نصوص أدبية
جودت العاني: الانسحاب من الفوضى!!
أولا- توماس والكلب..
اعتاد على ان يرافقه كلبه حيثما يذهب وخاصة الى المقهى عند منحدر منزله الكائن في منطقة بليم في لشبونه القريبة من البحر.
لم يعد يأتي إلى المقهى ولم أرى كلبه الجميل الذي يشبه الذئب له نظرات حادة يقظة ولكنه لا يؤذي احداً مسالما.
سألت نادل المقهى: لماذا لم نرى توماس وكلبه منذ اكثر من اسبوع؟
اجاب على الفور، انه احيانا يرى نفسه مرغما على الإعتكاف من الضجيج.. خاصة الفوضى المشبعة بالضجر ثم يأتي التكرار..
كما قال لي ذات يوم (أن العالم لا يطاق)، ومنذ ذلك الوقت غادر المقهى الى منزله الكائن على تلك التلة المسكونة بالأشجار الكثيفة المطلة على البحر..
وأضاف: أدركت أنه يحتاج للصمت.. ثم اطرق رأسه الى الأرض وسار يتابع عمله الرتيب.
ما الذي يجري.. عالم الرياضيات يهرع نحو اللآجدوى من معايشة الخارج الذي تعشش فيه فايروسات العقل كما قال لي ذات يوم.. أجل فايروسات تداهم العقل والتي أسماها المفكر والفيلسوف البريطاني كولن وليسون بـ(نفايات العقل)..
سأل زميله الذي يدرس الفلسفة في جامعة لشبونة..
من أين تأتي هذه النفايات؟
جاءه الرد : إنها تأتي يا صديقي من أفكار تتشظى كلمات وحروف وإيحاءات وتمويهات وإشارات وتلميحات، تتفكك عند تفسيرها إلى معاني وتصورات بعضها قد يكون مشوشاً والبعض الآخر مدسوساً وقد يكون بعضه صحيحاً معقولا أو مختصراً أو مضخماً.. وكلها تداهم العقل وتضعه في دائرة الفرز العقلي، وهي عملية ذهنية تدخلها فايروسات التشويش التي تسمى بـ(نفايات العقل).
وكيف يمكن التخلص من هذه النفايات يا صديقي؟
التخلص منها ليس سهلاً ولا يسيراً، لأن ذلك يعتمد على جملة من العوامل بعضها ذاتي محض يتعلق بالثقافة وعمقها والمدركات وقدراتها على الفرز ووضع الحدود الموضوعية في عزل الشوائب التي تسمى بالنفايات التي تجعل الكائن البشري يعيش حالة من التشويش الذهني.. فإذا لم يكن العقل محصناً فلن يستطع منع الفايروسات من اختراق العقل الإنساني.
وهل يأتي الركون إلى الصمت وعدم الإنخراط في الضجيج المشبع بنفايات العقول التي تجتاح الخارج في كل ثانية هو الخلاص او العلاج الأمثل؟
الصمت هو القاعدة التي يتم فيها التركيز الذهني الذي يمنع النفايات من حرية الاختيار.. ولكن الأجدى هو التحصن بالثقافة وتقوية مدركات العقل بالإصغاء.
وما الذي يجري في حالة الحوارات والمطارحات الفكرية والنقاشات والمداولات وغيرها؟
إنها تضع العقل الواعي أمام خيارات الفكر، وقد تكون هناك نفايات من شأنها ان تدخل العقل يتوجب التحصن بالثقافة الواسعة لتجنب الاختراق.. وهو في كل الأحوال ممكن أن يحصل وحسب طبيعة الافكار ما إذا كانت موضوعية او غيرها من اساليب الأطروحات والافكار والنظريات والرد عليها.
ولا مفر من التلوث بنفايات ينتجها الخارج.. والخارج هو اكتضاض التناقضات المحكومة بالاجدوى، ومن الصعب تجنبها كلياً طالما كان انتشار الكلمات وتناثرها في اجواء الخارج كالفايرسات.. ونفايات العقل يعتمد الخلاص منها على قدرات الفهم وقدرات الإحتواء أولاً، ومن غير ذلك فأن التشويش الذهني يستمر في ملازمة هذه النفايات ـ ليس في مستوى إضعاف الاستيعاب إنما في قدرات الإدراك الذهني لمجريات الأمور.
ثانياً- حوارات ذاتية..
سألته زوجته، متى جئت إلى المنزل لأني جئت متأخرة؟
قال لها دخلت من فتحة الشباك المطل على فناء المنزل الخلفي لأني وجدت الباب مقفلاً..
ولماذا لم تفتح الباب بالمفتاح؟
لقد تحكمت بي فكرة التسلل من الخلف.
ولماذا تحكمت بك هذه الفكرة؟
إنها دخلت بدون استئذان ودفعت بي الى الفناء..
ولماذا لم تقاوم هذه الفكرة المجنونة؟
لا أدري تماماً.. فقد كانت الفكرة طاغية..
ألا ترى إنك غريب الأطوار؟
وأنا كذلك أراكٍ غريبة الأطوار في اسئلتك التي لا تحمل معنى الآجدوى.. المهم في الأمر، أنا في داخل المنزل..
لا الدخول من الباب يختلف عن الدخول من الشباك..
***
د. جودت العاني
19/11/2024
...................
* قصة قصيرة جداً من وحي فلسفة الرسام سلفادور دالي، الارتداد نحو اللاوعي لإدراك عالم آخر..!!