نصوص أدبية

نصوص أدبية

كلمات التحدي ما زالت تؤرقها، لم تعتد على الفشل، كانت تصر على النجاح والتفوق، فتصل إليهما بعد جهد وتعب، تدرك تماما انه لا شيء يسير بسهولة، وان الحياة الجميلة يستحقها المكافحون، الكتاب إمامها مفتوح وهي تقرأ فيه بنهم، يعرفه جميع من يدرك ان الإصرار من عوامل النجاح..

وزعت الأستاذة أوراق امتحان مادة العلوم على الطالبات، وأثنت على صاحبات الأجوبة، الكاملة، ومدحت اجتهادهن، وحين وصلت الى الطالبة نجوى، ناولتها ورقتها، وعدم الرضا يظهر بوضوح :

-أنت تتأخرين دائما في مادة العلوم، مما يعني انك لا مبالية بمستواك

- لا، أستاذتي، انني اهتم بكل المواد.

- يؤسفني كثيرا ان أجدك تقصرين في المادة، التي أدرسكن إياها، وتتفوقين في المواد الأخرى، الأستاذات يمدحن اجتهادك، وأنا أجدك خاملة في درسي، يشرد ذهنك في متاهات بعيدة، ولا يبدو عليك الانتباه

- سوف ابذل جهدي

- سنرى يا ابنتي، إنني أتحداك أمام الطالبات جميعهن، ان تثبتي جدارتك بلقب الطالبة الأولى، ولك إن اعترف بذكائك وقدرتك إن بينت لي أنني على خطأ، فأنت الآن لا تستحقين أن تكوني الأولى..

ترسم نجوى ابتسامة باهتة على وجهها وتسائل نفسها

- ما هي أسباب تفاعسي في مادة العلوم، وأنا المجتهدة في المواد الأخرى، هل ان الأستاذة تتوانى في شرح مادتها، وإفهامنا إياها كما تفعل كل الأستاذات، وأنا أجد الطالبات الأخريات يتفوقن في هذه المادة وافشل بها أنا وحدي؟

تواصل الأستاذة حديثها:

- إما انك تشردين في درسي، ولا تبذلين جهدا للقيام بالتدريبات، التي أعطيها لكن لترسيخ المعلومة في الأذهان، او انك عاجزة عن فهم مادة العلوم لأن ذكاءك محدود، وليس كما يظن الكثيرون، هل سيطر عليك الغرور وجعلك عاجزة عن الوصول الى التفوق؟

- لكني انجح دائما في مادتك ..

- نجاح دون المستوى، هل يكفيك ان تكون درجتك في العلوم ستين بالمائة ودرجاتك في المواد الأخرى بين المائة والتسعين ؟ ما نوع الخلل الذي تعانين منه، فانا اشرح بصورة ممتازة، والدليل درجات الطالبات والتفوق الذي أناله في تقدير الوزارة لجهودي، نهاية كل عام حين تعلن نتائج الثانوية العامة..

يحزن نجوى رأي الأستاذة بها، فهي قد اعتادت المديح، كلمات الثناء تنهال عليها من كل جانب، فلماذا تجد نفسها عاجزة عن الوصول الى التفوق في هذه المادة دون غيرها، ما الذي ينقصها وقد وفرت لها أسرتها كل عوامل النجاح الكبير، لماذا لا تقرر التفوق وتصر على إحرازه كما تفعل دائما، زيادة في الوقت المخصص لقراءة هذه المادة، والعمل على التدريب المكثف للوصول الى النتائج المرضية، لم تعد تزاول رياضتها المحببة في السير لمسافات طويلة، نصف ساعة تكفي كل أسبوع ولثلاث مرات، وكتابين تطالعهما في الشهر للقراءة الخارجية بدلا من أربعة كتب، ولماذا الحرص على عدد الكتب؟ أليس الأجدر بها ان تكون حريصة على نوع القراءات أكثر من كميتها؟

ما زالت كلمات الأستاذة اللائمة ترن في مسمع نجوى، سوف تضع حدا لهذا التأخر، تقرا الدرس كثيرا، تكثر من حل التدريبات، تراجع حلول الأستاذة وتقارن بينها وبين الأجوبة التي توصلت إليها، هناك بعض الاختلاف، مما يدل إنها لم تصل بعد الى المستوى المأمول، تعيد حل التدريبات، الأجوبة نفسها، , تطمئن الى مستواها، غدا الامتحان وهي واثقة جدا من النتيجة السارة

قال لها أبوها:

- الثقة بالنفس عنوان النجاح ومن أهم العوامل لتحقيق ما نطمح اليه

في ساعة الامتحان لا تبالي بنظرات الزميلات المستفهمة، تنكب على الورقة، ما ان يعلن صوت الجرس انتهاء الحصة، حتى تستلم الأستاذة ورقة نجوى، تصححها قبل الأوراق الأخرى

بعد الاستراحة، تسمع الطالبات صوت الأستاذة مبشرا:

- مبارك لك يا نجوى، انتصرت اليوم، انك حقا الأولى

***  

صبيحة شبر

كنا نخاف من الموت الذي انطفأت

فيه العيون.. فلم تنظر مدى الدَّهرِ

*

صرنا نتوق؛ بأنْ نلقى على عَجَلٍ

ما كان نخشاه.. بعد الضَّيم و القهرِ

*

إذ لا بقاء على دنيا بها ازدحمت

مهازل الشِّرك و الإلحاد و الكفرِ

*

كنا نخاف على عمرٍ ببهجتهِ

ماذا نخاف.. وذا قوسٌ على الظَّهرِ!؟

*

ماذا نخاف ، وما فيها لتبهرَنا

و كل ما حام لا يحلو إلى طيرِ

*

فالمدّعون بأنَّ الأرض يورثها

مستضعفون.. أرى دالت إلى الغيرِ

*

و المرجفون.. بنو أمسٍ تقاسمَهُ

المعسرون.. همُ نالوا من اليُّسرِ

***

رعد الدخليلي

أروع ما في الحياة

انك تجد امرأة بجوارك

تحبس الحب بين جوانحها

لئلا يصبح ذكرى

تخشى عليك

تدثره من برد الشتاء

وتنعشه بنسمات نيسانية

ايها القلب

كم انت محظوط

ثمة امراة مصقولة من نور

تدور فيه ولا تتعب

تشعرك بأن العالم ضيق كثقب أبرة

وواسع كقلب ام

كل شيء يخون

قد تخونك صحتك

وقد يخونك عقلك

وقد تخونك امراة

مع سيف مشتول في خاصرتك

وقد يخونك الطريق

حين لا طريق

ايتها المرأة

منذ عامين وانا اغط في انتظار

أقلب يدي

فلا احد يطرق بابي

ولا فجر يفض بكارة ليلي

***

د. جاسم الخالدي

عندما يأتيني طيفُك

كطفلٍ خائف ٍ

متخفياً بين الأزقّةِ

يتحاشى حراسَ المدينةِ

متسللاً مع شعاعِ القمرِ

عبرَ زجاجِ نوافذِ ذاكرتي

الممتلئةِ

بجثثِ أشباحِ الماضي

ينعكسُ على مرايا الأمنياتِ

في غرفتي المظلمةِ

كفراشاتِ الفجرِ

وهي تعانقُ قطراتِ النّدى

على زهورِ الشّوقِ

السّكرى بعد سهادٍ طويلٍ

في صباحِ نيسان الحائرِ

المتشبّعِ برائحةِ الزّهورِ

وحبائلِ الشّمسِ

الهاربةِ من زنازينِ الغيومِ

أقوم أتوضأُ بماءِ الحنين

المتدفقِ من كوى الذكرياتِ

والتي تخالجُ أفكارَ العشّاقِ

لأتخلصَ من أوهامِ القلقِ

أتوجهُ إلى محرابِ عينيك

خاشعاً دون تردد ..

أرددُ تراتيلَ الغرامِ

المعتادةِ

وأكررُ نفسَ الأورادِ

التي كانت تتمتمها دقاتُ قلبِك

وهي ترفرفُ

كجناحِ عصفورٍ خائفٍ

عند كلِّ لقاءٍ

تتسارعُ مثلَ حبّاتِ المطرِ

حين تحركها الريحُ

العاتيةُ

بليالي تشرين

في صدورِ المحبّين

لتنتفيَ الجهاتُ

وتتبخرُ الأبعادُ

فتستلمُ لقدرِها المحتومِ

وتمتزجُ بحبّاتِ التّرابِ

ليجرفَها التيارُ الهادرُ

إلى عمقِ بحيرةِ الأحلامِ

الراكدةِ

لايعكرُ صفوَها

إلا نقيقُ الضّفادعِ

الحاقدةِ

فتتلاشى

مثلَ ظلامِ الليلِ

عند انبثاقِ ضوء الفجرِ

وتبقى زهراتُ النّرجس

وحدها تعانقُ الشرفةَ

وتتحدى اليأسَ

فعطرها

الدليلُ الوحيدُ

على مرورِك القصير..!

***

عبدالناصرعليوي العبيدي

الوقت انقضى

وازاهير الحكمة

البيضاء والامل

الاخضر لم تتفتح

وعاصفة الرمل الغبار

والتراب  تضرب

عمق التوق

والارادة والاوزات

المهاجرات

تكافح من اجل

البقاء والعنادل

والهداهد العاشقة

تحتمي بقوس

قزح الصباح

وبالشفق  الازرق

حزينة

وازاهير التالف

تحترق تحترق

فلم يبق قرب

ارخبيل الحب

الا ايايلا

وغزلانا تبحث

عن اقحوانات

الصبر المستحكم

وعن ينابيع

البهجة الخضراء

فالوقت انقضى

انقضى وانا

اعزف على

نايات وقياثر

قلبي الحزين

لحن الصبر

لحن المودة

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

أَنا الذي رأيت

رأيتُ كلَّ شيء

لكنني لا أُريدُكِ

أَنْ تُغني لذِكري

ولا لأمجادي الوهمية

يا بلادي المجيدة

لأنني لستُ طاغيةً

مثلَ "جلجامش"

الذي كانَ الملكَ

والنبيَّ والإلهَ

الذي حكمَ الناسَ

والبلادَ بكلِّ ما استطاعَ عليهِ

من قوّةٍ وجبروتٍ وجنونْ

ولكنّهُ في نهايةِ الحلم

وربَّما في نهايةِ الفيلم

وفي خاتمةِ الرحلةِ العجيبة

استغفلتهُ وخدعتهُ

افعى شيطانية جائعة

وسرقتْ منهُ عشبتَهُ

وسرَّ خلودِهِ الحُلمي

والملحمي والوهمي

هكذا أَنا أَرى

هذهِ الاسطورةِ الفاجعةْ

***

سعد جاسم

4-1-2023

كان يَرى

في مَا يرى النائمُ

أنّهُ يَغطِسُ في البحر

يتنفّسُ الماءَ و يُلاعبُ الحيتانَ

*

كان يرى

في ما يرى النائمُ

أنه يَسكُن الشّمسَ

يَصطلي ويُصلّي في قُرصِها

*

كان يرى

في ما يرى النائمُ

أنه يَغرِسُ نخلةً في البَراري

تَحُط عليها الطيورُ المُهاجِرةُ

*

كان يرى

ليتَه كان رأى

التي أحبّها… وتَركتهُ يحلُمُ

***

سُوف عبيد ـ تونس

تخطو عنبر أمام الحاج عبد الغني فيتابعها بتأمل، أناقة ونظافة واهتمام بنفسها،قلب بها خافق، وعينان تحاولان اختراق ما تحت اللباس من غوالي، كل حركة منها تحرك فيه وترا من إحساس، ثم لا يلبث أن يحول عنها البصر إذا ما رأى طيف زوجته مقبلا وهي تتمايل يمنة ويسرة وقد فاضت مؤخرتها وغلبها ثقل الوزن وركبتاها تستغيثان من ألم ..

عنبر خادمة أفريقية سمراء،عمرها يتجاوز العشرين بقليل، ليست غريبة عن الحاج عبد الغني فقد كانت تقيم مع أمها الياقوت خادمة في بيت الحاج المعطي صهره، ثم انتقلت الى بيت الحاج عبد الغني بعد زواجه بللا غيثة .. منذ أن شبت وعنبر تحرك رأس الحاج عبد الغني بالتفات، جاذبية قد، وتناسق ذات،عينان نفاذتان فيهما حور مثير، ولسان يتفوه شهدا، كما أنها بارعة في كل ما تعده من أطعمة وحلويات فاقت بها للا غيثة زوجة الحاج..

تعلق الحاج عبد الغني بعنبر الى درجة الوله، لكنه وجد نفسه محاصرا بسنه وزوجته وابنائه؛ عنبر نفسها تدرك تعلقه بها فصارت تبادله البسمات حيية،حذرة من سيدتها وقد تنبهه بإشارة يد أو غمزة عين متى حاول ان يبدي إعجابه بكلمة غزل قد تنتبه لها الحاجة غيرة على الحاج بحكم سنها مقارنة به ..

تفكيرطويل مستبد عالج فيه الحاج بخياله ومنطق خبرته كل الحروب التي قد تفجرها زوجته ويؤيدها أبناؤه تحيزا لأمهم، لكنه صمم على تلبية صرخات قلبه وفوران الرغبة في جسده بما لا يظلم أحدا ..

أن يجالس زوجته ويخبرها بالحقيقة ويتوسلها إذنا بزواج فهذا ما قد يعقد الامر أكثر، وربما يتحول حب زوجته لعنبر كراهية وفقدان ثقة وقد تقوم بطرد بنت قضت عمرها بينهم ولا تعرف من حياتها غيرهم ..

انتهزالحاج غياب زوجته لزيارة أخيها المريض وجلس الى عنبر ؛ مسك بيديها وهو يهتز، تتملى عيونه تفاصيلها فيصرخ قلبه بين ضلوعه .. هي نفسها تبادله حيية عواطفه ببسمات خجولات

ورأسها بين رجليها مركوز..قال لها:

اسمعيني بعقلك وقلبك وفكري جيدا قبل الرد، لم يخلقك الله لتكوني وريثة شقاء كما كانت أمك لظروف ماعاد يقبل بها عصر، أنت جميلة بل فقت الجمال لمن يعي معنى الجمال وتقاطيعه في ذات أنثى سمراء،تستحق أن يخر رجل عند قدميها، وأنا ذياك الرجل الذي احبك ويريد أن ينصفك ؛ تجمعين كل أغراضك وتستعدين للانتقال الى بيت جديد اقتنيه لك اذا ما رضيت وقبلت أن تزوجيني نفسك حسب الشرع والقانون ..

لم يعد صدرالحاج وحده يهدر بوجيب، فعليه قد مال صدرعنبر، وشقت صرة عيونها على الوجنتين أخاديد .. من عمق أعماقها صعدت آهة لاهبة حارقة هي مزيج فرح ورهاب مما قد يحمله الغد ؛ ترد وهي تصب عينيها في عينيه كأنها تريد ان تهرق فيهما صراحتها وصدقها وأمانيها ..

ـ سيدي وحبيب قلبي،أقولها بكامل الوعي والصدق، لو كنا في زمن غير هذا الزمان لكنت حلالا عليك كملك يمين بلا تخف ولا مكر أو دس أما ونحن قد تحررنا من عبودية الزمان والعقول فلايمكن أن أتحيز لأنانيتي وأخون أنثى من جنسي أنا مدينة لها بنشأتي وكل ما أعرف، وضعت في ثقتها بين زوجها وأبنائها فكيف أسلب منها اعز رفيق لبقية عمرها، أبدا سلوكا لا يمكن أن آتيه ولو على حساب أحساساتي ورغبتي فيك، يشهد الله كم أريدك لكن على حساب للا غيثة وبغير رضاها لن اقبل ..

صمتت قليلا وقد انكتم الحاج مستغربا وفاءها لزوجته، تقيد الكلام في حلقه فأبى الخروج ردا على أقوالها،أخرجته من صمته بانتباه وهي تتابع:

سيدي وحبيب قلبي!! ..لماذا لانكون صرحاء مع عواطفنا وعقولنا ونعلن في النور عن رغبتنا، فنجلس الى الحاجة ونقترح عليها ما تريد أن تنفذه سرا بعيدا عنها، مما قد يثير علينا غضب أبنائك قبل أهلك والفضوليين القوالين من الناس؟

انصدم الحاج لردها وداخله اثر من حيرة وسوء الظن: هل هي صادقة التوجه ام تريد أن تبعده عنها لسنه؟.هل في خاطرها رغبة أخرى تتكتم عليها؟..

رفعت عينيها الى الساعة المعلقة في البهو وهمت واقفة فجرس الباب يعلن عن عودة الحاجة ..

أوت للاغيثة الى غرفة النوم ليلا،تبعها الحاج وعلى السرير حاول أن يكون بها لصيقا،مد رجله فوق رجلها،ثم مسك يدها ولثمها، بسرعة سلت الحاجة يدها من يده بعد ان أبعدت رجلها عنه وقالت:

ـ النوم يطبق على أجفاني تصبح على خير..

كان الحاج ممددا فاستقام في مكانه وقال:

للا غيثة .. اريد أن أحدثك في موضوع لا يقبل التأجيل ..

تململت في مكانها واليه التفتت ثم استقامت وهي تردد:

خير، احفادنا اصابهم شيء؟؟

بسرعة رد: لأحفادنا آباء وأمهات متعهم الله بالصحة والعافية،الأمر يتعلق بنا ..

ـ قل، تكلم، شغلتني ..

تنهد وقد رمى البصر الى صورة لهما يوم زفافه على الجدار، من نظرة تبدو للاغيثة أكبر منه وهو معها شاب فوق العشرين بقليل، يذكر أنها أنثى تأخرت في زواجها فهي أكبر منه بعشر سنوات وابوها من عرضها على عبد الغني كعامل مساعد له يتيم، خبر أمانته فاقترح عليه الزواج من للا غيثة التي تلقفته هي وأمها بترحاب وفرح فاق الحد،وللحقيقة فقد احتل عبد الغني الصدارة لدى صهره الذي أطلق يده في تجارته مذ قبل الزواج بابنته بلا اعتراض ..

القلق الذي ركب للاغيثة من كلام الحاج جعلها تستحثه على الكلام والنطق بما في نفسه بلاتردد:

ـ للاغيثة بصراحة أحب أن أتزوج وأتمنى موافقتك ..

لم تستغرب الحاجة مما قاله زوجها فما كان يحركها من ارهاصات قبلية قد وقع، فالحاج لازال يتأنق في لباسه،لايخرج الى متجره الا بعد حلاقة يومية لدقنه وعطر منه يفوح، وكثيرا ما كانت موقف مقارنة بهمزولمزمن ساكنات نساء الحي ..

ـ ومن سعيدة الحظ التي أخذت بلبك وأنت قد جاوزت الستين ..حقا أني تناسيت الاهتمام بنفسي، وحولني السكري والضغط الى أنثى مترهلة فوضت أمور بيتها الى خادمة ..

يقاطعها:

ـ وتلك الخادمة هي التي أريد للا غيثة "ويبقى خيرنا في بيتنا اذا شئت أو أقتني لها بيتا جديدا إذا كان قربها منك قد يضايقك كضرة "

غضب يصعد لصدر الحاجة وعبرات تخنقها، يأخذها سعال فيبادر الحاج الى جلب كأس ماء من حمام غرفة النوم ..

هدأت الحاجة قليلا ثم قالت: ألم تجد غير عنبر خادمة سوداء تعاقب بها تقدمي في العمر،هذا جزاء خير والدي فيك، كيف تلقى الله؟

بسرعة وضع الحاج راحة يده على فم الحاجة وقال:

ـ حرام عليك من اين أتتك هذه العنصرية العمياء، وهذا المن الجديد عليك،أليست العنبر انسانا؟ 

تداركت الحاجة تسرعها وهفوتها وقالت: لا اقصد تحقيرها أو المن عليك بأفضال غيرك والتي بلغتها بأمانتك وجهدك وانما هي الحريقة التي اوقدتها في صدري أن تكون عنبر لي ضرة، فأنا ادرك أن اللون الأسمر يستهويك وأن جمال عنبر يمد عينيك بمتابعة اليها بانبهار، ولو لم تكن عنبر خادمة لتزوجت من زمان، لكن رجال اليوم لاتثيرهم الا الاطماع لا الحقائق والأصول..

مرة أخرى يمسك الحاج بيد للاغيثة،يقبلها كأنه يتوسلها، متجاوزا عن هفوة لسانها، يتبسم في وجهها:

قولي مارأيك؟ هل أحظى بموافقتك؟

بغضب حانق ترد:

ـ قلت لا، يعني لا، فلا تضغط علي ..

توليه ظهرها كأنها تفضل النوم على حديث أقلقها

يتنهد الحاج محاولا أن ينهي الحديث وفي صوته رنة من غضب:

قضيت عمري ألبي كل رغباتك بلا اعتراض، انت الرأي وأنت المشورة، ويوم تمنيت زيتونة سوداء تعترضين عليها وتقفين ضد رغبتي بعد خمس سنوات من الانفصال الجسدي بيننا ..

أدركت الحاجة ان الحاج مصمم على الزواج فصارت تقلب الأمر بكل الاحتمالات الممكنة، أليست ضرة تحت سلطتها، تعرفها وتخبر أخلاقها، حدقها ومهارتها خير من غيرها قد تلتف على الحاج وتنهب ما بناه بدسائس وهيمنة،

التفتت اليه، شدت يده وقالت:

لا أنكر أنك قد أسعدتني ذات زمن والحر من دان إنصافا كما دين .. أحبك آالحاج نفس حبي يوم تزوجتني، كسرت عنوستي، لكن عندي شرط ..

ـ وأنا تحت أمرك للاغيثة ..

ـ أن تكون عادلا بيننا!! ..

وضع رأسها على صدره،مسح دمعتها من خدها:

ـ للاغيثة!! ..أليس من العدل أني أ شاورك؟.. أنت حبي الأول للاغيثة،وانت من دفعتني لأصير ما صرت اليه اليوم من غنى وما حققناه لأبنائنا...

مهما صار في حياتي من زيجة فأنت عتبة الخير الأولى والتي كرمني بها أبوك حين قبل طلبي يدك ..وفوق هذا أعدك بليلتين لك وليلة لها، فقط أن تكوني راضية باقتناع ..

قالت وقد رفعت رأسها الى وجهه وشبه ضحكة على محياها:

ـ ليس هذا ما أقصد، طلبي ألا تستأثر وحدك بعنبر فليلة معك وليلة معي!! ..ضحكا وقد حركت رغبته بعناق تحاملت على نفسها لتصل معه الى نهاية كادت أن تأتي على عمرها ...

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

جُنْدِيَّانْ

كانا يَقِفانْ

عِنْدَ حدودٍ تفصِلُ بينهما

ما رَغِبا يوماً أنْ يَقْتَتِلا

كانا يَرَيَانْ

عَنْ بُعْدٍ بَعْضَهُما،

تغزو سَمْعَهُما

أصواتُ أناشيدٍ تدعو للحربِ،

فَيَكْتَئبانْ

الأولُ ينظرُ للثاني

والثاني ينظرُ للأولْ

كلٌّ في داخلهِ يَسْألْ :

هل يُمْكِنُ أنْ يَقْتُلَني هذا؟

**

عَبَرَتْ سنتانْ

بِغُموضٍ، فوقَ جُسورِ الأزمانْ

والجّنْدِيَّانْ

يَرْتَقِبانْ

قالَ الأوّلُ للثاني

إنّا رقمانْ

مِنْ أرقامٍ يتألفُ منها جيشانْ

لا حربَ لدينا الآنْ

ماذا يُمْكِنُنَا أنْ نفعلْ ؟

قالَ الثاني

فَلْنَلْعَبْ شِطْرَنْجْ

قالَ الأوّلْ

دَعْني مِنْ هذا

سأكونُ الخسرانْ

فأنا لا أقدرُ أنْ أَقْتُلَ

أو أنْ أُقْتَلْ

.............

.............

سَكَتَ الصّوتانْ

و بَكى الإثنانْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

الفصل (10) من رواية: غابات الإسمنت

بعد العشاء أقبلتْ الحارسة وطلبت مجموعة منّا، أنا ونجاح، مديحة أيضا كانت معنا وأم نظيم، كنت في حالة انهيار تام بعد إعدام كريمة، وباشرتُ عملي في التدريب على الحلاقة بتشتت مفرط، تخيلت نفسي مكانها أتأرجح على الحبل وتساءلت:

يا ترى ماذا طلبت أن تأكل أو تشرب قبل أن تصعد إلى منصة الموت؟ ماذا قالت؟ بمَ شعرت؟ هل تراخت مثانتها؟

وربّما كنت رأيت فيما ترى النائمة المرهقة المتعبة التي أثقلها التفكير والقلق، أن الهواء حبل ممتدّ من السماء إلى الأرض ليلتقطني أو يطاردني، ثم أرى قطة تتحول إلى حبل أو لأرى كلبا يصبح مشنقة.

لقد ماتت الأحلام السيئة حين سمعتُ الحكم عليّ بثمانية أعوام بديلة عن الموت، ثم عادت إليّ في بضع ليال بعد الحكم على رفيقتي، كأنني أنا التي حُكم عليها لا هي، وحاولتْ نجاح مواساتي فلم تفلح، رغم أن وجودها كان يخفف الكثير عنّي، ومما زادني يأسا وقلقا أن أسبوعا مرّ على حادثة الموت ولم تطلبني السيدة النقيب.

توجهنا إلى غرفة الإدارة، فوجدتها جالسة خلف مكتبها ومعها في الغرفة مفوّض شابّ وسيم طويل القامة، خفق قلبي وتأكدتُ أن شيئا ما يحدث، بدأتْ كلامها بصوت جاد رزين:

ـ اسمعي يا مديحة، بعد أيام ستطلبكِ جهة ما إلى التحقيق، ليس من شأني أن أعرف، المهم أن ننفذ الأوامر... أما أنتِ يا إنعام فسآتي غدًا لأصحبكِ إلى دائرة الشؤون القانونية، لننقلك إلى سجنٍ آخر في مدينة أخرى.

ـ أين سيدتي؟

ـ فيما بعد ستعرفين... كل ما أقوله أن هناك لجنة اجتماعية نفسية في سجن آخر، ستقوم بأخذ عيّنة من السجينات، للتطبيق عليها في دراسات اجتماعية ونفسية تخص الجامعات، المهم، لا يراودكما القلق.

ـ حاضر سيدتي.

تساءلتْ مديحة:

ـ هل أحضّر نفسي؟

ـ ليس الآن... لكن ليس ببعيد.

ـ نعم سيدتي.

ـ والآن سأغادر، مَنْ منكنّ ترغب في أن تقضي الليلة مع الحارسة؟ والتفتتْ إلى المفوض: سياستي أن اخفف عن السجينات، فالسجن تأديب وليس انتقاما، كل ليلة تأتي سجينة لتبقى مع الحارسة وترتاح.

ـ فكرة ممتازة سيدتي.

انبرت أم نظيم قائلة:

ـ أنا أرغب... لكنْ؛ سيدتي معظم الليل تقضيه أحدانا هنا تتلهى في مشاهدة التلفزيون أو شرب الشاي وخدمة الضابطة الخفير، وفي النهار يقع عليها عمل، إما غسل الملابس أو الدورة التدريبية فلا ترتاح.

ـ حسنا، من الآن أصدر أوامري، أن التي تأتي لتساعد الحارسة ترتاح اليوم التالي.

نهضتْ ونهض المفوّض يؤدي لها التحية، وسرعان ما خرجنا وبقيت أم نظيم في غرفة المطبخ، وفي الصباح عند الساعة السابعة جاءت إليّ... كنت أحلم طول الليلة بلقائها، أصبحتُ لا أستغني عنها، تقلّبت كثيرًا في الفراش، الشيء الذي ارتحت له أن الكوابيس التي داهمت نومي بعد إعدام كريمة كانت قد غادرتني، سأقضي نصف المدة هنا بفضلها، وأخرج بين حين وآخر لأقضي الليل في شقتها، أشعر أني معها إنسان كامل، أملك كل حقوقي، تراني أكثر من أنثى، رجل وامرأة أغنيها عن العالم، وبدأت أراها كذلك.

أقتنع تماما: إني لا اشعر بالذنب.

الحياة فكرة زيتها النفس... هذا ما توصلتُ إليه بعد حفنة الأزمات التي تعرضتُ لها، فقررتُ أن تكون فكرتي كما أشاء لأعيش كما أريد.

وضعتْ القيد في يدي وجعلتني خلفها، ثمّ قادت السيارة.

ـ المفوّض المتدرب "ناجح العابد"؛ أمه وأمي بنات خالة... سيبقى معنا أسبوعًا.

سالت دمعة من عيني، ولمحتني باستغراب.

تبكين؟

بقيتُ صامتة، واسترسلتْ:

حبيبتي والله عندي شغل، ثمّ إنني لا أستطيع أن أصحبك معي كل ليلة، أو بين ليلة وأخرى، كل ما يذهب إليه تفكير الحارسة أنك تأتين معي لتخدمينني وتنظّفي الشقّة؛ ولكي لا تشكّ أيّة من السجينات، فإنّي جعلت مديحة تبيت عندي بحجّة تنظيف الشقّة، صدّقيني يصعب علي ذلك؛ لكنّ هذا أفضل.

كانت دموعي تفيض، فأوقفتْ السيارة، وفكّت قيدي، لبستُ الجلابية العريضة فوق ملابس السجن، وقالت: هيا اجلسي جنبي.

بقيت صامتة وتحدثتْ وهي تمدّ يدها إلى يدي فتعصرها بحنان:

ـ ها سعيدة؟

وعندما وصلنا شقتها، وحالما دخلت اندفعتُ نحوها، ضربتُ صدرها بيديّ المضمومتين ضربات خفيفة، وانهرتُ بالبكاء وأنا أقول: لماذا لم تفعلي المستحيل لإنقاذ كريمة؟

كأنّي بتلك الضربات أتحرر من كل الكوابيس المقيتة، وأحس أن يديّ اللتين لبستا القيد هما حرتان به أو من دونه، فلا أهوي بقبضتي عليها بعنف.

كنت أضرب نفسي بقبضتي.

أحس أني أضرب صدري.

تركتني وأشاحت بوجهها عني، ثم قالت بنغمة فيها حيرة:

والله عملت المستحيل، ذهبت إلى أكثر من مسؤول أمني رفيع، فعرفت أن قضيتها يائسة مائة بالمائة، امرأة قتلت زوجها مدّعية أن زوجها الأول حرّضه على الانتقام منها بالنشوز، ليست كقضيتكِ، وجدتِ زوجك مع عشيقته عاريين.

في قضية كريمة اعتبارات قانونية وعشائرية، الدولة نفسها لا تتحكم بها، ألم تري أني لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل وهو حياتها.

واستدارت إلي وهي تلهث كأنها جاءت تهرول من مسافة بعيدة، فاندفعت نحوها أدفن رأسي بصدرها وهمست:

- أعشقكِ

أخذت يديّ بيديها، ورفعتهما إلى فمها تقبلهما وتقول:

ـ أنا أكبر إخلاصك وها أنا أقبّل هاتين اليدين، كانتا تهبطان على صدري مثل جناحي ملاك، لقد أحسست أنك لا تفعلين ذلك بعنف، قلبكِ لا يطاوعك!

ولم أكن أتوقع أن تحملني بكل رشاقة وخفّة كما لو كنت ريشة في يديها، على الرغم من أني لم أكن خفيفة الوزن، ................................

بدأتُ أغيب معها في عالم شفّاف.

لا ألم ولا خوف.

لذة فقط.

وهالة من الجمال والنعمة والدفء.

هالة شفّافة.

...........................................

نهضتْ من على السرير، زرّرتْ قميصها، طبعت على شفتي قُبلة وهي تقول:

ـ مجنونتان ... هذا أفضل .

ـ أحبكِ أعشقكِ.

وواصلت حديثها:

ـ سأغادر الى المركز ساعة أو ساعتين وأعود، استحمّي لكي آخذك إلى الكوافير، استحمي وأعدّي لكِ طعام الفطور، وسأجلب طعام الغداء من المطعم.

ـ بل ستأكلين من يدي.

ـ لا ليس اليوم، لأنني أريدكِ بعد الحمّام والفطور، أن تجلسي على مكتبي وتكتبي تقريرًا مفصلًا عن حياتكِ في السجن.

ـ حاضر يا عمري.

ـ اعتبري نفسكِ منذ اليوم تعملين في دائرة مهمّة ولكِ راتب.

ـ حقًا؟

ـ خذيها منّي، بالمناسبة... هل أخبرتكِ مديحة أن زوجها سياسي وأنهم وجدوا في بيتها مخدرات؟

ترددتُ ثم قلتُ نعم، هذه أمور عامة يمكن أن تكون حكتها للجميع.

ـ كل شيء ينفع.

ونظرتُ إليها نظرة ذات معنى وقلت:

ـ اسمعي حبيبتي ابتسام ... أرجوك، أنت تعرفين أن خيانة زوجي دمّرتني ... دفعتني إلى أن أقتل اثنين، أرجوكِ.

وقاطعتني بنرفزة:

ـ محال أن أخونك، أنت لستِ ظاهرة عابرة في حياتي، محال ... لا تفكّري بذلك، أقسم لك، كل ما فعلته كان لدرء التقوّلات ... لقد اطمأن قلبي إلى مديحة أكثر حين لم تخبرك ، سيدة أمن يوثق بها .

اندفعت قائلة:

ـ أين نامت؟

ـ في الصالة، لم أرد أن أجعلها ترقد في المطبخ، وفعلته مع سجينة أخرى رفيقتك؛ الحلاقة الساذجة، نظفت الشقة في الصباح، وكانت قد فرشت لها في المطبخ، وأخبرت بعض نزيلات السجن ممن تختصهن بصداقتها عن كرمي، ألم تخبرك؟

ـ بلى، وقد مدحتك كثيرا!

ـ إنها لا تصلح للعمل مخبرة، أرأيت؟ كل هذا من أجلك أنت، أفعل المحال، أحبك، أنا أعبدكِ.

ـ حبيبتي.

ـ احضرتُ لك بدلة ستلبسينها لتخرجي معي؛ لكن لا تفتحي الباب لأي أحد.

سأغلقه بجهاز الأمان، وأية لمسة من الداخل سيؤشّر عندي، وابتسمت وأكملت: أما إذا أردتِ الهرب فأنتِ وضميركِ.

ـ أين أذهب؟  أنتِ لي كل شيء، وواصلتُ بحنو، ألم أقل لك يوم أخبرتني عن وفاة أمك أنني سأكون لك كل شيء؟

ـ أنا وأنتِ كلانا يكمل الآخر.

خطفتْ قُبلة سريعة ثمّ عدّلت هندامها، وضعتْ عصا التبختر تحت أبطها وغادرتْ، وما زلتُ على السرير أحدق بسقف الغرفة الأبيض الزاهي.

ولا أعرف لماذا شعرت أن عمري أكبر بكثير مما عليه، نضجتُ وكبرتُ بحجم أوجاعي اليومية، وكل يوم وجعه يعادل عامًا كاملًا، سوى أني لا أريد بعد اليوم أن آسف على شيء فاتني قط.

***

ذكرى لعيبي

آه لو بإمكاني أن أعلق شريط ذاكرتي المكتضة بالوهن والخدوش فوق غصن شجرة وأبقى بعدها صافية الذهن بلا ذاكرة رمادية...

أرغب أن أستفيق من أحلامي الوهمية كما أستفيق من شراشف الآسرة الصباحية، وأن أمد يدي إلى تلك الستائر الحاجبة بيني وبين اليقظة...

أرغب دائماً أن أدحرج شظايا ذاك الشعور الذي يصعب وصفه والمتعب، وأن أقذف به إلى أعماق سحيقة...

لا أعلم من منا يتحايل على الآخر أنا أم الوجع الذي يدس نفسه تحت جلودنا ويقتات من رحيق حياتنا...

أصبحت أشعر بالإنقباضات التي تداهم سكوني عند كل نقره وجع، لو كان بإمكاني أن أحجب تلك الأفكار السوداوية التي تتركني منهكة القوى لا أستطيع مقارعة حرف...

أرغب في أن أتقوقع على ذاتي وأن أوقف منبهات الوقت الهارب مني، أو أرغب في أن أفترش حقلاً بعيداً عن ضجيج الحياة وأجلس على مقربة جدول ماء بلا رنين هاتف أو صرير قلم.. 

آه لو كان بإمكاني أن أجر نفسي من نفسي، أو أن أكتب سطوراً لا نهاية لها عن تلك المعتركات الحياتية التي تصيبنا بالضجر والخمول. لم أكن لأكون قفلاً موصداً على نفسي حتى أبقي ذاتي بعيداً عن الأنظار لولا إنني كنت خارطة صماء تجوب الأرض حافية الكلمات.

إنني أسعى لأن أفتح نافذة الحديث المقفلة منذ زمن، أو أن أخط بقلمي على طول سكة الورق لعلني أتعايش مع كل هذه التناقضات التي تصطدم ببعضها البعض وتجعلنا ندور حولها..

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان...

يسألُ جُرحي المفتوحْ

هل كذبةُ نيسانٍ أنتْ

لا تنزاحُ إذا الوقتُ أفَلْ

يتَعالىٰ فيكَ نعيقُ الموتْ

يعرجُ فيكَ الصدقْ

يمشي مذلولاً

ويُهان

مَن تأبىٰ شفَتاهُ الصَمتْ

مافيكَ صدوقٌ غيرُ النَخل

ياوطناً كرِهَ النخلَ فماتْ

ماتَ النخلُ ومُتْ

يا أنْتْ

من يُحييكْ

إنْ تقتلَ في حضنكّ عُبّادَ العِشق

وتُقدّسَ مأبوناً مرفوعَ الذُلّ

**

وطني النَخلْ

إن ذهبَ النَخلُ ذهَبْت

أمّي ..

ولَدتني تحتَ جَناح السَعفْ

حضنُ النخلةِ بيتُ صباي

وهناكَ نَهضتْ ..

وعشقت..

وثملت ..

وعلى كرَبِ النخلِ قرأتُ مَسيرةَ جدّي

وضفافُ النهر..

نهرُكَ يابابَ سليمان

حفظَتْ آثارَ خطاي

**

من كان هواهُ النخلةَ والنَهرْ

وحكاياتِ الماءْ

سيَراها في الغَيبْ

يا للعُمرْ

ركَضَت منه السبعونَ وما زلتْ

أسدلُ في الغَصّةِ جَفني

فأشاهدُ تلكَ التُرعةَ والدَلوْ

ورعاشَ الظِلّ إذا السَعفُ تثنّىٰ

أصغي

أسمعُ تسبيحَ بلابلنا

ونداءَ (البلّامِ) وقد حظَرَ التَمر1

ما أقسىٰ الذكرى

لمّا تبكي الذكرىٰ قبلكَ ياقلبْ

**

عادل الحنظل

..................

1 - في أبي الخصيب، لما كان فينسيا البصرة، اعتاد أصحاب الزوارق الخشبية (البلّامة) أن يأتو بزوارقهم (أبلامهم) محملة بالتمر في صناديق خشبية ليفرقوها عبر الأنهار الصغيرة الى العوائل حيث تقوم النساء بإزالة أنوية التمور بما يسمى (التفشيق)، بأجر زهيد، وبعد وقت معلوم يعود البلّامة لجمع صناديق التمر وايصالها الى المكابس حيث يجري تعليبها وتصديرها الى خارج البلاد.

يَـامَنْ مَـلَكْتَ القَلبَ كُنْ لِي مُنْصِفا

أَمَّـلْـتَـنِـي وُدّاً ووُدُّكَ مــــا صَــفَــى

**

أظْـهَرْتَ شَـوقاً فـي العيون فَلَيتَنِي

أَدْرِيْ بِـمَا ضَـمَرَ الـفُؤادُ ومَـا خَـفَى

**

قُــمْ أَوفِ عَـهْداً أَنـتَ كُـنتَ قَـطَعْتَهُ

قـدْ ذُبْـتُ فِـيكَ ومـا رَأيـتُ بِـكَ الـوَفَا

**

إنْ كَـــانَ وَصْــلُـكَ لِـلْـحَبِيبِ جِـنَـايةً

أسْـرِفْ بِـذَنْبِكَ عَـنْ ذُنُـوبِكَ قَـدْ عَفَا

**

قَـرِحَـتْ جُـفُـونِي مِـنْ سُـهَادٍ دَائِـمٍ

أَنَـا مُـذْ رَأَيـتُكَ جَـفْنُ عَـينِي مَا غَفا

**

أدْمَـنْـتُ وَصْـلَـكَ لا شِـفَـاءَ لِـحَالتي

إلاَّ وِصَــالُــكَ قـــدْ يَــكُـونُ مُـخَـفِّـفا

**

قـدْ بَـاتَ طـيفُكَ فـي خَيالي سَاكِناً

فــي الـلَيلِ يَـأتي كـالمَلاكِ مُـرَفْرِفا

**

لا الـطّيفُ أنْـسَانِي عَـذَابَ صَبَابَتِي

ولَـهِيبُ وَجْدِي في فُؤَادِي مَا انْطفا

**

فَـتَـثُورُ أشْـواقـي وتَـحْرِقُ مُـهْجَتي

والـقَلبُ مِـنْ رُؤْيَـا خَـيالِكَ مَا اكْتَفى

**

آهٍ مِـن الأشْـواقِ فـي لـيلِ الـمُنى

قَــدْ زَادَت الـشّـوقَ الـمُـقِيمِ تَـطَرُّفا

**

يـا سَـاكِناً فـي الـرّوحِ عِشْقُكَ ثَابِتٌ

في القلبِ لمْ يَبْرَحْ و مَا عَنهُ انْتَفَى

**

إنْ كُـنْـتَ تـضمر فـي الـفؤاد مـودةً

خَـفِّـفْ عــذابَ الــروحِ عَـنّا و الـجَفَا

**

فـالـرّوحُ تَـهـذِي فـي غَـرَامِكَ دَائِـماً

والـقـلبُ يـنـبضُ فــي هـواكَ تـلهُّفا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أعوادُ ثُقاب...

ومُروجٌ من كبرِيت

وأعمدة دخان

تولد كل حينٍ ...

لم تعد الأرض تصلح

للحراثة...

فالزُرّاع اِمتهنوا

إشعال الحرائق

في القلوب والأحداق

على الخارطة

تتغير المعالم

الشرار المتطاير...

يتسع مداه

فالشر أستباح

غزة

والشيطان الواعظ يمكر

في الخرطوم

وعلى دمشق خيم الحزن

أما زلنا ننتظر

أن يحل الوئام......

وربوع بغداد

وطرابلس

في سلام اللا سلام ..

***

كامل فرحان حسوني

مُهْدَاةٌ إِلَى الشاعرة الفلسطينية:

ختام حمودة

***

يَا رَبِّ عَفْوَكَ يَا ذَا الْفَضْلِ وَالْمِنَنِ

أَنْتَ الْفَضِيلُ الَّذِي يُعْطِي بِلَا ثَمَنِ

*

أَلُوذُ بِالْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ يَا سَنَدِي

فَاقْبَلْ تَبَتُّلَ صَبٍّ غَيْرِ مُرْتَهَنِ

*

لَكُمْ إِلَهِي أَبُثُّ الْحَمْدَ فِي وَلَهٍ

وَأَعْصِرُ الرُّوحَ فِي شَمَّاعَةِ الْكَفَنِ

*

قَارَبْتُ أُقْضَى وَذَنْبِي فَاقَ تَجْرِبَتِي

فَاغْفِرْ لِيَ اللَّهُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ دَرَنِ

*

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلٍ بِلَا عَمَلٍ

أَنْتَ الْمُجِيرُ فَلَا إِلَّاكَ يَضْمَنُنِي

*

لَا حَوْلَ إِلَّا بِكَ اللَّهُمَّ يَا أَمَلِي

يَا خَيْرَ مَنْ سَيَّرَ الْأَمْوَاجَ فِي الْمِحَنِ

*

أَنْتَ الْقَوِيُّ الَّذِي قَلْبِي يُسَبِّحُهُ

عِنْدَ الصَّبَاحِ وَفِي قَلْبِي وَفِي أُذُنِي

*

وَفِي الْمَسَاءِ مَعَ الْأَذْكَارِ مَسْأَلَتِي

اُسْتُرْ إِلَهِي وَنَجِّ الصَّبَّ فِي وَطَنِي

*

يَا مَنْ بِهِ لَاذَتِ الْأَفْلَاكُ مِنْ أَمَمٍ

وَمَنْ لَهُ سَبَّحَتْ شَامِي مَعَ الْيَمَنِ

*

وَمَنْ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ يَأْخُذُنَا

إِلَى الْمَتَاهَاتِ فِي تَسْبِيلَةِ الْوَسَنِ

*

اِعْطِفْ عَلَيَّ بِحَاجَاتٍ أُؤَمِّلُهَا

وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي مَعَ الشَّجَنِ

*

تَرَحَّمِ اللَّهُ عَنِّي فِي مُخَيِّلَتِي

وَامْسَحْ ذُنُوبَ وَلِيٍّ عَاشَ فِي سَكَنِ

*

أَنْتَ الْخَبِيرُ بِمَا اسْتَأْثَرْتَ مِنْ حُجُبٍ

فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ أُسْطُورَةِ الزَّمَنِ

*

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا

وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ الصَّادِقِ الْفَطِنِ

*

وَصَلِّ رَبِّ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ

عَلَى الْخَلَائِقِ فِي يَافَا وَفِي عَدَنِ

*

يَا مَنْ أَلُوذُ  بِهِ إِنْ حَاقَ بِي أَلَمٌ

أَوْ مَسَّنِي الضُّرُّ كَالْأَوَّابِ لَمْ يَهُنِ

*

نَادَاكَ فَاكْشِفْ إِلَهِي الضُّرَّ فِي عَجَلٍ

وَامْنُنْ إِلَهِي بِمَحْوِ الْكَرْبِ وَالْحَزَنِ

*

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ خِزْيٍ ومِنْ نَدَمٍ

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَيْطَانَ يَسْكُنُنِي

*

يَا رَبِّ أَحْسِنْ خِتَامَ الصَّبِّ مُرْتَجِعاً

عَنِ الذُّنُوبِ وَعَفْوُ اللَّهِ يَغْمُرُنِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

ميمعة، معمعة، معمعان، ساحة وغى، معركة، كلها مسمّيات لمعنى واحد، هو الحرب بواحد من مفاهيمها. نعم الحرب. هذا ما أحسسنا به نحن أبناء العائلة الفلسطينية من أصل مهجّر، طوال الوقت. وكما تعرفون فإن الحرب تضع أوزارها، ما هذه الكلمة الفصيحة. تضع أوزارها. هه. غير أن أحدًا منّا لا يعرف مَن هو الغالب من المغلوب. كلّنا غالبون وكلنا مغلوبون، وإن كنّا تهرّبنا مِن مثل هذا الاعتراف حتى لا يشمت أحدنا بالآخر. ولماذا نسلّم بالغُلب؟ وكيف ستستمر الحياة إذا ما اعترفنا بأننا انهزمنا، فأدرك هذا مَن قُبالتنا، ولتكن زوجتي، فاستدعى عازفي الطبول والزمور للاحتفال بمناسبة هزيمتنا السعيدة. تهرّبنا كلُّنا من هذا الاعتراف إلا حضرتي، فقد اعترفت بالغُلب، ولم أتوان في رفع الراية البيضاء والخروج بها من بيتي، كي يستقبلني الفضاء الرحب مُرحّبًا بي وبهزيمتي.

هكذا كانت البداية يا ولدي، أما ما تلاها فإنك لا تعرفه، هذه حكاية طويلة أعتقد أنها تحتاج إلى وقت لا يقلُّ طولًا عن طولها. إذا أردت سأبدأ في روايتها. تهزُّ رأسك مستغربًا يا ولدي.. ماذا تعني؟ تريدني أن افهم أنك لا تُريد أن تسمع حكاية مطوّلة؟ طيّب سأنزل عند رغبتك. أنا باختصار أتيت بعد سنوات الغياب الطوال لأكون بينكم، صحيح أنكم، أمك خاصة، قسوتم عليّ، إلا أنني أريد أن أعود إليكم، أريد أن أشعر بوجودي بينكم. أن أرى إلى أختيك، مؤكد أن الصغيرة شبيهة هيفاء وهبي، كبُرت وتوجّهت نحوها الأنظار على الطالع والنازل، أما تلك الأكبر منها قليلّا، هندية الوجه، القدّ والمبسم، فأعتقد أن جمالها تسبّب لك ببعض وجع الراس. صدّقني يا ولدي إنني اشتقت إلى كلّ شيء، حتى أمك ومعاركها أضحت ذكراها هناك في قبري، مصدرًا للحكايات، أروّح بها عن نفوس جيراني، لقد أصبحت مشهورًا بحكاياتي عنها فرويتها إلى جيران جيراني، وهؤلاء يريدون منّي أن أرويها لجيرانهم. لقد أصبحت مشهورًا بين الموتى. أصبحت معروفًا في مجالسهم، فما أن يُذكر اسمي بينهم حتى ترتسم الابتسامات على الوجوه، كأنما هي تريد أن تقول هذا الرجل يعرف كيف يروي حكاية تُبهج مَن يستمع إليها رُغم ما توحي به من معاني الألم. أمك يا ولدي.. ما الذي أراه على وجهك أإلى هذا الحدّ بات كلامي مملًّا، طيّب طيّب يا ولدي، جيراني الموتى سمحوا لي بالعودة إلى البيت مكافأة منهم لما أسمعتهم من حكايات.

هذا ما تُريد أن تسمعه؟ تريد أن نصل إلى الكلمة الأخيرة لترتاح؟ ما أصعب هذا، ما أصعبه يا ولدي، أن يصبح الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان. طيّب طيّب، لا أريدك أن تتحدّث عن المصاعب، فأنا ألفتُها وأعرفها وعلى استعداد للتعامل معها، الطريق التي قطعتها رافعًا راية الاستسلام من بيتي إلى فضائي الأخير، وعيشي هناك سنواتٍ، قوّتني جعلت مني صنديدًا ولا عنترة العبسي في أيامه المشهودة. هيّا يا ولدي.. هيا.. أنا أريد أن أعود إلى البيت، اشتقت إلى أكلات مقصوفة العمر أمك، اشتقت لأكلة الّلوف، ولأكلتي الفُقع والعكّوب كمان. أمك أتقنت هذه الأكلة عملًا بوصية من جدّتك، حينما قالت لها قبل موتها بسنوات، اطبخي له العكّوب هو يحب العكّوب. إذا أردتِ أن يحلّ عن ظهرك أطبخي له هذه الأكلة. فعلًا اشتقت لهلملعونة، اشتقت لصيحاتها وصرخاتها وهي تجلجل في أجواء البيت والحارة.. اشتقت لتكسيرها لمزهريات الوردّ، ورميها هديتي إليها في عيد ميلادها، من شباك بيتنا، وهي توجّه إلي الشتيمة تلو الشتيمة، يخرب شرّها.. شو كانت خفيفة دم، مفهمتش هذا كله إلا لمّا غادرت البيت.

إلى أين أنت ذاهب يا ولدي. هُنا في الحيّ الشرّقي بيتنا، تأخذني إلى الحي الغربي؟ هل انتقلتم للإقامة هناك بعد خروجي من البيت؟ والله بطلعلكم يا عمّ، وشو همّ، أمك استفادت كثير من الغرب، والله بطلعلها إنها تقيم في الحي الغربي. الغرب خلّى حكومتنا تسن قانون حماية المرأة. من يوم ما شرحت هذا القانون، ومن يوم قلت لامك إنه هذا القانون بمكّن المرأة من إنها تطرد زوجها من بيته/ها، انقلبت حياتنا إلى جحيم، أمك بطّلت تطبخ العكّوب وبطلت بدها رضاي، ولا رضا أمي في قبرها، صارت كلّ ما دقّ كوزها بجرتي، تدخل عليّ في غرفتي، تنفش شعرها مثل الغولة، وتركض دوز دُغري للبوليس، البوليس كان مرّات يصدقها، ومرّات يكذّبها، بسّ لما شاف إنها أكثرت من التردد عليه، ومفيش على جسمها ولا علامة تبـّين إني ضربتها زي ما ادعت، بطّل يردّ عليها. والله مصيبة. بعدين اكتشفت أمك طريق المحكمة، في المحكمة قلت قدام الحاكم أنا ببعد نفسي عن البيت، ابتسمت أمك، وراحت تعلك لبان وتقول أنا بديش أعيش مع هذا الراجل، ساعتها رفعت الراية البيضا ولم يعد أمامي مفرّ من المضي بعيدًا بعيدًا.

هون بيتنا؟ بتقول هون بيتنا؟ في الحي الغربي، أدخل، إحنا في الطابق الثالث، أمك تغربنت يا ولدي، والله تغربنت، يعني صارت غربيّة، بَعـّدت عن شرقيتنا، باعت البيت اللي دفعت فيه دم قلبي وسهر ليالي، باعته عشان تشتري هذا البيت في الطابق الثالث؟ وين رُحت يا ولدي؟ وين وقفّتني في هاي المتاهة، ورحت. بتفكر إني بقدر أتسلق كل هذا الدرج الأحمر المتداخل. انت بتقدر تتسلّق هذا الدرج، أنا بعرف هذا وأختك، هيفاء وهبي وهديك هندية الوجه، كمان بتقدر إنها تتسلّق هذا الدرج، بتفكر إني أنا بقدر؟ أحاول؟ طيّب بحاول وشو عليّ، يللا يا هو.. يا معين. ولك يا ولدي الدرج بهتزّ من تحت رجلي، معقول أنا صرت ختيار إلى هذا الحدّ؟ معقول إنها إجري هي اللي بتهتز؟ مش الدرج يعني؟ طمّنتني، الله يطمّن بالك، يعني أنا بقدر أواصل تسلُّق درج إمك. يللا يللا، عليه الاتكال، أخ.. زلت قدمي عن الدرج، إلقاني يا زلمة ولك انت مش ابني؟ والله إني لما كنت أشوفك تقع على الأرض كان قلبي يسقط بين اجري، ومكنش يعود لمحله إلا بعد ما أطمن على إنها الوقعة سليمة، أما أنت مش مستعد إنك تبقى معي تني أصل إلى الطابق الثالث، طابق امك؟ يللا هه، أنا اتعلقت بأيد الدرج، تعلقت فيها، ونفذت بجلدي، إذا كان الموضوع إني أنفذ بجلدي إنت بتعرفش بعدك إرادة أبوك وقوته. يللا هه، هياني استعدت توازني، وهاي أنا بحط اجري على الدرجة من جديد، وهاي أنا بطلع بطلع.. بطلع. بس لوينته بدي أطلع؟ شو يعني هذا الدرج بنتهيش؟ والا أمك عرفت إنه البعبع رجع، فاستنجدت بالغرب وقوانينه كي تعيده إلى حيث أتي؟ لا.. لا ..يا ولدي، عندي إحساس إنها أمك تغيرت، الحجر هو اللي بتغيرش، أما أمك هي كومة من المشاعر ..أنا بعرفها، ومين مثلي بعرفها. امك مهجّرة زي حالاتنا. ضحك عليها الغرب بقوانينه، اللي اتبعها اليهود، بس أنا واثق من إنها ريحة أراضي قريتنا سيرين رايحة تردّها لأصالتها، للوفها، فُقعها وعكوبها. أنا واثق يا ولدي. عشان هيك أنا مـُصـّر على العودة إليها والى البيت. أنا واثق من إنها الحياة أقوي من الموت، انت بتعرف إني أنا عرفت هدول الاثنين، واني غلبـّت في النهاية الحياة لأنها أقوى. أخ إجري زلّت مرة أخرى عن الدرجة الحمرا. ولك يا زلمة خذ بيدي، وين رحت. اخخخخ، هاي أنا قدرت إني استعيد توازني، هاي أنا عدت شيخ الشباب. إطلـّع؟ أنا لازم أظل طالع لفوق تني أصل لامك ست الجمال والدلال؟ طيّب يا أخي، اللي يحب الجمال يسمح بروحه وماله. زي ما قال عبد الوهاب، وشو بتفكر إنه عبد الوهاب أشجع من أبوك؟ لا يا ولدي أبوك زلمة قوي، كانت دايمًا أحلامه كبيرة، أبوك لما بقرِّر إنه يصل، بوصل مهما طال الطريق، بعدين تنساش إنه أبوك سار في أصعب طريق في العالم، طريق حكاية القصص، وأبوك قدر انه يخلـّي الأموات قبل الأحياء يهزّو روسهم إعجابا بقصصه. أبوك قدها وقدود، وبقدر يصل.

أطلع كمان درجة؟ كمان درجه وبصل؟ فعلًا أنا وصلت، أنا وصلت لشباك المطبخ، الشباك مفتوح، أنا بقدر أدخل منه، أدخل، آه بدي أدخل، مَنا جاي لهذا الهدف، مين هاي؟ هاي أمك؟ معقول بعدها واقفة في المطبخ من يوم ما تركتها قبل سنوات يخرب شرها بعدها زي ما هي، رابطة منديلها على جبينها ” أبو عقيلة” يعني زي العقال، وماسكة السكين وبتقطع. يخرب شرك يا مَرة شو قطعت بحياتك، اسأليني أنا، أنا أكثر واحد في العالم عانى من تقطيعك. أمك مش شايفيتني بعدها مشغولة بالتقطيع، أخ أخ. زلّت إجري مرة تانية عن الدرجة أنا إسه معلّق بالهوا، الوقعة من الطابق الثالث في بيت في الحي الغربي ممكن إنها ترجعني إلى فضائي السابق، أمك تسمع صوتي، أشعر في عينيها كلامًا، هي لا تريد أن تراني، لا الغربة ولا البعد ولا حتى الموت، مكـّنها من إنها تغفر لي، ولك شو عملتلك يا بنت الحلال إحنا العرب بنستقبل عدونا وقاتل ابنا لما يفوت على بيتنا، إنت مش عربية؟ بدكيش تشوفيني؟ طيب يا ست الحسن والدلال هذا من حقك زي ما قالت القاضية اليهودية، أنا بعرف انه مَحدا بقدر يجبر حدا انه يعيش معه. بعرف هذا كله. بس أنا كنت بفكر انه البُعد عِمل عمله وانك تغيرت. بعرف بعرف انه من الصعب على الإنسان انه يتغير. طيب يا عمي أنا تغيرت، انت بتفكري إني أنا بعدت عنك قبل المميعة، لأني كنت حابب إني أبعد؟ ولأنها كانت في امرأة أخرى في حياتي؟ ولك لا مكنش الأمر هيك، إنت بتعرفي إني ابن مهجرين، حاولت كلّ الوقت إني اخلّي هيفاء وهبي ترقص في بيتنا، وهديك الهندية تغنيلك أغاني هندية حبيتيها وإنت تحضري الأفلام الحزينة المليانة بقصص الحب، تعبت وشقيت. يمكن أنا غلطت في إني وثقت بأنك إنت قوية وبتختلفيش عني، يمكن أنا بالغت بإحساسي انك قوية وقلت لنفسي انك زيي، يمكن أنا غلطت. بس أنا دفعت الثمن لليهود وللغرب اللي أجو منه. شو بدك اعمل أكثر؟ أنا اسه راجع زيارة، زيارة قصيرة، بعدها رايح ارجع إلى فضائي اللامتناهي هناك، فضاء الموتى والحكايات. بدكيش أفوت على البيت؟ معقول هيك بتستقبليني، بعدك بتفكري إنها كانت في مرة تانية في حياتي؟ ولك مفيش لا مرة ولا بلّوط، اللي فكرتيها مرة، كانت الحلم في إني اريحك وأريح أولادك، كانت الركض في صحاري الحكايات عشان امسك حكاية ترفعنا كلنا لفوق، المرة اللي فكرت في إني على علاقة معها كانت الكاتب في داخلي الكاتب إلي امتلأ راسه بالحكايات فاراد أن يبهر فيها الجميع. أنا كنت اركض وراء حكاية شارة مش ورا امرأة أخرى. يمكن كانت المرة الوحيدة المتربعة على سدة الحكاية الشاردة هي انت يا مجنونه. مش مصدّقة؟ بتلوّحي بالسكين في وجهي، بدكيش تستقبليني بعد كل هاي السنين؟ بدك تخليني أقع هاي المرّة من شرفة المطبخ؟ بدك أعود إلى عالمي الآخر؟ إلى هذا الحد وصل حقدك عليّ؟ طيّب طيّب. اليهود علّموك انه من حقك انك تحقدي على الرجل اللي كان زوجك وأبو أولادك، قالولك انه هذا من حقك. أي ي ي أنا بدي اسقط من الطابق الثالث، أنا بدي أسقط، انت قرّرت انك متوخذيش بأيدي عشان ارجع من حيث أتيت؟ هذا هو قرارك الأخير؟ أنا عارف إني رايح أسقط، عارف، عارف إني مش رايح اشوف لا بنتي شبيهة هيفاء وهبي ولا هديك أم الوجه الأسمر الهندي، مش رايح اشوف حدا. حتى ابني الشاب اللي أرشدني لطريق البيت الجديد في الحي الغربي وأدراجه الحمر، مش رايح اشوف حدا.. وين أنت يا ولدي؟

***

قصة: ناجي ظاهر

قال انها اصيبت بالجنون بعد ان انفصل عنها زوجها الذي ظن انه تورط بزوجة بليدة لا تناسبه. خلعها من حياته كمن يخلع ثوبا قديما وهرب الى جهة مجهولة، اصبحت حياتها أكثر بؤسا وازدادت عزلتها عن الآخرين . يمكن وصفها بأنها كانت ذات بشرة سمراء وجسد نحيل، وعينان غائرتان في محجريهما، تراقبان بهلع كل من يحاول ان يقترب ويخترق جدار وحدتها، أو يفكر بالاقتراب من المنزل الذي تركه لهم والدها، والذي كان يمثل لها الامان والاذن، التي تسمع أنينها الطفولي القابع داخلها وحاجتها الى العطف الابوي . تجمع اخوتها من حولها كالضباع طالبين منها اخلاء المنزل لغرض بيعه وتقاسم الإرث فيما بينهم .

لم تكن تتخيل أنها ستغادره يوما وتفتقد الامان الذي تشعر فيه . اصبحت تهاجم اخوتها حين يقتربون من المنزل كقطة شرسة ويرتفع صوتها بالصراخ والشتيمة بوجههم،هذا كل وما تعول عليه من خلق فضحية تبين فيها قدرتها . وما ان يبتعدوا حتى تطلق ضحكة كبيرة ثم يعود لوجهها الوجوم. 

ساعات النهار كانت تمر عليها طويلة، تقضيها جالسة قرب دكان والدها الكائن في احد الاسواق الشعبية، والذي استعادة صاحبه بعد ان توقفوا عن تسديد بدل الإيجار. تجلس هناك حتى وقت الظهيرة ثم ترجع بعد ان ينتصف النهار ويخلوا السوق من الناس وتوصد الدكاكين ابوابها، فتعود بخطى ثقيلة حاملة ما تجود به النسوة عليها من طعام وملابس قديمة، وبعض المساعدات المادية البسيطة . ترسم خطواتها بذيل جلبابها الأسود، الذي اهترئ وغيرت لونه الاتربة العالقة به الى اللون الرمادي . اصبحت ترى الجميع بعين واحدة هي عين الخوف والحذر، والدفاع عن النفس بالفطرة التي استمدتها من عدم الثقة بالأخرين . لذلك كانت تشعر بان العيون لا تكف عن مراقبتها وكثيرا ما كانت تبكي، وحدها خصوصا بعد اصرار اخوتها اخراجها من المنزل .

بعد مرور وقت ليس بطويل، تغيرت ملامحها مع تورم ملحوظ في عينيها وتدهور كبيرا في صحتها، حتى انها في احد الايام قد اغمي عليها فجأة، بعد أن نهضت من مكانها المعتاد في السوق، هرعت اليها بعض النسوة وقمن بنقلها الى المستشفى حيث أجريت لها الإسعافات اللازمة والتحاليل للتأكد من وضعها الصحي، حيث تبين بانها على وشك الاصابة بعجز كلوي، لان كليتيها لا تعملان بشكل جيد وكان هذا بسبب الاهمال وسوء التغذية، وشربها للمياه الغير معقمة كما قال الطبيب . بعد شيوع هذه الحادثة، تركها اخوتها فريسة للمرض الذي كان سيفتك بها حتما، ويخط ملامح نهايتها دون تدخل منهم .

مرت عدة شهور وعزلتها تزداد يوما بعد يوم . كل شئ بدء يتهاوى من حولها، حتى المنزل الذي تسكنه اصبح مهملا، وعلت فيه خشخشة اصوات اوراق الاشجار المتساقطة منه ويعبث فيها الهواء، نمت فيها ايضا الحشائش بشكل كبير وتباينت اطولها، حتى حجبت ضوء الشمس الداخل شبابيك منزلها وخنقت الضوء الخارج منها ليلا . اصبحت لا تخرج الى السوق الا قليلا، بعد ان انهكها المرض واستسلمت له سريعا والذي كان واضحا بشكل كبير، من طريقة مشيها وقوامها الذي بدأ يأخذ شكلا منحنيا كجسد سيدة عجوز، غيابها أصبح ملحوظا بعد ان تناقلت النساء اللواتي كن يبعثن اولادهم يتلصصون عليها ورؤوسهم الصغيرة تظهر وتختفي، وأنها متزوجة لان الاولاد اقسموا انهم رأوها تضع مساحيق التجميل ليلا، وتتحدث مع القطط بل وتأكل الطعام معهم . ضهورها بدء يتلاشى شيئا فشيئا حتى صدئت باب المنزل ولم يرها احدا مفتوحة لأي سبب كان. بدأ الجميع يتساءل عنها، فهي لم تخرج من منزلها ولا اثر لوجودها او لرائحة جثتها المتفسخة ان كانت قد فارقت الحياة . ولم يجدو الاجابة عن اسئلتهم الكثيرة، والتي ضاعف منها عدم حضور اخوتها للمنزل مرة اخرى....

***

نضال البدري

بغداد / العراق

حينما تستيقظُ المدنُ

على صباحاتٍ تتطايرُ في فضاءاتِها

رشقاتُ الرصاصِ والقنابرُ المنفلقة ُ

فوقَ رؤوسِ الأطفالِ

وتختفي أسرابُ العصافيرِ

ورفوفُ اليماماتِ ...

حينما تهرعُ الأمهاتُ

إلى تمزيقِ قمصانِ اللهفة ِ

ليضمّدنَ ما تركتهُ الشظايا في جسدِ النهارِ

حينما تكسرُ حرابُ الوحشةِ

غصونَ الأشجارِ، تتساقطُ أعشاشُها

تدوسُها سرفاتُ الدباباتِ

في شوارعَ أثقلتْ وجهَها غضونُ

الأسئلة ِ...

حينما تتطايرُ رؤوسُ المنائرِ

تتناثرُ زرقةُ دمِها

وينقطعُ صوتُ الله فيها

تصمتُ أجراسُ الكنائس ِ

يتهشمُ الخزف ُ على موائدِ المرتجفين

ويعلو الخوارُ

تنتشرُ الحرائقُ تأخذُ ألسنتُها

شكلَ وجوهِ المهرجين

حينَ يحدثُ كلُ ذلكَ ...

فاعلمْ أنَّ جنرالين يمارسان

هوايتَهما المفضلة....!!!

***

د. سعد ياسين يوسف

أريني مرّةً حُبّاً أريني

وإيّاكِ إلى المنفى خذيني

*

فنفسي طفلةٌ تبكي، وتبقى

طوالَ اللّيل .. عودي و ارضعيني

*

فمن ثدييكِ قد درّتْ قصيداً

شفاهي .. أمطرتْ دمعاً جفوني

*

أراقتْ زيتها فيكِ .. وأنتِ

فوانيسَ التَّلهُّفِ تشعليني

*

أريقي في الجوى ماءً زلالاً

على فرط التحرّق واطفئيني

*

ففي الأنياط تاريخٌ لجمرٍ

توقّدَ ذاكياً في كلِّ حينِ

*

وفي الأنفاس منفاخٌ لكيرٍ

تنهّدَ كالمراجل بالأنينِ

*

ولكنْ كان في المنفى فراقٌ

تحنّطَ في المقابرِ كالدَّفينِ

*

وذا؛ ما زلتُ.. لم أفقد - لعَمري-

بما في العمر من شوق السِّنينِ

*

فيا بلهاءَ دنياكِ تقصّي

مآلَ الوعي لا تيهَ الجنونِ

*

و عودي اليومَ للمرسى سفيناً

يملُّ البحرَ في أقصى الحنينِ

***

رعد الدخيلي - العراق

يا (...) أنت ِعِلِّتي ودوائي

شهِدَتْ بِحُبُّك ِأنجُمي وسمائي

*

سِفْرالهوى لولاهُ ماكانت لك ِ

مصفوفةً بمراتب ٍ علياء ِ

*

عيناك ِلورَأَت ِالمها دنياهما

لتَسَمَّرَتْ فوق الذهول ِالرائي

*

شفتاك ِلوتدرينَ ما أحلاهما

خمر النعيم.. وجنَّة الإرواء ِ

*

تتوزَّع ُالأعضاء ُفيك ِتناسُقاً

ممشوقةً..هيفاء ذات لواء ِ

*

يشتاقُك ِغزل ٌفيسلُبُ حُسنك ِ

ألباب مَنْ جاؤك ِ مِنْ شُعراء ِ

*

نظْمي ولحني أنت ِيامعزوفتي

وبغيرلحنك ِأحرُفي كعَزَاء ِ

*

رقصتْ لك ِالدنيابرَحْب ِو ِصَالها

وتَفَرَّدَتْ  بحضارة ٍ وبناء ِ

*

عَمَّدْتُ أوراقي برُخصة ِحُبُّك ِ

وببرق ِوجهك ِقدعبَرْتُ فضائي

*

ماالفن إلا أنت ِيانَبْع الهوى

وأنا بفنك ِخاطف الأضواء ِ!

***

محمد ثابت السُميعي

حدَّثتني عرَّافةُ الأوكسجين

أنَّ الماءَ سيعطشُ..

وأنَّ الهواءَ..

سيتجمَّدُ عند ثورةِ الحَنين

أهوَ قدرٌ يجتاحُ غُربَتنا

أم سفرٌ مقدَّسٌ يتلألأُ على الجبين؟

أنفاسُ النَّدى لا ترحَل

تشهقُ معمَّدةً بالياسَمين.

يتسلَّلُ الغدُ مِن مرآتي

يُسامِرُني

يتركُ وشاحَهُ الأبيضَ بين أناملي

يُقسمُ أنَّه تَحوَّل

إلى شُعاعٍ لا مَرْئيٍّ لأجلي

وأنَّه زرع بين أفكاري أنوارَ البساتين

*

تِيهِي في صفاءِ الأيكِ يا مرآتِي

أَطفئي اللَّيلَ وزغردي لإيحَاءِ اليَقين

*

يلامسُ الصَّبا شَفتَي النَّبعة

قطرةً قطرةً

ينصهران في رقصةِ التانغو..

يبدأ التاريخُ من شَفتيهِما..

الشَّوقُ يتحولَّ إلى يمامةٍ..

تذوبُ النَّظراتُ بين تَموُّجاتِ الماء

يَرقُّ النَّسيم

أهُوَ ظلالهما

***

سلوى فرح - كندا

كثيرا ما ينعطف الوقت متبرجا بترهات ملصقات مرشحين على جدران وأعمدة منسية، منتهكة صمتها عنوة للواقع المزري.. تزين ملصقاتهم اعمدة ميتة، لم تستطيع ان ترفض او تركل منافقين الظلام الدامس، يسير وقد دس أنامله في بطن جيوبه الممزقة.. لا لشيء فقط كي بخفيها عن عيون مروجي إعلان انتخبوا من يمثلكم.. علامات استفهام كبيرة وكثيرة؟ تخرج في تظاهرة عارية من الملابس الداخلية همها كشف عورة السابقين ممن ترشحوا في وضح النهار.. كلما استدار مبتعدا يجد أمامه صور نافقة الضمير.. يلبس أحجية الخروج من المتاهة بعناوين اريد وطن، يمسك بزمام لسانه حتى لا يخرج بمفردات تودي به الى السجن، فبالكاد خرج من تلك المرة التي انتقد فيها حمار البرلماني الذي قال عنه إنه لا هم له سوى البحث في مكابات نفايات مثل صاحبه الذي جاء عليه راجلا الى جواره.. لم يكمل جملته بعد ان غاب عن الوعي.. هناك في تلك الزنزانة كان أنامله تخربش على جسد الجدران.. في محاولة القيام بالإعتراض على أساليب تعذيب همجية، لم يعول ان يجد من يقرأ او يجيب على اسئلته، لأنه يعرف الجواب مسبفا، انتعل رأسك وليكن دون شسعه، او أرتضي لنفسك خُفي حُنَين.

أظنني غيبت عن العالم الخارجي سنين جرداء كنت ألقم البعر حبات تمر، واشرب بول الحمير شاي اخضرمرة وقهوة عربية مرة أخرى أنها من واجبات كرم الضيافة.. واحتفالا بقرب خروجي من متنزه المعتقل، كنت قبلها قد اخذت دروس تأديبية في كيفية الحفاظ على قيمة المفردة، ألزموني الحجة ان احافظ على أناملي اكثر من حياتي فموعد الانتخابات قد قرب ولابد لي أن أغمس أصبعي في است العلبة ذات اللون البنفسجي بعدها اخرجه مزهوا بأني قد شاركت فرحة بعص الديمقراطية..

لكني برغم كل تلك التدخلات والتهديدات رمت نفسي عاشق لمقولة أنا حر، سرت تلك الكلمات ومن خلال الوشاة وديوثي السلطة كالنار في الهشيم، سارعت مبتعدا الى حيث لا اذن تسمع ولا عين ترى، واكبت الحدث الإعلام يغرد كما الغربان التي تتصهلل.. البشر فيهم من جهر بالموافقة والقول، ومنهم من ألزم نفسه الخرس، أما أناملي فقد كانت تركض حيث كابينة الإقتراع، تسوقني دون أن أرغب.. امسك بتلابيب الورقة، خطفت القلم من فم جيب صاحبه المريض نفسيا، كتبت على الورقة أنت لا تصلح لأن تكون ممثلا إلا في حظيرة الحيوانات.. أما حظيرة البشر اجدك منافقا..

لم أشهد أناملي التي تسابق يدي كي تمسك بالقلم وهناك ملقن لا زال يقول خلف كابينات كارتونية أكتب.. فترد أناملي ما انا بكاتب.. بقدرة قادر تجولت الى مناهض لسلطة الدولة فأدارت مفاتيح زنازين الى الكعبة مصنوعة في الولايات المتحدة الامريكية لتشهد أنها حاولت لملمة شمل العراق من جهة وصون عش الدبابير التركي.. في النهاية وجدتني في منتصف الطريق وامامي تلك الملصقات والصور التي احرقت ليتدفئ عليها أنامل من غمروا اصابعهم في أفواه دون أرانب.. أما البقية فقد كانت تبحث عن مكان لأثر السجود في زمن التدين سلطة المارقين.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

المُعذّبون

أظلُّ أتأمّله بعين حاسدة وأقول:

"ليتني كنت كهذا الهرّ أتسلّق الجدار مثلما يفعل، وأصيب من الأنثى ما يصيب.. ليتني مثله أصطاد أيّ شيء ثمّ أنام قرير العين في أيّ مكان.."

تتعالى طرقات على الباب.. من المؤكّد أنّ أحد الجيران يأتيني بصدقة.. أهمّ بالنّهوض فأشعر كما لو أنّ جبلا يجثم فوقي.. نسيت أنّ ساقيّ ذهب بهما منشار الطّبيب..

**

الطّرف الآخر

"لستُ ذاهبةً إلى الجحيم ولكنّي خارجة منه"!

ما زلت أعي نفسي رغم إنّني قطّعتُ شراييني.. أنظر فأرى شلّالات من نور تتدفّق من لا مكان وأسمع أصواتا لا أدري من أين تأتيني:

"ها قد رُفع عنكِ الغطاء!"

وتدكّني الخيبة أكثر وألحان عجيبة تهزّني هزًّا وتسري في روحي كما يسري الماء في الغصن الرّطيب..

"إنّه التّسبيح..!"

**

ما لا يُنسى

في ذلك الصّباح البعيد استيقظت على زغاريد النّسوة ورائحة البخور والجير.. وأحسست بالجميع يشملونني بنظرة اهتمام مبالغٍ فيها..

ألبسوني جبّة جديدة وملؤوا حِجري بالحلوى والفُلوس. ومع ذلك توجّست شرّا لاسيما وقد حُمِلت على الأعناق حيث يجلس ذلك البدين الغريب.. وحتّى قبل أن يشدّوا وثاقي ويجلسوني قسرا على قصعة العود في صحن الغرفة المترب، كانت صرخاتي الملتاعة تخترق صوت الدّفّ والمزمار..

**

طواحين الهواء

امرأة ثقيلة الزّينة مكشوفة الحدائق والثّمار في يدها سوط، من حولها أصحاب الفخامة ذوي ربطات العنق والوجوه الطّافحة بالنّعمة يسبّحون بحمدها ويقدّسون.. أسفل منها رجل رثّ الهيئة، خانع في ركوع. تلهب ظهره جَلدا فيصرخ ملء الأرض والسّماء. لكنّ صراخه يذوب في عاصفة من الهتاف والتّصفيق:

"كلّنا عاهرات حتّى يسقط مجتمع الذّكورة !"

***

حسن سالمي

عندما أحدّقُ

في مدى آفاق عينك ..

أحلّقُ في فضاءاتٍ ..

من الياقوت..!

إلى حدود انكسار الأبعاد

يحملني لكواكب نائية

لا تدركها الشمس ..

وأرضع من أثداء الغيم

نبيذ العشق

المعتق بماء الهذيان .

فأغرق

في أعماق الضياع .

تترنح سفني

على أمواج الوله الهائج .

تتراقص هائمة

على أنغام النوارس المتعبة .

هاربة من ضجيج الليل

إلى عتمة السكون .

تتمزق أشرعتي

من خلجات القلق .

وأبحر عكس الريح

إلى مدن النسيان .

تلاحقني أشباح الماضي

بسيوف الغدر .

وشبق الانتقام .

فتحاصرني في تابوت مغلق .

ليس له مفتاح ..!

تتفجر أوردتي

بعبوات الخذلان .

تتطاير ..

شظايا الحنين

لتصيب خلايا الوجد

في أشلاء الروح

فتنزف ألما

لا ينضب

لا يتوقف

نجعٌ يتدفقُ مندفعاً كالإعصار

يمتطي جواداً . من قصب

يهفو للقاء عفوي .

خلف الشرفات الوردية

في مساءٍ مختلفٍ

لا تغرب عنه الشمس

ولا يعرفه

إلّا من مارس

طقوس الدهشة

في كهفٍ مهجور

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

للسنين أخاديدها في وجهي

وللخسارات احتمالاتها الأكيدة

ليس في يديَّ الكثير

محملٌ بعاطفتي

واستفاقة الزهور في أول الضوء..

أول المجيء

قلبي، أيها النذرُ المتاح

كل عثرة أعرفك أكثر

أيها الراكض كمهر سعيد

***

فارس مطر/ برلين

وصلتُ إلى تلك الشُّرفة الواسعة مع وصول خيوط الشمس الذهبية إليها. سطع النور بداخلها، وانعكس على قطعة أثاث موجودة مُشَكِّلًا قطعًا ذهبيَّةً باهرة الشكل واللون، تشبه ذلك الأثاث الذهبيِّ من عصر بابل والرّومان. كان صباحًا جميلًا يُغلّفه الهدوء، والمكان قديم كما المبنى التراثي المليء بالنقوش والزخارف، تستطيع أن تُقَلِّب نظرك بين نقوش بارزة وأخرى غائرة، تراقص خيوط الضوء متمايلةً في دلال فريد!

تفوح رائحة التراث من كلّ شيء في هذا المكان، الكراسي مصنوعة من سعف النخيل، والستائر حريريّة كلون السماء. يمكنك أن ترى الباحة الواسعة أسفل الشرفة، تزيِّنها النوافير الممتلئة في كلّ جانب، يرتفع منها الماء قليلًا بتدرّج، محدثًا صوت خرير يصل إلى مسمعك في الشُّرفة. تجذب أعينك تلك الشرفات البعيدة أمامك في الاتجاهات الأربعة، كأنّها أحواض زرع من كثرة ما تدلَّى منها من نباتات خضراء باهتة. شعرت أنني مدعوٌّ إلى هذا المكان، وأنني قدمت من مسافة بعيدة لهذا الغرض، ربما هي دعوة من فنان تراجيدي مشهور.

اعتقدت أنّ هناك خطأً ما؛ قبل الاستدارة إلى الداخل، بدأ الماء يرتفع تدريجياً من جميع النوافير في رقصة سريالية جميلة بألوان مختلفة، كأنّها تُرحِّب بشخص قادم. سمعت شخصًا ما يقول: إحم. إحم. استدرتُ، نظرتُ إليها في مفاجأة القدر!

كانت الابتسامة تشقُّ ثغرها الصغير الوردي اللون في رقة وعذوبة، الهدوء ما زال طاغيًا، عينها القرمزية الناعسة بدأت تأخذ ألوانًا مختلفة، تجعل الناظرَ يسترخي إليها في لحظة صفاء وجمال لا نهائي، أنف صغير بين وجنتَيْن بارزتَيْن، شعر حريري تسلَّل على كامل جسدها، ولون الحرير الملتصق الذي ترتديه، يشفُّ تفاصيل جسمها الفوَّاح برائحة العطر الورديِّ، الذي لا يتسلَّل إلى أنفي فقط، بل إلى إحساسي.

أهلًا بكَ.

شعرت لوهلةٍ أنني أعرفها منذ زمن طويل! ظلَّت محافظةً على تلك الابتسامة الساحرة، كانت واقفةً خلفي بين الجالسين، على حافة الشُّرفة يوجد رجلٌ آخر طغت عليه علامات الوسامة، وزيَّنت مُحيَّاه ابتسامة، ولكنّه ظلَّ ينظر إليَّ دون أن يحدِّثني، لاحظت وجود كاميرا بيديه حين بدأ يلتقط لي بعض الصور وهي تقف خلفي، ارتأت أن تحتويني بيديها من الخلف أثناء التصوير، وهي أكثر دفئًا وابتسامًا.

كلّ شيءٍ يحدث بسرعة، لا أعلم لماذا أنا هنا! لا أعلم لماذا احتضنتني أثناء التصوير! شعرت أنني في عالم غير عالمي الواقعيِّ، كلّ دقيقة كانت تسعدني أكثر مما قبلها، سمعتها أخيرًا تتحدّث مع ذلك الرضيع ذي الأشهر الأولى الذي وجدتُه فجأة بين يديها، تتحدث معه بكلمات حنونة تنظر إليَّ. انظر إليه، أليس جميلًا.

انتهى المشهد حين قالت للرجل الوسيم: لنبدأ الآن تصوير قصة الحب التي عشتها مؤخرًا.

لا أعلم كيف علمت بها، ولا أعلم من أنا، ولماذا أنا هنا؟ 

استيقظت من نومي، قلت: إنه حلمٌ. حاولتُ مرّة أخرى الاستغراق في الحلم، لكن المشهد بدا مختلفًا.

بدأ ذلك الرجل بتثبيت الكاميرا من زاوية الرؤية بالصوت والصورة، نظرت لي قبل البدء وهي تبتسم وتنظر لي بشغف العاشق الذي عاد إلى حضنها، قال لي: سوف نبدأ، بدأت تتحدث في سؤالها وأنا أرى الوميض الأحمر من تلك الكاميرا، اعتدلت الجلوس ونحن ننظر إلى بعضنا، بعد الترحيب وضيافة المكان، شعرت بأنّ هناك موسيقى خافتة تبثّ رحيقها من الغرفة المجاورة، كانت القوى التي أضافت تحت السماء تنسكب رحيقًا. 

- سيّدي، ما نظرتك للحياة؟

- تقصدين الآن أو قبل ثلاثين سنة؟ طبعًا الفكرة مختلفة، عندما يتقدّم الإنسان تزداد خبراته، يتفاعل مع الحياة بشكل مختلف.

- سيّدي، السؤال التالي يحتاج إلى أن تنظر إلى الكاميرا مباشرة، أريدك أن تصف الفرق بين الماضي والحاضر من خلال رحلة الحياة التي عشتها بصورة شاعرية.

نظرت إليها كشاعر، واستدرت إلى الكاميرا، تأثير الموسيقى كان حاضرًا. استحضرت ذلك الخيال، كنت على صخرة فوق التلال أرى البحر من مسافة، كان هناك فضاء فسيح العمق، كان خيالي متزامنًا مع فؤادي، أنظر إلى الأشياء كأنّها تحدث، جاء المنادي يقول: إنها تنتظرك، أين هي؟

أذهب إلى تلك الشجرة القريبة من البحر، تقدمت الخطا، لم يكن البحر هادئًا، أمواج تتلاطم ولكن الشجرة حافظت على الهدوء أمام الرياح، أخذت جانبًا من ظلال أنظر من جميع الأنحاء ربما تكون في انتظاري، جلست كالقرفصاء أنظر إليه بحنان الوادي الأخضر، أنظر إلى البحر بين ظلّ الشجرة الثابت، وضعت رأسي بين أرجلي المقرفصة، أتابع خيالي لبضع دقائق، ربما أجد الفقد الذي أنتظره، بصورة مفاجئة وقفت الرياح متزامنةً مع تلك الأمواج التي كانت طاغية قبل لحظات.

رفعت رأسي وعيناي ترقصان شاخصتين ترنوان إلى آفاق بعيدة، رأيت قارباً صغيراً لونه أبيض يتهادى على صفحة الماء، بدأ يقترب من السّاحل، له سارية صغيرة عليها علمٌ واحد لونه أبيض، يشعرك بالسلام. توقفت المجاديف، وقفت على رجلي تقدمت الخطا بكلّ هدوء، الأبيض كان ثوبها الطويل والهواء البارد أزاح جزءاً من حنين، أشرت إليها بأنني ضائع في التيه، تقدّمت أكثر مما توقعت، وقعت على صدري تشتكي الريح الذي أفاق روحها، قالت: أين الشُّرفة؟

أمسكت يدها حين وجدنا أنفسنا على الشُّرفة بثياب جديدة، نرقص بين السّحر والواقع، أضاءت الأنوار الموسيقية والنوافير السّحرية، قفزنا عاليًا بقدوم الوالي الجديد للقصر، بدأ حفل الرقص وانتصر الحب.

***

فؤاد الجشي

كانت لدي منضدة صغيرة تفسخت قوائمها وأردت إصلاحها، وذات يوم وأنا في طريقي إلى البيت شاهدت إعلانا بالبوية على حائط بيت: " أبو السيد. نجار. منزل رقم كذا.. تليفون رقم..". قلت لنفسي: "ممتاز". اتجهت مباشرة إلي العنوان المذكور، وهناك رأيت امرأتين ممتلئتين جالستين تحت شرفة الطابق الأول تثرثران. واحدة تبيع فطيرا مشلتت والثانية لا تبيع فطيرا، مكتفية بالجلوس ووضع يدها على خدها. سألت عن أبو السيد النجار، فردت البائعة: وحضرتك مش عاوز فطير؟. قلت: لاء. شكرا. فانصرفتا إلي الثرثرة. قلت: النجار موجود؟. قالت: لاء.. اتصل به. قلت: والتليفون عنده شغال ؟ قالت: التلفون ايوه.. النجار هو اللي مش شغال. بعيد عنك جاله تعب في الركبة. أضافت الأخرى: لكن محمود النجار موجود. استفسرت: طيب فين محمود؟. قالت: ح تلاقيه قاعد بيلعب طاولة مع صبحي الكهربائي في المحل آخر الشارع.

اتجهت لمحل صبحي الكهربائي. محمود عندك؟. قال: أي محمود؟ أصل لامؤاخذة عندنا ثلاثة محمود؟. قلت: النجار. صاح: آه.. فهمت! شوفه جنب محل الكفتة عند ربيع الحلاق، كان بيعمل له رف خشب. ذهبت لعم ربيع، وما إن نطقت باسم محمود حتى ضحك الحلاق العجوز بسرور كأنه تذكر شيئا مفرحا وسريا في الوقت نفسه، وقال ببهجة: محمود؟!! الله يخرب عقلك يا حودة.. واد مسخرة. شوفه على قهوة السكرية جنبنا. وقهقه يحدث نفسه وهو يتكتك بالمقص فوق رأس الزبون: يخرب عقلك يا حودة ! سألت الجرسون في المقهى: محمود النجار هنا؟. جاي حالا. تشرب إيه حضرتك؟. قهوة مضبوط. جلست. بعد نصف ساعة ظهر رجل من سني تقريبا يسأل عن النجار. قلت له: تفضل. اجلس، وأوضحت له أن أبو السيد لا يعمل حاليا لأنه جاله تعب في الركبة، لكن محمود شغال. سألني: ومحمود ألقاه فين؟. قلت له: أنا قاعد أنتظره. كلمة مني وكلمة منه سألني: وحضرتك أصلا من فين؟ قلت: من طنطا!. صاح: الله من فين في طنطا؟. من شارع كذا. معقول! طيب الاسم إيه بالكامل؟ عرفته بنفسي، فصاح: يا نهار أبيض؟! من بيت الحاج عبد الجواد؟! ونهض وأخذني بالأحضان قائلا: ألا تعرفني؟ أنا ابن بنت عمة ابوك الكبيرة.. نفيسه.. الله يرحمها! وأقسم الرجل بكل المقدسات أن يصحبني معه إلي طنطا لنتغدى عند أخته سهام وبذلك نصل ما انقطع من صلة الرحم. حاولت أن أرفض فعاتبني: إزاي؟ دي سهام تزعل قوي. ركبنا سيارة من رمسيس وبعد ساعتين كنا نأكل ملوخية وأرانب عند سهام وزوجها يحرك طاقيته فوق رأسه من وقت لآخر مغمغما " أهلا وسهلا". وبدأ الأقارب يتوافدون بعيالهم ونسوانهم، وكل واحد منهم يحتضني ويقبلني ويهز يدي بحرارة حتى انخلعت ذراعي وحل الغروب وبدأت أشعر بالإرهاق فنهضت محتضنا مودعا فردا فردا مترحما على الحاجة نفيسه.

في طريقي إلى البيت صادفت ورقة بإعلان على حائط " الأسطى حسنين النجار". لمحني صبي أتطلع إلي الرقم فوثب ناحيتي: عاوز الأسطى حسنين؟ قلت له بحزم: لاء شكرا، مش عاوز. وقلت لنفسي: " تفسخت قوائم المنضدة ، هذه حال الدنيا. جميعنا إلى زوال"، وأسرعت نحو بيتي، والصبي يجري خلفي هاتفا: " أنادي لك حسانيين.. حسسانييييين.. حسسا ".

***

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

أ مِنْ وَجَعٍ إلى وَجَعٍ تَداهَتْ

وما هَجَعتْ ولا يَوْماً تَعافَتْ

*

كأنّ الأرضَ مِن وَقَدٍ تشظّتْ

ومِنْ غَضَبٍ على شعْبٍ أغارتْ

*

بليْلٍ جاءَ مَوْعوداً بشؤمٍ

وإمْعانٍ بعاديَةٍ تداعَتْ

*

نيامٌ دونَ إدراكٍ لمَوْتٍ

يُباغِتُهمْ كصاعِقةٍ أصابَتْ

*

أ يُعقلُ حادثٌ في جَوْفِ ليلٍ

يُحَطمُ أمّةً حَلمتْ فماتتْ

*

أديمُ الأرضِ يَمْضَغُنا كوحْشٍ

ويَسْحَقنا بأحْجارٍ تهاوَتْ

*

أ فينا مَوْطنُ الآهاتِ يُصلى

ونارُ وجودِنا لهباً تَعاطتْ

*

تُعلمُنا المَنايا بَعْضَ دَرْسٍ

ومِنْ غفلٍ نفوسٌ كمْ تَصابَتْ

*

هَجَعْنا أمْ ولجْنا دارَ بَيْنٍ

وما رَقدَتْ قلوبٌ واسْتراحَتْ

*

على أمَلٍ بهِ الإصْباحُ أدْرى

تَنامُ خلائقٌ شهَقتْ وغابَتْ

*

عَجائبُها أعانَتْ مُبْتلاها

ومِنْ عَجَبٍ على عَجَبٍ أناخَتْ

*

وفي لَحْظٍ مِنَ العُدوانِ ألقتْ

تَحامُلها على مِللٍ تَصادَتْ

*

أ ترْقبُنا الكواكبُ في عُلاها

وترْجُمنا كما رَغِبَتْ وشاءَتْ

*

عَليْنا مِنْ صَواعِقها هُجومٌ

يُزعْزعُ تربةً رَجَفتْ وكادَتْ

*

بَرايا ذاتُ أحْلامٍ بصُبْحٍ

تَردَّتْ في مَواضِعِها وخابَتْ

*

أسائلها وقلبي لا يَراها

أ هذا الكيدُ مِنْ نَفسٍ أساءَتْ

*

عَليمٌ فوقَ عَلاّمٍ كبيرٍ

أ يُعلمُنا بما جَلبَتْ وكادَتْ

*

أرانا نَحْوَ داهيةِ الخَطايا

تُسَيّرنا النوازعُ كيفَ رامَتْ

*

سَلوا بصَراً تَخطى قيدَ أدْري

وعانقَ عَرشَ أمٍّ إسْتدارَتْ

*

فهلْ بلغَ الخَليقُ تمامَ جَمْعٍ

وَهلْ جارَ الزمانُ فما اسْتفاقَتْ

*

تَدورُ بنا وما عَرَفتْ لماذا

وتَحْملنا مؤسّرَةً فجارَتْ

*

هيَ الأرْضُ التي منها أتَيْنا

تَخدّرُنا وتأكلنا فَدابَتْ

*

أ نعلمُ أمْ بنا غَفلٌ شديْدٌ

رغائبُنا تُعزّزهُ فكانَتْ

*

أ صارَ الليلُ عُدواناً عَليْنا

يُحَمّلنا عَقابيْلاً أبادَتْ

*

تُحاربُ خلقها أرْضٌ تردّتْ

بقاضيَةٍ بإرعابٍ فراعَتْ

*

كأمٍّ مِنْ كآبتِها تَشرَّتْ

تُقتل نَسْلها وبهمْ تَخابَتْ

*

ألا غَثيانُها أزْرى بحالٍ

فأطعَمَها بما حَمَلتْ وجادَتْ

*

سَمِعْتُ صُراخَها في بَحْرِ ليْلٍ

فأيْقظتِ الصخورَ وإسْتكانَتْ

*

لأحْياءٍ بلا نُذُرٍ أتتها

تُخمّدها بناياتٌ تَداعَتْ

*

وتَصْفعُها بهزّاتِ ارْتِدادٍ

وتَطْحَنُها إذا شنِئَتْ وغاضَتْ

*

سماءٌ دونها أرْضٌ حَميمٌ

بها نارٌ تؤجّجُها فهاجَتْ

*

كأنّ ربوعَها شُدّتْ بخَيْطٍ

تَواهى مِنْ عَواضِلها فغارَتْ

*

وإنّ الماءَ مِنْ نارٍ تأتّى

وإنّ لنارِها ماءٌ فراقَتْ

*

إذا المَوْتُ يَجْمَعُنا سنَحْيا

عَناصرَ رحْلةٍ فينا تفانَتْ

***

د. صادق السامرائي

18\2\2023

الى حدود اللحظة لا ادري اين وجدت سلمى بنتي ذات الشهر التاسع وهي تدب حبوا كالحلزون في البيت حبة لؤلؤ فبلعتها؛

عقدي الوحيد والذي جلبته أمي هدية لي من إحدى دول الخليج يستكين في حُقه المذهب سليما لم يفقد اية لؤلؤة من حباته، رغم عيون زوجي المصوبة نحوه، عنه يراودني بين وقت وآخر..

"عقدك كنز مدفون وترويج قيمته ثروة حياة"

زوجي الذي حوَّل ما حدث لفلذة كبده الى سخرية مني: "انفرطت الحبة من عقد عشيقة أتت معي الى البيت وبدل أن نقضي الوقت بين القبل والضم قتلنا لحظات الوصال في لملمة حبات عقدها"؛

وإمعانا في السخرية مني أضاف:

ـ" صغيرتنا مبروكة، ألم تسمعي بالدجاجة التي تلد ذهبا؟ تلك هي بنتنا وعليك ان تقلبي برازها يوميا "..

أدرت وجهي عنه وانا حانقة اردد:

ـ مهمة تنازلت لك عنها..

كلمات زوجي أكذب لو قلت أني لم اضعها في بؤرة أنتباهي واهتمامي، فأنا أدرك مرضه بوعي، كل أنثى تحرك عيون زوجي بالتفات،لها يمضغ عشقا، وخاتمي في أصبعه لا يضايقه بحرج ولعنة، بل لا يعده جناية مع امرأة غير زوجته، لكن أن يجرؤ ويسمح لأنثى غيري بدخول بيتي في غيابي فهذا ما قد استبعده بعد زلة سابقة لازال أثر أسوارها يمتد بيننا، لم أغفرها له الا بعد أن بكى وتوسل واقسم أنها غلطة ولن تتكرر، وبعد إلحاح من أبي الذي كان على سرير الموت..

لما حملت صغيرتي الى صديقنا الطبيب للمرة الثانية بعد مغص في بطنها لم يكن الطبيب أقل مني استغرابا حين استفسرني و بإلحاح هل وجدت العقد الذي بلعت منه سلمى حبة اللؤلؤ؟.. فأكدت له أني لا أملك غير عقد لؤلؤي واحد وهو سليم معافي لم ينفرط أو تتبدد منه أية لؤلؤة، أثارتني ضحكته فكانه يعلم شيئا عني يخفيه..

أمي تصر أن أنسى وكما تقول:

ـ الحمد لله أن الصغيرة لم تخنقها الحبة فتفقد روحها.. ـ

بدأت الأيام تطوي الحدث بنسيان وصغيرتي تنمو وتقف دون مساعدتي الى أن خطت أولى خطواتها..

كان لا يحلو لها غير غرفة نومي تظل تبكي الى ان افتح لها الباب فتدخلها، تصعد سرير نومي وتتمدد مكان ابيها أو تحمل معها إحدى لعبها فتتعمد تفكيكها فوق السرير..

خرجت ذات مساء مبكرة من عملي حتى أعد عشاء لضيوفي والذين لم يكونوا غير خالتي التي أتت من دار الغربة ومعها امي وخالي..سألت الخادمة عن سلمى فأومأت لي برأسها الى غرفة نومي.. بادرت اليها لأجد ما لم يخطر لي على بال..

استطاعت بنتي أن تسل خيطا من مضربة النوم فينفتق مقطع من راس المضربة لكن المفاجأة أن الفتق كان يطل منه عقد لؤلؤ، وسلمى تحاول جره اليها بإبهامها..

بكت سلمى حين أخرجت العقد واحتفظت به بعيدا عنها، خبطت السرير بقدميها وكأني قد حرمتها ما يستحوذ على عقلها ونفسها، عوضتها بأكثر من لعبة وحلوى ورغم ذلك ظلت غصاتها حارقة حتى بعد نومها..

التزمت الصمت في حضور ضيوفي فليس من طبعي أن أتسرع في أمر أو أتخذ قرارا في لحظة غضب،كما أني تحرجت من كلمات السخرية التي قد تتساقط من اللسان الطويل لزوجي يفتئت بها أمام ضيوفي، بل تعمدت أن أتناسى الأمر ولمدة أيام..

تخطت سلمى حالة تعلقها بغرفة نومي بعد أن أخفيت العقد بعيدا عنها، بل صار زوجي هو من يعوض بنته التي عزفت عن غرفة النوم مدعيا أنه يهيء لصفقة عمره ويحتاج لهدوء تام،وقد حاولت الدخول عليه مرة فوجدت الباب موصدا من الداخل، تراجعت ولم أعلق، فربما مشغول في حديث هاتفي مع أحد عملائه.. لكن لفت انتباهي أنه لم يعد هادئ الطبع كما ألفته،بل ارتفعت نسبة القلق لديه ولسانه صار يضرب بطوب وحجر بدل الذبح بسخرية متى وجد فرصة لقذفي بعيوب لا يولدها غيرعقله، ولاتراها غير عينيه..

ذات زوال كان زوجي مسافرا وكنت في غرفة نومي والعقد اللؤلؤي في يدي أعيد ترتيب فرضيات وجوده بين تلافيف مضربة نومي والتي لم يبترد لها أوار.. كيف اهتدت بنتي للعقد، ولماذا صار لايحلو لها تفكيك لعبتها وتعريتها الا فوق سرير نومي؟.. اقبلت علي الخادمة تخبرني ان سلمى قد تقيأت بعد الاكل، هاتفت الطبيب فطمأنني وقال:

"أمر لأراها بعد نصف ساعة وانا في طريق عودتي الى البيت "

في دردشة مع خادمتي أبلغتني أنه مذ تحرش بها زوجي وشكته الي وهو لا يكلمها بل كثيرا مايعاملها بنوع من الكراهية التي تتحملها لانها مثل أختي وأمي من ربتها مذ كان عمرها عشر سنوات، كما ذكرتني أن اليوم الذي بلعت فيه سلمى اللؤلؤة هو اليوم الذي أرسلتها لمساعدة أمي في بعض اشغال البيت وقد أدعى زوجي حينذاك ارهاقا وتعبا،فلزم البيت وخرجت أنا لعملي تاركة سلمى معه..

لا أدري كيف وضعت العقد في عنقي وانشغلت مع سلمى الى أن اقبل الطبيب الذي ما أن رآني حتى ظهرت عليه علامة استغراب رفع لها حاجبيه، بعد أن كشف عن سلمى طمأنني فحالها لا يدعو الى القلق.. قبل أنصرافه سألني عن زوجي فأخبرته أنه مسافر، لم يسألني أين؟ لكنه قال وبسمة استخفاء لم تغب عن وجهه:

هل تعلمين أن العقد الذي في عنقك لمها زوجتي؟

استغربت وأبهتتني المفاجأة وقبل أن أعلق على قوله قال:

ـ وهل تعلمين أننا افترقنا بطلاق من شهرين؟

كنت أعلم أنهما تزوجا عن حب ولحد الآن لم يحتفلا بعيد زواجهما الثاني..وأن عائشة زوجة الطبيب قد كلمتني من يومين وتدعوني لزيارتها في أقرب فرصة سانحة..

تذكرت انها قبل أن تعشق الطبيب كانت مرتبطة بعلاقة مع غيره.. فهل هرقت كرامتها بخيانة؟..فشخصية كالطبيب، شهرة،غنى، لطف،لايمكن لأنثى أن تتنازل عنه.!!..

وهو على باب البيت نظر الي مليا وقال:

ـ وأنت هل ستقبلين بضرة أم ستطلبين الطلاق؟

اهتز صدري وأدركت أن زوجي كان نارا تحت الرماد، فهل كنت واهمة حين ادعيت معرفته؟.. وحتى لو عرفته فهل كنت أستطيع أن أكون هو أفهمه كما يدبر مؤامراته؟

صفقته كما حاكها قد انكشفت أمامي، وسبب الصراع أني وعيت،أردت أن أشاركه الوجود ويريد أن يستمر في إلغاء وجودي،جعلت منه قوة تستهويني برفقة،ويأبى الا أن يبقيني مصباحا في قبضته تنتهي صلاحيتي بانتهاء بطارية خنوعي..

***

محمد الدرقاوي

 

قصص من ثلاث  كلمات

مركبة أو متوازية

***

ثلاثية مركبة:

1

خشي اللص النهار

والنهار يخشى العميان

2

الأشجار تتعرى للنهر

النهر يجري لايلتفت

3

معلم الدين عاقبني

ومعلم الحساب كافأني

4

تمّت السرقة ليلا

الليل لزم الصمت

5

الغجر صمتوا فجرا

الفجر تراقص وحده

6

داهم النورس الماء

الماء خان السمكة

7

نبحت الكلاب القمر

القمر احتمى بالغمام

8

اللبوة تخون الأسد

الأسد منهمك في الصيد

9

لبست قناع  ظبي

شكّت الضباء بي

وطاردتني كلاب

***

قصي الشيخ عسكر

...................

إشارة

أسلوب جديد في قصة اللمحة  أن تكون اللمحة الأولى  من ثلاث كلمات  واللمحة الثانية تبدأ من نهاية الأولى لكنها تكون مستقلة ويمكن قراءة الإثنتين بصفتهما مركبتين:

داهم النور الماء

الماء...

أو أن  لا تبدأ بكلمة تأتي في نهاية اللمحة الأولى مثل:

معلم الدين عاقبني

ومعلم الحساب كافأني

يمكن أن نفهمهما منفردتين أو مركبتين .

كذلك هناك ثلاث قصص لمحة كل سطر يفهم منفردا بصفته قصة لمحة أو مركبا مثل التجربة 9

عندي من الحزن ما يكفي لأجعله

بحراً من الدمع لم يغرق به قلمي

*

لأنَّ ماضيه أمواجٌ مؤجّلةٌ

وفي السواحلِ جفنٌ ذارفُ الألمِ

*

وبي من الدمع ما يكفي ألملمهُ

غيماً على الأفق مدرارا.. ولم أَغِمِ

*

أبكي أنا فيه.. لم أفتأ إذا فتئتْ

كل العيون.. وقد كلّتْ من السّأمِ

*

وكان عندي من الأحزان ؛ لو جُمِعَتْ

جمعَ الحصاة.. تفي طوداً من الورمِ

*

فأستشيط كما الزلزال في وجعي

ويستثار بيَ البركان بالحممِ

*

وأستهيج كما الطُّوفان.. لا سفنٌ

تقلُّ من شاء أن ينجو من العَرِمِ

*

وفيَّ ما كان في (أيوبَ) أجمعهُ

لم يبرأ السُّقْمُ.. منضافاً على سَقَمِ

*

وفيَّ أشياءُ لم تخطر على خَلَدٍ

و لن تجيء على بالٍ.. مُذِ القِدَمِ

*

وعندي آهاتُ (سيزيفٍ) تبارحني

عند الهجوع.. فلن أغفو ولم أنمِ

*

وعندي ما عند أمواتٍ بمقبرةٍ

ماتوا من الضَّيم.. ما ماتوا من الهَرَمِ

*

وعند أهلي كما عندي.. سوى وَلَدٍ

طافٍ على الجرف لم يسبح ولم يعُمِ

*

قد أغرقتهُ وشاياتٌ مقنّعةٌ

خلفَ الخماراتِ.. لم تظهر لمحتكمِ

*

وتحت ما كان؛ كحل الحق تطحنهُ

مطارقُ الظُّلم.. تودي الناس للعدمِ

*

وبين هذا وذاك الأمس حوقلةٌ

وبسملاتٌ وآياتٌ بلا حِكَمِ

*

إذ لا عقولَ تعي ما كان من حَدَثٍ

قد جلجلَ الكون ، لكن مرَّ في صممِ

*

أردى على الأرض تيجاناً وجعجعةً

من السلاطين في سِفْرٍ من الوَهَمِ

*

تدور في الأرض.. جاء القيظ ثانيةً

و عاد ما كان من حَرٍّ على سَأَمِ

*

ودارت الأرض.. جاء القرُّ ثانيةً

وعاد ما كان من بردٍ ومن شَبَمِ

*

ونحن عدنا.. كما كنا بعالمنا

ما بدّلَ ﷲ ما فينا من الألمِ !!

***

رعد الدخيلي

بِنُورِكَ يَا رَبِّ أَمْشِي بِدَرْبِي

شُجَاعًا جَرِيئًا عَلَى كُلِّ صَعْبِ

*

بِحُبِّكَ تَنْأَى جُيُوشُ الْهُمُومِ

تَقُولُ: انْتَصَرْتَ بِأَعْظَمِ حُبِّ

*

بِحُبِّكَ أُرْزَقُ في كُلِّ وَقْتٍ

تُبَارِكُ رِزْقِي بِنُورِ الْمُحِبِّ

*

بِحُبِّكَ تُنْتَزَعُ الصَّالِحَاتُ

وَتَجْلُو النَّوَائِبُ مِنْ فَضْلِ رَبِّي

*

بِحُبِّكَ فَتَّحَ وَرْدِي وَفُلِّي

يَطُولُ شَذَاهُ مَدَائِنَ خِصْبِ

*

بِعَوْنِكَ أَمْضِي لِحَقْلِي وَأَرْضِي

ويَضْحَكُ وَرْدِي أَمَامَ الْمَصَبِّ

*

بِفَضْلِكَ يَسْرِي الضِّيَاءُ لِقَلْبِي

وَيَمْضِي سَرِيعاً لِيَحْضُنَ عَتْبِي

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

تمضي بنا الأيامُ عجّلى

أعمارُنا غصنٌ تدلّى

*

نحصي السنينَ على السنينِ

وما تعدّتْ  دون نخْطَى

*

نشكو الزمانَ وأهلَهُ

يا ليت من نشكوه يُجْلَى

*

عمرٌ تقضّى بالرواحِ

وبالمجيءِ وبعدُ يتْلَى

*

فدعي  الهواجسَ جانبًا

لنطيرَ من ضفةٍ لأخرى

*

يا نفسُ صبرًا  لم تعدْ

تجديكِ بعد الحتمِ شكوى

*

تهوى إذا حضرَ الهوى

وتكفُّ إن شاءت وتنأى

*

لا تصمتي .. فترنّمي

لنجوزَ فاجعةً وبلوى

*

يا عاشقَ الدنيا التفتْ

ما كان حولَكَ دونَ جدْوَى

*

وجدي السنينُ وما انطوتْ

متعزّيا بالصبر سلوى

*

صبٌّ تجاوزتَ الصِّبا

غامرتْ حتّى كدتُ أشْقَى

*

وقرعتُ بابَك ذاهلًا

ظمأً إلى واديك أسعى

*

قلبي تشظّى في الهوى

منْ ذا (يلملمُ)  ما تشظّى

*

خسمونٌ مرتْ وانطوتْ

وأنا على أعقابِ أخرى

*

احببتُ من قبلُ   النسا

لكن حبك كان اسمى

*

ذهبت (ثناءُ) مع الصِّبا

وغدت مع الأيامِ ذكرى

*

و(سعادُ) ما برحتْ تُرا

فقني هوىً للقلبِ أغوى

*

أمَّا (نوالُ) فليتَها

عادتْ على أعقابِ نجوى

*

مرَّ الزمانُ مرورَ غيـ

مٍ عابرٍ ما بلَّ مُغمى

*

وغدوتُ وحدي هازجًا:

صارتْ حياتي دونَ مغْزَى

***

د. جاسم الخالدي

أَدخلُ من شُرْفة الكلمات

إلى إبرةٍ في أصابِع أُمِّي

تَخِيطُ الوطنَ المُجَعَّدَ

في ثوبها المنزليّ..

الوطنُ الذي يتفتَّحُ حَبَقَاً

كلَّما فتحتْ يديها على نافذة

على طَرَف الكُمِّ فوضى،

مِئْذَنةٌ تتوَضَّأُ بالرِّيح..

نِداءُ المُؤذِّن نسوةٌ

يَفْلِتْنَ من أدْغال صِبَاه

أساورُهنَّ.. في يدِ الضَّوء الأخير.

حطَّتْ العتمةُ، حطَّ الحمام

في مَنَاقيره رَنينُ الحِلِيّ.

المدينة فَكَّتْ أزْرارَها،

رَمَتْ شوارعَها في المتاهةِ

لا أحدَ سيمُرُّ،

لا أحدَ من ثُقوب النُّعاس سيفْلتُ،

إلاّ صبيّاً يفتِّشُ عن أمِّهِ في صَرير الباب

ونافورةً

تبحثُ عن مُطْلق

في فضاء الغياب.

***

شعر وليد الزوكاني

2023

الفصل (9) من رواية غابات الإسمنت

بانضمام نجاح إلينا أصبحنا نحن الأربعة قدوة السجن، ولكي تغطّي ابتسام حبيبتي على استدعائي كلما جاءت ليلة خفارتها، وهي الأعلى رتبة والآمرة الناهية، فقد أقرّت أن تأتي مع الفرّاشة إلى غرفة المفوضة الخفير أو الضابطة الخفير، إحدى السجينات تساعدها في عمل الشاي ومشاهدة التلفاز، وكانت السجينات جميعهن مسرورات، لأن أي واحدة منهن تشعر بنسمة من الحرية، وإن كانت لا تبعد خطوات عن الزنزانة، حتى أصبحت كلّ واحدة من رفيقاتي تتلهّف إلى ليلة خفارتها، وكأنها خارجة إلى الفضاء الواسع، أو ذاهبة إلى عرض مسرحي.

كانت غرفة المطبخ والممر وقضاء الليل مع الحارسة، نزهة في حديقة، وربما ظهر لهن أن بعض السجن أجمل من أجزائه الأخرى... بخاصة الزنزانة، وكانت ليلة غيابي أو مديحة تُفَسَّرُ من السجينات ضمن ما يشملهن من اقتراحات، وكن يحترمننا ولم تكن بيننا أية مشاكل، وفي الليلة التي سبقت ذهاب كريمة إلى المحكمة لمعرفة نتيجة الاستئناف، راحت السجينات يغنين ويرقصن فَرحًا، وغنت أم جبار وهي امرأة في الأربعين من عمرها ضبطت في قضية تهريب، أغنية لعّابة الصبر:

صبري صبر أيوب

حزني حزن يعقوب

الحقني يا محبوب

زادت أنا جروحي

وذابت بالهوى روحي

فتّ الصخر نوحي

الحقني يا محبوب

تطوعت سجينتان بالرقص، بدأت أم نظيم وهي أمرأة جاوزت الخمسين، ضُبطت في قضية دعارة، تصفق بيديها تصفيقًا أشبه بدقات طبل، كنا نروم أن نرفع من معنويات كريمة، فغدًا تذهب إلى المحكمة لتسمع صوت الاستئناف، غناء ورقص وأداء، بدت السجينات كلّهن في وئام، وأظن أن معاملة حبيبتي مسؤولة السجن للجميع جعلنا أكثر ودًا، وخففت المشاكل بيننا.

وقلبت صورة النفور إلى مودة وحب، ولم يكن هناك شيء نفعله لصديقتنا سوى الدعاء، وكنا على ثقة من أن الاستئناف سيكون لصالحها.

وربما كنتُ الأكثر تفاؤلًا من غيري، لأنني أعرف أن النقيب ابتسام لن تتركها.

وذهبتْ كريمة ... وليتها لم تذهب ..

رجعتْ صامتة، والصمت هو الجواب اليقين.

وكان الخبر صدمة لنا، الاستئناف رُفض، فازددتُ حنقا وحزنا، أما كريمة فبدت متماسكة كأنها أنفت أن تكون هدفا للشفقة والرثاء، شموخ وكبرياء لا تقهره إرادة الموت ... لا ترغب أن يرثيها أحد.

يوم صدر الحكم أغميَ عليها حالما دخلت السجن، وعاشت شكّا وأملًا، وحين تيقنتْ من موتها تماسكت، تجللت بهالة من الرزانة والوقار، فلبست طرحة بيضاء، وانكبّت على القرآن تقرأ ولا تكلّم أحدًا، صامتة عن الكلام كما يصوم القديسون، كما صام النبي زكريا ليحلّق في أجواء السماء، رجوناها أن تنطق فكانت تشير إلينا بيدها وهزات رأسها، وفي خلسة من الجميع كتبت على جُذاذة ورق:

ولداي عدنان وكامل عنوانهما مع أبيهما أدوّنه، أرجو حين تخرج أي واحدة منكنّ، أن تسأل عنهما وتقبّلهما لي.

لم تقل أكثر من ذلك.

كانت أكبر من أي كلام وأشجع من أن تبكي.

الشجاعة ليست سيفا ومسدسا، بل هي ضمير حيّ يرفض الاستبداد بكل أنواعه، كريمة بِصمتِها هذا رفضت الحكم الصادر بحقها وحسبته نوعا من أنواع الاستبداد القاهر.

تَأملتها طويلًا ... تأملتُ هذا السكون الذي يغشاها، تُرى ما سرّ هذه القوّة وهي مُقبلة على الموت؟

ثم أيقنت أن إيماننا بقضية ما يمدّنا بقوّة داخلية، قوّة تجعلنا ننحتُ في الصخر ثقوبا لنرى من خلالها نور حريتنا وسعادتنا، حتى إن كانت تلك الثقوب تطلّ على حبل مشنقة أو زناد مسدّس، ولا سيما إن كانت القضية تمسّ الكرامة!

وتساءلت مع نفسي: كيف بذلت كريمة قُصارى جهدها لتأدية هذا الفعل الشاق؟

كيف استطاعت أن تفرّغ طاقتها، وسَعت في تحقيق هذا الكمّ من الهدوء والسكينة؟

تذكّرت عبارة كانت ترددها أمي دائمًا: "لكل مجتهد نصيب".

نعم... لبعض المجتهدين في العمل الشريف والدراسة واسترداد الحقوق والحياة بشكل عام نصيب... وأيضًا الأبطال الوطنيون الحقيقيون، كان نصيبهم الموت الرخيص!

النساء العفيفات... نصيبهن الجوع والحاجة والفقر.

العشّاق المخلصون... نصيبهم الخديعة.

العاشقات الوفيات... نصيبهن الهجر والخيبة.

المرأة التي تتحمل مسؤلية بيت وأولاد... نصيبها الخذلان من مجتمع جاهل وذكور بائسين.

الرجل الطيب الحكيم الكريم... نصيبه رصاصة أو تسع رصاصات تُسكت نبض قلبه وصوته.

الزوجة الأولى... التي كافحت من أجل أن يقف زوجها على قدميه، نصيبها الخيانة.

الزوجة الثانية... التي قبلت أن تكون بالظل، فقط لتعيش، نصيبها فُتات الحياة الكريمة.

الزوج الكادح المتعب... الذي يعمل من دون كلل أو ملل لتوفير ما تشتهيه زوجته، نصيبه امرأة لعوب تتركه في نهاية المطاف.

والقائمة تطول... ليس عبثًا أقول هذا، بل حقيقة رأيتها بعيني.

لماذا إذن عليّ أن أؤمن بمقولة: لكل مجتهد نصيب؟

أعتقد أن المقصود بها الذين يجتهدون في السرقة والنهب والنصب واللعب والاحتيال وووو.

فهؤلاء نصيبهم في الحياة كما لاحظت كبير، وكبير جدًا، بدءًا من الوظائف والمناصب والبيوت وجوازات مزدوجة وصفقات ضخمة وحياة هانئة وسيارات فارهة، والأدهى كلمة مسموعة ووجاهة عالية!! أيّ زمن أغبر هذا؟

آآه يا كريمة... للأسف، اجتهدنا في تربية أنفسنا لزمن لا يلتفت كثيرا للتربية الصحيحة والأخلاق والمبادئ، فكان نصيبنا الوجع الدائم، كنت أغتنم أيّ فرصة تبعدني عن عينيكِ فأتحسس رقبتي.

أشعر أن الحبل يلتف حول عنقي وأخشى أن تكوني قد لمحتني أطوّق رقبتي بأناملي.

بعد ثلاثة أيام قبل الفجر سمعنا صليل الباب ونُودي عليها، عانقناها جميعنا، علا صراخنا وضجيجنا.

سلّمناها للشرطي الغليظ، رجل جاء ليصحبها.

من يسير بها إلى الموت رجل ذو ملامح غليظة، ولست أدري لم يكون الرجال الذين يقودون إلى الموت ويتعاملون مع المشانق بوجوه وعيون تثير الرعب؛ جامدة بقسوة لا حياة فيها ...

وتلاشت رفيقتنا الرقيقة في لحظات، لنستقبل صباح يوم الإعدام بصمت وذهول.

***

ذكرى لعيبي – قاصة وشاعرة

انتهت بها الغربة بعد عناء طويل، خادمة في منزل، اعتادت على مفاجآته وغرابة أحداثه. كان نومها متقطعا يوميا فهي تنهض بين الحين والاخر، تتفقد زوجته المشلولة وتقلبها كطفل صغير،لا أحد في المنزل سواهما هي والزوج الذي يرعاها .

بشرتها السمراء اللامعة وشعرها المجعد القصير، وخصرها النحيل، يوحي بجمال افريقي مميز لم يألفه من قبل. غير حياته و حرك حواسه من غفوتها التي اتجهت نحو جسدها، الذي ظن انه يملكه ويملك روحها ايضا، مقابل الأجر الذي تتقاضاه منه. كانت لديه رغبة جامحة بالتحرر من أغلال زوجته، التي باتت تشبه شجرة عجوز تحط عليها الذكريات، وأصبح يضيق ذرعا بها، لذا قرر ان لا يفوت هذه الفرصة، التي أصبحت في متناول يديه، محاولا التقرب منها بكل الطرق، ومنها المداعبات التي كانت تمهد لما يبيت له !؟

لم يكن الامر صعبا عليه ولا عليها ايضا، خصوصا انها شعرت بنظرات الاعجاب لديه، وراحت تبادله الاعجاب هي ايضا بنظرات غريبة وغير محتشمة، أصبحت ترتدي له ثياب مغرية و بصدر مفتوح، بينما كانت تسير امامه بطريقة استعراضية، تظهر فيها مفاتن جسدها . بدأت الفكرة تكبر في راسه وتسيطر عليه، وفكر أن يقدم لها اول عربونا، فكان خاتما ثمينا وزيادة في اجرها الشهري، تقبلت الامر بسهولة وسعادة كبيرة، فليست هناك عوائق تقف امامها، فقد اعتادت ان تصادف في مثل تلك الحالات كثيرا في حياتها ومن خلال عملها، والتي كانت تسمح بها عادات بلدها .

اطلق لرغبته العنان ليمارس حريته بالعبث فوق جغرافية جسدها، دون النظر الى مطبات الطريق، الذي مشى فيه او حساب اي شئ اخر ... اصبحت ايامه دافئة بصحبه تلك السمراء، وطعم شفاهها العذب، الذي كان سعيدا به وكأنه في حلم لا يود ان يصحو منه .تسارعت الايام، التي ضمت بين طياتها ليال حمراء، سرت سخونتها في جسده وعقله . واعادت له فحوله قد نساها، او ظن انه قد فقدها، لكنها لم تدم طويلا وانتهت كحلم جميل، سرعان ما أفاق منه حين طلبت منه بلغتها الركيكة، مبلغا كبيرا من المال كانت بحاجة اليه، واجازة كي تسافر لرؤية اهلها واجراء عملية لوالدها المريض . والعودة اليه بعد اسبوع، تقبل الامر على مضض واعطاها المبلغ الذي طلبته وكذلك الاجازة، وآثر الانتظار والصبر وعدم الاستسلام والرجوع لحياته السابقة لحين عودتها . مضت الايام وتساقطت اوراقها يوم بعد يوم، دون اي اتصال منها، او رسالة يستعلم فيها عنها وعن وقت عودتها؟ طال غيابها وفقد الامل برجوعها لا امل يلوح له سوى نظرات زوجته، وهي تدور في كرسيها المتحرك بدوائر فارغة، رسمت تساؤلات عديدة لم تجد لها اي اجابة . ازداد الحزن لديه وسبب له صداع شديد وارتفاع في درجة حرارة طال أمدها، والتهابات في باطن الفم، جعلته يشعر بصعوبة في تناول الطعام، أجبرته على الذهاب الى الطبيب و بعد معاينته أخبره : انت مصاب بتعب وارهاق بسيط من اثر الحمى سيزول بعد اخذ الدواء والانتظار، تحسن قليلا بفضل العلاج، لكنه سرعان ما بدا أكثر ضعفا بعد ان ظهرت عليه، أعراض جديدة اخرى فقد اصبح يعاني حرقة وصعوبة في التبول، عاد لطبيبة ثانية وحدثه مستغربا عن تلك الأعراض التي تحصل له لأول مرة.

أثارت حفيظته هذه الاعراض الجديدة، وطلب منه اجراء فحوصات شاملة . كان الوقت يمر ببطئ مصحوبا بقلق شديد بانتظار نتيجة التحاليل وبعد ان استلمها الطبيب، الذي قطب حاجبيه وسالة حدثني: عن حياتك في السفر.. أين تسافر عادةً؟ صمت ونظر في عينيه طويلاً فأجابه لم اسافر .. زوجتي مقعدة.. السفر يصعب علي كثيراً في هذه الحالة. سأله الطبيب مرة ثانية هل انت متزوج بأخرى؟ ولكنه نفى ذلك ايضا، انتابت الطبيب الحيرة ونهض من خلف مكتبه وكأنما يسره بشيء ما قائلا له: الالتهابات قد نالت من جزئك السفلي كثيرا .. لعلك تشم رائحة غير طبيعية؟

***

نضال البدري / العراق

 رقائق غريرة في مقة شتاء، في تساكن مع

"رسالة عاطفية من فتاة غريرة"

للروائي القاص الدكتور علي القاسمي*

***

ما شاء

يخدِش السّردَ

حتى همس المطرْ

على رفْرَفِ

غربياتٍ شواردَ

غمائمُ أدجتْ

لديها خفت البرقُ يمرُقُ

من تلافيفَ دوَتْ

في حنايا السماءْ

عثر النثرُ في صيّبٍ

آن ينهلّ على ثغور

وأخاديدَ

وحوافِ سقفٍ يرعشُ

بموسيقا الحياةْ

إليهِ بَهث المدرّج

حشدُ ممرّاتٍ

وقاعاتٍ حائدَه

2

هيفاءُ   في تراخ ٍ

بِدلف فاختةٍ

كدأبها مراتٍ

وقد قطّب السّارد في حِيرةٍ

حييّاً جبينهْ

بطاولتي الورقاءِ

دسّت لي

بِخفوٍكتابَهْ

لعلّه المطر خِلتُ

بِمِرْودٍ يُروّق الحلمَ بعد شرودْ

أم صبا أهباءً

ستشتته حدّ وَهاءٍ

على أشَناتِ جذوعٍ

عشبِ أخشاشٍ

سفوحٍ وواحاتْ

3

في باحة بحذو مَقصِف

حبيباتُ دبال شذَت

برشفات ندىً رخيّةٍ

إثرَ ما نوارسُ

غرُبت عن مغانٍ

ربتْ يبَساً

وأعشاشٍ كثّ فيها رمادْ

لمْحاتٍ رقائقَ أتمثل

في غربتي

بين دفّتي كتابْ

أمداً تنِدّ عني العبارة

غَرثى نافرةً

ثم تلوح

تشِفّ في خفْت بياضْ

4

أخفَّ من رُفَة

أهوّمُ فوقُ

أثمَلُ إلى تخوم أنأى

حيث ثمَلٌ أشهى

ينحني شجو مدائنَ

تنهلّ غوانٍ

في رداء يخضورٍ وَطيفْ

فذرني شذا حلمٍ

به يخبو

وصَبٌ صبيبْ

فما خلف دَيجور مُوَلٍّ

بياضٌ

سيقلنا في قاربٍ

ينقل أنداءً

نسغك

كنسغي

لأنفاس جريدْ

ويهطل الطّل آبٍ

مفوَّفاً

بموسيقا الحياةْ

5

حسراتٍ كسوتُ ذبولي

يتأسّى رَقوداً بأبجدية صمتٍ

كأني فِينوس في حِداد تمّوزْ

مشرع لريح أبَيتٌ أنا

به شعلة في فتور

أم قلعة لسفحِ شدائدَ أفداد

أم فرشة

تجرع قشّة تُربها في عبثْ

أهيم

ينحسرُ الخِصبُ

يرتاع راع

إلهُ شمس لم يسعفهُ

أن فاءَ آذارُ نِدّاً لمناحة الصيفْ

أم أنيّ غمام نائح

في مأتم سفينة نجاةْ

لم ترس

على أي شطءٍ بعد تِيهْ

أنهار آنها وَهاءً

كملح  مبخّراتٍ منبوذ

أسفل سهلٍ

غفواً من موجٍ غردٍ ماردْ

6

في عَبْرِ حروف

عشا الخِباء

شامسةً هففتُ

كريح إمّا لامستْها جرائدْ

أو كوكبٍ ذري

أو درويش متقدٍ يدورُ

يستجدي من باب بيته

معشوقهُ

بدبك كثيف جاذبْ

كفوفاً شَفافُ ثوبي

يلهبُ

مشدوهةً إلى سواقٍ

وكثبان نديّة

في صبْوِ يدي

هملت حروف هشةً تسدى

أماهها القطرُ ولم يمح

عتهاً غفا لوثة

في مضاءِ غِرّةٍ هوجاءْ

***

شعر: محمد السرغيني

....................

* علي القاسمي، رسالة عاطفية من فتاة غريرة، صحيفة المثقف بتاريخ 15 شباط / فبراير 2022

 

تَـعَـالـيْ وَاهْـطُـلِـي مَـطَـراً وَطَــلّا

فَــإِنَّ الْـمَـحْلَ فِــي الْأَرجــاءِ حَـلّا

*

وَإِنَّ الــــــرُّوحَ أَتْــلَـفَـهَـا جَـــفَــافٌ

وَلَـــمْ أَعْـــرِفْ لِــهَـذَا الـلُّـغْزُ حَــلّا

*

فـطيفك فـي الـمنامِ أتـى بقربي

فـصـاحَ الـقـلبُ هَــلَّا جـئـتِ هَـلّا

*

تَـعَـالِـيْ غَـيْـمَـةً بـيـضـاءَ حُـبْـلَـى

وَأَلْـقِـي فِـي هَـجِيرِ الـصَّيف ظِـلّا

*

تَـعَـالـي وَازْرَعِــي طَـلْـحَاً وقَـمْـحًا

بِـــصَـــدْرِي أو ريــاحــيـنـاً وَفُـــــلّا

*

تـعالي واملئي عَطْشى الخوابي

بــمـاءٍ مـــن رُضَـابك قــد تَـحـلّى

*

فـتُـسْكِرني الـشِّـفاهُ بـغـيرِ خَـمْرٍ

وقـــدْ نَـضَـجَـتْ كـعُـنْـقُودٍ تــدَلّـى

*

تَـعَـاليْ وَاسْـكُـنِي أَعْـمَـاقَ قَـلْبٍ

مِــنْ الْـهِـجْرَانِ عَـانَـى فَـاضْـمَحَلّا

*

فَـفِـي سُـكْـنَاكِ يَـزْهُو مِـنْ جَـدِيدٍ

يَـعُـودُ الَــى الْـحَيَاةِ عَـسَى وَعَـلَّا

*

نَــهَـارِي فِــي غِـيَـابِكِ بَــاتَ لَـيْـلًا

وَعَيْشي في الورى أمسى مُمِلّا

*

أَقُـــولُ لِـخَـافِـقِي يَـكْـفِـيكَ تَـيـهًـا

فَـلَنْ تَـحْظَى بِـمَنْ قَـدْ كَـانَ وَلّـى

*

فــدعْ عـنكَ الـهوى قـدْ صـارَ عـبئًا

وأخـشـى فــي الـغرامِ بـأنْ تُـذَلَّا

*

وعِـــشْ حُـــرّاً طـلـيـقاً دون قــيـدٍ

فـــكــانَ الـــــرّدُّ بـالـتـأكـيدِ كَــــلّا

*

أنــــا جُــــزْءٌ لإنــسـانٍ تَـشَـظّـى

عـسـى بـالحبِّ يـغدو الـجُزْءُ كُـلّا

*

لَـقَـدْ حَـاوَلْـتُ لَـكِـنْ دُونَ جَــدْوَى

مَــعَ الْإِصْــرَارِ حَـتَّـى الـصَّـبْرُ كَـلَّا

*

سَـقَانِي الـدَّهْرُ مِنْ أَوشَالِ كَأْسٍ

فَــــــلَا أَرْوَى وَ لَا لِــلــرّيــقِ بَـــــلَّا

*

لَــقَـدْ صُـمْـنَـا طَــوِيـلًا دُونَ فِــطْـرٍ

هِــــلَالُ الْـعِـيـدِ إِنْ تَـأْتِـيـنَ هَـــلَّا

*

وَكُـــــلُّ فُـصُـولِـنَـا تَــغْــدُو رَبِــيـعًـا

إذا مـــا نــورُ وجـهـك قــد تَـجـلّى

*

ســأشْـعـرُ حـيـنـهـا إنّـــي أمــيـرٌ

سـعـيـداً حـيـن لاقـى(سَـنْدريلا)

***

عبدالناصر عليوي العبيدي

جَاءَنِي حِمَاريَ بَيّْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءْ.

مُطَأْطِئَ الرأْسِ؛ وكَأَنَهُ يَحّْمِلُ هَمّْاً بالخَفَاءْ.

أَثَارَ مَنْظَرُهُ في نَفْسِي مَشَاعِرَ الحُزّْنِ والبُكاءْ.

قُلْتُ:

يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ لَمّْ أَرَكَ مُنْذُ يَوْمَيْنِ؛ لِمَ ذَا الجَفَاءْ؟.

أَ تَدّْرِي إِذا لَمّْ أَلقَكَ؛ في كُلِّ صَبَاحٍ ومَسَاءْ.

يَنْتَابُني اكتِئابٌ؛ ويَنْقِطعُ عِنْدي الرَّجَاءْ؟.

فَأَنْتَ سَلْوَتِي ومُنْيَتِي؛ وَهَبَتّْكَ لِي إِرَادَةُ السَّمَاءْ.

قَالَ لِي حِمَاري (أَبُو الحَيْرَانِ):

لَقَدّْ سَئِمّْتُ عَيْشِي؛ مِنْ قِلَّةِ الأَعْلافِ والأَعْشَابِ وشِّحَةِ المَاءْ.

فَقَدّْ جَفَّ الزَرْعُ؛ وصَارَتْ أَرْضُ الرَافِدَيْنِ جَرّْداءْ.

لَقَدّْ مَسَّنَا الضُرُّ وانْقَطَعَ فِيْنَا الرَّجَاءْ.

أَيْنَ المَفَرُّ يَا (ابْنَ سُنْبَه) وأَعْلافُنَا فِي شُحٍّ وغَلاءْ.

وَلا الأَرضُ مُمّْرِعَةٌ بِالعُشّْبِ؛ فَتَجُوْدُ عَلَيّْنَا بالرِزّْقِ بِلا عَنَاءْ.

نُمْسِي نَطْوِيْ الَّليَالِي؛ وبُطُونُنَا خَوامِصُ جَوْفَاءْ.

فَنَحْنُ الحَمِيْرُ، أَيَامُنَا صَارَتّْ عَنَاءٌ وفَنَاءْ.

بَعّْدَمَا كُنّْا فِي العِرَاقِ مُتْرَفِيْنَ سُعَدَاءْ.

نَرْفُلُ بِالخَيّْرِ وعَيّْشُنَا عَيْشُ الأُمَراءْ.

عِنْدَمَا كانَتْ أَرضُ الرافِدَيّْنِ؛ جَنَّةً مُوْرِقَةً زَهْرَاءْ.

قُلْتُ:

لا تَثريْبَ عَليّْكَ يَا (أَبا الحَيّْرانِ)؛ فَأَيْنَ يَكّْمُنُ البَلاءْ؟.

فَالأَزَمَاتُ فَوّْقَ رؤوسِنَا تَدُوْرُ دَوّْرَ الوَّبَاءْ.

فَنَحنُ البَشَرُ؛ لا زِلنَا في فَلَكِ أَزّْمَةِ الغَلاءْ !.

وَالآنْ صَارَتْ أَزمَتينِ؛ أَزمَةَ الحَميّْرِ وأَزمَةَ أَبْنَاءِ حَوّاءْ!.

وَ لا نَدّْري أَيْنَ سَيَنْتَهي الحَالُ؛ فَكُلُّ الأُمُورِ صَلّْعَاءْ. (صلعاء: داهية ، مصيبة)

قَالَ أَبُو (الحَيّْرانِ):

المُشّْكِلَةُ تَكمُنُ في أَعْضَاءِ مَجّْلِسِ النُّوَابِ الأَجِلّْاءْ.

فَهُمّْ لا يَقُرُّوْنَ المُوازَنَةَ، فَتَتَوَفَّرُ لَنا الأَعّْلافُ والغِذَاءْ.

وتَنْكَشِفُ عَنّْا هَذِهِ الغُمَّةُ الغَمَّاءْ.

وَ تَزُوْلُ عَنّْكُمّْ أَزْمَةُ التَّعْيينِ وأَزمَاتُ الشَّقَاءْ !.

قُلّْتُ:

إِذَنْ سِرُّ المَشَاكِلِ مَمّْسوكٌ بِأَيْدِيْ النُّوَابِ الأَجِلّْاءْ ؟.

قَالَ حِمَارِي (أَبُو الحَيّْرانِ):

إِيّْ واللهِ يَا (ابنَ سُنْبَه)،

كُلُّ الأَزَمَاتِ زِمَامُها بأَيّْدِ أُولئِكَ الوجَهَاءْ.

قُلْتُ يَا (أَبَا الحَيّْرانِ):

أَشدِدّْ حَيَازيْمَكَ ضُحىً قَبّْلَ الغَدَاءْ.

سَنَمّْضِي مَعاً إِلى مَجّْلِسِ النُوَّابِ؛ رَغّْمَ جُوْعِكَ والعَنَاءْ.

سَنَدّْخُلُ أَسّْوارَ المنّْطِقَةِ الخَضّْراءْ.

وَسَنَلّْتَقِي بِحَضَرَاتِ النُوّْابِ الكُرَمَاءْ.

وَسَنَشّْرَحُ لَهُمّْ مُعَانَاةَ الحَميّْرِ؛ فَهُمّْ أُنَاسٌ فُضَلّْاءْ.

يُقَدِّرونَ العَزيزَ إِذَا ذَلَّ؛ ويَرفَعُوْنَ شَأْنَ الأَعِزّْاءْ.

فَمَصّْلَحَةُ العِبَادِ عِنْدَهُمْ؛ كالصَّلاةِ والصَوّْمِ والزَّكاءْ.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ)، بصَوّْتٍ فِيهِ نَبرَةَ اسْتِهْزَاءْ !!.

إِذَنّْ سَيُفرجُ الهمُّ عنَّا ؛ باذّْنِ اللهِ بمُسَاعَدَةِ الشُرَفَاءْ.

قُلّْتُ:

نَعَمّْ... فَهُمّْ أَهْلُ الجُوْدِ والخَيّْرِ والعَطَاءْ.

قَالَ لِيْ (أَبُو الحَيْرانِ):

يَا ابْنَ (سُنْبَه)؛ لَوْ رَفَسّْتُكَ رَفْسَةً صَمّْاءْ.

فَهَلّْ يَعّْتِبُ النَّاسُ عَلَيَّ ويَتّْهِمُوْنَني بِالغَبَاءْ؟.

قُلّْتُ (مُتَعَجِباً مُسْتَغّْرِباً مِنْ إِجَابَتِهِ الشَنّْعَاءْ):

لِمَ يَا أَبَا (الحَيّْرانِ) مِنْكَ هَذا الجَّفَاءْ ؟.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ):

لَوْ قُلّْتَ مَقَالَتَكَ ذِيْ؛ في مَجّْلِسِ الحَميّْرِ الأَخِلّْاءْ؟.

لَنَهَروْكَ نَهّْرَ ذَلِيّْلٍ قَدّْ أَسَاءْ!.

قُلّْتُ:

هَوّْنْ عَليّْكَ يا (أَبا الحَيّْرانِ)،

وَ هَدِّئْ مِنْ رَوّْعِكَ... فتِلكَ غَضّْبَةٌ مِنّْكَ حَمّْقَاءْ !.

قَالَ (أَبو الحَيّْرانِ):

لَوْ أَنَّ مَجْلِسَ النُّوابِ؛ يَحِلُّ مَشَاكِلَ العِبَادِ بسَبيّْلٍ سَوَاءْ.

لأَقرّْوا المُوازَنَةَ؛ وصَارَ النَّاسُ بِلا هَمٍّ وَلا لأْوَاءْ. (لأواء: ضيقُ المعيشة)

وَلمَا صَارَ حَالُكُمْ كَحَالِنَا.... سَواءً بسَواءْ.

ولمَا صَارَ حَالُكُمْ كَحَالِنَا.... سَواءً بسَواءْ.

***

مُحَمَّدْ جَوَادْ سُنْبَه

هبت من نومها على طرقات صباحية تقرع باب البيت، تمطت ثم فركت عينيها ظانة أن أحد الأقارب قد اقبل لزيارتها، رمت ساعة هاتفها بنظرة؛ العاشرة والنصف صباحا؛ كيف سرقها النوم الى ساعة متأخرة من صباحها؟ ..الطرقات تتوالى على الباب لكن بدرجة أخف من الأول.. تثاءبت قبل أن تفتح الباب لتجد أمامها رجلا مربوعا، أشعث الشعر، كث اللحية، شاحب الوجه، بادرها وقد أوشكت ضجرة أن تسد الباب في وجهه مرددة: "الله يسـهـل"..

ـ أتوسلك سيدتي قطعة سكر، "كرموسة " أو ثمرة، أي شيء حلو فاني أنهار ..

تريثت وصوت الرجل يأتيها متقطعا كأنه يخرج من بئرعميقة، تمعنت في وجهه، شحوبه وصوته يوحيان أنه على وشك أن يفقد وعيه ..

" ربماهبوط السكر في دمه ".. تركت الباب نصف مفتوح وهرولت الى الداخل لتعود بصحن من فواكه؛ شدت الرجل من يده ودعته الى داخل البيت؛ بلهفة تسلم الصحن منها، تربع البلاط، وصار يزدرد مما فيه. كانت تنظراليه بعيون تحجرت الدموع في مآقيها.. لم تنبعث في مخيلتها غير صور والدها تترى أمام عيونها يوم فقد وعيه ذات مساء وقد هبطت نسبة السكر في دمه، انشغلت عنه زوجته بزينتها في غرفة نومها فلم يجد من يقدم له أي شيء ينقد به حياته، فصعدت الروح الى بارئها ..

إلتهم الرجل موزة وحبة ثمر، واتكأ على جدار خلفه واضعا رأسه بين يديه، كأنه يستعيد أنفاسا منه قد ضاعت. عرق يتصبب من وجهه وذراعيه رغم برودة النهاركأنه ينزف سيلا، بادرته بكاس ماء فصبه دفعة واحدة في جوفه ..

استعادت عيونه بعض لمعانها، وشرع يتأملها ولسانه يلهج بدعاء؛ حاول القيام فمسكت بيده، وبدل أن يستدير الى الباب ألحت عليه في الولوج الى صالون قريب فامتنع، مشيرا الى ثيابه وقدميه الحافيتين الوسختين؛ شدت يده وأصرت على دخوله الصالون، تركته يستريح على فراش وثير وخرجت لتعود بألبسة وشبشب وفوطة بيضاء كبيرة ثم وجهته لدخول الحمام، لم يمانع، وقبل أن تقفل الباب خلفه قدمت له موسى للحلاقة وقالت: "لا تستعجل الخروج، خذ كامل نظافتك واطرق الباب متى انهيت حتى أفتح لك "

أسرعت الى المطبخ وشرعت تعد فطورا لها ولضيفها الزائر ..

لم يكن الرجل يشغلها بتفكيرعمن يكون، أو يثير فيها أثرا من خوف فتقدر حجم الخطر الذي قد يداهمها من ثقتها به، والسماح له بدخول البيت وحمام البيت، وليس في البيت غيرها، ما كان يشغلها هو خوفها من أن ينهار أمامها ويموت .. فصورة ابيها وذكراه الأليمة هي ما يملا كل جزيئة من تفكيرها يوم دخلت من عملها ووجدته يتوسد الجدار، فمه مفتوح كأنه قد نادى ولم يلب أحد له نداءا، وقد عقد يمناه بالشهادة؛ ما ضر زوجته لو أخرت زينتها قليلا تتريث عودتها بدل أن تتركه وحيدا وهي تعرف ان زوجها قد نخره السكري ومعرض لغيبوبة كثيرا ما كانت تفاجئه بلا إشعار؟؟..

جفلت كسحابة أريق ماؤها وهي تفتح للزائر باب الحمام وقد وقف أمامها متورد الوجه، رغم الضنى المطل من عينيه، حليق اللحية، حييا وقد استرسل شعر رأسه لامعا ممشوطا الى الخلف يكاد يغطي أذنيه.. أثارها طول الرجل عما رأته وهي تستقبله بالباب وكأن حرارة الحمام قد مددت من قامته، ساءلت نفسها:

"هل حقا هو نفس الرجل من دخل بيتها ثم حمامها؟ ..!!

هوى على يديها بقلب وجل يشكرلها صنيعها وهي تدعوه لمائدة الفطور؛استقام وهو يقول:

ـ ماذا بقي من خير ياسيدتي لم تقدميه الي؟ سأظل لك مدينا بهذا الفضل ما بقيت الروح تصاعد في جسدي ..

تبسمت من بين دموعها وعليه ردت:

ـ لم افعل الا ما أمرني به ربي و الواجب الإنساني، هيا لتتناول فطورك أولا !!..

كانت تتابعه بنفس مطمئنة وهو يرفع اللقيمات الى فمه بتأن وسكينة نفس، يمضغها بمهل مستلذا بطعمها، ولا يرد عن سؤال منها الا اذا وضع يده على فمه تأدبا، لم يداخلها خوف من وجوده، فالرجل لم يرفع بصره ليدقق فيما حوله، ولا زاغت له عين يتملاها وهي شابة جميلة على عتبة الأربعين، تلفت بنظر وتثير بقد وأنوثة طاغية .. كانت حركاته تدل على أصل وانتماء خليق، وحدها تقلبات الزمن ربما هي من حولته الى اشبه بمتشرد يستعطي البيوت.. كانت تتلهف لتسمع قصة حياة تكشف وبالتفصيل عمن يكون وما ظروفه؟

لم ينتظر أن تسأله فقد قرأ على وجهها لهفة السؤال الذي احتارت كيف تسوقه ..

"أنا ابن عائلة كبيرة ياسيدتي كنت واسطة عقد إخوتي الأربعة، لم أكن لهم شقيقا، فأمي من جبال الشمال في حين أن أمهم من شرقها ، نلت حظا من علم، لكن شغفي بالتجارة قد جعلني أدخل في مشاريع تجارية من صغري وأحقق فيها نجاحات أبهرت إخوتي الذين رفضوا الاستمرارفي الدراسة بقدر ما جرت علي حقدهم وحسدهم، كان أبي يؤثرني عليهم جميعا، فأوكل الي الكثير من أعماله التجارية التي فاقمت من غيرة إخوتي وحقدهم على أمي التي استطاعت أن تزرع في نفسي حب التجارة الذي يتميزبه أخوالي، نصبوا لها فخا واتهموها بإخفاء حشيش جلبه أخ لها من بلاد كتامة وهو لم يطأها أبدا، أحد إخوتي من دسه في غرفة نومها، ثم استطاعوا الوصول لها وهي في السجن عن طريق احدى الحارسات وتم قتل أمي والإعلان عن انتحارها خوفا من أن تفضحهم بعد خروجها من السجن؛ بعد موت والدنا استطاعوا تزوير وثيقة كتبها لهم أحد السياسيين كان ينافس أبي في الانتخابات كشهادة أني لست أخاهم وأن أمي كانت عاقرا بشهادة ادعوا أن أبي هو من تركها، وثقوها باثني عشرة شاهدا من شهود الزور فحرموني من حقي في الإرث ثم سجلوا ضدي دعوى تزوير، واستطاع محامي من حزب السياسي كاتب الرسالة، شاركهم المؤامرة أن يزجني ظلما وزورا في السجن ..

نلت من الظلم والقهر والبطش ما يشيب له الولدان ـ ياسيدتي ـ، وكان القصد تصفيتي لولا ألطاف الله الذي يمهل ولا يهمل فقد تراجع بعض شهود الزور عن أقوالهم بعد ان انتبه أحد القضاة أن أحد الشهود متعود على بيع شهادته لكل من يدفع بعد تكرار حضوره في أكثر من شهادة أمام القاضي، واعترف المحامي وكان يحتضر بعد حادثة سير مميتة إثر فتح تحقيق دقيق بأمر من الوكيل العام ان شهادة والدي بعقم أمي كانت كاذبة كما اقر بكل صغيرة وكبيرة حول ما وقع حتى يتم ابعادي عن كل ما خلفه ابي والطعن في ماضيه السياسي ..

استغربت المرأة لما كان يخترق أسماعها، كيف يتحول الاخوة من سند للزمان الى أعداء يكيد بعضهم لبعض؟ رمت بدموعها سواقي وهي ترى رجلا بكل هذا القد يكاد ينهار بين لحظة وأخرى وهو يحكي ظلم إخوته، كل غصة تتصاعد منه هي حريقة تأكل صدره ودموع تدمي أجفان عيونه..

إخوته نهبوه، حقدوا على أمه التي أعلنت تميزها بقدرات نفثتها في أبنها فلم يكفهم سجنها بزور وخديعة بل سلطوا عليها من قتلها خوفا مما قد يأتيهم منها .. لم يكن دافعهم من كل ذلك غير السطو على ثروة الأب بغير وجه حق ..

ماذا أصاب الناس؟ لا يد عادت تصافح يدا ولا قلب يقبل قلبا !!.. كل إنسان صارلبني الانسان حفار أخاديد، تعسفا وظلما ونهبا بلا رحمة، أنانية فاقت الصور والأوصاف، لفت الناس بلعنة أبدية ..حتى السياسيون المؤتمنون على مصالح من انتخبوهم تحولوا الى لصوص صارت لهم لازمتهم:" النجاة مضمونة فأيكم كان أوفرحظا؟اطحن ولا تخش معارضة فالكل سواء"

تنفست بعمق، وعلى خيالها قد تداعى زوجان، أتاها الأول عاشقا متيما ومن سنته الأولى تحول من سقسقة ماء وخرير نهر الى طوفان يريد أن يجرف وبالقوة ما ورثته عن أبيها، بعد استيلائه كل شهر على راتبها حتى صيرها تستعطيه ماتسد به أغراضها، وحين قالت: "توقف !! . إني حرة في مالي، ولي حاجاتي ورغباتي" ثار وعصف كريح عاتية وقال لها:"ما أريد أو الطلاق" وكأن الله قد أنطق الحق حلا على لسانه اذ هي كلمة الصدق التي قالها منذ ارتباطهما فلم تتردد أو تطلب حتى حقا من حقوقها بعد الطلاق .. بعد سنة بادرها الثاني بخطبة تقليدية عن طريق خالتها التي صورت لها الرجل لفة قطن قادر أن يولد مسارات الحب الذي ضاع من الزوج الأول ثقة وحنانا، ولئن كان اصغر منها بسنتين فهو كالحمل الوديع ويده ذهب كحرفي يكسب رزقه بجهده وعرق جبينه؛ فهي مطلقة وكل مطلقة وصمة فساد وقناصة رجال، لهذا وافقت وإن كان الفارق في التكوين والنشأة كبيرا ..

سنتان من زواج فجر بعدهما رغبته الأكيدة في ذرية تملا حياته، وبعد زيارات متعدد لأطباء اتفقوا ان الرجل عقيم وليس أمامها غير الحقن، فشرع يفاوضها من خلال مقايضة دنيئة، الحقن أو الطلاق، وحين امتنعت أن يدخل رحمها ماء أجنبي قدم طلبا للطلاق فناله..

تنهدت غصة حارقة و سألت زائرها:

ـ أين تعيش الآن وكيف؟

ـ خرجت من السجن فاقد كل أمل وقد تضاعف يأسي حين علمت أن إخوتي قد باعوا كل ما نهبوه بالتزوير والدس، وكل واحد منهم قد رحل الى دولة اجنبية كإرهابي او قاطع طريق ومرتزق خوفا من المتابعات..

صمت قيلا ثم تابع بعد غصة حزن كاوية:

ـ حالتي التي كنت عليها قبل أن يكرمني بيتك تعرفك بمأواي ومقامي وأنا بذلك سعيد فثقتي في ربي بلاحد ..

كانت تقرأ من رده مصالحة بين حياته وموته، فهو قنوع بما يعيشه بعد معاناة ظلم إخوته ومطمئن لما قد يأتيه ويحياه، وعي بالحياة وبالموت، ذلك مبلغ تفكيره الى أن يعود الى ترابه، تفكير لا يعني الخمود والجمود وانما يعني اليأس من الانسان كشريك حياة بلا قيمة يرعاها أو ربما هو عمق ما وقر في دواخله بعد سلسلة من الضربات صورت له الحياة بلاجدوى مادام الظلم هو قانونها الأسمى، ورغم هذا فثقته بخالقه لم تتزحزح..

اتكأ على يديه وهم بالوقوف وكأنه ينهي رحلة قصيرة من عمره، وقد أعادته عبر لحظاته مع من أكرمته أن في الحياة طيبة قد أسكنها الله في بعض خلقه تصدر عن بعض بني الانسان لتخفيف فظاعات بعضهم..

وضعت يدها على كتفه وقالت:

ـ تمهل، الى أين؟ هل شبعت منا أم عليك قد اثقلت بسؤال؟

ارتمى على يديها يريد أن يقبلهما، وقد خنقته غصة تفجرت لها دموعه:

أشبع منك !! .. لست ناكر جميل ولن أكون، وخيرك هو ما أعاد الي الثقة في بعض بني الانسان، ويشهد الله أني خجلت أن أطلب منك مساعدتي على عمل يقيني مذلة التسول ووسخ البدن، سأكون قانعا بأي مبلغ اسد به الرمق وأعيش منه بكرامة نفس وبأمان من الظلم بدل حياة الشوارع ومذلة اليد السفلى ..

عانقته بحرارة وقالت: ابق، أنت اليوم ضيف وغدا يفعل الله مايريد..

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

في نصوص اليوم