نصوص أدبية

نضال البدري: السنديانة العجوز

في أحد الأيام، انتشر خبرٌ مفاجئ هزّ أركان القرية: البلدية قررت قطع الشجرة! قالوا إنها شجرة عجوز، متآكلة الجذوع، وخطرها يزداد مع مرور الزمن. نزل القرار كالصاعقة، لم يصدق أحد أن رمز الحب والذكريات سيختفي هكذا فجأة.

في قلب الحديقة العامة لقريتنا الصغيرة، كانت تقف شجرة سنديان عجوز، أنتفخ بطنها وتحول لجذع عريض حمل أسرار كثيرة، بعضها حفرت بأسماء العشاق. احتوت الجميع كانت تحنو عليهم بأغصانها المترامية، التي ظللت المقاعد الخشبية المتناثرة حولها. كانت تقف هناك منذ عشرات السنين، حتى قالوا أنها شهدت الحرب العالمية الأولى، وعاصرت الأجيال المتعاقبة، وشهدت لحظات الفرح والحزن، واللقاءات الأولى والوداعات الأخيرة.

كان العشاق يجلسون تحتها، يتبادلون العهود والرسائل المكتوبة على أوراقها المتساقطة، بينما الأطفال يستلقونها ويسرقون من أغصانها القوية لحظاتٍ من المغامرة. كبار السن كانوا يأتون إليها، يسندون ظهورهم على جذعها، تستل اوجاعهم، وتسترجع ذكريات خطّها الزمن فوق لحائها العتيق.

اجتمع أهل القرية في الساحة، كبارًا وصغارًا، يهمسون بغضب، يتساءلون عن سبب هذا القرار الظالم. وقف شيخ طاعن في السن أمام الحشد، عصاه ترتجف بين يديه، وقال بصوت مبحوح: "هذه الشجرة رأت أكثر مما رأينا، وحفظت أكثر مما نسيتم… كيف يمكن أن تزيلوها. لكن ذلك لم يلغ قرار البلدية من أزالتها، ولا التراجع عنه، حتى جاء عمال البلدية بمناشيرهم، وكأنهم يقطعون رأس أفعى... فجأة حدثت معجزة صغيرة، جعلتهم يتراجعون الى الخلف مندهشين … كما لو أن الشجرة رفضت الرحيل، اهتزت أغصانها، تفتحت لها براعم صغيرة بين أغصانها اليابسة، وأزهرت ورقة خضراء وسط الذكريات المحفورة على جذعها. اندهش الجميع، وكأن الشجرة أرادت أن تقول لهم: "ما زال فيّ حياة!"

تراجعت البلدية عن قرارها، ليس فقط احترامًا لأهل القرية، بل لأن الطبيعة نفسها قالت كلمتها. بدلاً من إزالتها، قرروا أن يحيطوها بسياج خشبي، ووضعوا عند جذعها لوحة كتبوا عليها: هنا تنمو الذكريات، كما تنمو الاشجار، وكما ينمو الحب.. لا يمكن اقتلاعها بأمر من رئيس البلدية.

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الشجرة رمزًا للوفاء، وزارها الناس من كل مكان، يعلقون على أغصانها أمنياتهم، ويروون تحت ظلها قصصهم، ويهمسون لها بأحلامهم، وهي… تهزّ أوراقها كأنها تعدهم بأن تحفظها إلى الأبد.

***

نضال البدري

في نصوص اليوم