نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: البومة..

كنت تحت إدارة مشرفة، وتُعد هذه كارثة بالنسبة لي: أن تترأسني “امرأة”، والكـارثة الأخرى أن يرأسني “رجل” كذلك!

لعل الكارثة الحقيقية في أنا..

المهم أنني قرأت شخصية هذه الإنسانة منذ اليوم الأول، قرأت لغة جسدها، نظراتها، تصرفاتها، ولمست ما يفيض منها من حقد وكراهية وشر محتمل. وفوراً رسمت الشخصية التي سوف أكون عليها عند التعامل معها منذ تلك اللحظة.

علمت أن ردود الأفعال المباشرة لا تجدي نفعاً مع من هم على شاكلتها، ولا يجب أن يُرد لها الصاع صاعين على الإطلاق. بعض الشخصيات يجب ألّا تتوقع ردود أفعالنا، وعلينا التعامل معها باستراتيجية الغموض.

يقتلها عدم الرد عن الرد، يحرقها الصمت والبرود الشديد، والطاعة العمياء. وذلك بحد ذاته يتطلب مقدرة كبيرة على ضبط النفس ومراقبة كل كلمة وكل تصرف. وقد استغرقني الأمر سنوات حتى تعلمت هذه المهارة.

كنت أعرف في داخلي أن هذا القناع الرمادي الذي قررت ارتداءه قد يخنقني ببطء. لم يكن برودي سوى درع فولاذي يخفي وراءه بركاناً من الغضب، وحرقة أسئلة مؤلمة: لماذا أُجبر دائماً على أن أبدو أقوى مما أشعر؟ ولماذا لا أملك رفاهية الانهيار؟ عموماً لم أملك الوقت لذلك فمستقبلي المهني كان على شفير جرفٍ هاوٍ.

مشرفتي هذه كانت تفعل كل شيء لتخرج مني رد فعل واحد متوقّع: غضب، إحباط، بكاء، فرح، امتنان… أي شيء. لكنها لم تقابل إلا جداراً خشناً رمادياً، لا شيء فيه ملفت لأي انتباه. للدرجة التي جعلتها تكلفني بأربع تقارير مفترض أن ينجزها أربعة موظفين كحد أدنى! كلفت بإدخال بيانات يصل عددها إلى ١٨٠٠ قبل بداية كل شهر، وعليّ إنجاز هذا التقرير خلال ثلاثة أيام.

كنت أبقى بالمكتب إلى ما بعد وقت الدوام الرسمي الذي يمتد من السابعة صباحاً إلى الساعة الخامسة عصراً، لأغادر المكتب العاشرة والنصف مساءً ثم أستيقظ الخامسة فجراً. بقيت على هذا الوضع لقرابة العام.

أعمل بطريقة غير طبيعية، حتى قال لي أحد زملائي يوماً: “أشعر أنك تعيشين على التمثيل الضوئي! أتمنى أن أراكِ تأكلين أو تشربين شاي، قهوة، ماء، أي شيء! عمل عمل عمل… لا يصح أن تضغطي نفسك لهذا الحد.”

كنت أفعل ذلك لأختبر حدودي بهذه الحرب الصامتة، كيف لي أن أحرقها غضباً وأُظهر أسوأ ما لديها بدون أي ردة فعل مني؟ وواجهت ضغطاً كبيراً من قبل جماعة التبرع بالنصائح والتدخل في حياة الآخرين دون طلب، بضرورة تقديم شكوى رسمية.

وربما كانت معظم تلك النصائح منطقية، ولكن—كما أسلفت—من خلال تحليلي لتلك الشخصية ولتلك البيئة الموبوءة لم تكن المواجهة المباشرة خياراً جيداً. بل الحرب الباردة والتكتيكات بعيدة المدى هي ما أطاحت بهم جميعاً.

ولأنني كنت مضطرة ألّا أكشف شخصيتي الحقيقية، تحملت اتهامي بالسلبية والضعف والخضوع.

لم يجدِ تنمرها معي نفعاً، فقررت تحريض المدير ليبدأ هو الآخر تلك الحرب التي لا مسبب حقيقي لها سوى أنها لا تستسيغ شخصيتي!

كنت أحياناً أدخل المكتب وأقطع حديثاً عني بين زملائي، والذي على ما يبدو كان مثيراً للشفقة.

في مرة، دخلت المكتب ولم ينتبه لي أحد، وسمعت مديري يتكلم عني عند مجموعة من أعوانه، يخبرهم برغبته في طردي، وأنه لا يستطيع نكران الكفاءة الاستثنائية التي أقدمها، لكني “بومة” و”أسد النفس”، ويفضل استبدالي بسكرتيرة غنوجة تفتح له نفسه!

لا أدري ما هو مفهومه الحقيقي للسكرتارية، عدا عن حقيقة كونه إنساناً فاشلاً سواء فُتحت نفسه أم سُدت؟

المهم أن أحد الزملاء كان يدافع عني باستماتة قائلاً:

“إذا طردتها سوف تندم، فلن تجد من يأخذ العمل بكل هذه الجدية والتفاني ويحتمل كل المهام دون شكوى أو تذمّر.”

كان متحمساً جداً بالكلام، ولم ينتبه لدخولي. فجأة التفت خلفه ووجدني جالسة بمكاني. اصفر وجهه من الصدمة وقال:

– بسم الله! منذ متى وأنتِ بالمكتب؟

– رددت: منذ أن كنت بومة.

فاجأه الرد، وحاول طوال ذلك اليوم رفع معنوياتي بمدحي وإحضار قهوة وحلويات وغداء. وبعد انتهاء الدوام قال:

“كنت أراقب تصرفاتك، أحاول أن أرى دمعة، كتمة، زعل، أي شيء… معقول لم تتأثري بالكلام؟ أنا رجل، لكن إذا حصل وسمعت كلاماً عني بهذا الشكل ربما أختنق.”

رددت عليه بكل برود:

“تعتقد أني فعلاً ممكن أتأثر من هذا الإمعة؟ خيشة البصل الجالسة بالمكتب؟”

ضحك، وأطلق علي اسم “حديد” تعبيراً عن القوة والصمود، لكن للصمود ثمناً باهضاُ ولم يكن يدرك وقتها أن "الحديد" الصلب اللامع صدءٌ من الداخل.

اليوم التالي، دخلت على مديري هذا لمناقشة مهمة عاجلة كلفني بها. وقبل أن أخرج من مكتبه قلت له:

“على فكرة، حتى أنا أكرهك وأحمل هم ضغط العمل ورؤية وجهك، لكن دعنا نحتمل بعض إلى أن تجد الغنوجة وتفتح لك نفسك. وإلى ذلك الوقت يخلق الله ما لا تعلمون.”

بعد سنة وشهرين، نُقلت إلى قسم آخر. وفي حفلة توديعي قالت مشرفتي:

“سمعنا إن عندك هوايات ومواهب، كلمينا عنها.”

قلت: “الفنون القتالية، والكتابة، والقراءة، والتمثيل، والصيد.”

قالت إحدى الزميلات: “صيد؟ كيف؟”

قلت لها: “في الماء العكر.”

ضحكوا كلهم، وقاطعتنا المشرفة وقالت: “بما إن هوايتك التمثيل، مثلي لنا مشهد.”

تحمس الجميع، وأصرّوا على تمثيل مشهد صغير أمامهم.

لكني نظرت إليها وقلت:

“غريبة… ألم يعجبك أدائي سنة وشهرين!؟”

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

 

في نصوص اليوم