نصوص أدبية
احمد القاسمي: الغوّاص والسّرطان الآلي
عَاودتْني رغبة آلْغوص في أعماق مياه الأُقيانوس، فحركت بقدمي زعانف كبيرة وثقيلة، دفعتني بيُسر وبهدوء في عمق الماء، مُستنشقا الأُكسجين المعبأ في قارورة، تشدها إلى ظهري أحزمة مطاطية، فرأيت في الأعماق وِهادا وأغــــوارا، وغابات من النباتات البحرية، وكائنات غريبة الشكل؛ فجأة برز أمامي من بين الصخور سرطان؛ يكبر عما ألفته عيوننا من سراطانات الشواطيء الصخرية، يُثير الرهبة بنواتِئ درعه، وبمخلبه الحاد الذي يُشهره كلما شعر بخطر يتهدده، ورغم ذلك تعقبته، مُتأملا حركاته الفريدة في محاذاته للصخور والأجمات البحرية، وحاولت الإمساك به؛ فآختفى في سحابة رملية يُثيرها بدبيبه، فلم أخل سبيله؛ بل جددت في البحث عنه، فرأيت في لحظة ما ما يصطبغ بلون الصخر يتحرك؛ فلم يكن شيئا آخر سوى السرطان، سبح بعد برهة بعيدا يضرب في الماء بأطرافه المرنة، فآقتفيت أثره في تحد وعناد، ورأيت أحيانا أنه يتقهقر فيلوذ بحفرة، فيبقى لصقها؛ فآنتشله بقوة، لم يُبد أي مقاومة؛ فآستغربت لأمره، وتأملته عن كثب، فلم أدرك طبيعته، لم يكن سرطانا حيا، هو شيء شبيه به، فآجتاحتني أفكار وخيالات كثيرة؛ قلت في نفسي: «في عمق المحيطات والبحار بقايا سفن وغواصات، وطائرات غارقة، وهياكـــل آدمية لم تتحلل، وقنابـــــل حية قابلة للانفجار، وأدوات معدنية»، فتصورت على آلتوّ محطات (تحتمائية)؛ يسكنها بشر يقومون بأعمال لا تطرأ على بال سكان الأرض؛ لذلك أرتاب أحيانا فيما يجري في أعماق المحيط.
وضعت السرطان بحذر كبير في كيس مربوط إلى حزامي؛ الذي يحمل ثُقّالات الرصاص، وحركت زعانف قدمي، فآرتفعت أشق الماء، ألتفت بخوف مرة بعد مرة في زُرقة ماء البحر، أتخيل جيشا بمثل هذا السرطان يتعقبني بآستنفار رهيب، لأن عضوا من كتيبته يوجد في حوزتي، ولما ظهر لي غاطس مركبي؛ تمسكت بحاشيته وآمتطيته على عجل، ووضعت السرطان على طاولة الفحص، وفي باطني رجاءُ مَنِ آستنفد كل وسائل الكشف عن شيء له لغز غائر؛ من أن لا يوجد في أوصاله قنبلة بعَدَّاد تنازلي. قد تصدق نبوءتي؛ فلقد طفحت تِقانة العصر، وأنَّى وليت وجهي أجد ما يُذهلني وما يُريبني.
حدثتني نفسي قائلة: «قيل أن في إسمنت الحيطان، وفي السقوف؛ أسياخ الحديد، ولاقط صوت».
ضغطت بسبابتي وإبهامي على أعضائه، فلمست فيها لُيونة طبيعية، أتيت بِمشرط، وشرعت أشق الأطراف والرأس؛ فكشفت عن جهاز متكامل؛ ذو نظام آليّ وتِقاني معقد؛ من أسلاك موصلة للطاقة، وقطع مغناطيسة، تحتل مركزه نواة عقل إلكتروني ببرمجة دقيقة، يستمد طاقة تشغيله من الفارق الحراري لمياه سطح البحر الدافئة، ومياه الأعماق الباردة، فهي إذن أعضاء سرطان طبيعي مُحنطة بمواد كيماوية، عبارة عن غشاء يلف آخر آلي: لاقط صوت، وجهاز إرسال، وآستقبال ذبذبات صوتية؛ يتم تحليلها في مركز ما.
اِرتسمت أمامي صورة فظيعة لعدد كبير من هذا آلنوع من آلسرطان، يجوس بين الصخور؛ قريبا من سواحل المحيط، ومياهه الضَّحلة، تنقل أغشيتُها آلاصطناعية آلحساسة همساتنا، وهمهماتنا، ودبيبنا، وحركاتنا، وتنسخ ملامحنا، ونظراتنا، وقاماتنا.
ألا تكون في الدماء المستوردة أجهزة رصد مجهرية؟ تنقل نظام مجتمع بكامله إلى حواسيب، يُسجل في أقراص، ويُوثق إلى حين؛ إن في هذا كله نشوة إبداع وخلق، وحافز وتفوق، وسطوة أيضا.
أليس فيه زحف وسيحان؟
إنهم بلا شك يُعايِنونني الآن، ويقرؤون ما يجول بخاطري، وما يخططه فكري. إن هذا السرطان الذي ما تزال فيه نبضات بقية من طاقة كهربائية؛ ينقل ضربات قلبي، وتشنُّجات أعصابي، وتقلّصات أوداجي؛ ويُترجمها إلى لغة؟ لم أتردد؛ فأدرت بسرعة محرك المركب، ولُذت بالشاطئ، وسِرت حثيثا إلى غرفتي، وأحكمت إغلاق بابها ونوافذها، وتصورتني أنني في حصن منيع، جعلت السرطان في طَسْت وصَببْت عليه كمية من البنزين وأضرمت فيه النار، فآحترق وتفحم، ثم صار رمادا أذروه بأصابعي.
شعرت بفرحة آنتصار؛ فآبتسمت وغمرتني نشوة؛ ألم أكتشف جهازا ينقل نأمة وإشارة من يمشي على هذه الأرض، وأُبطله وأدمره؟
ما لبث أن داهم غرفتي ثلاثة رجال في زي عسكري، يحملون رشاشات ومصابيح يدوية، أوثقني إثنان منهم، وسحب ثالثهم من جيبه جهاز مغناطيس، ثم مرره فوق الطّست؛ فآنجذبت إليه حبة معدنية، تناولها بين أصابعه مُحدقا فيها، فآنفرجت أسارير وجهه، وقام آخر بملء خزان إبرة بسائل قنينة، أفرغه في عروقي، وتركني أهوي على الأرض، وعبثا حاولت أن أقف على رجلي وأستند إلى الحائط؛ فتمددت على ظهري وأحسست ببوادر غيبوبة، لم أعُد أُبصر بعدها شيئا، فقط سمعت وقع أحذيتهم، ثم ساد المكان سكون.
***
قصة
أحمد القاسمي