نصوص أدبية

نصوص أدبية

مع تباشير الفجر يتنفس الصبح على صوت ضرب كفوف سعدية وهي تطوع الشنكة (العجينة) وتحولها لقرص مستدير ساخن تملأ رائحته منزلها والمنازل المجاورة لها، ومزيج من روائح الحب ودعوات امها التي كانت تجلي عن روحها الهم والتعب. ومع وجود جاراتها اللواتي ادمنت معهن الحديث والحكايات وهن يتجمعن حول دفء تنورها القابع في احدى زوايا حديقة المنزل. كانت تشعر بالرضا عن نفسها نوعا ما، بالرغم من قسوة الحياة وثقل المسؤولية التي ألقيت على عاتقها خصوصا بعد ان غادرتهم زوجة اخيها المتوفى، وقررت الزواج برجل تقدم لها، وتركت لهم ولدين مازالا بحاجة لمن يرعاهم. فكرت كثيرا بهذا الامر وهي تنظر الى طفلين بحاجه الى رعاية واهتمام وشعور اتجاههما يقول بانها اصبحت بالنسبة لهما الاب والام والعمة.."

تمتلئ الحياة بالمنغصات ولعل الفقر من اهمها ويصبح اشد صعوبة على البعض رغم انه يخلق صلابة للشخص نوعا ما، هكذا كانت تبرر لنفسها واقع الفقر الذي تعيشه. وهي تطبع القبل فوق جبين اختيها الاصغر منها سنا وتعبد لهما طريق الدراسة التي تفانت من اجل يكلل بالنجاح كي لا يصبحن نسخة مكررة منها وتكسوا حياتهن وثيابهن حبات الدقيق. لم ينل التعب وحرارة تنورها من جمال شكلها ووجهها فمازال الخطاب يطرقون بابها، لكن ذلك الجمال مصيره الى الزوال هكذا حدثت نفسها وهي تطوع الشنكة التي ذكرتها بثديها الذي أصبح أكثر طراوة وذبولا منها. وما زاد من قلقها أكثر هو تقدمها بالسن دون أن تشعر في خضم حياتها المثقلة بالمسؤوليات.

في أحد الايام شاءت الصدفة ان تطلب احدى جاراتها يدها للزواج من أخيها الارمل، ابتسمت في سرها وارتشفت كوب الشاي سريعا وغمرتها سعادة كبيرة حاولت ان تخفيها قائلة لها: امهيلني يومين لأفكر، شعرت ان الوقت أصبح مناسبا بعد ان كبر ابناء اخيها واشتد عودهم وتفوقوا في دراستهم، واشتدت سعادتها عندما كانت عندما تسمعهم ينادونها يمه. واختيها اللتين قطعتا شوطا كبيرا في حياتهم الدراسية وأصبحن على مشارف التخرج من كلياتهن، شعرت بانها قد ادت كل ما عليها من التزامات عائلية اتجاههم وعليها الالتفات الان لنفسها فنداء الامومة نداء قاس يداعب خيال أي امرأة، لذا كان عليها ان تخبر والدتها بموضوع الخطيب هذا وتشاركها الراي والقرار فيه، لكنها تفاجأت برد صادم من امها عكس ما كانت تتوقع حين قالت لها: انت كبرى اخواتك وأنت من يقوم على خدمتنا وانا امرأة مسنة، يجب ان تكوني اخر من يفكر بموضوع الزواج هذا، ماذا اصابك اين عقلك؟ هل ترغبين برجل يطفئ النار المتأججة داخلك ويبعدك عنا؟

ارتفع صوتها بوجه امها قائلة: لم يزدني العقل سوى بؤسا، لم يعد أحد بحاجة لي، اود ان اتزوج ويكون لدي طفل كباقي النساء، أتمنى أن تشعري بي وتعامليني بالمثل كما تعاملين اخواتي. على إثر ذلك علا صوت اختيها، اللواتي لم تكن ردة فعلهن اقل من والدتها، رفضن بشدة بل ان احداهن كانت قاسية جدا وقالت: لها بصلافة لم تكن تتوقعها، دعك من هذه الاحلام التي لا تليق بمتصابية عجوز مثلك. وقفت عاجزة مذهولة تشعر بالإحباط والحزن الشديد، تذكرت بقسوة تلك الايام الصعبة التي عاشتها، وهي ترعاهم فهي لم تبخل على اختها بشيء. اصيبت بالحزن وشعرت بانكسار في داخلها، كان الارق رفيقها في تلك الليلة التي مرت طويلة، وشريط الذكريات المليء بالتضحيات يسير امامها يشعرها بالخذلان سبب ردة فعل تجاهها. لم يمر ما حدث عليها بسلام ففي اليوم التالي وعلى حين غفلة شعرت بالدوار، وان نبض قلبها أصبح ضعيفا، وفجأة وهي تقف خلف صفيح تنورها الساخن سقطت على الارض وفقدت وعيها افاقت بعدها لترى انهم قد نقلوها الى المستشفى وأنها محاطة بجمع من الاطباء، يبدو انهم كإنو متأكدين من خلال تحاليل الدم التي اجريت لها، بانها مصابة بمرض السكري المتقدم وسمعت والدتها راي الاطباء بصمت وانهارت في البكاء.

سرعان ما نطفئ بريق عيناها وبدت أكبر من سنها بكثير، وأصبحت تصارع المرض والعنوسة معا وغاب صوت كفوفها ولم يعد للصباحات اي معنى شعرت بأن الحاجة قد انتفت اليها، بعد ان اقعدها المرض وتبوأت مكانها الجديد لتجلس جنب الى جنب مع امها. شعرت وكأنها انضمت لكبار السن وغيرت الحياة مسارها معها. بنت قنطرة الاحلام بينها وبين المستشفى، التي أصبحت شغلها الشاغل حتى حديثها تغير وبات يتمحور حول السكري ومضاعفاته والتي كانت تتداوله مع المريضات ممن يعانين من نفس المرض الذي كشر عن انيابه و بدء ينال منها بشكل تدريجي، بدء بجفاف الجلد ووخز ابر الأنسولين التي تركت اثارها على جلدها الرقيق وبشرتها، تسلل الجفاف بصمت لينال من اسفل قدميها الذي تيبس وزادت التشققات فيه، واظافرها التي بدأت تطول وتتقوس كمخالب قط، رغم حرصها الشديد على الاعتناء بها الا أنها وقعت في غفله بعد ظهور تعفن في اصبع قدمها الكبير، لم تشعر به الابعد ان انتشر الى باقي قدمها الذي اصطبغ فجأة باللون الازرق، اخذتها الحيرة والقلق والتفكير في الذهاب الى وجهتها الوحيدة، وهي المستشفى ودهاليزها التي انتهت بها في صاله العمليات وايدي الممرضات وهن يثبتنها في مكانها وكمامة الاوكسجين التي راحت تسرب المخدر الى باقي جسدها، وصوت يقول لها عدي حتى العشرة ....

***

نضال البدري

 

في تلك الليلة لم يستطِع سليم النوم، فقد داهمته رغبة الكتابة:

لا تسأليني، يا أثيرة، كيف أكتب؛ وهل يُسأَل الزهر كيف يعبق شذاه؟ وهل يُسأَل الطير عن طيرانه؟ إنّه يجد جناحيه يرفرفان بعد أن ينبت لهما ريش. وأنا ألفيتُ نفسي أكتب ذاتَ يومٍ دون أن أعرف السبب.

كنتُ كلّما تحدَّثتُ معكِ، يا أثيرة، تبرعمتْ في روحي رغبةُ الكتابة مثل زهرةٍ ربيعيَّة، وتموسقتْ في مسمعي كلماتٌ لم تُنطَق من قبل، وحلّق في فكري الشوق، مثل سُنونوة مهاجرة في فصلِ الربيع، لعناق القلم. حتّى لو كنتِ صامتةً مطرقةً أثناء لقائنا، كنتِ تفجِّرين فيَّ تلك الرغبة الجامحة في الكتابة مثل ينبوعٍ جبليٍّ. كانت حاجتي إليكِ حاجةَ المزمارِ للهواء، وحاجةَ النغمِ للوتر.

يقولون إنَّ الكتابة كالحبيب المتسلِّط الغيور الذي يدمِّر كلّ مَن سواه وما عداه. ولكنَّ الكتابة عندي وصيفةٌ مسخَّرةٌ لإرادتكِ، وفيَّةٌ لذكراكِ. تأتي بعد ابتسامةٍ منكِ، فتحمل صورتكِ إلى ناظري، وتُجري حروفَ اسمكِ على قلمي. الكتابة منكِ ولأجلكِ، ولم تكُن غريمتكِ أبداً. أستسلم لهاجسِ الكتابة الذي يداهمني وأنا مخدّر معدوم الإرادة كأنَّني أستسلم لهمساتكِ، للمساتكِ، لسحركِ أنتِ. يداهمني هذا الهاجس المستبدُّ كيفما شاء وحيثما شاء؛ طوراً بعد منتصفِ الليل فيسلبني النوم، وطوراً وأنا في رفقة الآخرين فيحرمني صحبتهم. إنَّه كالقدر لا يُرَدُّ، وكالطُّوفان لا يقف في وجهه سدُّ.

لم أَكُن أنشر ما كنتُ أكتب. لا جدوى من ذلك. في وطني كنتُ أكتب في فتوتي لكي يقرأني أهلي وأصدقائي ومعارفي، فأشعر بالفخر. أَمّا في الغربة، فأَنا أَلجأُ إلى الكتابة عندما يُمسي عالمي حزيناً يستحيل العيش فيه. فأكتب لكي أعيد تشكيل العالم حولي بقوَّة القلم. يُسكرني حفيفُ الحرف فألوذ بالخيال وأحتفي بحياةٍ لا علاقةَ لها بالواقع. قلمي كان معولي أقطع به الأسوار، أهدّها، أهدمها، لأنطلق في الفضاء الرحب. ولكن لا داعي لنشر ما أكتب. لماذا أنشر في الغربة؟ لا أستطيع أن أُطلعك على بَوحي. ولا يعرفني أحد من القراء في بلدكِ. فأنا مجرَّد غريبٍ عابر أو ضيفٍ مسافر. وما يُكتَب في قطرٍ عربيٍّ لا يصل إلى الأقطار الأخرى إلا لماماً، تصدُّه الحدود والقيود مثل سلعةٍ مهرّبة، مثل بضاعةٍ محرّمة، مثل عارِ ينبغي طمسه.

بعدما غادرتُ وطني، لم أكُن أكتب للنشر، بل لكي أكسر الطوق من حولي، وأخرج من عزلتي، وأتواصل مع الذين بعدوا عني أو بعدتُ عنهم، ولكنَّهم مكثوا في وريدي. أكتب في محاولةٍ يائسةٍ لأعيد بكلماتي الواهية عالماً خلّفته ورائي؛ أكتب لعلَّني بحروفي العليلة أستطيع أن أعيد بناء وطنٍ فقدتُه بحماقة وجُبن؛ أكتب كي أقترب من نفسي، أغوص في أعماقها، أُحسُّ بوجودي، أَتنفَّس نسيم الأفكار حولي؛ أكتب كيما أبني بحروفي الرهيفة خميلةً وارفةً احتمي بظلالها من هجير الغربة وعَسْف الترحال الدائم... ليس المهم أن يقرأني الآخرون، فمتعتي الحقيقيَّة تكمن في فعل الكتابة ذاته. ففي الكتابة تكتسب الأشياءُ حولي بُعداً رابعاً، وينضاف إلى كياني حسٌّ سادسٌ، فأصوغ نفسي من جديد، وأشكِّل عيني ولساني ومن خلالهما أشكِّل العالَم من حولي؛ أُبدع عالماً جديداً ألوذ به، أداري فيه خيبتي، وأعوّض عن عجزي تجاهكِ. في الكتابة أتخلَّص من سجني ومنفاي، فأستعيد حرِّيَّتي وأمارس إنسانيَّتي. ولكنَّ كثيراً ما يشنقني الحرف وترجمني الكلمات.

تحلّق كلماتي بلا أجنحة في فضاء الحُلم، تخترق غيوم َالأعالي، تستحمُّ في مياه الأمطار قبل أن تولد، تغسل عن ريشها غبار الدلالات البالية، تقترب من النجوم فتتجمل ببريقها، ثمَّ تحطُّ على القمر بكامل زينتها لتغفو على تخومه. ويبقى الأمل يراودني أنَّني بعد رحيلي الوشيك من هذا العالم ستعود كلماتي هابطةً من القمر إليه، نابضةً بالحياة، لتمارس عملية الخلق بعد أن كانت مخلوقة.

يهطلُ الألمُ غزيراً في فيافي القلب، حتّى تفيض به جميع أنحائه، وترتفع درجةُ حرارةِ الضياع في أعماق الروح، فأحاول أن أُسطِّرَ الألمَ على الورق، وأبثَّ الحُمّى بين السطور، في محاولةٍ لإرقاءِ النزيف الداخلي وتخفيض سخونة الأحاسيس. أحفر قبراً لحروفي وكلماتي، ألحدها فيه حتّى يعثر قارئٌ مجهولٌ عليها يوماً ما فيبعثها حيَّةً من مرقدها، وقد تغيَّرتْ ألوانُ سحنتها على شفتَيه، وتبدَّل رنينها على مسمعيه.

عندما كنا نلتقي في اليوم التالي، كنت تنظرين إلى عينَيَّ وتقولين: " دكتور سليم، لا شك في أنَّك أمضيتَ سهرةً مثيرة، فآثارها في عينَيكَ المُحمرَّتَين." فأعتصم بالصمت. ثمَّ يثير صمتي شكوككِ فتسألين: " مع مَن أمضيتَ السهرة؟" فأجيب وابتسامةٌ ساخرةٌ على شفتَيّ: " معك، يا أثيرة.". ويظهر شبحُ ابتسامةٍ على شفتَيكِ، ابتسامة يجهضها الحزن في عينيكِ، والقنوط في خديك. كنتِ لا تجودين بأكثر من ابتسامة في أحسن الأحوال. كنتِ تتجنبين الضحك، تهابينه، تمجينه، لا أدري، ولكن لم أَحظَ يوماً منكِ برنينِ ضحكةٍ تنطلق من رئتَين واسعتَين أو من حنجرةٍ صافية، كأنَّكِ والضحك في خصام. ولكن لماذا ألومك على ذلك في حين أنا نفسي لم أَكُن قادراً على الضحك منذ أن فارقتُ بلدي، وأمسيتُ أعجب ممَّن يستطيع أن يضحك، وأتساءَل في نفسي: " يا تُرى ما الذي أضحكه؟". لم أَنتبه إلى أنّني كنت عاجزاً عن قول شيءٍ مضحكٍ لكِ، وعاجزاً عن الضحك لو سمعتُ ما يُضحِك. فقد خبرت الضحك عندما كنت صغيراً. كنا نحن الأطفال في القرية نضحك من أعماقنا لأتفه الأسباب، نضحك بصوتٍ عالٍ يشيع الفرحة في الفضاء حولنا، وتزدهي الألوان، وتغرِّد العصافير.*

***

الدكتور علي القاسمي

...........................

* الفصلة د89 من الرواية:

- علي القاسمي. مرافئ الحب السبعة، ط4 (الرباط/ الدار البيضاء: دار الأمان/ دار الثقافة، 1444/2023) بمناسبة صدور طبعة جديدة منها. والرواية متوافرة في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.

في يومٍ

من أيّامِ طفولتهِ

كانَ يقلِّبُ أوراقاً منسيّةْ

مُلِئَتْ بحروفٍ يَجْهَلُها

من لغةٍ لا يدري

هَلْ كانتْ ميتةً أم حيَّةْ

قال سأكْبَرْ،

أتعلّمُ سبعَ لغاتٍ أو أكثرْ

وسأبني بُرجاً يُشْبِهُ بُرجَ مدينةِ بابلْ

سأجيءُ بما لَمْ يأتِ بِهِ أحدٌ قبلي

مرّتْ تعدو السّنواتُ،

وصارَ كبيراً

شنّوا حرباً أحرقتِ الأخضرَ واليابسْ

عادتْ قطعاتُ الجيشِ،

وعافتهُ أسيراً

يستجدي النورَ بظلمةِ وقتٍ دامسْ

-2-

في يومٍ من أيّامِ كهولتهِ

كانَ وحيداً يستعرضُ

ما مرّ وراحْ

من سنواتٍ حبلى

بالأفراح وبالأتراحْ

يتمنّى أن يرجعَ طفلاً

أن لا يبقى كهلاْ

أنْ تُنْقذَهُ الأيّامْ

من كابوسٍ يطردُ ما يملكُ مِنْ أحلامْ

يندسُّ بغَفْوَتِهِ حينَ ينامْ

يتركُهُ يبكي

يتبعثرُ بينَ يقينٍ أو شكِّ

وتهبُّ رياحْ

لتخلّفَهُ شبحاً منسياً بينَ رُكامِ الأشباحْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

 

عَاودتْني رغبة آلْغوص في أعماق مياه الأُقيانوس، فحركت بقدمي زعانف كبيرة وثقيلة، دفعتني بيُسر وبهدوء في عمق الماء، مُستنشقا الأُكسجين المعبأ في قارورة، تشدها إلى ظهري أحزمة مطاطية، فرأيت في الأعماق وِهادا وأغــــوارا، وغابات من النباتات البحرية، وكائنات غريبة الشكل؛ فجأة برز أمامي من بين الصخور سرطان؛ يكبر عما ألفته عيوننا من سراطانات الشواطيء الصخرية، يُثير الرهبة بنواتِئ درعه، وبمخلبه الحاد الذي يُشهره كلما شعر بخطر يتهدده، ورغم ذلك تعقبته، مُتأملا حركاته الفريدة في محاذاته للصخور والأجمات البحرية، وحاولت الإمساك به؛ فآختفى في سحابة رملية يُثيرها بدبيبه، فلم أخل سبيله؛ بل جددت في البحث عنه، فرأيت في لحظة ما ما يصطبغ بلون الصخر يتحرك؛ فلم يكن شيئا آخر سوى السرطان، سبح بعد برهة بعيدا يضرب في الماء بأطرافه المرنة، فآقتفيت أثره في تحد وعناد، ورأيت أحيانا أنه يتقهقر فيلوذ بحفرة، فيبقى لصقها؛ فآنتشله بقوة، لم يُبد أي مقاومة؛ فآستغربت لأمره، وتأملته عن كثب، فلم أدرك طبيعته، لم يكن سرطانا حيا، هو شيء شبيه به، فآجتاحتني أفكار وخيالات كثيرة؛ قلت في نفسي: «في عمق المحيطات والبحار بقايا سفن وغواصات، وطائرات غارقة، وهياكـــل آدمية لم تتحلل، وقنابـــــل حية قابلة للانفجار، وأدوات معدنية»، فتصورت على آلتوّ محطات (تحتمائية)؛ يسكنها بشر يقومون بأعمال لا تطرأ على بال سكان الأرض؛ لذلك أرتاب أحيانا فيما يجري في أعماق المحيط.

وضعت السرطان بحذر كبير في كيس مربوط إلى حزامي؛ الذي يحمل ثُقّالات الرصاص، وحركت زعانف قدمي، فآرتفعت أشق الماء، ألتفت بخوف مرة بعد مرة في زُرقة ماء البحر، أتخيل جيشا بمثل هذا السرطان يتعقبني بآستنفار رهيب، لأن عضوا من كتيبته يوجد في حوزتي، ولما ظهر لي غاطس مركبي؛ تمسكت بحاشيته وآمتطيته على عجل، ووضعت السرطان على طاولة الفحص، وفي باطني رجاءُ مَنِ آستنفد كل وسائل الكشف عن شيء له لغز غائر؛ من أن لا يوجد في أوصاله قنبلة بعَدَّاد تنازلي. قد تصدق نبوءتي؛ فلقد طفحت تِقانة العصر، وأنَّى وليت وجهي أجد ما يُذهلني وما يُريبني.

حدثتني نفسي قائلة: «قيل أن في إسمنت الحيطان، وفي السقوف؛ أسياخ الحديد، ولاقط صوت».

ضغطت بسبابتي وإبهامي على أعضائه، فلمست فيها لُيونة طبيعية، أتيت بِمشرط، وشرعت أشق الأطراف والرأس؛ فكشفت عن جهاز متكامل؛ ذو نظام آليّ وتِقاني معقد؛ من أسلاك موصلة للطاقة، وقطع مغناطيسة، تحتل مركزه نواة عقل إلكتروني ببرمجة دقيقة، يستمد طاقة تشغيله من الفارق الحراري لمياه سطح البحر الدافئة، ومياه الأعماق الباردة، فهي إذن أعضاء سرطان طبيعي مُحنطة بمواد كيماوية، عبارة عن غشاء يلف آخر آلي: لاقط صوت، وجهاز إرسال، وآستقبال ذبذبات صوتية؛ يتم تحليلها في مركز ما.

اِرتسمت أمامي صورة فظيعة لعدد كبير من هذا آلنوع من آلسرطان، يجوس بين الصخور؛ قريبا من سواحل المحيط، ومياهه الضَّحلة، تنقل أغشيتُها آلاصطناعية آلحساسة همساتنا، وهمهماتنا، ودبيبنا، وحركاتنا، وتنسخ ملامحنا، ونظراتنا، وقاماتنا.

ألا تكون في الدماء المستوردة أجهزة رصد مجهرية؟ تنقل نظام مجتمع بكامله إلى حواسيب، يُسجل في أقراص، ويُوثق إلى حين؛ إن في هذا كله نشوة إبداع وخلق، وحافز وتفوق، وسطوة أيضا.

أليس فيه زحف وسيحان؟

إنهم بلا شك يُعايِنونني الآن، ويقرؤون ما يجول بخاطري، وما يخططه فكري. إن هذا السرطان الذي ما تزال فيه نبضات بقية من طاقة كهربائية؛ ينقل ضربات قلبي، وتشنُّجات أعصابي، وتقلّصات أوداجي؛ ويُترجمها إلى لغة؟ لم أتردد؛ فأدرت بسرعة محرك المركب، ولُذت بالشاطئ، وسِرت حثيثا إلى غرفتي، وأحكمت إغلاق بابها ونوافذها، وتصورتني أنني في حصن منيع، جعلت السرطان في طَسْت وصَببْت عليه كمية من البنزين وأضرمت فيه النار، فآحترق وتفحم، ثم صار رمادا أذروه بأصابعي.

شعرت بفرحة آنتصار؛ فآبتسمت وغمرتني نشوة؛ ألم أكتشف جهازا ينقل نأمة وإشارة من يمشي على هذه الأرض، وأُبطله وأدمره؟

ما لبث أن داهم غرفتي ثلاثة رجال في زي عسكري، يحملون رشاشات ومصابيح يدوية، أوثقني إثنان منهم، وسحب ثالثهم من جيبه جهاز مغناطيس، ثم مرره فوق الطّست؛ فآنجذبت إليه حبة معدنية، تناولها بين أصابعه مُحدقا فيها، فآنفرجت أسارير وجهه، وقام آخر بملء خزان إبرة بسائل قنينة، أفرغه في عروقي، وتركني أهوي على الأرض، وعبثا حاولت أن أقف على رجلي وأستند إلى الحائط؛ فتمددت على ظهري وأحسست ببوادر غيبوبة، لم أعُد أُبصر بعدها شيئا، فقط سمعت وقع أحذيتهم، ثم ساد المكان سكون.

***

قصة

أحمد القاسمي

 

تعثرت وأنا أكرع قوافي شعر ابو نؤاس، يبدو أن السكر قد نال مني، ويحي!! أهكذا كنت بمجونك عندما تستبيح بيوت الشعر فتغزوا حروفها، أظنك كنت تختلس النظر إليها اولا ومن ثم تُغير على أسرتها ليلا، تشبعها لثما وهي مستسلمة إليك، تُشعرك بلذة ما تتذوقه، أجدني على غرارك اليوم اسير أبحث عن الجيوب الجانبية عَلَّ هناك من تستحق أن أخرج ثعابيني من تحت ردائي ليسبر عالم لم ادخله في حياتي، ها انا بلغت ما يقارب الأربعين ولا زلت بِكرا.. أظنني موبوء أو أن شيطان عهري قد تاب فغفر الله له، حتى أنه قد صام الدهر بعيدا عن ملذات عالم الرغبة..

بغداد يا لذة العاشقين وغربة الفقراء والمساكين، يا زهو زرياب والموصلي، يا طرب ناظم وأم كلثوم، وعبد الوهاب، يا شواطي دجلة.. يا ابواب جهنم الماتعة التي تفتح فيموج على صخب باراتها الراقصات وبائعات الهوى.. انظر الى حالي يا أبا نؤاس عاشق بائس، لفظه القدرة من بطن حرمان ثم ألقى به حيث تراني، اجوب الأزقة والطرق المعبدة والغير منها، أبيع وهما لنفسي، أمنيها بأبيات شعرك الذي حفظت ولا اخفيك ليس وحدك من أحفظ شعره فهناك المتنبي الذي ما ان أسكر حتى ألبس رداء الشدة والكِبر ثم اسمع كلماتي من به صمم.. لكن يبدو ليس هناك من به صمم غير وحدتي الخرساء.. لكن هناك زبانية سلطة متخفين بهيئة سكارى وما هم بسكارى، فألحق ذيل خوفي بأسناني ثم ألوذ هاربا إلى شارعك، أُُمني نفسي بمتعة مع أنثى أي أنثى فعالمي الذي يحيط بي مجرد من كل أنوثة او لمسة منها، إني محاط بخنازير سلطة، كأن لا هم لها سواي مع أني لم أقل شيء يدين أفعالها وما تقوم به من فساد او نهب أو سرقات، حتى جرائم القتل والخطف والمفخخات لم أتحدث عنها مع غيري رغم أني وغيري نراها، كنت أهرب بعيدا رغم أني شاهد عيان.. لا لست شاهد عيان أشطب هذه العبارة يا أبا نؤاس.. أعلم جيدا أنك شهدت ورايت وسمعت الكثير لكنت بقيت صامتا اخرس لم تبح إلا عن مجون مخمور.. أدرك انك لست المتنبي الذي راح ضحية لسانه، قُتل في صحراء بيوت خالية من الشعر.. حتى نصبه أرأيته؟!! لا زال من ذاق ومؤمن في بيوت الشعر التي صاغها يتطلع الى ما يشير إليه على نهر دجلة.. دجلة الخير أم البساتين.. ضاع وتاه في حبك الجواهري من تعرفيه ولا تعرفيني.. ارايت؟؟ إن حب دجلة وبغداد يصنع من المتسكعين مثلي شعراء واقسم ليس شعراء مصادفة.. إني أقرض الشعر كما يقرض الفأر ما يطوله منذ ان كان درصا، يا له من تشبيه لقد صرنا نشبه انفسنا بالفئران فزمن ان تكون شبلا لذلك الاسد قد ولى.. على أية حال.. ها انا استبق ظلي كي أحظى بزجاجة من مخمور قد نال منه السكر وسقط في وحل الخيال، كم أرغب أن تكون الى جانبي نديمة جميلة تنادمني ثغرها وانا أضع بأناملي النقاط التي لم توضع على حروفها الغائرة، أفترش عباءة رجل متدين، أحكي له قصة الصدق والكذب حينما ارتدى الكذب ملابس الصدق بعد ان اغراه بالسباحة معه، فأرتدى الكذب ملابسه وهرب، وحين سار الصدق بملابس الكذب بين العامة لم يصدقوه فكان كل ما يقوله كذب رغم أنه صادق.. هكذا عالمنا الأبيض اسود والاسود ابيض.. ثق بي يا أبا نؤاس إن حياتك الماجنة كانت قبلة للمتسكعين اما توبتك فكانت قبلة لرجال الدين.. استحضر من ابيات الشعر التي قلت في حق نفسك

يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا وجميل عفوك.. ثم إن مسلم

أظنك تنشد التوبة؟ لقد باتت عناوين مداخل ابواب طلب غفران من كان المجون حرثه، ها انا أمامك لا أؤمن بأي شيء سوى ما بين يدي قنينة الخمر هاته التي أظنها توأم نفسي الأمارة بالسوء فلا حظ لي بغيرها.. أطمع ان يجسدوا حياتي وسيرتي بِنَصب يكون قبلة للمتسكعين في عالم التسكع فيه يحتاج الى شهادات عليا، يتوشح بها من يصبو لأن يكون دكتور او ثور.. إضحك لِمَ لا تضحك؟؟؟ لا اظنك منهم فأنت فارس الخمر المعتق من تظهه يكون مثلك، انا لا اقصدك او من هم على شاكلتك.. إنما عنيت عصرنا هذا او تراه صباح او مساء.. لا عليك سأكتم ضحكتي، يبدو ان مزاجك ليس كما أتوقعه منك في كل مرة سأغادرك حيث رأس المنصور.. سأضع رأسي الى رأسه سأتناطح معه بسؤاله أينا رأسه اكبر أنا أم أنت أم الحمار او الثور، فلا بد أجد عنده الإجابة لأن رأسه كبير جدا.

لاشك سيكون جوابه رأس الجسر أكبر.. الجسر الذي شهد الكثير من القتلى والموتى الشهداء وغير الشهداء دون أن يحرك ساكنا، كأننا نرث الاحداث رضاعة من صدور أمهات ثكلى فهناك على الجسر تركوا نعش من كانت الطامورة بيتا له، تركوه بعد أن نالوا منه بسم زعاف.. وها نحن نتجرع السم من متشدقي التدين والدين بعناوين إسلامية كتب عنها المتنبي وابو نؤاس وتغنت بها ولادة وغيرها الكثير.. لا أعرف لم نحن المغضوب عليهم ولم نحن الضالين.. حسنا.. حسنا لا تشح بوجهك عني، سأرحل يبدو أني قد إنحرفت عن مساري الطبيعي، سأحمل نفسي حيث الزقاق المظلم الذي تقبع على جانبيه المواخير والحانات.. وعرابي الأجساد البشرية، لا تخشى شيئا لست منهم بل انا لي حاوية نفايات أراودها عن نفسها كل ليلة فتجعلني انام معها.. أعني بداخلها هكذا هي حياتي بين زقاق وشارع آخر وبينك وبين الرشيد دون هارون.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

أَنا لستُ يوسفَ يا أَبي

وحبيبتي لَيْسَتْ زُلَيْخا

واللهُ يعلمُ بيْ

أَنا لَنْ أَقَدَّ

منْ قُبُلٍ

ولا منْ دُبرٍ

قمصانَ شعبي

وما حفرتُ ...

على جدارِ بلادي  

شروخاً أَو ثقوبْ

ولا أَنا مثْلُ الطغاةِ والقُساةِ

كنتُ جَرَّحْتُها بالندوبْ

*

أَنا لستُ يوسفَ ياإلهي

وإنَّما أَنا العراقيُّ الجريحْ

الخياناتُ خرابي ومَتاهي

أَنا تائهٌ في الريحْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الزمنْ

أَنا العراقيُّ المُبتلى

بالخائنينَ

الكاذبينَ

السارقينَ

وبالذئابِ التي

تَنْهَشُ لَحمَ الوطنْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الشيْطانْ

اللهُ يعرفُ

قسوةَ الإنسانْ

إِذْ يَطغى

وحينَ يُغوى

وعندما يصحو

في جسمِهِ الحيوانْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

وما أَلقيتُ أَيَّ كائنٍ

في غيابةِ الجُبِّ

أَو في متاهةِ الوجودْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

لكنْ أَنا العراقيُّ

المخنوقُ والمسروقُ

والمذبوحُ والمشنوقْ

والتائهُ في العواصفِ

والقانطُ في المتاحفِ

والضاعَ منّي البلدْ

والحلْمُ ضاعْ

وضاعَ الضميرْ

وضاعَ اليراعْ

وضاعَ المصيرْ

وقَدْ بقيتُ

بـلا :

أَ

ح

دْ

***

سعد جاسم

 

 

عبثًا يحدثُنِي عن الأحلامِ

مستبشرًا بقوادمِ الأعوامِ

*

كم كان مغمورًا بحبِّ حياتِهِ

طلقُ المحيا ذائبُ الأنسامِ

*

لكنَّه من فرطِ حبٍّ قادمٍ

ينأى عن الأنغامِ بالانغامِ

*

يشدو القصائدَ من فؤادٍ صادحٍ

ويصوغُ أغنيةً لطيرِ حمامِ

*

سمحٌ، وديعٌ، طيبٌ، ودماثةٌ

يحكي طويتَهُ فمُ الأيَّامِ

*

عقدانِ مرا، وهو طفلٌ حالمٌ

يلهو مع الأترابِ في إنعامِ

*

وثلاثةٌ أخرى انقضتْ بمحبَّةٍ

يسقي نداماهُ بشهدِ كلامِ

*

يهوى الجمالَ مُتيّماً بظلالهِ

صافي السريرةِ لا يردُّ مرامِي

*

عتبي على هذي النسائمِ قصَّرتْ

في أنْ تقي روحي من الآلامِ

*

عتبي على أيدٍ رحيماتٍ أبتْ

الَّا تكونَ رحيمةً بهمامِ

*

تركتْكَ وحدك دونَ أي فضيلةٍ

ومضيتْ مضطرًا بنارِ ضرامِ

*

حاولت أن ترجو الشفاءَ ولم يكنْ

حلمُ الشفا أبدًا بعيدَ مرامِ

*

سائلتني قبلَ المنيةِ، والدي:

ماذا وراءَ السقمِ من أسقامِ؟

*

حولي يدورُ الموتُ، كيف أردُّهُ

قدري أفارقُكم، وقلبيَ ظامي؟!

*

عندي طموحٌ كيف أقطعُ نسلَهُ

ولديَّ الفُ قصيدةٍ وكلامِ

*

وطِماحُ مَنْ غرسَ المحبةَ جاهدًا

ألَّا أغادرَ موضعي ومقامِي

*

قدْ عدتَ يا نيروزُ بعدَ غيابةٍ

لكنَّ عودَكَ لم يكنْ بسلامِ

*

راحَ الذي يُحْيِيكَ، وهو محمّلٌ

بالحبِّ والأنغامِ والأحلامِ

*

واليومَ أنِّي ذاهبٌ لأزورَهُ

لأجددَ الذكرى، بيومٍ دامِ

*

ومعي التي حملتْ ولم تبخلْ عليـ

كَ بفيضِ عاطفةٍ وحلو كلامِ

*

يا عيد نيروزٍ بمن أفجعتني

فإذا بنورِ الصبحِ محضُ ظلامِ

*

وتركتني وحدي أصارع محنتي

إنِّي على حربٍ مع الأيامِ

***

د . جاسم الخالدي

 

إلى ابني رافي

رفائيللو....

كما أحبّ

أن أناديك

رافائيل يا ملاك الشفاء

باركني الله حين أنجبتك للحياة

وأعطاني اسماً قوياً

من حرّاس مملكة السماء

في ليلة من ليالي آذار

رذاذاً من حنين

عذوبة إحساس

تفتحت لها براعم الأزهار

فوق جميع الأشجار

يا ملاك الشفاء

حين أهمّ بنطق اسمك

تضحك الحقول

فتطير من بيادري أسراب

اليمام

ويظلل وجهي قوس قزح

ووشاح سلام

رفائيللو

يا ملاكي الشافي كم من مدن قطعتها

وشوارع مشيتها

كم من ليالٍ هشّمت واجهة الريح

وأنا أرتل تقاريظ وتسابيح...

وأنا أتلو أسفار العبور...

في ممرات الشقاء

شربنا حياة بائسة

عشنا ثالوثا مقدسا

في أقنوم واحد!

شربنا كؤوس مترعة

ونخب الشفاه الكاذبة

حتى الثمالة

كان لئيماً قاسياً عالمنا

لكنك يا ملاكي كنت مؤمناً

بأجراس الآحاد

وأنا أنظر بصمت في بحر عينيك

كان الأمل يغني

رغم دموع المآقي..

وأنت تردد: لا تبكي يا أمّاه

أيها الفرح الأخضر كالعشب

ياربيع قلبي

أنت رحيق الحياة وبهاؤها

أسير في ظلالك

أتبعك في تخوم دمشق

وحاراتها

وأبوابها السبعة

إلى محيط الجنوب العظيم

تنام من تعب

و ذراعي لك سرير

لم تصمت رياحنا العتيقة

ولم يهدأ قلق حبري يهادن القصيدة

وانت تشاكسني

مثل شقيّ صغير

تقمصّتني ..

تقمصت روحي وبدوت كأنك أنا

يا وتيني

يامؤنس الروح

ساغب فمي بالدعاء

ليحرسك رب السماوات

وينثر بركته صباحاً ومساء

***

راغدة السمان – سيدني / استراليا

 

 

من يعتلي عرش جنوني

بعد انتهاء ثورة العبث

يقايض سوط الصبر

بمشنقة انطلاق

أختزل بها طريقي نحو العتمة ؟

فبعض العتمة وجود

وكثير من النور عدم!

*

من يفتح دوائر الصمت

ليحط السحاب رحاله

على ارتعاش نخلة

منفية خارج الفصول

يقلم براثن المرارة

لتلتقط القصيدة

بعض أنفاس عن بعد

يطرد خفافيش الظلام

من مملكة الشعر

لتفرد الأبجدية أجنحتها

قبل أن يستبيح النشاز

مدائن البلاغة ؟

*

من أشعل كأس الحنين

جمرا وضيئا

حتى صار الارتواء رمادا

وصارت الحكاية مسخا ؟

كيف أخذت الريح كل الشوق

وما نسجنا من أحلام

في ليالي الأرق

لنموت ببطء

في جذل الكذب المراق؟

*

النحيب يغتصب

الظلال في مكمنها

يغتال الابتسامات

في زاوايا ارتباكها

*

كانت الهفوة الأولى

حين انتشى الليل

بضحكة مخذولة في غبطتها

انهدت أشرعتها

على زجاج مرآة مخادعة

أفسدت عرس اللقاء

فشاخ الدم في العروق

جفت آخر قطرة

قد تروي الحنين النابت

في صحراء الذاكرة

وتحيي الشوق الذي مات

بين الجمل الباردة؟

شفق هذا اليوم فاتر

لا تستجيب له النجوى

ولا ترد صداه صهوة الأفق

النداء مصلوب في المدى

عبير الأمس

تجمد على أجنحة السراب

أزهار النرجس

ما عادت تشعل شهية القصيد

ولا هي قادرة على

أن توقد صقيع الإلهام

ليتورد الشعر في حقول الهيام

حتى الطريق التي كانت تعبرني

وهي تضج بسمفونيات الحنين

لم يكتمل قمرها رغم استدارته الموقدة

ولم تعترش في دجاها

مسافات توهان امتطيناها

ونحن ننسج للخطو نجمات

لم ننتبه متى ضاع منا

ذاك التيه المشتهى

ولحظات شجو فتحت لنا فسحة

في شراع الأمل

*

الغروب مضمخ بالأنين

اللحن ينزف في الخواء

عيون الحلم تمتطي الهزيع الأخير

من أنشودة ثمالة غيبتني طويلا

في غبار الكلام !

***

مالكة حبرشيد

 

نحن اليوم في القرن الثمانين، بالضبط في العام 74000 بعد الكارثة، بحسب التوقيت السمكي "المد والجزر" الموافق للسنة الميلادية 2223. كان أمراً متوقعاً أن ينتهي حكم الإنسان لهذا العالم الغريب، بعد أن ارتفعت حرارة الأرض 4 درجات مئوية بسبب السموم التي تبثها المصانع والمعامل. انقرض البشر، وأكثر الحيوانات والنباتات إثر سلسلة من الكوارث الطبيعية.

اندفعت سمكة الجريث قاطعة أمواج البركة التي تبقت في أعالي شط العرب. خففت من سرعتها لتلحق بها رفيقاتها:

-يا للخيبة، هذا كل ما تبقى من دجلة والفرات!

لم يكن من السهل أن تعثر على ما تأكله. أضافت وهي تتنقل بين أعواد القصب:

- لعنتي أن أكون سمكة خالدة. هذا جزائي منك يا صالح.

قالت إحدى رفيقاتها: أما آن الأوان لتخبرينا من هو صالح؟ هيا يا عزيزتي، لقد انتهينا من وضع بيوضنا، ولم يعد أمامنا شيء.

كانت تؤجل الجواب على ذلك السؤال المتكرر باستمرار، لكنها الآن بحاجة لأن تتحدث. قالت:

- ذات يوم، في زمن حياة البشر كنت أنعم بهناء وعيشة هادئة في دجلة، متنقلة بين نباتات مياهه العذبة، غير مدركة لمصيري، وإذا بي أقع في شباك أحد الصيادين، ثم استقر بي الحال في عربة تضم عدة أسماك نافقة من جنسي. يبدو أن البائع كان متعباً. لم يشعر للوهلة الأولى بأنني لا زلت على قيد الحياة فتقمصت دور السمكة النافقة لأنجو، فعلى عكس بقيه الأسماك في السوق كانت أسماك القرموط تباع هكذا، ميتة، وبسعر زهيد.

اقتربت امرأة عجوز، قلبتني، لكني لم أعجبها. بعد فترة قرر البائع أن يغير مكانه داخل السوق عسى أن يجد فرصة أفضل للبيع. لم ينتبه الى أن المرأة وضعتني قريباً من حافة العربة، وبينما كان يدفع عربته الخشبية باتجاه إحدى الأزقة الضيقة، الغنية بالروائح العبقة كالخبز المشوي، وروائح الأطعمة المعروضة، ولا أنسى رائحتي أنا سمكة الجري كما يطلق عليَّ في بغداد أخذت العربة تتمايل بعد أن زاحمت عجلاتها بعض الأحجار. وجدت نفسي وقد وقعت على حافة الطريق، بالقرب من فتحة لتصريف مياه الأمطار. يا ترى هل هو قدري، أم كانت مجرد مصادفة؟

قادني المجرى المطري إلى آخر أكبر حجماً. قاومت تيار المياه بما تبقى لدي من قوة لأصل إلى إحدى الفتحات الجانبية واذا بي في مغطس داخل بيت عتيق مهجور. قضيت في الحوض أياماً وأنا أندب حظي، وأقتات على بعض الحشرات، والحشائش. كان البيت لعائلة عراقية هاجرت إلى خارج العراق. وكانت تستخدم المغطس لطقوس دينية قديمة. هذا ما قاله سمسار العقارات للرجل الذي جاء لشراء المنزل وهو يمر بجانبي دون أن يلتفت لوجودي.

بعد عدة أيام قررت أن أنهي حياتي، فالمياه الآسنة داخل المغطس كادت أن تتلاشى، فخطرت لي فكرة التهام بعض الأحجار لأنهي معاناتي. لمعت إحداهن بلون اخضر فيروزي التهمتها على عجل، فاجتاحني ألم فظيع تفوق شدته عضة أنياب أقوى سمكة قرش. وإذا بي أتحول إلى امرأة جميلة بشعر أسود، وعيون زرقاء، جاثية داخل مغطس قديم!

- يا ترى ما حال بائع السمك صالح؟

قالت الأسماك:

- لا تستعجلن، فهو ليس بائع السمك، ولم يحن دوره بعد.

أجابت السمكة حورية. ثم استرسلت قائلة: كانت ساعتي الأولى قاسية ومؤلمة لأني لم أتقن المشي برجلين، فرحت أرمي بقدميَّ يميناً ويساراً، كما هو التجذيف، إلى أن اهتديت الى الوقوف، وبعدها خطوت أولى خطواتي، وأنا مستندة إلى جدار الحوض. قضيت أيامي الأولى وحيدة في البيت المهجور، عارية جائعة، أنام على أريكة مهملة في إحدى الغرف، يبدو أنها وضعت لغرض ما، إلى إن فاجأتني حركة غريبة داخل المنزل. كان سمسار العقارات قد عاد وهو بصحبة امرأة. تبين لي بعدها أنه يستغل خلو المنزل لأغراض شخصية دون علم مالك البيت.

انتابني الخوف، فوجدت من الأفضل لي أن أختبئ. وبينما كانت أصوات الضحكات تتعالى في الغرفة المجاورة، أسقطت قدحاً دون أن أدري، فأثار الصوت انتباه بائعة الهوى، كانت تحتفظ بوعيها عكس رفيقها المخمور. دخلتْ علي الغرفة وهي متهجمة، واقتادتني من شعري صارخة بوجه السمسار. كانت تظن أنني إحدى عشيقاته. رحت أتوسل ليتركاني في حال سبيلي، رويت لهما ما حصل معي فاطلقا ضحكات هستيرية عالية .

-اشگد شفت كلاوات بس مثل هاي ما سامعة! قالت بائعة الهوى المسماة عفاف.

تركاني وحدي في الغرفة. وأخذا يتداولان في أمري. كانا يحسبان أنني هاربة من أهلي. وقد وجدت فيَّ عفاف العوبة -وهذا ما كانت تعرف به- فرصة ذهبية، فاستغلت جمالي في جذب الزبائن لدار البغاء الذي كانت تقيم فيه. ازدادت أموالها بسرعة، إذ خصصتني في البدء للتجار، والميسورين، ثم لبعض الشباب الصغار في الحيِّ. قدري أن أُستبدل. أن لا أكون سمكة مقلية على صحن رز أحمر في مطعم نعمان أبو الجري القريب من بيت عفاف، وأن أكون غانية تتقلب فوق سرير لذَّة عابرة.

في إحدى الليالي دخل علي شاب وسيم، ملاك بهيئة إنسان يدعى صالح. كان شاباً خجولاً أراد أصدقاؤه أن يكسروا انطوائه فدفعوه لزيارتي. وبينما كنت مستلقية على السرير بثوب نوم رخيص الثمن، وبما أنني سمكة جريث تغوص قريباً من القاع تمكنت من النفاذ لشخصيته، لكني تفاجأت بردة فعله، فقد ذهل صارخاً:

-حتى أنت! يا للخيبة! بنات جنسك بقين طبيعيات، إلا أنت. ما الذي اقترفتِ لتكوني هكذا؟

- ما الذي تقصده؟ قلت له، بعد أن اعتدلت في جلستي.

- أنت سمكة جريث. أجابني صالح ضاحكاً.

ذهلت تماماً! هو الوحيد الذي عرف حقيقتي، فرحت أخبره بتفاصيل حكايتي من البدء، حتى لحظة لقائي به. وبعد لقاءات عدة، حكى لي صالح معاناته منذ أن كان طفلاً، فهو يرى بعض الناس على هيئة حيوانات. وقد ثبت له أن هؤلاء هم السيئون منهم. كانت أشكالهم الحيوانية تظهر تبعاً لأفعالهم الشائنة، فالساسة الفاسدون كانوا يظهرون على شاشات التلفاز كطيور العقاب النهمة، ورجال الدين المخادعون الذين يقطعون الطريق بين العبد وربه تظهر أشكالهم بهيئة حيوان القندس. حتى أنه راح يشاهد مؤخراً الكثير من الكلاب أينما توجه. أخبرني أن حياته أصبحت جحيماً فتعاطفت معه. مرة قلت له إنه ربما يكون تحت تأثير قوة خارقة نتيجة تناوله لشيء ما، كما هو حالي أنا. قفز صالح من مكانة فجأة، تذكر قصة قديمة كانت أمه ترويها له، وكيف أنه حين كان صغيراً تأخر في النطق، فقررت هي ووالده اصطحابه الى المزار ذي البئر السحري، حيث تتلى بعض الصلوات على حافة البئر، ثم يسقى الطفل من مائه، لينطلق لسانه. يبدو أن لجرعة الماء تلك آثاراً أخرى.

حبي لصالح بدأ منذ اللحظة الأولى، أما هو فكان يبادلني المشاعر لكوني سمكة مسحورة صدقت به، وأعطته مخرجاً وتفسيراً لما حصل له. وفي أحد الأيام، كنا نتنزه معاً على ضفاف نهر دجلة، وكانت الدقائق تمر مسرعة كأنها شباك الصياد التي التقطتني، لكنها كانت جميلة هذه المرة، أمسك صالح بذراعي وقرب شفتيه من أذني هامساً:

- هل تعرفين ماذا أحضرت معي يا حورية؟

أخرج من جيب معطفه قارورة ماء، جلبها من البئر السحري ذاته، وقال مازحاً:

- اشربي. لقد جعلتني هذه المياه اتمتع بقوه البصيرة. اشربي واخبريني ما هي هيئتي .

تناولت القارورة، وما أن دخلت جوفي بضع قطرات منها حتى زالت عني اللعنة، ورجعت لهيأتي الأولى، سمكة جريث طبيعية. سقطت على الحافة الحجرية للنهر. هوى صالح فوقي ودموعه تنهمر كحبات المطر. أمسك بي بكلتا يديه وأطلقني في مياه النهر برفق. نعم. هذه هي نهاية قصتي مع صالح يا رفيقاتي. لازلت احفظ كلماته، وهو يركض على حافه النهر مودعاً:

-نعم. إنها مياه البئر. كلامك صحيح يا سمكتي! إنها من تمنح القوة، والحرية أيضاً. وقبل أن أغوص في أعماق النهر سمعت آخر ما قاله صالح: تذكريني يا حورية دائماً، تذكري هذه اللحظات، ولا تنسي هذا المكان: جسر الجمهورية.

***

قصة قصيرة

ياسر هادي - كاتب من العراق

الـصـبـحُ فـي سـيـدنـي طـويـلٌ

كـانـتـظـارِ قـصـيـدةٍ عـذراءَ

تـأبـى أنْ تـطِـلَّ عـلى

الـورَقْ

*

ومـسـاءُ سـيـدنـي روضـةٌ ضـوئـيـةٌ

أزهـارُهـا غـسَـقٌ

بـحـبـلِ الـضـوءِ شُــدَّ الـى الـشـفـقْ

*

وأنـا الـغـريـبُ الـسـومـريُّ

مُـفـتِّـشًــا عـنـي أحَـدِّقُ فـي الـوجـوهِ

لـعـلَّ وجـهـًا سـومـريَّـا

يـسـتـضـيءُ الـسـنـدبـادُ بـهِ

يـمـدُّ إلـيـهِ صـوتًـا مـن لِـسـانِ الـضـادِ

يُـنـجـي الـسـنـدبـادَ الـضـائـعَ الـحـيـرانَ مـن شـبـحِ

الـغـرَقْ

*

الـوقـتُ مـصـلـوبٌ

وشـمـسُ الإنـتـظـارِ بـلا ألـقْ

*

سـأعـودُ ـ قـال الـسـومـريُّ الـمُـسـرِفُ / الـمُـتَـزَهِّـدُ

الـطـفـلُ / الـفـتـى

الـشـيـخُ الـمُـخَـضَّـبُ بـالـتـبـتُّـلُ

والـمُـضَـرَّجُ بـالـنَـزَقْ

*

سـأعـودُ ـ قـالَ ـ الـى مـتـاهـةِ غـرفـتـي

فـلـربَّـمـا

سـتـطِـلُّ مـن تـحـتِ الـجـفـونِ الـمُـغـمـضـاتِ

إلـهـةُ الأمـطـارِ " إيـنـانـا "

لِـتُـطـفـئَ غـابـةَ الـنـيـرانِ فـي جـسـدي الـمُـفـخَّـخِ بـالـشـبَـقْ

*

وتـؤمُّ بـيْ فـوقَ الـسـريـرِ

صـلاةَ " حـلاّجٍ " بـمـاءِ لـظـى تـهـيُّـمِـهِ

احـتـرَقْ

*

وتـصـبُّ لـيْ كـأسًـا مـن الـقـبـلاتِ ..

تُـطـعِـمـنـي رغـيـفًــا مـن طـحـيـنِ أُنـوثـةٍ

فـهـيَ الـوديـعـةُ كـالـحـامـةِ والـرقـيـقـةُ كـالـفـراشـةِ

أو أرقْ

*

مُـتـعـكِّـزًا ظـلّـي مـشـيـتُ ..

عـبـرتُ جـسـرًا ..

جـزتُ سـاحـاتٍ وأرصـفـةً

أضَـعـتُ الـدربَ .. أيـنَ أنـا ؟

سـأرجـعُ قـلـتُ فـي نـفـسـي

ولـكـنـي نـسـيـتُ اسْـمَ الـذي أودعـتُ فـيـهِ حـقـيـبـتـي

ودواءَ وحـشِ الـسُّـكّرِيِّ

وشـاحـنَ الـتـلـفـونِ ..

أثـقَـلـنـي الـرَّهَـقْ

*

قـدمـايَ مُـتـعـبـتـانِ

تـشـتـكـيـانِ وخـزَ تـنـمُّـلٍ

والـدربُ نـحـوَ الـفـنـدقِ اسـتـعـصـى عـلـيَّ

فـمـنْ يُـعـيـدُ الـى مـراعـي الـقـوسِ

ظـبـيَ الـسـهـمِ غـافـلَ مُـقـلـةَ الـراعـي الـمُـكـبَّـلِ بـالـمـتـاهـةِ

فـانـطـلـقْ

*

نـحـو الـبـعـيـدةِ

بُـعـدَ قـلـبـي عـن يـديَّ

وقـربَ شـمـسٍ والـنـجـومِ

عـن الـحَـدَقْ

*

وَعَـدَتْ بـثـوبٍ مـن حـريـرِ الـعـشـبِ

يـسـتـرُ عُـريَ صـحـرائـي

وتـغـسـلُ مُـقـلـتيَّ مـن الأرقْ

*

وتـهـشُّ عـن غـزلانِ رأسـي فـي مــفـازةِ غـربـتـي

ذئـبَ الـقـلـقْ

*

فـأنـا اصـطـبـاحـي فـي الـمـسـاءِ ..

وفـي الـصـبـاحِ الـمُـغـتَـبَـقْ

*

لأعـودَ طـفـلاً ضـاحـكَ الأحـداقِ

دُمـيـتُـهُ الـغـسَـقْ

........

............

...............

مُـسـتـهـزئـًا مـن سـوءِ ذاكـرةٍ

يُـقـهـقِـهُ فـي قـرارتِـهِ الـغـريـبُ الـسـومـريُّ

فـقـد تـذكَّـرَ

أنَّ فـي مـفـتـاحِ غـرفـتِـهِ الـذي فـي جـيـبِـهِ

عـنـوانَ فـنـدقِـهِ وخـارطـةَ الـطـريـقِ الـى الـمـكـانْ

*

مُـتَـعَـثِّـرًا بِـظـلالِ خـطـوتِـهِ

يـسـيـرُ الـسـومـريُّ الانَ نـحـو سـريـرِهِ

فـي نُـزْلِ " بانـكـسـتـاونْ "

*** 

يحيى السماوي

21/3/2023

.......................................

(*) بانكستاون : اسم الفندق الذي نزل فيه كاتب النص الأسبوع الماضي ويقع في ضاحية بانكستاون في سيدني .

عربيٌّ حُبّكَ أنتْ

مَحجورٌ تتدثّرُ بالرَغَباتْ

عرَبيٌّ ...

كالقاربِ حبُّكَ بينَ الصاري والمَرساة

تَحرثُ في الماءْ

تَحشو في ذاتِكَ آلافَ الأعذارْ

كي تبذرَ إنْ عُدِمَ البذرْ

لو عَصَفتْ بك ريحُ الصحراء

لو غطّىٰ هامتكَ الثلجْ

أو إذهب حيثُ تشاءْ

لن تثنيكَ بلادةُ عمرِكَ عن بَيعِ الصَمتْ

وستسعىٰ ذَكَراً شَرقيّاً

ترفعُ راياتِ الإغواءْ

تَصطَفُّ بطابورِكَ مُرتقِباً

كالنسرْ

تبحثُ بين ضحايا الوقتْ

عن إمرأةٍ

تصلبُ فوق أنوثتِها مَنْعَتَكَ الرَعناءْ

ستقولُ بأنّكّ نبتُ الطُهرْ

لكنّكَ تَهتكُ مُفتخراً سرَّ الوجدانْ

أتُراكَ غَزَوتْ

فوراءكَ تأريخٌ يفخرُ بالغَزَواتْ

وسبايا البلدان

فلتُكثِر أنتَ الكَرّ

وليَكُ حبُّكَ كالهَيجاءْ

ولتأسِرَ ما شئتْ

فيَمينُكَ طولىٰ

أتريد الحُبّ

أحببْ واحدةً واعبثْ بسواها

وانكرْ

فذكورَتُكَ المُثلى تغري فيكَ النكرانْ

**

عادل الحنظل

تلكَ أمي تغرسُ نغماً في نبضِكَ

ترويه من عطر الشَّفقِ

من همسِ الوَدَقِ

من فؤادِها صنعَت عَرْشكَ

على أهدابها تهليلةُ قَمَركَ

هل تدري ؟

حولَ هالةِ الشمسِ ستعرِّشُ القصيدةُ...

أرى الصيفَ يشقُّ غيمةً سَكرى

بجناح فراشة

السماءُ تُمطُر حبّاتِ نورٍ

والأحلامُ ترتدي معطفاً مُزركشاً

نصفهُ ياسمينٌ ونصفهُ قداح

هل أخبروكِ..؟

في مواسمِ الضوِء تحترقُ الفراشاتُ

شوقٌ كالتماعِ الشواطىءِ..

يطُيرُ فوقَ أمواجي..

يلثمهُ الغروبُ..

فينعكسُ آياتٍ مِنَ الطُّهْر على ماءِ الجنَّة

كُتب فيها" ...

أمي عشق على أغصانِ السَّماء"

يَزفُّ بشارةَ الحنينِ..

يحبو نحو أرضٍ لا تموت.

***

سلوى فرح - كندا

 

وضعت أمي صحن فتة الشاي على المنضدة أمامي:

- كل. رجتني قائلة.

- بديش اوكل. أجبتها بحرد، هي تعرفه عني أكثر من أي إنسان آخر في الوجود.

- ليش بدكاش توكل..؟ عادت تسأل.

- لأنها الكنفوشة ـأكلت مبارح من هذا الصحن. عدت أرد عليها.

تناولت أمي الصحن من ـأمامي، وتوجّهت به إلى مطبخ بيتنا ذي الباب المخلوع، وعادت بعد قليل لتضع صحن فتة جديدًا وهي تقول لي:

- هذا صحن جديد.

ووضعت ملعقة من النحاس إلى جانب صحن فتة الشاي. شكل الملعقة حملني إلى أمس عندما وضعت أمي صحن المجدرة أمام كنفوشة وأمها، انتابتني حالة من الاشمئزاز وأنا أتصوّر كنفوشة تملأ تلك الملعقة بالمجدرة وتدخلها إلى فمها معيدة إياها بعد لمحة قصيرة لتعاود ملأها من الصحن. لاحظت أمي ما أدخلت نفسي فيه، فعادت تقول.

- كل هذه ملعقة نظيفة.

لم أستجب لأمي ولم آكل، فقد تصوّرت أنني إذا ما أكلت من صحن الكنفوشة أو ملعقتها، فإنني سأصبح كنفوشًا مثلها. ورحت أتصوّر الكنفوش يمشي بصحبة تلك الكنفوشة، وأنهما يتوهان في الغابة، فيضطر للبقاء معها وإلى جانبها، وعندما يجوع يأكل معها من صحن واحد، فشعرت بمزيد من الاشمئزاز. وانطلقت باتجاه بوّابة الدار في محاولة منّي للمغادرة إلى الحارة. قبل خروجي من بوّابة الدار، دفعتني كنفوشة إلى الداخل وهي تقول لي:

- وين رايح فوت.. أنا جاية العب معك.

كانت كنفوشة في الثامنة، أكبر منّي بثلاث سنوات، وكانت تأتي إلى بيتنا المستأجر، في حي السوق بصحبة أمها، فتجلس أمها بالقرب من أمي وتأخذ الاثنتان في التحدّث وشرب القهوة معًا.. وكثيرًا ما كانت لبيبة، أو كنفوشة، تطلب منّي أن العب معها، فكنت أرفض، الغريب أنها كانت كلّما رفضت أن العب معها، تزاد رغبتها في اللعب معي. تهرّبت من كنفوشة وخرجت إلى الحارة، ناديت على توفيق ابن الجيران، لم يرد، حاولت أن العب وحدي، لم أتمكن. أحاطني الملل من كل جانب، فاضطررت أن أعود إلى الدار. في باحة الدار الصغيرة تصنّعت اللعب، وأنا أعرف أن كنفوشة ستأتي إلي وسوف تطلب منّي أن العب معها. وحدث ما توقعته. وجاءني صوتها من ورائي:

- تعال نلعب سوا.

أرسلت نظرة مشمئزة نحوها:

- شو بدك نلعب؟

ابتسمت كنفوشة:

- بيت بيوت.

وأردفت في محاولة لإقناعي: لعبة حلوة كثير. مبارح في نص الليل شفت أمي وأبوي بلعبوها.

تصوّرت نفسي رجلًا ذا شارب مثل أبي.. ينهى ويأمر، فأعجبتني الصوّرة. قلت لها:

- بلعب معك بس على شرط إنك متقرّبيش مني.

وافقت كنفوشة دون أن تفكّر على ما بدا. وابتدأنا اللعب. أقمنا بيتًا صغيرًا في إحدى زوايا باحة البيت.. أدخلنا إليها ما تحتاج إليه غرفة النوم، وابتدأنا اللعب. اتخذت هيئة رجل عائد من العمل إلى بيته، فيما اتخذت كنفوشة هيئة زوجة تستقبل زوجها العائد من العمل.. ورفعنا الستار.

أنا: وين انت يا كنفوشة؟

كنفوشة: هاي أنا هون يا زلمة. فوت.. فوت.. الله يعطيك العافية.

أنا: الله يعافيك.. شو طبختيلنا اليوم؟

تضع كنفوشة أمامي صحنًا فارغًا: كُلّ يا زلمة بالهنا والشفا. طبختلك ملوخية اليوم.

أمد يدي إلى الصحن، أقبِل على صحن الملوخية إقبال الرجل الجائع، أنا جوعان كثير.. الله ما أطيب اكلك. آه هيك لازم يكون الأكل.. تسلم إيديك.

- الله يسلمك حبيبي.

تلك كانت أول مرة تقول لي فيها امرأة "حبيبي"، نسيت نفسي ونسيت اشمئزازي من كنفوشة، بل نسيت أنني لا أريد أن أشبهها، واندمجت بالدور. نظرت زوجتي كنفوشة. تمعنت في وجهها، كانت جميلة، أجمل ممّا خطر في بالي، ها أنذا أراها أول مرة في حياتي كما هي في الواقع وليس كما يبشّعها لي الخيال. اقتربت منها حدّ الالتصاق، فاحتضنتني:

- انت بتعرفش قديش اشتقتلك يا زلمة.

- وأنا كمان اشتقتلك..

اندمجنا بالدور. مرّت اللحظات خفيفة لطيفة. شعورٌ طاغٍ جذبني إلى كنفوشة. في المساء كان لا بدّ للعبة من أن تنتهي. انتهت اللعبة ليبدأ يوم آخر ولنستأنفها معًا. لقد بنينا حياتنا معًا.. ولا بدّ من المواصلة... رحلة الحياة مع كنفوشة كانت الأجمل في الحياة.. فقد كانت أول من أدخل الفرحة الحقيقية إلى قلبي وروحي.. عندما قالت لي: الله يسلمك حبيبي.

***

قصة: ناجي ظاهر

منذ أن عمل في الإدارة، وهو لم يعد يعرف من طرق المدينة غير واحد؛ هو ذلك الذي يربط بين بيته والبناية التي يوجد في أحد مكاتبها التي تتالى في ممراتها؛ المكتب الذي يجلس خلفه، وهو قد اعتاد على ما يحتله من ملفات من الورق؛ موضوعة إلى يساره بترتيب وبعناية، وحاسوب إلى يمينه، وإذا ما سلك طريقا آخر، فهو إما لتعذر المرور من طريقه المعتاد، أو لحاجة هو أو أحد أفراد أسرته في أمَسِّها؛ في يوم من أيام عطلة نهاية الأسبوع، إلى أن كان ذلك اليوم الذي تذكر في إحدى ساعات ليله المتأخرة؛ أياما مضت كان حُرا فيها، في بُروحِه لبيت الأبوين، والتمشِّي في أي طريق، وفي اتجاه أي مكان، والعودة إلى حجرته، وحسبه أنه طاف دنيا شارع المتاجر والمقاهي، وشارع تحف به أشجار بفروع مورقة، وأرصفة مُعشوشبة، وسار في شاطيء صخري أو رملي؛ يخلو إلا من القليل من الناس وقت غروب الشمس، فتاقت نفسه إلى مغادرة منزله في وقت مبكر؛ لا لدافع؛ إلا لأنه أحب أن يقوم بذلك وبحرية، والسفر في طريق، وليس أي طريق، فهو ذلك الذي يمتد أو يكاد بموازاة مع شاطيء البحر، فينتعش من يمشي فيه ببرودة نسيم البحر.

إلا أن فرقا كان بين أيام خلت كان يتنقل فيها راجلا، وبين الآن؛ فهو يركب سيارته الجديدة، التي أتاحت له المضي لمسافات طويلة، وإلى أي مكان يُعجِبُه، ولم يكن يدري من قبل أن سلوك طريق واحد قد لا يُتيح لك الالتقاء بوجوه أُناس كثيرة، منها ما كنت على معرفة قديمة بها، وسلوك طريق آخر أو طريقين؛ قد يمكِّنك الالتقاء بأشخاص، وإن غيرت سنوات العُمُر من ملامح وجوهها، وأحالت سواد شعر الرأس واللحية الفاحم إلى بياض شيب، إلا أن علامات ظلت على حالها تُعرّفُك إليهم.

فما هو ذلك المكان الذي أتاح خروجه في ذلك اليوم على غير عادته الوصول إليه، ومن هو ذلك الشخص الذي تعرف إليه بعد مضي ثلاثين سنة؟

سواء كنت تريد أن تتعجل القيادة في ذلك الطريق الشاطئي، أو تتمهل سياقة مركبتك فيه، فإن علامات تحديد السرعة تتراوح بك ما بين الأربعين والستين والثمانين، فكان هذا يُناسب مزاجه في صباح ذلك اليوم، فليس هناك ما يستعجله، كما عوّدته واجبات العمل وواجبات البيت، فكان يقود سيارته مُتمتّعا بانسيابها به على طريق ذات أسفلت أسود ناعم، لا يُسمع لآحتكاك العجلات به صوت؛ إلا في بعض أجزاء منه تآكلت بفعل ما، وبالاستماع إلى موسيقى هادئة تصدح من مذياع السيارة، وإلى موج البحر الزاحف على الصخور وعلى الرمال، وبالنظر من حين لآخر إلى ما يظهر على جانبي الطريق من أراض مزروعة، أو بساتين عامرة بالأشجار المثمرة، أو بيوت كبيرة، و(فيلات) جميلة البناء؛ بناها ميسورو الحال، وهو يَهبُ نفسه لطبيعة الطريق عن طيب خاطر، ويرتمي في أحضان ذلك الجو الذي تُضِيئُه إشراقة الشمس، وما تزال حرارته معتدلة؛ إذ شد نظره وجذبه بناء بجانب الطريق؛ فُتحت أبواب له ونوافذ من كل جانب، وشُرِّعت دفاتُها أمام طقس الساعات ما قبل الثانية عشرة الرطب، وطواجن بَلدية موضوعة في خط مستقيم على مـِجْمر قصديري مستطيل؛ يرتفع منها بخار ما يُغلى فيها من مرق، وما يُطهى فيها من خضر ولحوم؛ فعرف أنه مطعم، وفي الجانب الآخر من الطريق موقف يتسع لأربع سيارات لا أكثر، وما بعدها تنخفض الأرض، وتتسع لموائد بلاستيكية، ومظلات تقي من يجلس؛ يتناول مما نضج في طاجين من ذلك المطعم؛ من حرارة شمس شهر يونيو، ويُمتع بصره بتلال من رمال الشاطئ؛ تبدو هنالك بعيدا، وبما بعدها حيث تمتد مياه البحر إلى الأفق.

فما أمتع الجلوس في هذا المطعم المنعزل والبعيد عن ضوضاء المدينة وصخبها! وما ألذ ما في طبق يُتناوَل على موائده المستديرة والمستطيلة! ولم يكن يقطع سكون المكان وهدوء الحركة داخل المطعم إلا صوت مرور سيارة أو شاحنة، فخفَّض السرعة وأدار المقود جهة اليمين، وترك سيارته تجد مكان وقوفها، وترجل مُستكشفا بالتدريج وبتآلف واجهة المطعم، وعمال هذا الأخير الذين لم يكن يتعدى عددهم ستة، وطالت قامة أحد بينهم؛ ما إن خطا قاطعا الطريق حتى ألقى عليه نظرة حادة مُرحّبا به، ومُخيِّرا إياه بين أن يجلس بين جدران المطعم، أو في الحديقة الخلفية الواسعة، والمفتوحة على سماء صافية زرقاء، فعرف أنه صاحب المطعم، ونادى هذا آمرا من ينظف المائدة، ويعدل من ساق المظلة؛ بحيث تُلقي هذه الأخيرة بظلها على أكبر مساحة من مكان الجلوس، فشكره وجلس باحترام وتقدير للحفاوة، وطفق يدير رأسه إلى جانبيه وإلى الخلف؛ ليمنح لعينيه فرصة مشاهدة قفص باتساع حجرة صغيرة، وبعُلوّ يتعدَّى قامة رجل طويل؛ يسكنه زوجان من طائر الطاووس ودجاج ودِيَكة، وفي ركن بعيد على يمينه كلب مربوط قريبا من مسكنه الخشبي ذي السطح الهرمي؛ ينبح بين الفينة وأخرى؛ ناصبا أذنيه الطويلتين، ومُتصفّحا بنظرات حارسة وجوه القادمين.

عاد ناظرا أمامه، فرأى مالك المطعم يقصده مُبتسما، فبادله بالمثل، وقال:

- مرحبا بك مرة أخرى؛ أي نوع من الأطباق تشتهيه في هذا اليوم، وفي محلنا هذا الذي أرجو أن ينال رضاكم؟

أجاب وهو يحاول أن لا يظهر من أنه لم يتعود الجلوس في المقاهي والمطاعم:

- في الحقيقة ما أمتع الجلوس في مطعمكم... أريد طاجينا باللحم...

ولم يزد حرفا واحدا من طلبه هذا، وظل يحدق في عيني صاحب المطعم مدة وحدات من الدقائق، ويجول بعينيه في صفحة وجهه، ويدقق النظر في ملامحه، وقد استرجع صورة من الماضي البعيد؛ لم تُفارق مخيلته قط، كما لم يتركه نفس السؤال عن الذي وقع حينذاك؛ يُعيده في ذهنه منذ ذلك التاريخ، ولا يمكن أن يجد له جوابا.

فحاول مرة ثانية استحضار وجه ذلك الشاب الذي كان يركب عربة خفيفة من عجلتين، ويمسك بالأعِنّة؛ حاثا الحصان على الركض بالسوط الطويل، ليجري بالعربة الحديدية بأقصى سرعته، ويجلس بجانبه على المقعد الجلدي الطويل شاب آخر في مثل سنه، وإن نسي أشياء، فلن يغيب عن ذاكرته خوف مريع ينبعث من عيونهما، وتأهّبهما الظاهر إلى فعل خطر، وكان قد التفت الشاب المرافق إلى الوراء مرة واحدة؛ ليرى ما إذا كان أحد يتعقبهما، وغابا؛ لا يسلكان مِسربا ممهدا أو طريقا، وإنما قاطعين بلا هوادة الأراضي المحصودة والحقول المزروعة.

كان قد مر به هذان الراكبان للعربة السريعة، وهو واقف خلف السياج الشائك؛ المحيط بالاستغلالية الفلاحية التي كان أبوه يحرسها، وكانت في ملك أحد الأغنياء، كان سنه آنذاك أربعة عشر عاما، وكان قد صنع من القصب النابت في جانب من البستان مزمارا، بتشكيله بسكين قديم ذي مِقبض من العظام، وينفخ في أنبوبه مُزمِّرا بانتشاء تحت ظلال أشجار وارفة الأغصان والأوراق، في حر شهر يونيو.

ولم يخلف ذلك الحوذي وصاحبُه وراءهما غير صوت تكسير الأغصان اليابسة؛ سُرعان ما توقف ذلك الصوت، وعَجَاجة من التراب أثارته العجلتان المعبئتان بالهواء المضغوط والسريعتان، ولم تمر خمس دقائق حتى ظهر رجلان يكبران سنا عن الشابين؛ يمتطيان دراجة نارية، ولم تجد عجلتا هذه الأخيرة أرضا ممهدة لتستقيم قيادتُها للذي يُمسك بالمقود، فكان هذا غير ثابت في يديه، فكان سيرها متعثرا، وكان تعجلهما هستيريا؛ لم يُجْد نفعا، فتوقفا وسألاه:

- هل مر من هنا شابان يقودان عربة؟

ولم يكن على معرفة حتى ذلك الوقت بخطورة ما يجري، فأجاب بتلقائية وبسذاجة الغير المدرك للأمور:

- نعم... مرا منذ قليل.

وسأل أحدهما قائلا:

- في أي اتجاه ذهبا؟

أجاب بإشارة من يده إلى الاتجاه الذي اختفيا فيه الشابان، وإن حاول راكبا الدراجتين اللحاق بسرعة، إلا أن مُحدبات ومطبات الأراضي المحصودة والمزروعة حالت دون انطلاق الدراجة بهما كما ينبغي، وظلا يجاهدان حجارة وحصا وحفر التربة المحروثة؛ بقليل من النجاح.

لم يُخف القابض بمقود الدراجة حقيقة ما يحدث، فقال له:

- إننا نطارد هذين الشابين، لأنهما اقتحما على أحد مُلاّك الضيعات القريبة من هنا بيته، وسطوا على مبلغ كبير من ماله، وقتلاه، وهربا راكبين عربته، ويكونا بهذا سارقين للحصان أيضا.

وجرى آيِبا إلى الداخل؛ باحثا عن أبيه؛ وجده بين فروع عروش كروم يُقلِّم فروعها، فأخبره، فتوقفت يدا الوالد عن العمل، وظل الـمُقلّم متعطلا، ونظرت عينا الكهل برزانة إلى إبنه، والذي تفوه به وبصوت هادئ هو:

- لا تعود مرة أخرى إلى الحديث في هذا الأمر، ولا تُخبر به أحدا؛ إننا لسنا في مأمن في هذه الناحية الخطرة.

فأُلجِم لسانه، وتراجع وقد أدرك ووعى بخطورة ما شاهد وما سمع.

كان هذا قد حدث منذ عشرات السنين، ولم يخطء، فصاحب المطعم وهو الآن شيخ، هو ذلك الشاب القوي البنية، والمجيد في إرسال لجام فرس العربة عاليا؛ هامزا الدابة.

وقال بينه وبين نفسه، وهو ما يزال يسترق النظر إلى صاحب المطعم؛ كلما ظهر يتردد بين أركان مطعمه والمطبخ؛ مُلبِّيا طلبات الزوار من حين لآخر »... ونفّذت أمر والدي، فلم يغرِني لساني بلذة الثرثرة في ذلك الموضوع، الذي لم تكن تُحمد عقباه في ذلك الزمن على الأقل«.

وهذا أحد السارقين الهاربين ما يزال حيا يُرزق، ويُدير مطعما فخما في ملكه، ويخطر في مشيته آمرا في رَقِيقِه؛ وزاجرا وناهيا إياهم، ولا يُهمل له قرار يتخذه في الحين، ولا يتقاعس عنه أحد ممن يخدمون المطعم... اِجتاح هذا الكلام خاطره، واحتوت عيناه الـجُدُر والسقوف والأرض الرحبة، وآب متحدثا في داخله »أهذا من ربح استثمار ذلك المال المسروق... مال ضيعة المقتول؟«.

وقد مر على ذلك الحادث زمن، فماذا تتالى عنها من الأمور؟ هل طُوِي ملف البحث عن الفاعل وإلى الأبد منذ ذلك الوقت؟ وهبْ أنه عرف بأن هذا الذي يجلس بين موائد الحديقة الخلفية؛ ينتظر أكله من أحد طواجين مطبخه تَذكّره، ولم تغب صورته عن ذاكرته قط، فهي ظلت حاضرة في مُخيلته وتأبى أن تتركه، وإن كان يحاول أن يمحوها؛ إلا أن الذاكرة لا أطوار في عمرها، ولا تشيخ ولا تموت، وأن النسيان لا ينال من أي مما وقع في ماض حياة الإنسان، لو حاكمت الذاكرة الناس على أفعالها المنكرة لفني العالم... فماذا سيفعل؟

إذا ما بُحِث عنه آنذاك، وأُلقي عليه القبض، وحُوكم عليه، ونُفّذ الحكم فيه؛ فهو قد نال جزاءه، أما إذا كان ما يزال صاحب المطعم هذا هاربا من العدالة، فهو القاصد لهذا المطعم النائي للإسترخاء وللإستجمام؛ قد فتح ملف قضية سطو وقتل؛ ظل منذ عشرات السنين مُهملا في دهاليز المجهول.

وقُدّم إليه الطاجين على المائدة، ورُفِع غطاؤُه القُمعي، وارتفع بخار الطهي، وفاحت به روائح لذيذة؛ تُحرّك شهية معدة جاعت وأضناها أكل البيت ومطاعم المدينة اليومي والروتيني. لكن هل ما يزال يتوق إليه بعد الذي استحضره من الماضي المخيف، والطاجين من صَنْعة مطعم هذا الرجل المتعدي؟ وما إن تناول منه ثلاث لقمات حتى عافت نفسه وأرادت الانصراف عنه، إلا أنه تابع الأكل مُكرها، حتى لا يُلاحظ عنه ذلك صاحب المطعم، فيُصبِح محط ريب، فأكل حتى لم يَفضُل في الصحن الطيني إلا بعض العظام؛ أُستُعصِي عصبُها ونُتف لحمها، فلم تنال منها القواطع، وقِطعا من البطاطس والجزر، ولم تغب عينا مالك المطعم عن الآكلين، فهو يسعى إلى الاطلاع على العلامات التي تُؤدي إليها الطواجن؛ هل هي إعجاب ورضى أم شيئا آخر؟ وقد رأى أنه قد انتهى من الأكل، فقَدِم إليه مُبتسما كعادته، وما دام الجالس الوحيد، وبدون صُحبة فقد جلس صاحب المطعم على الكرسي الشاغر، وسأل يريد الرأي في الأكل:

- بالصحة والعافية... ما رأيك في طريقة صنعنا لِأُكلة الطاجين؟

حاول أن يُخفي الآثار التي يمكن أن يتركها تَوصُّله إلى معرفة هذا الشخص على وجهه، ومداراته بابتسامات مصطنعة، وبالتفاتاته في الصحن، وفي وجهه هو، لكن غلبه الفضول الذي قد يؤدي إلى رد فعل خطر، وظل يحدق في وجهه ويتحقق من العلامات الباقية من شباب ذلك العهد، وهو يقول:

- ما أراه في الطاجين ليس مجاملة لك، فهو بحق لذيذ، وقد نجحت الأيدي التي صنعته في ذلك، وبالطبع هذا هو الهدف لجذب المزيد من الزوار والزبناء.

وكان صاحب المطعم وهو الذي امتد به العمر، وله خبرة في سبر أغوار نفوس الناس؛ قد لاحظ التفرس الطويل في وجهه، ولم يفطن وقتها بما وراءه، ونطق باطمئنان إلى رواج طواجنه على جميع الموائد تقريبا؛ قائلا:

- لم أدرس فن الطبخ، ولم أتعلمه من طباخ معلم، فالذي فكرت في العمل فيه هو أنني عندما هاجرت إلى إيطاليا، وعملت هناك مساعدا في عدة مهن وحرف مدة ثلاثين عاما، ولما عدت لم أجد من الشغل المناسب، والذي يضمن مدخولا قارا إلى حد ما هو فتح مطعم، واخترت له هذا المكان لوجوده بجانب الطريق الساحلي، ليقصده السائقون المهنيون، والمسافرون في أيام عطلات نهاية الأسبوع، أو عطلات فصل الصيف السنوية.

لم يُضف على سيرته العملية هذه المقتضبة أو الموجزة كلاما آخر، وكان ينظر في عين الذي أمامه، وطال تمليه لملامحه وقراءة ما في داخله، وما يُمليه عليه عقله؛ إذ كان قد لاحظ كيف انبتّت عينا المتغدي على الطاجين فيه، ولم تَمِل إلى أي جهة، ولم تَرمش جفونه إلا مرة واحدة، فغزا صاحب المطعم شك آسر، وقام من جلوسه وقد تغيرت سِحْنته، وتحول ولأول مرة من رجل ذي ثقة في النفس؛ لا يُطأطأ الرأس استخذاء ولا ينهزم، ولا يخاف من أي أحد؛ إلى آخر زُعزِع في وجوده، وسار ولم يلتفت، فقد أدرك أن هذا الذي لم يعتد الجلوس في المطاعم والمقاهي، ولم يألف الذهاب إلى الأماكن البعيدة والمعزولة؛ يعرف حكاية من حياته، والحكاية المثيرة والمخيفة كان حدثها قد مر في سنون الشباب، وفي حيوية وخفة هذا الأخير، وطيشه واندفاعه الغير المحكم ومغامراته الغير المخطط لها؛ هي المرافقة للسطو والقتل؛ هذا الأخير كان يجهل فنه آنذاك وكيفية الإقدام عليه.

وعاد إلى عمله دون أن يُلقي أي نظرة إلى الوراء، فقد كان أدرى بقراءة العلامات المرتسمة على ملامح ذلك الذي يجلس إلى إحدى موائد محله، ولم يكن شكلها الغريب إلا تعبيرا عن السر المخفي، وآثار إحساسه هو الرهيب؛ طفت على الوجه.

لم يعد إذن ليكون للطاجين طعم، ولم يرُق لصاحبِنا أن يستطيبه أو يستمرئه؛ لصورة الماضي المريعة الـمُستحْضرة، ولم يطب له الجلوس أطول مدة، وفارقته رغبة الاستمتاع، أو الميل إلى هدوء هذا المكان، فقام على رِجلين مرتجفتين وتائهتين، وخزر في الناس المنكبة بلذة، وفي مداخل بناية المطعم، وخطا وهو يرجو أن لا تتبعه عينا ذلك الرجل المتقهقر إلى الماضي الذي يكاد أن يضرب في جريمة البشر الأولى، وظهر أحد المستخدمين؛ ناظرا إليه بعينين قلقتين ومتحفزتين؛ قهرهما أمر صادر عن مالك المطعم، فأدرك أنه مبعوث به لأخذ نقود مقابل الطاجين، فأفرغ هو في يديه ما كان في جيبه معدودا لذلك، وقطعت قدماه المسافة التي كانت تفصله عن سيارته، وما إن أدار المفتاح، وتناغمت عناصر المحرك الميكانيكية؛ حتى كان يجاري انعراجات طريق الرجوع، وحتى لا يُخطيء أو يَغفل أو يُهمِل ما يُسبب في وقوع زيغ عن خط السير، أو اصطدام أو انقلاب مميت، وحتى ينسجم مع حركة التجاوز، أو إعطاء فسحة أو مُهلة للذي يتجاوزه، فإنه كان ينظر مرة بعد مرة في المرآة الداخلية، والذي لفت انتباهه في إحدى المرات ظهور سيارة سوداء اللون؛ في إطار المرآة المستطيل؛ حافظ سائقها على مسافة معينة تفصل بينهما، وسبق أن شاهد جزءا من مؤخرة هذا الطراز يظهر من مدخل مَرْأَب يُحاذي المطعم الذي تناول فيه طعامه، وغادره منذ عشر دقائق. هل هذه السيارة تتبعه؟ هل سائقها يمشي خلفه؟ وإذا ما استمر في متابعة عودته، فسيتعرف الـمُقتفي للأثر على الحي الذي يسكن في أحد منازله، فما إن ظهر له من بعيد طريق في الجانب الأيمن؛ يؤدي إلى أحد شطآن الاصطياف حتى انعطف إليه وخفّض السرعة، وألقى نظرة خاطفة إلى الوراء؛ إلى السائق الذي يقود الميرسيديس، والذي لم يكن في باله أن السيارة التي كان يتبعها ستنعطف، كان يرتدي نظارة حوَّل شكلُها هيئة رأسه إلى شخص غير معروف، ولم يعرف أنه صاحب المطعم إلا من شعره الأشيب، ومن ياقة قميصه العريضة والزرقاء اللون، إذن فهو يتعقبه، فتابع السير في ذلك الاتجاه بسيارته، وهو يقرأ في لوحة إرشادية إسم (مقهى الرمال الذهبية)، ثم ركَّن السيارة في صف من السيارات، وصعد دَرَجا، وجلس على أحد كراسي مائدة المقهى ناظرا إلى البحر، فالحل الذي توصل إليه وأملاه الظرف الآني هو يكفي أن يظل هنا جالسا يفكر في الكيفية التي ينفلت بها من الطريق الساحلي، ويؤوب إلى بيته كما غادره؛ لا يعرفه أي أحد، من أن يتابع طريقه فيهتدي هذا الذي يتبعه إلى حي سكناه، وهو ما يزال يستجمع تفكيره، ويتغلب على خوفه ويلم بما يحدث الآن؛ إذ طرق أذنيه هدير محرك (الميرسيديس)، والتفت ليرى تقدم مقدمتها خلف سياج المقهى النباتي وتوقفها، وظهور مالك المطعم يرتقي الدرجات قاصدا إياه؛ تاركا جسده الممتليء يستقر على كرسي، وقال بعصبية، ووجنتاه اللتان تكادان تذوبان بالشيخوخة ترتجفان:

- لا تـُماريني، فإنك تعرف حكايتي، وإني أقول كلاما عليك أن تصدقه، وقد مرت أكثر من ثلاثين سنة على ذلك الفعل؛ أنني لم أقتله؛ نعم لم أقتله، فالذي رافقته للسرقة هو الذي أجهز بضربة على رأسه بقضيب من حديد، لأنه أراد مقاومتنا؛ بأن وجه بندقية صيد إلى جسدينا، وكان يظهر من عينيه أنه كان يحاول بكل ما يتسلح به أو بكل جهد قوته في انقاذ حياته وماله.

حار الـمُتعقَّب فيما سيتكلم به، ويدفع عنه اندفاع هذا الرجل الهستيري، الذي بدأ ظهره ينحني بعمره الذي تعدى سبعة عقود؛ ويفكر فيما يمكن أن ينطق به ليُكذّبه؛ بأنه لا علم له بما قام به منذ أعوام مضت، فقال:

- كيف عرفت يا سيدي بأني أعلم بحادثة القتل هذه التي برَّأت نفسك منها؟

رفع الرجل أُصبُعه في وجهه وجسده يرتجف، وقال:

- لا تتجاهل؛ فإني قرأت على وجهك ما تحتفظ به ذاكرتك، وما تُبطِنه نفسك.

رد هو قائلا وقد خاف من بطش الرجل:

- تنحّى عني أيها الرجل... وهبْ أني على علم بما حدث، فما تظن أني فاعل الآن... لا شيء.

برقت عينا الرجل وضحك بانفعال حاد، وقال:

- ستشي بي... ستُبلّغ بي إلى جهاز الأمن ليقبضوا علي.

رد هو محاولا النهوض والانصراف من المكان:

- ولأي هدف؟ أنا لا أُبلّغ بأحد، وكيف أنقل فَعلتَك إلى إدارة الأمن وقد مرت عليها عدة سنوات، وإن هذا لمن أفعال من لا يقدرون العواقب، ولماذا أزج بنفسي في سرقتك، وفي قتل إنسان أنت تُبرِّئ نفسك منه.

لم يبال لما وعد به نفسه بأنه بعيد كل البعد عن قصته، فقال متوعدا إيّاه:

إنك معروف الآن، وسأترصد لتحركاتك، وإذا ما اشتهت نفسك إلى الاخبار بي سأقتلك.

ثم تذكر شأنا ذا بال؛ كان غائرا في نفسه، فعاد إليه هدوؤه قليلا ما، وقال، وكانت نفسيته المتأثرة بذلك الحال قد ملأت العين بدمع يلمع، وباحمرار حزن دفين:

- كنا؛ أنا وهو والآخرون قد رمينا بأنفسنا إلى أمواج البحر الهائجة، وسبح من كانت له القدرة على مجاهدة الأمواج الضاربة لصخور الشاطيء بقوة قد تُهشّم عظامك. كان قائد القارب يمسك بمقبض المحرك الموجه؛ وهو المهرب للكائنات البشرية إلى سواحل إيطاليا؛ إما هم أحياء أو كثل من لحم تجرفها تيارات البحر الأبيض المتوسط إلى الشواطئ المهجورة، ويصيح فينا بذلك الأمر المريع؛ أنِ اسْبحُوا، فشاطئ النجاة والوصول يظهر من وراء ضباب نسيم الصباح، وسبحت مع السابحين، وناديت عليه فأجابني صاحبي بصوت كليل ومختنق بماء البحر المالح أنه هناك، ولم يرد علي في المرة الثانية، فعرفت أن موجة عاتية أطبقت عليه، وخرت به إلى أعماق البحر، ولم يقتله فقط الموج المائج، فقد كان الجسد الآدمي لا يتحمل درجة الماء التي انخفضت إلى مستوى التجمد في ذلك الفصل، فقد مات الذي قتل مالك الضيعة غريقا، ونحن نحاول أن نطأ أرض إيطاليا مهاجرين سريين ؛ أرض حلم الثراء؛ كنا نتزود به في مُخيلتنا الجدباء، وفي قلوبنا الظمآنة ، ولم أعلم عن أي خبر عن جثته، بل اختفيت عن العيون الراصدة، وتحاشيت البحث عنه، أو الاستعلام عن ما إذا رمى البحر بجسده، لأني كنت أريد أن أفلت بنفسي من المحققين في جريمة السطو والقتل، وأن أنجو من الغرق.

وفي غمرة هذا الجو المشحون بلقاء مُفاجيء بين المشترك في السرقة، وبين من تعرف عليه، وباسترجاع حادثة القتل، وأيام الهجرة عبر البحر العصيبة، والنهاية المؤلمة آنذاك لأحد ذانك الشابين المغامرين والمندفعين بحماس خادع، وبمحاصرة صاحب المطعم الغير المنتظر؛ طرأت عليه فكرة ليُخلي سبيله، فقال:

- أنصت إلي أيها الرجل إلى ما سأقول لك؛ حكم عقلك فيما اعترفت به، فإني لست شاهدا على ما ارتكبته، وليس لدي أي دليل على ذلك. كنتُ فتى أتسلّى تحت ظلال الأشجار بمزمار من قصب؛ لا أعي بما يحدث في الواقع، ومرت عربة بشخصين يتعقبهما آخران؛ يركبان دراجة نارية؛ هذا كل ما أتذكره؛ أكنت أنت أحد المسرعين بالعربة؟ فإني غير مُتيقّن، وإن حاولت فإني أكون قد زججت بنفسي في أمر لا أعلم بتفاصيله.

نقر مالك المطعم بأصابع يده اليمنى على سطح المائدة بتشجنج، وقال:

- نعم... ليس لك دليل مادي قاطع... نعم...

لقد أنهك رجل مطعم جانب الطريق حِمل فعل إجرامي والعُمُر الطويل، فأدار وجهه جهة البحر، واستنشق بعمق وبيأس هواء مشبعا ببرودة البحر وأعشاب وطحلب هذا الأخير، ثم ترك المكان.

تنفس الصعداء ذلك الموظف العمومي، وذهب عنه الخوف من جدية الموقف، لقد شعر بمدى ثقل الماضي الرهيب على الرجل، فهو قد عاش هذه المدة المديدة بشعور يومي؛ بذنب تزداد حدته مع دنو الأجل، وبعد أن دبت في الجسد أعراض المرض، ثم آوى إلى بيته، ولم ينم إلا ساعات قليلة، ولما استيقظ في اليوم التالي؛ أحس برغبة شديدة في معرفة أول ما حدث، فالذي على علم به الآن هو الجزء الأخير من الحكاية؛ ثم قتل مالك الضيعة، وهروب المهاجمين بمبلغ من المال، وحتى يختفيان عن المحققين في الجريمة، وتعقُّب المفتشين لهما؛ لا يُعرف لهم مكان يمكن أن يتواجدا فيه، فيُلقى عليهما القبض؛ هاجرا إلى إيطاليا سرا عبر البحر، واستطاع أحدهما السباحة إلى أحد الشطآن وغرق الآخر، بعد أن لم يعد بالإمكان اقتراب قارب الهجرة السرية أكثر؛ لاحتمال وقوعه في قبضة سلطات خفر السواحل البرية والبحرية.

فكيف تسللا إلى الضيعة؟ وكيف اهتديا إلى مكان المال؟ وكيف ضبطهما المالك فاصطدم بهما؟ وفي النهاية ما مآل أملاكه بعد موته؟

فما هو السبيل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة؟ ويعود مُراجعا نفسه، فيقول بأن الواقعة لا تعنيه في أي شيء، ويستمر في تَرداد تلك الأسئلة التي تجيب عن محاور الحدث، فيُقرِّر في الأخير أن لا يتراجع، فيُسافر إلى الجهة التي كانت فيها ضيعة صاحبها المقتول، وأن يسأل من ما يزال يتذكر واقعة الفاجعة وأن يتتبع الخطى.

للذهاب إلى هناك عليه أن يقطع مائة كيلومتر، وهذه ليست بمسافة طويلة، وقد يكفي يوم واحد على الأقل ليجد أحدا يتكلم إليه، فيُمسك بالخيط الذي يُفكِّك كُبَّة الحياكة.

وقد سار في الطرق المؤدية إلى هناك، وكانت المفاجأة الكبرى، وهي ذلك الانفجار العمراني؛ كأن الأراضي الـمُغِلّة والمسارب التي كانت تربط بينها، والتي جرى فيها حافي القدمين مُنتشيا بسخونة ترابها المذرور بحوافر الدواب وعجلات العربات؛ قد أينعت هذه العمارات العالية والمكتظة بالسكان، وهذه الفيلات المفروشة أرضيتها بِبُسط معشوشبة مُستنبة، وبُسط بعشب اصطناعي؛ كل ما رآه شكلته الأيدي الماهرة، ولا أثر للطبيعة فيه إلا شجيرات عاقرات أو لا لاقح لها؛ لا تُنبِت حلوا ولا حامضا، وهي للزينة فقط، ولم يَفْضُل من ذلك الزمن إلا طريقا قديما تقف له الممهدات الميكانيكية بالمرصاد، وفي أحد جانبيه دار متهالكة البناء، وآيلة للسقوط، ما يزال يشغل جزءا من واجهتها حانوت حلاق؛ كان أبوه يجره إليه جرا، وهو صغير السن كارها لماكينة قص الشعر المخيفة؛ ليحلق شعر رأسه، وواجهة الدكان لم يتغير فيها أي شيء، قبل أن يدخل إليه نطق بتحية السلام، ولما ردت مجموعة من الرجال بالمثل أطل برأسه نحو الداخل، فرأى رجلا كبيرا في السن جالسا يتحدث؛ على كرسي انتظار الزبناء الطويل والوثير، والحلاق عاكف على جز شعر الجالس على كرسي الحلاقة، وأطال النظر في وجهه، فعرفه؛ إنه حلاق الطفولة، وإن تقلص الجلد وبدأ ينكمش، وذبلت الشفتان، وبرحت بعض الأسنان الأمامية فمه إلى غير رجعة، وإن ناداه باسمه فلم يلتفت، ورد بأن» نعم «؛ لأنه من المألوف أن يسمع الحلاق تحية السلام؛ سواء من القادم للحلاقة أو المار من أمام حانوته ممن يعرفونه، وأن يسمع اسمه، وألقى عليه الحلاق في الأخير نظرة باردة، ثم عاد وظل يحدق، فتذكر الوجه وقال:

- إني لم أنس صورتك، فأنت ابن حارس الضيعة.

أجاب هو بابتسامة المغتبط بلقاء الوجوه الطيبة القديمة:

- نعم؛ ولم آت لأحلق، فإنك الحرفي الوحيد الذي يحتفظ بما مر من أحداث الأفراح وأحزان المصاب، والوقائع المؤلمة في هذه المنطقة، ولا أتذكر أنا غير حادثة القتل التي تعرض لها مالك الغِلل، كانت على ما أذكر غير بعيدة من هنا.

ولم يكد يُنهي كلامه حتى تكلم الشيخ الجالس الذي كان صوته يُؤنس الحلاق الصامت والـمُركِّز بانتباه على آلة الحلاقة وصاحب الرأس المحلوق؛ قائلا بحماس:

- مر على تلك الواقعة زمنا طويلا.

قال الحلاق:

- إنها حادثة قتل قديمة، وحسب علمي فإن القاتل ظل مجهولا؛ لم تُوفّق إدارة الأمن في الاهتداء إليه.

قال الشيخ:

- كانت قد روّعَت جريمة القتل تلك السكان، وغيرت حياتهم من المسرات والطموح إلى أحزان وخوف وإحباط، وعدم الثقة في المهاجرين الغرباء القاصدين للضيع للعمل في مواسم جني ثمار الأرض، وصارت منذ ذلك الوقت حكاية يتناقلها الناس فيما بينهم، ويرويها الكبار للصغار، والآن غدت من الماضي، وزحف العمران، وأُعطيت أسماء غريبة على الأذن المحلية للشوارع والأحياء، وسكن البيوت القادمون من بعيد، وانقرضت أجواء الواقعة الدموية التي رانت لثلاثة عقود فقط، كما مات مُتألما من كانت له قربى أو صداقة بالمقتول أو من كان يُجاوِره في السكن.

ولو لم ينطق الحلاق لمضى الشيخ يُطيل في الكلام، ويمتد به التذكر إلى التأسف على ما مضى من حياة جيله، التي لا يذكر منها إلا المفاخر وإنجازات حيوية الشباب، وبطولات الكمال الجسماني؛ إذ قال:

- ولم تنته المأساة عند القتل، فبعد الدفن ونهاية مدة الحزن على المصاب الجلل؛ اجتمع الورثة، فحضر من لم يعُقه أي شيء، وتوكل من بينهم على من كانوا يقيمون خارج البلاد، وعددهم ما فوق العشرين، لأنه لم ينجب إلا ابنة، فكان الأحياء من إخوته وأخواته، وأبناء وحفدة الأموات منهم؛ جميعهم من الوارثين.

قال الشيخ:

- يظهر من كلامك أن حالة الأرملة واليتيمة بعد تصفية التركة لم تكن سارة.

قال الحلاق:

- بالفعل ذلك ما وقع.

ولم يضف الحلاق على ما تفوه به كلاما آخر؛ حتى لا يُطلع الجالسين في محله عن ما قد يشيع بين الناس، وإن فرّقت المدينة الزاحفة أفراد جماعة الضيع الفلاحية، الذين يكونون راغبين في معرفة نهاية أسرة مالك الضيعة الثري المقتول.

وكان هذا ما فَهِم من الحلاق، وما قاده تحليله إليه، ورغم هذا فإنه تشجع وسأل الحلاق بنبرة استعطافية:

- إن قصة هذين الفردين؛ الأرملة والابنة أثرت في نفسي كثيرا، فما أقسى ظروف الحياة، فلا أستحيي أو أمتنع أو أتردد فأسألك.

قال الحلاق برضى:

- فإني أُجيب إن بالتلميح أو بما يفي بسؤالك بدون مُراوغة.

فسأله قائلا:

- أو تعرف أين تُقيم الآن الابنة؟

أجاب الحلاق بدون تردّد:

- ... ولما لم ترض البنت بعد مقتل أبيها وتوزيع الإرث بالسكن في المدينة مجهولة؛ لا يعرف أحد ماضي والدها المجيد، الذي كان من كبار مٌلاّك الضِّيع، وأن تنتهي حياتها في بيت من بيوت المدينة ببؤس وبفقر؛ فإنها اِشترت قطعة أرض تبعد عن عمران المدينة، وبالضبط بعد الانعطاف عند ملتقى الطرق؛ عند الكيلومتر مائتي وعشرة، وبنت عليها بيتا مُتواضعا، وهي تتعيش الآن من فلح الأرض وتربية الدواجن والمواشي والدواب، وتجيد ركوب الخيل كما كان يجيدها والدها، ويراها الناس هناك ممتطية صهوة جواد هزيل في كل صباح؛ هذا ما نقله إلينا بعض ممن يزالون يعرفونها.

ما إن انتهى الحلاق من رواية نهاية القصة الدموية؛ حتى شكره وأنهى زيارته القصيرة لمحل الحلاق بتحية الانصراف، وركب سيارته وقادها بسرعة تطوي المسافة المائتي عشرة كيلومتر.

نظر إلى جهاز تسجيل ما قطعته السيارة من الكيلومترات، فخفّض السرعة وانعطف مستمرا في طريق ضيق مُشظِّي الجانب مسافة ثلاثة كيلومترات، فوجد أرضا مُسيّجة بأشجار؛ تملأها تغاريد العصافير والطيور، وبين أشجار الليمون والبرتقال واللوز ظهر له بيت صغير مطلي باللون الوردي الباهت، ولها باب على جانب الطريق، فقرعه بقوة بحيث يصل صوت الدقات إلى من في السكن الموغل في وسط البستان، فنبحت كلاب بسُعار، وظلت تنبح حتى تلقت أمرا ممن سمع الطرق بالسكوت، فُتِحت إحدى دفتي الباب الحديدي، فظهرت امرأة في عقدها الستين؛ مُتشعّثة شعر رأسها الأشيب، ترتدي لباسا طويلا؛ ترفعه عن ركبتيها؛ رابطة أطرافه بخصرها، ويستر سيقانها كُمّا سروال قصيران، وترتدي على جذعها صِدارا صوفيا؛ حيك باليد من خيوط من الصوف، وتحتذي فردتي حذاء ذو رقبة من البلاستيك؛ طالتا حتى قاربتا الركبتين، فلقد كانت المرأة تعمل في العَرصة أو في خُم الدجاج أو في زريبة الماشية أو في إسطبل الدواب.

حياها فردت على تحيته، وتساءلت بملامح وجهها قبل أن يتحرك لسانها، تستفسر قائلة:

- نعم... أ عندي غرض أقضيه لك؟

قال؛ حتى لا تصرفه عنها، لأنها كانت حازمة للعمل:

- ليس لي أي حاجة عندك سيدتي؛ ما أريد قوله هو أنني سبق وأن رأيت السارقين لمال والدك يرحمه الله، وكان القاتل أحدهما.

خففت قبضة يدها اليمنى عن مقبض الباب، وتقدمت خطوة خارجة، وظلت تحدق في وجه هذا القادم الغريب الذي هو على علم بالقصة الدرامية كاملة، وقالت مُقطّبة الحاجبين:

- أو أنت تتكلم بصدق؟

قال بثقة:

- نعم؛ ولماذا أقطع مسافة ثلاثمائة كيلومتر لآتي إلى هنا؟

قالت باستنكار وبشجاعة:

- قد تكون نصابا، كما نصب علي ذلك الذي أغراني واستمالني بحب كاذب، واستحوذ على ما ورثته من مال، فطلّقته.

قال بصوت خافت لم تسمعه بوضوح:

- هذا فصل آخر من المأساة.

قالت وهي ما تزال تجيل ببصرها في هيئته:

- نعم... ماذا تقول؟

قال:

- سأحكي عليك ما يُثبِت صدقي.

فروى لها عن مرور الشابين سريعا بالعربة، وهو واقف بجانب سياج الأشجار يتلهى لهو سن الصغر؛ بمزمار من قصب، وزاد فقال:

- تعرفين يا سيدتي ما تركه هذا من خوف ورهبة في نفسي آنذاك، وظلت الصورة ماثلة في ذاكرتي، والحادثة لا تُنسى.

صدقته فدعته إلى الدخول، وأوصدت الباب، وقادته إلى مكان أغصان كروم العنب؛ فيه كراس ومائدة من قصب، ثم أشارت إليه بالجلوس على أحد الكراسي، وجلست هي على آخر باسترخاء لأخذ نفس عن ما سمعته، وطفح وجهها بالدم، واغرورقت عيناها بالدموع، وتنهدت بعمق، ثم أجهشت في البكاء، وقالت بصراحة الأسيف:

- أًعِد علي ما رأيت في ذلك اليوم المشؤوم.

فأعاد على مسامعها ما شاهد؛ في هذه المرة كان يتكلم بالتفاصيل وبإحكام؛ كانت هي تُنصِت باهتمام وتتأمله؛ كان قد بدا لها صبيا من ذلك العهد، وقرأت في عينيه وفي ملامحه كلامه الصادق. كان هو قد وعد نفسه بأن لا يُطلعها على السارق الباقي على قيد الحياة، حتى يحين الوقت لذلك، وعلى مصرع الثاني وهو القاتل غرقا في مياه البحر.

قالت بيأس وبواقعية وهي تُكفكف دموعها:

- ما الفائدة الآن من كل هذا؟ فقد مر على الحادثة مدة زمنية طويلة؛ لم يُعرف لحد الآن مكانا لهما، وقد أتت السنوات على أعمار الناس، فرحل من رحل، وينتظر من ما يزال من المسنين القدر المحتوم، ولا أحسب إلا أن القتلة يموتون دقيقة دقيقة بتأنيب الضمير، وهم الآن إلا اصطناعا للمظاهر.

واستطردت قائلة بحنان:

- لن تبرحني الآن، فإني أحسست بأنك عشت طول عمرك تتذكر ذلك اليوم الدامي مثل ما عِشناه، وما يزال مشهد والدي وهو ملقى على الأرض، ورأسه مشجوج ينزف سيولا من دمائه؛ لا يفارق مخيلتي.

وقامت من جلوسها، ثم غابت في ممر بين أغصان الأشجار وأُصص نباتات وأزهار الظل، وبعد وقت قصير عادت حاملة صينية عليها براد تقليدي الشكل؛ من تركات الماضي الزاهر، فقدمت له كوب شاي ساخن.

بعد أن رشف الشاي المنعنع عدة رشفات، سألها:

- والوالدة؟

قالت خافضة النظرات وبتنهيدة:

- توفيت بعد عمر طافح بالأحزان.

قال:

- الله يرحمها

قالت له بعطف:

- أعِدني أن تزورني من حين لآخر، فإن زياراتك تُرفّه عني وتُنسيني مأساة الماضي.

وعدها، وأكمل شرب كوبه، وانصرف يريد الرجوع إلى بيته، بعد أن شيعته إلى الباب، يشملهما معا نباح الكلاب المسترسِل، ولوحت له بابتسامة وبدموع فرح جديد هلّ عليها في ذلك اليوم.

وقد وفى بوعده، فكان يتردد على بيت ابنة الثري المقتول؛ كلما سنح له الوقت، وفي أيام عطلات نهاية الأسبوع، واطمأنت هي إليه، واستأنست به في وحدتها، ومالت إليه بعاطفة الأخوة؛ ذلك أنها لم ترزق بأخ، وظلت محرومة بإحساس بوجوده، كما فقدت حنان الأبوة بفقد والدها، وحنان الأم بفقد هذه.

وكاد أن ينسى تهديد مالك المطعم له، وكأنه أدرك بحسه أنه بدأ يشيخ، وانهار جسده بأثقال واقع الحياة، وتحت تأثير نداء العقل، ولومه لنفسه. لم يكن يتصور هو أو يطرأ على باله أنه سيحيى نهاية القصة، فماذا جرى؟

كان في ذلك اليوم في إحدى زياراته لآبنة الفلاح الثري المقتول، فكان قد غادر الطريق الرئيس بسيارته؛ بعد أن قطع مسافة الكيلومترات المعتادة، وانعطف إلى يمينه ليسير في الطريق الثانوي الضيق مسافة الثلاث الكيلومترات ليصل إلى بيتها، ولم يفطن إلى وجود سيارة كانت متوقفة عند ملتقى الطريقين، الذي غالبا ما يكون خاليا؛ بوجوده في امتداد الأراضي الزراعية الشاسعة، ولم يفطن إلى وجودها أول الأمر، فما إن انعطف حتى رآها في مرآة سيارته الداخلية، وسائقها يحاول اللحاق به، فشعر بخطر يتهدده، فأسرع بالسيارة، ولم يستطع الإفلات، فتجاوزته السيارة التي تتبعه وسدت دونه الطريق، وحاول أن يُراوِغ إلا أن سيارته زاغت به عن الطريق، وإن كبح دوران العجلات السريع، إلا أن هذه وبتأثير قوة الاندفاع اِنزلقت ساحقة حجارة وتراب جانب الطريق، وغاصت به مقدمة السيارة في قناة تصريف المياه التي تفيض في فصل الشتاء؛ غير عميقة، والتفت بخوف، فرأى شخصين يهبطان من السيارة الغريبة ويتوجهان إليه، تعرف على أحدهما؛ إنه صاحب المطعم، كان يتحرك ببطء؛ بجسده الممتلئ والمترهل، والرجل المصاحب له اِنهال على الزجاج الأمامي للسيارة تكسيرا، فاستطاعت يده أن تمتد إلى المفتاح الداخلي ويفتح باب السيارة، ويُحكم بقبضة قوية بياقة قميصه ويُخرجه بقوة مُدحرِجا إياه، ورأى مالك المطعم يرفع قضيبا ثقيلا من حديد عاليا ليضرب به على رأسه؛ إلا أنه مال بجذعه جانبا، فتفادى ضربة قاتلة، وبقوة حركة الساعدين ضرب القضيب الأرض، وكان صاحب المطعم سيحاول للمرة الثانية، إلا أن صوت بندقية دوى في المكان، وتردد صداه بعيدا، فالتفت الرجل المرافق إلى مصدر الصوت الحاد، فرأى كائنا مُلثّما يصوب ماسورة بندقية إليهما، فركب السيارة وقادها هاربا، واستطاع هو النهوض ليشاهد ذلك الملفّع باللثام يضرب بمدراة صاحب المطعم من الخلف؛ على كتفه العريض، فسقط منبطحا على الأرض، وزاد عن ذلك بأن نزل برؤوس المدراة على عنقه، وصاح عليه متوعدا إياه:

- لا تتحرك أيها السافل، وإلا غرزت المدراة في أوداج و وأوردة ونحر عنقك.

والذي هُرع إلى المكان هما راعيان كانا يرعيان شياهما قريبا من ساحة المعركة، وقد تابعا باستغراب وجزع السباق الجنوني بين السيارتين، والهجوم على أحد لقتله، وأول ما قاما به هو إبعاد الملثم وإزالة سلاح المدراة من بين يديه، وبُهِتا لما عرفا من يكون بعد أن جلس على ركبتيه لاهثا وأزال اللثام، إنه ابنة مالك الضيع المقتول، فأشارت إليهما بأن يُوثِّقا يدي هذا المنكفئ على الأرض، وتسليمه لرجال الأمن، إنه أحد الاثنين؛ الذي قتل أحدهما والدها.

وسارت بثبات ووقفت أمامه ترنو إليه بهم وقالت له:

- وإن لم تخبرني بأنك صادفت أحدهما، فإني عرفت ذلك بحدسي الذي لا يخونني، قرأته في عينيك، وانتبهت إلى أن راكبي سيارة كانا يراقبانك، ومرا كم من مرة من هنا؛ يتحينان فرصة الانقضاض عليك، فقررت أن أحميك منهما، وإن تطلب مني ذلك الكثير.

واستطردت بيقين:

- إنه كان يريد أن يرتاح من سياط الضمير، فجاء يُقاتل بيأس، وقد امتد به العمر، والجزاء على فعل غير أخلاقي يُريح النفس الـمُتعدّية.

وركب معها سيارتها القديمة، متوجهة به إلى بيتها الريفي؛ لتضمد جروحه، تفوح روائح زروع الصيف والغلة والبهائم من مركبتها المنخورة الهيكل بالصدأ، والتي تنقلت بها مُتأهبة للمعركة التي خططت لها، وحاولت أن تنتصر فيها، ذائدة عن هذا الذي قصدها يوما؛ مُتأثرا بحادث شهده وسمع عنه وهو صغير السن، وكان له كبير الأثر في حياته.

***

احمد القاسمي

 

(قِصَّةُ حُنَيْنٍ ما)

مِن حَبْلِهِ السُّرِّيِّ مَدَّ مَشانِقَةْ

مَن ذا يُعِيْدُ عَلَى الغُروبِ مَشارِقَهْ؟

يَبكي الظَّلامُ بِهِ عُصورًا أَدْلَجَتْ

كانت تَفِي فيها النُّجومُ مَواثِقَهْ!

**

شَبَقُ الفُتوحاتِ انتهَى.

وبِغَيرِ أَقدامٍ (حُنَينٌ) عادَ

يَحمِلُ خافِقَهْ

في الوَحْلِ غاصَ جَبينُهُ،

مِن بَعْدِ ما رَفَعَ السَّماءَ بِكَفِّ شِعْرٍ شاهِقَةْ!

**

كَمْ أَرهقَتْ أَفلاكُهُ ماءَ الشَّواطئِ!

والقُرَى رَفَّتْ إليهِ مُراهِقَةْ

تَصْطَكُّ فيها، في الأَجِنَّةِ، أَعْظُمٌ

إنْ مَرَّ ذِكْرُ خُيُولِهِ المُتَسابِقَةْ

ويُطارِدُ الجاثُومُ كُلَّ طَريدةٍ

مِن أرضِها بِرُؤَى لِواهُ الماحِقَةْ!

**

رَسَمَ الخَرائطَ بالدِّماءِ حَدائقًا

ما كانَ أَشْهَى كالحَريقِ حَدائقَهْ!

وعَواصِفُ الثَّلجِ التي جَبَهَتْهُ،

واستَضْرَتْ بهِ،

أَضْرَى بهنَّ صَواعِقَهْ!

**

فتَرمَّدتْ عَيناهُ،

واستَكْراهُما حَوَلٌ قَديمٌ في العُيونِ النَّافِقَةْ

وعَراهُ في تلكَ المَعارجِ فالِجٌ

أَغْرَى بحَمْلِ المُوبِقاتِ عَواتِقَهْ

كصَفيحةٍ أَمْسَى:

المُدامةُ نِصفُها،

والنِّصفُ ماءٌ يَستَرِقُّ فَيالِقَهْ!

**

ويُفَكِّكُ الطَّيرُ المُهاجِرُ أَمْسَهُ

فمَتَى (ابنُ فِرناسٍ) يُفُكِّكُ خانِقَهْ؟

اللَّيلُ يَزحَفُ كالجَريحِ بأُفْقِهِ

وعَماهُ يَزحَفُ في العُيونِ الرَّامِقَةْ

والرِّيحُ تَصْفِرُ بَينَ جَنْبَيهِ

كما صَفِرَتْ يَداهُ مِنَ المرايا الصَّادِقَةْ!

**

وهَوَى الكِلابُ نَواهِشًا في قَلْبِهِ.

وَسْمُ الجِباهِ المُشْرِقاتِ:

"زَنادِقَةْ"!

ما مِنْ حِجابٍ؟

لا تَمِيْمَةَ أُلْفِيَتْ؟

يا كُفْرَ عَصْرٍ يَستبيحُ خَلائِقَةْ!

والطِّبُّ؟

ماتَ الطِّبُّ،

شَعبيًّا ورَسميًّا،

وأَهرقَ في الجَحيمِ دَوارِقَهْ!

**

في الغابةِ السَّوداءِ

لا يَبْقَى عَلَى التَّاريخِ غَيرُ فَرائسٍ وأَفارِقَةْ

سادُوا بِعَصْرِ السَّيْفِ والرُّمْحِ الوَرَى

واستُعبِدوا بالعِلْمِ سَلَّ حَقائقَهْ

أَكَلُوا الفَراغَ،

وناكَحُوا، في أَمسِهِمْ،

وكَيومِهِمْ،

رِجْسَ الجِراءِ الطارِقَةْ

سَفِهُوا ثَراهُمْ ،

فاستقالَ سَحابُهُمْ،

لا أَمطَروا أو أَخْلَبُوا مِنْ بارِقَةْ!

**

هذا (حُنَيْنٌ) ضاعَ خُفَّاهُ،

وها انْتَعَلَتْ خُطاهُ بأَخْمَصَيْهِ بَيارِقَهْ

والأرضُ ضاعتْ تحتَ رِجلَيْهِ..

أَلا بِئْسَ السَّروقُ وما يُمَنِّي سارِقَهْ!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

مهداة الى روح الشريف الرضي

في ذكراه الخالدة

***

ذِكراكَ نورٌ، تسامَتْ فيه دُنـيانا

يا رائـداً قــد مَلَكْـتَ القـلبَ أزمانا

*

فكنتَ أصْدَقَ مَــن يَهوَى بناظِـره

حتى كسَوتَ الهـوى أمْـنـاً ورضوانا

*

سَلَكْتَ في الحب نهْجاً لو أُريدَ به

كـما أرَدّتَ لَما زادتْ خـطايانـا

*

هـذا قَصِيدُك، تَهْـدي فــيه قافـيـةً

للـغِـيـدِ حِـيـنـا، وللفـرسـانِ أحـيـانـا

*

فَـفــيه للغـيـد ما يَسْمو اللقاءُ به

بـينَ الحـبـيـبـيـن لا زيفاً وبُـهْـتانا

*

وللفـوارِسِ في يوم الوَغى نَـغَـمٌ

يـهـزُّ خَـيْـلا وأسْــيافــا وأرْســانا

*

يا قدوةً تـفـخـرُ الأجـيالُ أنّ لهــا

صوْبَ المعـالي أهـدافـاً وعــنوانـا

*

لكُـل بَصمَةِ نُـبْـلٍ، مَوْقِــفٌ عَـطِرٌ

وقــد مَـلأتَ الـدُنـا بِــرّأ وإحـسانا

*

أرَّخْـتَ حُـبَـكَ، فـي أجـواء قـافـيـةٍ

ألـبَـسْـتَـهـا عِـفَّـةً، صِدقـاً وايـمانـا

*

أخْـرَسْتَ فيها قريضَ الفُسقِ فازْدَهَرَتْ

مَعـالِـمُ الطُهْـرِ، ترتِـيلاً وتـبـيانا

*

الحُبُّ بالروح لا تزويقَ واجهةٍ

وما وصفـتَه، يُعطي عـنـك بُرهـانا

*

يا مُودِعا في ثنايا القلب سيرتَه

على خُطاك، بروح العـزْمِ مَـسْـرانا

*

تبقى قصائـدُكَ الغرّاءُ صادحةً

على شــِفاه زمانٍ، تـَروي ظـمآنـا

*

بلاغةُ الوصفِ فيها نورُ فَرْقَدِها

مَن رامَ لحنا .. صداها صار الحانا

*

في (ظبية البان) جَسَّدتَ الهوى ألَقاً

فـيـه الـنـقـاءُ مُـضِيئٌ أيـنـمـا كـانا

*

(هامتْ بكِ العينُ لم تتبع سواكِ هوىً)

صَدقْتَ ما قلتَ، تلميحاً وإعلانا

*

عـلى خُـطاكَ، ربـيـعُ الحُـبِّ مُـزدهِرٌ

قـوْلاً وفِـعلاً، وأمناً فـي نَـوايانا

***

عدنان عبد النبي البلداوي

نجوم الليل تُعْرِبُ عن أساها

بِمُقْتضبِ الحديثِ لِمَنْ رآها

*

تقولُ بأنها عَشِقَتْ غلاماً

وكان تَظُنهُ حقاً فتاها

*

تُسَامِرهُ اللياليَ دون مَلٍّ

تَبثهُ من حفيظتهاجَواها

*

بأولِ نظْرةٍ لمَّا رَأَتْهُ

تَمَلَّكَها وبَلَّغَها مُناها

*

بأنْ صار الحقيقة لا خيالاً

تُقَلِّبها بما شَاءَتْ يَداها

*

فتقرأُ فيهِ حاجتها إليهِ

وتُسْلِمَهُ البلاد وما حواها

*

فلبَّاها على عجلٍ صَبَاهُ

وأشركها عَراءً واجْتَناها

*

فضمَّتْهُ هلاكاً إذْ رأتْهُ

بـشيءٍ مُسْتَلذٍّ لايُضاهى!

*

وقَضَّاها لِبُغْيتِها...ولكنْ

تَجاهَلها وأنكرَ أنْ رَ آها

*

وحطَّمَ في كرامَتِها...فأَضْحتْ

بلاشرَفٍ ولابابٍ يَرَاها!

*

وأَنْبَتَ (ذِئْبَهُ) فيها عليلاً

إذا ماجاعَ يَنْهَشُ في حَشَاها!

*

وألبَسها مِنْ الذلِّ احْتِمَالاً

فلاتدري أمامَها مِنْ وراها!

*

فتنزُل عند رغبتِهِ انكساراً

فلاتَقوى عليهِ بما أتاها

*

وتَمْضَغُ حَسْرَةً وتجوعُ حتى

لهُ تَبَعَاً يَسِيرُ بها رِضَاها !

*

نجومَ الليل عاريةً أمامي

يُلاحِقُني إلى الدنيا سَلاها

*

فتَعْجَبُ من تَصَرُّفِها حُروفي

وتسألُ حالها عمَّا دَ هاها!؟

*

فلا تَلقى وضُوحاً واكتِفَاءً

سوى أنَّ الفتى العربيُّ تاها!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن / تعز

                                    

الإهداء: إلى الشعب الجزائري الأبيّ، بمناسبة الاحتفال بعيد النصر 19 ( مارس 1962 م.)

استلقت على أوراق الأشجار الميتة.. ثم استندت بظهرها على جذع شجرة صنوبر وهي ترنو بعينين ذابلتين، متعبتين إلى صالح الذي جلس قبالتها يسترجع أنفاسه... أحست بالوهن يسري في أقاليم جسدها النحيل نتيجة طول السير. والدروب الوعرة التي سلكاها منذ الفجر. قالت والسكون يبتلع الغابة:

-" أمازالت الطريق طويلة أم ,,,؟ "

قاطعها وابتسامة تطفو على شفتيه:

- لا تقلقي يا ابنة العم.. سنصل قبل مولد الفجر إن شاء الله "

- لا. لست قلقة.. أنا مشتاقة لرؤية الثوار.."

وبعد صمت لم يطل أردف صالح:

- سنرتاح بعض الوقت ثم نكمل المسير فالدرب وعر. سنضطر إلى الصعود والنزول مرات عديدة.. وأنا أخشى عليك من صعوبة المسلك..."

- كن على يقين يا صالح أنني لن أتعب.. كل شيء يهون من اجل الوطن.. المهم أن نصل

كذلك رددت بنبرة تشع حماسا لا حدود له

لحظتها كانت الشمس تجمع أشعتها الذهبية معلنة الرحيل.. بينما راح المساء ينشر نسائمه الحلوة، الطرية على أشجار الصنوبر والعرعار والبلوط دون ادني جلبة.

عاشت نعيمة يتيمة.. لم تدخل المدرسة قط... ولم تزر الفرحة قلبها يوما رغم أن الدهر قد قضم من عمرها تسعة عشر ربيعا... ترعرعت متعبة... ضامرة البطن.. ذابلة العينين... محرومة من البسمة.

شيعت والدها في ربيعها الثامن.. لم يزل ذلك المشهد الدموي الرهيب نابضا أمام عينيها.. وهي تراه غارقا في لجة دمه بعدما اخترقت صدره رصاصات المعمرين اغتالوه وهو العائد من حرب لا ظفر له فيها.. كان عليهم أن يقلدوه وساما ويستقبلوه بالورود بدل الرصاص بعدما قاتل إلى جانبهم دفاعا عن بلادهم.

لقد بكت نعيمة , حتى كادت تفقد بصرها..

سألت والدتها:

- لماذا قتلوا أبي يا أمي "؟؟

لكن الكلمات احترقت في الحلق... فاضت دموع والدتها انهارا وسواقي... أجابتها بعد طول إصرار قائلة:

- عندما تكبرين ستعرفين لماذا قتلوا والدك.. ستنكشف لك الحقيقة دون زيف:

و بعد تسعة عشر فصلا دمويا.. أدركت نعيمة لماذا قتل الغزاة والدها الذي حماهم من كيد النازية وشراستها.. وبانت الحقيقة دون زيف كما قالت لها والدتها ذات يوم.. أيقنت أن هذا الهم الرابض بكلكله على صدر وطنها كالطود العظيم لن تزيحه سوى طلقات البنادق العطشى وسيول الدماء الطاهرة. وأقسمت أن تلتحق بالثوار , وتجاهد معهم جنبا إلى جنب حتى تنال الشهادة أو تعيش عزيزة مكرمة.

قالت لها أمها عندما أخبرتها بقرار الالتحاق بالثوار رفقة ابن عمها صالح:

- حياة الجبال صعبة يا ابنتي وأنت لم تتعوديها..."

- سأتعودها يا أماه.. وأنتقم لأبي الشهيد..."

- وماذا ستفعلين هناك... الثوار في حاجة إلى رجال أقوياء.. لو كنت متعلمة لأصبحت ممرضة كابنة الجيران جميلة..."

بعد أن نالا قسطا من الراحة.. واصلا المسير في لجة الظلمة التي صيرت الغابة كتلة واحدة. راحت نعيمة تحث الخطا وتقفز كأرنب بري. لم تشعر بالتعب رغم الصعود والهبوط والتواءات الطريق.

أما صالح الذي قارب الثلاثين من عمره فقد كان يسير أمامها بجسد نحيل.. وعينين براقتين، ثاقبتين.. وقلب ينبض بحب عارم لوطنه الذي ملأه الغزاة سجونا وقبورا ومنافى.. وزرعوا قلوب وعيون الأبرياء أحزانا ودموعا وسدرا.

لقد ترك دراسته الجامعية.. والتحق منذ سنة تقريبا بالثورة.. لم يطق العيش وسط لقطاء يسفكون دماء شعبه المقهور.. وهاهو يقفز بخفة وهو قابض على بندقيته ملء يديه.

عند محطة الفجر وصلا قاعدة الثوار.. استقبلهما القائد وهو يشتعل حماسة وإيمانا وحبا.

سألها وهم يلجون المركز:

- من أين قدمت؟.

- من العاصمة..

- كيف هي الأحوال هناك؟

- سيئة جدا.. كل يوم يعتقلون الأبرياء.. ويعذبونهم أشد العذاب.. لقد أعدموا بالأمس بعض المعتقلين...

ردد القائد وهو يضرب بمجموع قبضته على ركبته اليمنى:

- الأوغاد.. الجبناء.. سنكنسهم إلى الجحيم..

وفي الجبل تعلمت نعيمة القراءة والكتابة.. ولبست البذلة العسكرية وحققت أمنيتها التي طالما حلمت بها.. وبعد مدة صارت ممرضة تداوي الثوار الجرحى بأناملها الطرية ونظراتها الممزوجة بالأمل.

أحست أنها ولدت من جديد.. وشعرت بلذة العيش وطيبة الحياة.. وهي تحيا بين أبطال مدججين بحب الوطن.. همهم الوحيد تطهيره من الكلاب المسعورة..

{تمـــــت}

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

يا إلهي سَوْفَ نَحْيا مَجدَها

برِسالٍ ما تَخابى نورُها

*

ضَوْعُها الآياتُ فينا شُعْلةٌ

وبِنا الدُنيا أقادَتْ عَقلَها

*

يا شَفيعَ الخَلقِ يا نَبْضَ العلى

أمّةٌ تَرقى بشَعْبٍ ودَّها

*

وبتَقوى كمْ كَسوْنا عِزَّها

وعَلى الآفاقِ بَثّتْ عِطرَها

*

مَنبعُ الأشواقِ في كُنْهِ الرُؤى

كضياءٍ في بِحارٍ أجَّها

*

مُطلقُ الإدْراكِ مَسْموقُ الذُرى

وبَعيْدٌ عَنْ سَماكٍ فَوْقَها

*

يا حَبيبَ الروحِ يا فخرَ المُنى

يَسْتَبيحُ الشوقُ دوماً قَلبَها

*

فَتَرَنّمْ ببَديعٍ هادِفٍ

وهَديلٍ يَتغنّى قُرْبَها

*

يا روانُ الليلُ مَنهوكُ القِوى

بهجودٍ ورَحيلٍ للسُهى

*

ذَهَبَ الروحُ كطيْفٍ هائِمٍ

وتَلاشى كدُخانِ المُنْتَهى

*

وأراها كهَباءٍ ضائِعٍ

يَتوارى ولمَوْتٍ دَرْبُها

*

يا هُدى الإنْسانِ يا نورَ الوَرى

تاهَتِ الأبْصارُ في إبْصارِها

*

طافَتِ الروحُ بكوْنٍ مُطلقٍ

ثمَّ عادَتْ مُسْتَباحاً سِرَّها

*

بفؤادٍ لاعِجٍ صَوْبَ الهَوى

باحَتِ الأيّامُ قولاً عِندَها

*

فَسلامٌ صادِرٌ مِنْ مُهْجَتي

لحَبيْبٍ بثَنايا نَبْضِها

*

آيةُ العِرْفانِ مِنْ نَبْعِ اسْتوى

ما غَوى فيها ولكنْ هَزَّها

*

قوّةُ الإدْراكِ تَأويلُ انْطوى

في خَبايا كَلماتٍ كُنهُها

*

إسْتفاقَ الليلُ أوْ جُنَّ الدُجى

كوْكَبُ الإشْراقِ أرْدى نَجْمَها

*

وعلى الآفاقِ حامَتْ مَوْجَةٌ

تَتواصى بضِياءٍ حَفَّها

*

نَبْضَةٌ فيها وروحٌ داهَمتْ

رَمْزَ طينٍ ذاتَ يوْمٍ وَدَّها

*

فتَعلمْ كيْفَ تُسْقيها السَنى

وتَدَعْها يَتباهى عَرْشُها

*

وتكلّمْ بلسانٍ واضِحٍ

وتَساقى برَحيقٍ أوْ بها

*

إنَّها نَبعُ عَبيرٍ عابقٍ

وأريجٌ يَتسامى بَيْنها

*

ومِنَ السّلاّفِ فيضُ المُشتهى

سالَ ضوءً بشعاعٍ مَدَّها

*

يا حَبيبَ الروحِ يا نوْرَ النهى

عِشْتَ فجراً بحَنايا صَدْرِها

***

د. صادق السامرائي

في صالات

الغياب

حضر من حضر…

البهلوان مكسور الخاطر بلا مساحيق…

عاد الحكيمُ حكيماً..

البلوى في يدي…

غدرٌ هنا و غدرٌ آخر هناك …

حضر عازفين في قبب الخناق ..

ووحشٌ واحدٌ يصنعُ الثمالة…

بيدي

للأسف قنبلة مطاطيّة

لتفكيك جوقة الإستعارة

عازف يعشق أوتار الخُلدِ

وعازفٌ يُخلِّدُ للعشقِ أوتاراً..

جربوا المقاطع الحزينة كلَّها..

ولم تبك بينهم فراشة…

في طريقي للمدى أضعتُ عكازي وأضعت عيني جنب البئر

وتحسستُ الحريق…

المرآة التي تجهل وجهي خائنة ،

لكن

كؤوس المُراهنة تملأ جوفاً

يعشق المرارة

حينما

أغمض عيني تنزلق الكواكب ماءاً…

الزُهرة شاردة …

القمر سكرانٌ…

تارة أزرعُ رعباً فتنشرُ الحيتانُ على قارعة النَّهرِ..

فأكتفي لوحدي بجرعة ٍ خبَّأتها لسنوات في قِدْرِ المُحالِ..

هي الآن ملهمتي..

تلعثمت كلَّ لغات العالم..

أتلفت مفاتيح قلعتي في شون الإدمان

واحتميت كملعون وراء أغطية الأديان…

أظنُّ

ولدتُ

لكي

أكون

مشاكساً

لست من يغزل رذاذاً برائحة الجنَّة..

ولا ملثماً بما تبقى من قميصك

يا يوسف…

أرقبُ كمن سبق فرصة شفاعةٍ

لكتابة موت جديد…

لست تمثالاً

صامتاً

لايعشق شيئاً ..

أتحركُ من كومة لكومة..

أنفخ الجمر حتى يحمرُّ

ثمَّ يصيرُ رماداً..

لأبني قبراً لجدٍ فقد صوابه لمّا سمع جرس الرَّحيل

ً

أنقعُ كأس المنيَّةِ بأصبعٍ حتى تنتهي الثمالةُ…

لأجعل البياض كله في قنينة من خشب

فأبي

ينتظر عودة سحنته الأبدية ..

ينتظرُ يداً طاهرةً تنسيه طعنةَ الإبتلاء..

يقرأ

كتابه

بلهفة

واشتياق…

لقد تعرى من صدمة الحياة ….

أصيح للصبح بميقات الحقيقة

وأترك أيضا خدشتي

في المرايا

إن لم أكسرها…

لانّ قلة حيائي يصيبها بالهذيان

هاجمت أسراب النّحل بالدخان …

أربكت مضاجع

الحمقى

المشردين

والعميان

بأغنياتي المقرفة ..

أغلقت المعابد والكنائس والمساجد لتقام الصلوات

في بهو

الديار…

أكلت من حاويات الأزبال

فتشتُ محفظة جدتي ولم أعثرُ سوى على ضحكة لا تنتهي…

استحممت بمياه المستنقع …

صليت بدون وضوء..

أنا من مزَّق لموشي شاشية التقوى..

ودقَّ المسمار في قدمهِ..

أنا من ارتجل زجلاً لقلب الأنظمة العرجاء..

أنا من هرب ألف مرة

من اسر الطغاة

انا من ظلّ سجيناً خارج السجون…

طريداً بالأمكنة

أعجن رغيفاً مراً ممّا تحطَّم من الحجرِ،

لأطعمَ شيطان حلمي

والحسُ أصابعي

كي لا تنبت صخرة أخرى ،

وتخفي عنِّي عشقي للعبث…

انا

منذ صرختي الأولى

أقسمت على المشاكسة،

أبيعُ القرد وأستهزء ممن اشتراه…

أخادعُ السّراب ولا أتبعهُ..

أجرُّ قط الجارة من ذيلهِ وألحق به في المزبلة…

أطعن زوابع الرمل بسكين لأقتل الجن…

أسند ظهري للقبلة وأرتوي من

كأس

باخوس

المعظم…

مستمتع بشهوة النسيان…

المارّة لا يلقون التحية ..

لا تمسهم حاجتي بشيء…

منهمكون في المشي كالنَّملِ

،مهزومون بثقل المآرب البسيطة…

لا يعتذرون …

قليلون يتخلصون ما في جيوبهم ..

بابتسامة خادعة وكأنهم حمات     الجبل

أعرفُ :RR

سكرتي عنيفة ..

وأنا لا أموتُ هكذا بدون وجعٍ..

**

ثمن الخطيئة إذن…

أتذكرُ أنَّ الهزيمة شرَّدتني..

أطاحت عن رأسي تاجاً سلفاً للملوكِ..

ستبكي العيون عند صخرتي..

ولا أعرفها …

لكنِّي دون شكٍ سأنهارُ حتى ينتهي حفار القبور من الحفر…

أعشق التراب لرائحته فقط…

أعشق أغاني المطر..

فأين أزهاري…؟

وساعات الفرح…؟

أين معشوقتي …؟

أين الخمَّارة ،…؟

أين أقلامي والورق..؟

فلست راعياً مقلقاً لطوابير النَّملِ..

لكن

بخطيئتي

سأدخل

قلوبكم…..

***

عبد اللطيف رعري

 

انا لا أبكي حين أريد أن أبكي

أنا أضحك و أترك القصيدة

تنكسر من الحزن

بين صمت و ضجة الصمت

أرتب يومي

وأعد عدة الصبر

لغدي

*

انا لا أمضي مع الوقت حين

يغادرني الزمن

لدي عيون

في قاع زمني

تشدني

الى زمن بعيد

من الأسى والشجن

*

انا لا أنام حين أريد أن أنام

يأخذ الأرق كل ليلة ملامحي

ويعبث بها

وفي الصباح

لا أعرف وجهي

في المرايا

*

انا لا أموت حين اريد أن أموت

أنا أرتكب الحياة

وأنتحر كل يوم

***

بقلم: وفاء كريم

مُهْدَاةٌ إِلَى اَلشَّاعِرَةُ

فاتن ابراهيم حيدر

***

يُنَادِيكِ قَلْبٌ فِي الضُّلُوعِ يَصُولُ

وَيَهْذِي بِحُبٍّ خَالِدٍ وَيَجُولُ

*

أَصَابِعُ حُبٍّ تَبْتَغِيكِ حَبِيبَتِي

لَهَا وَهَجٌ مِثْلَ الضُّحَى وَقَبُولُ

*

وَأَقْلَامُ أَلْوَانٍ تَؤُمُ مَشَاعِرِي

تُنَادِيكِ أَحْواشٌ لَهَا وَطُلُولُ

*

وَفِي كُلِّ صُبْحٍ تَبْتَغِيكِ بِحِضْنِهَا

تُنَادِي مَلَاكاً لِلْغَرَامِ يَمِيلُ

*

وَقَوْسٌ يُشِعُّ الحُبَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ

تُعَانِقُهُ فَوْقَ الْغَرَامِ حُمُولُ

*

فَأُلْصِقُ رَسْماً لِلْغَرَامِ مُحَرَّكاً

تُنَازِعُهُ بَيْنَ الْغَرَامِ طُبُولُ

*

فَيَسْتَبِقُ الْحُبَّ الْمُتَيَّمَ حَفْلُنَا

تُغَنِّي بُدُورٌ حَوْلَنَا وَفُلُولُ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

 

عصورٌ وقُلوب

عِنْدَما كنتَ تُفكّرْ

بِغَراباتِ العصورْ

وعَذاباتِ البَشَرْ

مرّ في ذِهنِكَ ما كنتَ قرأتْ

عن حكاياتِ العصورِ الحجريّةْ

فسَألْتْ

كَيْفَ كانَ الناسُ فيها يأكلونْ؟

كَيْفَ كانَ الناسُ فيها يَعْشَقونْ؟

هَلْ لبعضٍ من بنيها

نَزَعاتٌ دمويّةْ

أو قلوبٌ مِنْ حَجَرْ؟

**

ملاذٌ مهجور

عِنْدَما كانتْ تغني وَحْدَها

تحتَ زخاتِ المطرْ

لوَّنَ الماءُ برفقٍ خَطْوَها

وبعطرِ الورد قَدْ فاحَ الشجرْ

فلماذا غِبْتَ عنها؟

ولماذا

لَمْ تَجِدْ فيها اِبتهاجاً و مَلاذا؟

**

أشواكٌ ووفاق

عِنْدَما كنتُ أراكْ

عِنْدَما كنتُ أراها

كانَ لونُ الشّوكِ يبدو في خُطاكْ

وجراحُ الشّوكِ تبدو في خُطاها

قلتما أنّكُما

كلّ ما يهفو له حُلْمُكُما

أنْ تعيشا في وفاقْ

قَدْ تُطيقانِ عذابَ الشوكِ لكنّكُما

لا تُطيقانِ عذابَ اللاِفتراقْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

ثلاث قصائد

- نظرة

غوغاء الماكثين في الصفوف الأخيرة.

صخب الموسيقى.

صراخ الرضّع بعد توقف المطر الأبيض.

تشبث الدبابيس الصغيرة بمغناطيس حواء.

هسهسة الشفاه النقية ذات الكفن الأحمر.

انهمار شلال الفضة فوق الكتفين.

دقات الساعة القطنية.

رهبة السيجارة الأولى في فم العشب.

كل هذا كان مجرد هلوسة

لو أن ذلك الغلاف الكحلي، تجعّد قليلا

لو جلس القرفصاء ثانيةً - رمشةً

لتفجر من تحته الرّبيع الأقدم.

**

- سؤال لسؤال

منفيّ أنا، هنا، في أعماق الرفض

حيث كل شيء هنا متعفّن بالخطايا

كل شيء مشبّع بالصمت.

إلى السؤال يا إخوتي، ولينته الصمت ..

أيها العباقرة

أيها المجانين

أيها المهزومون منذ الأزل

أيها السكارى العائدون من معركة طلوع الفجر

أيتها المومسات المتنقلات من جنازة إلى جنازة

أيها الخياليون، يا من تجوبون أوربا في ليلة مجنونة

أيها الإرهابيون

أيها القساوسة

متى تولد الحياة . . .

**

- قصيدة

وحين يأتي شيخ الطباخين بتوابله العليلة

سأغلق النوافذ

وكل ما يسمح لي برؤية الرجال السود

أنئذٍ سأسمح لروحي بالخروج

عارية كما هي في الصنع الأول

حالمة بالحدائق والقبل

لأنني سأكون غارقًا

في متعة استحضار سِفرٍ جديد

إن كنت سأنشر بذوري

لابد من سِفرٍ جديد

لابد للمطر أن يحفر الأرض

ولكن من يدري إذا كان الجنين الذي بهِ أحلم

سيجد في هذا القبر

الغذاء الحقيقي الذي يمنحه الحياة.

***

ضرغام عباس – العراق

ما زالَ للشَّمسِ مهدٌ في رُوحِي

سَأستَرجِعُ ذاتِي

كَي يُعرِّشَ الآس

دَالياتُ الحبِ في قَلبِي

النَّدى يَقطرُ مِنْها

لا ترحَليْ أيَّتُها العَصافير

لنُكمل ترنيمةَ الصَّباحِ

الحُلمُ يُؤَرِّقني

رُويداً شَقائِقَ النُّعمان..

مَهلاً ياسمينَ الشَّام

مازال للحبِّ بقيَّــة

ما زال للأملِ بريقه

للفرحِ أُنشودتةُ

للبحرِ نوارسُهُ

سيبرق السُنونو رسائلَه

وينتفضُ السَّوسَن

ما زِلتُ على نافذَةِ الليْلَكِ

أَنتَظِرُ..

ولادة اليَمامَة

أتطرَّزُ جَناحَ حُلمٍ

فتتبعني الفراشات

***

سلوى فرح - كندا

 

هي المرّة الرايعة أو الخامسة

كلما دخلت زوجته الحظيرة اهتاج الحصان الأسود ذو الظهر الطويل الذي يمكنه أن يقفز العوارض بكل يسر وليونه. كان يزفر ويضرب بقوائمه الأرض، ولا أحد يعرف السر. تساءل ماعلاقة زوجته بالحصان الأسود الرشيق كي يثور غضبه كلما دخلت الحظيرة عليه، لو كان في زمن الخرافة لسأل عرّافا ومنجما ولو كان في زمن الدين لذهب إلى أحد أولياء الله الصالحين يستعلم منه الأمر، وليس هو في زمن تناسخ الأرواح، لكنه في زمن العلم والكومبيوتر، وإليه بلا شكّ يعود.

هذا أفضل.

تمتم مع نفسه.. وترك زوجته نائمة دخل مكتبه وتطلع في الحاسوب كتب في غوغل:

لماذا يهيج الحصان الأسود الجميل كلما دخلت زوجتي ندا الحظيرة؟

بعد لحظات جاء الجواب.

هذا سر لو عرفته لأصابك الهلع.

كتب ثانية: ليكن مايكون

جاء الردّ:إذن اسمع ولا تندم فذلك شئ يقال ولا يكتب

قل إني في لهفة

انقلبت صفحة الكومبيوتر على رموز جديدة وجاءه صوت من الروبوت :

سيدي زوجتك ندا جنية تحب مردوخ، وهي شابة بيضاء جميلة ومردوخ الجني أسود وسيم، لكن ندا وهي تسيح في عالم الفضاء دخلت الأرض بالخطأ، وتقمصت صورة فتاة جميلة فلم تستطع بعدئذ أن تتحرر ومن سوء حظها أنها أحبتك ولا يبطل عنها سحر التطبّع إلا في حالة أن يفشي أحد سرها ومن دون كشف السرّ ستظل في صورة آدمية إلى الأبد ولن يراودها حنين ما لأهل السماء أما مردوخ الأسود الوسيم فقد بحث عنها واستاف رائحتها في الأرض فدخلها بشكل حصان وقع بيد تجاريتعاملون بالخيول فباعوه لك.

ضحك في سره من هراء الكومبيتر .عليه أن يستعدّ لسباق الخيول المشهور نهاية الأسبوع فقد بقي يومان ليبدأ، لكن لا بدّ من أن يكون هناك سبب لهياج الحصان حالما تدخل ندا الحظيرة، وحين رجع إلى غرفته لم يجد زوجته في الفراش ازدادت شكوكه، وتهافت قلقه، فاندفع إلى خارج المنزل

لعله يلمحها في الرواق أو الحديقة

ندا ندا

هل يعقل هذيان آلة؟ لا ينكر أنه هو الذي اندفع، وغذى غوغل بمعلومات سابقة عن الحصان الذي اشتراه منذ شهر.معلومات عامة لا بدّ منها استقاها من دائرة البيطرة ومن تجار الخيول.

كيف ردّ غوغل بجواب خرافي وقد غذّاه بمعلومات علمية صحيحة؟

لم يسمع أي جواب من زوجته، ولم ير لها أي أثر..كان يتجه إلى الحظيرة:

هنك بدأت الصدمة

ندا

لم يجد الحصان الأسود الوسيم...

اختفى ولا أثر يدل عليه

انقلب القلق إلى غضب عارم، فهرول إلى غرفة المكتب، بدا كالثعبان الهائج.. رفع الكومبيوتر بكلتا يديه وقذفه على الأرض

مرة وأخرى

وثالثة..

ثمّ جلس خلق المنضدة وهو يلهث من الغضب والتعب كأنه يتحدث مع شخص قريب منه يراه ولا يراه.

***

قصةُ لمحة

قصي الشيخ عسكر

(على هامش حقائبي)

أبحث عن دربي

وحيدا أمضي

أنادي الظل...

يهجرني

أنادي... قميصي!

فلا الأطراف والمفاتن

تلقاني

أنادي حبيب القلب

يدسني

ترابي

ثم شهادة الوفاة

تصريح بالشرف

*

أمشي وحيدا

تاركا

صورا وذكريات

كتبا وأحذية

خطوات

شهادة الميلاد

والهوية

على أطراف شوارع

مقاه

ومدينة الغبار

*

أمشي وحيدا إليه

مثقل الأوزار

حائر الدرب

يناديني

عبدي!

لا تخف

أنا المنادي

لا الحمل يثقلك ولا

الأحزان تهزمك

رحمتي

وسعتك... والزلات

وكل الأشقياء

*

يا نسمة روحي

استودعني عذاباتك

الجروح

وآلام القلب

فالطريق لك

مهداة الألواح

استرح ولا تبالي

أنا معك ... فلا تبالي

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 16 مارس 2023

بعد إن انتهى الغداء في بيت العائلة الكبير، جلس الأبناء والبنات والأحفاد لشرب الشاي. الجد كان يختار دائماً مكانه المخصص في طرف الأريكة، مستمعاً إلى أحاديثهم عند كل زيارة أسبوعية لمنزله. دنا أحد الأحفاد صوب جده ليجلس قربه، ثم انفرد به الجد بعيداً عن أحاديث أسرته الكبيرة، سائلاً إياه عن دراسته واحواله، فأجاب الصبي أنه بخير وأنه يتمنى بان يكون في المستقبل صيدلانياً. سرح الجد بعد سماع هذه الكلمة بعيداً، حتى أنه لم ينتبه إلى هتاف الجدة - زوجته - التي طلبت منه الانضمام إلى حديث كان يشغلها ويشغل أبناءها. فزَّ الجد معتذراً عن عدم انتباهه لهم، وحين سألته زوجته: ها..؟! أين كنت سارحاً؟ أجاب الجد مع نهدة خرجت من صدره: لقد ارجعني هذا الصبي أربعين سنة إلى الوراء. وحين سألته زوجته عن النقطة التي عاد إليها في الماضي أجابها وأجاب أحداق أبنائه المتلهفة لسماع الجواب: أعادني إلى قصة حدثت في سوق مدينتنا حين كان أبي يملك دكّاناً فيه. إلى صبي عاش معنا كنّا نطلق عليه اسم "فحّوم". ولاحقاً صرنا نسميه "فحّوم الصيدلاني". هتف الصبي الحفيد في فضول عنيف: أرجوك يا جدي أي قصة هذه؟. احكها لنا أرجوك.. هنا اعتدل الجد في جلسته بعد أن وضع قدح الشاي، وصار يحكي للعائلة بأجمعها والتي انتبهت له:

- فحّوم هو شخص في محلّتنا مقطوع من شجرة كما يُقال، ولا تربطني به رابطة. فلم يكن قريباً ولا صديقاً، بل كان شاباً بسيطاً جداً. لقد كان ساذجاً إلى درجة أنه يصدق كل شيء. وكنّا نخشى أن نؤذيه لأنه كما يُقال من أهل الله، وشارته لا تخيب ولا تتأخر. لقبه اطلقناه عليه حين كان يعمل صبياً عاملاً بسيطاً في محل لبيع الفحم. ثم صار لقبه لاحقاً "فحّوم الصيدلاني" حين تحوّل إلى صيدلاني المحلّة.

تساءل الحفيد مقاطعاً جده:

- هل درس الصيدلة؟!!

ضحك الجد بعد ان وضع كفه على رأس حفيدة قائلاً:

- لا لا بالطبع.. الأمر يبدو برمّته غريباً أو مضحكاً أو ربما مبكياً. فهو لم يتعلم الصيدلة عن طريق الدراسة، لأنه قد تركها وهو لم يكمل السادس الابتدائي. أمثال فحّوم "المكَرود" لا يكملون الدراسة. فهم إما يعيشون كسبة في السوق، أو يموتون في الجبهات دفاعاً عنّا. إلا أنه صار من الثقات في أنواع الأدوية وأسعارها وشركاتها، هذا الأمر الذي لم نكن نتقنه نحن الذين كنّا بعمره، حتى بعد أن تخرّج أغلبنا من الجامعات المرموقة. والأمر كله له سبب غريب وما حدث لاحقاً لهو أغرب.

لوّحت إحدى بناته قائلة في فضول:

- نعم يا أبي اكمل ماهو الشيء الذي حدث؟!

هزّ الجدُ رأسه واخذ نفساً عميقاً ثم عاد للحديث:

- منذ سنوات طويلة عرفتُ فحوّم وهو يقبع أمام دكّان مملوك لأحدهم، وكانت أكياس الفحم الملوثة تحيط به من كل جانب. ولم نكن نميّز لون ملابس فحوّم لكثرة السواد المنتشر عليها من الفحم وأكياسه. تلك التي كان يحملها على ظهره تارة وعلى صدره تارة أخرى، ليبيع للزبائن والمطاعم والمقاهي ما يحتاجونه من مئونة لعملهم. كنّا أنا وبعض الصبية من الذين يملك آباؤهم الدكاكين المتفرقة، نقضي أوقات العُطل في دكاكين آبائنا. وحين يطول بنا الوقت والملل، نقصقص أظفار الرتابة بمقص التسلية مع فحّوم القابع خلف أكياس الفحم. فنجلس أمام الدكاكين، ونرمي بصنارات النكات والأحاديث التي يلتقطها فحوّم الواحدة تلو الأخرى. ومع مرور الزمن تغيّر الحال وتبدل السوق إلى دكاكين أكثر تمدّناً. لتتحول أغلبها إلى معارض للألبسة والأزياء والحلاقة وبيع الأجهزة الإلكترونية وحتى بيع المجوهرات وصياغتها. ماعدا المحل الذي كان يعمل فيه فحوّم، ظل مالكه عنيداً ولم يبعه أو يبدل مهنته. فظل هذه المحل الملوث بسواد الفحم كالنقطة السوداء في ثوب السوق الذي صار أكثر ترفاً ونظافة. ومن ضمن المحلات التي فُتحت كانت صيدلية تجلس فيها فتاة تعمل فيها، وكانت بعمر فحوّم الذي بلغ العشرين من عمره. كانت الفتاة الجميلة متدربة في الصيدلية التي كانت مملوكة لأحدهم. عندها انتبهنا أنا والشباب من جيرانه في المحلات إلى شغفه بالصيدلانية الجميلة، والتي لم تكن تنتبه له مطلقاً، بل كانت طوال الوقت لا شغل لها سوى تلبية طلبات زبائن الصيدلية، أو قضاء أوقات فراغها بمطالعة الكتب أو جهاز الهاتف.

تعالت أصوات العائلة مع ضحكات متفرقة، مع عبارات مشاكسة مثل (فحّوم الرومانسي.. صاحبنا عاشق.. ياملعون يافحّوم) ثم هدأهم الجد مبتسماً قبل أن يرد على سؤال زوجته التي قالت له: وكيف عرفتم أن فحّوم المكَرود كان يعشق الصيدلانية؟! فأجابها:

- من البدء عرفنا هذا حين صار فحوّم يأتي لدكّان بيع الفحم، وهو يرتدي الدشداشة البيضاء ذاتها والتي لم يكن يملك غيرها. وكنّا نضحك كثيراً من صراخ استاذه في وجهه، وأنه لم يعد مركزاً في العمل كالسابق ويخشى التلوث برذاذ الفحم وملامسته. إلا أن صاحبنا لم يكترث لعراك استاذه العجوز، وظل يمكث بالساعات أمام الصيدلية وهو ينظر طويلاً إلى الفتاة وهي كالعادة لم تشعر به، أو كانت تشعر به لكنها لم تكترث لحاله. هنا جاء دوري أنا وعصابتنا من شباب السوق. بعد جلسة استجواب سريعة جداً، انشق كيس الأسرار الذي يحمله فحوّم، لتسقط منه آهات واشتياق ولوعة منه اتجاه تلك الفتاة. في الحال نصحناه أن يقترب منها فهو على حاله هذه لن يحصل على شيء مادام بعيداً. وعليه المبادرة، وحين سألنا كيف يبادر قلنا له تظاهر بالمرض واشتر منها دواءً. وحين سألنا عن الدواء الذي يمكن شراءه، أجبته أنني سأكتب له بعض الأدوية المشهورة لخفض الحرارة والالتهابات والحموضة والدوار والإمساك والإسهال. وبالفعل صار فحّوم زبوناً عند الصيدلانية. فقد كان يقسم أجرته اليومية إلى قسمين، قسم يشتري به دواءً لم يكن يتناوله، بل يخزنه في أحد أكياس الفحم الفارغة، والقسم الآخر لمعيشته. وبعد مدة شعر كما يبدو أن هذه الفكرة قد اضرت به، حين صار يصرف كل يوم نصف أجرته على الأدوية التي لا طائل منها. فصار يدور على المحلات والدكاكين وحتى المنازل القريبة من السوق، ممن كانوا يعرفونه وحتى الذين لا يعرفونه. ولا سيما كبار السن الذين يشترون الأدوية كالمعتاد. فقد تبرع للذهاب إلى الصيدلية وشراء الأدوية نيابة عنهم. حتى اشتُهر عنه بهذا الشأن، ولم يكل أو يمل من عمله هذا، حتى بعد أن توفي صاحب دكّان الفحم وجاء أبناؤه وغيّروا الدكّان إلى وظيفة جديدة، وطردوا فحوّم الذي لم يكن نافعاً في العمل الجديد. ومن هنا بدأ لقبه الجديد "فحوّم الصيدلاني" الذي صار عارفاً وخبيراً بأنواع الأدوية وأصنافها وأشكالها وشركاتها. وبعد كلّ مرة ينهي فيها فحوّم شراء وجبة من الأدوية من الفتاة الجميلة الصيدلانية، يظل جالساً على دكّة أمامها وينتظر الفرج. حتى جاء اليوم الذي سألته فيه عن جدوى ما يفعل، فقال لي أنه يحاول كسب ودّها حين تعلم أنه يجمع لها الزبائن. فقلتُ له أن هذا لايكفي، والخطوة المقبلة هي أن يعترف لها بحبه، فأجابني بلهفة وضحكة اندلقت من فمه، أنه صارحها بالفعل ولم يقل لنا. وأن الصيدلانية الجميلة وعدته بالزواج إن كان يرغب على شرط أن يستمر في عمله هذا، مؤدياً خدمة للصيدلة في جلب الزبائن من هنا وهناك. وإنه لم يكتف بهذا وحسب، بل صار يجلس أمام عيادات الأطباء، ويتلقف الوصفات الطبية منهم لكي يحضر لهم الأدوية بأسرع وقت وأقل كلفة. هنا شعرتُ بالألم على حال فحوّم المسكين، حيث لم أكن أتوقع أن المزاح الذي كان قد صدر منّي ومن الشباب سيؤدي بفحوّم إلى هذه الاستغلال!!. فلا ريب أن هذه الفتاة تحاول استغلال سذاجته الفادحة إلى أقصى حد، وعليَّ أن أوقف هذا الاستغلال بأية صورة. لكن الشيء الذي لم أكن أتوقعه هو وقوف الآخرين إلى جنبه!.

تفرقت أصوات من العائلة باحثة عن السبب الذي جعل الناس يقفون إلى جنب فحّوم على الرغم من استغلاله، فأجابهم الجد مع ابتسامة اشاحت عن تجاعيد أسفل خديه:

- الناس في السوق والمحلة صاروا يتبرّكون بشراء فحّوم للأدوية لهم. يظنون أن الدواء الذي يشتريه فحّوم يشفي المريض أسرع بإضعاف من الدواء الذي يشترونه بأنفسهم، حتى لو كان من النوع نفسه والشركة ذاتها. فينادون فحوّم المسكين لكي يأتي مهرولاً ملبياً طلباتهم. حتى أن سيدة أو سيدتين من المنطقة المجاورة للسوق، وبختاني توبيخاً مريعاً في أنني أقف حجر عثرة في تسهيل أمور الناس المرضى، حين أعلنها صراحة أنهم يستغلون فحوّم في هذا العمل الذي كنتُ أظنُّ أنه شائن. فلم يكن أمامي في ليلة إلا أن أعزم النيّة على الذهاب إلى الصيدلانية ذاتها، وحتى لو وصل الأمر أن أكلم صاحب الصيدلية في هذا الأمر، وأخبرهما أنهما يرتكبان خطأ فضيعاً في استغلال فحوّم وسذاجته. وبالفعل في اليوم التالي ذهبتُ إلى دكّاننا وأنا أحمل ما يكفي من الغيظ والحنق للعتب مع أصحاب الصيدلية. فوجدتها مقفلة على غير عادتها في ذلك اليوم وعدتُ أدراجي نحو دكّاننا وسحبتُ كرسياً وجلست أمام الدكّان منتظراً أن تفتح الفتاة الصيدلية. لم أكن وحدي من ينتظر، فقد كان فحوّم هو الآخر منتظراً على الدكّة المقابلة للصيدلية، يطالع بشغف وقلق الطريق المؤدي للصيدلية، منتظراً بلا شك تلك الفتاة التي لعبت برأسه. ومرت عدّة أيام ولم تفتح الصيدلية بابها!!. وعرفنا لاحقاً أن الصيدلانية قد تزوجت من طبيب شاب قد انتقل مؤخراً إلى مدينتنا. وتركت الصيدلية لصاحبها وفتحت صيدلية أكبر تحت عيادة الطبيب زوجها. وحتى بعد معرفة فحوّم بالأمر استمر جالساً لمدة طويلة على تلك الدكّة المقابلة للصيدلية. وهو ينظر نظرات طويلة إلى بابها المقفل. حتى فُتح الباب من جديد وصار يعمل في الصيدلية رجل غريب لا نعرفه.

- (هنا عاد فحّوم إلى رشده) قالت الزوجة مخاطبة الجميع، فأشار زوجها بكفه مستدركاً ثم قال:

- لم يتقاعس فحوّم عن تلبية طلبات أهل السوق والمحّلة في احضار الأدوية لهم كالسابق. بالعكس لقد صار الأمر بالنسبة إليه مصدراً للعيش، لأن كل مريض يحضر فحّوم الدواء له يعطيه مكرمة من المال. لقد كان المرضى يتبركون به كما قلت، وفعلاً كان كل مريض يشفى بسرعة. إلا فحّوم الذي لم يفلح في النجاة من الموت.

هتف الأبناء، والصبي الحفيد وضع كفيه على رأسه قائلين مع آهات: هل مات؟ فأجابهم الجد:

- نعم.. نال منه مرض ولم ينفع معه العلاج، حتى لاقى ربه وحيداً في المستشفى. لم يكن وحيداً وحيداً، لأنني كنتُ أراعيه نوعاً ما لأنه كان بلا أهل، وأنا الذي استلمت جثمانه ليشارك في دفنه بعض الناس. لقد عاش ومات فحّوم وهو لم يبتعد كثيراً عن لقبه. توقّد لمرة واحدة في حياته وانتهى. لقد كنّا نخشى أن يلوّثنا على الرغم من حاجتنا إليه. لقد توقد وانطفأ بهدوء بعد أن نضجت على ناره حكايات وضحكات ونكات، كنّا نشربها في أوقات التسلية والمنفعة. مات فحّوم ومنذ ذلك الوقت كانت حتى الأدوية الغالية بلا تأثير، والصّدق بلا طعم. لا نعلم ربما الشركات التي تصنعها صارت تغشُّ في موادها، أو أنها هي نفسها التي كان الناس يتناولنها منذ القدم، لكن بركة فحّوم المكَرود وصدقه لم يكونا مغشوشين.

***

أنمار رحمة الله

 

 

"أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها و ما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"

كنا مشغولين بترتيبات جنازتها بالرغم من نفورنا من أفعالها وكلامها، فقد كانت امرأة بخيلة شحيحة متسلطة لا يسلم أحد من شرها وجبروتها، وكانت عيونها الجاحظة كعيون النسر، وملامحها القاسية المنفرة تجعل حتى قطط الدرب تتجنبها وتفسح لها الطريق مخافة إذايتها …كان همها الوحيد في الدنيا هو جمع المال بكل السبل لشراء المنازل وكرائها للموظفين الجدد...لا يطرق بابها ضيف ولا زائر ولا متسول.. وحتى صلتها بأقاربها مبنية على الحقد والقيل والقال والصراع حول الإرث وما تركه الأجداد والآباء والإخوة بعد رحيلهم...كيف ماتت؟ هذا هو السؤال الذي سألتنا الشرطة عنه بعد حضورها...شرح الأطباء جثتها على وجه السرعة وتأكد المحقق من صدق روايتنا بأنها ماتت بسكتة قلبية فأطلق سراحنا...حضر الأهل وبعض الجيران وجاء أخوها من أقصى الدنيا، ولم يعرف أحد كيف صار موظفا ساميا بعد أن كان موظفا بسيطا في إحدى الجماعات وكيف جمع ما بين المال والسلطة في ظرف وجيز، وظل ذلك سرا لا يعلمه إلا الله...وقف يتلقى العزاء ببرودة الثلج وبتعال واضح وتنكر لطفولته وشبابه وعلاقته بأصدقائه وجيرانه في الحي..فقد تحول من طفل جميل مؤدب وشاب محبوب إلى عابد للدرهم وعاشق للأرقام والصفقات والسهرات الليلية... كيف يغير المال البشر؟ هذا ما وشوشت به جارتنا السعدية للجيران وهي تعزيه، كيف يحول كرسي السلطة الإنسان ويجعله يتنكر لأصله وفصله ذاك هو الحوار والكلام الذي كان يدور بين المعزين في سرية تامة...وصل أبناؤها من فرنسا عند الفجر ونصبوا لأمهم خيمة العزاء وسط الشارع... وانتشرت رائحة الموت في أرجاء البيت والدرب والحي... وبعد تلاوة القرآن وترديد الأدعية ونشر الموائد حمل النعش في سيارة الموتى، وهرول الجميع بها في صمت تحت زخات المطر قاصدين المقبرة خوفا ربما من أن تعود الروح إليها من جديد فتفسد عليهم حياتهم كما كانت تفسدها من قبل بتلصصها عليهم ونقل الكلام من حي لحي ومن دار لدار وخلق المشاكل والفتن والحروب والأحقاد المؤدية أحيانا إلى العراك والطلاق والخصومة...وفي جو بارد لا يسمع فيه بعد أن توقفت الأمطار غير طقطقة الملاعق في قصعة الكسكس وتنفس الصعداء من غيابها عن المدينة بأكملها.. وفي غمرة انشغال الكل بالأكل أسر لي أخوها الموظف السامي السي أحمد بأنه انتهى للتو من تجهيز فيلا رائعة وسط غابة ساحرة تطل على البحر، وواصل حديثه بصوت خفيض لايكاد يسمع قائلا بأنه أثتها على ذوق خطيبته أمل التي سوف يعقد قرانه عليها في فصل الصيف، وأطال الوصف والمدح في فيلته وخطيبته الغنية الشابة الجميلة ذات القوام الممشوق والعيون العسلية التي لم يخلق مثلها بعد وكيف تعرف عليها وعلى والدها.. وكيف ضحكت له الحياة بعد عسر وشقاء وفتحت له ذراعيها بحنو وحب ولهفة وقالت له هيت لك..في الغد وكانت الأمطار الباردة مازالت تهطل بقوة والزقاق فارغ من المارة ودعني على أمل اللقاء به في فرصة غير هذه الفرصة الممزوجة بالحزن والرحيل ورائحة الموت، ودعاني لحضور حفل زفافه في فصل الصيف المقبل تاركا لي بطاقة عليها رقم هاتفه وأقل سيارته الفاخرة وغاب بين دروب الحياة وشوارعها الملتوية ليعود من حيث أتى كلحظة شاردة.. مر على جنازة أخته عايشة شهر بالتمام والكمال ليصلني عبر مكالمة مقتضبة من أخيه الأصغر هشام خبر وفاته...ونزل الخبر على أفراد عائلته كالصاعقة، وتساءل الكل باستغراب وتعجب كيف يتسلل الموت إلى جسد مفتول العضلات لا يشكو علة ولا سقما كيف يهد الموت قامة شامخة كأشجار النخيل دفعة واحدة...؟ دب الرعب في نفوس البقية منهم وبعضهم في دخيلة نفسه يردد الدور على من في الغد أو بعد الغد؟ !...قبيل آذان الظهر وصلنا إلى الغابة التى وصفها لي في جنازة أخته ومع آذان المغرب كان الحفارون يغطون جثتته بالتراب تحت شجرة باسقة مترامية الأغصان، وقد بلل المطر أغصانها وأوراقها فجعلها كفتاة حزينة تذرف الدموع على قبر حبيب عشقته لدرجة الجنون.. في الصباح الباكر ونحن نغادر فيلته وكانت بحق تحفة فنية نادرة الوجود أبدعتها أنامل فنان ماهر تطل شرفاتها الواسعة ونوافذها المقوسة على بحر هادر، تحفها من كل الجوانب أشجار غابة البلوط، وزادها جمالا أثاثها الفاخر الذي كما قال المرحوم بأنه اختاره بذوق رفيع يليق بمقامه ومقام أسرته وأسرة خطيبته.. وقبل أن نضع حقائبنا بصندوق السيارة استعدادا للعودة علق أحد إخوته على جدار الفيلا بالقرب من إحدى النوافذ المغلقة لوحة صغيرة بلون أبيض ناصع دون عليها بقلم أسود وبخط بارز للعيان رقم هاتفه وعبارة مكتوب عليها" فيلا للبيع" وأغلق الباب خلفه بإحكام على أحلام منذورة للرحيل...

***

قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

انتبه من نومه بعد آذان المغرب بقليل، فرك عينيه المهترئتين بكفيه محاولا ان يطرد عنهما غبش النوم؛ تثاؤب مستمر يركبه، تقمطه رغبة قوية في النعاس لم تغادره، رغم انه رمى جسده على السرير قبل الفجر بقليل ككيس من الأسمنت ثقيل، بدأ يتمطى، يجاهد أن يطرد سيطرة النعاس عن عينيه، جرب تحريك ساقيه فوق سريره كمن يسوق دراجة بدواستين كما تعود ان يفعل كلما صحا من النوم. ثقل!!.. كل ساق صار وزنها طنا، حاول أن يعب نفسا قويا، فسرى ألم رقيق في صدره؛ بجهد جهيد استقام في مكانه، مد يده الى خزانة صغيرة بجانب سريره أخذ لفافة من التنباك حشاها بحشيشه المعتاد ثم شرع يدخنها، نوبة سعال تخنقه، حاول أن يحرك رأسه يمينا ويسارا وهو يفرك عنقه بيسراه، أحس تصلبا في رقبته، حالة تصيبه كلما أطال في نوم بعد افراط في التدخين !

تذكر زوجته التي فارقته من شهرين، كم كانت بارعة في تدليك رقبته، عنه غابت الآن بعد أن اتعبها بنومه الطويل، كسله وإدمانه، صوتها في مسامعه كنفير يعلن العصيان، كانت لا تدلك رقبته الا وصوتها هدير:

ـ رجل يتعمد الانتحار..لماذا؟ ماذا ينقصك؟ مدخولك من عقارات إرث أبيك كثيرة، صيَّرك الحشيش شيخا في الثمانين، أمات فيك كل شيء، كل شيء، اذا لم ترحم نفسك فارحم غيرك ممن يعيشون معك. قارن بينك وبين أخيك وهو أكبر منك بعشر سنوات..

"أسطوانة مشروخة"، تعب منها وهي ترددها بلا توقف، هبلة لا تعرف معنى الغياب في حضرة الانتشاء..ثم مالبث أن قطب ازدراءا وهو يحاول أن يتحرك من سريره: يكره ان تقارنه بأحد، فهوعند نفسه رأس متفردة بروح تهيم في ملكوت اللذة..

"أخي !!.. وهل أخي يتمتع بالحياة؟ لايعرف الا المسجد والمتجر والجاموسة أختك، ثعلب !!."كم كان يستغل غيبوبة انتشائي ويتلذذ بالنظر اليك من خلف، كان مأسورا بقدك وجمالك، لم أرتح من نظراته اليك الا بعد زواجه من أختك المطلقة ورحيله عن بيت العائلة "...

لم يستطع الحركة، كل ما على الأرض من جاذبية تشده اليها.. لف سيجارة أخرى وهو جالس على جانب السرير، أخذ نفسا عميقا وكأنه يتنفس نسائم صباح بحري، زغب أنفه وأدخنة حشيشه تمنعان الهواء من أن يمر حرا طليقا الى دواخله.. طارت رشة نار من السيجارة فأتت على فخده، شعر بحرقتها القوية قبل ان يطردها بظاهر يده.. ثقب جديد قد انفتح في سرواله، وأطلقت زغيبات من فخده بخورها، وشم احمر إضافي على الفخد يضيف الى الباقة وساما جديدا!!..

تفو.بصق على الأرض وهو يحرك اصبعه في ثقب القميص؛

مرة أخرى صوت زوجته يخترق طبلة أذنه:

لا ادري من أي نوع صخري قدت رئتاك، وهذا القطران الأسود يعشعش فيهما !!..كل ملابسك صارت عيونا تطل على جسدك المحروق، ألاتنتبه لنفسك قليلا.؟؟!!.

ضحك في غباء و هو يردد مع نفسه: "اعرف انها لم تكن تخاف علي رئتي، ولا على جسدي أو تهمها ملابسي، خوفها صار من رجل لاينام الا غائبا ولا يصحو الا متثاقلا !!.. رجل لم يعد يحرك فيها ماتريد(يقهقه) ليس ذنبي، كثير من الرجال مثلي فقدوا قدراتهم الجنسية؛ "العاهرة عتيقة وحدها تعرف كيف تحيي موتانا، و"للي بغى يربح العام طويل "، لاشيء ورائي.

ـ رحمك الله يا والدي ما تعبت الا ليرتاح ابنك الصغير أما الكبير فهو شقي بالركض وراء تجارته والجاموسة التي استهوته بعد طلاقها. ماذا كان ينقص زوجتي؟ امرأة لا تحمد ربها، غيرها تتمنى قلامة من خيري تعيش بها، غبية هي لا تعرف غيبوبة المتعة فتحياها، لو طاوعتني لكنا معا نعيش سعادتنا بين طيات السحاب.. ليس المهم كم عشت، المهم كيف عشت؟!! وليس بالجنس يحيا الانسان، شرع يدندن:

أنا وانت ولا حد ثالثنا، أنا وانت وبس..

مع نغماته المتثاقلة تخرج متقطعة من بين شفتين سوداوين من أثر مايبرم ويدخن، سمع بطنه تغرغرمن جوع، تذكر انه لم يتناول أكلا منذ غذاء أمس، شرع يضرب على بطنه براحة يده وكأنه يهدئ من غرغراتها ؛ مذ غادرته زوجته ما عاد يجد أكلا جاهزا في البيت، وقلما يتذكر وهو عائد مع طلوع الفجر من خمارته، أن يشتري أكلا فقد ربط علاقة خصام بينه وبين الطعام الا ما يتناوله من لمجات صغيرة مما تقدمه الخمارة مع الخمر..

سمع رنات هاتفه، قام بتثاقل، نظر مليا الى الرقم، ابتسم، لم تكن غير محبوبته عتيقة عاملة الخمارة، تساله متى سيأتي الليلة..

يرتاح لهذه المرأة، تعامله كما يريد هو، لهذا يغدق عليها من ماله بلا حساب، رد بلسان ثقيل، وهو يستخرج الكلمات من بين شفتيه وكأنه يفك لفة خيط تشابكت خيوطها:

ـ اسمعيني، أنا تعبان، انت انهي اعمالك باكرا وتعالي الي، لاتنسي ان تجلبي معك شيئا للأكل وصندوقة من الذي على بالك...

صمت قليلا ثم تابع وكأنه يرد على تساؤل منها:

ـ آ.. موجود، عندي ما يكفينا الليلة..

عاملة الخمارة لم تكن غير احدى جارات الحي الجديدة، تعرف غناه مما ورثه عن أبيه، معرفتها بكل سكارى الخمارة وبتدقيق، صيد ثمين شرعت تتقرب منه بعد تطليق زوجته، وتسير حسب هواه، الى ان جرته الى خمارة تعمل فيها ثم تعينه على العودة ليلا متى لم يغرها سكير بمبلغ مالي كبير، تصل معه الى باب البيت وقد فقد القدرة على التحكم في نفسه. باتت معه ليلة واحدة، ثم اكتفت بمساعدته على الوصول للبيت لاتنصرف الا بعد تأكدها من انه قد اقفل الباب وراءه..

جر قدميه الى الحمام، دوخة تلف الراس، وغثيان يسحق معدته، كان الحمام يرمي روائح نتنة من قلة النظافة، اتكأ قليلا على الجدارعساه يسترجع توازنه.. رنات جرس الباب نبهته من غيبوبة.. من يكون الطارق،؟ ترك الجرس يمارس مهمته وانشغل بنفسه، كان يحاول أن يتقيأ عساه يخفف من ثقل راسه وأوجاع معدته، مرارة تصعد الى حلقه، فتح صنبور المغسل وشرع يعب الماء دفقات في جوفه.. ثم لم يلبث ان يفرغه زعاقا أصفر، جلس على أرضية الحمام ثم اتكأ على المغسل..غاب... لعلها دوخة الجوع وكثرة التدخين، لا احساس بالمكان..

لايدري كم مكث في الحمام وهو نائم على الأرض، وجد نفسه أقل ثقلا مما كان، على الأقل يميز ماحوله.. جر قدميه الى البهو، بدا يعد دقات ساعة حائطية عتيقة مما لم تستطع زوجته حمله ؛ اثنتا عشرة دقة بالتمام والكمال تعلن منتصف الليل، الجوع ينهش بطنه.. حاول أن يبرم سيجارة لكنه تراجع.. يريد اكلا.. بعد أزيد من ساعتين اقبلت عاملة المقهى محملة بما طلبه منها، كانت ترتدي قميصا ابيض بنصف كم وسروال من جنز مقطوع من الركبتين وتحت الحزام، منها كانت تفوح رائحة دخان نفاذة، طريقة المساحيق على وجهها وكحل عينيها تؤكد مهمتها كبنت ليل، اتكأ عليها وهما يخطوان الى البهو بعد أن فتح لها الباب، لثم خدها:

ـ توحشتك واشتهيتك..لماذا لم تعاودي إحدى لياليينا الماضية؟

ضحكت في سرها وقد نظرت اليه نظرة ذات معنى وقالت:

ماذا ينقصك يا العريان؟...

قبل أن تهيئ له أكلا، قامت بجولة في البيت رصدت بعض الأركان بنظرة، نظفت المطبخ من أزباله، لاحظت أن كل أوانيه متلاشية أو متناثرة، فالزوجة لم تترك له في البيت الا ما تهرأ وتلاشى وعافته النفس..

أكثر من فكرة راودتها وهي تجول بين أركان البيت، لم تترك مكانا لم تنبش فيه، أتاها سعاله الحاد، فبادرت الى حمل صينية الاكل وأسرعت بها اليه، حين شرع يأكل قالت له:

ـ لم تترك لك زوجتك في هذا البيت الا ماتردى و عافه الضبع..

ضحك لتعبيرها وقال: كانت تتوهمني ضبعا كأبيها، هي لاتعرف أن عبقرية الرجل ليست في سريره ولا لباسه، وانما في ماله، و لحظة غيبوبة تحققها لفة حشيش، وكاس خمر، فيصير فيلسوف لحظته، يفسر الدنيا على هواه وحسب مايعجبه هو، لا ما يروق لغيره، لم تفهمني أبدا كما فهمتني أنت.. مستبدة، ارتحت منها ومن تحقيرها الوسخ.. لئيمة لم تترك مانعا للحمل لم تستعمله، تدعي انني وسخ ولا تريد أبناء يعيشون في الوسخ، هل انا وسخ؟

أدركت أنه دخن ما يكفي من حشيش قبل مجيئها فشرع يهلوس..بعد كل لقمة يضعها في فمه كان يتبعها بقنينة جعة ؛ كانت تشجعه على الأكل ومزيد من الشرب.. التفتت يمينا ويسارا كأنها تبحث عن شيء..قالت له:

اين الصندوقة، أشار بيده الى زاوية في غرفة نومه..هبت واقفة، دخلت الغرفة، قامت بجولة متفحصة بين كل الأركان، ، حتى سريره فتشت ما تحته، لاشيء مما يجول في خاطرها، كانت صندوقة الحشيش فوق منضدة صغيرة، تحتها لمحت ورقة زرقاء جديدة ملتصقة بالجدار من فئة مائتي درهم، ملتفة على نفسها، مدت يدها فأخذتها ووضعتها في الجيب الخلفي لسروالها..

اقبلت عليه، تركته يتابع أكله، وشرعت تبرم سجائر كمزيد من زاد لما تبقى من الليل، بدأ يتملاها وهو يضحك، ثم يميل براسه على كتفها فيلثم جيدها..

اِشرأبت برأسها قليلا وهي بجانبه لتتأكد من انه لم يرها من جلسته حين كانت تضع الورقة النقدية في جيبها.. قالت: مايضحكك؟

رد بعد سعال: كنت أتمنى لو كانت لي قدرة فأعيش ليلتي معك كما أحب؟

قالت وقد نومت عينيها ووضعت يدها على فخده كأنها تثيره:

- وما يمنعك؟ اساعدك كما المرة السابقة..

-أخشى مافعلته زوجتي بي قبل ان أرمي عليها يمين الطلاق:

ـ وماذا فعلت بك زوجتك؟

سخرت مني، عيرتني بفشلي، ركلتني اللئيمة برجلها احتقارا، واسقطتني من السرير الى الارض، ثم قالت:

"جفافة ديال مسيح الأرض"،.. هل انا جفافة حقا؟ أثق بك قولي...

ادركت معاناة زوجته معه، هو رجل غني حقا، لكنه بلا قيمة، بلا إرادة ولا شخصية، نخره الحشيش وفسخ الخمر دواخله، لا انثى تحتمله الا اذا كانت صاحبة مصلحة مادية..

ناولته لفافة، بعد أن اشعلتها.. أخذ نفسا عميقا، تراجع برأسه الى الخلف وكأنه قد غاب عن وعيه، بادرته بقنينة من الجعة قبل ان يعاوده سعاله، استقام في جلسته وصار يغني:

هذه ليلتي وموت رجولتي

أدركت انه يحس ضعفه، وما يغلي في أعماقه هو فقدانه لرجولته قبل الأوان، ماعادت له قوة للعودة ولا إرادة، صار عبدا مملوكا طيعا لسيجارة يبرمها بعد ان يملأها سما، أتى على رجولته بالكامل، ورغم ذلك فهو يكابر، يتملص من الوقوف امام نفسه، فيخالف لها رغبة.. كبره أبعده عن الحياة ومتع الحياة التي هي أحسن بكثير مما استحوذ عليه وصار له هوى وحيدا متفردا يطويه بلا فكاك.. حين ينسلخ الانسان عن الحياة تموت خبراته ثم تموت ارادته..قطع كل علاقة بعالمه الخارجي، حتى الزوجة تخلص من تبعاتها لأنها تعارض هواه المتحكم فيه، لم يعد وفيا الا لقبضة الحشيش وقد تمكنت منه وازدادت قبضتها عليه بعد موت أبيه..

شرع يهذي، تكلمه فلا يرد عليها، يرفع صوته بإعادة المقطع بصوت يزداد تثاقلا..كانت تريده أن يغيب اكثر ففتحت له قنينة خمر مما يحب، سقته كاسين مترادفين، اتبعتهما بلفافة ثخينة من الحشيش..

كانت عيناها تجول في البيت وفكرها شغال، تنتظر فقط غيبوبته الكلية عن الوعي لتبحث في الأماكن التي رصدتها، مد يده اليسرى اليها يطلب كاسا ثالثة، هوت يده وهي تناوله الكاس فطارت شرارة من سيجارة كانت بين أصبعين من يمناه، تحركت هي بسرعة فتعثرت بقنينة الخمر، تكسرت وقد اندلق مافيها على الأرض، هوت على وجهها فانغرست شقفة في عينها اليمني، اشتعلت النيران، بسرعة امتدت في اللحاف الاسفنجية، حاولت ان ترى ما حولها، دمها الفوار من عينها و أعمدة من الدخان تحجب عنها النظر، تفقد قدرة التمييز، لا تقوم الا لتهوي متعثرة في ما تبعثر على الأرض من زجاج وورق،. النار تمتد في البيت، تأكل بنهم كل ما فيه من لحاف أسفنجية يتطاير شررها.. يشتد سعاله من اختناق، هرج ومرج من خارج البيت وقد اندلعت ألسنة النيران..

حين أتى رجال الإطفاء لم يجدوا الا الرماد، وأثر من جسدين متفحمين في بيت بدأ يتهاوى سقفه بعد جدرانه ثم خزانة حديدية كبيرة لفظها جدار البهو.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ولإن صبرك مبلول بصمت عفيف

ترجمين شقاوتي بقبلةِ حفيف

فكم من ضمة حنين سبقت غضبك الدفين

وكأنك تيار عصف في جفن الشدائد

وبحر أمان بموج طفيف..!!!

تروفي ثوب همي المعطوب

بحماس قلب الفرح..!!

فتعيذُ براءتي نفث الوجع ..!!

أأأ..وهبك الإله عين الخشوع

في حضن الدعاء

تلبية بـــــــــــــــُـراق..!!؟؟

كي تلملمي أتراب الوجود من بعثرت الزمن ..!!؟؟

لذا يشرق نور أنوثتك من حياء التكوين ..!!

فَلكِ من فُلكِ الحروف خلقٌ لطيف ..!!

ح.. و ..ا ..ء...

ونون اللغة.. وتاء نحوٍ.. وبسملة القصيد

تهاني ساطعات كحلم الربيع بــ آذار ...

من شمم جسد الألف لروح حِجِر الياء

لأنك كون الهوية.

***

إنعام كمونة...

13/3/2023

 

ما يزال العرب يكرهون بعضهم بعضا

حتى يخرج الفتيان الثلاثة من كهفهم

ويقتل بعضهم البعض

ثم يتساءلون لم قتل قابيل اخاه هابيل

*

لا احد يريد ان يتفرج

على مسرحية هزلية

سيئة الاخراج

تدعى "لم الشمل"

"لم الشمل" مازال قيد التأليف

في دفاتر الانظمة العسكرية القمعية

الحاقدة تجاه الجار

*

عالم العرب آيل للخراب

طال الخلاف والانقسام  بينهم

ففشلوا وتنازعوا

يؤججون التفرقة

وينفخون في نار الفتن

بحماقتهم الصبيانية

حتى تخثر النزيف في رقابهم

و صاروا على طرفي نقيض

يخلطون بين

لا الى هؤلاء

ولا الى هؤلاء

*

يا اخوتي الاشقاء

دعونا نتقاسم الشتائم

والاتهامات

لا يهم ان كانت جارحة

وبألقاب ملعونة

فنحن كلنا عرب

ومن شيامنا الغضب

وزرع الدمار والخراب

*

رغم اننا قطيع خراف ضائعة

في زرائب ولاة الامر

وقعنا لهم ما يبرئهم

من اي خطأ متعمد أو محتمل

وجعلنا من الجنرالات اسطورة

ونصبنا لهم التماثيل

في ميادين الحرية

*

وأتسائل:

كم شاعر كتب قصيدته الاخيرة

عن مأساة "تشتيت الشمل"

وكم شاعر وقف على المنابرالمأجورة

ليقرأ وصاياه عن "لم الشمل"

وتغاضى عن تمزيق الصف

وهتك عرض الجار

*

طالما هزم العرب انفسهم

بايديهم

فليس في وسعهم ان يفعلوا

شيئا آخر

شيئا مثل تحرير فلسطين على سبيل المثال

او اسعاف نخلة سرقها الطغاة

او يكتبون قصيدة رديئة

لرواد التواصل الاجتماعي

اوبلاغات جوفاء متبوعة بمعزوفات خارج السرب

او شعارات ثورية يحرضون بها رعاة الماشية

او يضغطون على ازار الكترونية

لتفجير انفسهم

***

بن يونس ماجن

أيتها القريحة المكلومة

أكشفي عن مكنوناتك

مارسي فوضاك

على مرآى ومسمع البدايات والنهايات

لا تنتظري دنو الليل الضرير

لا تنغرسي في رمال الصمت

فيستبيحك الضلال الكثيف

اِمنحي الحروف هوية النار

عل الجرح يجلجل في منابت الصخر

ينبيء النائمين على هدأة الاحتمال

أني سأنبعث من اليقين

حرفا هيجته مرارة حبر

من عصارة الذاكرة المجبولة

لا أريد للدمع الشجي

المخزن بين الحشا والضلوع

أن يجتبيني .....

كيما أجهش بالوهن

يهتز الاستدراك

المخنوق عند مدخل الوريد

على شاشة اليقين يرسمني

أبجدية مصونة ....لا تنقلب علي

عند منتصف البوح

*

أريدني قصيدة ....تنشد الانسكاب

على امتداد الزمن الهادر

لأعوض الحلم بعض ماكان

من زلاتي ومعاطبي

أعرف جيدا

أن حقيقة الغضب طوفان

لب السماح انهزام

حين تعقمه الثمالة والهذيان

ما بينهما منطقة

لم تنل حكما ذاتيا

ولا هي تحررت

لأخرج من بين الانقاض

والمنافي

أنا الآن انكسار يبدع في التيه

والآه خنجر لا يبرح الخاصرة

عيناي جمرتان حائرتان

بين الغفو والحذر

بين القصاص والغفران

*

يا من كنت شريكي

فيما اقترفنا من شعر

ما اغتلنا من لحظات الفرح

لك مني سلام

ولي منك وعود...أن تمجد حزني

بما ملكت من لغات

تجعل قصائدي

بعضا من صحف الاخرين

احتراقي امتدادا

لما كان عليه الاولون

من وحي الحلم...

جاءت أبهى أشعاري

فكيف تكيلها لأفانين الموت؟

كل ما رسمت على قفا الأمس

من أول البعث ...حتى آخر الدفق

لا ينال من الأصل شظية

فقد تم بتحكيم مخالب الانتظار

حين أجهش القلم بالبوح

دون استئذان الذاكرة النخرة

عدت إلى لطخة الطين

أقرفص قرب حزمة الأحكام الرجعية

أغطس في بحر التباريح

حتى صار الاكتمال بألوان أنت شئتها

اليوم......تدعوك العورة خفاقة

وسط ظلمة شاسعة

أن نتخاتم بوهج الصمت

بصيغة الحضور...ننتفي

ليترسب في القعر صوتي

على تلة الغربة يرتفع الدعاء=

حيى على الحسرة ...حيى على الكمد

هنا تناهيد أشرقت

تنقط السماء جمرا بوذييا

بمقص القسوة تقد جدائل فرح

زادت عن حدها

فلعثمت لحن الابتهاج

*

لم خطفت الدواة؟

والحرف عند عنق الزجاجة

استوقفته تعاليم الليل

لا انطلق صرخة...ولا صار برهانا

ها قد أرقيت نفسي

بما تهاوى من فوهات السحب

قرأت تراتيل الليل

حتى تقيأت الموج

وما التهمت من ملح

على شطآن الوهم المطوح

فافتوني فيما ترون من امري

ولا ترجموني

فقد قدمت القرابين لشيوخ النار

كيما يعطبوا قلبي بعصاهم

*

لست الكم المنفصل

ولا الكيف المتصل

ولا أنا تلك الغواية المنفعلة

انما انا أناشيد انحازت الى رقيق الشعر

هاجر الشعراء وبقيت هنا وحدي

أعلك المدى

حتى صلبني الملل على جدار النسيان

كيف السبيل اذا

لتسلق سهاد الحواس؟

عبور ثورة القلق؟

لأنظم للارتياح أغنية الاقامة؟

*

كم استجليتك أيها الغياب

أنار اشتعالي دهاليز غموضك

لكنك أمعنت في استعتامي

تضليل ما وضح مني

حتى ضمختني بالتلف

*

سأرحل ....لأبرأ من جرح

لج عميقا في جسد الملح

موحشة دروب الهجر

الا من قبس نزيف يرسم الطريق

وفرح قتيل يرافقني

حتى اذا صارت الحكاية فقدا

أضحت الذكريات مقصلة

لحروف طالما عطرت المسافات

مسكا .... وكثير عنبر

***

مالكة حبرشيد

 

عانق صديقته مرحبا بها قائلا:

- الترحيب بالاصدقاء واجب

ولم تعلق هي، ومرت كل اقواله وتصرفاته دون ان تبدي رأي مخالفا لما وصلها منه.

لم تجد الرغبة في مناقشته فقد مضت الحياة بهما هو يقول ما يتعقد انه صحيح، تعبت هي من صراخه واقواله المتكررة انها دائما مخطئة وانها بعيدة عن الصواب ولا تعرف ان تتصرف التصرف اللائق ولا يمكن ان تتخذ منه قدوة في صحة الأقوال والأفعال، سنين العمر التي مضت سريعا وخلت من كل ما يبهج القلب عودتها دائما ان تكتفي بالصمت ولكن هذا ايضا لم يرضه:

- لماذا تصمتين؟ أليس عندك ما تقولينه؟

لم تجد ما تقوله ككل المناقشات معه هو المتحدث دائما وهي الصامتة، وككل مرة يتحدث اليها معنفا تتذكر كل تلك المناسبات التي كان يحثها فيها على عدم رد السلام :

- المراة في مجتمعنا لايمكن ان ترد السلام هو عيب كبير

- وهي تود ان تحيا بسلام وهدوء لا يعكر صفو حياتها صراخ او تعنيف  وكل جاراتها يرددن السلام ويحيين كل الجيران والجارات باحس ما يكون السلام الا هي تكون كالبكماء التي لا تحسن شيئا وهذا الذي يسمونه زوجا يقودها الى حيث يشاء حتى لو بدت مخلوقة لا رجاء فيها ولا تحسن شيئا ولا يمكن ان تتغير نحو الأفضل كبقية خلق الله .

قلت لك مرارا اننا مجتمع محافظ وانه من المعيب جدا ان تردي السلام حتى لو كان البادئ بالتحية جارا

- لكنني اجد كل الجارات يسلمن الاا انأ ابقى صامتة حين يحييني جار قريب منا يزورك باستمرار.

- لا تجادليني اجد عندك هذه الايام رغبة في مجادلتي انت ليس مثلي انا رجل اعمل ما أشاء وانصرف كما يحلو لي وأنت امرأة كلها عيوب يراقبها المجتمع ويحكم على تصرفاتها مهما تكون وانا لا اريد ان تكوني مضغة في أفواههم، اقول لك لا تردي السلام وهذا يعني الا تكوني انت البادئة بالسلام حتى لو كان على احد من جيراننا المقربين .

- ومنظره يعانق صديقته ما زال يؤرقها ويسلبها الراحة ويبعد عنها الطمأنينة وعنده العديد من الصديقات والأصدقاء يسهرون معا ولا تفترب منهم، تحضر لهم كل ما يلزم سهرتهم دون ان تشاركهم الجلوس ومرة واحدة اقترح احد اصدقائه :

- لماذا لا تجلسين معنا نحن أصدقاء زوجك وصديقاته واصدقاؤك ايضا نوال زوجتي تطلب مني ان ادعوك ان تشاركينا سهرتنا، حرام ان تتعبي في تحضير لوازم السهرة وفي طبخ العشاء دون ان تجلسي معنا .

- تسمع صوت المدعو زوجها

- اذهبي بسرعة عندك عمل في الصباح ولا تسهري معنا، وفي الصباح اغسلي الصحون التي تركناها على المائدة .

تصمت هي ولا ترد على اقتراح الصديق او أوامر الزوج، تسير وحيدة محبطة دون ان تتمكن من النوم، تنتظر ان ينتهي القوم من السهرة وتناول العشاء لتتمكن من ترتيب الصالة وغسل الصحون والتهيؤ للدوام صباح الغد. ويأتيها صوت الزوج معنفا:

- هل اشتكيت لصديقي صلاح؟ لماذا اصر على مشاركتك سهرتنا؟

***

صبيحة شبر

18 شباط 2023

فجأة

هكذا

من دون مقدمات

يطغى عليه زمن ما تحت الماء

الماضي اختفى.. لا وجود له ولا أثر.

هو لا يتذكره قط ولا يعرفه إلا حين تقع عيناه عليه

يشعر كونه يختلف عن الآخرين.

فلا يحس بوجود سابق لما مضى بل لما يكون.

أين كان قبل هذه اللحظة؟

وإلى أين هو ذاهب؟

ومن هو؟

يتحسس جيوبه فيعثر على بطاقة وصورة له، وقد وجد نفسه يمشي على الرصيف، يعي لحظته الحاضرة وحدها:مما يؤكد وجوده :علامات كثيرة تشير إليه.. إنسان يمشي في الشارع.. ليس هو، فهو في حلم يمنعه من أن يتذكّر كلّ شئ ماعدا اللحظة التي يرى نفسه فيها.أين تلاشى الماضي؟ليكن ذلك حلما.. كابوسا ليسمِّه ما يشاء فالأحلام هي الحقائق الوحيدة التي نعيشها.

وتساءل:

أشياء كثيرة تدل على أنّي كنت في أمكنة أخرى غير هذا الشارع من قبل فهل تفاجؤنا الامراض هكذا دفعة واحدة فلا نعرف من نحن لكن لساننا لا ينسى الكلام، شارع سوق.. ناس.. شمس غيم.. معرض أمامه، وشارع يصخب بالمارة، هناك من ينادي بعد غد عيد، يجوب الشارع يستوقف المارة على الرصيف الآخر، وامرأة تدفع عربة طفل، يجتازه شاب مشغول بالهاتف النقال،، سيدة بشال أبيض تقول لأخرى في عمر ابنتها بعد سنتين يصبح ابني مهندسا اصوات صاخبة واخرى هادئه لايهمه أين كان ومتى ضاع لم يبق لديه إن كان هناك شئ سوى لسانه والكلام.

كيف تعلم هذا

وعرف لغة الاخرين الذبن يتهامسون ويزعقون ويتناجون !

يعرف لغة العابرين ولا يعرفونه شخص ما يبتسم بوجهه يهز رأسه اليه مرحبا، وآخر يقصده ظنه صديقا أو من معارفه ثم تبين أنه يبيع أوراق اليانصيب.هناك شئ واضح غامض لايقدر أن يفهمه. يسمع شخصا كأنه يناديه عبد الودود، عبد الودود، تلتقي نظراتهما فينسل الآخر وسط الزحام ويغيب.أين يذهب ومن أي مكان أتى؟

هل هو عبد الودود؟

من أين مكان خرج ومن هؤلاء الذين يعبرون أمامه.

توقف لحظة أمام بائع عصير عنب كان في حالة عطش شديد تحسس جيبه وجد به بعض أوراق تشير إلى علامات لا يذكرها.دينار نصف دينار عملات معدنية يقرأ الأسعار على اللوحة ويتردد لا يريد أن يغامر بأشياء لا يعرفها وإن كانت في جيب سرواله.. خطا وقد أعاد النقود إلى جيبه..

ثم واجهه مقهى شعبي.. يدخنون، ويحتسون الشاي والمشروبات الغازية.. كلمات لا يعرف كيف دخلت عقله، يريد أن يعود إلى مكان انطلق منه ويتحدث مع آخرين لم يعد يعرفهم .ملامحهم ضاعت.غادر الرصيف المحاذي للمقى واتجه نحو مكان ما لاح له أنه ساحل نهر عريض.اختار مسطبة وبدأ يفكر، وفي لحظة ما، لحظة أبطأ من سنين طويلة امتدت يده إلى جيب سترته، فتحس شيئا خشنا.

بسط البطاقة وبدأ يقرؤ:

وديع عبد الله

موظف حكومي

1967

إذن

لم يكن العابر المتعجل وسط الزحام يناديه.

صورته أم صورة شخص قريب الملامج منه .من دسّ هذه البطاقة في جيبه.إنها تشير إلى سنة لا يعرفها .1967 في أية سنة نحن وكيف تمت عملية الحساب.اسم أمه أبيه يظن نفسه يعيش في عالم افتراضي هنا في الحلم لا شئ يثبت وجوده وبطاقة عليها صورة أخرى.لا بد أن يكون حلما ولا يشك أنه يستفيق منه بعد دقائق أو ساعات.نهض من مكانه، وقادته قدماه إلى شارع آخر.

مشاهد جديدة تتكرر يراها في إطارها العام بغير حالات سابقة.. كأنه قذف في هذه الدنيا من غير أن يعلم في لحظة غريبة مقطوعة، أشجار وأبنية وطيور شوارع عريضة وضيقة، يقف في واجهة محل يبيع الأجهزة الألكترونية، يشاهد من على شاشة التلفاز إعلانا، فتراوده فكرة ما، يلغيها ويهم بالدخول، أشياء يعرفها غريبة عنه أكثر من تلفاز أجهزة كومبيوتر، ملوك ورؤوساء.يعرف ولا يعرف، يعود للتساؤل عن نفسه:

كيف دخلت المعرفة إلى رأسه فعرف كل شئ حاضر ونسي كل شي غائب.. يعود للشك:

إنّه حلم

كابوس لطيف يرغمه على التفاؤل

سيستيقظ منه يتأكد تماما أن الأحلام هي الواقع الوحيد الذي نعيشه في حياتنا.أنا الآن مجرد فكرة، والحلم واقع، تجذب نظره لافتة تحمل اسم طبيب.

يتأمّلها.

هل من المعقول أن يُقذف فجأة في هذا العالم من دون منقدمات ولعل الطبيب يفهمه ويأخذ بيده.يبتسم يصعد درجات يقابله بابتسامة السكرتير ذو الوجه النحيف الأشيب الشعر:

اسم حضرتك؟

يتردد قليلا يتذكر البطاقة التي في جيبه:

وديع نعم وديع.. اسمي وديع

هناك شئ التصق به، شخص آخر لا يعرفه، وتردده في نطق اسمه يثير ريبة السكرتير الذي غادر مكتبه ودخل غرفة الطبيب، وخلال دقيقة أبصر عالما على الجدران يعرف اسماء بعضه ولا يعرفهم .. لوحه على الحائط تجسِّد شخصا شفّ جلده فبانت العوالم الداخليّة والأحشاء:لسان وبلعوم معدة رئتان .كلّ شئ واضح، ولوحة أخرى لمكعبات متباينة الألوان تحيط بساعة جميلة تشير إلى الرابعة.. يدرك أن الوقت عصر وأن الساعة لا تكذب، لم يتذكر في هذه اللحظة أنه كان يؤمن أن الساعة لا تكذب سواء تقدم الوقت فيها أم تأخر.. بوستر آخر على الحائط فوق مكتب السكرتير لسيدة شفّ جسمها عن أوردة وأعصاب تتواصل من جمجمتها إلى أظافر قدميها.. ثمّ دعاية لحبوب ليس من الضرورة أن يهتمّ بتفاصيلها، وهناك أيضا مفكرة على الحائط .يوم سبت .رقم شهر وسنة .. 2003اليطاقة في جيبه تذكر عام 1967 لم يتذكر أصدقاءه الأرقام .. عشرة.. مائة ألف.. حصة المشروع الزراعي.. وارد الجمرك السنوي.. لأرقام الحسابات الكثيرة التي مارسها في البيت.. جلوسه طول اليوم أمام الحاسوب، ساعات وساعات مشاريعه مع راضي أو محادثته صديقه المهاجر ( محسن)

كلّ شئ تلاشى

انمحى

في يده بطاقة تقول 1967 وأخرى على الحائط لعالم مبهم وليس هو متفرغا لتفاصيل الأرقام الصغيرة التي تلحق هذين الرقمين الكبيرين.

أيّ رقم صغير لايهمّ

لا يعني شيئا

رجل آخر يدخل .. مريض ثان في الثلاثينن أشقر.. لابدّ أن يعرف أدق التفاصيل عن الآخرين والصور الهياكل والتماثيل.. اللون والكلمات فقد توصله إلى حقيقةما تتعلّق بوضعه الحاضر .. المريض يتخذ مجلسه على الأريكة أسفل الإعلان، والآخر جنب مكتب السكرتير.

حسنا إنه يرى الآخرين ويعرفهم ويمكنه أيضا أن يقدّر أعمارهم.

بعد لحظات يقدم السكرتير، ويجد الطبيب بانتظاره .. مرة أخرى لايخطئ.. الطبيب.عبد الكريم الرشيد الاسم المتقوش على العارضة في الخارج وسبم.أشقر طويل القامة:

يتذكر، يعرف، الزمن الحالي..

يبقى هناك شئ ما لايدركه..

مشى بسوق، وجلس على حافة نهر، تعامل بنقود مع السكرتير، يقابل الطبيب يدرك ألوان الظواهر حوله ولايدرك نفسه.

أبيض

أحمر

أخضر

ماء.. فرح .. مأتم.. عيد.. ضحك

لا يتذكر ملامحه: يجهل اسمه، وحالما أغلق الطبيب باب الغرفة حتى تلاشى ماكان فيه من ذاكرة سابقة عن الشارع والآخرين:

تفضل.

يجلس عند حافة المنضدة ويعود الطبيب إلى مكانه:

سيدي من أنت؟

ينظر الطبيب باستغراب، يدرك بحكم خبرته أن المريض إما يعرفه منذ زمن وإن لم يكن من مرضاه أو قرأ اللوحة خارج العياده فدخل لعلّةٍ ما فيه:

أنا الدكتور عبد الكريم الرشيد وأظنك قرأت العنوان فدخلت ودفعت رسوم الكشف ولست مخظئا للعنوان.

ينظر بدهشة حادة.يجرفه ذهول.قبل قليل عرف شيئا ما وحالما قابل الطبيب، وجد نفسه هكذا فجأة في مكان غريب ولم يسبق له أن عرف مشهدا آخر:

نعم مم تشكو؟

نظرة بلهاء حائرة

لا بد أن يكون الأمر كذلك.المعدة أم الأمعاء؟

لا أظنه مرضا عضويا

قال الطبيب مستغربا:

مذا تقصد؟

ياسيدي حدث أني وجدت نفسي في هذا العالم هكذا فجأة من دون مقدمات من أنا ؟كيف عشت ؟متى حدث لي ؟المعاني في ذهني والمفاهيم.. أرى الآخرين ولا أعرف نفسي كيف اقتحمت هذا الوجود أو كيف اقتحمته، وها أنا أعرف معاني لا أدري بأيّة طريقة انسلّت إلى ذهني، والأدهى كيف وصلت إليك وأين كنت؟.

ازدادت دهشة الطبيب نظر إليه يشكّ وقال:

لكن ماتشكوه خارج عن إرادتي

صدقني أني وجدت نفسي بهذه الصورة عندك من غير وجود سابق لي في هذا المكان.

فهز الطبيب رأسه ولعبت أنامله بالقلم الفضيّ ثمّ نحّاه جانبا :

ألم تقرأ اسمي وتخصصي واضح أنا طبيب عام .. طب باطني يتعلق بالأحشاء وأنت بحاجة إلى طبيب نفساني

فتساءل منكسرا:

ماذا تظن ما بي إذن؟

أعتقد أنك تعاني من فقدان الذاكرة؟

تمتم الطبيب مع نفسه احتمال وربما بعض من نوبات الجنون الذي يمسح الذاكرة:

أنا لا أعرف على الأقل الآن أحدا ولا مكانا لا أعي كيف قًذِفَ بي في هذا العالم أدرك ماحولي من حضور هو أنت وحدك المنضدة التي تقصل بيننا سرير الفحص الأبيض الطويل مصباح الغرفة ولا أدرك أي شئ مما مضى.

هز الطبيب رأسه برما :

لا بأس عليك هناك مشفى ليس بعيدا من عيادتي فيه أقسام كثيرة يمكنك اللجوء إلى أحدها هناك يساعدونك أما أنا فسأرسل سكرتيري يرافقك إلى المشفى وسأكتب لهم احتمال إصابتك بفقدان ذاكرة مفاجئ.

شيعه الطبيب إلى المكتب، وحالما دخل غرفة الفحص مريض آخر وأغلق الطبيب الباب حتّى وجد نفسه في مكان جديد.. المشاهد التي رآها من قبل يراها الآن للمرّة الأولى:بدن رجل على الحائط وأحشاءه.. صورة لجسد سيدة تبدي جهازها العصبي، مفكرة.. تواريخ وجداول.. اليوم.. وساعة تحيطها مربعات زاهية الألوان يشير عقربها إلى الرابعة والنصف:

ترى أين هو الآن ومن جاء به إلى هذا المكان؟

قادته قدماه إلى الشارع ثانية سأل السكرتير من أنت وأين كنا فظل الرجل صامتا واستقلا سيارة أجرة إلى مشفى النورالفخم.طوال الطريق فكر بما حدث له .الماضي ليس بباله ولا يعرفه، والرجل الذي يجلس جنبه.لا يثير ريبته بل حيرته أين كانا هما الإثنان.

يدرك فقط الحاضر والمستقبل، بل الأكثر إلفة له الحاضر، الدنيا لحظة نعيشها تذوب فلا نتذكرها.بطاقة جديدة في يده

إين كان.. ؟

يدرك أنه يمشي في الشارع ويبحث عن مشفى اسمه النور ولا يذكر من وضع البطاقة في يده.لحظته التي يعشها معه فإذا مضت نسيها تماما أو لم يعد يؤمن بها .لا ماض ولا مستقبل هو الحاضر وحده الذي يملأ الفراغ من حوله..

أين كان قبل لحظة إن كانت هناك لحظة مرت ما يثبته قاموس المعاني في ذهنه كلمة ماض .. أمس.. البارحة.. مجرّد كلمات باردة تستقر في ذهنه، وقد وصل إلى المكان الفخم، فتاة شقراء بمريلة بيضاء طويلة الشعر تركت شعرها يتدلّى على كتفيها، ولوحة تشير إلى مكان استراحة واستعلامات:

لو سمحت انتظر قليلا

وقد نسي الرجل الذي رافقه ومازال لا يدرك كيف وصل.

تتطلع في البطاقة التي في يده والتقرير القصير الذي زوده به الطبيب من قبل.

تهز رأسها، وتتحاشى أن تنظر إليه بريبة.

حسنا جئت من عند الدكتور( عبد الكريم )

ماذا تقولين؟ الدكتور(عبد الكريم )؟

لا بأس انتظر قليلا.

يتساءل مع نفسه:الدكتور؟

البطاقة التي يراها الآن يراها على المنضدة، ونظرات موظفة الاستعلامات تحوم بين التقرير القصير، دهشة وشك ثم تسأل:

معك بطاقة تعريف؟

يتحسس جيبه ويخرج البطاقة يلمح اسما مكتوبا صورة له لا يعرفها إلا الآن.. يأتي موظف ضخم يقود عربة ذات عجلتين عريضتين، ينطلع في بطاقته ويطلب منه بلطف أن يرتقي العربة، صعد وعندما عبر الدهليز انتظر الممرض خلفه لحظات حتى انفرج باب عريض، فوقع بصره على ممرضة تقف أمام خزانة مفتوحة أخرجت بدلة بيضاء تركتها.

***

رواية قصيرة

قصي عسكر

هل للغريبِ هنا قضِيّه؟

هل للغريبِ هنا حقّ السّؤالْ ؟

هل للمُهاجِر ِهنا ذاك الإسمُ

أوالعائِلة ُ الكريمة ْ؟

ليس للغريبِ هنا سوى رقم ٍ

وبعض أحْرُفٍ كتبتْ  بدَفترْ .

هل لي ولكَ هنا جُغرافيا أو تاريخْ؟

ليس لي ولكَ هنا

حَتى دفء الرّغيفْ

ليس للغريبِ هنا

ديوانٌ،

مَضافة ٌ،

كلمة ترحاب ٍ،

وقولُ: يا هَلا بالضيوفْ....

ليس للغريبِ هنا

سوى مَصابيح الرّصيفْ.

**

لا نسمَعُ هنا صَوتَ البائع أبي محمود

في الصّباحْ،

لا نرى ابتساماتِ الأهلِ والأحبة

في سهراتِ الصّيفْ.

لا يَفرَحُ الأطفالُ  في بيتِنا

لعودةِ الراعي – الولد – وضّاحْ،

من الجبل ِ الأخضرْ.

لا حاجَة َ لتذكير الغريبِ بوطنِه

فهو يَزورُهُ كلّ ليلة ٍ

في المَنامْ.

**

موحِشة دنيانا هنا ..

بل غليظة القلب ...

لا تلقاكَ هنا

أشجارُ التينِ، والزيتون ِ

وعشبة ُ الزعتر

ونبتة ُ العَكوبْ.

لا حاجة َ لتذكير الغريبِ بوطنِه

فهو يزورُهُ كلّ ليلةٍ

في المنامْ.

**

مِسكينٌ أنتَ

يا ابنَ أحمدٍ

مسكينٌ أنتْ،

لقد انتزعوا مِنكَ عقالكَ

والكوفية ْ

حَرَموكَ  التكلمَ

بِلغتِكَ العَرَبيّة ْ.

لا حاجَة َ لتذكير الغريب بوَطنِه

فهو يَزورُه كلّ ليلةٍ

في المَنامْ.

***

بقلم: إسماعيل مكارم

كتبت عام 2018

لا أكتب شيئاً هذا اليوم أصبت بقحط الكلمات منذ آخر سطر أرسلته لك...

أستظل بالشمس في ظل هذا الهطول المتواصل للصقيع والذي أصاب أناملي بالوهن...

الغريب في الأمر أن لا يعني لي غيابك أكثر من إنك لم تعد على  قائمة الحاضرين في هذا الزحام الصباحي المكتظ بالأسماء والوجوه..

أن لا يعني سوى إنني ألبست قصائدي قرطاً  فضياً في أذن الأبجدية دون عناء عندما كنت أحاول أن أنتزع الأحرف الكتابية من مخبأ ريشتي دون جدوى...

إنك الآن على قيد حبر تطوف الأوراق المبعثرة هنا وهناك وعيناك غارقتان في بحر ذاتك...

هل غريباً أنك لم تعد توقظ الفرح في الأشياء التي تملك حق مقاربتك؟!.. ولم تعد كلماتك تلتصق في جدارية سطري كما كانت...

يا لتلك الكتابات التي تطايرت حتى أحدثت ذاك الإنشطار النيزيكي في سماء ليلتي...

 ويا لتلك الأحاديث التي إنصهرت في مواقد النسيان وتلاشي الحنين رويداً رويداً مع إنحصار المد والجزر في مرافئ ورقي....

ليس غريباً أن تخمد رغبتي في العتاب وأن لا تعزف  موسيقاك أوتار مواسمي...

وأن يكثر الضمير الغائب على رسائلي وتكف الأعراس عن ضجيجها المعهود حداداً على غيابك الوهمي...

صار الأمر أكثر من كونه محاول إجتذاذك من تربة النصوص المتجمدة ووضع مساحيق باهته على ملامح الورق كمحاولة أخيرة لطمس الحياة من تلك الأحرف القليلة...

لم يعد يهم الأمر أصبح كل شيء فاقداً للذاكرة بعد أن تسللت خارجاً ومتخفياً من الأبواب الموصدة بقفل الحنين..

لا تقل شيئاً لأن الأمر إنقضى ولأن محاولاتي في إنعاش حرفك باتت مستحيلة... لا تمد يدك نحو حرفاً سقط متعثراً لأن الأشياء لا تسقط من تلقاء نفسها إلا حين نتعمد أن نفلتها...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان

مُهْدَاةٌ إِلَى صَدِيقَتِي القاصَّةُ السورية

 ريتا سكاف

***

تَوْقِيتُ قَلْبِكِ بَثَّ الْحُبَّ فِي نَفَسِي

فَاخْضَوضَرَتْ رَايَتِي فِي صَحْوَةِ الْقَلَمِ

*

أَحْلَى لِقَاءٍ يَعِيشُ الْحُبُّ قِصَّتَهُ

أَنفَاسُهُ بَسْمَةٌ تُنْجِي مِنَ الْعَدَمِ

*

فَبَارِكِي لِي رُجُوعَ الْحُبِّ يَا قَمَرِي

وَدَنْدِنِي قِصَّتِي فِي مَوْكِبِ السَّلَمِ

*

نُوحِي عَلَى الْقُدْسِ فِي الْأُولَى لِآخِرَةٍ

دُسْنَاهُ فِي مَحْفِلٍ لِلْعَاهِرِ الرَّخِمِ

*

لَمْ نُلْقِ بَالاً لِمَسْرَى فِي أَجِنْدَتِنَا

وَحَارَبَتْنَا ذُيُولُ الْقِطِّ فِي زَخَمِ

*

وَاحَسْرَتَاهُ عَلى الدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا

قَدْ خَلَّفَتْنَا بِسُوءِ الْعُهْرِ كَالْخَدَمِ

*

مَسْرَى الرَّسُولِ أَسِيرٌ فِي يَدَيْ نَفَرٍ

مِنَ الْيَهُودِ بِعَهْدِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

شكراً له..

إذ مايزال واقفاً ولايُريني مصرعي

فقط، كهيئة وشكل خارجي ساكن

يا ظليَ الوفيْ، تعبتُ من كثافتي ووحدتي

هل ضِقتَ بي؟ يسأَلني

يُكرِرُ انسكاب صمتنا بصمتنا

نص أخير للمساء

صدَّقتُ فكرةً..

ظننتني إضافة مهمة

تنكسر المرآة والرؤى وصورتي

حمامةٌ ستُربكُ الهواءَ كي تُطَيِّرُ السكوت

يسألني، هل ضِقتَ بي؟

يا ظلي المكابر المكسورْ تعبتُ من تكسري

خطاي.. والموسيقى.. والجهات

ضوءٌ يرمم الشروخ في قصيدتي

ظلٌ جديد للغناء

قمحٌ وفير في الجسد

***

فارس مطر / برلين

في نصوص اليوم