نصوص أدبية

محمد سهيل احمد: لا أحـد

أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟!

(بدر)

***

* هطل المطر عند الظهيرة بغزارة..

كان الرجل في كرسي العجلات في ممر البيت ذي الأقواس الخشبية والزجاج المعشق الذي يطل مباشرة على النهر المتلاشي جوار دغل الحشائش خلف المدرسة ذات الطراز القديم. إحدى يديه على حافة المنضدة أمامه حيث باقة أزهار في مزهرية زجاجية، أما اليد الأخرى فكانت لصق جرس التنبيه.

اخذ هواء بارد بالهبوب حاملا معه موجة من الرذاذ أيقظت الرجل من بعض ذهوله. مضى في استغراقه غير منتبه الى الفتى القادم من جهة الشناشيل عبر النهر ولا إلى وقع أقدامه على ارض الجسر الخشب ولم ينتبه كذلك الى وقفته اللاهثة أمامه بعد ان دفع باب الممر ودخل. أخذ الولد الأليف الوجه ذو الشاربين الخفيفين يراقب عروق الرجل قرب الباقة. أوشك على التحدث اليه باسطا جذعه الى الأمام في شبه انحناءة؛ ثم توقف عن ذلك كله لعدم تأكده من اكتمال يقظة الرجل فرغم انتفاضة الوجه الطيني الذي لم يزلْ يحمل آثار إغفاءة، مضت العينان في التحديق في الفراغ.  قال الفتى وهو يسحب كرسيا ويقعد عليه:

ــ ستأتي اليوم.. في الأغلب..

ــ كان يجب ان يتم ذلك في المحطة..

ــ لم استطع ْ ان اسألهم عنها.. ثم أنهم تفرقوا بسرعة. ضجرت من البحث بين الوجوه. لا يمكن أن تكونَ قد بقيت في البيت..

ــ لا يعقل انْ ينسى الوجه العاشق وبمثل هذه الطريقة..

ــ متى كان آخر لقاء بينكما؟

ــ في المحطة.. قبل الرحيل بكينا على جذع شجرة.. اذكر عينيها لحظة تحرك القطار.. كانتا مشدودتين الى الشباك حيث لم أكن ألوّح او افعل شيئا سوى النفاذ فيهما. فقدت شيئا فشيئا تركيزي على العينين وبقي الوجه.. هل كنت أنا الذي ارحل في لحظات ام جمال قسمات ذلك الوجه؟ أخذني القطار بعيدا.. رأيت جسمها الضئيل نقطة في نهاية المحطة. كانت تلوح بمنديل وكانت الأشياء فوق حدود طاقتنا.. لقد انتهى املي لحظة الرحيل تلك. ولكنني رأيت السكين مرارا بعد موتي. لم أتوقف طيلة السنين الماضية عن السؤال: متى؟ متى؟ وضجت الأرض بالدويّ، لم يكن المطر بهذه الهيئة التي تراها الآن. كان اسود مشبعا بروائح اللحم والقذائف والنوم في الخنادق.. حتى انفجرت قنبلة ورأيت شاشة سوداء..

ــ لو كنتما تتراسلان على الأقل.. هل كان الخيط سينقطع؟

ــ كنا في آخر الدنيا.. وصارت الملابس الخاكية اللون جلودا لأجسادنا وعظاما. لم اكنْ أحب النزول ابان الإجازات. كان بعضنا حين يداهمه اليأس يعدّ القذائف والبعوض وشاهدات القبور.. هذا إذا كانت الأخيرة موجودة حقا ّ!

اخرج الرجل من جيب قميصه نيشانا ألقى به على المنضدة. كان متعبا يحمل وجهه فيضا من الإصرار المرير. رفع النيشان المعلق الى السلسلة وادلاه من طرف أصبعه. قرّب الفتى كرسيه واخذ يدور حول النيشان بعينيه. أدناه الرجل منه. تناوله الفتى في حذر ممسكا به من طرف السلسلة قريبا من عينيه منتظرا ان تتناقص حركته كي يقرأ الكتابة عليه. بذل أقصى ما في وسعه كي لا يحرك كفه بينما النيشان يتأرجح كالبندول. أخيرا توقف تماما. أتيح للفتى انْ يقرأ الكتابة. فغر فاه مشيرا الى الرجل الذي هزّ رأسه بالإيجاب مبتسما في صمت. قال الفتى:

ــ النياشين.. ليس من السهل الحصول عليها..

ــ أسهل من العثور على الألفة.. أو فقدانها..

ــ بعد عام او عامين سأذهب الى الجبهة مثلك..

ــ اعتدت فقدان وجوه الأحبة.. أنت..

صمت الرجل بحيث افقد انقطاعه المفاجئ الفتى أية رغبة في الكلام. ترك الفتى النيشان على المنضدة. هبط الرجل بكفه عليه دافعا إياه نحو الفتى. لوّح بأصابعه مشيرا اليه انْ يبعده عنه داعيا إياه في الوقت نفسه الى أخذه. هزّ الفتى رأسه بشدة. قال الرجل:

ــ أبعده عني أرجوك. لم يعد يعني بالنسبة لي بقدر ما تعنيه هذه الباقة..

انصاع الفتى لرغبة الرجل وتناوله.

ــ سأعلقه على صدري..

ابتسم بعد فترة صمت دامت للحظات:

ــ كي لا أنساك!

غادر الفتى المكان حينما توقف المطر عن الهطول. أخذت غيوم رمادية بالتراكض صوب الأفق المنغلق حيث حدود الشناشيل في نهاية الزقاق المواجه للجسر، وحطّ طائر على غصن الصفصاف البري المطلّ على النهر. رفرف بجناحية ماضيا نحو شقوق الجدران في قوس الممر الخشبي. دفع بعود صغير الى عشّ في احد الشقوق وقد بان من العش بعضه , تصاعدت رائحة المطر ممتزجة بريّا الأزهار. كانت الباقة آنذاك مرمية في حضن الرجل الذي اخذ يستنشقها وهو يتلمسها بيده كما لو انه يربت على عنق قطة.

هدوء غريب.. الممر فارغ والجسر فارغ والشوارع صامتة فأسند الرجل رأسه الى راحة يده اليمنى مستغرقا في ذهوله المعتاد. خفتت الأصوات المسموعة: أصوات المحركات ونحيب المزاريب على صفحة النهر او على الكونكريت والأصوات البشرية. وكانت عينا الرجل مسلطتين على نهاية الزقاق حيث شبابيك عائمة على نحو شبحي بسبب البعد لبيت قديم.

قرعت أقدام أرض الجسر!

رفع الرجل رأسه. كانت صبية ذات ثوب اصفر تعبر الجسر نحوه وهي تستحث يدها المتقافزة على سياج الجسر. انحرفت صوب باب الممر ثم دلفت الى الداخل. أخرجت من جيبها رسالة وضعتها على المنضدة في صمت وانفلتت عائدة. رفع الرجل يده محاولا انْ يناديها ولكن ظلها ذاب خلف البيوت. ارتعش الرجل وهو يفض مظروف الرسالة.

أخرج ورقة بيضاء تماما!

جمدتْ يده على الورقة لدقائق فكوّرها براحة يده ودحرجها الى النهر.

هطل المطر من جديد.

التقط الباقة وحول كرسيه المدولب باتجاه الجسر. توقف تحت المطر عند منتصف الجسر. راح ينظر الى جسور بعيدة أخرى على نفس هذا النهر. وأحنى رأسه مطلّا على فقاعات المطر وهي تقبل مرايا النهر بدون توقف.

قذف بالباقة الى النهر. انحدر بكرسيه الى الشارع الممتد باتجاه الغرب تحت المطر الذي عاد الى الهطول في عنف..

***

محمد سهيل احمد

في نصوص اليوم