نصوص أدبية
علي فضيل العربي: ارفع رأسك يا "بّا"

ضربه على خدّه الأيسر، وصرخ في وجهه:
- ارفع رأسك "يا بّا"*، فأنت إنسان حرّ.
وتمنى عبد الله أن يدير له سعيد خدّه الأيمن ليلطمه ثانية. لكنّ سعيد رمق صاحبه باستغراب، وحكّ اللطمة الأولى دون أنين، ولم يفكر في ردّها له. وابتسم ابتسامة عريضة.. ثم طبع على وجنته قبلة...
و الذين حضروا الواقعة، ورأوا بأم أعينهم ما جرى بين عبد الله وسعيد، اسغربوا، وأصابتهم الدهشة.. واجتاحتهم الأسئلة الغريبة.. لماذا لطم عبد الله صديقه سعيد ؟ ولماذا لم يغضب سعيد، ويرد اللطمة باللطمة أو أكثر ؟ لماذا خيّم الهدوء على سعيد، وكأنّ اللطمة لم تقع على خدّه ولم تعنه ؟ لماذا ابتسم سعيد بعدما لطمه صديقه عبد الله ؟ أم أنّه عجز عن الدفاع عن نفسه، وردّ حق من حقوقه ؟
و الحقيقة أن عبد الله، قد لاحظ منذ أشهر عدة، أن رقبة سعيد قد بدأت تميل إلى الأمام، ومعها ظهره الذي استمر في أخذ شكل المنجل. وصارت هامته أقرب إلى الأرض، على هيئة الركوع. أمّا نظراته، فقد تقلصت مسافاتها.. بدت قزمة كالطحالب التي قهرها البحر .. لا تتعدى ظلّ جسده النحيف عند الظهيرة..
لاحظ عبد الله أنّ صديقه سعيد على وشك العودة إلى سيرة الحبو على أربع.. ليست مرحلة الصبا، فذاك حلم مستحيل.. ولكن حبو في مرحلة الكهولة.. فالعودة إلى الوراء، لن يكون فعلا بيولوجيا وفيزيولوجيا أبدا.. لأنّ ذلك يعني حدوث معجزة ربانيّة، لا اعتراض عليها.. ولاحظ أنّ سعيد، قد قلّ كلامه، وذبل صوته، وتحول نقاشه إلى مجرد هزّ للرأس.. كما صار لا يبرح بيته إلا قليلا.. يميل إلى المشي وحيدا ملتصقا بالجدران المهترئة كالحلزون.. وهو الذي عرفه، قبل سنوات، رجلا، ممشوق القوام.. مرفوع الهامة.. رأسه في السماء، وعيناه كوكبان دريّان.. وصوته يُسمِع الصم..
لم يدر سبب هذا التغيّر المفاجيء.. أهو مرض جسديّ أم نفسيّ ؟ أم أنّ الهرم قد داهمه قبل الآوان ؟ رغم انّه مازال في عقده الرابع. عقد الحكمة والتعقّل والنبوّة..
***
قال عبد الله، والحيرة تنوش قلبه:
- سعيد انخطف عقله يا ناس. صار كتلة لحم وعظم بلا روح. ضربته على خده، وقلت له:
- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ.
ظنّ عبد الله في تلك اللحظة، حين لطم سعيد على خدّه الأيسر، أن ينتفض سعيد كالأسد الهارب من قفص مروضه. ويردّ له الصاع صاعين.. لكنّ ظنّه ذهب أدراج الرياح.. كأنّ اللطمة أيقظته من غيبوبة استمرت عقدين من الزمن الحجريّ الأسود.. والحاصول، أنّ سعيد كان ضحية ما سميّ بحملة الأيدي النظيفة، ولم تكن نظيفة البتة، بل وسخة، نتنة، مقرفة، كرائحة الذئاب والخنازير البريّة.. كان سعيد جمركيّا نابها في مصلحة الاستيراد والتصدير بميناء الجزائر العاصمة... مجدا، صادقا في عمله، حريصا على المال العام، الذي هو مال الشعوب.. رجلا شهما، يحارب علل الرشوة والمحاباة والمحسوبية والغش والتزوير وكل مشتقاتها.. وحدث أن اكتشف عملية غش في الجمركة والفواتير.. لقد رأى بأم عينه، كيف كانت تغادر بعض الحاويات المشبوهة أرصفة الميناء دون تفتيش دقيق.. كل ما كان يحدث لها، عبارة عن مراقبة شكلية.. وتمنح لها تراخيص المغادرة.. لمّا تدخل سعيد لوضع الأمور في نصابها القانوني، قيل له:
- هذه الحاويات المملوءة هي ملك " للتماسيح ".. ولا واحد يقدر أن يمسّها. فهمت، يا سعيد.
- لكنّي، يجب أن أطبّق القانون على الجميع.
- "طز" على القانون. هؤلاء فوق القانون، يا صاحبي، يا مغفّل.
و حاول أن يخضعها للتفتيش والجمركة القانونيين، لكن جوبه برد قويّ من مسؤوله المباشر. فما كان من سعيد إلا أن كتب تقريرا مفصلا إلى السيد وزير المالية، يخبره فيه عن كل شيء.. وممّا جاء فيه:
- سيدي الوزير... إنّ بعض حاويات المعاليم الكبار، والحيتان الضخمة، لا يُسمح لنا، نحن كجمركيين، بمراقبتها وتفتيش محتوياتها، والأدهي من ذلك أنّها تغادر الميناء دون جمركة حقيقية. ممّا يكبّد الخزينة العمومية خسائر لا حصر لها....
و لمّا اُستدعيّ سعيد، ذات أمسية ماطرة، إلى مكتب المدير العام للميناء، ارتعش فرحا وتسارعت نبضات قلبه.. واعتقد أن رسالته تلك أثمرت، وأتت أكلها.. وستمنح له المديرية وسام صون الأمانة، وسيشكره المدير العام على حرصه الشديد على مال الشعب..و ربّما سيرقيه لمنصب أعلى.. حدس أنّه سيكون البطل المبجل، الذي سيؤدي له مسؤوله تحية التقدير والاحترام على صدق تفانيه في أداء الواجب الوطني..
***
وكانت المفاجأة، التي قصمت ظهره.. أحيل على المجلس التأديبي بعد أيام، بتهمة القذف.. وفُصل من وظيفته.. وبعد شهر، أُلقي به في غياهب السجن، بتهمة التبليغ الكاذب، وإزعاج السلطات الأمنية.. بل اُتهم بطلب رشاوي، ولمّا لم ينل مرغوبه. كتب تلك الرسالة لقذف غيره من الأبرياء..و كانت تلك التهمة ملفّقة بإحكام، ومدعمة بشهود الزور..
لمّا غادر سعيد السجن، بعد سبع سنين عجاف، كان ظهره، قد بدأ يأخذ شكل المنجل..أمّا هامته فقد أذبلت رطوبة جدران السجن أوراقها.. لقد حاولوا كسر رقبته، لكنّه صمد أمام أنيابهم ومخالبهم...
***
قال عبد الله، بعد لطمه لسعيد على خدّه الأيسر:
- يجب أن يرفع سعيد رأسه من جديد. يا إخوتي.. زمان الزور راح وولّى.. يا إخوتي...
وقاده إلى البريد المركزي، لا ليسحب مبلغا من رصيد زهيد، بل ليشهد شعلة الحراك.. وليقطف من مروج الحياة أزهار الحريّة.. وليرفع رأسه وهامته، ويستقيم ظهره المنجليّ.. وهنا أدرك شهود الواقعة؛ واقعة لطم عبد الله لسعيد على خدّه الأيسر، وقوله له:
- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ..
تمنى الشهود، لو يلطم عبد الله كل الخدود النائمة، لعلها تستيقظ من سباتها.. وتدوي تلك العبارة؛ ارفع راسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ، مثل صوت المدفع، في أسماع النائمين على رصيف الاستسلام والهوان...
(تمت)
***
بقلم القاص: علي فضيل العربي – الجزائر
.....................
هامش:
بّا أو بابا: أبي بلهجة مغاربيّة.