نصوص أدبية
سعاد الراعي: أمي.. حضن الرحمة في عتمة الليل

اهداء الى روح امي
في حضن الليل، حيث يسود السكون وتغفو الأزقة على أنفاس النائمين، دوّى صوت الطرق على باب بيتنا، لكنه كان مختلفًا هذه المرة. لم يكن طرقًا صاخبًا كمن يستغيث في فزع، ولا كان واثقًا كمن يطلب العون في يقين، بل جاء متردّدًا بين الخجل والاضطرار، كأنه يخشى أن يثقل بطرقه على صدر الليل.
نهض والدي على الفور، وفيما فتح الباب، تطلّعنا إلى وجه غريب يتوارى خلف ستار القلق والاستعجال. بادر بتعريف نفسه على عجل، قال إنه مرسل من قِبل نجوى، صديقتي الأقرب إلىّ في المدرسة، وأخبرنا بصوت مختلط بالوجل أن نجوى الآن وحيدة، تتلوى تحت وطأة المخاض في عيادة الطبيبة القريبة من بيتنا، تعاني من حمى شديدة ووضع متعسّر، وتحتاج إلى امرأة تكون إلى جوارها في هذه اللحظة العصيبة.
لم يكن طلب المساعدة أمرًا غريبًا عن بيتنا، فقد كان ملاذًا للباحثين عن العون، وكان قلب أمي ملجأً للضعفاء والمحتاجين. لم تكن الحاجة تمرّ أمامها دون أن تمدّ يدها، لم تتردد يومًا في تضميد الجراح، او زرق الإبر للمرضى أو في مواساة أمٍّ تنزف صرختها مع مولود جديد، كانت تسابق الليل قبل أن يختطف الأرواح، وكأنها قد نذرت نفسها لتكون سندًا في ساعات الألم والضياع. وكنّا جميعًا ندرك أن العطاء قد كُتب عليها كما كُتب علينا أن نكون ظِلًّا لها، معينًا لها لا يتأخر.
لكن الليلة كانت مختلفة… هناك شيء ما في صوت الرجل، في تردده، في ذكر اسم نجوى تحديدًا، جعل القلق يتسلل إلى روحي كتيار بارد يتسلل إلى العظم. نجوى؟ كيف تكون وحيدة في لحظة كهذه؟ كيف صار بها الحال إلى أن تحتاج إلى يد غريبة بدلًا من أهلها؟ وهي في حالة مخاض؟
لم تمنحني أمي الوقت للاستغراق في أفكاري، هرعت تتهيأ للخروج، ارتدت عباءتها في عجالة، أعدّت حقيبتها الصغيرة التي كانت دائمًا حاضرة لمثل هذه المواقف، ثم التفتت نحوي بنظرة أدركت معناها دون أن تنطق بكلمة. لحقت بها على الفور، لكنني توقفت عند الباب، حيث كان الرجل لا يزال واقفًا في قلق. نظرت إليه وسألته بشيء من الحدة التي لم أستطع إخفاءها:
— "من تكون أنت بالنسبة لنجوى؟"
خفض الرجل رأسه وكأنه يحاول التملّص من السؤال، ثم قال بصوت خافت:
— "أنا خطيبها… أو زوجها."
تجمدت في مكاني، وشعرت بأنني لم أسمع جيدًا. كيف ذلك؟ لقد كنت أعلم أن نجوى منذ ان تركت المدرسة لم تتزوج بعد! لكن الرجل لم يكن في موضع دفاع أو تفسير، بل كان فقط يرجو المساعدة، يتوسل بعينيه أكثر مما تنطق به شفتاه. أما أمي، فلم تعبأ بأسئلتي ولا بذهولي، فالموقف كان يتطلب العطاء لا التساؤل، الإغاثة لا الأحكام. دون أدنى تردد، اندفعت مع الرجل نحو العيادة، حيث كانت نجوى بين الحياة والموت، تصارع وحدتها وألمها في أوج احتضار الليل.
أما أنا، فبقيت خلف الباب المغلق، أتنفس وجعًا لم أفهمه بعد. عاد الجميع إلى النوم، لكن رأسي كان أشبه ببحر هائج، يعجّ بالصور والتخيلات، كل واحدة منها أشد قسوة من سابقتها. كنت أعلم أن الحياة ليست عادلة دائمًا، وأن نجوى كانت على علاقة برجل ما وقد عانت كثيرًا بسبب هذه العلاقة، لكنني لم أتصور يومًا أن تصل إلى هذه اللحظة.
تساؤلاتي لم تهدأ، وشعرت كأنني أمام باب جديد من الأسرار، باب يوشك أن ينفتح ليكشف ما لم أكن مستعدة لمعرفته بعد.
كنا صديقتين لا تفصل بيننا الأسرار، نتقاسم اللحظات كما نتقاسم الهمسات، بلا تصنع أو تكلف. منذ سنوات الدراسة الأولى في الثانوية، كنا نعرف أدق تفاصيل حياة بعضنا البعض، من أصغر الخبايا العائلية إلى أكثر الأسرار خصوصية. عرفتُ كل شيء عن عائلتها: والدها الشرطي الذي يعمل في محافظة بعيدة عن العاصمة، لا تراه العائلة إلا مرة كل شهرين، وأمها التي تحمل على عاتقها مسؤولية تربية أبنائها الأربعة، ومن بينهم الأخ الأكبر ذو الستة عشر عامًا، الذي كان يتباهى بحمل سكينه في جيبه، متوهمًا أنه درع العائلة وحاميها من العار والاعتداءات.
كنا نجد متعة خفية في العودة من المدرسة سيرًا على الأقدام، نقطع الطرقات الطويلة، غير مكترثتين للوقت، غارقتين في أحاديث لا تنتهي، نحلل شؤون الحياة وننثر الآراء حول كل شيء وأي شيء. لكنني بدأت ألاحظ تغيرًا في ملامح نجوى؛ بريق عينيها المتقد صار أكثر شرودًا، شغفها بالدراسة تراجع، وأيام غيابها أصبحت متكررة. لم أنتظر طويلًا حتى اعترفت لي، بصوت تملؤه السعادة والرجفة، بأنها وقعت في الحب.
فرحتُ لها، حبًّا بفرحها، وسألتها بفضول عن المحظوظ الذي خطف قلبها. نظرت إليَّ بعينين يشع منهما ضوء غريب وقالت: إنه صاحب ورشة التصليح القريبة من منزلهم، ذلك الرجل الذي أحضرته والدتها لإصلاح التلفاز المعطل. قالت لي إنهما أحبا بعضهما من النظرة الأولى، حتى إنه رفض أن يتقاضى أجره عن التصليح، فدعتْه والدتها إلى العشاء عرفانًا بالجميل. ومنذ ذلك اليوم، صار يتردد إلى بيتهم، تراقبها عيناه بحب واضح، وتتركهما والدتها يجلسان معًا لساعات، وكأنها ترعى هذا الميل الناشئ بينهما.
استمعتُ لها حتى النهاية، ثم سألتها بحذر: "وماذا بعد؟ كيف تخططان للمستقبل؟" لكنها صمتت لوهلة، وكأنها تتردد في الاعتراف بشيء يخنق كلماتها. وأخيرًا، بصوت خجول متردد، همست: "هناك عقبة... إنه متزوج ولديه أطفال."
شعرتُ وكأن صاعقة ضربتني. ارتددتُ إلى الخلف وتوقفت، قلتُ بذهول: "ماذا؟!" نظرتْ إليَّ بعينين مغرورقتين بالدموع، ثم تمتمت: "لقد زوّجوه بابنة عمه وهو صغير... لكنه لم يحبها قط."
لم أتمالك نفسي، انفجرتُ في وجهها: "ولكن ما ذنب الأطفال؟ الحب لا يكون حبًا إذا كان خرابًا لبيوت الآخرين!" رأيت ارتجافة في عينيها، لكنها ظلت صامتة، كأنها لا تريد سماع الحقيقة القاسية التي تنبض بين كلماتي. تابعتُ بحدة: "كيف تثقين برجل يخون زوجته وأطفاله؟ وما أدراكِ أنه لن يخونكِ أنتِ في المستقبل؟ الخيانة طبع متأصل، يا نجوى، لا يتغير بسهولة... فكّري بعقلكِ قبل أن يستدرجكِ قلبكِ إلى هاوية لا خروج منها."
ودّعتها ذلك اليوم على أمل أن تفكر مليًّا في كلماتي، ووعدتني أنها ستفعل. لكنها لم تتحدث عن الأمر مجددًا، وإن مرّ على لسانها عرضًا بعد أيام. ثم، فجأة، انقطعت نجوى عن الدوام المدرسي، وكأنها اختفت من عالمي تمامًا...
كانت الأسئلة تتناسل بين أروقة المدرسة كأنها شظايا ضوء تتكسر على جدران الصمت، تبحث عن إجابة لغياب نجوى الغامض. كانت الأعين تحاصرني كأنني المفتاح الوحيد لهذا اللغز، فأنا أقرب صديقاتها، والأقرب دومًا مُطالب بالبَوح. لم أحتمل وطأة الأسئلة، فانطلقت إلى منزلها، تسبقني ظنوني وتلاحقني الهواجس.
عند عتبة بيتها، استقبلتني والدتها بنظرة قلقة، وأخبرتني أن نجوى طريحة الفراش. دخلتُ غرفتها بحذر، وما إن التقت عيناها بعيني حتى انتفضت كطائر جريح، وارتمت بين ذراعيّ، تقبلني بحرارة، كأنها تغالب بردًا موغلًا في عظامها. لاحظت شحوبها المقلق، ووجها الذي صار كصفحة من رماد، وجسدها الذي صار ظلًا لنفسه. همستُ إليها بسؤال حائر: "ما بكِ، يا نجوى؟ أهو المرض الذي سلبك إشراقتك؟"
أجابتني بصوت خافت، كأن الكلمات تستثقل الخروج من بين شفتيها: "مجرد مشاكل في المعدة، لا شيء يستحق القلق..." لكنني كنت أرى في عينيها ما هو أبعد من مجرد وعكة جسدية. كنت أقرأ ارتجاف السر الذي لا يزال يتخبّط في جوفها، لكنه ظل عصيًا على الإفصاح. لم أشأ أن أنبش جراحها، ولم أُثر الحديث عن قصتها التي حسبتُها طُويت مع الزمن. ودّعتها على أمل أن أراها قريبًا، لكن الأمل شيء، والواقع شيء آخر.
مضى شهران على زيارتي الأخيرة، وحين عاودتُ الذهاب، لم أكن أتوقع أن أجدها على هذه الهيئة. رأيتها وقد امتلأت ملامحها بنضج مباغت، وجسدها المتعب قد ازدادت استدارته بشكل لم تفلح ملابسها الفضفاضة في إخفائه. شعرتُ بأن صدمة صامتة تسري في جسدي، لكني تماسكت وسألتها بحذر عمّا طرأ عليها. قاطعتني أختها بضحكة ساخرة، قائلة: "هذا من أكل الثريد!" وضحك الجميع، وشاركتهم الضحك، لكن قلبي كان يختنق بين ضلوعي.
في تلك اللحظة، أدركت أن نجوى كانت تخوض معركة لم تجرؤ على البوح بها، مع مجتمع لا يرحم، ومع نفسها التي لم تعد تعرفها. كانت ضحكاتنا تملأ الغرفة، لكن في عينيها كان هناك شيء يشبه الغرق، صرخة لم تجد سبيلها للخروج.
لم يكن قد مضى وقت طويل بعد هذه الزيارة حتى باغتتنا الحقيقة في منتصف الليل، كطيف داهم يقتحم سكون العتمة. كانت صدمة جعلت كل الأسئلة المعلقة تسقط دفعة واحدة، حين وصلنا النبأ من خطيبها. عندها فقط، فهمت أن نجوى لم تكن مريضة بالمعدة، بل كانت تصارع زلزالًا هز كيانها، زلزالًا جعلها تفقد السيطرة على حياتها، وتتركنا جميعًا على حافة الصدمة، نبحث في صمتها القديم عن كلمات لم تقلها، وإجابات لم تجد طريقها إلى النور.
ما إن رحلت أمي مع ذلك الرجل حتى شعرتُ بوحدة خانقة تلتف حولي كأفعى جائعة، أخذت أدور في باحة الدار كأنني أبحث عن منفذ يحررني من شرنقة الغضب التي سرت في عروقي. لم أجد متنفسًا سوى صبّ جام سخطـي على نجوى، ألعن اللحظة التي دخلت فيها حياتي، اللحظة التي منحتها فيها ثقتي. كيف لها أن تتصرف بهذه الرعونة؟ كيف تغامر بمصيرها ومصير من حولها بلحظة طيش لم تفكر في عواقبها؟ لقد خذلتني، غدرت بصبري عليها وبمحاولاتي المستميتة لفهمها. لم أعد أطيق حتى سماع اسمها، كرهت كل ما يمت لها بصلة، حتى نفسي كرهتها لأنها ذات يوم صدّقت بأنها تستحق الصداقة.
كان الليل كئيبًا، ثقيلاً، يسحق أنفاسي تحت وطأته، وحين لاح الفجر، استيقظ أبي كعادته، أعدّ نفسه للخروج، ولم يسأل عن أمي، فقد اعتاد على هذه النداءات الطارئة، اعتاد أن تُطلب أمي لإسعاف أرواح تتخبط في تيه الحياة. مضى أبي، ولم تمضِ عني الكآبة. لم تمضِ عني تلك الهواجس السوداء التي تغلغلت في فكري.
بعد دقائق، عادت أمي، كانت تحمل بيديها سلة كبيرة تتدثرها لفافة بيضاء. لوهلة، تلاشى كل شيء حولي، كل الأصوات، كل الحواس، ولم يبقَ إلا هذا المشهد المشؤوم. سألتها بصوت مخنوق، مرتعش: "ما هذا يا أمي؟". فاضت الدموع من عينيها وهي تهمس بأسى: "إنه صبي... طفل جميل... لكنه وُلد ميتًا". أرادت أن تريني إياه، لكنني تقهقرت إلى الخلف، وكأن شبحا او وحشا خرج من السلة ليحاصرني. صرخت، لم أعد أحتمل، لم أعد أريد أن يكون لهذا الليل الموحش امتداد في بيتنا. "لماذا جلبته إلى هنا؟ لا أريده! لا أريد أن أسمع اسم أمه مجددًا!". كانت مشاعري تتدفق كطوفان هائج، لا هدوء فيه، لا اتزان، فقط رفضًا مطلقًا لكل ما له علاقة بها.
فهمت أمي قصدي، لم تجادلني، فقط قالت بصوتٍ حزين: "كادت نجوى أن تموت، وخطيبها... أخبرني أنه لا يستطيع الزواج بها وبطنها منتفخة بهذا الشكل، لكنه سيفي بوعده حالما تستعيد صحتها". كلماتها لم تفعل شيئًا سوى إذكاء النار المشتعلة في داخلي. "وماذا عن هذا الشيء في السلة؟"، سألتُ بحدة لم أخجل منها، لم أشفق على شيء. تنهدت أمي، كأنها تحمل جبال الدنيا فوق كتفيها، وقالت: "سيأتي أخوها ليأخذه".
ضحكت بتهكم مرير، كمن يعجز عن تصديق ما يسمع: "وماذا؟ هل سيأتي بسكينه ليغسل العار؟". نظرت إليّ أمي بحزن عميق، بعينين تحملان أكثر مما أستطيع قراءته. لم تقل شيئًا، لكن دقات الباب جاءت كفاصل قاطع بيني وبين صخب أفكاري. كان الأخ قد جاء... جاء لينهي قصة هذا اليوم الذي لم يكن في الحسبان، اليوم الذي ترك في روحي ندبة لم تندمل."
***
سعاد الراعي