نصوص أدبية

جمال العتّابي: اعتراف متأخر..

كنتَ تجوب شوارع المدينة الترابية متحسراً على أيام الدفء التي مضت، تبحثُ عن مأوى، على ضفاف الساقية تتسكع، في طريقك أشباح تتلوى، تجفل من شيء اسمه "مدرسة" كي تمضي في فلوات الصمت تنادم لون الجدران. غير آبهٍ بما يتعلمه الأولاد في قاعات الدرس، كنتَ وحدك تسأل عن سر الأخطار المحدقة بنا، عن سور يمدّ حباله حولنا ليشنقنا، أدركتَ الحقيقة مبكراً، لأنك الصحيح بيننا، تعرف أن حرباً قادمة يضيء مفازاتها الشهداء.

عند نواصي الأزقة تتمهل، تتلفت حولك، لا يأبه بك أحد، لديك شعور غامض في تمردك بهذه المدينة. تجرأت وكتبت مسرحية (الگمرة) وأنت طالب في الرابع الإعدادي، كنتَ تجرجر أذيال الخيبة في الشوارع وحدك، ما وقع، وقع، جئنا في الزمان الخطأ، بعزلتك تلوذ، وتتشبث، هي مفروضة عليك، تزوّدك بيقظة تشحذ حواسك... تتسلل مثل قطّ هزيل لوى ذيله بين ساقيه الخلفيتين تحت وابل المطر، ملتصقاً بحيطان محرومة نحو مقهى " نعيس" الوحيدة في حي الجمعية السكني المخصص لعمال (فتاح باشا) في أطراف مدينة الحرية، أرائك مصنوعة من الخشب الرديء وكراسٍ من جرّيد النخل كأنها تتأهب للتوديع في رحلة هجر، أثقلت أحاديث التململ والنعاس مساندها، وجوه ذات ملامح متشابهة، تصمت أحياناً، وأحياناً أخرى تصرخ حول طاولات المتبارين في لعبة الدومينو.

تكتظ الأماكن بالحضور، وتختلط الأعمار تترقب بدء مباريات دورة كأس العرب في كرة القدم. تسمّرت العيون نحو  شاشة تلفزيون من نوع (باي) بالأسود والأبيض، معلق إلى الجدار، استقرّ باطمئنان قريباً من السقف. الجمهور كانوا يتمنون لحارس المرمى السوري (فارس السلطچي) الإعاقة في إحدى ساقيه أو فقراته العنقية !!

هل تبدو غريباً وسط هذا الجمع؟ ينتابك يأس من عدم القدرة على التآلف رافقك منذ الصبا، هل ما زلت هناك في انتظار أن تشمّ رائحة الكبدة المشويّة ؟ يأتيك شواظ النار يقتحم منخريك فتشتعل اللهفة لديك كي يضمّك أبوك إلى صدره في تلك اللحظة، يعانقك... أبوك الهارب من السجن، المحكوم عشر سنوات سجناً غيابياً.

في المقهى كنا نتابع (الانتصارات الوهمية لجيوش العرب) في حرب حزيران عام 1967 على أنغام أغنية فهد بلاّن : ويلك يللي تعادينا ياويلك ويل..حنّا للسيف، وحنّا للضيف !! وبصمت أثقل من رعب، كنا نستمع إلى خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو يعلن استقالته عن رئاسة الجمهورية بعد الهزيمة المريرة في الحرب. كنت تحدّق بدوران الساعة الشاحبة لاتريد أن تستسلم لليأس

عندما تتهيأ للرحيل إلى" إيثاكا" تمنّ أن يكون الطريق طويلاً

يقول الشاعر"قسطنطين كفافيس" في قصيدته الشهيرة " المدينة":

" أينما نظرت حولي بلمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتي

حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت

لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى فسوف تلاحقك المدينة

سَتَهيمُ في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة

في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها

سيدبّ الشيب إلى رأسك وستصل دوماً إلى هذه المدينة

لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك، وما من سبيل، ما دمت قد خربت حياتك هنا،

في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما حللت ."

تلك المدينة ستظل تتعقبك وتطاردك، فهي تسكنك وتحاصرك، مصير أهلها كمصير أهل طروادة المحاصرة، هم يعيشون سطوتها حتى الثمالة وهم مجبولون على البقاء فيها، انها الملجأ والغواية والفتنة والحياة، رغم ما ينتابها من أعراض الخراب.

أسالك: ما الذي عاد بكَ إلى مدينتنا القديمة، تحمل أوجاعك وحدكَ، عن عزيز فقدته تبحث، جئت تخدع نفسك إنك هنا ستجده؟ عن عرّاف، تنتظر أن ينطق بنبوءة ؟ أم جئت هرباً من ثأر تخشى أن يوقع عليك؟

ما الذي جئت حقاً من أجله إلى مدينتا، يا من أمضيت سنوات عمرك في جبهات الحروب؟

ـ أتعبني السير يا أخي، أحسّ بالأرض تميد، وأسمع صوت أمي من بعيد، تصيح بالجناة: اتركوا ريحانة عمري، اتركوه.

(صفير قطار يُسمع من بعيد)

جئت باحثاً عن علّة وجودي.

جئت للتحري عن جريمة ظلت غامضة، عن قاتل خنق الربيع في صدر أخي، لاقبر له، يقولون ان القاتل سيرتكب جريمة من جديد. كانوا قد غرسوا بالنصال على شفة الورد، جئت لأغيث وما من مغيث لصرخاتهم سوى الموت يجثم فوق صدور الأجنّة، يسرق أعمارهم. هل نحن إلا بلاد من الموت والخوف والنزوة القاتلة؟

***

في ظهيرة ساخنة وضعتَ يديكَ في جيب سروالك العتيق، ورفعتَ ياقة قميصك الأبيض تمشي الهوينا حتى يهدأ بالك، تسكّعت في الأحياء التي تعرف أزقتها وأهلها. تدور حولها، وتدور بك الأزقّة، والبيوت لها صدى تنحاز لك.

مضيتُ أنصت إلى وقع حذائك على بلاط دكّة الباب التي غسلتها أختك الكبيرة، وأضحت عند قدميك تبرق مثل نجوم السماء تتألق، كنت أتربّص بك وفي داخلي عذاب استبد بروحي، لأنك لجأت إلى المناورة، كنتُ تعلمتُ منكَ في سنوات لاحقة : يخضع المرء في حياته لسلطات ثلاث، الأولى سلطة الأب، ثم سلطة الأخ، وأخيراً سلطة الابن حين تلفحك الشيخوخة، وتفقد العيون بهاءها، وإياك.. إياك من سلطة الأخ ! فانه والله يتوعدك!

ألقيت بنفسك إلى الشارع، رحت تتلوى وتصرخ بين يديّ أنا المتباهي ببأسي، كم أشعر بالندم، كنتُ قاسياً شديد القسوة معك، أطلبُ المغفرة منك، أتوسل إليك اغفر لي.

***

صممت على الفرار من ساحة الذبح نحو أقاص بعيدة، قلت لك: طفّ بأي سماء، وكما تشتهي، كنت قد رفضت الانصياع لمغريات الحزب الحاكم، حاصروك بالانتماء، والتهديد صار اللغة المفضلة عندما ترزح المدينة تحت وطأة البرابرة، ها هم يغرزون في لحمك الشوك عنوة :

ـ أستاذ (.....) عليك أن تدرك جيداً ان المعلّم أداة للحزب والثورة، لا نسمح للعناصر غير المؤمنة بالمسيرة أن تتسلل إلى التعليم ! هذه استمارة انتساب للحزب، مطلوب منك أن توقّع عليها بالموافقة !

بسخريته المعهودة لم يتردد في الرد على المسؤول الحزبي بثقة المطمئن لذاته:

ـ أخي: أنا رفضت الانتماء لحزب (أبوي) اليساري! كيف أسمح لنفسي أن أنتمي إلى حزب لديّ مئات الملاحظات على تاريخه ومنهجه ؟؟؟ ثم أردف بحزم :

ـ إياك أن تعود لمفاتحتي مرة أخرى .

لقد حسمتَ الأمر مع نفسك، من أين لك هذه الحكمة يا أخي؟ لقد فهمت اللعبة مبكراً.

ـ عليك أن توطّن نفسك لـ (البسطال ) قال له أبوه.

ـ كيف يا أبتي؟ يتساءل مع نفسه، أن أستسلم لهذا المصير، وفي أعماقي دماء المغامرة ما زالت متأججة بوجداني وعقلي.

كان حلم أبي أن أعيش كما يتمنى، أمضي خلف خطاه، ليتني يا أبتاه أقتحم التاريخ والأيديولوجيا، فأنا وحدي أحسّ بغربتي، فدعني أنتقي من شجر الحكمة ما يلهمني.

رحت أمشي إلى حتفي والمصير، على الجمر أحصد ما خبأته لي العصور، وما أرّخته المقادير...مهما تعبنا ومهما أرقنا، حكايتنا أننا في النزالات الأبدية لانطرح الأسئلة ولا نغامر بالجرح، أو تصعد إلى المقصلة.

وهنت قدمي وأنا أجري في تيه بيانات المعركة، أتسقط أخبار القتلى، وأهمّ بأن أهرب نحو المجهول الغارق بالضجّة، فتنتصب الجدران أمامي. يا هولها الحرب سيئة مثل شيطان رجيم، والأرض تغلي في شواظ كالزؤام، من يغيث الوطن المستباح؟ من يغيث من ؟ ليس غريباً أن سائق الدبابة لم يمت في سربيل زهاب، أو في البسيتين، أو بالسيف لغة الجلاد المفضلة. إنما من عطش مات !

عدتَ تجرجرَ خطواتك، تجلسُ على تخوت مقهى "نعيس" الخشبية، بين المناضد الخاوية رحت ترشف شايك الساخن، وترنو إلى الأفق، دخلتَ أشعث الشعر، ممزق الحذاء، تجفل من ظلك في كل لحظة. تخرج من بين أوراقك الصفراء المتآكلة الحواف قصاصة يتردد صداها وأنت في المكان الخاوي:

حذار! لم يبق لنا في هذي الأرض العاقر من أمل، جفّت أضرعها هذي التربة يا أهلي. كنتَ تحدّق بدوران الساعة الشاحبة لاتريد أن تستسلم لليأس، لم تزل تصغي للآهات وللصمت الذي تقطعه الشهقات، تحسّ بالألم الكافر من خلال ذلك الجرح الذي فغر فاه، لسنا ندري منتهاه، ها هي الحرب تأخذ أخوتنا وأبناءنا، وقد تهوّر السلاح بيد القتلة.

همهمات

أناس غير مكترثين بأنك عشت وطراً من حياتك هنا، تكتظ بهم الأرصفة، لا يعنيهم شيء من أحلامك، ولا شظايا روحك المبعثرة. تقلّب فيمن حولك النظر، لم تجده مرة أخرى، ذلك الوجه الشاحب والنظرات الخفيضة، ما ضاع، ضاع، لا وقت للحسرة. لتسترح، لقد تعبت خطاك في متاهات السنين

ـ ألم تدرك بعد أن هذه المدينة خالفتك منذ زمن بعيد، ودّعها، ودّعها أنها في البحر تغوص، ومن أمامك تنمحي..

ـ كانت لي ذات يوم، لي أنا وحدي، أو هكذا أوهمتني..

ـ كفّ عن البكاء. فالعشّاق الموتى يتكاثرون.

صفير قطار بعيد يتعالى على أهبة الرحيل…

***

جمال العتّابي

 

في نصوص اليوم