نصوص أدبية

جمال العتابي: طواف المدن..

إلى روح أخي علاء…

إنها ليست -رحلة كولومبس- الذي يطوف عبر البحار، مفتشاً عن جزيرة رائعة، يجري فيها الذهب مع الماء، ويختلط فيها لهيب الشمس مع الأرض التي تبحث عن غاصب بمخالب ذكية لتوابلها اللاذعة، ومع ذلك فالبحار كثيرة، وقد يكون بحر كولومبس أكثرها هدوءاً، إذا ما قارنّاه ببحر - يوليسيس- أو ببحارنا نحن الآن.. مدينتنا تدخل في رأسي الصغير باتساع بحري خارق، وأنا أقف وسط سورة من سورات أمواجها على خشبة متهرئة.
مطلوب مني فيها أن أكون قرصاناً بلا روح، وحتى بلا بارود أو سيوف. ان علينا ان نركب هذا البحر وأن نغامر وأن نصل إلى أمتع الجزر وأكثرها بريقاً في أعين الملاحين، ولكن أين هي هذه الروح ؟ ان هذه المدينة العاهرة قد شلّت ارادتنا تماماً، أيبست فينا الاندفاع الحار؟ أنني أشعر كل يوم بحاجة ماسّة مقلقة، إلى أن أنتزع نفسي مبكراً من الفراش، وأن أرمي الماء على وجهي، وأتناول سيجارة ثم أرتدي ملابسي لأخرج، أطوف في هذه المدينة، هذا باب داري مفتوح على مصراعيه، تغشيني لازمة " وين رايح " وأنا أحط القدم الأولى عند عتبة الباب تتداخل الأخبار مع الواجبات
* المدارس تغلق أبوابها لمناسبة زيارة الإمام
* مخزن الزهور يعلن عن تخفيضات جديدة لمناسبة عيد الحب
* مطلوب مني الذهاب إلى السوق لشراء مبيد مكافحة الجرذان
* انفجار هاتف محمول في جيب امرأة.
* درسنا في كتاب تاريخ المرحلة المتوسطة: ان تدخّل النساء في الحكم كان من بين أهم أسباب سقوط الدولة العباسية!! انطلت علينا تلك الخديعة التي تمررها مناهج الدراسة الملغّمة.
رجل أعمى ربما كان هو نفسه الذي يقف عند رصيف جسر الشهداء، يبتسم بغباء، يبيع المسابح الصفراء والحمراء التي تشعّ وتشعّ، تحت الشمس قرب مقهى تآكلت أرجل تخوتها، على أحد جدرانها انتشر السخام الأسود بكثافة كادت تغطي على صورة كبيرة لامرأة شبه عارية، عفواً كانت ملابسها الداخلية شفافة تبرز لحمها جيداً، وفوقها بضع كلمات، إعلان يسيل اللعاب ويجذب بحروفه الحمراء، رجال هذه المدينة لمضاجعة هذه البغي التي دفعتها البحار الينا.
ان مياه جديدة تجري دائماً، وقديماً قال واحد وهو يحدّق في النهر، انك لا تنزل النهر مرتين، فالمياه الجديدة تجري دائماً، ولربما كان هو السبب في طوافي في المدينة كل يوم. ثمة بائع بنغالي، ربما كان في - دكا- عاصمة بلاده عامل تنظيف فاشل، سرواله أحمر غامق يحمل معه صندوقاً مليئاً بزجاجات صغيرة جداً من العطور الرخيص، كان يتمتم كأنه يخشى أن يخطىء في اللغة، "ريهه…ريهه "
يؤشر بيده السوداء إلى الصندوق وباليد الأخرى يلوح بزجاجة منها، اقتربت منه سيدة كبيرة السن، بطنها متهدلة إلى الأمام، وعطست، لا ريب أن الرائحة كانت قوية جداً، فضحك أحدهم، ولما نظرته شزراً، قهقه بكل وقاحة.
اقتربت بعد ذلك من أحد الدكاكين، بعد أن دخلت شارعاً فرعياً، كان استوديو. للتصوير، إلا ان صاحبه كان فيلسوفاً! لقد كتب على الواجهة بحروف بارزة سوداء: " الحياة فقاعة صابون فصوّرها قبل أن تنفجر" ضحكت وواصلت المسير، الحياة فقاعة، تذكرت طفولتي، كنت وقتها آخذ شيئاً من ماء الصابون، أدخل فيه قصبة رقيقة، وآخذ بالنفخ، فتخرج فقاعات بأحجام مختلفة، لا تلبث أن تنفجر في الأعلى، الحياة فقاعة جميلة، فلماذا نحتفظ بصورها، أي عبث هذا؟ أيها المصور الفيلسوف.
في مرحلة الدراسة المتوسطة، فكّرت لأول مرة في عبارة " السراط المستقيم" ودفعني التفكير للبحث في واقعية العبارة، ثم وجدت أن نوعاً من الألفة والتعاطف غير المفسّر مع ذلك الخط المستقيم.
وقفت على أبواب مدن كثيرة، أنصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم أفلح في استرجاع صوت " نواح" الأم، ترمي شواظ حريق فتشتعل القبور، بل داهمني ضجيج الفؤوس، يختلط بدوي الثاكلات، ثمة من يحمل الفأس يحفر. ثم بدأت يومئذ أضع أسئلتي عن أجوبة مقنعة لأسئلة: لماذا الببغاوات تنهق مثل نهيق الحمير؟ نحن من؟ بلا حلم طيف نعيش!
في اليوم التالي، كانت مياه جديدة تجري في الخارج، ترسم في رأسي أشياء كثيرة، فاشتريت صحيفة لفت نظري فيها عنوان أسود " ليس في الحرب محض حياد" فابتسمت في ألم، وطويت الصحيفة، ترى ما معنى هذا العنوان بالنسبة إلى إنسان مثلي، يفتش عن عمل، ويحلم بالحدائق والنساء..؟
ان كولومبس الجديد يسوح عبر البحار، يفتش عن جزيرة أشبه بالجنان التي كان يبحث عنها الأنبياء الجياع، ولكنه هذه المرة سيرجع خائباً حتماً، ذلك انه يحمل معه نطفة انهياره، بذرة موته، لقد كان عليه منذ البدء أنلا يذهب بعيداً في الخارج، لئلا يضيع نفسه. تذكّر في تلك اللحظة الصبي الذي فقد أخاه، من يعين فتىً مثقلاً بالهموم وأماً تلملم أثقالها؟ كان يجمع أحزانه مثل حزن الحدائق يفجعها موت نرجسة. ليس لغياب أخيه، بل لأن من كان يشاركه عبور الطريق، عليه الآن العبور وحده.
ليس العبور هو المهم، بل ثمة رفيق عمر يتخلى عنك وأنت وحدك تعبر الآن، والفتى جسد خائر حملته الريح بعيداً، وألقت به في مجاهيل البراري .
***
جمال العتابي

في نصوص اليوم