............

* شؤون صغيرة عنوان قصيدة للشاعر نزار قباني

 

نوال*:

فيما أنت قلقاً

تنتظر ساعة عودتي

وعيناك ترقبان الباب

مد بصرك سترى هناك

جسدي

مصلوباً على باب

مسجد

ونافورة عطر، أحببته

تفوح تحت رأسي المقطوع

وسحابة حمائم بيضاء

تبسط اجنحتها فوقي

*

وسترى في الأفق البعيد

آلاف السومريين يشقون طريقهم

بين اعواد القصب

ها هم وصلوا الى نينوى

انحنوا على قدمي العاريتين

غسلوهما برحيق القداح

وبمياه الفرات

ترنموا حزانى بمراثي عشتار

كما حزن جلجاميش على

أنكيدو

وحين ذرفوا دموعهم سخية

أرتفعت جثتي فوق المياه

***

* أشواق

هؤلاء القتلة يا أختاه

قذى قبيح في العيون

قالوا لي، نمن عليك بعفو

وبعمر جديد..

حين يصير حبر الاقلام دما عبيطا

وأوراق الكتب المدرسية اكفانا

بيضا

وتلاميذ الفصل فرقة إعدام

فتذكرت حين انقلب الماء فرحا

فأخترت الفرح

بحياة آخرى

*

يا اختاه

ما صرخاتهم "الله اكبر"

إلا عواء ذئاب جائعة،

بليل بهيم

كجباههم السود

*

يوماً ما، ربما كان صدفة

إلتقينا انت وانا

عند منعطف شارع

وكنا نحث الخطى

لمكان العمل:

أنت لمستشفاك

وأنا الى مدرستي

وربما تبادلنا تحية الصباح

ولكن أكنت تعلمين

أننا سنلتقي مرة أخرى

على موعد هذه المرة

في طريق الشهادة!

***

صالح البياتي – استراليا

........................

* الشهيدة نوال بولص، الطبيبة في المستشفى الأهلي في الموصل، قطعوا رأسها، ومثلوا بجسدها، وعلقوها من شعرها على باب مسجد النبي شيت.

* الشهيدة اشواق ابراهيم النعيمي، كاتبة باحثة في السرد، مشرفة تربوية، اختصاص شؤون ادبية، عضو اتحاد الكتاب والأدباء في العراق، حكم عليها بالأعدام رميا رميا بالرصاص وسط مدينة الموصل ، صباح يوم

الخميس 10/ 12/ 2015، بعد قرار المحكمة الشرعية الداعشية الذي اتهمها بالخيانة، لأنها لم تستجب لأمرهم بتدريس مناهجهم التكفيرية في مدارس المحافظة.

 

في نصوص اليوم