نصوص أدبية

نصوص أدبية

ما أبهى الرحلةَ

حين أرى الشجرَ يلوِّح أنهُ ذاهبٌ الى مدينتكِ ..

صرتُ أطمئِنُّ

مثل حقلٍ تصافحُهُ الريح على مهلٍ ..

صرتُ أجسُّ بحواسّي ما لا تصِله المسافة

وما لا يفتحهُ الهواء مِن رسائل النظرِ العديدة ..

في الصباحِ تهِبين حياةً جديدةً للنافذةِ

يستيقظُ عصفورٌ في حديقتِنا

يُغرِّدُ قريبًا منّي، في حكمةِ العصافيرِ التي تفتحُ بعينِها

ضوءَ الشمسِ والأغاني ..

يُغرِّدُ  بخجلٍ

ويضوعُ صوتُهُ هادئًا مثل قطرةِ ماءٍ تُصحّي ياسمينةً مِنّ نومِها.

قريةٌ تنبتُ في حقلِ رمّانٍ

بينما تُعجبكِ فاكهةٌ في الحديقةِ المجاورة ..

قريةٌ، سقفُها يكاتِفُ الغيم

وأرضُها هوىً يجمعُهُ جناحُ الربيعِ المسافرِ

ما زال يسكنُ داخلي، قرويًّا،

يحبُّ أرضهُ، ويتبعُ الحنينَ الذي يجرِّدهُ  ..

قرويٌ، يهمي كل صبحٍ مع السواقي

ويُشارِكُ ما في الأرضِ من شوقٍ ومن زرعِ.

يُغرِيني الآن هذا الطير، ويُعلِّمُني،

ألّا أحومَ بعيدًا عن بقعةِ الضوء،

حيثُ غيابكِ المترسّبُ،

يكتنفُ الأملَ ويبعثُني مِنّ جديد

***

علي الشلال

 

ظل الصديقان شفة الجمل وأُذن الحمار يتمنيان أن تتغيّر الاحوال وتتبدّل الاعمال، في شارعهما الخامل الصامت، إلى أن ظهرت تلك الحورية الفاتنة تتمايل بقدّها الميّاس، وجسدها الحسّاس، فتبهر الحجر قبل البشر، وتمضي في طريقها غير عابئة بما تتركه وراءها من آهات وحسرات.

رفع شفة الجمل رأسه لأول مرة منذ سنوات، ليتساءل:

-ما هذا؟

فتأوه أذن الحمار قائلًا:

-أنا في حلم أم في علم.

ابتسم الاثنان، لأول مرّة بعد لقائهما في شارعهما ذاك، وكادت عينا كل منهما أن ترقص، ناسية ما مرّ عليهما من لحظات صمت لا تنطق ولا تعرف للنطق مسلًكا. وأطلت الاحلام من عيني الصديقين تجذب كلًا منهما إلى ناحيتها وصوبها، وكان لا بدّ لهما من الافتراق وكل منهما يُضمر أكثر مما يصرح، وفي خياله أكثر من أمل.

ركض الاثنان كلٌ صوبَ بيته.. دارا ولفّا في شوارع مدينتهما.. لفّا ولفّا.. إلى أن جرى كلّ منهما في الاتجاه المتمنّى، وكان أن وصل الاثنان في ذروة المطاف، إلى باب واحد.. غابت وراءه تلكم الجميلة الفاتنة.

عندها، في تلك اللحظة الحائرة، أراد شفة الجمل أن يتخلّص من الموقف المحرج قليلًا فتساءل: ما الذي أتى بك إلى هنا، ليجد صديقه يطرح عليه نفس السؤال.

افترق الصديقان يومًا وليلتين، دون أن يسأل أحدهما عن خدينه، وكان أن قرّرا بعد انتهاء تلك الفترة من الغياب والحلم، أن يخرج كلّ منهما من بيته على حدة.. وخرج كل من الصديقين من بيته وهو يتلّفت يَمنة ويَسرة، وعندما يتأكد من خلوّ الشارع، ينطلق ليتوقف في النهاية قُبالة ذلك الباب الساحر الخلّاب. توقّف الاثنان.. كلّ يحدّق في عيني الآخر، ولا يتقدّم، وكان لا بدّ لهما من كلمة فقال كلّ منهما في الآن ذاته: هي لي لن تكون لأي من بني البشر سواي.

ما إن نطق الاثنان بهذه الجملة حتى اشرأب كلٌّ منهما بعنقه تجاه صديقه القديم.. وراح يقترب منه دافعًا صدره بصدر قرينه.. بقي الاثنان يتضاربان بالصدر إلى أن وقع أُذن الحمار على الارض، فما كان منه إلا أن تناول خشبة وقعت قريبة من يده ورمى بها قاذفًا إياها باتجاه خصمه. انحرف شفة الجمل لتخطئه الخشبة وتشقلب في الهواء ضاربًا.. ضارِبَه بقدمه، تلقّى أُذن الحمار الضربة بصلابة ليجد نفسه يتشقلب بقوة أكبر وليوجّه ضربةً أعنف إلى خصمه العنيد. عندها بدا للاثنين أنه لن يكون بإمكان أحدهما أن يهزم الآخر، فتوقفا عن المصادمة.

-لن تكون لك. قال شفة الجمل.

-ستكون لي.. قال أُذن الحمار بتصميم وتابع ..بأي حق تريدها أن تكون لك.

عندها بات واضحًا وقد ادعى كل من الصديقين أنه أحق بتلك الجميلة الفاتنة، وأبدى كل ما أبداه من الشجاعة غير المعهودة، أن كلًا منهما مُصِّر على أن تكون له، فماذا سيفعلان؟ هل سيلجآن لإجراء القُرعة؟ أم سيتنافسان عليها ضمن مسابقة للخيل، كما فعل الاجداد في مواقف تاريخية سابقة؟ ماذا عليهما أن يفعلا؟ مضت الأيام، الاسابيع، الشهور والسنين، إلى أن عثرا على الحل.. لماذا لا يُحاول كلٌّ منهما أن يتقرب منها؟ ومَن ينل حظوتها.. تكون له.

هكذا ابتدأت معركة المنافسة الحقيقية بين الصديقين القديمين، وكان كلّ منهما يتحوّل في لحظة ما إلى خصم يريد الموت لمن قُبالته، وتعقّدت المنافسة أكثر خاصة عندما برع شفة الجمل في التسلّق على الحيطان رغبة منه في الوصول إليها، إلى تلك الجميلة، وفي المقابل عندما أتقن أُذن الحمار العزف على آلة العود، وتمضي السنوات وكلٌّ من المتنافسين يبذل المجهودَ المضاعف ليحظى بمُفجّرة حلمه الجميل، دون أن تظهر تلك الجميلة الفاتنة مرة أخرى.

عندما يئس الاثنان من اللقاء بها، بجميلتيهما، أخذا بممارسة ما تعلّماه للحظوة بمودتها، وراحا يمارسان ما تعلّماه وبرعا فيه.. شفة الجمل أخذ يُمارس العاب الخفّة والقفز، واأُذن الحمار شرع بممارس العزف، خلال فترة قصيرة تدفق إليهما المعجبون من كل حدب وصوب، وتحوّل الشارع الخامل.. تحوّل مع مضي الوقت.. ورويدًا رويدًا.. إلى شارع بالمسرّات حافل، وكان مَن يعرفون ذاك الصديقين الخاملين يسالونهما عن سبب تحوّلهما الايجابي ذاك، فينظر كلٌّ منهما إلى الآخر أولًا إلى مُحدثهما ثانيًا لينطقا بصوت واحد:" لن نكشف لك عن السر". وكانا يُغمضان عيونهما.. ليريا تلك الجميلة الفاتنة قادمةً.. من بعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

يمكن القول إنه نسيها، تماما، ولم يعد يتذكرها إلا أحيانا قليلة، في الصباح عندما يقف أمام مرآة الحمام يدعك أسنانه بالفرشاة ويقول لنفسه:" ادعك أسنانك جيدا، ربما تتصل وتأتي اليك فنجلس صامتين نحدق ببعضنا البعض، تتشابك أيادينا بعصبية ولهفة ، وفي غمضة عين قد نندفع بشوق جارف نتبادل القبل". يخاطبها ربما تسمعه:" بالعذوبة نفسها تحبين وتذبحين، في صمت ورقة من دون كلام". ربما تتصل، ومع أنه ينساها فعليا، إلا أنه حين يتلقى مكالمة هاتفية ليست منها يجتهد أن يختصر الكلام وفي خاطره : أنه لا ينبغي أن يكون الخط مشغولا. ربما تتصل. يفتح يفتح باب الشقة ويهبط الدرج، يقول لها :"صارت الدنيا ملونة منذ أن رأيتك ثم أمست مشاهدها أبيض وأسود، الماضي كله، والآن كله، وغدا كله، مدى رمادي مفتوح لطيور بلا أجنحة، ولو أنك كنت قد سددت إلى قلب فارغ، لكنه عامر بك، فمن منا – أنا أم أنت- أسالت يداك دمه؟. يجلس إلى مكتبه في العمل. ربما تتصل. نسيها بالطبع، وإن كانت ترد على خاطره من حين لآخر، إذا غادر البيت في مشوار ينتقي ملابسه بعناية، يرتدي أفضل ما عنده، يلمع حذاءه. ربما يصادفها وهو في الطريق. "سأبقى احبك بكل قوة حضوري في الدنيا، وكل قوة غيابي إذا لم أكن في الدنيا". لكنه ينساها بالطبع، وإن كانت تفاجئه أحيانا واقفة أمام عينيه بوجودها المشع. يحجز وجبة من المطعم ويتردد قليلا، ثم يقرر أن يطلب وجبتين. ربما تتصل فأقول لها لماذا لا تأتين الآن نتناول الغداء ؟. تأتي ويسرح في صوتها الذي يشبه قيثارة من الجنة. يقول لها " لا أحزن على كل ما كان ، أحزن على كل ما لن يكون". لكنه ينساها. هذا مؤكد. و مع ذلك فإنه حين يرقد للنوم يترك المحمول قريبا من رأسه. يقول لنفسه من يدري؟ ربما تتصل فيكون جرس المحمول مسموعا، فإذا اتصلت سأقول لها أمسيت أمد يدي إلى النور فلا تقبضان إلا على الفراغ، وكانت ألوانك تخفق في العشب والسماء، وسوف تلزم الصمت كعادتها، نعم إنني أعرفها. ستلزم الصمت، لأنها لم تعرف بعد أنني أنساها. أقول لها:" ها نحن عند مفترق الطريق، يمعن كل منا النظر في الآخر، طويلا وببطء، ننفصل عن روحينا، مثلما تنفصل الوردة والغصن، ينفصلان ويبقى عطرها فيه، وفيها دمه". يستولي عليه النعاس، يهمس أنه ينساها، ينساها.. لكن.. ربما.. ربما ماذا؟

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

هل يُرتجى العطرُ مِن وردٍ تُصنِّعُهُ

أيدٍ تَفنَّنُ إبداعًا وإتقانا؟!

*

أو يُرتَجى الخيرُ مِمَّنْ خيرُهُ عَدَمٌ

وإنْ تهادى بزيّ السّحرِ مُزدانا؟!

*

بعضُ القلوبِ بحارٌ موجُها عَكِرٌ

يعمّها اللّوثُ أعماقًا وشطآنا

*

وبعضُها صَخبتْ أمواجُها وصَفَتْ

والحبُّ يسكُنُها دُرًّا ومرجانا

*

والمرءُ يُكشَفُ بالأعمالِ مَعدِنُهُ

وليس بالقولِ ما استخفى وما بانا

*

إنّ النّوايا هي الأفعالُ سيمتُهُا

أمّا اللسانُ فقد يجترُّ بُهتانا

*

لا خيرَ في المرءِ إنْ ساءتْ بواطِنُهُ

مهما تبدّى بسحرِ القولِ فتّانا

*

قد يخدَعُ النّفسَ والدّنيا إلى أمَدٍ

والوقتُ يكشفُهُ، لا بُدَّ عُريانا

***

د. عناد جابر

مضطر لاضطهاد ظلي ورشقه بالحجارة.

جاسوس يتبعني على أطراف أصابعه.

كلما تختفي الشمس.

يأكله الفراغ مثل شطيرة بيتزا.

مضطر لإفراغ مثانتي

وقطع أحبال الفوبيا.

لأحرر القبطان الذي خسر أمواجه في قاع النوم.

مضطر لاكتشاف المركب الذي إبتلعته مياه رأسي العميقة.

البنادق جائعة والفهود تعتلي قامتي.

يزهر الموسيقيون في حديقة المخيال.

وفي دمي يرفرف نورس سكران.

مضطر لاستدراج النسيان إلى شرفة جارتي العدمية.

العالم مبولة والموت هو الفارس الفصيح.

سنطعم الوردة مزيدا من الضوء.

ليمطر البستاني

ويفرنقع المعزون

نخذل الجنازة بالموسيقى.

نملأ الوراء بالمصابيج.

مضطر لمناداة القردة

لبعثرة السائد والبدهي.

أنا أسد صغير يعض صورته في المرآة.

في الكواليس يجر أشلاء الكلمات.

كلما صحوت نمت.

كلما نمت صحوت.

كم كان مرا غناء الثعلب في المبغى.

مضطر لأنام مطوقا بستين مترا من الجنون الخالص.

لأختلس اللوز من جنائن اللاوعي.

أعزي الذي إختفوا مثل صحون طائرة في عمودي الفقري.

أعزي الثعلب الجائع والشجرة المليئة بالغيوم

***

فتحي مهذب

يَهِلُّ الشَّيْبُ فِي سِرْبِ الْعَذَابِ

وَيَبْكِي الْعَنْدَلِيبُ صَدَى الشَّبَابِ

*

وَتَزْدَحِمُ الْمَوَاجِعُ فِي فِنَاهُ

وَمَا عَادَ الْمُحِبّ سِوَى اكْتِئابِ

*

تُوَدِّعُهُ الْغَوَانِي آسِفَاتٍ

ويَصْحَبُهُ الدَّوَاءُ بِالِانْتِحَابِ

**

فَيَا رَجُلَ الْمَشِيبِ احْذَرْ شَقَاهُ

وَدَارِ جِرَاحَ هَمِّكَ فِي الجِرَابِ

*

وَصَطِّبْ أُغْنِيَاتٍ خَالِدَاتٍ

لِذِكْرَى الْحُبِّ مَا بَيْنَ الصِّحَابِ

**

فَيَا أَسَفَاهُ يَا عَهْداً تَوَلَّى

هَجَرْتُ زَمَانَهُ بَعْدَ اغْتِرَابِ!

*

وَلَمْ أَذُقِ الْفَوَاكِهَ مِنْ جَفَاهُ

وَلَا اللَّحْمَ الشَّهِيَّ فَمَنْ دَرَى بِي؟!

***

شعر: د. محسن عبد المعطي – مصر

 

وطني المحفورَ على قَفَصي الصدري

لماذا تقفز الذكرياتُ على رُموشي؟

أحْمِلُ تابوتَ الغابات في حقيبة سَفَري

فلا تسألي عَنِّي أيَّتُها الغُيومُ

قُولي للشمسِ إنَّ الغريب تزوَّجَ الغريبةَ في دَهشةِ الياقوتِ

وَحْدَها البُروقُ مَن سَتَرِثُ أمجادي الوهميَّةَ

ماتتْ عائلتي في الشَّفَقِ الدامي

وصارتْ قِطَطُ الشوارعِ عائلتي

فلا تَسأل أرشيفَ البُحَيرةِ العمياءِ

لماذا تتشمَّسُ بَين فِقراتِ ظَهْري الذئابُ الكريستاليةُ ؟

أُذَوِّبُ أحزاني في فِنجانِ قَهوةٍ تشربه النُّسُورُ

لِكَي تأكلَ جُثَّتي بهدوء

أيُّها الفَيلسوفُ العائشُ في غُرف الفنادق المطليَّةِ البارودِ

تَحْمِلُ جُمْجُمَتَكَ في حقيبة السَّفَرِ

وتُصَادِقُ مَوْجَ الذاكرة

يَبكي القَمَرُ في أحضانِ الشمسِ

وتُفَصِّلُ أشجارُنا قُمصانَ الأسمنتِ

حَسَبَ خَجَلِ نُعوشنا

ونَدرس رُومانسيةَ الضحايا على ضَوء الشُّموع

أحزانُ القُرى بَصَمَاتُ الشُّطآنِ

على جثامينِ الرِّجالِ الحَزَانى

وجَسَدُ لُغةِ النارِ ذاكرةٌ لقصائد اليَمَامِ

وحيدٌ أنا في ذاكرةِ الفَيَضَانِ

يتيمٌ أنا في ذِكرياتِ البُروقِ

والطريقُ إلى قلبِ أُمِّي يمرُّ عَبر قبر أبي

وما زالت الذكرياتُ تسيرُ على لَحْمي حافيةً

إنَّني أفتح قَفَصي الصدريَّ للأمطارِ

كي تنامَ أدغالُ المجزرةِ في حَنجرتي

سيتذكرني المَوْجُ حِينَ يَمُوتُ البَحرُ على صدر الرمالِ

وهُناك

في ذاكرة الغُروبِ

حِصانٌ أعمى يُحَدِّقُ في عُيونِ فارسه المشلولِ

والأسماكُ تضع بُيُوضَها على نَصْلِ مِقْصَلَتي

دِمائي إشارةُ مُرور للنوارسِ

أرْمِي لَحْمَ الأنهارِ في الأدغالِ

وفي غاباتِ الدمعِ ترحلُ الدماءُ إلى الياقوت

***

إبراهيم أبو عواد / شاعر من الأردن

إلى روح: صديق قلبي وحرفي ودربي،

الشاعر الكبير الساحر: محمد البَقْلُوطِي

***

بأيّ كلامٍ، أُمازحك الآن،،

أَنْسجُ قوس قزحْ.

كان لا بُدّ للجسر أَلاّ تَضيقْ،

كان لا بُدّ من وطن وطريقْ،،

كان لا بُدّ منكَ، لِـيَنْساب ضوءٌ، وماءْ

لِـتَبْتَلّ أجنحة وسمــاء،

لِـتَغْسل حَوْبَـتَنَا.. ثمّ يطلع ورد الفرحْ..؟!

.. وكدتُ أصدّقُ،

أمشي بلا قدمينِ صباح الخميس، وأبكي..

أقول : ستأتي.

لنا موعدٌ عند بائعة التبغ هذا المساء..

مَـلَلْتَ نبيذ الجنوب،

صبايا الجنوب،

ترانيم صمتك في الليل..

وحْدَكَ في الليل تشرب ُ.. تبكي،،

وَوَحْدكَ تنهَضُ مبتهجا بصباح المَرضْ..

أقول : ستأتي.

لقد تركوا بَعْضَ أُفْقٍ لنا،

بعض ذكرى وَصَوْتٍٍ لنا،،

بعد أن حاصرونا...

وهل حاصرونا كما نفتَرِضْ..؟!!

وكدتُ أصَدّقُ..

يا زَيْنب الظِلّ..

قولي إلى الشمس أن تسترد الوَلدْ،

إلى الطفل أن يرتمي في حقول العِنَبْ..

مَضى العاشقون..

ولم يَبْقَ غَيْركمَا في سرير اللهبْ...

فكيف تركتَ يدي في سلال الرماد،

وكيف تَعَمّدْتَ قبلي الرحيل،،

وَلِلأَزْرَقَيْنِ..نَهَرْتَ المَراكِبَ

ريح الجسد..!!

***

عبد الرؤوف بوفتح / تونس.

 

قال الاطباء انها لن تعيش طويلا بسبب فتحة القلب التي ولدت بها. بالإضافة الى ضيق في حدقة العين اليمنى التي ستضعف بصرها مع مرور الوقت ان لم تخضع لعملية تصحح بصرها. ربما اكتملت اسنانها قبل ان ينمو باقي جسدها او تطول قامتها ولو بشيء قليل، كانت كثيرة البكاء، هزيلة كدمية مصنوعة من القماش تتلوى ولاتقوى على الوقوف.

نمى عقلها قبل جسدها الذي مازال ضئيلا نحيفا. كانت تعي وتشعر بالحرج من نظرات العطف والشفقة وتتسأل لم ولدت هكذا لا تشبه اختها الاصغر؟ التفت لها العناية الالهية وحظيت فجأة باهتمام الاطباء والمنظمات الانسانية التي راحت تتبارى في دعم ذويها ماديا ومعنويا.

اما هي فكانت لا تضحى سوى بنظارات طبية جديدة ودمية تنام الى جانبها ليلا تهمس في اذنها وتحدثها عن مدى حزنها وكيف ان الجميع ينظر اليها كمخلوق غريب عكس اختها التي كانت تحضي باهتمام وحب كبيرين من والديها كونها الطفلة الجميلة التي لا تعرضهم للأحراج.

كانت خزانتها مليئة بالفساتين الانيقة، اما هي فكانت ثيابها تقتصر على بنطال وتشيرت وحين تسال والدتها لم لا تلبسيني مثل ثياب اختي!؟ ترد عليها جسدك نحيل سيكون مظهرك مضحكا ومحل سخرية فيما لو ارتديت ثوبا.

ثمة نقمة في داخلها بدأت تكبر وشعور بالوحدة يسكنها وهي تحدث نفسها هل ستظل حبيسة داخل هذا الجسد الضعيف المريض هل تتحرر منه ام تتحرر ممن حولها. ام ان هذه المصائر مرتبطة ببعضها البعض او ان بعضها يستدعي ان يكون سببا لوجود البعض الاخر.

الشروخ داخلها بدأت تكبر وتكبر، واصبحت تصغي للصوت داخلها الذي يحثها على ان تلقن امها واختها درسا، وان يكون لها جناحان تطير بهما بعيدا اهلها ومدينتها، كان الليل وسكونه الوقت المناسب لتنفذ ما كانت تفكر به اوقدت شمعة وسارت بخطوات واثقة كمن تسير في قداس له طقوسه الخاصة وتوجهت نحو غرفة اختها وتحديدا الى الخزانة التي تضم فساتين اختها المزينة بالدانتيلا والزهور، كانت اختها تغط في نوم عميق باسترخاء مرتسم على وجهها.

فتحت باب الخزانة وثبتت الشمعة اسفلها وراحت النيران تلتهم اذيال الفساتين بنهم وسرعة كبيرتين، خرجت البنت هاربة الى غرفتها مذعورة ورمت بنفسها تحت السرير وهي تسد اذنيها بيديها وشعرت بشيء يتحرك في سروالها، يسري فوق جسدها الصغير يرتجف.

***

نضال البدري

 

- اشتغلت منذ الثانوية أيام العطل والصيف في مكتب أبي، والسكة الحديد. وفي مخبز..

Praktisk?

نعم أووه عدة أعمال في التنظيف أيضا، والفكرة التي راودتني أن أعمل معك من دون أن تخسر شيئا. (ضحكت) أريد أن أجرّب عالم الأسماك! (راحت ابتسامتها تتسع) هذا بعد موافقتك طبعا.

فهمت.. العائلة اطمأنت لي. لعلها ترددت في البدء إذ تقيم علاقة مع شاب ذي انفعال عال جاء هاربا إلى بلد يحتضن اليهود من طائفة تهتف كلّ يوم الموت لإسرائيل... الموت لأمريكا.. حين نكون بعيدين عن مكان الرعب تتغير نظرتنا.. نرى الآخرين بمنظار آخر.. وحين أقلّب الوضع بمنظار الربح والخسارة أجدني لا أخسر شيئا. عملي كما هو.. سوف يكثر الزبائن ، ووجود آنسة معي يضفي على المكان نكهة خاصة :

- لا أخفيك أنّي احتاج من يعمل معي غير أني لا أرغب أن أتحمل ضرائب جديدة وأجرة عامل، أما في حالتك فالمسألة واضحة مع ذلك سأصرف لك مبلغا يرضيك.

ودخلت السيدة أوريت لتدعو إلى المائدة، فاتخذت مجلسها في طرف المائدة، وجلسنا أنا وسوزي متقابلين، ولم تكن غرفة الطعام بكراسيها ومنضدتها المرمريّة الطراز لتقلّ أناقة عن ترتيب غرفة الضيوف. كان أثاث المنزل يوحي بالراحة والبساطة أكثر من أن أراه منزلا لرجل ثريّ يملك مؤسسات رأسماليّة كبيرة:

- إنه cosher لا تقلق

وقالت سوزي:

-  نحن لا نأكل إلا اللحم الحلال

كان دورق نبيذ وعصير على المنضدة، وفضلت العصير فأدارت سوزي لنا كأسي عصير واختارت الأم قدح نبيذ:

لم أعمل لك سمكا أظنك لا تأكل مثلنا السمك إلا بأصداف هل أنت من طائفة خاصة؟

- أنا من الجنوب من العراق البصرة بالتحديد شيعة وهم لايأكلون مثلكم الأسماك إلا ذات أصداف.

فأطلقت ضحكة قصيرة غابت فيها عيناها الصارمتان لحظة، وتساءلت:

- هؤلاء الذين يهتفون الموت لإسرائيل الموت لأمريكا..

فسارعت في شبه اعتذار:

-  سياسة لا أكثر الآن هم في حرب مع العراق.

تدخلت سوزي:

- حسنا هذا واحد مختلف

في التفاتة مني لأغير الحديث:

- لكن لم يحضر السيد يانسن؟

فانبرت سوزي:

- والدي ذهب إلى يولاند لمتابعة صفقات القمح.

قالت الأم: هو لا يرتاح إلا إذا تابع أعماله بنفسه.

إذن أظنني نجحت، اجتزت عفبة أخرى.. أول تجربة لي تضعني في إطار جديد.. كل علاقاتي السابقة كانت عابرة. صداقات فردية مع دنماركيين تنقضي حالما ينتهي التعامل.. مصلحة الطرفين.. عرفت المعلمة.. والمعلم.. وثرثرت مع رفاق دراسة من الأرجنتين والمغرب وباكستان.. عربي من لبنان.. وأظنّ هناك الكثيرين مازالوا في الطريق تلقي بهم الحرب إلى أسكندنافيا.

لم أسع لصداقة أحد

ولم أدخل بيتا قبل اليوم.

غاية ما أفعله أن أقف عند المركز الإسلامي أعرض بضاعتي. مرة واحدة دخلت أصلي، وقد صليت من دون وضوء خلف الإمام بدافع الفضول، تعبق مني رائحة السلمون والجرّي.

أو يزورني الزبائن العرب والشرقيون إلى المحل فأعمل بصمت ولا أدخل أيّ نقاش.

وقوفي أمام منضدة التشريح وبرودة المحل والرائحة لاتشجع أحدا على العمل معي.

الأجواء نفسها لا تدفع للكلام.

ولا أدري ماذا يحدث بعد أن أنتقل إلى المكان الجديد.

شارع مزدحم، وحركة عارمة، أما الحرب المشتعلة من بغداد إلى بيروت فبيدو أنها ستطول لتقذف بهجرات جديدة قد تغير الحياة الرتيبة في كوببنهاغن. هل تجعلني كثرة القادمين أتحرر من الحنين والغربة إلى الأبد.

في هذا اليوم بالذات تغيّر نمط حياتي.. عائلة أعرفها. أول علاقة جادة أقيمها مع أناس أخاف منهم. لأقل كنت أخاف منهم. سمعت عنهم ورأيت وجوههم وعيونهم. على الشاشة ، مع الحليب الذي رضعناه عرفنا أن هؤلاء ذوي النظرات القاسية جاؤوا لأرضنا اغتصبوها ثمّ أفاجأ أن السيدة أوريت ذات النظرة الحادة لا تضى، تنصح قومها ألا يذهبوا إلى االمأساة الأخيرة بأرجلهم إلى الموت لينتظروا المخلص.. المنقذ.. المهدي المنتظر.. أمي تنتظره أيضا.. ما أراه كريها في مكان قد أستسيغه في مكان آخر.

هل أقول إني أراقب مايجري من خلال علاقتي الجديدة؟

لقد بدأت أحضر نفسي للعمل في المحل الجديد. وتمرّدت على يوم الأحد الممل. نلتقي أنا وسوزي بداية شارع المشي عند محل (Guinse) وننطلق إلى الحدائق الملكية أو نسير بمحاذاة البحيرات.

نسبر شيئا ما

نتعرّف

علاقة فيها تحفظ. كلماتي أختارها بدقة. أعرف الدنماركيات مزاجيّات. عمليّات، وليس لي من غاية، صداقة فرضها العمل. ليس في بالي أمر آخر. أحيانا أودّ أن أقول شيئا، فأتردد

رغبة.

كشف..

حنين هجين بين الحاضر والماضي

أخذني دافع ذات يوم إلى حدود أبعد مما أتصوّره.. عن غير وعي ونحن نمشي على ساحل البحيرات امتدت يدي فمسكت يدها. قالت: هذا الشتاء لم تتجمد البحيرة ربما الشتاء القادم.

الشتاء الثاني الذي مرّ بي تجربة جديدة من البرد سمعت حديث الناس عن تجمّد البحيرات وفي نفسي أن أراه:

- هل يسمحون للناس بالعبور؟

- إن حدث، فستضع البلدية أعلاما حمراء في منطقة تامة التجمد لتكون بين الاعلام طريق يمكن المشي فوقه.

- هل نجرب؟

- ليحدث أوّلا الصقيع لِمَ لا.

وساعدتني في الانتقال إلى المحل الجديد. جلبتُ بعض الباكستانيين والمغاربة نقلوا معي الثلاجة الكبيرة وجهاز الضغط والعارضة، وحضرت سوزي بعض الساعات تضع يدها معي في نقل الأدوات الخفيفة، واختارت بدقة الجمل التي ترتفع على واجهة المحلvi opfylder din Ønske   frisk fisk دفعتني الجرأة ونحن نرتب الأدوات على مسطبة التنظيف أن ألتقط يدها وأقبّلها، فضحكت وتراجعت وهي تقول:

المخزن أصغر من مخزن المحل القديم لكنه يكفي ومادام بغير باب فستعاني من برد الشتاء الأفضل أن أجلب بطانية قديمة من بيتنا.

وعندما حل فصل الصيف بدأت العمل.

كان هناك مذاق آخر، ورؤية أخرى. حركة الشارع وصمت المفبرة التي تقابل محلي، ووجود سوزي ثم ازدحام الرصيف الآخر يوم السبت بالبضاعة القديمة... كانت تستغرق في الضحك ويدها تحرك المقص. هكذا تعملين الفيلية.. فقالت ومازالت تضحك:

- أنا أستخدم يدي اليسرى.. يسراوية ومقصاتك كلها مخصصة لليد اليمين.

لم أنتبه إلا هذه اللحظة إلى أنها عسراء، طلبت منها أن تنتظرني أقل من ساعة فخرجت أحث الخطى إلى محل فوتكس، فمررت ببائع السمك الدنماركي. كانت هناك سيدة تقف خلف الحاسبة تتطلع في الطريق، ولم يخطر ببالي أنها تعرفني، ولا أشك أن صاحب المحل يظلّ لا يتعرف على شكلي في المسقبل. قبل أن أتاجر بالسمك ترددت على محله، كان ذا ابتسامة خجولة، أما السيدة صديقته أو زوجته فأثارتني عيناها الواسعتان.. سعة أشبه بالحول، ووجهها المدوّر الذي ترتسم عليه دهشة لاتزول.

هل ياترى يستفزاني ذات يوم مثلما فعل بائع السمك في شارع fredrekssundsvej؟

لا أستبعد أيّ احتمال وإن كان شكله يوحي إليّ أنّه أكثر تحضرا من بائع السمك في الشارع الرتيب.

وعدت ببضعة مقصات تناسبها.

مع ذلك لم ألتق بالسيد يانسن. كنا نمارس المشي فنعود إلى شارع Nørrebro حيث تستقلّ الحافلة فأذهب إلى المنزل. لم أجرؤ على دعوتها لزيارتي خشية من أن تسئ فهمي.

لو كانت صديقة تعرّفتُ عليها في المرقص لدعوتها من دون تردد.

ولو كانت زميلة معي في المدرسة

أو لو قابلتها في الطريق...

ليس الامر سهلا من وجهة نظري. هذه فتاة أبصرتها ذات يوم في التلفاز على منصة التتويج ورأيتها بعيني السيدة أوريت ثم رأيتها بشكل آخر مختلف.

هل كانت حساباتي القديمة خاطئة؟

عدوتي وصديقتي في الآن نفسه حتى جاء يوم دخل علينا رجل في منتصف العقد السادس من عمره، ودود لطيف، لا أقرأ في وجهه خبثا، فهتفت: أبي فحييته وقلت مرحبا: أهلا سيد يانسن يسعدني أن أقابلك. كانت ملامح وجهه تختلف عن الصورة تماما، يبدو وجهه متعبا ولا يخفي التعب مزاجه المرح وخفة حركته. وسيم جدا.. ذو ابتسامة مرة، ولا شئ في نظراته يريب..

- رائع آمل أن يتطور عملك إلى الأفضل.

- أنا مرتاح بعملي مع أنه متعببعض الشئ.

- أووه لاراحة من دون تعب مهما يكن فأنت شاطر تفضل العمل على أن تعيش على مساعدات البلدية.

- بالتأكيد..

وتوجه إلى سوزي:

- هل أنت مرتاحة؟

- شغلة جميلة.

فهزّ كتفيه.. وودعنا فخمنت أنه جاء ليطمئن على ابنته، وفي اليوم نفسه تلقيت طلباتت من زبائن فتركتها وخرجت. كنت مطمئنا إلى عملها، وواثقا منها إلى درجة بعيدة. وكان لابدّ أن تعرف بعض أسرار العمل. قضية الشرقيين وبيع السلمون بعيدا عن قانون الضرائب. راودني بعض الانزعاج والقلق من أن يعرفوا أنها يهودية. فيرسموا حولي علامات استفهام كبيرة. أنا شاب عادي:لو بقيت في بلدي لكنت الآن جنديا في الحرب:قتيلا أو اسيرا، ولو انتهت الحرب وخرجت منها سليما أو معاقا لأصبحت موظفا. هذا الذي أجده في سيرتي الذاتية التي هربت منها أما أن أصبح مشبوها تدور حولي علامات استفهام كثيرة فلم يخطر ببالي قط:سأكون شريكا للصهاينة علاقتي مع تل أبيب متينة، ولي مؤسسة خاصة بالأسماك، وأخرى بالنفط، ماسونية... وموساد، وهناك من يقاطع محلي الذي يعدونه واجهة لتمرير مشاريع أخرى خفية، أراهم يكثرون، يأتون إلى بلاد اسكندنافيا يوما بعد يوم يأعدادهم تزداد، الحروب تستعر في الشرق وهم يأتون بلحاهم وجلابياتهم، وعيونهم الغاضبة القاسية، ادعيت أني لست المالك الوحيد للمحل هناك شركاء دنماركيون معي، وخجلت أن أحذر سوزي من أن يعرف أحد أنها يهودية. وكانت تأتي إلى المحل بعد عطلة الصيف وقدوم الخريف حسب ساعات تفرغها. تقضي يوم السبت معي في الشغل ونصف يوم الثلاثاء والاثنين كاملا، لا تقرف ولا تتثاقل إلا حين يأتي زبون يطلب جرّيا. تعلمت كيف تقطع رأسها الضخم، وتسلخ جلدها من الأعلى إلى الذيل ثم تفصل اللحم، يبين قرفها أمامي وتخفيه عن الزبائن، ورأيتها ذات يوم تلقي مافي يدها في الحوض وتهرع تدخل المحزن فتتقيّأ في سلة المهملات. قلت لها حين أكون حاضرا أتولى بنفسي مهمة سلخ الجري، وكان والدها بعض الأحيان يمرّ بالمحل مرورا سريعا، يبدي إعجابه ويخرج، ومرت أمها بنا يوم سبت قادمة من المعبد الذي لايبعد كثيرا عن شارع Nørrebro..

بدأت أراها امرأة عادية

ليست قبيحة

لاتخيفني

زهوت بنفسي إذ تصورتني مثل مدرب النمور الذي يروض وحشا مفترسا، وقفزت في ذهني فكرة طريفة متوحشة:أن وجه السيدة يانسن الطولي الذي يشبه من طرف خفي وجه نمر أصبح أليفا بفعل الزمن.

كل ذلك يحدث وعلاقتي مازالت نقية مع سوزي.

أتقدم خطوة خطوة

اعترف أني لم أتعمّد

لا أفتعل

وذات عصر سبت راودتني جرأة غريبة فعرضت عليها أن نتعشى معا، أو نذهب إلى الديسكو ، بدا السرور على وجهها، واعتذرت عن الرقص، وأكدت أنها لاتحبّذ الديسكو ولا تميل بطبعها إلى الصخب، الطبيعة والتأمل أقرب إلى روحها، فجلسنا في مطعم صينيّ هادئ تناولنا الرزّ وبعض الخضروات المسلوقة. حدثتني أنها اعتادت أن تأكل الطعام الحلال منذ الصغر وبسبب تربيتها وسلوك أمّها أخذت تقرف من أيّ طعام غير مذبوح، كانت تشرب باعتدال، فتجرأتُ أكثر وقلت، فجأة من دون مقدمات:

- مارأيك أن نكمل السهرة عندي في المنزل؟

- لا بأس مثلما ترى.

وقلت ونحن نعبر إلى درب sjælland :

يمكن أن أمل لك بعض الطعام فقد لاحظت أنك لم تأكلي يمكن الطعام الصيني لم يعجبك. ؟

- لقد أكلت مايكفيني (التقت عيناها بعيني)عادة لا آكل في الليل إلا قليلا.

مشينا ويدي على كتفيها، ثم بعد خطوات طوّقتْ يدها ذراعي. راودني إحساس مرهف، وكانت صورة الأضوية المنعكسة على البحيرة، والظلال الملونة تزيدني حماسا.

وهي ناعسة مثل خطواتها البطيئة.

كل شئ هادئ

وكل ماعلى الأرض والماء ينبع من نعومة لانضير لها...

قلبي تزداد نبضاته فأقف، وتقف

وأطبق بشفتي على شفتيها

ثمّ نواصل المشي.. كدت أرى الطريق إلى شقّتي طويلا، هي التجربة الأولى لي، وغرفة نومي تنكشف لامرأة... أنثى تدخل بيتي، لا أبحث عن زاوية مخفِيّه في شارعِ ميت ِفألتقط بين الخجل والخوف قبلة سريعة منها..

- جميل

أعجبك؟

- بالتأكيد؟

- مجاملة

- لا أبدا

- أنا لا أحب الفوضى

لم يطل بي الوقت، تمعنت في عينيها، وطوقتها بذراعي، لا أستطيع أن أكبح سورتي

عنفوان

أثارتني خصلات شعرها التي انحدرت على عينيها

فالتهمتْ شفتي، ورحنا في خدر.

عنيفة مثلي

ينحسر قميصها عن كتفيها

ويستقبلنا الفراش

مرت بنا عاصفة هوجاء، فانكسف ضوء الغرفة، وأنرت مصباح النوم الخافت:

كنّا عاريين.. أقرأ ملامح جسدها وأتحسس نعومته. تشتبك يدي بيدها، وأتطلع في فخذها الأيمن، أقول بابتسامة خبيثة:

- أين اختفت الفراشة؟

تزيح شعرها عن عينيها وتجيب بضحكة:

- سأرسم لك واحدة!

فأقبل فخذها مكان الفراشة الموهومة وأعترض:

- جسدك رائع بفراشةِ ومن دونها.

- لن يكون وشماً دائما.. لا أحبه، هناك وشم يزول حالما تغسله.

كنت أجد في صداقتها حياة جديدة لها طعم آخر حتى خشيت أن أعدّ حياتي هنا في كوبنهاغن السابقة للقائنا عبثا وعبئا ثقيلا لا أقدر أن أنساه. أرى وأسمع لكني كالأعمى والأصم لا يثيرني مايحيط بي. أعمل طول اليوم أذهب إلى البيوت أوزع السمك، وأقف أمام المركز الإسلامي أيام الجمع أبيع، أتثاقل من بعض الذين يساومون على الاسعار، ولا أستغرب حين يسألني أحد الفضوليين أليس لديك وقت لتأتي مبكرا فتصلي معنا؟ أخبار البلد مقطوعة ماعدا ما أراه على الشاشة من لقطات سريعة لمواقع تتقاتل في العراق ولبنان وصراخ التاميل وعنف الخمير روج ثمّ موجة المجاهدين الأفغان، وكانت موجات اللاجئين تأتي فتحيل حكومات اسكندنافيا القادمين الجدد إلى معسكرات ضخمة، وكان من القادمين من يقطع الطريق مابين المقبرة والمحطة فيدعو كلّ ذي لون شرقي لصلاة الجمعة:

أشعر ببعض الضيق

الخجل

والرهبة أيضا

وسط هذه الفوضى القادمة من الشرق كنت أعيش مع سوزي التي دعتني إلى قضاء سهرة يوم السبت عندهم في البيت فذهبت ومعي حفنة من سمك السلمون والكارب وبعض الremoulade كأنني لا أستطيع بالمرّة أن أتخلّى عن أصولي الشرقية، كنا نتحلق حول المائدة.. الأب في الطرف تقابله الأم وسوزي جنبي:

كان كلّ شئ من قبلي محسوبا بدقّة. أصبحت صديق سوزي.. كل كلمة أحسب لها ألف حساب، ولم تفاجئني العائلة بموضوع حسّاس ماعدا اللقاء االأول الذي كان لابد لحديث الحرب والسياسة ان يفرض أجواءهما فيه:

- أظنّ أن عملك رائع حسب تصوّري أتعتقد لك؟

سألني السيد يانسن وهو يرتشف من رشفة خفيفة من شراب وردي أمامه،

- إنه ممتاز.

قال السيد يانسن:

- في المستقبل أقترح عليك أن توسع عملك تجد محلا أكبر وتصبح واحدا من تجار السمك (وأضاف من غير أن يلتقط نَفَسَه) لقد بدأت بداية ممتازة وماعليك إلا أن تتحرك لا أن تبقى في مكانك.

قلت بلهجة لا تخلو من اعتراض:

- المعروف السمك كارتل عوائل دنماركية تتوارث تجارة هذا القاطع ولا تسمح لأحد باختراقه.

- إنك تعني الصيد أما أن تصبح تاجرا أي أن يكون لك محل في سوق السمك على الساحل تأخذ بضاعتك مباشرة من شركات الصيد التي تحتكره.

- في بالي هذه الفكرة.

- شاطر. لا أخشى عليك

عقبت السيدة أوريت. وسألني:

بكم تشتري السلمون الآن من سوق الجملة؟

19-  كرونة.

كانت سوزي تنظر إليّ بذكاء والسيدة أوريت تبتسم:

- حسنا يمكن أن تشتريه من شركات الصيد ب9 كرونات وتعرضه في محلك.

قلت بشئ من التفاؤل:

- هذا يتطلب مالا ووقتا على الأقل أعمل في محلي الحالي خمس سنوات.

فخرجت سوزي عن صمتها:

- يمكن أن تساعده من خلال معارفك وعلاقتك بالسوق.

إذ يحين الوقت لا أبخل عليه بخبرتي.

فالتفتت إليه السيدة أوريت:

- إنّك داهية أظنّك ستساعده مثلما ساعدت كاظم العراقيّ.

قالت السيدة أوريت وتناولت بالملقط قطعة دجاج وضعتها في صحني، التقت عينانا، فشعرت ببعض الحرج وليست الرهبة كما كنت عليه من قبل:

- يجب أن تأكل هذا كلّه

ضحك الأب وقال:

- في تونس ألحوا علينا أن نأكل الطعام كله يعدونه كرم الضيافة.

- اليهود العرب يتصرفون مثلنا.

وانبرت الأم:

- لا ليسوا يهودا العائلة التي استضافتنا عرب مسلمون توانسة.

تدخلت سوزي:

- براحتك لا ترهق نفسك لست ضيفا ولسنا في تونس.

وفي صالة الاستقبال تناولت ُمعهم الجبن مع الشاي شأنَ أيّة عائلة دنماركية بعد العشاء.. كنت أجلس جنب سوزي التي قدمت لي صحن الجبن والحلوى، وقبلتني قبلة طويلة من شفتي. شعرت بالإحرجا.

خجل

داريت ارتباكي

ولملمت نفسي

داريت شعوري بالإحراج فطبعت قبلة على يديها، المشهد عادي عندي في الطريق، رأيت عشاقا يقبّل بعضهم بعضا وأبصرت رجلا قبّل رجلا من شفتيه. كنت الوحيد الذي يبتسم، وقبلت سوزي من قبل أمام البحيرة، فكيف ارتبكت أو شعرت بالضيق.

وواجهت مفاجأة أخرى حين دخلت غرفتها... بهرني لونها التركوازي الخافت، والستائر الزيتونية ذات الدوائر فأطريت على ذوقها.. ضحكت برشاقة، ورفعت ساقها إلى حافة الفراش. قالت: أغمضْ عينيك!

استدرت نحو الحائط فشعرت بيدها تلامس حنكي وتستدير بوجهي إليها:

التنورة منحسرة إلى مافوق ركبتها.

وعلى فخذها اليسار فراشة حمراء جميلة.

هل تعجبك؟

يا للروعة لا أبالغ إذا قلت أروع وشم.

انحنيتُ على الفراشةِ، وأنا أرددُ:lad mig kysse din sommer fugl

عالم الفراش الأحمر ، وبعدَ سَوْرَةٍ محمومةٍ، قالت:

- سأختار لونا آخر للوشم الجديد.

في العمل وكان يوم ثلاثاء ركنت إلى غرفة المستودع الصغيرة. رحت أفكر بالمشاريع الجديدة ولا أخشى أن يعرف العرب والشرقيّون أنها يهودية بل تعودت على رؤية اللاجئين الجدد وظهورهم اليومي في شارع Nørrebro وقيام محلات جديدة لبيع الخضرة عليها عبارات بالدنماركية والعربية والفارسية. كان محلي وحده فتناثرت محلات شرقية هنا وهناك على امتداد الشارع إلى المحطة، تآلفت مع كل المظاهر القادمة وزال عالم الخوف والرهبة غير أني بدأت أشعر بفراغ حين أكون وحدي إذ تتركني إلى الجامعة.

 ثقل

صمت

لا لذّة للمشاهد التي أراها من زجاج العارضة على الشارع والرصيفين.

شعور بالوحدة لا يمحوه تزاحم الزبائن على المحل وانهماكي بعمل الفيلية وتحضير الremoulade أو fiskefrikadeller، حين تتركني ساعات الجامعة يراودني ضيق.. والذي أستغرب له أني بدأت العمل وحدي ولا هاجس لي بالملل والضيق سوى رهبة العالم الجديد الذي اقتحمته من دون سابق خبرة ورتابة الشارع القديم.

عرفت الناس

وتحاشيت مايريب

وتجنبت ماهو خطر

وحدي

لكن

الآن اختلف الوضع لا خوف... لاقلق

لارهبة قط

الضيق وحده إلى حدّ الاختناق

اغتنمت فرصة خلو المحل فدخلت غرفة المخزن أفرم صفاح سمك القد وأغلي الزيت، شعرت بالدفء حين انزويت في الداخل تفصلني عن الثلج ورطوبة المغسلة البطانية الثقيلة ذات المربعات القاتمة التي تغطي فتحة المخزن، كان الشتاء على الأبواب، فيلحّ عليّ هاجسُ أنّه سيكون شتاء قاسيا أبرد من شتاء العام الماضي تراودني رغبة أن يصبح شديد القسوة لا لشئ إلا كي تجمد البحيرة فأمشي فوقها مع سوزي.

فجأة

رنّ جرس الهاتف فظننته أحد الزبائن، وإذا بها سوزي:

أكلمك من البيت.

ألست في الجامعة؟

ردت بصوت فيه بعض الوهن:

كنت هناك وشعرت خلال المحاضرة بدوار فتقيّات وراودني غثيان.

فازددت قلقا:

هل من شئ؟

ذهبت إلى الطوارئ وبعد الفحص عرفت أنّي حامل.

ماذا؟

حامل.. الآن تحسنت سآتي إليك.

مفاجأة

أم

حدث لابدّ منه غاب عن ذهني. انتظرته من غير أن أعرف.. هل خدعتني سوزي.. رأيتها تتقيّؤ في المحل فظننته قرفا من الجريّ. بنت معي علاقة لتحمل. أتراجع عن خواطري المتوحشة فأرى صورة جديدة ناعمة: لو أرادت ذلك لفعلته مع أيّ دنماركي أو لكانت اختارت من أبناء دينها.

أعود إلى فكرتي المتوحشة: اليهود لا يتصرفون إلا حسب مصالحهم.

تكاد الحيرة تقتلني

أقنع نفسي أني لاشئ ولا أحد يمكن أن يستغلني... لأسمه القدر هو الذي جعل الحوادث تجري على وفق مايريد، هناك بعض التشاؤم لا أقدر أن أفلت من قبضته، والمستقبل وحده يقرر سرّه على الرغم منّي:أنا في الشغل طول النهار وسوزي في الجامعة أو تعمل معي من يربي ابننا؟ سوف يكون طوال اليوم مع جدته. تعدّ فطوره وترافقه إلى الروضة. تقصّ له القصص وتغني، تصحبه للنوادي وملاعب الأطفال. حسب عقيدتها أمّه يهودية فهو يتبع أمه

مفارقة لا بدّ من أن أقبلها

أنا المسلم المولود في محلة الأصمعي ابني يهودي

كانت أمامي مساحة واسعة امتدت من البصرة إلى كوبنهاغن في زمن قياسي فلتت من يدي ولم أزل في رحلة القلق.

توقفت عن عمل برغر سمك القد، لألبي طلب زبون سألني عن السلمون فانهمكت في العمل أمام الحوض شارد الذهن وفي هذه الأثناء دخلت سوزي. حيتني ودلفت في غرفة المخزن.

فأنهيت شغلي وخطوت إليها..

ارتمت على صدري

عانقتني..

راودتها نوبة من البكاء. ابتسمتُ بوجهها كيلا تشك في هواجسي السوداء:

- هل أنت سعيد؟

- أتشكّين؟

- لا أبدا

كان عليّ أن أخفي بعض هواجسي:

- لكنها المفاجأة لا أغضب منك بل أساّل نفسِي لِمَ لَمْ تخبريني

- صدقني لم أتعمد. تناولت الحبوب حسبت التواريخ مع ذلك وقعت في الخطأ هل تصدق أني تعمدت؟

- لا أشك فيك لكنّ الذي أربكني يوم تقيّأتِ هنا في المحلّ فظننته من السمك.

- هل تصدّق الفكرة نفسها راودتني... ظننته قرفا من السمك.

وبدخول زبون صمتنا فتركتها دقائق :

الآن لنفكّر أنا في الشغل وأنت في الجامعة.. لنجد حلّاً يناسب ظروفنا.

الولادة ستكون بعد نهاية العام الدراسي فأنا في الشهر الأول.

بالتأكيد أخبرت والدتك؟

لم تكن في البيت البارحة اتصل أخي بوالدي من أورغوس بأمور تخص الشغل ولما علمت أمي أنّه ينوي السَّفّرَ ليقضيَ صَفْقَةً مُهِمًّةً ارتأت أن تسافر معه هل تأتي معي إلى البيت؟

نظرت في عينيها طويلا ولذت بالصمت أتحاشى الافكار السوداء، ولعلّها قرأت أفكاري فقالت:

على أيّة حال الغلطة غلطتي أما إذا رغبت بغير ذلك فليس أمامي سوى الإجهاض.

قالتها بنفس يتهدج ونظرات تزوغ عنّي فارتسمت الدهشة على ملامحي وهتفت:

ماذا؟

ليس هناك من حل آخر.

أتقترحين علي أن أقتل طفلي أنا الهارب من الحرب لئلا أقتل أحدا لا أعرفه هل....

فارتمت على صدري وهي تهمس:

لا أرغب أن أراك تعيسا لكن صدقني أني لم اتعمد.

انسي الآن كل شئ أمامنا مشوار طويل حتى نهاية اليوم سخني الزيت وافرمي صفائح سمك القد

غادرت إلى المنضدة أغسل بقايا الدم عنها، وارتّب السكاكين على الكلّابات، ولشد ما كانت دهشتي كبيرة حين التفت إلى الواجهة الزجاجية فأبصرت نتف الثلج تتساقط في الخارج، فهتفت بنشوة:

سوزي الثلج في الخارج اتركي البرغر وتعالي.

كنت أضع يدي على كتفها ونحن واقفان خلف الدّكّة أراقب الثلج أفكر هل هو ولد أم بنت وأحلم أن يصطك ماء البحيرة لكنني أخشى الا يتحقق حلمي كاملا فأمشي وحدي من دون سوزي التي تمنعها بطنها أن تعبر ويدها بيدي على الماء الجامد.

***

* انتهيت من كتابة هذه النوفلا في 20- 11- 2020 وكنت قد بدأت كتابتها في 18- 10- 2022 وأتممت تصحيحها وإعادة صياغة جملها في 3- 12- 2022  نوتنغهام.

..........................

النهاية الثانية تبدأ من المطعم:

لكي لا تعد النهاية أعلاه تطبيعا ولئلا يُساء بالنص الظنّ تتفتح للرواية نهاية أخرى بعيدة عن الشبهات وقد اقترح عليّ صديقي وأخي الناقد الكبير د صالح الرزوق أن تنتهي الرواية بنهاية واحدة وهي أعلاه لكن مع ذلك راودتني فكرة استطلاع القارئ الكريم ورأي الناقد القدير الأستاذ جمعة عبد الله:

وذات عصر سبت راودتني جرأة غريبة فعرضت عليها أن نتعشى معا، أو نذهب إلى الديسكو ، بدا السرور على وجهها، واعتذرت عن الرقص، وأكدت أنها لاتحبّذ الديسكو وليست ممن يميلون إلى الصّخب، الطبيعة والتأمل أقرب إلى روحها، فجلسنا في مطعم صينيّ هادئ تناولنا الرزّ وبعض الخضروات المسلوقة. حدثتني أنها اعتادت أن تأكل الطعام الحلال منذ الصغر وبسبب تربيتها وسلوك أمّها أخذت تقرف من أيّ طعام غير مذبوح، كانت تشرب باعتدال، فتجرأت أكثر وقلت، فجأة من دون مقدمات:

مارأيك أن نكمل السهرة عندي في المنزل؟

لا بأس مثلما ترى.

وقلت ونحن نعبر إلى درب sjælland أترغبين أن نمرّ على محل للشاورما يبيع اللحم الحلال؟

لقد أكلت مايكفيني.

مشينا ويدي على كتفها، ثم بعد خطوات طوقت يدها ذراعي. راودني إحساس مرهف، وكانت صورة الأضوية المنعكسة على البحيرة، والظلال الملونة تزيدني حماسا.

وهي ناعسة مثل خطواتها البطيئة.

كل شئ هادئ

وكل ماعلى الأرض والماء ينبع من نعومة لانضير لها

قلبي تزداد نبضاته فأقف، وتقف

وأطبق بشفتي على شفتيها

ثمّ نواصل المشي.. كدت أرى الطريق إلى شقتي طويلا، هي التجربة الأولى لي، وغرفة نومي تنكشف لامرأة. أنثى تدخل بيتي، لا أبحث عن زاوية مخفيه في شارع ميت فألتقط قبلة سريعة منها..

جميل

أعجبك؟

بالتأكيد؟

مجاملة

لا أبدا

أنا لا أحب الفوضى

لم يطل بي الوقت، تمعنت في عينيها، وطوقتها بذراعي،

رحت ألهث

ازداد لهاثي

تأملت فيها جسد سوسن

تخيلت أجساد أخريات

رغبة عارمة لكنني لا أقدر

اتفت إلى فخذها البض وقلت:

أين الفراشة؟

فأطلقت ضحكة قصيرة وقالت

لا أحب الوشم لكن سأرسم لك واحدة

وهوت بشفتيها على شفتي

في رغبة وحماس

ألهث

يداهمني برود

تلتفت إلي وتقول:

لا عليك في ليلة أخرى

كنت أعبر عن إخفاقي بالهرب من عينيها، اشعر أن هناك شيئا ما يمنعني منها.

رغبة

خوف.

حاجز ما

ولعلها رغبت في أن تشجعني كي أخرج من ترددي وعجزي فدعتني إلى قضاء سهرة يوم السبت عندهم في البيت فذهبت وعي حفنة من سمك السلمون والكارب وبعض الremoulade كأنني لاأستطيع بالمرة أن أتخلّى عن أصولي الشرقية، كنا نتحلق حول الماءدة الأب في الطرف تقابله الأم وسوزي جنبي:

كان كل شئ من قبلي محسوبا بدقة. كل كلمة أحسب لها ألف حساب، ولم تفاجئني العائلة بموضوع حساس ماعدا اللقاء االأول الذي كان لابد لحديث الحرب والسياسة ان يفرض أجواءهما فيه:

أظنّ أن عملك راع كما أظنّ أتعتقد لك؟

سألني السيد يانسن وهو يرتشف من رشفة خفيفة من شراب وردي أمامه،

إنه ممتاز.

قال السيد يانسن:

في المستقبل أقترح عليك أن توسع عملك تجد محلا أكبر وتصبح واحدا من تجار السمك.

بقلت شبه معترض:

أنت تعرف السمك كارتل عوائل دنماركية تتوارث تجارة السنمك ولا تسمح لأحد باختراقه.

أنت تعني الصيد أما أن تصبح تاجرا أي أن يكون لك محل في سوق السمك على الساحل تاخذ بضاعتك مباشرة من شركات الصيد.

في بالي هذه الفكرة.

شاطر.

عقبت السيدة أوريت. وسألني:

بكم تشتري السلمون الآن من سوق الجملة؟

19 كرونة.

حسنا يمكن أن تشتريه من شركات الصيد ب9 كرونات وتتعرضه في محلك.

قلت بشئ من التفاؤل:

هذا يتطلب مالا ووقتا على الأقل أعمل في محلي الحالي خمس سنوات.

فخرجت سوزي عن صمتها:

يمكن أن تساعده من خلال ومعارفك وعلاقتك بالسوق.

يبدو أنك وضعت قدمك منذ الخطوة الأولى على الطريق الصحيح.

قالت السيدة أوريت وتناولت بالملقط قطعة دجاج وضعتها في صحني، التقت عينانا، فشعرت ببعض الحرج وليست الرهبة كما كنت عليه من قبل.

يجب أن تأكل هذا كلّه

ضحك الأب وقال:

في تونس ألحوا علينا أن نأكل الطعام كله يعدونه كرم الضيافة.

اليهود العرب يتصرفون مثلنا.

وانبرت الأم:

لا ليسوا يهودا العائلة التي استضافتنا عرب مسلمون توانسة

تدخلت سوزي:

براحتك لا ترهق نفسك لست ضيفا ولسنا في تونس.

وفي صالة الاستقبال تناولت معهم الجبن مع الشاي شأن اية عائلة دنماركية بعد العشاء.. كنت أجلس جنب سوزي التي قدمت لي صحن الجبن والحلوى، وقبلتني قبلة طويلة من شفتي. شعرت بالإحرج.

خجل

داريت ارتباكي

داريت شعوري بالإحراج فطبعت قبلة على يديها، المشهد عادي عندي في الطريق، رأيت عشاقا يقبل بعضهم بعضا وأبصرت رجلا قبل رجلا من شفتيه. كنت الوحيد الذي يبتسم، وقبلت سوزي من قبل أمام البحيرة، فكيف ارتبكت أو شعرت بالضيق.

وواجهت مفاجأة أخرى حين دخلت غرفتها. بهرن لونها التركوازي الخافت، والستائر الزيتونية ذات الدواءر فأطرت على ذوقها، فضحكت برشاقة، ورفعت ساقها إلى حافة الفراش. قالت أغمض عينيك!

استدرت نحو الحائط فشعرت بيدها تلامس حنكي وتستدير بوجهي إليها:

التنورة منحسرة إلى مافوق ركبتها.

وعلى فخذها اليسار فراشة حمراء جميلة.

هل تعجبك؟

اروع وشم.

انحيت على الفراشة، وأنا اردد:lad mig kusse din sommer fugl

عالم الفراش الأحمر وبعد سورة محمومة، قالت:

سأختار لونا آخر للوشم الجديد.

قبلت فراشتها وقبلت

الرغبة المحموعة تراودني

اللهاث

والا أستطيع أن أفعل شيئا.

أعرف أنه ليس العجز، زارتني مرة أخرى في البيت ، قضينا ليلة معي:

تعرت وبدا فخذها بفراشة بلون أزرق

لون الماء

ابحر

وقف أمام السرير. خلعت ملابسها قطعة قطعة، هبطت إجثو أما ركبتيهانقبلت فراشهاوشعرت بيديها تمسحان على شعري:

خذني قبلني

قالت البطلة للبطل

فهل أكون باردا مثله

لكنه لم يذهب ليجري فحولته مع البغايا، يمكنني أن ابرهن على فحولتي باية طريقة تعجبني:

هناك عجز طارء. اداعيب عضوي بيدي فكون انتصاب.

قد أكون عاجزا مع امرأة فحلا مع غيرها

أكثر من محاولة

واكثر من زيارة لي في الدار

كل مرة إخفاق

مر شهر.. شهران، ومازال البرود يراودني

تأتي غلى المحل تتحاشى النظر إلي

وأتحاشاها

وقد غابت سوزي.. تلقيت مكالمة منها بعد أربعة أسابيع من محاولات يائسة:

عزيزي لاأريد أن اسبب لك إحراجا.. هناك لديك عقدة تقدر أن تتجاوزها مع امرأة غيري..

وأغلقت الخط، وكنت أعود إلى المنضدة ألبي طلبات الزبائن. وقد تلاشت أحلام كثيرة قبل أن يزداد الشتاء عنفا فيجمد ماء البحر لأعبر مع سوزي عليه.

 *** 

قصي الشيخ عسكر

 

أَنتِ

قبلةٌ موقوتة

دائماً أَتوقَّعُ انفجارَكِ

في قلبي

أَو في بيتي

أَو في حياتي

التي هي الاخرى

أَصبحتْ موقوتة

بحضوركِ النوراني

الذي يأخذُ شكلَ الغيابْ

وضوءَ الترابْ

واشراقاتِ صلاتي

كناسكٍ منفيٍّ

في روحكِ القلقة

مثل بلادي التي أَصبحتُ

أُحبُّها حدَّ الوجعِ والذكرى والنزيف

*

أَنتِ القبلةُ

التي تُحييني

كُلّما داهَمَني هجيرُ هذا العالمِ

الطاعنِ بالجفاف

والتصحّرِ والكراهيةِ السوداء

*

أَنتِ قبلةٌ ساخنةٌ

مثلَ رغيفٍ بلدي

دائماً تُشرقينَ كشمسٍ

من تنّورِ قلبي

قلبي المولعُ بلهبكِ وشغبكِ

وجنوناتكِ وحكاياتكِ

وكركراتكِ الطفوليةِ

وعشقك الذي لايُشبههُ

ايَّ عشقٍ في العالم

*

أَنتِ قبلةٌ

تمشي على نهرين

دائماً يرْويانِ روحي

الهيمانة بياسمينك

ونسغكِ الرافديني

الذي لايجفُّ أَبداً

ويبقى يغمرُني بالحبِّ

والخضرةِ والبهاء

*

أَنتِ قبلةٌ هائلةٌ

رُبَّما بحجمِ الارضِ

ورُبَّما بحجمِ الحنينْ

وأَنتِ دائماً تتوهجينَ بي حُبّاً

وعطراً وجنوناً

وأَحلاماً شاسعةً مثلَكِ

يا قُبْلتي وبلادي

وملاذي الأَخير

***

سعد جاسم

اتركي لنا كذبة بلون الرجاء

يا حياة

كذبة لا تدوس على

خواطرنا

فتجرح الصراط

نمشّط بها جدائل الليل ونغفو

نزرع من جديد في البقاء رغبتنا

في حقلك الممتد

رملا

أو نفرك جلدكِ الموشوم بالنجومِ

لو تطاير من نشوته الخيال

نلوك الأمنيات بكلِّ الحواس

وندسّ ما نشتهي من أحلام

عند أروقة المجد.

*

كذبة تفسّر

لنا الطعنات عند كل باب

تطاردُ هذا العصيان وهو يعدو إلى حتفه

يقولُ شيئا ما أمامكِ ويبكي

دعي كل الكذب المرقّط يمرّ

حتى يصطاد أعذب الصباحات

بما يليق بهذا الخيزران أن يحترق

ليتحوّل إلى شغفٍ طائشٍ

ممهور بحريّة خجلى

*

كذبة لا تندبُ حظّها

كما تفعل دمية بلهاء

لكنها تتحرك الآن

رغم انها محشوة بالقشِّ

تسكتُ طوال العام

وفي اليوم التالي تتزوج

تنجبُ ما يملأ الحيّ من فوضى

*

كذبة نفرّ منها

لتأخذنا العصافير

تعلمنا كيف تهترىءُ منها السماوات

*

كذبة ترشدنا

إلى وجه قصيدة

لا تخطرُ على بال

تكبرُ

كلما رشّت الكلمات على تجاويفها

معاني النسيان.

***

زياد كامل السامرائي

لنا بـ(ذي قار) أهلٌ كلهم نُجُبُ

إذا دعونا نلبِّيهم إذا احتربوا

*

نذود عنهم بأرواحٍ مدججةٍ

بالإنتماء .. فإنّا فتيةٌ عَرَبُ

*

لم يُثنَ مِنّا شريفٌ حينَ نخوتِهِ

و لن يكونَ إلى إخفاقةٍ سببُ

*

من (قار ذي قار) مشحوفٌ يسامرُنا

في مائس الهور يحلو الأنس و الطَّربُ

*

ما يجذف المرء في أمواج وجهتهِ

يشتدُّ بالعزمِ .. لن يُضني به التَّعَبُ

*

و لا الخنازيرُ تثنيهم إذا اقتحموا

خوفَ (الچباشاتِ) في يومٍ إذا وثبوا

*

أهلي صناديدُ هذي الأرض (فالتُهم)

صنو (المگاویر) محتلاً بها ضربوا

*

لا يرهبون إذاما أشتدَّ بأسُهمُ

أهلي الصَّناديدُ ما يوماً هنا غُلِبوا

*

ما خافوا (طاغوتَ) مُذْ أن كان يقصدُهمْ

إذ جفَّفَ الهورَ .. ماءَ الغيم قد شربوا

*

ثاروا على الحقد .. شاء الحقدُ يصلبُهم

مثلَ (المسيح) سموا لله .. ما صُلِبوا

*

هم فتية ﷲ .. أفذاذٌ بمطمحهم

قبل الحضارات هم بالطِّين قد كتبوا

*

سنّوا القوانين كي يحيوا حياتَهمُ

و (شعبُ أوروك) ما شانوا و لا نهبوا

*

أعلَوا على الأرض (زقّوراتِ) معبدِهمِ

كي يعبدوا الرَّبَّ .. لم تنبئهم الكُتُبُ

*

حتى أتاهم نبيُّ ﷲ يرشدهم

بأنَّ ربّاً هُمُ اختاروهُ مُنْعَطِبُ

*

رَبُّ الأساطير غيرُ ﷲِ في زمنٍ

لم يعرفِ الناسُ فيهِ ﷲَ فانقلبوا

*

منها إلى الدِّين .. حيثُ ﷲُ علَّمهمْ

حقيقةَ الغيبِ .. عنها الناسُ قد رَغِبوا

*

فجاءَ (إبراهيمُ) بالأديان سلسلةً

بالأنبياء ولم يفتأ بمن عقبوا

*

حتى النَّبيِّ .. وقد أرسى عقيدَتَهُ

في خاتَم الرُّسْلِ موصولاً بهِ النَّسَبُ

*

و في الظُّهور .. غداً يأتي لعالمنا

مع (المسيح) وصيٌّ نحنُ نرتقبُ

*

فيملأُ الأرضَ عدلاً كان مُنتَظراً

و يمحقُ الظُّلْمَ فيه الفوزُ و الغَلَبُ

*

و حين ذاك يعيشُ الخَلْقُ في رَغَدٍ

من بعدما الناس حقَّ العيش قد سُلِبوا

***

رعد الدخيلي

 

 

أختنق بالحياة

أحيانا

أختنق برائحتها

الغريبة

بألوانها

المستهلكة

بوجوهها التي تشبه كل

الوجوه التي عبرت

ارصفتي..

و التي لم تعبر ايضا

أختنق..

و أشتهي ان اجرب  الموت قليلا ..

قليلا..

حتى لا تاخذني الغفوة

الى وهم الحياة من جديد ..

ربما علي أولا

ان اتخلص  من

رائحة الحزن في

يدي ..

الموت لا يحب التعساء

يتركهم لأنهم يثيرون شفقته

و يأخذ السعداء

ليملأ ثقوب وجهه

بآخر ابتسامة لهم

يختنق الوقت

في  نهايات الحلم

يتمدد في دمي

مثل فراشة يدور

حول محور فراغي

و يضيق

امد يدي حولي

لأبرهن  ان

الفراغ ايضا

قد يتسع

لبعض الجنون

قلت ربما أهذي

او ربما

لم أستيقظ بعد

من اخر غفوة

ربما علي ان أعود الى

الحياة

الآن

قبل ان يسجل إسمي في عداد

المفقودين..

ساخذ معي

إسمي

و سرا صغيرا من طفولتي

و أغادر الحلم الآن

ربما الآن

او بعد قليل

لا ادري..

برد  شديد في الخارج

و غيمات الدفئ هنا تكفي

وطنا من الثلج

هل أنتظر جرعة الماء

ام أعود كما في كل مرة

بظمئي

كان الصباح يناديني

بصوت أعرفه

و لا أعرفه

و  الكلمات تقفز في دمي

و تموت من العطش على شفتي

و الصوت يصعد حتى

آخر بستان

في روحي

و يعود محملا

بالامنيات

الآن فقط أدركت

أنه أنت من كان يناديني

يحدث ان تأتي

الدنيا

بلون الفجر الدافئ

بين كفي

عشق جامح

سأنهض الآن

بلون جديد..

بوجه جديد..

بحب جديد..

***

بقلم: وفاء كريم

 

 

دقّاتُ الساعةِ تُعلن تمام الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت جالسا في غرفة المكتب، لا أقو على الحراك، أدفن رأسي بين يدي، أضغط بهما عليها؛ أحاول أن أسكت الصوت بداخِلِها دون جدوى، ظلَّ يَطرُق البابَ في إلحاح، يأملُ في العودة، يشتاقُ إلى الظهور، يتمنى لو يتردد صداهُ، وأن يحتلَّ تلكَ المساحةَ الشاسعة بداخل عقلي مرةً أخرى؛ على أملِ أن يحتلَّه كلَّه يومًا ما، كأنَّ مجردَ وجودِهِ بداخله بالنسبة له هو الوجود.

اختبرْتُ نفس الحالة معه كثيرًا من قبلُ، إنها أوقات، تأخذُ من وجداني، وتُسَيِّرُ عاطفتي، وتهيِّجُ أشجاني كيفما تشاء، لكنها بالنسبة له هي الحياةُ، كلُّ الحياة.. وفي كل مرةٍ طالتْ أم قصرت أختار رجوعَه، على الرغم من علمي بما أمرُّ به في تلك اللحظات من عذابٍ وقلق وخواء، ومع يقيني من أنه في وقتٍ ما بعد عودته يجبُ أن أقاومَه حتى أمنعَه من احتلالِ عقلي كلِّه، إلا أني في كل مرة أسمح له بالرجوع، وكأنِّى لا أتعلم شيئًا.

يطرق الباب، بمجرد أن أواربَه يجمعُ بقايا قوته في لهفة؛ فيدفعني ويقفز إلى الداخل في سرعة، لا أجد معها بُدًا إلا أن أُفسِح له الطريق.. إنها، وبطريقة ما، بالنسبة إليه دورة حياة، يبدأ فيها همسًا، ثم ينمو حتى يعظم، ثم ما يلبس أن يخفت ويذبل حتى يموت، ومن ثم ينبعث من جديد ليبدأ دورة حياته مرة أخرى، ولكن بثوب جديد.. إنه صوت يطلب الوجود على أمل أن يجد الرحمة، ينشد العودة على أمل أن يجد السعادة التي حُرِم منها طويلًا، يملك الإصرار والدافع في كل مرة ليعود، لعلّه يتعلم من أخطائه، لعلّه يجد الأمان الذى حُرم منه طويلا إلا من تلك اللحظات التي يسكن فيها عقلي، فنتشارك آلامه وعذابه وآماله ورجاءه.. هل أسمح له بالعودة في هذه المرة؟ هل هو حقًّا قراري؟ وما خياراتي؟

إن الإنسان في حرب ضروس مع كل القيود، يطمح إلى كسرها جميعًا، يطمع في أن يجد المجال ليفكر كيف شاء، ويفعل ما يشاء دون رقيبٍ أو واعزٍ أو واعظٍ، على أمل أن يجدَ المطلق، وتكون أنفاسه الحرية، لكنه في كل مرة يستطيع أن يكسر قيدًا، يذهب مهرولًا إلى قيد ما وراء القيد، يذهب سريعًا إلى قيدٍ ما يشتهيه هو نفسه، إلى بواعث كسره للقيد، وما أكثرها من قيود! فهل هي رحلة لاستبدال قيد بقيد، وقيود بقيود؟ أم دائرة الخواء؟! أم الخيارات والقرارات التي يتخذها كل إنسان على حدة في رحلة بحث عن ذات وتحديد هوية، في عمل دؤوب لاستخراج مكنونات نفسه؟

أتذكر ما حدث ذلك اليوم جيدًا، فمع إصابتي التي تَحول بيني وبين مواصلة القتال بجانبه، حاولتُ أن أجعله يعدُل عن التصدي للعدو بمفرده، حاولت منعه من مجرد الظهور لهم، سألته أن يختبئَ حتى يأتي المدد، لكنه لم ينصت إلى كلامي، لقد بدا وكأنه لم يسمع منه حرفًا واحدا، نهض في همة يصرخ ويطلق عليهم النار في جسارة، قتل عددًا منهم وأصاب أُخر، وأتى المدد ليجهز على البقية، كان خياره الذي أنقذ حياتنا.

هو عناده، رُبَّما شجاعته، أو رُبَّما حبه لي ومحاولة إنقاذي هو ما قاده إلى التصدي لهم بهذه الطريقة السافرة.. لا أدري، لقد أعطاني تبريرًا مختلفًا في كل مرة عاد فيها إلى عقلي، لم أراه أو أسمع منه بعد الحرب.. ثم أتاني خبر موته.. سأجمع شتات نفسي هذه المرة؛ لأسأله: “ماذا حدث له؟ كيف لمثله أن يموت بجرعة زائدة من المخدرات؟”

هل اختياراتنا ما تحدد مَن نكون حقًّا؟ أم هي رحلة ما تلبث أن تبدأ لتنتهي، وما تلبث أن تنتهي لتبدأ في استمرارية لامتناهية، على أملِ أن يجدَ صاحبها الرحمة، على أمل أن يجد السعادة، على أمل ألَّا يرتكبَ نفس الأخطاء، على أمل ألَّا يتخذ نفس الخيارات، وعلى أمل أن يجد الطمأنينة والسكينة والراحة؟.. تمامًا مثل ذلك الصوت في عقلي.

***

طارق حنفي

مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، اقْتَحَمَتْ سُكَونَهَا، جَرَفَتْ خَيَالَهَا إِلَى الْبَعِيدِ، وَ..

كَرَّتْ خَرَزَاتُ الْأَيَّامِ وَالْأَعْوَامِ السَّالِفَةِ، وَحَامَتِ الْأَفْكَارُ فِي سِنِيهَا الْخَوَالِي الْجَمِيلَةِ الْمَا تَلَاشَتْ، تُفْضِي بِهَا إِلَى جِرَارِ طُفُولَتِهَا الْتَلَذُّ لِرُوحِهَا، وَتُسْعِدُ قَلْبَهَا.

وَمَا لَبِثَتْ حَنَان تَلْهَجُ بِمَآثِرِهَا الْحَمِيدَةِ، بِحَنِينِ طِفْلَةٍ تَفَرَّدَتْ بِمَحَبَّةِ الْأُسْرَةِ، وَبِمَوَاهِبَ وَمَزَايَا عَالِيَةٍ..

جَعَلَتْ تَفْتَحُ بِأَصَابِعِهَا الطُّفُولِيَّةِ جُعْبَتَهَا الْحَافِلَةَ بِالذِّكْرَيَاتِ، وَمَا أَعْيَتْهَا ذَاكِرَتُهَا الشَّمْعِيَّةُ الرَّهِيفَةُ..

أَخَذَتْ تَسْبُرُهَا بِعَشْوَائِيَّةٍ، تُقَلِّبُهَا، تَنْقُشُ أَحْدَاثَهَا الْمَا عَرَفَتْ لِينَ الْعَيْشِ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا، لكِنَّ وَالِدَهَا كَانَ عَطُوفًا، يَرِقُّ لَهَا، يُغْضِرُ عَلَيْهَا حَنَانَهُ وَيُغْدِقُهُ..

وَبِكُلِّ أَسًى..

أَلْفَتْ نَفْسَهَا عَاجِزَةً عَنْ مُغَالَبَةِ حُلُمِهَا فِي الثَّرَاءِ..

كَمْ كَانَ يَحْدُوهَا الْأَمَلُ وَالرَّجَاءُ..

كَمْ كَانَتْ تُمَنِّي نَفَسَهَا بِالْفَوْزِ وَلَوْ بِبَعْضِ قُرُوشٍ.. وَكَم وَكَم..

ويَهُزُّهَا صَوْتُ أُمِّهَا مِنَ الْمَاضِي السَّحِيقِ الْبَعِيدِ يُغَنِّي الدّلْعُونَا:

الشّايب ما ألوشُه الشّايب ما ألوشُه

لو حطولي الدّهب مَلاة طربوشُه

يلعن الشايب ويلعن قروشُه

شوفة حبيبي تسوى مليونا

لكِنَّ حَنَان عَنِيدَةٌ، لَمْ تَنْطَوِ عَلَى أَحْلَامِهَا الْغَافِيَةِ، وَلَمْ يَكُفَّ رَجَاؤُهَا، فَهَل تَعْجَزُ عَنْ كَسْبِ بَعْضَ قُرُوشٍ تَلْمَعُ، وَهِيَ ذَاتُ بَدِيهَةٍ حَاضِرَةٍ وَسَرِيعَةٍ؟

فَجْأَةً انْدَاحَتْ فِي خَاطِرِهَا فِكْرَةٌ طَارِئَةٌ، فَانْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهَا، وَهَتَفَتْ فِي نَفْسِهَا:

- "نَعَم هُوَ..  هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.. إِنَّهُ كَامِلُ الْأَهْلِيَّةِ..

نَعَم.. هُوَ.. بِقَوَامِهِ الرَّشِيقِ.. بِثِيَابِهِ الْأَنِيقَةِ..

بِوَجْهِهِ الْوَسِيمِ الْمُشْرِقِ، يَتَأَلَّقُ بِشْرًا، وَيَفِيضُ حَيَوِيَّةً..

هُوَ .. بِابْتِسَامَتِهِ الرَّقِيقَةِ الْجَذَّابَةِ الْتَتَلَاعَبُ عَلَى شَفَتَيْهِ..

فَرْخُ شَابٍّ هُوَ، يَبْحَثُ عَنْ رِيشٍ، حُلْوُ الْحَدِيثِ وَالتَّغْرِيدِ..

نَعَم.. هُوَ .. وَقَد دَخَلَ فِي فُرْنِ الْمُرَاهَقَةِ..

يَااااه.. كَمْ يَرُوقُ لِي.."

وَباكِرًا جِدًّا فِي سَاعَاتِ السَّحَرِ وَالْفَجْرِ، يَرْكَبُ أَشْرَف بَحْرَ عَكَّا مَعَ الصَّيَّادِينَ، يُجَدِّفُونَ بِالْقَوَارِبِ، يُلْقُونَ الشِّبَاكَ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ، يُلَازِمُهُمُ الْحَظُّ الْغَائِم، وَفَوْقَ الْأَزْرَقِ الْمُمْتَدِّ يَنْتَظِرُونَ الرِّزَقَ الْعَائِم، يَسْحَبُونَ الشِّبَاكَ، يَجْمَعُونَ مَا يُصِيبُونَهُ مِنْ صَيْدٍ، يَشُقُّونَ بُطُونَ الْأَسْمَاكِ، وَيَضَعُونَهَا فَوْقَ أَلْوَاحٍ خَشَبِيَّةٍ، مِنْ تَحْتِهَا قَوَالِبُ ثَلْجِيَّةٍ.. وَ...

فِي الْبَحْرِ يَتَزَيَّا أَشْرَف بِزِيٍّ بَحْرِيٍّ وَمَلَابِسَ فَضْفَاضَة، تُعِينُهُ لِيَكْسِبَ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْفَضْفَاضَة، وَقَدْ بَانَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ. وَيَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ، يَحْمِلُ لِأُمِّهِ سَمَكًا، وَالْحَمَّامُ السَّاخِنُ يَنْتَظِرُهُ، فَيَغْتَسِلُ.. يَسْتَحِمُّ، وَيَرْتَدِي ثِيَابًا أَنِيقَةً وَيَتَعَطَّرُ..

قَالَتْ حَنَان فِي نَفْسِهَا:

- "أَنَا لَا أُرِيدُ سِوى نُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ..

للهِ دَرّكَ يَا بَحُرُ، وَمَا أَطْلَعَ مِنْ خَيْرِكَ وَكُنُوزِكَ."

جَلَسَ أَشْرَف فِي الشُّرْفَةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى بَحْرِ عَكَّا، وَطَفِقَ كَعَاشِقٍ سَاهِمًا سَارِحًا، يُصْغِي إِلَى ثَرْثَرَةِ الْأَمْوَاجِ، يُحَدِّقُ بِهَا تَتَدَحْرَجُ، تَتَضَاحَكُ، مَدُّهَا يُرَاقِصُ جَزْرَهَا، وَالرِّيَاحُ تُلَاعِبُهُمَا لَعْبَةَ الْقِطِّ وَالْفَأْرِ..

تَوَارَتْ حَنَان عَنْهُ، وَانْزَوَتْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُ، تُرَاقِبُهُ، وَتُنْصِتُ إِلَى حَفِيفِ صَمْتِهِ..

فَكَّرَتْ وَفَكَّرَتْ:

"كَيْفَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَرْشِيه، وَ(الْعِين بَصِيرَة، وَالإيد قَصِيرة)"؟

فَجْأَةً، غَاصَ أَشْرَف فِي صَوْتِهِ يُدَنْدِنُ، فَرَقَصَ قَلْبُهَا هَامِسًا:

- اجت والله جابها..

نَعَم، أَتَتْ وَمِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي.. وَاتَتْهَا الْفُرْصَةُ عَلَى رِجْلَيْهَا، فَاغْتَنَمَتْهَا عَلَى عَجَلٍ وَمَجَّانًا..

جَلَسَتْ بِقُرْبِهِ فَرِحَةً، تُشَارِكُهُ هَدِيرَ الْبَحْرِ فِي انْسِجَامٍ وَتَنَاغُمٍ، وَتُضْفِي عَلَى صَوْتِهِ الْعَذْبِ جَلَالًا:

هَدِّي يَا بَحر هَدِّي/ طَوَّلْنا في غيبتنا

ودّي سلامي ودّي/  للأرض اللّي ربتنا

سلّم لي على الزيتونِة/ وع أهلي اللّي ربّوني

وْبَعْدْا إِمّي الحنونِة/ بتشَمْشم بمْخدِّتْنا

سلِّمْ سلِّمْ عَ بلادي/ تربة بَيي وأجدادي

وبَعْدو العصفور الشّادي/  بِغَرّد لعَوْدِتْنا

خُدي سلامي يا نْجوم/  على البيادر والكروم

وْبَعْدا الفراشه بِتْحُوم/  عمْ تِستنْظِر عَوْدِتْنا

ثُمَّ سَأَلَتْهُ بِتَهَيُّبٍ وَتَوَدُّدٍ ذَكِيٍّ:

- "هَلْ يُغَطِّي الزَّمَّارُ الْمَلْهُوفُ ذَقْنَهُ، حِينَ يَتَكَسَّبَ الْمَالَ"؟

أَجَابَ ضَاحِكًا مُسْتَهْجِنًا:

- طَبْعًا لَا يَجُوزُ.

- أَشْرَف، حِذَاؤُكَ جَمِيلٌ، وَأَرْغَبُ فِي تَلْمِيعِهِ..

هَل تَسْمَحُ لِي؟

أَجَابَهَا بِسُرُورٍ دُونَ تَرَدُّدٍ:

- يُسْعِدُنِي.. لَيْتَكِ تَفْعَلِينَ..

- وَكَمْ تُعْطِينِي؟

فَاجَأَهُ سُؤَالُهَا الْمُبَاغِتُ، فَكَّرَ بِتَأَنٍّ، وَابْتَغَى أَنْ يُدْخِلَ السُّرُورَ إِلَى قَلْبِهَا، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةِ رَجُلٍ وَاثِقَةٍ:

- أُعْطِيكِ مَا فِي جَيْبِي مِنْ عِمْلَةٍ مَعْدَنِيَّةٍ (فْرَاطَة)..

- وَهَلْ تَبِرُّ بِوَعْدِكَ؟

- أَكِيد.. وَدُونَ شَكٍّ..

انْفَرَجَتْ أَسَارِيرُ حَنَان، وَتَوَهَّجَ قَلْبُهَا الْمَحْرُومُ غِبْطَةً، بَعْدَ فَتْرَةِ حِرْمَانٍ وَفَقْرٍ وَفَاقَةٍ..

انْتَعَشَ أَمَلُهَا الْمَقْرُورُ مُسْتَدْفِئًا وَغَنَّى، إِذْ هَبَطَتْ عَلَيْهِ ثَرْوَةٌ، تُعَمِّرُ مِنْ لَحْظَاتِ طُفُولَتِهَا الشَّقِيَّةِ قَصْرًا وَدُمًى وَحَلْوًى.

تَرَنَّحَ الْفَرَحُ بَيْنَ جَوَانِحِهَا وَفِي جُيُوبِهَا الْفَارِغَةِ، فَبَدَتْ أَكْثَرَ انْشِرَاحًا، غَدَتْ مَسْحُورَةً تَتَدَفَّقُ حَرَارَةً، تَرْكُضُ، تُهَرْوِلُ،  كَفَرَاشَةٍ تَطِيرُ، تُحْضِرُ عُلْبَةَ الدِّهَانِ (الْكِيوِي) وَالْفُرْشَاةِ..

تَرَبَّعَتْ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَضِنُ الْحِذَاءَ، تَدْهَنُهُ بِلَهْفَةٍ ، تَدْعَكُهُ بِحَنَانٍ، تُلَمِّعُهُ بِخِرْقَةِ قِمَاشٍ قُطْنِيَّةٍ، وَيَفُوحُ صَوْتُهَا يُغَرِّدُ بَعْدَ دَقَائِق:

- حِذَاؤُكَ صَارَ يَبْرُقُ بَرْقًا.. يَلْمَعُ لَمَعَانًا..  صَارَ يَلِضُّ لَضًّا..

يُمَازِحُهَا أَشرَف مُدَاعِبًا:

- تمَاري فِيهِ، وَإِذَا شُفْتِ صُورتك أَدْفَع لَك..

ثُمَّ يُكَافِئُهَا باشًّا مُلَاطِفًا، وَيَضَعُ فِي كَفِّهَا حَفْنَةً مِنَ الْقُرُوشِ وَالتَّعَارِيفِ وَالشُّلُونِ، فَتَطِيبُ نَفْسُهَا بِهَا، وَيُشْرِقُ وَجْهُهَا لَهَا..

تَلْمِيعُ أَحْذِيَةٍ؟

نَعَم، هِيَ مُهِمَّتُهَا الْيَوْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ الرَّسْمِيَّةُ، دُونَ حَرَجٍ أَوْ رَشْوَةٍ، تُلَمِّعُ الْحِذَاءَ، وَتَلْمَعُ الْقُرُوشُ فِي جَيْبِهَا..

وَمَا أَسْعَدَهَا بِمُهِمَّتِهَا وَعَمَلِهَا الْجَدِيدِ!

وَمَا أَهْنَاهَا بِقُرُوشِهَا وَشُلُونِهَا..

لكِنْ؛ ذَاتَ مَوْجَةٍ نَزِقَةٍ.. لَمَعَ الْحِذَاءُ، وَمَا لَمَعَتْ جَيْبُهَا بِالْقُرُوشِ، بَلْ قَدَحَتْ عَيْنَاهَا شَرَرًا، اتَّقَدَتَا نَارًا، وَاشْتَعَلَتَا  لَهَبًا حَارِقًا، حِينَ نَغَّصَ أَشْرَف بَالَهَا، وَعَكَّرَ صَفْوَهَا قَائِلًا:

- لِلْأَسَف، الْيوم جيوبي فَارغَة مِنَ الْفراطة والفرايط..

فَغَرَتْ حَنَان فَمَهَا عَلَى مِصْرَاعِهِ فِي حَالَةِ دَهْشَةٍ عَمِيقَةٍ، مَطَّتْ شَفَتَيْهَا حَنَقًا، وَرَمَتْهُ بِنَظْرَةٍ بُرْكَانِيَّةٍ خَامِدَةٍ مُسْتَفْسِرَةٍ:

"هَل تَتَمَرَّدُ وَتَغْضَبُ؟

هَل تَضْرِبُ صَفْحًا عَنْ عِصْيَانِهِ وَتَسْكُتُ؟"

كَانَ أَشْرَف يَقِفُ عَلَى قَيْدِ خُطْوَةٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُفَّ عَنِ الاسْتِمْرَارِ فِي إِثَارَتِهَا، بَلِ اسْتَرْسَلَ فِي اسْتِفْزَازِهَا، يُجَارِيهَا فِي لُعْبَةِ التَّوْتِيرِ وَشَدِّ الْأَعْصَابِ قَائِلًا:

- إِنْ كُنْتِ لَا تُصَدِّقِينَ، مُدِّي يَدَكِ إِلَى جُيُوبِي وَافْحَصِيهَا.

هَيَّا..  تَأَكَّدِي بِنَفْسِكِ..

وَدُونَ تَرَدُّدٍ مَدَّتْ حَنَان يَدَهَا إِلَى جَيْبِهِ الْأُولَى، بَحَثَتْ وَبَحَثَتْ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى جَيْبِهِ الْأُخْرَى، قَلَّبَتْ شَقْلَبَتْ بَحْبَشَتْ، لكِنْ خَابَتْ مَسَاعِيهَا، ولَمْ تَجِدْ مُنَاهَا وَمُبْتَغَاهَا..

بِكَامِلِ خِذْلَانِهَا وَذُلِّهَا كَانْتْ، فِي حَالَةٍ أَدْعَى إِلَى الْيَأْسِ وَالْخَيْبَةِ الْمَرِيرَةِ، لكِنْ، كَانَ يَنْقُرُ أَبْوَابَ أَعْمَاقِهَا هَاتِفٌ نمْرُودٌ عَاصٍ يَهْمِسُ بِاللَّامُسْتَحِيلِ..

تَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهَا، وَجَمَ وَجْهُهَا، وَنَمَّ عَنْ سُخْطٍ وَتَبَرُّمٍ، فَانْتَزَعَتْ يَدَهَا مِنْ جَيْبِهِ غَاضِبَةً ثَائِرَةً..

وَكَمَا الْبَحْرُ يُبَطِّنُهُ هُدُوءٌ وَحْشِيٌّ، أَفْلَتُ الزِّمَامُ، عَجَّ هَدِيرُ صَوْتِهَا وَضَجَّ، وصَارَتْ تَشُطُّ وَتَنُطُّ صَارِخَةً:

- وَلكِن بَيْنَنَا اتِّفَاقِيَّة .. هَل نَسِيتَ؟

إِسَّا إِسَّا بدّي القروش.. هذا حقّي.. هذا حقّي..

وَقَفَ أَشْرَف مَذْهُولًا، تَعَاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ، أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ هُنَيْهَةً، وَطَفِقَ يَتَخَيَّرُ كَلِمَاتٍ لِتَهْدِئَتِهَا..

لكِنْ كَيْفَ، وَقَد أَلمَّتْ بِهَا نَوْبَةُ بُكَاءٍ حَارَّةٌ، فَخَرَجَتْ عَاصِفَةً تَجْرِي، وَتَوَارَتْ عَنْ نَظَرِهِ..

هَمَّ بِاللِّحَاقِ بِهَا، فَمَا أَدْرَكَهَا، وَتَوَقَّفَ مُسْتَغْرِبًا مَا يَحْدُثُ عَلَى غَيْرِ تَوَقُّعِهِ، وَ..

آثَرَ الَّصَمْتَ.. إِيثَارًا لِلسَّلَامَةِ وَالْمُسَالَمَةِ..

وَمَا هِيَ إِلَّا هُنَيْهَات، وَإِذَا بِها تَعُودُ زَوْبَعَةً صَاخِبَةً تُزَمْجِرُ وَتُهَدِّدُ..

تَوَقَّفَتْ أَقْدَامُهَا .. وَمَا تَوَقَّفَ إِقْدَامُهَا..

وَنِكَايَةً وَتَشَفِّيًا بِهِ، رَفَعَتْ يَدَهَا الْمُلَطَّخَةً بِالْوَحْلِ فِي وَجْهِهِ، أَمْسَكَتِ الْحِذَاءَ اللَّامِعَ بِيَدِهَا النَّظيفَةِ، وَصَرَخَتْ بأعلى صوتها:

- وشَرَفِي وشَرَفَك..

أَمَرْمِغ كُنْدَرْتَك بِالْوَحْل، أَو تعطِينِي القرُوش؟

هَرْوَلَ أَشْرَف صَوْبَهَا، وَظَلَّ مَالِكًا أَعْصَابَهُ وَصَوَابَهُ، هُوَ السَّمِحُ الْمُتَسَاهِلُ، هُوَ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ أَمْسَكَ بِيَدَيْهَا، وَبِنَظْرَةٍ عَامِرَةٍ بِالْحَنَانِ انْفَجَرَ ضَاحِكًا:

- أُخْتِي الْحَبِيبَة..

هَدِّئِي رَوْعَكِ، سَكِّنِي جَأْشَكِ وَأَنْصِتِي ِلي..

الْقُرُوش مَعِي، أَفْرَغْتُ جُيُوبِي مِنْهَا لِأَمْتَحِنَكِ..

وَقَدْ نَجَحْتِ بِامْتِيَاز..

*

أُخْتِي الْحَبِيبَة.. صَدِّقيني

هُوَ مَقْلَبٌ مِنْ مَقَالِبِ الْحُقُوقِ..

*

وَأَنْتِ مَا كُنْتِ مِثْلَمَا قَالَ الْمَاغُوط:

"أَعْطُونَا الْأَحْذِيَةَ وَأَخَذُوا الطُّرُقَاتِ"

ثُمّ.. دَسَّ الْقُرُوشَ فِي يَدِ حَنَان، وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا يَدَهَا بِيَدَيْهِ..

وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهَا وَيَسْتَسْمِحُهَا..

لكنَّ حَنَان الطِّفْلَةَ الْوَدِيعَةَ استحالتْ لَبُؤَةً جَرِيحَةً؛

انْدَلَعَتْ ثَوْرَةُ إِعْصَارِهَا ومَا سَكَنَتْ..

بَلَغَتِ الْقِمَّةَ..

وبِغُلِّهَا ومِنْ أَعْمَاقِ جُرْحِهَا..

بِمِلْءِ فِيهَا وَبِكُلِّ مَا فِيهَا...

زَأَرَتْ زَئِيرًا مُدَوِّيًا:

- "أَعْطُونَا الطُّفُولَة؟

"أَعْطُونَا الثُّوَّار؟

أَخَذُوا الثَّوْرَة؟"

حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، وَثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، تَتَحَدَّى الْقُرُوشَ الْكَبِيرَةَ، وَتَثْأَرُ لِكِبْرِيَائِهَا..

رَمَتِ الْقُرُوشَ بِعَزْمٍ، قَذَفَتْهَا بحُرْقَةٍ، فَانْتَعَفَتْ فِي أَرْجَاءِ الْغُرْفَةِ وانْتَثَرَتْ فِي زَوَايَاهَا، وَصَفَقَتْ تَرْتَطِمُ، وَكَالْقَذَائِفُ تُدَوِّي بَيْنَ الْجُدْرَانِ وَالْأَرْكَانِ، تَتَعَثَّرُ وَتَتَبَعْثَرُ..

حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، ثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، وَ..

قَذَفَتْ عَنْهَا زَبَدَ خُنُوعِهَا وَقُنُوطِهَا..

وَمِنْ يَوْمِهَا..

فَرَطَ الِاتِّفَاقُ.. وَانْفَرَطَ الْوِفَاقُ..

مِنْ يَوْمِهَا..

فَرَطَ وَعْدُ مَسْحِ الْأَحْذِيَةِ، وَعَهْدُ تَلْمِيعِهَا، وَمَجْدُ تَقْبِيلِهَا..

وَمِنْ يَوْمِهَا..

انْتَهَى عَهْدُ الْكُرُوشِ وَالْقُرُوشِ، وَزَالَ وَعْدُ الْفَرَافِيطِ والْفرَاطَة..

***

آمال عوّاد رضوان

 

في هدأةِ انتظارِ مايَكون

تَنَهدّتْ حَواسُنا

فعَضّتِ الأشواقُ أسبابَ الحَياءْ

لتَصرَخَ القُبَلْ

وتُسدَلَ الجُفون

ويرتَقي علىٰ ارتباكِنا اشتِهاءْ

أتَعذُلينَ الليلَ إنْ أباحَ صمتُهُ

تَأوّهَ الشِفاه

ولَهفةَ العيونْ

ليُسْلمَ الصَباحَ ما طوىٰ الذراعْ

ورَغبةً لم تكتمِلْ

*

شَفَتاكِ أسرَجَتا جَواديَ الطَليقْ

لينهبَ الوِهاد

ويسبقَ الأنفاسَ في ارتعاشِها الخَليع

وَلْتعْرِفي

أنا فارسٌ لا أمسِكُ اللّجام

أو أستريحَ في مَخابئِ الظلام

فلتَنشري نَسائمَ الشُروعْ

ولتَبسطي الطَريقْ

*

أوقَدْتِ جَذوةَ حُبّكِ .. فاعرفي

إنّي هَشيمٌ تَشتَهيهِ النارْ

لمْ تَسألي .. ماذا أنا

هل أكتَفي

وجَعَلتِ من عُنُقي مَزاراً

خَلّفَتْ شَفتاكِ حِنّاءً بهِ

كي تُعلِنا

ما تغفلُ الأبصار

وعليهِ من أنفاسكِ الحَرّىٰ

سَعيرٌ

لامعٌ في عتمةِ الأسرار

*

عنقودُكِ المَخضوبُ من نَسغِ الهوىٰ

يَختالُ كالجِنيّ ..

يَشْتَمُّ كالأفعىٰ الهواءَ إلى فَمي

ريّانُ يبحثُ عن يَدي

عن أصْغَري

لمّا تدلّىٰ

صارِخاً في صَمتهِ

وجرىٰ لهُ تَوقي كما يَجري دَمي

أدرَكتُ أنّ الحُبَّ يُسقىٰ .. يُشتَهىٰ

كالخَمرِ من دِنٍّ طَري

*

تُقرّحُ النجومُ نَظرَتي لها

فتَحتَها

بلا حَياء

عَصَبتُ إثميَ العاري .. كما

حَقنتُ أوردَتي هوىً .. ومُبتَغىٰ

ولم أزلْ أُسائِلُ السَماء

كي أرتَوي

كأنني .. أنقىٰ .. إذا

بَذَرتُ حَبّاتي بأقبِيةِ النِساء

***

عادل الحنظل

كانَ الجميعُ في ليالي الصيفِ يصعدونْ*

إلى سطوحِ دورِهمْ

وقبلَ نومِهِمْ

يراجع الكبارُ  ما مَرّ  بِهِمْ

وما الذي يُمكِنُ أنْ يأتي لَهُمْ

في غدِهِمْ

كان الصغارُ  يَحْلُمونْ

بأن يَعِدّوا ما يستطيعونَ من النجومْ

فيبدأ العَدُّ

ولكنْ كلَّهم بالعَدِّ يفشلونْ

فتأخذُ الظنونُ بعضَهُمْ

و بعضَهُمْ في الوهمِ يَسْبَحونْ

فيَحْسِبونَ الّليلَ كلّما

يقتربُ الفجرُ  مِنَ البُزوغْ

يغازلُ النجومْ

يُسْمِعُها همساً رقيقاً حالما

لكنّها تروغْ

تهربُ منه عندما

يستيقظُ الفجرُ

فتمضي باسمةْ

لتنفقَ النّهارَ  نائمةْ

وَهْيَ تغنِّي حالمةْ

للصحو  وقتُهُ

وللمنام وقتُهُ

وإنّني

أبُصِرُ  في النومِ الضّياءَ كلَّهُ

شعر : خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

***

....................

* كان من عادة العراقين في أزمنة سابقة، النوم فوق سطوح منازلهم خلال أيام الصيف بسبب الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، و عدم وجود أجهزة تبريد في حينه، ولكن  هذه العادة بدأت في الاختفاء بعد أن توفرت أجهزة التبريد، كما ساعدت على اختفائها ظاهرة الرمي العشوائي، والرغبة في بناء ملحقات أو شقق سكنية فوق سطوح البيوت.

 

أحملك سرا

بينَ ثنايا لُجّتِي

فِجاجِ ارتباكِي

كلما ثَقُلَ

ازدادَ الحَنِينُ أَلَقًا

وازددتُ أنوثةً

حتى مدارِ الموتِ

*

أَحْمِلُكَ....نظرةً

بينَ أَهدَابِها

تمرُّ سُهُوبي

حاملةً ذنوبَها المكلومةَ

وخطايا تئنُّ

من فرطِ المُصَادَرَةِ

بعدما انتهتْ

من تسبيحةٍ دامتْ

جُوعًا ...وكثير ظمأٍ

*

أَحْمِلُكَ ...لُغْزًا

في الناحيةِ الوسْطَى

لجِهتي اليُسْرَى

وكلُّ ما على اليسارِ ممنوعٌ

فكيف يَفُكُّ غُموضكَ المبطنَ

وضوحي الفلكي؟

*

أَحْمِلُكَ....نارًا

كلما التهبتْ

في الممشَى الشّجرِي

من عُمري المَاضِي

أزهرَ الرمادُ

وعبقَ عطرُ الانتشاء

مساحاتِ الغياب

*

أحملك.....جنونًا

يُشكلني خارجَ القوانين

مهرةً بريةً

ترفضُ القيودَ

مهما كانتْ لآلئُها

تخترقُ نقاطَ العبور

تتسلقُ الأسوارَ المقدسةَ

لتتوقفَ أمام جداريةِ العشقِ

وقد تخلصتْ

من هرطقةِ الممكنِ

وكلِّ ما كان

*

أحملك....أغنيةً

تُلقِي صداها على وجهِ البحر

ينتصبُ الغروبُ محرابًا

أقفُ عليه وأعلنُ =

أني تنازلتُ

عن السندسِ والإستبرق

من أجلِ زغرودة

تمسحُ عن ملمحي

غبارَ الأرق

وسهدَ الليالي

*

أحملك....وشمًا في الذاكرةِ

لم يحظَ مذ شهرزادُ

بتنهيدةٍ تشقُّ وجهَ الرخامِ

لتعبرَ الأغاني

دونَ وصايةٍ

من حنجرةٍ أتعبتها الحشرجةُ

فظل الحلمُ أسيرًا

بين الوريدِ والوريدِ

*

أحملك....ابتسامةً

كلما ارتسمتْ

على شاشةِ أفقي

وجدتُ البحرَ على يميني

الشمسَ على جبيني

والأرضَ نفسا

عتيًّا بالضياء

فاحشا بالرواء

*

أحملك....حلمًا

يحيا ...ويحيا

في نبضِ الدماءِ

رؤيا تهوى الاختناقَ

في عيونِ الريحِ

زمنًا هاربا من أقفالِ القدر

نجمًا يُغالبُ الغيمَ

حاضرًا في الثنايا

مهما حجبتهُ السحبُ

ومهما أمعنتِ الريحُ في البعثرة

*

أحملك.... موتًا

منقوشًا على جدرانِ الروحِ

أسَألَه كلَّ ليلة

رخصةَ فرحة

شهادةَ انبعاث

قبل أن أنتثرَ

رمادًا على صفحةِ انتظار !

*

أحملك .....جرحًا دفينا

أكبرَ من سدرةِ الجسد

مفتوحًا على آخره

نازفًا بين الأرضِ والسماء

فاتحا أخاديده

لاحتضان لُهبان الشوقِ

آخرُ البَرْءِ الكيُّ

فهل تُراه به يندملُ ؟

*

أحملك .....مخاضا عسيرا

أجوبُ به أرجاءَ الزمانِ والمكان

أطوفُ الأضرحةَ

أستجدي العرافاتِ

أن يضربن الودعَ

لأعرف متى ...كيف .....وأين

يكون الوضع...؟

أقمتُ الزارَ تلو الزار

عل الجنينَ يكون نجما

وتكون السماءُ

أرضَ لقاء !

*

أحملك ......حنينا

سلالاتٍ من شعرٍ

تفتحُ مغاليقَ البلادِ

يصيرُ الترابُ

سبائكَ غَزَلٍ

تحفرُ في ذاكرةِ الوجدِ

حتى آخرِ عروقِ النبض

*

أحملك ....سمفونية

أسفي بها النشازَ

ليعلو لحنُ الشوق

هجيرًا يضربُ قلاعَ الروح

لترتفعَ مواويلُ الاحتراقِ

فوق كلِّ الأبجديات

*

أحملك.....

ومازلت أحملك

حلما لا حدودَ له ...

أرويه بالدمعِ والبَرَدِ

أغذيه عذبَ النزيف

ليحيا حتى .... بعثِ ما بعد البعث

***

مالكة حبرشيد

 

الكلُّ يجري خلفَها لكنّها

تختارُ (مسّي) كي يكونَ أمينَها

*

يسعى بها سعيَ القَطاةِ بفرخِها

قَلِقاً يجسُّ شِمالَها ويمينَها

*

حَدِباً عليها خشيةً من باشقٍ

مترصدٍ حركاتِها وسكونَها

*

كرةٌ كسهمٍ إذ يفارقُ قوسَهُ

فتُصيبُ في المرمى هنا تسعينَها

*

عابوا عليهِ نحولَهُ لكنّها

نفْسٌ أبَتْ إلا الخلودَ قرينَها

*

الأرضُ تقرُبُ حينَ يهجُمُ نحوَهم

وتصيرُ أبعدَ إذ يذودُ حصونَها

*

شبحٌ على كلِّ الجهاتِ مُقسَّمٌ

كلُّ الشعوبِ رمت عليهِ عيونَها

*

عشبُ الملاعبِ من خُطاهُ مُبلَّلٌ

وبرقصةِ التانغو أثارَ جنونَها

*

وأحبَّهُ الحُكّامُ؛ لا خطأٌ إذا

لمسَ الكراتِ بكفِّهِ ليَزينَها

***

د. عبد الله سرمد الجميل

 

 

زحام على متن سفينة

 تكاد تغرق

***

أزدحم بالوقت

أزدحم بزخم اللغة

أزدحم بالمسافات

بالطرق غير المعبدة

أزدحم بالأرصفة

والناس

والحوانيت

وباعة الطرقات ...

أزدحم بالمواعيد

ازدحم بالاعترافات

أزدحم بثقيلي الظل

ممن يتلعثمون كلما تقاطعت نظراتنا

تزدحم بى الأمكنة

تضيق ذرعا بالذي أنهكها

أسال الطبيب المعالج

كيف أكون بخير؟

سيدي

قد ملني التعب

قد ملني صبر أيوب وأنا أحفظ ملح الكتب

أنا امرأة منحوتة من سفر الغياب

من وصايا الكتب

من تبر الاليادة الأولى وأساطير العرب ..

لماذا يتعبني السفر في عيون الأغبياء؟

يتساءل الطبيب

هل كنت وحدكِ عندما اجتمع الذئاب؟

كلا يا دكتور ..

قد كنتُ أنوى سن قانون ليحفظ ماء وجه الغابة

فاجتمع الذئاب وغيبوا عن ناظري

فانتصرت العصابة

كم كنت وحدي ..

أصارع بالمخالب

والأنياب

والأيادي ...!

*

كم كنت وحدي

أرمى للغرقى مجدافا و أشرعة لتنجو سفينة نوح

لننجو فتنجو معي كنوز السفينة

لكنهم باعوا .

اختاروا الطريق الوعر

و باعوا ....!

***

صليحة نعيجة - قسنطينة-الجزائر

أكتوبر 2019

عذرا شهرزادي الأسيرة

بين رقائق الحكاية

وانبعاث الصباحات الكليلة .

عذرا سيدتي

إذا ما غفوةٌ

عاجَت بي صوب جزر البوح ..

وانصرافِ العشّــــاق .

عذرا سيدتي

إذا ما نزقٌ

هزّني لاستباق النهايات،

-أو- عن غير قصد

تعثرت أحرفــي

في أهداب الكلام المباح،

حــيــن تسامـق

في نشوتــه الصبــاح.

عذرا .. سيدتي

فقـد طــال بنا

الحكــي ،

وداهمــت سفينتنــا

قطــع اليــمّ،

وتناءت حسيــرة عنّــا شواطئـنـا

لمّــا تنــادى الأفــق،

وافتقَـَـد شهريــار الحكــايــةَ

في يــوم لا نعــرفــه .

عذرا سيدتــي ..

إذا ما تركنـــا خلفنــا

الحكــاية،

وغادَرْنــا خيــالاتنــا

قســرا ..

واستعَــرْنــا راِويــا جـديــدا.. !!

عـذرا شهرزادي الحزيــنــــة..

فقد سَلّمنــا مـاردُ الحكــاية

من راو إلــى راو ..

ورتّـــبَ لنــا

ليــالــي الرقــص عــلى وقع الطبـلة و هـزّ البـوط !

حيــن أحكمــوا علينـا

القماقــم،

وأودعـوهـا

قيعان الجزر

وخلجــان النسيـــان .

***

محمد المهدي

المغرب

 

 

إهداء: إلى دولة المغرب / رئاسة وحكومة وشعباً

وأُسودهاالأبطال ولكافة الشعوب العربية

***

أُسُودُ الأطلسِ اندفعوا

هجوماً مُبْصِراً ...بَرَعُوا

*

بِفَنيَّاتِهِمْ عَزَفوا

بأقْدَامٍ هيَ المُتَعُ

*

وما وَهَنوا ومارَكِنوا...

وقالوا: اليوم ننتَزِعُ

*

وماخابَتْ نواياهمْ

ولكنْ خابَ مَنْ خَنَعوا

*

وظنُّوا (كريست..) مُتَّكَأً

عليهِ.. مِنْهُ يَنْتَفِعوا!

*

ولكنْ آه... واأسفا

تَبَدَّدَ ظَنَّ مَنْ وَقَعوا!

*

ولم يُبْدُوا سوى وَجَعٍ

على الخدينِ يَنْصَرِعُ!

*

أُسُودُ الأطلسِ ارْتَجَّتْ

هُنا الأرجاءُ تَبْتَرِعُ

*

فقَدْ حُزْنا بكمْ شَرَفاً

وحُزْتُمْ كل مَنْ صَدَعوا

*

وحققتُمْ لنا نصراً...

أَعَزَّ العُرْبَ فاجْتَمَعوا!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن / تعز

 

 

وجد نفسه أمام سؤال يحتاج إلى تدوين، اتخذ زاوية من المكان، غار في محيط صمته الواهن، استرسل في أفكاره خلف دوامة هذا الضجيج، فهنالك خَطْبٌ جَلَلٌ، ربما من قبيل تجاوز حرمات وطن تم تكبيله بعد اختطاف جميع ثرواته، وموارده قسرا.

اتخذت الأشياء صورا تختلف تماما عن صورها القديمة، وعلى غرارها خارطة القيم، فسدت لغة الألوان، واختلفت معها جميع الرموز.

لغة الشمس، استحال عنوانها القديم، ولذلك صارت للمعادلات نتائج مبتكرة، واتخذت تدابير لا يعرف مغزاها، الأشخاص الذين كان يعرفهم بالأمس انقلبت أفكارهم، صاروا يتصرفون بطريقة أخرى.

حلت رائحة الموت بدلا عن رائحة الحياة، أطلق العنان للأصوات التي أريد لها أن تعلو على حساب ذائقة العامة ذلك بعد أن تم الإتفاق على تصفية جميع العقول.

أبرمت مائدة مستديرة لإفساد الضمائر، ومصادرة رائحة الحياء ، غيروا ستائر المسرح، تبدلت الأدوار، تفشت ظاهرة الأصنام، وانحسرت مقولة الخلق.

اتخذ المخرج مكانا آمنا، ليتحدث إلى الجمهور بنكهة مخاتلة، تمت مراوغة ظاهرة الضوء، اختطف شعاع الشمس، ليتم استبداله بظاهرة الغروب.

اختفت خضرة الربيع، وحل محلها صفرة الخريف، عم الحزن مع الفوضى في أنحاء البلاد، ومعه قسرا صار للجلاد عرشا، بينما انصرف اللصوص، وتجار الحروب إلى مزاولة أعمالهم.

نهضت الفئران من مخابئها، انصرفت جميع الفضائيات إلى توحيد بياناتها، حتى انتشر الوباء، وأسقط حق الكلام في قوارير الطغاة.

***

عقيل العبود

 

أضع، أصف

الكتب أمامي..

كل كتاب يجعلني أفتقد القبلة..

كم من قبلة في هذا العالم العصي على التصنيف..

ألوف الوجوه تعبرني،

غير آسفة تعبرني،

ويبقى صوت ميري ماتيو

جناح نورس،

فوق المحيط في سيدني،

يتوه..

محطة باراماتا،

قطار يحصد الذاكرة..

ذاكرات تشع بالتشويه والخراب،

كثير هو الوجع بلا محطات..

سوري أنا، كورديّ قلبي،

سوداني، عراقي، مكسيكي، هندي..

سيان..

كل السياط تجلد قلبي،

وتنعش ذاكرتي،

وحنيني..

جففوا الأهوار،

الماء لا يجفف،

يبقى الملح شاهدا،

تحمله الروح باتجاه القبلة..

الطغاة يتلذذون بمجّ العلكة،

بكثير من البصاق يتساقط فوق أجسادهم النتنة..

4670 قطار بارماتا

باراماتا..

ذاك القطار العتيق ذو الأرصفة المتعددة،

والسراديب التي لا تعني إلا لاجئا بالأمان،

مثلي، ومثلك..

كم من قهوة،

كابتشينو سوداء،

على كرسيك نفسك،

احتسيتها،

أيها العراقي المجفف بالأهوار،

والذي أدماه سقوط التمثال

بعد أن انتعشت الأصنام،

فعادت عبادتها إلى القبلة..

القمر رفيق المحطات،

والقطارات،

يبتسم، ويشير..

يرتدي الحجاب للصلاة،

ويكشف عن نصفه السفلي،

بلا ركوع، لكل أبواب القوادة،

وشبق الشهوات..

عابرون نحن،

لا أفياء،

لا وجوه،

لا نبض،

لا دموع،

لا اختيار..

نحن الذكرى،

والذكرى لا نحن،

ولا هي نلتقي..

"محطة قطار باراماتا"

تتلو تراتيل شجن،

وصلوات لقلب،

لن يدركه الجفاف..

***

أمان السيد

..............

تقدير كبير للروائي:  "عبد اللطيف الحرز"

24/12/2022

غداًعامٌ جديد لأولئك الذين يؤمنون

إن المجد لله في الأعالي

وعلى الأرض السلام

وفي الناس المسرة

أما علماء المذاهب عندنا فيزعمون

إن الزمن هو سنة واحدة

خالدة و أزلية

وستظل المعركة فيها مستمرة

بين جيش يزيد وجيش الحسين

وأنها سوف تستمر إلى ما لا نهاية

كما هم يبتغون

وأنا مثلهم أؤمن: ما ظلوا يرقصون بين صفوفنا

وما دامت لحية بن لادن

ولحية باسم الكربلائي

بديلاً للحية سانتا كلوز

ولأن اللصوص هم الذين باتوا يقرأون علينا الكتب المقدسة

فإننا سنعيش نفس العام المارق

ونفس الشهر الأمرقْ

ونفس اليوم اللعين

ونفس اللحظة الألعنْ

وكأن أنشتاين كان بلغ من الخرف عتياً حينما وضع للكون بعداً رابعاً

فمن أين جئنا بقصة تعاقب الفصول وتبدل الأزمنة

وحكاية أن العام الجديد سيكون جديداَ

وهل سيكون العام الجديد جديداَ

إذا لم يغب حبيبان في قبلة مٌعلَّقة

دون أن يسأل أحدهم من أي الطوائف أنتْ

ومن أي الأديان أنتْ

ومن أي الأجناس أنتْ

وكأنا قد ولدنا تواً من رحمٍ واحد

ثم يرتفع صوت شجي يغني الهَبي نيويير

لنرقص أنا وأنت في شارع عرصات الهندية

ونتبادل عند انتصاف الليلة فرحنا الملون بالأطنان

ثم نعود إلى بيوتنا مسكونين بالرغبة في صباح جديد

وعامٍ جديد كنا قد غسلناه تواً بالماء المقدس

*

الله ما أروع تاجاً من شوك

أيها المصلوب على خشبة

القائم من موته كي يورثنا الفرحة

المجد لله في الأعالي

لكن السلام على الأرض لم يحن أوانه بعد

أما المسرة

فلعلك من مكانك هناك

ترسل بعضاً منها

إلى مكاننا هنا

***

جعفر المظفر

 

سرحَ في ظلّهِ الممدود

على طاولةِ الزمان

فكانت قهقهةٌ مزمنة

تئنُ من وجعِ رنةِ الشاي

والنادلُ الكسلان

لا يزال يلاعبُ

سكارتهُ المطفأةَ الروح

والعيونُ خجلى

من جيوبٍ

تتلوى فيها ورقةٌ نقديةٌ عرجاء..

وشفاهٌ ترتجفُ

من البوح بالأشياء

لا يعلم من أين ..

يرتشف مشواره القديم

سوى ذاكرة عاقرة

تزفُ الحزنَ القادم

من شظايا أرواحِ مهشمة

بلا مأوى

أو

فرصة يداعبُ بها

الصحبةُ المعلقين

من حولهِ،

على أرصفةِ السنين

بقهقةٍ كأنها

تلوذُ منهُ خجلى

من وجعٍ

لا يرتوي

إلا بأيامٍ

خامرتها .. رشفةُ شاي

يلسعُ ..

همهمت شفتيه الذابلتين

والوجع المزمن

بالحروبِ

وزفير المارة بوجه المقهى

ما زالوا..

يرسمهم في عينيه المسافرتين

فتحبسها حينها

أنفاسه الذليلة

فترتعد

من شهوة السلطان

القابع في جوفه

المكتوم

وسره الذي خبأه

بين أروقة أزقته الرثة

.. آه

حتى أروقته

أمست مخبراً سري

تلاحقُ أفكاره

وخطواته

ومقهاه

وعينيه الغائمتين

لكنه ..

ما زال يطلُ بذاكرتهِ المخرومةِ

وصدى الآفلين قبل الغروب

بأن هناكَ ،

وراءَ صمتهِ ..

فجرٌ قريب.

***

د. عصام البرام

القاهرة

رُحمـــاكَ يا إبنَ رُشد !

رُحماكَ ، رُحماك !

رُحماكَ يا إبنَ رُشد،

من صليلِ البرد والغربة،

من ضنَكِ المنافي،

من شَفرةِ المجاز، وسهام التورية!

رُحماكَ من لصوصٍ يغسلونَ الحرامَ والفجورَ بالأدعية وسورة الفاتحة..

رُحماكَ من إعلاء الجهلِ وإلغاء العقل !

أَعِذنا من أَلغامِ "المتن المقدس" والدستور .. و"تقيَّة" القوم !

***

أَحذرُ كثيراً أنْ يركبَ القلبُ العقلَ ،

ويلغي الحنينُ الفِكرَ ..

ليتني أضرمُ النارَ في ذاكرتي وأنسى الحنين..

................

قرأناكَ ، يا إبنَ رُشد، أيام الجامعة و"ثورتها" في الستينات،

إلى جانب سارتر ، فانون ، كولن ويلسون، دوبريه، جيفارا و لينين .. ،

نعم ، كنا في سَورةِ الغَضَب !

أما تَدري أَنَّ الأوطانَ تُحمِّلُنا عذوقَها بوجعِ الأُم تودِّعُ أبناءها دونَ أمل!

لكن الوطنَ يظلُّ فينا ولو بقيتْ في العِذقِ "حَشْفَة" !

وطنٌ، وإنْ صارَ تابوتاً للأجساد والأحلام ..

لن يتغير موقعه فينا ، مهما فعل الخرابُ به..

***

للسرابِ أنْ يخدَعَ عينَ المسافرِ، ويُغالطُ عيني،

وللخريفِ أنْ ينثُرَ الغُبرَةَ ويُبَعثر "أوراقَ" فان غوخ،

ورقٌ أصفر ما تبقى من العمر، يا إبن رُشد!

شَقَقْنا صدرَ الريحِ شمالاً وجنوباً،

نبحثُ عنْ رائحة وطنٍ في دفاترنا القديمة،

لمْ ندرِ أننا مَرَقْنا على "النص"!!

لكن الحُكّامَ إعتبرونا "عُصاةً" لأننا نريدُ أنْ نحيا مثل بقية الخلق!

...............

فتهدَّجت في البنادقِ أصواتُ الهتاف..

لو أنَّ الرصاصَ يَعقِلُ، يا إبنَ رُشد، لأغريته بأشتقاقِ إسم فعل ،

أو نائب مفعولٍ به! بدَلَ أنْ يسبح في دمنا !!

***

في ساحة التحريرِ رأيتُ خيولاً صافناتٍ تُشيرُ إليَّ،

ونساءً  عن الحناجرِ تاهَتْ أصواتُهن ،

أحسستُ بحرقة الهتاف، فيما كانت يدايَ باردتان..

إذن، الوقتُ يتخمَّر، والساحةُ تغلي!

إِعلامُهم يتلو "صلواتٍ" بذيئة، تَحُثّني على الهرطقة!

فنفسي تعافُ نكراتٍ من أصلٍ بركانيٍّ،

قذَفتْ بهم قيعانُ الصدفة، فَتحَجّروا في القمة:"ما ننطيها"!!

هكذا إذنْ !

حينَ يَصعدُ "السَفَلَةُ"، يهبطُ نجمُ الرعاةِ كما يهبطُ القُندسُ إلى النهر!

لكنني أعرفُ أيضاً أنَّ ما هو قائمٌ لن يبقى ..!

لا بُدَّ يحِلُّ مشهدٌ جديد !!

سيقومُ الشهداءُ من رقدَتِهم، و...

وسنَسفَحُ دَمعَ فَرَحٍ نَسيناه..

..............

كَشَطنا المرايا،

لمْ نكنْ غيرَ سُمّارٍ لهذا الهواء المُعلَّق من كعبيه فوقَ حبلِ الغسيل.

دارت الحروفُ حولَ بعضها، وصارَ الصمتُ واوَ العطفِ،

حتى غدا العقلُ خاتمَ فِضَّةٍ في إصبع اللص والدجّال..

فارَ الدمُ .. تَيَبَّسَ وصارَ خَبَراً للرواةِ ووكالات الأنباء.

الجُرحُ هنا .. والرواةُ هنـــاك!

شيئاً فشيئاً يشِبُّ الرنينُ، وسيعلو "نشيدُ الفَرَح"!

هي زَفَراتٌ/ صرخاتٌ محفورة على الصدر كالندوبِ،

كلما لَمَسْتَها أحسَستَ بذاكرة الفجيعة،

وهولِ المآلات..

***

أما زِلتَ في قُرطُبَه ؟!

إصرف النظر عن العودةِ إلى مراكش، أو المجيء إلى هنا ..

فهذه ما عادت بغداد تلك !!

إحذَرْ! سيحرقونَ كتُبَكَ من جديد!

ويُعلِّقونكَ على رافعةٍ ، شَنْقاً !!

..............

وإنْ كنتَ منهمكاً في قراءة ما نكتب ،

فمفرداتنا معلقة من كواحلها في ساحة التحرير،

وليس في كُمِّ المقامرِ بالدين وباللغةِ البِكر..

.. هنا حيث ترقُصُ الضباعُ والذئاب ،

ينامُ النواطير عن اللصوصِ والقَتَلَة والسَفَلَةُ !

لمْ يبقَ غيرَ وميض جمرٍ تحتَ رمادِ تُرّهاتٍ غبية،

..............

أنتَ تعرِفُ أنَّ مرادفات الحزن كثيرة،

قد نحتاجُ إلى كثيرٍ منها الآنَ، كي نتخفَّفَ من ثِقَلِ الخسارة والقهر ..

وحينَ نُفكرُ بالآتي، بعد رحيلِ هؤلاء ، يكفُّ المرء عن التفكيرِ ما إذا

كان الأفضل أنْ يعيش أو يهلَكْ؟!

أَحقاً حينَ يَلوحُ الزلزالُ موارباً تُبدي النصوص ما يُشبه الغَنَج،

مفردةٌ تُطِلُّ،

وأخرى تتمنَّع ؟!

................

تلك هي حروفي/ شهادتي على وطنٍ جميلٍ خرّبوه، فضاعْ!

فأشهد، يا إبن رُشد، أنني لم أستدعِ بلير لغزو بلادي،

لمْ أقلْ أنَّ شارونَ أَرحمْ،

ولم أدعُ لزرعِ أنصابٍ في كل مُدننا لـِ"شهداء!" اليانكي المُحرِّرْ!!

................

إشهَدْ أنني لمْ أكنْ منهم..!!

ولم أصمتْ!!

***

يحيى علوان

في البدءِ كان راعٍ

عصًا خشبيةً و لباسًا ممزقًا

لم يكن سوى طفلٍ يُرعى، كما تُرعى

إبلٌ في الصحراء.

حلواهُ أن يفترش ظهر نعجةٍ حين يغلبهُ النعاس

حلواهُ أن يظل هكذا أُميًّا، تحت عباءة الغُبار.

فجأةً خرَّ ضبابٌ فوق رأسه

قُم، ابحث، ظلامٌ ينتظر ..

كان المجهول.

فجأةً خرَّ دمٌ فوق كتفه

لا تستدر، لا تتبع، غنمٌ يتبع ..

كان السيف.

فجأةً خرَّ حريرٌ فوق جسده

تمتع، راوغ، أمةٌ شِحاذة ..

كانت النقود.

هكذا و فجأةً، خرَّ كل شيءٍ تحت قدميه

مطرًا، سهامًا، صخورًا و تلال.

خرَّ العقلُ من الاعالي إلى الاعماق !

هكذا و فجأةً، خُلِقَ المستقبل .

لا يجيءُ من الظلمةِ سوى الظلام

ومن الخوفِ تُولدُ العبيد.

وحده السراب - هذا القويُّ كطفلٍ متوحش

راح يرقصُ كالارنب

حتى لا ينبت العشبُ تحت قدمه.

***

ضرغام عباس

 

 

كانت مدينة لينينغراد تنساب في الأفق كمتحف اسطوري تحت سماء صافية، تأملتها هكذا وأنا أرنو إليها من خلف نافذة عربة القطار. عدت الى مقر إقامتي بعد ان انتهيت من زيارتي التطبيقية في المستشفى في المدينة السياحية عند ميناء مورمانسك المشهورة بظاهرة الشفق القطبي. حدث هذا في عام 1966.

وانا في طريق العودة إلى المنزل مررت على السوق لشراء بعض الحاجات الضرورية. كان السوق يعج بالناس والحركة بطيئة. وفي وسط هذا الحشد البشري، صادف ان التقيت صديقي عادل الذي يسكن في الطابق الخامس وبينما كنت أنا اسكن في الطابق الرابع من مباني الطلاب، بعد ان رحب بعودتي من السفر. قال وهو يمد يده ليصافحني:

- مرحبا قاسم، متى عدت من رحلتك؟

اجبته:

- اهلا عادل. لقد عدت توا. فكرت ان اشتري بعض المواد الغذائية وانا في طريقي الى المنزل.

قال:

- بالمناسبة هناك فتاة تنتظرك منذ ساعات في الطابق الثاني. كما تعلم ان طوابقنا لازالت قيد الترميم، والأصباغ لم تنشف بعد.

قلت:

- فتاة!... كيف تبدو؟

قال:

- نعم. اعتقد انها ليست روسية لان ملامحها أقرب الى الشرقية وشعرها اسود.

بعد ان انتهيت من التسوق عدت ادراجي الى المنزل. كانت المفاجأة عظيمة وغير متوقعة، شعرت بالنهار ينهمر على كياني كحلم بحيث ازال الارهاق الذي رافق رحلتي، ان أجد صديقتي بارنو في انتظاري، تعلو كشمس الصباح: وهي فتاة من طشقند عاصمة اوزبكستان. حالما ظهرتُ أمامها منتصبا ارتسمتْ ابتسامة عريضة على شفتيها النديتين وتعانقنا.

نظرت الى عينيها السوداوين الواسعتين والدموع الرقراقة فيهما تعكس ابتسامتي فرحا بوجودها بعد غياب طال زمنا. تكاثف الصمت في الطابق الثاني لبرهة وكأن الخطوط اللامرئية بيننا تنقل مشاعر الود عبر الأثير، تحمل بين طياتها اكوام الاشتياق.

لقد أعادني هذا اللقاء غير المرتقب الى زمن جعلني افتح صندوق ذكرياتي مجددا، وان اتطلع الى بدايات الستينيات، عندما كنت شاباً في مقتبل العمر يخوض غمار تجربة فريدة في بحر الحياة الجديد المشرق، في بلد طالما حلمت بزيارته. بلد يتطلب من الفرد ان يتأقلم مع ثقافات جديدة، ولغة اجنبية غريبة عني، بل هو عالم يفتح امامي طريق المستقبل الواعد والطموح الممهد.

يجب على المرء ان يتعلم اللغة الروسية قبل دخول الجامعة. لذلك بدأت مسيرتي الأكاديمية في جامعة اللغات كمرحلة تحضيرية في طشقند. في هذه الجامعة بالإضافة الى اللغة الروسية، كانت هناك أقسام للغات أخرى بما في ذلك اللغة العربية. لقد ضمت الجامعة في اروقتها طلاب من جميع انحاء العالم وكذلك من جمهوريات الاتحاد السوفيتي.

قررت عمادة الجامعة تخصيص يوما للطلاب من اجل التعرف على بعضهم البعض. وقد تم ذلك بالفعل في أمسية احتفالية لا يمكن للذاكرة محوها، خاصة عندما سقطت عيني في وسط هذا التجمع الطلابي على فتاة متوسطة القامة ذو مظهر شرقي، تتميز بالرصانة والاتزان. لا يلفت لبسها اي انتباه، كانت ترتدي فستان بني اللون مزركش بمربعات حمراء يغطي جزء قليل من الركبة. اما شعرها فكان يميل الى اللون الكستنائي.

مشيت نحوها بخطوات بطيئة حتى دنوت منها،  حيَّتها باللغة الروسية لأنني كنت قد تعلمت بعض الجمل البسيطة. قلت:

- ازدراستڤويتيَ. تعني مرحبا باللغة الروسية.

رددت بنبرة نسائية لطيفة:

- ازدراستڤويتيَ

قلت بالروسي:

- ممكن ان نتعرف.

قالت وهي تمد يدها الناعمة باتجاهي:

- بارنو.

قلت بالروسية:

- اسمي قاسم من العراق.

فاجأتني بقولها وابتسامة عريضة على محياها:

- إذن أنت تتكلم العربية… نطقت هذه الجملة باللغة العربية.

ساورني شعور الفرح عندما تحدثت العربية لان كلماتي الروسية قد نفدت وقلت:

- هل تدرسين هنا في الجامعة قسم اللغة العربية.

قالت:

- نعم.

عندما رأيت بعض الشباب يرقصون مع معارفهم وصديقاتهم، تجرأت على دعوتها للرقص معي.

قالت وابتسامة بهيجة تضيء وجهها:

- بكل سرور.

وأثناء الرقص قالت:

- اذن انت تتكلم اللغة العربية وهذا شيء جيد.

وأردفتْ قائلة:

- نستطيع ان نساعد بعضنا البعض انا بالروسي وانت بالعربي.

بعد هذه الأمسية الجميلة استمرت لقاءاتنا وتضاعفت جهودنا نحو تطوير لغتنا. لقد ساعدتها كثيراً في تطوير اللغة العربية وتنمية تقبلها الحسي لجوهر اللغة حتى تمكنت من الحصول على وظيفة بصفة مذيعة في قسم اللغة العربية في إذاعة اوزبكستان. لقد تم تكليفها بقراءة النشرة الإخبارية باللغة العربية.

مكثتُ في طشقند لمدة عام لدراسة اللغة وانتهت المرحلة التمهيدية، عدت الى دراستي الحقيقية في كلية الطب في لينينغراد. خلال تلك الفترة تواصلنا مع بعضنا البعض عبر الرسائل البريدية، وكانت هناك فترة انقطاع عرضي بسبب دراساتي العديدة والتطبيقات العملية في المستشفى.

قلت لها:

- مفاجأة سارة جدا يا بارنو.

قالت:

- شكرا، فلنتحدث بالروسية بعد الآن.

قلت لها:

- اعتقد انت منهكة جدا الان بعد ان قطعت مسافة طويلة من طشقند.

قالت:

- كلا، لقد سافرت الى موسكو اولاً حيث زرت زوجي الاوزبكي. اخبرته انني ما دمت قريباً من هنا، أود ان أزور صديقاً قديماً درس في طشقند سابقا وهو الآن في لينينغراد، فقلت له انني عرفتك قبل ان اتعرف عليه. وها تجدني امامك هنا الان.

كان هذا اللقاء لقاءً حميميا بل أستطيع القول الوفاء اللامتناهي الذي يتسم به هؤلاء الناس. أمضينا وقتا ممتعا ونحن نمشي جنبا الى جنب في هذا الليل المعتدل والرائع في شوارع لينينغراد.

طفقنا نتحدث ونتذكر ايام طشقند وحدائقها الجميلة ومطاعمها المتميزة بأكلة البلوف ومراقصها البهية الهادئة ومسابحها الواسعة. ثم افترقنا في المساء واتفقنا على ان نلتقي غدا عند محطة القطار الى موسكو.

وفي اليوم الثاني بالفعل التقينا وجلسنا في بوفية جميل وتناولنا الافطار وتحدثنا عن حياتها الحالية ومشاريعها المستقبلية. ومشينا نحو رصيف القطار المتجه الى موسكو. توقفنا للحظة في انتظار وقت المغادرة. وبينما كانت تتحدث، وفجأة تهدج صوتها فاكتست هيئتها سيماء الحزن. كان تتكلم والكلمات تنسال من بين شفتيها بتأنِ وأسى. قالت:

- عزيزي قاسم سوف يكون هذا آخر لقاء بيننا وربما لن نلتقي ابداً.

انهمرت الدموع من عينيها. شعرت بغصة وحسرة في نفسي. وسالت المشاعر في متاهة الحزن. التقطتْ صورة لها من حقيبتها اليدوية وسلمتها لي ولكن قبل ذلك كتبت عليها.

-  اذكرني واذكر ايام طشقند كلما تنظر الى صورتي. وانا لن انساك ابداً.

ثم قالت:

- إذا انجبتُ ولداً، فسأسميه قاسم. وإذا ولدت طفلة سأعطيها اسماً اوزبكياً.

في هذه اللحظة امتزجت العواطف وأصبح ذهني مشلولاً، وكأن كلماتي غرقت في لعاب فمي امام كلماتها الصادقة والمعبرة عن ذاتها الإنسانية.

قلت لها:

- كم انت عظيمة يا بارنو سوف افتقدك حقا... انتظري لحظة رجاءً.

كانت امرأة في الخمسينيات من عمرها واقفة على جانب الرصيف تبيع الزهور. اشتريت منها باقة من الورود الحمراء وقدمتها لها كهدية لذكرى هذا اللقاء الرائع. قبلتني وقبلتها فكان ذلك اللقاء هو الوداع الأخير.

من أَي كوكبٍ هبطَ طيفُكَ

على قَلبي

وأَيقَظ غَفوةَ الياسمين

في دْفق شَراييني

وبسماتِ المانوليا

في وجَناتِي؟

ما بين نَسْمَةٍ ونَسْمَة

أستَنشقُكَ عطرَ خُلودِي

وما بين زهرةٍ وزهرة

أُخبئُكَ أَيقونةَ عشْقِي

ماسةَ عُمري ..

مابين دمْعَةٍ ودمْعَة

نجمةُ الصَّباح سَكرت بِأشْواقي

وثَمل قلبي حَنينًا...

يا حُلمَ وُجودي

قادمَة ٌ إلى روحِكَ

على جَذوةِ حبِّي

يحملُني شُعاعُكَ إلى الفردوسِ

أَأنْتَ من كوكبِ المُنى

أم نسيَكَ الدهرُ في سلةِ زَهرٍ

عَلى ضِفافِ وَطَني؟

نَيسانِي مَلَّ  آهاتِ الزَّمان

أَعدْ لربيعِيَ سَوسَناتِه

ولعَينيَّ أمواجَ البحر...

أَلق ِ على حُزنِيَ وِشاحَ البَقاءِ

حِكْ خَلَجاتِ أَنْفاسِي

ما بينَ غَيْمَةٍ وغَيْمَة..

أَعومُ في محرابِكَ السّماويِّ

لأُتوِّجَكَ توأماً لروحي العذراء

ضُمَّني إليك ليُزهِرَ ياسمينُ مَدائني

خُذ ْ نَبْضي...

أنا أموتُ وأَحْيا .....

لأَجلكَ ...

***

سلوى فرح - كندا

 

توقف بي الميكروباص عند الكيلو 21 من الاسكندرية حيث تصطف السيارات المتجهة إلى القاهرة. هبطت تتأرجح على ظهري حقيبة صغيرة خفيفة، وامتد أمامي ميدان تنفتح عليه مثل الأسهم عدة شوارع غاصة بالحركة. لبثت أتلفت بحثا عن موقف سيارات القاهرة، فوقعت عيني على رجل نحيف في حوالي الأربعين في سروال ضيق مهترئ، وقميص عليه حروف انجليزية باهتة، قدماه في صندل بلاستيك مفتوح. نظرت إلى أصابع قدميه العارية فسرت منها في بدني قشعريرة الجو البارد. رأيته وقد مال بصدره وذراعيه على واجهة سيارة ملاكي، يمسح زجاجها بدوائر من خرقة متسخة. قلت له: " أين تقف سيارات القاهرة؟". ارتد بجذعه للوراء وأمعن النظر في طويلا وأنا أعاين شعر رأسه الأبيض الهائش من دون أن أعرف إن كان ذلك لون الشيب أم أنه بياض جير عمال الدهان. رمش بعينيه بفتور شخص لم يغسل وجهه طويلا ثم رفع ذراعه ببطء يشير إلى كوبري:" هناك. تحت ذلك الكوبري"، خرجت كلماته مثل بقبقة غريق لا يقوى على اطلاق صوته، حروفا داخل فقاعات هواء. التفت إلى حيث أشار وقلت له:" نعم. رأيت الكوبري". توقعت أنه سيوليني ظهره ويرجع إلى زجاج السيارة يلمعه بالخرقة السوداء، لكنه ظل يحدق بي في ثبات متخشبا في مواجهتي كأن ثمة حديثا معلقا لم ينته. سددت إليه نظرة أحاول أن أخمن ما الذي يحجم عن قوله، فلم أر سوى نظرة جوع غائر في ذكرياته وارتجاف شفته فاضطرب شيء في دمي، وأخرجت ورقة بخمسة جنيهات ناولتها إياه وأوليته ظهري. مشيت عدة خطوات وما لبث أن تناهى إلى حفيف صندله يزحف خلفي وصوته مهشما:" ليس الصف الأول من السيارات..الصف التالي..على اليمين". التفت إليه. كان رأسه يرجف مثل طائر لا يقوى على الرفرفة. قال:" الصف التالي..على اليمين".أردف:"حضرتك عرفت؟". ناولته ورقة أخرى بعشرة جنيهات. استبقاها في راحة يده يمر عليها بأطراف أصابعه كأنه يستمد منها الدفء. قطعت عدة خطوات للأمام فتبعني يقول: " هناك سيارات تذهب بك إلى المرج وأخرى إلى ميدان رمسيس، لكن رمسيس أحسن لك. رمسيس أفضل لحضرتك"، وحدق بي بعينين تخترقان الفضاء وتسقطان على الأرض بلا أمل. تمتم: " حضرتك عرفت؟". وبقي جامدا تتدلى خرقة القماش من يد، ويده الأخرى تمر على الحروف الانجليزية الباهتة فوق قميصه. سحبت من جيبي ورقة مالية أخرى ناولتها إياه، قبض عليها بقوة ورفع بصره نحوي:"خلاص. حضرتك عرفت. خلاص. أنت عرفت". أولاني ظهره بحزم هذه المرة . مشي وهو يتلفت حوله في سيره. تابعته ببصري وهو يبتعد شيئا فشيئا. هبت على الميدان زوبعة باردة من البحر فرقته خيوطا تتأرجح في الريح، فلم يبق سوى صندل، وحفيف قلب يحتك بالأرض.

***

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

لم تقل يوما كل الكلام

نصف .. الكلمة

كانت دوما تعلق

في شباك الصيادين

و عندما تعلمت لغة النوارس

استطاعت ان تنجو

من حادث الغرق..

في اليوم الاول للكلام

نطق الوجع .. قال

تعلم الطيران

قبل ان تموت

كان هذا الدرس الاول

ضع اسمك جانبا .. القابك

وكل الشهائد الفخرية

و ارفع راسك

ان استطعت

قد تموت في النصف الاول

من اليوم

و قد يتكلم الوجع

في اليوم الثاني ايضا

لكنك حتما ستتعلم

في النهاية

الطيران فوق الوجع

اليوم يختارك الجنون

لتتمدد على اطرافه

فقل لمن يحسب صمتك

لعنة

لا قيمة للاسماء

ان لم تكن تشبهنا

و ان لم نكن نقرأها

داخل العيون

لا قيمة لوجهك ان لم

تكتب عليه ما تمليه

عليك روحك

لا قيمة للحرف

ان تخاذل

و صار مكنسة

كهربائية

كان هذا الدرس الاول

و قد يمنحني بعده

الموج جناحا

امد على قدره لغتي

تقول لها الرياح لا

تهتمي لجدران البيت

حين تاكلها النيران

خذي  عينيك  داخل

حقيبة سفر

و انصرفي

الى المنافي البعيدة

لا وطن هنا

لا وجه مكشوف

يحبو على اديم

العمر

اليوم يتم عليك الجنون نعمته

فخذي ما تفتت من حبال القيود

و اصنعي منها

حبلا  يشد اليك

المراكب

و لا تنتظري

الدرس الثاني..

***

بقلم _ وفاء كريم  _

أي قدر يقودك إلي

أي قدر يبعدك عني

تحتاج إلى ترتيب المسافة بينهما

بكتابة قصيدة

وأنا أحتاج أن

انزلق في ثرثرة

طويلة معك

نتجاذب اطرافها

على سجادة مسحورة

كلما جلسنا عليها

سلكت بنا نحو السماء

في لجة من ليل وبخور

وحين نقوم

تتساقط النجوم هنا وهناك

ويفوح المسك

أشتاق أن أحكي

تفاصيلها السرية

لصديقتي الغيورة

عبر الهاتف

لا تعنيني مواعيد نومك

ولا أوراقك المبعثرة

كما الفكرة في مخيلة

شاعر مبتديء

فكل النصوص تكتمل

بامرأة تغزو الرتابة

بكعب حذائها المدرب

جداً على إحداث ثورة

ليتكون النص

من الفكرة والشغف

والكثير من مِحن الخيال

حينما يصبح الخيال محنة

لا يحتاج الأمر ترتيباً

ربما بعض القوانين

الجديدة لمسألة الحب

اجمعني فيك

ولنطرح كل ماحولنا

وفنجان قهوتنا

يضرب بشجاراتنا عرض الحائط

ثم نقتسم ابتسامة بلهاء

ونحن نقرأ نصاً لدرويش

عن المنفى

أي منفى

ونحن في معركة عشق

كتلك التي

بين الوردة والعطر

بين الشمس والضوء

بين النار وألسنة اللهب

التي ترقص على ايقاع

طقس إفريقي صاخب

أي منفى

ونحن من سحر

الكلمة التي

تزين جيدها

بتعاويذ الخلود

نتشكلُ دوماً في

رحم القدر

قصيدة ...

***

أريج محمدأحمد / السودان

20/9/2022

ثقُوبٌ فِي رئةِ الوَطنِ

تعاَلَ لنَنشِدَ الحريةَ

هلْ ما زلنا نَنشدُها  فعلاً؟

إبّانَ الحربِ الأولى

كانَ الموتُ يُوزَّعُ بالتَّساوي

بَينَ مُضْطَهَدِي الوطنِ المنكوبِ

ما عَدَدُ الثكالى؟

مَنْ كسرَ قلوبَ الحسناواتِ؟

أنا...

كنتُ عاشقاً

أبحثُ عن بيتٍ يأوينِي

وأحلمُ بسريرٍ يجمعُنا

على تخومِ الفرحِ المنشودِ

ولا أُبالِي

بِمَنْ يُحقِّقُ

الأمنَ الغذائِي لهذا العالمِ البائسِ

هو يَقُولُ؟

في الْحَربِ الثانيةِ

كانَ التتارُ على تخومِ بغدادَ

يحرقونَ الأشلاءَ مُمزَّقةً

يُغرِقونَ التاريخَ في دجلةَ

وَكُنتُ لا أزاْلُ أحلمُ

بذاكرةِ الْوَطَنِ المَعطُوبَةِ

كمْ نسينا خيباتِنا!

ونحنُ نركضُ

عكسَ عقاربِ الموتِ

ونحيا عكسَ عقاربِ الزمنِ

ونَنشِدُ وطناً نبنيه

***

كامل حسوني

 

لطالما أخبرني صديقي أن أرتدي الكفوف السميكة وأنا أشتغل على تلك المكائن، حيث كانت مشبعة بدهون المحركات الكثيفة. وقتها لم أعر نصيحته انتباها، أما الآن فأنا بحاجة لأن تصبح يديّ بيضاوين ناعمتين. غدا سألتقي بها، ولا أعرف الآن ماذا أفعل بهذا السواد الداكن المختبيء تحت أظافري. إنها حتى لا تعرف أني (فيتر) هي تظن أني صحفي وشاعر وأدير جريدة. والآن ستتساءل كيف لهذا الشاعر أن يملك مثل هذين الكفين الخشنتين السوداوين!

لقد جربت بعض نصائح اليوتيوب، دلكت كفي وأصابعي بفرشان الأسنان، وضعت مسحوق الغسيل وبعض الكلور، ثم الأسيتون، وأخيرا نقعتهما لساعة كاملة في الماء والملح. حتى أن شريكي في السكن تكفّل بعمل العشاء وغسل الأواني والتنظيف. لقد كان متعاطفا وطيبا.

اخر الليل كنت أنظر لكفيّ المتعبين بشيء من الخيبة، فتحت الأظافر هناك، ظل جاثما ذلك اللون الداكن المثير للإشمئزاز. ستظن بالتأكيد أني رجل قذر وكثير الأهمال، لن تصدق أبدا أني كثير الإستحمام، وإني اعتني بقص أظافري وحلاقة شعري وترتيب اشيائي في السكن، هنا بهذه المدينة الكبيرة بعيدا عن الأهل. الأمر وما فيه أن تلك الدهون تتغلغل بعيدا كأنها وصمة وجَع.

إقترح عليّ رفيقي أن ألفّ كفيّ بقطع الشاش وأدعي أمامها أني تعرضت لحادث. بدت فكرةً جيدة، في الحقيقة لم يكن هنالك حل آخر.

قام هو بتضميد كفيّ. ثم أخبرني وهو يتصنع الخبرة الكافية بطريقة تفكير النساء أنها ستستغرب حضوري وأنا على هذه الحال. قال لي أنه عليّ إخبارها أني لم أرد تضييع موعدنا الأول.

هكذا ببساطة ذهبت إليها، مع حفنة النصائح تلك وقطع الشاش في كفيّ، وبضعة أحلام تداعب مخيلتي المفعمة بكثير من الحب واللهفة. إنها طالبة في قسم اللغة الفرنسية، هي مثقفة جدا وتحب طريقتي في الكتابة والحوار، تقول أنها تحبني. سنتحدث اليوم عن فولتير وأراگون ورامبو وجورج صاند ويان كفيليك، وعندما تثق بي كثيرا سأصارحها أني لست صحفيا، ولم أذهب للجامعة يوما، أنا محض قارئ نهِم  وكادح يعمل في تصليح السيارات. هذا ما أجيدهُ بعيدا عن عائلتي في إحدى القرى المنسية.

ملأ فمي عطرها قبل أن تقترب، كانت أجمل من الصور بكثير، عرفتها من شعرها الأصفر القصير وعينيها الخضراوين، اللتين كانتا تشعان من صورها وتلهمان خيالي الجامح، مع تلك الإبتسامة الصغيرة قليلا، كأنها ابتسامة شاحبة أو مخطوفة من الزمن عنوة. ربما لأنها كانت تسهب في قراءة الفلسفة كانت ثمة مسحة من الحزن وهالة من الغموض تحيط بملامحها العميقة الهادئة. بعد أن صافحتها شعرت بدهشتها وهي تنظر لكفيّ الملفوفتين (ماذا حدث لك)؟

-(لاشيء .. حادث صغير) كدت اتلعثم. كان تفكيري مشوشا، الأسوء من السواد تحت الأظافر والجلد هو أن تكتشف كل هذا الكذب.  يااه كم سأكون أمامها سخيفا مضحِكا.

لم تستغرب حضوري رغم تعرضي لحادث، كان ذلك رائعا. إذ كنت أدرك أني كلما تحدثت عن الموضوع خرج الأمر عن سيطرتي.

فيما بعد أخذتنا لذة الحديث المدهشة، وكان عطرها يغشى حواسي، فأشعر كما لو أني أحلق معها في عوالم الأدب الفرنسي. حتى ابتسامتها صارت أكبر وأشد إذهالا. كنت أتحدث بحماس عن رواية العرس الوحشي، و أستعرض أمامها أحداث الرواية، لقد كانت اللحظة التي رأيت فيها الضماد يرتخي أكثر وحشية من عرس الرواية، حدث ذلك عندما كنت اؤشر بيديّ أثناء حديثي، خفضتهما فورا واستدرت قليلا لأثبت الضماد من جديد.

-( أرجوك دعني أساعدك).

قامت فجأة من مكانها ومدت يديها نحوي، أمسكت الضماد بأصابعها الناعمة، وراحت تعيد لفّ الضماد، لم يبد عليها أنها انتبهت لشيء، لوهلة ربما! لكن ضماد الكف الثانية وقع في يدها تماما، بدت يدي فارغة من أثر الحوادث التي اخترعتها. كنت قد نسيت كفي بين يديها عندما راحت  عيناها المذهلتان تنظران لي بدهشة. ببساطة بدأت  تلفّها بحرص، كأنها تلف هديةّ بشرائط من حرير، وابتسامتها الصغيرة المعهودة تطوف على وجهها  الجميل. لا انس أبدا أنها بعد أن أحكمت لفّ يدي ضغطت عليها بطريقة ما، كأنها أرادت أن تقول لي( لقد افتضح أمرك).

*** 

تماضر كريم

 

نص عن الجرح السوري

وطنٌ جَريحٌ

وحُرّة ٌ بالدمع تغفو

وغيلانٌ تأكلُ الأطفالَ

وأبواقٌ .. وَصِياحُ.

هذي الدّروبُ نحو الشرقِ

تشتعِلُ

وقلبيَ اليومَ

من الهُمومِ ينوحُ.

لا الدربُ نتركهُ

ولا الهُمومُ

تغادرُ القلبَ

وترتاحُ.

**

إني

هنا

أسيرٌ

يبكي الشرقَ

والشرفَ الرفيعَ

والرّجالَ الصّيدَ

وأعراضاً

تُستباحُ.

**

أهلي هناكَ

وأحبابي

بصدورهم

يَصدّون

رصاصَ الغدرِ

وبأيديهم

يواجهون

أحفادَ أبي لهبٍ

ومُسيلمَة َ

وعلى الهواءِ

كلابٌ مُطهّمَة ٌ

ونباحُ.

**

لقد غابَ نجمٌ ساطِعٌ

في ليلٍ مُظلمٍ

طالت بهِ

الهُزُعُ

**

ماذا تخبئ هذه الأيامُ

لأمةٍ

قد غُيّبت؟!!

ماذا تخبئُ هذه الأيامُ

لأمةٍ

قد غُيّبت؟!!

متى..؟

متى..؟

متى يا إخوتي

ينبلجُ الصّباحُ؟*

***

 بقلم: الدكتور اسماعيل مكارم

.........................

 * قمتُ بكتابةِ هذه الكلمات بعد أن سمعت ماذا جرى في أروقة الجامعة العربية تجاه سورية – البلد العربي، حينذاك قام البعض بالاساءَة الى سورية، وبذلك قاموا بفعل الإساءة تجاه العرب جميعا، أما عرفوا أن سورية دولة ذات سيادة. كتبت في 14 تشرين الثاني عام 2011.

صورة قلمية عن الشاعر الكبير

يحيى السماوي

***

من قصائده يطل ُّ نخل السماوة

يكتظُّ

بسعف الحنين إليها

لم يفلت منها صفاء الفقراء

شاعرها يعاشر حكمة الوطن

تبيضُّ  عيناه من حزن المسافات

موقنٌ أنه يطارد حلما في سائر الايام

يطلُّ  من انفراج شبابيك الذاكرة

لا يطمئن إلى نفسه  إلآ على طين الفرات

أتعبه زجاج المدن اللامعة

فانفرطت بينهما خيوط الغربة

وحين يبحث عن مستقرِّ الناسك

ينسى طيوف أحزانه السود

بعد ان ارهقته أشواطٌ شتى

منها انتظارات القطارات

وشهقات المحطات والشوارع

ثم يستدير ليسأل العابرين

عن أملٍ  أخير

لايجد الوقت للذي يعبر الأمكنة

تقوده فراسته إلى ألق المعنى

الذي يسكن قصائده

ولا يتخلى عن امرأة أحبها

ولم يبقَ له غيرها و شعره والوطن

يمنحهم زهرة القلب

ولا ييأس من أيامه

فلا يدع قلمه ودفاتر أشعاره

وسؤال صحبه عنه فيحلم أنه يتسلل إلى غرفته الأولى

ليطلَّ من شبّاكها على الماء والنخل

لايضايقه الصبر الجميل

وبين ضلوعه أنين مكتوم

وحنينٌ لسماء أولى من دون غيم

لاتكترث لاحتراق العشب

أو الموت الذي يطوي الذكريات

وطائره يرفرف في فضاء الروح

شاعر ينتظر حرية شاسعة للناس

ناسكا في محراب الكتابة

يرقب كائناتٍ تحملها الأرض

ويطوق بيديه تباريحَ نازفةً

وهو يتقلَّب على حقائق شغلته

في فؤاده لوعات تدنو لاهثةً

ليبوح تحت قمر الحقول

ويغمره شذىً يراه

يكتفي أنْ ينام على ذكرى للتأمل

كأنه يتوسَّد بين يدي حبيبته

لتسقط عليه نظرة ناعمة

ويستنشق صباح الوطن ويقرأ أوراقه الأولى

***

بقلم:محمد صالح عبدالرضا

رواية مهجرية قصيرة

(يلحق ماسبق)

***

كنت أراجع الحسابات في الساعة الرابعة، وأتهيّأ للمغادرة حين رن جرس الباب، فإذا هي أمامي:

دهشة

انفعال أكاد لا أخفيه علامة فأل أخرى.بدأت يومي بعينين تخيلتهما مرعبتين وختمته بابتسامة شفافة:

- مساء الخير؟

- أهلا مساء الخير.

- أتغادر الآن؟

- أراجع الحسابات ..وقلت ضاحكا:خمنت أنك لا تأتين فقد ظننت السمك لم يعجبك.

- كان رائعا المرة الأولى نجربه..لم ننتبه له من قبل كنا نفضل الكارب وسمك ابراهيم..

- لا مشكلة سأوفِّره لك

- قل لي هل مرت أمّي عليك في الصباح لتسألك عن الكارب؟

ذُهِلْتُ

سمعت شيئا بين المعقول واللامعقول:

السيدة ذات العينين الماكرتين أو الساطعتين أَمِ القويَّتين أمّها...السيدة الطويلة النحيفة ذات الخمسين عاما بوجه عاديّ لا أعني قبيحا غير أني واجهت جمالا آخر فتاة في منتهى الرقّة:

- مرّت من هنا سيدة رشيقة في الخمسين من عمرها ذات شعر أسود ترتدي بدلة رمادية وتلفّ شعرها بشبكة ذات أصداف وطلبت الكارب باسم يانسن:

- هي أمّي مرت بك في طريقها إلى البيت خلال مشيتها اليومية .

- سأوفر لها الكارب.

- اعتادت أن تطعمنا السمك كلّ يوم أربعاء

- تستطيعين الاتصال بها الهاتف تحت أمرك.

دفعتُ باب العارضة الجانبي فدلفتْ إلى الداخل وقصدت دكَّة الهاتف، تحدثت بالعبرية بضع كلمات، والتفتت إليّ، سبقتها قبل أن تشكرني:

- عندكم بطاقة المحل اسمي وليد على فكرة لم أعرف اسمك.

- سوزي

- على فكرة سوزي وجدت محلا آخر في Nørrebro هناك الزبائن أكثر والمحل ملك البلديّة أيجاره أرخص لكن لاتقلقي سآتي لكم بالسمك إلى البيت.

- أين في Nørrebro؟

- هناك محل للسمك في المفرق عند jagt vej محلي سيكون باتجاه البحيرة نهاية المقبرة.أتعرفين محل الأسماك هناك؟

- الحقيقة نحن جدد هنا انتقلنا من الشمال...آرغوس أنا وأمي وأبي وبقي أخوان يديران تجارتهما هناك.

- طيب يبدو أن الحديث يشغلنا هل تصعدين لشرب كأس شاي.

- أنا الآن متعبة كان لدينا درس عملي في طبيعة الأرض شمال كوبنهاغن حفر وتحليل التربة، وعلي ّأن أذهب وأستحم لأراقب الليلة الساعة التاسعة شريطا في التلفاز؟

- أي شريط؟

Lad mig kysse din sommer fugl[i] (وأردفت) :رومانسيّ!

اليوم نفسه وضعني بين امرأتين أمّ وبنت:واحدة تسعدني بابتسامتها وأريحيتها ، وأخرى أخاف من عينيها.ليس هو الرعب.شئ ما لا أميزه، لا أعرفه ولا أستبطن سرّه، وكان اليوم نفسه يفصلني عن شارع fredrekssund ويبعدني عنه.. استقبلته أول يوم بحماس.كتبت لافتات على الواجهة الزجاجية.سمك.نحن ننفذ طلبكDu ringer vi bringer رسمت ثلاثة سمكات على الواجهة، أنظر إلى عنوان المحل بزهو:fisk الزُخْرُف ذاته والكتابة سوف تتحول إلى شارع آخر أشعر أني أرتبط به أكثر من أي مكان على الرغم من الرتابة التي يبعثها فيّ، وحين حلّ يوم الأربعاء، قدت شاحنتي إلى بيتها.لم يكن uglevej بعيدا عن محلي، تابعت باتجاه التقاطع وانحرفت نحو اليسار كانت هناك مجموعة من البيوت التي تمتدّ في حارة ضيقة.توقفت عند الباب، كان معي السمك وعلبة remoulade.قابلتني سوزي بوجهها الطلق ويدها تقبض على حفنة أوراق:

- شكرا لك.

- ليكن هذا هدية مني بمناسبة سكنكم الجديد.

- أووه هذا كثير.شكرا ألف شكر

Det var så lidt[ii]

- مادام الأمر كذلك فلا يصحّ أن تذهب هكذا يمكنك أن تأتي وتشرب شيئا.

- أنا متعب ولا أرغب أن أزعجكم برائحتي ثمّ هناك بيتان آخران ينتظران..

وقتها رغبت في أن أرى الشريط.لم تطلّ عليّ السيدة ذات العينين الجارحين.استقبلني وجهها الآخر الصبوح ذو الابتسامة الرقيقة، وزعت السمك على بيتين في Nørrebro، وانتعشت لحمام دافئ، ثم استرخيت على الفراش حتى خشيت أن يغالبني النعاس فيفلت مني الشريط.

أخبار روتينية تبعث الضجر

باولة شلوته يتحدث عن السوق الأوروبية المشتركة

القمح والحصاد

اسرائيل ...لبنان

العراق...إيران..الخمير الحمر ..التاميل..

المجاهدون في إفغانستان..روسيا تنهزم.

التاميل والملف الطويل يتساءل مذيع النشرة:كم كيلومترا يصل ملف التاميل؟

خشيت أن أغفو فيفوتني الشريط، نعمت بكأس شاي، وفي الساعة التاسعة بدأت معه، أيضا عن اليهود، الشريط يتحدث بالإنكليزية، وعيناي مشدودتان إلى الترجمة الدنمركية...الدنماركية صعبة.من حسن حظي أني فلتُّ من بلدي في سن العشرين.ذاكرتي ساطعة ، فتعلمت اللغة بيسر، وكم رغبت أن يدبلج التلفاز الدنماركي الأفلام الإنكليزية مثلما يفعل الألمان.تابعت معظم الكلمات، البطل يقيم علاقة مع شابة يهودية.يبدو متردّدا.تقول له قبلني .ضمّني.خذ شفتيّ.يعجب بوشم فراشة على فخذها، وتكاد البطلة تيأس منه، وتحاول أن تسقيه شرابا سحريا يقضي على عقدته.

ليس هناك من موت

ولا قتل

ولا معسكرات اعتقال..

لم أبتعد عن التأويلات التي قادتني لأن أغفو، هي العفوية التي دفعت سوزي أن تخبرني عن الشريط، لا أظنّها تضمر شيئا.رأيت أكثر من شريط على قناة كوبنهاغن أغلبها يخصّ اليهود ومعظمها تنتهي بالموت.هناك من ماتوا في معسكرات الاعتقال، ورأت شريطا عن يهود يهربون عبر البحر ويموتون.

كنت أحسب أن سوزي ستتصل بي أو أمها وتيقنت أن العائلة توصي على سمك الكارب كلّ أربعاء.هذا ماحدث فعلا.لا أزعم أن الأمور كانت تأتي مفتعلة أو خُطِطَ لها من قبل، أما ما أواجهه، فهو وقائع عادية لحياة يوميّة لا دخل فيها للمصادفة أو الافتعال.

قد أكون ساذجا حين أشغل نفسي بمثل هذه الأفكار فبعد بضعة أيامٍ انعطفت ثانية على محلي .كنت أقف على الرصيف أمسح الواجهة حين رأيتها تهبط من الحافلة وتعبر الشارع.

كانت تأتي إليّ..

ارتياحٌ ما يراودُني:

- تفضلي هذه المرة سأعمل لك شايا.

ودخلت، فأزحت لها العارضة، ارتقت الدرجات الخمس برشاقة:

- شكرا

- رأيت الشريط؟

- سهرت معه فقد اعتدت أن أستيقظ مبكرا.

- هل أعجبك ؟

- رومانسي كوميدي وأعجبتُ جدّ بالفراشة إنها نقش رائع على رجل الممثلة.

كان نقش الفراشة على فخذ الممثلة غير أني تعمدت أن أتحدث بالعموميات خشية من أن أثير شكوكها.

فواجهتني بابتسامة خفيفة تدلّ على الرضا:

- نحن بحاجة إلى أفلام تشيع الراحة والمرح فينا في هذه الظروف.

- ما تقولينه صحيح حياتنا اليومية متعبة فأنا أذهبُ كلَّ يومٍ إلى البيت بعد تعب وإرهاق ولا مجال عندي للتسلية سوى التلفاز وكلّ مانسمع وما نرى يثير فينا الإزعاج على مافينا من تعب وإرهاق(انتبهت إلى حشرجة الماء في الوعاء وتصاعد البخار)حلو؟

- ملعقتين فقط.

عدت بالكأسين وأنا أواصل مبديا بعض التذمّر:

- كلّ مساء إما أخبار الحرب أو السيد باوله شلوته يناقش مسألة التاميل.

ضحكت، وعقبت:

- ستأتينا تجربة الفضائيات والصحون التي تغزو الأسطح في بعض الدول بأشكال أخرى متفاوتة بين الرقص والغناء والعنف أو الطبيعة ولنا أن نختار.

- أظنّ سعرها في البداية يكون غاليا مثل الهاتف النقال.

صوت الجرس، يتلوه صرير الباب..زبون دنماركي يسأل عن فيليه السلمون ثمّ أصعد إليها:

ارتشفت رشفة خفيفة:

- سنرى إذن!

- كل اختراع في البداية يكون غاليا ويبدو كماليا مثل المذياع و التلفاز والثلاجة ثمّ يصبح لا يفارقنا.

- أمس سألت عن النقال سعره لايقل عن 3500 كرونة كم كان يوفِّر عليّ الوقت .

- في المستقبل يصبح أرخص بكثير ولندع ذلك للأّيّام.

أعود إلى الشريط بعد صمت قصير:

- لكن قولي لي ماذا تعني الفراشة على رجل االبطلة؟

فهزّت رأسها تتأمّل لحظة وقالت:

- لا أظنّ تحمل معنى أبدا سوى أنها مجرّد وشم جماليّ.

فترة صمت ورشفة أخرى، عيناي تحومان عند الدرجات والعارضة أتحاشى إحراجها.

عالم من الخفاء يسري في داخلي.

تختلف عن أمها، وعن بطلة القفز بالزانة ذات العينين الزرقاوين التي حصدت الميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية.هو الماضي البعيد يأبى إلا أن يقتحم اللحظة..جنبها بالضبط على المنصة لاعبة صينية رفضت أن تمدّ يدها إليها.ارتحت..وهتف أبي عاشت.قالت أمي الصين عظيمة، وصفّق أخي في هذه اللحظة أجد سوزي تختلف هي الوجه الآخر الذي يخلو من أية حدة وقسوة:

وديعة

ناعمة

مثلي تهرب من العنف:

- هل أعجب والدتك السمك؟

- جدا ...كان لذيدا جدا..

- يبدو أنكم لم تجرِّبوه من قبل.

- الحقيقة سمكنا المفضل دائما الكارب وسمك إبراهيم والسلمون أحيانا ولا أظن جربنا الأنواع الأخرى.

- يعني ترغبون أن أجلبه لكم فهو أرخص الأنواع؟

- هذه الأربعاء نحتاج إلى كارب وسمك إبراهيم.

- عن السعر سأجعل لكم تسعيرة خاصة لن أسجل ما أبيعه لكم في الحصالة .

وخرجت ممتنّة وفي عينيها شكر وغبطة..انتظرت لحظة تبتعد خطوات ووقفت عند الباب كأنّي أمسح الواجهة..تابعتها وهي تسير باتجاه المنعطف حتى انحرفت عند الشارع الفرعي وغابت عن بصري.. ، هل بدأت أغالط نفسي:

الأسبوع نفسه...

الشارع الرتيب

الضجر

لم تتغيّر مجريات الأحداث..كلّ ليلة أرى العنف..أو اتعمّد أن أراه وعلى أقلّ تقدير أسمعه بملاحقتي المذياع..في الفجر مع السمك..خلال النهار أقطّع السلمون وأسلخ الجري الأملس، أصفّ الأخطبوط جنب الحبّار..من قبل لم أكن لأشعر بالوقت ولا الضجر فرحة جارفة غمرتني وأنا أفتتح المحل.كنت أعدّ الشارع الرتيب خصما أهزمه ذات يوم، وقد هزمته بشارع بديل بهي حيّ على شفا مقبرة، فأيّ فراغ يدفعني للعزلة حين تتأخّر سوزي؟وكان أثقل الأيام يوم الأحد، أقضيه في تنظيف البيت إلى الظهيرة ثمّ أتمشى على ضفاف البحيرات ، وبعد ساعة أعود إلى البيت.

أحس أن العالم يموت هذا اليوم.

كنت داخل الثلاجة الكبيرة أنزح بقايا الماء حين رنّ جرس الهاتف.كانت سوزي:

- هل أنت متفرّغ غدا الأحد؟

- ليس هناك من شغل لدي.

- أتحب أن نلتقي في مركز المدينة أدعوك على فنجان قهوة.

- يسرني ذلك.

سأخرج معها مثلما خرجت مع عبير.لا أخدع بصري ولا حواسي هناك واقع جديد أعيشه وأنسجم معه.مابيني وبين الماضي انقطع وقد لا يعود.

كنت أستقبل بعد هاتفها يوم الأحد ببعض التفاؤل.انتظرته بفارغ الصبر، المرأة التي بعثت فيّ بعض الخوف أوّل مرة تجعلني أرتاح للقائها وتخرجني من يوم كئيب.انتظرتها عند مبنى البلدية.هبطتْ من الحافلة فاتجهتُ إليها.هذه المرة عانقتها وطبعت قبلتين على خديها شأن الدنماركيين والدنماركيات حين يلتقون.أحسست أننا أصبحنا صديقين في وقت قياسي.أصداف السمك جمعتنا فنسينا رائحته.كان ممكن أن ألتقي فتاة أخرى بشكل آخر: الديسكو..المدرسة.كافتريا.. غير أن هناك رهبة وبعض التردد جعلتني أحسب ألف حساب لأية علاقة أقيمها مع الدنماركين أو العرب.

- أتحبين أن نجلس في سكالا

- هناك مكان أهدأ

- مثلما تحبين.

ونحن نعبر الموقف باتجاه شارع المشي:

- سكالا أول مقهى ارتدته بعد وصولي الدنمارك.

وانحرفنا إلى شارع فرعيّ ضيق .قادتني ألى مقهى تزدان بوابته القديمة بزخرف لأمواج وسفينة تتصارع، فوقها، على العارضة العلويّة لافتة تتلألأ بعبارة Skibscafé.

- شاي أم تحبّ شيئا آخر؟

هل تكون دعوتها لي ردا لهدية السمك التي قدمتها لهم؟:

- دعيني اليوم أكسر عادة كل يوم ليكن قهوة بدلا من الشاي.

طلبت كوبي قهوة وقطعتي sneglekage[iii]. قالت:

- تقضي يوم الأحد وحدك في البيت؟

- هو يوم راحتي الوحيد.

- أليس عندك أصدقاء هنا؟

قالت ذلك وهي ترتشف بعض القهوة، فرفعت الكوب أجاريها:

- لا أبدا معظم الذين أعرفهم زبائن من العرب أو العراقيين ، ولا أذهب إلا يوم الجمعة إلى المركز الإسلامي الذي معظم الذين يرتادونه من المغاربة والباكستانيين أعرض هناك بضاعتي لاأكثر.

ورفعتُ الكوب ثانية فلفحت أنفي رائحة البخار وتحسست لذّة المرارة بطرف لساني وأسفل لهاتي، قالت:

- وكيف كانت رحلتك من بلدك إلى هنا؟

هذه هي السنة الثانية تمرّ..فضول أم شفقة أم إعجاب؟أنا نفسي لا أعرف كيف فاجأتني الحرب حين كنت خارج بلدي.جبن أم خوف..موقف سياسي.لاعداء لي مع الحكومة. لا أنفي أيّ احتمال..أعطوني اللجوء الإنساني:

- أنا طالب معهد نفط في السنة الأولى.كنت أرغب في البيطرة غير أن الكومبيوتر وضعني في النفط على وفق المعدّل، وخلال سفرة لنا نحن الطلاب في الأردن اندلعت الحرب ربما من دون تفكير أو تخطيط التقطت أنفاسي فهربت إلى هنا.

فكرت

صفنتْ قليلا

ابتسمت:حسنا فعلت. (أضافت) لديك إخوة وأخوات؟

- ثلاثة وأخت أنا الأوسط (وأضفت)

- من حسن حظي أني اخترت الدنمارك لألتقي شابة رقيقة لطيفة مثلك!

- شكرا جزيلا يسرّني أن أسمع هذا الإطراء منك.

لم أخطئ إذن مجاملة في محلها، وجاء دوري لأسألها:

- أنت في الأساس من آرغوس؟

- وُلِدْتُ هناك .أخواي روبي و يواكيم أكبر منّي بقيا يتابعان تجارتهما في آرغوس أنا جئت مع أبي وأمي.والدي يعمل في تجارة القمح والشعير.. في الأساس لدينا فرع في كوبنهاغن ومكتب في آرغوس وقد ارتآى والدي أن يصبح فرع كوبنهاغن هو الرئيس.

ومرت فترة صمت قضمنا خلالها بعضا من قطعتي ال Sneglekage.كان الشارع الضيق القديم هادئا والوقت مايزال مبكِّرا ..أتجاهل ساعة يدي وأبحث في الحائط عن شئ ما يشير إلى غير الزمن الذي وجدته رتيبا في أيام الأحاد قبل هذا الأحد:الحائط مسكون بلوحات لسفن قديمة:واحدة تصارع الموج كما في الواجهة الخارجية لكنها أصغر منها ولوحة كبيرة لسفينة ترسو على ساحل تؤذن حركة الناس فيه أنّ السفينة على وشك الإقلاع، وأسفل المصباح المستطيل الخافت لوحة صغيرة لسفينة من غير شراع.. يتلوها في زاوية الجدار تمثال لحورية البحر التي تنظر إلى البعيد..كان موعدنا الساعة العاشرة، فتناهت إليّ دقّات ساعة مبنى البلدية وهي تعلن الحادية عشرة، فابتسمت، واتسعت ابتسامتي.قلت:

- مادام يوم الأحد طويلا ومملا مارأيك أن نمارس فيه خلال الصباح رياضة المشي ؟

- إن كان الأمر كذلك فيمكن ألا يكون الأحد القادم؟

- كما تشائين براحتك.

- على فكرة أمي تبلغك تحياتها وتشكرك على الهدية في الوقت نفسه تدعوك على غداء الأحد القادم أهذا يناسبك؟

هل هو هاجس أقرب إلى الشكّ حين أراها وجدتْ فيّ واحتها الشرقيّة الدافئة من دون أن تكّلف نفسها فتسافر أو تهاجر..مثلما تسافر أيّة دنماركيّة إلى أعماق أفريقيا وأقصى آسيا لترى أشياء غريبة وتلتقي الشمس بشكل آخر.. لا أقول تطمئن حين تلتقي شخصا من هناك ..لايحمل السلاح بوجهها بعدئذٍ أستبعد أيّ احتمال يخدش صفاء اللحظة التي أنا فيها.لا أحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل ولا أتهمُ المصادفة...لست جنرالا تتجسَّس عليّ ولا بالسياسي الذي تختلس منه الأخبار وتقتنص الأحاديث الضالة، وزلّة اللسان، سمّاك ورث المهنة عن أبيه وعرف وهو صبي قيادة السيارة، كنت أسوق في العراق من دون رخصة، هي المخالفة الوحيدة التي اقترفتها هناك، وحين رأت الباحثة الاجتماعية رغبتي في المهنة دفعت لي أجور دورة السياقة، ، هذا كلّ ما في جعبتي عن نفسي..فلا أرسم هالة كبيرة حول نفسي تنغصّ عليّ ما يمكن أن يبعث فيّ راحة لا حدود لها:

- أنا ممتن لها.

- والدتي امرأة قليلة الكلام متديّنة لا تكره أحدا ولها رؤيا خاصة حول اليهود ترى أن تجمّعهم في فلسطين يقرِّب نهايتهم ويقودهم إلى الإبادة .الأوروبيون خدعوهم وكان عليهم أن ينتظروا المهدي المنتظر[iv] قبل أن يهاجروا إلى أرض الميعاد.

- هذا رأي والدتك فقط؟

- بل رأي العائلة كلها نحن من تكتل كبير في أوروبا والأمريكيتين نؤمن بهذه الفكرة أخي روبي هاجر إلى إسرائيل ورجع ..بعد ستة أشهر إعترف أنّه كان على خطأ.

العينان الزرقاوان والنظرة الثاقبة.انبهاري إلى حد الفزع منهما، لا أقدر خلال لقاء أن أغيّره.السيدة التي دخلت عليّ المحلّ لم أكن أعرف دينها ومذهبها لكني ارتعدت رعدة خفيفة من عينيها.كدت أتحجر من الذهول وعندما عرفت أنها يهودية ارتسمت في فكري من حيث لا أشعر صورة بطلة الأولمبياد الأسيوي التي تنظر إليّ بعينيعا الزرقاوين الحادّتين، كنت أنظر العلم ذا النجمة السداسيّة الزرقاء فأرسم في المدرسة مثله مثلثين متداخلين أحدهما قاعدته للأسفل والآخر للأعلى ثمّ أقطع رأسه العلوي، أما ما أسمعه من سوزي فهو مختلف تماما:

ناعم

لطيف..أنيق

خفيف كظل شجرة

لا أنفي أنّها قد تكون توجستريبة مني في اللقاء الأول ..تحسَّسَت..شَكّت ..ولم أندم لأنني – بعد هذا المشوار- كشفت عن نفسي لها مصادفة أو عن غير وعي مسلم شيعي لا آكل إلا سمكا بأصداف، وهناك دولة تهتف كلّ يوم: الموت لإسرائيل ..الموت لأمريكا.بعد هذا المشوار أصبحت أتحرر من توجسي القديم..خلال الأسبوع ، أتصلت بي السيدة يانسن كانت تسألني بصوتها الجاد الرزين ذي الملامح الخشنة عن الكارب ، وذهبت بالشاحنة يوم الأربعاء، فاستقبلتني عند الباب بابتسامة باهتة حاولت أن أتحاشى عينيها مع ذلك لم أرهما حادتين..زرقاوين من غير حدّة ولا صرامة ، وأكاد أجزم أن تكاد تكون تمثالا بعينين زرقاوتين يطالع القريب والبعيد بتأمل عميق كالروبوت.أشعر أنّي نجحت لم أعد أتحسس وأتساءل مع نفسي قبل أن أسلمها السمك وأعود للشاحنة إذا كان الأمر كذلك فمن أين جاءت سوزي باللون البني .أمامي يوم الأحد واللقاء الذي يطول:

هل مازالت سوزي في الجامعة.

اليوم تأتي متأخرة عندها تطبيق في يولاند.

السمكة جاهزة .

كم ؟

- سأتحاسب مع سوزي.

- فقط أريد أن أعرف.

50-  المفروض 80 لكن

قالت كأنّها تختلس شيئا فتداريه بابتسامة خفيفة:

- شكرا

وفي عصر الجمعة مرت بي سوزي قادمة من الجامعة كانت تشكو من إرهاق أسبوع قضت أيّامه مع الاستاذ وزملائها في يولاند، يدرسون الصخور.تقلهم حافلة الجامعة مبكرا وتعود بهم نهاية النهار، كنت أصغي لها باهتمام وتتحدث إلي كأنّ شأنها يهمّني.وحين انتهت من الحديث وحاسبتني على سمك الأربعاء التقطت قصاصة ورق من محفظتها وقدمتها لي:

- هذا رقم البيت.

- شكرا لك آمل أن يكون في منزلي هاتف آخر غير هاتف المحل (أكدت باهتمام وجِدّ) أحاول بعد انتقالي إلى المحل الجديد أن يكون اثنان أو انتظر الهاتف النقال!

وإذ حل يوم الأحد بدوت أنيقا.سرّحت شعري الذي لم أهتم بتسريحه، ومعالجته بالجلّ.هي علاقة من نوع خاص، وظروف العمل لا تسمح لي أن أقضي وقتا في أناقتي.

يوم له طعم مختلف.

بعض الغيوم انتشرت عند الصباح ثم تشتت وتلاشت.

كنت أدخل منزل العائلة اليهودية من دون أن أشعر بعقدة ما.

رهبة..

ذنب...

لم أنس أن اصحب معي طاقة ورد ملونة.اضطررت أن أحضرها قبل يوم، ولم أنس أن أجلب معي سمكة سلمون..وجدت سوزي عند الباب فقادتني إلى الردهة وغرفة الضيافة.فلفت انتباهي ترتيب البيت وأناقته، ومسحة الفخامة التي لا تكاد تخلو من بساطة، أما الجدران الزيتية الألوان فلم تضمّ إلا لوحة للسيدة يانسن وهي العشرينيات من العمر بجانب زوجها. بدا أقصر منها، عيناه واسعتان صافيتان لم تثيرا فيّ أيّ انطباع.

أكثر طيبة

سهل ..متسامح

حاد الذكاء

هكذا رأيته

وكانت صورة .سوزي وصورتان أخريان لأخويها منتصف الجدار الآخر المفضي إلى غرفة الطعام، ثمّة على يمين تلك التشكيلة من الصور إيقونة لشمعدان ونجمة كنت قد رسمتها وقطعت رأسها ذات يوم .لم أسرح إلى الماضي البعيد بحماس مفرط بعد، فتجاوزت شرودي على وقع صوتها :

- إذن ستغلق هذا المحل القريب منّا؟

- أجل ياسيدتي

- وأين محلك في شارع Nørrebro عند محطة القطار؟

تستطلع وأنا مازلت أتحاشى النظر إلى عينيها إلا ماندر خشية من أن تقرأ أفكاري أو تدرك حرجي.، فتخمّن أنّي تلاعبت بنجمتها ذات يوم وأنا في سنّ الثانية عشرة من عمري..مررت بهذه التجربة مع شرطيّ أول ما وصلت الدنمارك إذ راح يوجه لي الأسئلة ولا ينظر، وشيئا فشيئا تعوَّدت أن أطيل النظر إليها:

- لا بداية الشارع من جهة مركز المدينة.

- آ ليس بعيدا عن المعبد

عادت سوزي بصينيّة عليها وعاء، وعلبة قهوة، وأخرى فيها أكياس شاي، وقالت تلاطفني:

- الذي أعرفه أنك في المحل تشرب الشاي وربما شربت القهوة في الكافتريا مجاملة هاهو الماء المغلي واختر ماتشاء.

قلت بشئ من الارتياح:

- في العراق اعتدنا مثل الإنكليز على شرب الشاي بل ندمنه ولا نشرب القهوة إلا في حالات خاصة وقد الفت القهوة هنا في المدرسة وكورس العمل وأفضّلها في غير العمل والبيت.

وسألتني:

- سكر حليب؟

سادة

خيل إليّ أن سوزي بدأت ترفع الكلفة بيني وبينها، والأم أصبحت أكثر ليونة، فشعرت ببعض الألفة:

- قلت إنك من العراق؟

نعم.

+من أيّة مدينة من العراق؟

+من الجنوب ..البصرة !

- كان عند زوجي في آرغوس بالوكالة عامل عراقي أظنّ اسمه كاظم شاب وصل إلى الدنمارك عام 1963 بعمرك حينذاك أخلص في عمله، في ذلك الوقت كانت هناك مجزرة بحق اليسار والشيوعيين.

- الآن سيدتي الحروب تدفع الكثيرين للهرب والمجئ إلى اسكندنافيا عن غير وعي. وقد لايكون اللاجئ ينتمي لأيّ تنظيم أو حزب سياسي.

- جئت مباشرة؟

كانت هناك رغبة تلحّ عليّ الا أذكر تفاصيل الرحلة:

- لا من عمّان.

تدخلت سوزي كأنها ترغب في تغيير الحديث:

الإنسان دائما بطبيعته يبحث عن الأمان وراحة البال.

وعادت السيدة يانسن إلى الحديث:

- من قبل كان اللاجؤون الى الدنمارك من اليسار واليمين الهاربون من شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي يمينيون ومن آسيا وأفريقيا يساريون.الآن إسلام ومسيحية وسنة وشيعة هذه أمور غريبة على المجتمع هنا.

سوزي بتأفف:

- عالم مجنون حقّا..

انتبهت إلى أنها ثبتت عينيها بعينيّ كمنوم مغناطيسي:

- وهل نويت العودة إلى بلدك حال انتهاء الحرب.

- لا أظن

فنهضت وقالت:

- أحسن ابحث عن مستقبلك هنا. (والتفتت إلى سوزي):سأذهب إلى المطبخ، وتوقفت عند الباب لتضيف شيئا خطر ببالها:

- لاتنسي أن تتحدثي عن العمل مادمت لاترغبين في الوكالة وأضافت بالعبرية بعض الكلمات..

اغتنمت فرصة غيابها فقلت أحاول أن أمحو بعض مارسمته من صورة قديمة ولا أظنّني أغالط نفسي :

- أمك لطيفة..

- لكن ّالسيدة أوريت حديّة إلى درجة مزاجيّة إن رضيت عن أحد رضيت عنه إلى الأبد.

التفتُّ إلى أنّها اختارت اللحظة المناسبة لتعرّفني باسم أمّها:

- ماذا عنّي..

جدا...اقتنعت بك إلى درجة أنها قبلت فكرتي بالعمل معك.

- لم أفهم ماذا تعنين.؟

 - اشتغلت منذ الثانوية أيام العطل والصيف في مكتب أبي، والسكة الحديد.وفي مخبز..

Praktisk?

نعم أووه عدة أعمال في التنظيف أيضا، والفكرة

 ***

د. قصي الشيخ عسكر

 ...............

[i] فلم أمريكي عنوانه I love you بطولة Peter Sellers,

[ii] تقابلها بالعربية لا شكر على واجب أو هذا قليل جدا أو بالإنكليزية:don’t mention

[iii] نوع من المعجنات الدنماركيّة.

[iv] في الدنماركيةvejleder مركّبة من كلمتين vej=طريق وleder =قائد أي رائد أو قائد الطريق وهو المخلص عند ايهود والمسيحيين والمهدي عند المسلمين.

إلى الشهيد البطل

(سهيل الشِّمري) ..!

***

ماذا أقول و كان عدُّكَ ستّه

أبليتَ عُجْبَاً ثم وحدكَ مِتَّ

*

أصررتَ أنْ لا .. لن تكون بذلّةٍ

دافعتَ حتى في دفاعكَ فزتَ

*

يا أيّها الضِّرغام في (تلِّ الإبا)

(الباجَ) تَوَّجَ بالرجولةِ أنتَ

*

لم تعطِ نفسكَ يا أبيُّ بـ(نينوى)

للمارقينَ .. فما لويتَ ولا انخذلتَ

*

يا أيّها المِقدام دونَ منافسٍ

رمزاً عظيماً يا مقاتلُ صِرتَ

*

رحماك يا بطلاً تقاومُ واحداً

كيما تُمَجَّدُ بالصَّحائفِ قد كُتِبْتَ

*

و ﷲِ موتُكَ لا يعادلُ عيشةً

بالذُّلِّ في أيدي الدَّواعشِ لو وقعتَ

*

فاصعد لواءً في السَّماء مرفرفاً

في لونِكَ القانيِّ حين صُبِغْتَ

*

فإليكَ يا عنوانَ فتوى خُضِّبَتْ

بدمِ المفاخرِ يا مُقاتلُ فافتخرتَ

*

يا أيّها المولود ليثاً ضيغماً

بطلاً من الرَّحم المُطَهِّرِ قد ولدتَ

*

يا أيُّها الممهورُ رمزاً خالداً

الغادرون إلى الهزائم وانتصرتَ

***

رعدالدخيلي

في نصوص اليوم