نصوص أدبية

نصوص أدبية

لا أسعد بوجود ابي أياما حتى افتقده شهورا، حين افتح عيوني صباحا وأجد علبة شكولاطة وخيطا أحمر ملفوفا على معصم يدي، أدرك أن ابي قد سافر وما ترك لي غير دفء قبلة على خدي، أتحسسها بانامل مرتعشة وعيون دامعة وتنهيدة حسرة تلازمني شهورا قبل أن أستعيد عناقه مرة أخرى أو أركب صدره فأستلذ نتف زغيبات بيضاء تخترق سواد لحيته القصيرة..يصيح من ألم أوبه يتظاهر فيسري إحساسه في كل ذاتي بين ابتئاس وفرح يطل من عيوني..

أعانقه وأشد عليه بكل قوتي ثم أشرع في تقبيل خديه،وأحيانا منهما اهبرعضة..

ـ ياغدارة !!..تستغفلين طيبتي لكن عيوني لك بالمرصاد..

لم اع معنى العبارة الا متأخرة..

يغيب أبي..أبكي في صمت، فغياب أبي عني يسبب لي إحساسا باغتراب قاتل كأنه وحده ولا بشر غيره يدب على الأرض معي..

أظل في سريري أعاند أمي التي لا تتوانى في استعمال قوة يديها أو تستعين بحزام جلدي لأغادر السرير حتى تعيد النظام لغرفتي وتنظيف أرضيتها من فتات أكلي، ثم تستعجلني العودة الى السرير وهي تتأكد أن النافذة الوحيدة المطلة على وسط الدار محكمة الاقفال.. بسرعة تغادر بعد أن تبادر بإقفال الباب دوني كأني في زنزانة سجنية..

"هل أنا مجنونة أوتخشى علي مسا من حمق يغريني يتفجير البيت عليها؟"

في وحدتي بين أربعة جدران، في بيت طويل عريض، ورثه أبي عن جدي، يطويني انفصال عن العالم هو ما يهدد كياني..

 لماذا أنا وحيدة؟.. ولماذا أمي بالذات هي من تفرض علي هذه الوحدة القاتلة؟..ماذا يجري داخل بيتنا وتخشى أمي أن أعرفه او تبصره عيوني؟

هل ترهبني أمي في الصغر حتى لا اعارضهابعصيان عند الكبر؟

ولأي أمر تعدني؟

 هل يدرك أبي ما يحدث في غيابه وعنه يتعامى بإهمال؟

الا يمكن أن أكون بنت أمرأة أخرى طلقها أبي أو ماتت عند وضعي؟

أمي لم تكن بعمر أبي فهي أصغر منه، بل أشك ان تكون قد بلغت سن الرشد قبل أن يتزوجها أبي..

"تعلق بي أبوك بحب عنيف وأنا طفلة أقفز في الدرب على التربيعات "..

هذا ما تحكيه أمي وتجتره على لسانها بلا توقف، وكأنها تتعمد ان يكون لها لازمة على قاعدة: التكرار يعلم الحمار..

لكنها تنسى أن تردد ما عيرتها به إحدى الجارات اثر خصام بينهما كان يصل صداه الى مسمعي دون أن أعي كامل معناه:

"من خفى عليك اصله فانظر في فعله،فماذا يُنتظر من بنت الساحرة القاتلة،تلوت كالحية على طالب بزواج وقد اتته حاملا بسفاح وهي لازالت طفلة؟؟..

لعمتي حكاية أخرى كانت ترويها وهي تشدني من ذراعي كأنها تريد أن أحفظ ما تحكي:

ـ" اسمعي جيدا وعني احفظي، لم تكن السعدية أمك غير طفلة تصاحب جدتك كخادمة في بيت أخي الذي كان يعيش وحيدا بعد أن فقدنا والدينا اثر زلزال ضرب المدينة، كانت جدتك تقوم بشؤون البيت تقضي يومها فيه.. وتغري أمك وهي لازالت طفلة بالتعري أمامه وبه تتحلس في سريره بلا حياء.. الى أن أوقعته في حبائلها "

كان أبي في العشرين من عمره يتابع دراسته طالبا في كلية الاقتصاد، غني من أسرة تهتم بتجارة الملابس القديمة ؛ كان متيما بابنة عمتي التي لحقت به الى الجامعة بعد سنتين من انتمائه اليها..

شيء ما حدث جعل بنت عمتي تصاب بتسمم معوي،دوار وقيء واسهال حاد وما أن وصلت المستعجلات حتى اسلمت الروح لباريها..

الطبيب يقول:

ـ ميكروب خطير مر من طعام الى معدة بنت عمتي..

أمي تقول: ثعبان تسلل من ثقب في السقف،زحف الى الطارمة وأفرز سمه في صحن كسكس بلا غطاء، تناولت منه بنت عمتي لقمتين هو ما قتلها..

لكن النساء اللواتي أتين العزاء والاستفسار عن حال أبي كن يرددن ايمانا بالشعوذة التي تنخر العقول:

ـ" توكال" تناولته بنت عمتي في صحن كسكس قدمته لها أمي..

كنت أسمع "وأبلع" ما يقال، فخوفي من أمي كان يهيمن علي.. لا أثق بكل تخيلاتها وماتحكيه عن عشق ابي لها ولا أكذب كل ما يقال عن تسميم جدتي لبنت عمتي حتى يكون ابي من نصيب بنت الخادمة التي صارت أمي..

كنت حين أحدق في صور بنت عمتي أجدها تتحدى أمي ملاحة وطول قامة، وقد استغرقتني صورة لها على شاطئ البحر بتفكير:

"من كان لها هذا القد وهذه الطلعة هيهات أن يحول رجل بذوق أبي وطموحه عنها النظر أو عنها قد يبتعد وهي طالبة جامعية حمالة أناقة،جمال ومعرفة "..

معناه فالعشق كان لها، وبها كان أبي متيما والصدى قد التقطته أمي للتخفيف من غلواء ما عانته مع ابي، يدرِؤها عنه فتلف حوله، إغراء من بنت خادمة ليست في مستوى طموحه، واستحثاث يومي من أمها بأطماع وكذب ونميمة الى أن سقط في حبائلهما..

"الرجل طيبة، غنى وجاه،قامة مرفوعة، زهواني باين من عينيه، ولسان من شهد..اياك أن يفلت من يدك "..

تحكي عمتي:

ـ بعد موت السعدية بنتي أصيب أبوك بانهيار عصبي، الزمه مكوثا غير قصير في مستشفى للامراض العقلية، ترك الدراسة ثم بعد شفائه شارك في دورة تدريبية اهلته لان يجد عملا في احدى الدول الأوروبية.. ولم يهاجر الا بعد أن كتب كتابه على أمك بضغوط من أمها..

ارتياب يلازمني في كل ما أسمع وأرى، ينطلق من سلوكات أخرى كانت تأتيها جدتي لأمي وتحث ابنتها على تنفيذها اذا أرادت أن تعيش سيدة ذات قوة مرهوبة..وأخرى تبالغ بها عمتي التي فشلت في إثبات جناية جدتي التي أتت على عمر ابنتها..

ـ "الكل مرتشي كان يقبض فيصمت، والرشوة لم تكن مالا فقط ".. كان هذا إصرارا من عمتي..

وحيدة في غرفتي خلف باب مقفلة، كنت أنام وأصحو بلا زمن.. كثيرا ماكان يتناهى الي في صحوي صوت أمي وأصداء أخرى تشاركها الوجود في البيت همسا أوجهرا.. كنت أتصور انها تكلم نفسها او تجتر حكاية عشق ابي لها..

أحيانا يغرغر الجوع في أمعائي فاطرق الباب من الداخل فلا أحد يرد، اتوهم ان الصدى الذي كنت أسمعه مجرد هواجس لا اثر لها،وحين كنت اسأل امي عن ذلك كانت شرارة غضب تلمع من عيونها:

ـ "حمقاء مثل أبيك فأنت به شبيهة في كل شيء "..

صورة مشوهة التشبيه ظلالها خبث نفس تريد بها غرس مالا ينغرس..

أحيانا كانت تتناهى الي كلمات يرددها صوت رجل وكأنه يزفر أو يشهق أو يمارس عملا مجهدا فترد عليه أمي الصدى بكلمات أخرى من نفس قاموسه لم أكن افهم لها معنى. فانفرادي في زنزانة غرفتي أضعف من قدرتي على التواصل وفي استقبال الكلام وفهم معانيه..

في غياب أبي تعودت هذا السلوك من أمي، لكن كلما ازددت نموا تفتح وعيي، تضاعفت قدراتي على تمثل الأحداث وتأويلها..

شرعت بسمعي وخيالي أميز بين حركة عادية وأخرى تخالف العادي وتخلق محفزا داخليا وخارجيا متخيلا أقارنه بما كنت التقطه صدفة بين أبي وأمي وهما معا في لحظة تواصل كانت أمي من تفرضها رغبات حمراء تضج من عيونها بوميض وتمارسها يدها إثارة لأبي، وكلمات كانت تعابير وجه أبي هي ما يعبر عن النفور منها فأنشد الى الحركتين بمقارنة وتفكير..

في غياب أبي كثيرا ما كان يظهر رجل في بيتنا يملأ البيت بحضور في حرية لم يكن يمارسها أبي في بيته، كان الرجل لا يستحي أن يتحرك في البيت عاريا، كان يتحكم في أمي بسلطة وهيمنة وهي له خانعة، بل أحيانا حين أنفلت من غرفتي بدعوى حاجتي للحمام وأراه،كان لا يتوانى في شتمي بعبارات كنت لا اصل أحيانا الى معناها الا من خلال ربط علاقات بما يتحدثان به معا عن غيري من الناس ويتناهى لي صداه من وراء الأبواب:

"سر،آلملقطة تدخلي لبيتك "

 ثم يصيح مناديا أمي:

ـ السعدية راك خليتي الباب مفتوحة على بنت الزنا..

 كنت لا اعرف لسلوكه سببا فهو لايتوانى عن شتمي حتى ولو ابتسمت في وجهه..شتان بينه وبين أبي. كانت ضحكات ابي معي شموسا تضيء كل ما حولي لا تغيب الا بغيابه،اما كلمات الرجل فكانت تخرج فتلوث سمعي بالفحش وتلطخ الجو بروائح النتانة والكراهية رغم اني لم أكن أميز بين قبح وحسن،فضيلة ورذيلة الا بما كنت أتلقاه من سلوك أبي في حضوره وبعد ان تقدم بي النمو..

كانت أمي تتابع الرجل بابتسامة قسرية وكأنها تلومه على تلفظات لا تريدني أن أسمعها أو تغزو عقلي بأثر..

لا ازداد مع الأيام والشهور الا تعنثا مع أمي حول ما أسمع والي يتناهى، وهل يقيم معها غيري في البيت؟ تكره اسئلتي ومنها تتبرم بعدوانية؛ كل ذلك كان على حساب جسدي، علامات تظل وسمات زرقاء بعضها باثر يطول خصوصا بعد أن منعتني من الالتحاق بالمدرسة كغيري من الأطفال بداعي حمقي وبتعليلات الجهالة وانعدام الوعي..

"جدتك لم تدخل مدرسة وعاشت أميرة تحكم فتطاع بخير ورفاهية،وعقل جبار، وانا دخلت المدرسة و ما جنيت منها حرفا ولا كلمة بعد أن تملكني أبوك من صغري بادعاء:

ــ "أنا لك عاشق،والمعشوقة لاحاجة لها بالمدرسة وعاشقها المتيم بها غني"

"كان بجسدي متيما ويمنعني أن أغادر سريره "

أحملق في وجهها باستغراب وفي نفسي أردد:

ـ وأنا رأيت غير هذا، رأيت نفورا منه نحوك وكراهية لما كنت تفرضينه عليه "

عنها لم يكن يغيب الشك الذي يلمع في عيني فتبادر باغراء كاذب

"أمك قادرة على ان تحقق منك أمراة تحرك رجال العالم بالتفات.."

ـ تريدني أن أعيد حياتها، امتدادا لها..

لوكانت تقرأ نفسها كما أنا صرت أقرأ سلوكها لربما عالجت دواخلها من تفكير الكهوف: الغباء وكذب الافتراءات..الصاق متعسف لكل ما هو سيء بأبي،لكن كل ما هو برئ جميل فهو بها وبجدتي أمها جدير..

بدأت أضيق بحصاري، وأتوق الى حرية تفسح لي لعبا مع بنات الحي حتى وان لم ارافقهن الى مدرسة..

بلغت التاسعة من عمري وأمي تصر على ان تعاملني كطفلة لاتنمو بل لدي قد توقف عن النمو عقل.. رغم القلق الذي كان يصيبها من نموي الجسدي:صدر يتكور وبياض بشرة..وسمات لاعلاقة لي بها ولا بأبي..

مرة قالت لي عن الرجل الذي شتمني:

ـ هو أخي وأكبر مني وله مسؤولية كبيرة في الدولة وأنا له خاضعة بحياء وطاعة، اسمعي وابلعي.. اياك أن تردي على ما يقول..

حين كنت أسألها:

لماذا لا يحضر الا في غياب أبي؟

كان يأتي ردها بتعليل وتهديد:

ـ هو في خصام دائم مع ابيك أياك ثم اياك أن تنبسي باسمه او حضوره الينا في حضرة ابيك، سيطلقني ابوك وعنا يغيب الى الأبد فتفترسك ذئاب الردى..

لا شيء صارت تقوله أمي وتكون له مصداقية في نفسي، أو به يمكن الوثوق،فكلما كبرت كلما اقتنعت بموت الصدق في قلبها وعلى لسانها، وكما قالت لها عمتي يوما:

ـ"لسانك نتانة لاثقة بسيل تلعته.."

لما قلت العبارة لأبي قال: كذابة لا تنطق حقا

 حتى مع جيران الحي كثيرا ما كانت تقوم بأعمال تسئ اليهم وتقسم باطلا انها بريئة منها..

وكيف أثق بها وأنا أعيش سجينة بين أقماط نفاقها لا تنقصني غير سلاسل المجانين وهي بي لا تحن ولاترحم.. حرمان من حرية، حرمان من خروج، حرمان من مدرسة..

 لكن تنفك قيودي حين يعود أبي، تلبسني أحسن الثياب مما يجلبه لي، ومن أقمطة الخوف والتحكمات تحررني خوفا واحتراسا من أبي..

فالى أي حياة تهيئني بإعداد وترويض؟..

.وأنا وبكل صدق لم أكن أخفي على أبي صغيرة ولا كبيرة مرت في البيت دون أن أبلغه بها سيان كنت قد استوعبتها ام ظلت ضبابا يجوب راسي، كما كنت أنفذ وصاياه كتعليمات بحذافيرها..

 عهد كان بيني وبينه..

أحيانا كانت أمي تسقيني محلولا فأنام بلا حركة حتى الصباح..

كنت أفتح عيوني وكاني بت انقل الصخر من مكان لآخر، حين كنت أشكو تعبي وثقل جسمي الى أمي تقول:

كلنا نشربه حتى ينظف أمعاءنا من أوساخها..

من تلقاء نفسي تعلمت كيف اراوغ أمي، اضع المحلول في فمي واتظاهر أني قد بلعته..

أدركت ماذا كانت تسقيني أمي ولماذا؟

كان بيتنا الكبير يتحول الى حلبة رقص وسكر وسحب من دخان وكانت أمي نادلة المحفل أما مدير الجوقة ومخرج لوحاتها فهو من تدعيه أخا..تستسلم له بلا أحساس ولا شعور ليحقق بها مايريد..

مسلوبة الإرادة او ربما تقوم بدور مخطط لها عن وعي وإرادة..

كنت أرخي سمعي لأميز بين الأصوات، افرك عقلي لاستوعب مايقال..

حتى ظلال أمي تعكسها الأضواء وهي عارية بدأت لا تخفى علي، صرت أميز بينها وبين نساء أخريات يتحركن معها، بل كثيرا ما كانت الظلال تعكس لي الكثير مما لم أكن أتصوره..

ذات ليلة صحوت على ايدي الرجل مدير الجوقة الذي شتمني يعريني من ثيابي، استغث بأعلى صوتي فاقبلت أمي مهرولة و عيونها ضاحكة، تصيح في وجهه أو هكذا تظاهرت أمامي:

ـ هل تريد أن تفضحنا، مرارا قلت لك البنت لا.. لن تتحمل، هل تريد أن تعيد حادثة خلود؟

ـ ألم تسقيها المحلول؟

كان يتمايل من سكر وهو يلعن ويشتم أمي التي شرعت تقبل يده وتدعوه اليها:

ـ انا معك، وبالطريقة التي ترضيك، وكيفما تحب وتريد لكن البنت لا.. لازالت صغيرة.. دعها تنضج قليلا !!..

معناه يترقبني موعد منتظر !!..

بدأت أحترس وانتبه وارخي السمع بدقة متناهية وأستعد.. احتفظت بسكين صغيرة في غرفتي للاحتياط..

اقتنعت بان كل من حولي ثعالب وذئاب..

حين تموت الأمومة وتصير الغرائز وحوشا تنهش الصدور فما جدوى الأرحام بلا وازع يحرك انسانية الانسان؟؟..

تلك كانت آخر كلمات رددها أبي على مسامعي في آخرمرة عانقته فيها بحرارة، لم أفهم ماقاله، لكنه كرر العبارة أكثر من مرة وكأنه تعمد أن أحفظها..

قلت له ودموعي تحفر خدَّيْ:

لماذا لاتأخذني معك؟ تعبت،الملل والوحدة، و الخوف صار يقتلني..

وضع يده على فمي، وكأنه يخشى آذانا علينا تتجسس، قبل خدي وهمس:

ـ قريبا

لكن ما أن فتحت عيني صباحا حتى وجدت خيطين أحمرين في معصمي واثر من ريق على خدي، وبقايا من أنفاسه تعبق وسادتي..

صار ليلي بعد غيابه ارقا لا ينتهي، لا تغمض لي عين، وكلي خوف وقلق الى أن ينقشع ظلام وتطلع شمس ثم يمتد نهار،فينزل صمت القبور على البيت..

ذات صباح باكر وبعد أزيد من شهر على سفره فتحت عيوني مفزوعة على حركات غير عادية في البيت، احذية ثقيلة بصرير قوي تتحرك قلب بيتنا بازعاج، هرج ومرج واختلاط أصوات..

 ناديت بأعلى صوتي: بابا !!..بابا !!..

رجل بزي عسكري فتح الباب بعد أن كسر قفلها، فشرعت افتش عن أمي بين رجال بنفس زيه مدججين بالسلاح ومن دخلوا بيتنا مرافقين..

كاد الرعب أن يقتلني،كان الرجل الذي تعود ان يشتمني عاريا مكبل اليدين الى الوراء وأمي خارجة من مخزن كان بين غرفة نومها ومدخل البيت، لا تستر نصفها الأسفل غير غلالة من ثوب حريري في قبضة امراة بنفس زي باقي الرجال تصوب مسدسا الى عنق أمي..

رجال أربعة كانوا عراة مثل من تعود شتمي مكبلين،وأمراتان احداهما كنت قد رايتها يوما في حمام بيتنا تنزف دما بين ساقيها..

 بعدهما ظهر رجلا أمن أحدهما يحمل حزمة ثقيلة لا ادري ما كان فيها، والثاني على كتفه صندوقة حديدية يبدو ثقلها من حركته وتعابير وجهه..

خنقات دمع ورعب ما يمسكني من رقبتي وصدري..

عيوني بين الناس زائغة..

لا احد عرفني من بين من تجمهروا بباب بيتنا، ولا أنا قدعرفت أحدا من الجيران، امرأة شرطية ظلت تلازم يدي في يدها حتى اذا بلغت مركز الشرطة وجدت عمتي التي تعامت عني كأني لست ابنة أخيها، هي نفسها قد أنكرتني..

تعامل أمومي من قبل الشرطية، أدخلتني مكتبا وقدمت لي حليبا وجبنة ومربى وخبزا..

ادركت أخيرا لماذا كان عاشق أمي يناديني بنت الزنا والملقطة (لقيطة)، ولماذا كانت أمي تكرهني،فقد أعترفت اني بنت نصراني "بيدوفيل" كانت جدتي تشتغل عنده وسقطت معه أمي في سفاح، وان من كانت تدعيه أخاها ليس الا مجرد مهرب إرهابي يسخر أمي لأغراض دنيئة،ويستغل بيتنا في ترويج المحرمات.. وأن ابي كان لا يجهل عقمه و يعرف أني لست من صلبه.. لهذا فضل الهجرة بمساعدة دوائر حكومية لم تكن غافلة عما يقع في بيتنا وهي العيون التي كانت تراقب بيتنا بعيون لاتنام للعلاقات الأخطبوطية التي ينسجها الرجل الذي لا يغادر بيتنا مع مافيات خارجية و تتابعني بحراسة وانتباه..

نصف شهر وأنا في مركز لرعاية الطفولة الى أن أتى أبي وتسلمني..

كانت الفرحة والسعادة على وجهه تعلن علمه بكل ما حدث..

بعد مدة كنت أحمل أوراقي التعريفية.. كم جاهد ابي ساعيا ليحقق لحمتي مع وجودي الحقيقي لكن بغير انتساب اليه وانما صرت أحمل انتماء لا اعرف من أين تسوقوه..

فقد تخلى الكل عني لاني لست الا "طفلة ولدتها الرذيلة.".

وحده الرجل الذي احبني وتعلقت به وظلت قبلته دفئا على خدي لم يتركني، ولم تتغير عاطفته نحوي،هو من تسلمني وفي كنفه ورعايته صرت أتابع حياتي.. في حرية، سكينة وراحة بال.. اعانقه، لكن صار يتحرج من أن اركب صدره. ولا أنا أستطيع أن أستغفله لاهبر عضة من خده.. الآن فهمت العبارة:

ـ ياغدارة !!.. تستغفلين طيبتي لكن عيوني لك بالمرصاد.

فعيونه عن حبي لم تنم وعما يجري في البيت لم تغْفُ أو تغِب ْ

 كان يمني النفس بأمل هو علامة الخيطين الأحمرين الأخيرين في معصمي لكن وقوعه في حبال أمي بتخطيط من جدتي صيرني من المحرمات عليه..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

هي دعوة للرقص

على حافة الجرح

وسرقة القليل من نافذة

الوقت

يوما أو بعض يوم

لأقول لك

أحبك على طريقتي

قبل أن يغفو النهار في حضن القلق

قبل أن يسيل الليل كحلا من عين الخوف

أحبك بطول هذه البلاد

سرب فراش يعرج إلى السماء

ويعود محملا بالنور

بعرض الحلم الذي

تنثره الوردات في طريق الريح

فتغني وأرقص أنا

أرقص لك وحدك

بقدمين لطالما قيدتا المسافة بالاقتراب

وجهي قمر يفج الأسود

يساقط موجا على الكتفين

وأرقص لك

وأصهل شعراً

كل النجوم

قصائد عشق

تسافر مني إليك ...

**

أريج محمد أحمد - السودان

هي ذي

مسارات الغيم

تؤطر رؤى

ورغبات

قرنفلات الصباح

ورؤى هداهد

السفح الاصيل

فحينما الريح

تهب تبتسم

القبرات لللحن

المضيء ونبضاتي

تهجر منحنيات

الحزن العتيق

فهي ذي غزلان

النبع المضي

تلوح للنوارس

القادمة من

شواطيء بحار

وبحيرات الحزن

لتحط قرب

سياج حقل

الحكمة الخضراء

والامل الاخضر

وهي ذي

خيول البرق

اراها تصهل

تصهل ملاعبة

اسرار هداهد

الحقل الاجرد

وبنفسجات

وقبرات النبع

الحزين .

***

سالم الياس مدالو

أيقن أن عليه تنفيذ جميع الالتزامات، كإجراءات بيع الشقة التي كان يمتلكها في الحي (ج) الكائن في دولة (ق)، مع ما تحتويه من الأثاث.

جمع رحاله استعدادا، بما في ذلك تجديد جوازه، والذي انتهت مدة صلاحيته مذ تاريخ مغادرته العراق؛ ذلك عن طريق بعض المكاتب الخاصة بأحزاب المعارضة العراقية، تحرر من قيد حسابه المصرفي بعد سحب المبلغ المطلوب، تهيأت عائلته الصغيرة للسفر دون تردد، رغم المخاطر الخاصة بالمهاجرين في المطارات.

اتصل به صديقه الذي أخبره عن الموعد المقرر للرحلة، والتي تتطلب تمزيق الوثائق والجوازات قبل الوصول إلى مطار الدولة (ص).

لم يكن الأمر سهلا، فالوصول إلى المطار المذكور مرورا بدولة (س)، وبعض دول أوروبا يتطلب الكثير من المجازفة، والصبر.

أنهى ما هو مطلوب منه بدقة متفانية، خاصة بعد اتخاذ القرارات الخاصة بالمقيمين، العراقيين في البلد (ق) والتي تتطلب الحصول على هوية اللجوء، أو المغادرة، ما يملي عليه أن يحرر نفسه من قيود الحسابات الإدارية، والأمنية والتي لم يكن بإمكانه التخلص منها في حالة البقاء.

تصفح جواز زوجته الذي يتضمن أسماء أبنائه الصغار، ودع أصدقاءه المقربين بسرية تامة، بما في ذلك أصحاب البيت الذي استأجر منهم، والذين ساعدوه في احتضان أولاده، والتعاون معه طوال مدة إقامته، والتي امتدت لأكثر من خمس سنوات.

كان الموعد المقرر للمغادرة ظهيرة يوم شتائي ممطر، وكانت الوجهة الأولى بلد ثلجي تصل درجات الحرارة فيه إلى ما تحت الصفر، بلغ عدد المجموعة سبعة أنفار، بضمنهم سيدة أودعها زوجها معهم، ارتدى معطفه الأزرق الثقيل والذي يتناسب مع الأجواء الباردة.

لم تكن الأمور سهلة، فالسماء ملبدة بالغيوم، والأقدار مجهولة، ومحفوفة بالمخاطر، بيد أن هنالك أزمنة تفرض عوائق أحكامها، وإن كانت مكبلة بالموت، والخوف، والسجن، والضياع.

تم ختم الجوازات في شباك المطار، أقلعت الطائرة المتجهة إلى الدولة (س)، بينما راح ينصت إلى تسارع عجلاتها، واندفاعها وهي تنهض بأثقال جناحيها ومحركاتها تاركة خلفها ركام الماضي على شاكلة قوس ينطلق من المنحدر، ليعلو متجها نحو السماء.

استقر ومن كان معه في أمكنتهم بصحبة حقائب ال hand back، والتي أخذت مكانها في الرفوف المغلفة من الطائرة.

اتخذ مكانه في المقعد القريب من النافذة عند الأمام، قريبا إلى الجناح، هنالك حيث يجد المسافر نفسه معلقا مع السماء، والغيوم.

أحس بالحياة ترد إليه وهو يتكئ بأنفاسه، مستسلما لشعور يعتريه لأول مرة، وهو يخوض تجربته الأولى، فهو لم يجلس بطائرة طوال حياته، وذلك أشبه بحلم جميل بالنسبة إليه، ولذلك لم يكن يكترث لكل المصروفات والخسائر التي تم إنفاقها لهذه الرحلة.

كان المقعد الخلفي مخصصا لمسافر تميزت أناقته وملامح وجهه إلى أنه رجل مهم، لكنه لم تعرف جنسيته، ولغته بالنسبة للجميع.

سار الزمن معه محلقا عبر ساعات تستغرق وقتا طويلا وثقيلا، ناهيك عن المخاطر التي قد تتعرض لها بعض الطائرات أثناء التحليق في حالات الطوارئ الخاصة بالعواصف الثلجية.

شوط من الساعات مضى لحين وصول الطائرة بسلام إلى مطار الدولة (س)، نُصب خرطوم الطائرة، وغادر المسافرون متجهين صوب الفندق الذي تم تخصيصه لهم.

تسارعت أحلام الرجل، لتتناثر مثل وريقات كتاب الجغرافية الذي أشغله يوم كان طالبا في المرحلة المتوسطة على مربعات الخرائط التي ارتسمت خطوطها، لتبدو على هيئة رسوم تتقاطع حواشيها عبر النافذة.

مر يوم من السفر بفصول أنقاضه الثقيلة والمتعلقة بنوع الطعام، والمنام، وجميع متطلبات الإقامة.

تهيأ الجميع في اليوم الثاني لصعود الطائرة المتجهة صوب مطار (ص) مرورا بمقاطعات ودول تزدهي بالخضرة، وجلس خلفه نفس الشخص الذي كان برفقتهم في الرحلة الأولى.

ساعة مضت حتى أقبل رفيقه في الرحلة نحوه وبسلوك طائش،  ليخبره وبصوت جهوري بأنه سيذهب إلى المرحاض، ليمزق وثائق سفره، دون أن يكترث للمسافر الذي كان يجلس في الخلف، والذي اتضح فيما بعد أنه تم تخصيصه لمراقبة ما يجري، وأنه ضابط مخابرات من الدولة( س) ومن جنسية عربية، وهو كما يبدو أنه استلم برقية خاصة تعلمه عن مغادرة هذه المجموعة من المسافرين ابتداء من مطار الدولة (ق)، وانتهاء بمطار الدولة (ص).

لم يكتف ذلك الطائش بالإخبار عن موضوعة تمزيق وثائق سفره، بل راح يتحدث على لسان غيره من المجموعة.

لم يبق إلا نصف ساعة لهبوط الطائرة في أرض المطار الخاص بالدولة (ص)، حيث لم يحسم الأمر بعد، لكن صاحب المعطف الأزرق بقي محافظا على رباطة جأشه، ولم ينبس بكلمة واحدة، كأنه أدرك أن الخط قد تم اكتشافه ومراقبته من قبل الأجهزة الخاصة بأمن المطار التابع للدولة(س)، بما في ذلك المسافر الذي كان يجلس في الخلف.

حطت الطائرة على أرض المطار (ص)، تم تشكيل خرطوم خاص بالمجموعة لفصلهم عن باقي المسافرين، تم عزلهم عن باقي المسافرين، بغية التحقيق معهم تباعا، والبت بتسفيرهم  إلى البلد الذي انطلقوا منه.

الحلقة الثانية ستأتي

***

عقيل العبود

منذ أن أحيل على التقاعد أصبح البيت جحيما لا يطاق بسبب مناكفات امرأته التي لا تكف عن الثرثرة والصياح والتذمر ووجوده الدائم علما ان البيت لايضم بين جدرانه غيره وولد وبنت قاصرين وزوجته سليطة اللسان وهروبا من الوضع المؤلم اخذ يبيت الليالي عند الأقرباء والاصدقاء من دون أن يشكو حاله لأحد منهم ولما كثرت عليه الأسئلة قرر أن يقضي أغلب الليالي في أضرحة ومزارات الأولياء وهي كثيرة ومنتشرة في محافظات متباعدة ومر عام على هذه الحالة يعود لبيته ليلة أو اثنين ثم يشد الرحال لزيارة مرقد إمام في ناحية أخرى وذات مساء وهو يسند ظهره للسياج الخارجي للضريح القت عليه امرأة تبدو عليها مظاهر النعمة والثراء السلام واستاذنته بالجلوس قربه ولما استقر بها المقام سألته..

. الم تكن حامد الغركان؟

. نعم انا هو فمن انت؟

. انا فهيمه الجدوع هل تذكرني؟

. حك راسه وتمعن بها وقال لها:

والله يا بنت الناس كبرت وتقاعدت وتعبت ذاكرتي لكن الاسم ليس غريبا تماما عني

. انا بنت الحاج جدوع جار ابيك واكملنا الإبتدائية معا في مدرسة الإصلاح المختلطة بعدها ذهبت انا الى متوسطة اليقظة للبنات وذهبت انت الى متوسطة الوثبة للبنين ثم نقل أبي الى محافظة أخرى فانتقلنا للسكن هناك وانقطعت اخباركم ودارت الدنيا معنا دورانها وكبرت انا وتزوجت في تلك المحافظة ومات أبي وأمي بعد إعدام اخي بتهمة الانتماء إلى تنظيم معادي وبعد خروج الجيش من الكويت وقيام الانتفاضة وفشلها هربت مع زوجي واطفالنا الاثنين الى مخيم رفحاء واقمنا هناك فترة من الزمن ثم جاءت الموافقات على طلبنا اللجوء فارتحلنا الى النرويج وكبر الاولاد وتزوجوا هناك ولم نعد انا والمرحوم الا بعد سقوط النظام السابق وحصلنا على حقوقنا كاملة لكن قبل ثلاثة سنوات أصيب المرحوم بوباء كورونا وتوفاه الله فبقيت وحيدة رغم الثراء والنعمة التي انا فيها .. لكن انت كيف سارت معك الايام؟

. انا لم أترك البلد وبقيت ذلك الموظف الذي يعاني شظف العيش وسوء خلق الزوجة حتى احلت على التقاعد وظننت اني وصلت زمن الراحة لكن يبدو اني من الذين كتبت عليهم قلة الراحة بعد أن حولت زوجتي ( بنت الكلب ) البيت الى جحيم فقمت بممارسة الهروب الدائم وقضاء أغلب الايام بجوار أضرحة الأولياء والصالحين وما ان أعود للبيت يوما أو يومان حتى يشتد شجارها معي فاشد رحالي الى ضريح آخر حتى يأخذ الله أمانته

. منذ متى احلت على التقاعد؟

. مضى سنة بالتمام والكمال

. يعني أصبح عمرك (٦١) سنة؟

.تمام وليته لا يطول أكثر

. ما رايك بمن يقدم لك فرصة خلاص من حياتك المرة هذه؟

. اقبل يده وابقى شاكرا له طول عمري

. اذا هذا عنواني في المحافظة التي انا فيها ورقم هاتفي وما عليك سوى الذهاب إلى بيتك وأخبارهم انك تعينت في شركة تعمل في الصحراء ولا يسمحون لك بالإجازة الا بين فترات بعيدة تصل نصف سنة أو أكثر وتقطع متعلقاتك معهم وتأتي للعيش معي حتى يتوفانا الله ولك علي توفير فرصة حج بيت الله وسفرة كل صيف للنرويج وعمرة لقبر النبي كل حول وتقضي حياتك مثل الملك يازوج المستقبل .

قبل يدها وراسها ووعدها بأنه خلال يومين سينسلخ من عالمه القديم وينتمي إليها.

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء تغير

خطاي ما تزال شاردة

وخنجر الزمن مغروس

في خاصرتي

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء تغير

جرحي مازال عميقا

وأفكاري تائهة

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء  تغير

تاريخي مازال شاحبا

وأحلامي هائمة

2

أحيطك علما أيتها الأيام

أن الوجع حط الرحال

واستوطن الذات

ودفاتري تمزقت

في قبو مظلم

وخسرت كرامتي

دون مقدمات

في البدء

جاء الحَرسُ

قادوا مشاعري

إلى المخفر

قَيَّدوا عواطفي

وأثبتوا حالة التلبس

وقبل أن أستفيق

من صدمتي

قالوا :أنت شقِيٌّ

رَوَّعَ الحروف

أنت نِشاز

جوّع المعنى

وضَيّقَ الأفق

اِذهب فأنت من الطلقاء

المُسَوّرِين

3

أحيطك علما أيتها الأيام

أن صخب الأمس تلاشى

ودمدمات الطفولة تورات

خلف عواء التشظي

وأن آهات القلب طوقها

الأسى

فضاعت في صمت الأسحار

البئيس

***

محمد محضار

 2023

يرحلون عن الدنيا تاركين وراءهم

صفاء الصرخة

لم يخافوا من ظلام الحالمين بالاقامة

في أرض ليست لهم

تجدهم في الساحات

وإنفتاح اللغة المشتهاة على الهتاف

في دفاتر الذاكرة

أصوات الثكالى

دخان الحريق

هروب الجنود من سراب الإنحياز

لوهم الأجداد الآتين من شمال الوعد

المشؤوم

وجنوب الفكرة الغارقة في المتاهة

هنا في جنين.. أولاد درويش

وأحفاد سميح و ناجي

قبل مجيء الغروب باغتهم حنظلة

بالصراخ الأنيق

وإخضرار الكبرياء في الأجساد

***

البشير عبيد / تونس

مقتطف من قصيدة طويلة

صديقي العزيز!

أنت تعلم أنا لا أكتب الرسائلَ لشخص آخر غيرك! إسمك محفور في قلبي، بل في كلّ القلوب! ومدوّن في أعماق الأعماق!

أجلسُ أمام منضدتي، أنقرُ عليها بإصبعي متطلعاً إلى هاتفي متوقعاً رنينه في أي لحظة! أنتظرُ مكالمةً هاتفيةً. لن تأتيني هذه المحادثةُ بالتأكيد من أخ أو صديق أو قريب أو حبيب. هؤلاء الأصدقاء والأحبة تبخروا، لم يعد لهم وجود. ولا من الأهل، إنهم بعيدون كما لو أن سور الصين العظيم يفصلني عنهم. متى سأجتازه؟ هذه أمنية محالة كما تبدو لي بعد غربة طويلة، بدأت تقارب الثلاثين.

عُمر وتعدّى الثلاثين! ومع ذلك لستُ متشائماً، كما يبدو لبعضهم! هذه هي الحقيقة. لكني قلق، مشوّش، مشغول دوماً! أتصفّحُ أكواماً من الأوراق المبعثرة أمامي، ثم أتركها لأقلّب أفكاري، أقرأها واحدةً تلو الأخرى حتى أنتهي ببلادي، بتُّ أخشى عليها من نفسها أكثر من أي شيء. كم هي كثيرة المرات، التي ملأت الدموع فيها مآقي عينيّ، كم مرة من المرات، راودتني فيها أفكارٌ سوداويةٌ وحالات ونوبات هستيرية، وكثيراً ما كنت أمنّي نفسي قائلا لها: "العراق ليس سهلاً، فرس جامح لا يُروّض، مثل العراقيين الإنفعاليين، الطافحين بالمشاعر والأحاسيس كفيضانات دجلة والفرات، يا ترى ماذا سيكون مستقبله لو تخلص من المسودنين والرعناء".

هل يمكنك أن تتصور عراقاً بدون جنون أو"مسودنلغية"؟ بالتأكيد أنه سيكون صورة نورانية لجمال أخاذ ليس له نظير، بهاء من نوع السمو الجمالي! العراقيون حالمون، زاخرون بكل شيء متدفق، تلقائي، عفوي، وقد يصممون المدن الفاضلة ويسنّون قانون الضمان الإجتماعي ويستقبلون اللاجئين والمضطهدين من كل العالم، ويؤسسون العالم الطوباوي ويعيدون أمجاد الفلاسفة المشّائين والمفكرين الباطنيين والصوفيين وينشرون سياحة الفكر، لا أحد يتركهم يعملون ذلك، هذا أمر مستحيل، سيُحرمون من بلادهم الجميلة وسيبقى الأطباء والمحللون النفسانيون هنا يستقبلون العراقيين الهاربين من الحروب والأزمات، وأنا أترجم لهم! "مصائب قوم عند قوم فوائد"!

أحد المرضى العراقيين قال لي قبل عدة سنين: "العراق يحتاج إلى ثمانية عشر مليون طبيباً نفسانياً، بعد فترة، زادَ شخص آخر الرقم: إلى إثنين وعشرين مليوناً، وأصرَّ ثالث قبل عدة أيام وبعصبية: على خمسة وعشرين مليونا، قالها صارخاً في أذني، لم يكن بعيداً عن مكتب عملي، إنتبهن له زميلاتي وزملائي الهادئون:

- أخي أنت واهم إذا كنت تعتقد أن العراقيين يصير براسهم خير، هذوله كلهم مسودنين، صدقني هذا مخبلنا موجود في كل شخص عراقي! أنت إنسان متفائل وما شفت العراق، طلعت منه في عزّه وعشت مع الأوربيين الأوادم، أنت أصلا مو عراقي، بس والله أحلف بربي ووجداني! أقول الحق أنت إنسان شريف، تركت العراق من بداية سرطان المسودِنين، أنت عملياً تنبأت بمستقبله وهربتَ منه، لو كنتَ دنيَّ النفسِ وتركض وراء المال لقاء أيّ عمل لبقيت في العراق، كان ممكن أن تتملق وتتزلّف وتتخشخش، لكنك ما سوّيت هذا الشيء لأنك أصيل، العراقيون إذا ما تجلدهم يجلدنوك، هذه حقيقة لازم تعرفها وتتذكرها، ودير بالك تغلط وترجع للعراق، خليك هنا معزّزاً مكرّماً بعيداً عنه إذا كنتَ فعلاً تحبه، راح تشتاق لصورته الوردية، هذا أفضل لك.

أتذكّر أني مقتُّ كلامَ هذا اللاجىء العراقي، لم أحقد عليه طبعاً، بل ضايقتني سوداويته وتعبتُ من إصراره على الزعيق، ألمحتُ له أن يكفَّ عن ذلك، دون جدوى، لم أستسغ النبرة، أجل، لم أعد أطيق الإصغاء إليه، صعب وقاسٍ للغاية، ملىء بالتشاؤمية وجلد الذات، لكني لا أشك بصدقه وحبه لبلده الدامي. يتكلم من حرقة قلبه! أكثر ما يثير شفقتي: المظاهر والإدعاء والتشدق والخطابة والتهور!

لا أزال أجلس منتظراً الإتصال الهاتفي! قرأت في مفكرتي: ترجمة هاتفية للدكتور النفساني نيلس من مركز اللاجئين، حجزني، نسيت كتابة تفصيلات عنها في مفكرتي اليومية، لا رقم هاتفه ولا إسم الشخص ولا العنوان الكامل. هيّا يا نيلس، أنت تسأل ونحن نترجم! وتمتمتُ بين نفسي: أنت تسأل والحزب يجيب!

صديقي العزيز

أجلسُ وعيناي تتلصصان بين الأوراق بحثاً عن رسالة كتبتها لك قبل مدة بدموع عينيّ. كان المفروض أن أبعثها إليك ولم أستطع أن أعرف مصيرها لتشتتي وإنشغالاتي الكثيرة. أجلسُ متوقعاً تلك الترجمة الهاتفية وأفكر بالرسالة الضائعة. في الحقيقة أن حال الترقّب طال وإنشغلتُ في البحث عنها. المهم ما في الأمر الآن ليس إنتظار المكالمة الهاتفية فحسب، بل رسالة مفقودة تعبتُ في كتابتها، بالأحرى تأليفها، والشيء الآخر الذي قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لي، وأقل للآخرين هو: لماذا وكيف تختفي المكاتبات والأوراق والوثائق من مكتبي وفي بيتنا. هذا أمرٌ غريبٌ، بل إنه خطير للغاية. هذه موضوعة هي الأخطر إستأثرت بكلّ فكري في الآونة الأخيرة، وأنا مشغول بالعراق ومستقبله، مهموم به.

إذا كانت الرسالة تضيعُ، تختفي من مكتبي فلا عتب على الآخرين المتهالكين على بلاد الرافدين، هؤلاء سيستبيحونه، سيسرقونه وسيخفون كل شيء منه، سيغدو خراباً يباباً!

سبقَ لي وكتبتُ لك رسالةً منمقةً جميلةً مليئةً بالمعلومات، لكنها ضاعتْ! أين؟ لا أدري. وبدأت أشكك، ولا أعلم إن كان المكتوب قد يكون فُقد فعلاً أم أني بعثته لك بالبريد العادي أو ببريد الأحلام، أما الإليكتروني أو ما يسمى بالإيميل فأنا اعلم أنك لا تتعامل به. لكني على أية حال لا أتذكر بأني حقاً أرسلتُها لك، أقصدُ في الحقيقة والواقع، قد يكون حدث ذلك في أحلام اليقظة والخيال والمنامات، أو مع الحمامات، حمام الزاجل مثلاً، لِمَ لا؟ كل شيء ممكن في هذه الدنيا! وأنا كثيراً ما أخلط بينها كلها.

طبعا ثرتُ لضياعِ الوثيقةِ، أو نقلها وإختفائها أو إخفائها أو فقدانها أو سرقتها أو بالأحرى وئدها، أو حتى إجهاضها قبل ولادتها، خرجتُ عن طوري، عقدتُ العزمَ على أن أتخذ إجراءاتٍ كثيرةً: منها التنديد والتهديد والوعيد والخ من أمورٍ يعرفُ ربعي بأنها مجرد بالونات هوائية فارغة أو زوابع في فنجان، كما يقولون.

نصحني إبننا الصغير بأن أكتبَ الرسالة مرةً ثانية وأنهي المشكلة! يا سلام! يقصد طبعا أن أعيد كتابتها. زجرتُه ممازحاً على طريقة أي مسودَن عراقي قائلاً:

- أسكتْ لك! هذه مو فكرتك، هذا إلهام من السيدة إلهام!

إبتسم الطفل ببراءةٍ متفرساً بوجهي، قلتُ له بودٍّ:

- أنت سمعتها من أمك السيدة إلهام!

والدتُه إلهام كثيراً ما يحلو لها أن تُردّد بأنها تتصرف بإلهام، وأنها إسمٌ على مسمّى! تتصور أن الإلهام في غاية السهولة والتفاهة. تُفكرُ بالإلهام دوماً، وأنه أسلوب حياتها! كما تصرّح نهاراً مساءاً، همساً وجهاراً، إنه مجرد إدّعاء! وتتحدث عنه كأنها موهوبة حقاً بة، لكنها تحلُّ كلَّ أمورها وقضايانا و"مصائبها" المتتالية هاتفيّاً، ولَمْ تكتبْ كلمةً واحدةً في حياتها! وعندما تُضطر لكتابة رسالة تلجأ لحضرة جنابنا، تضغط علينا لتنفيذها باللحظة رغم إنشغالاتنا الكثيرة المعروفة للقاصي قبل الداني! هذه هي إلهام! كيف لها إذن أن تشعر بصعوبة التأليف ومعاناته؟ بينما أنا أعتبرُها، أقصدُ إعادة الكتابة في غاية المسؤولية، بل الخطورة كونها توهمنا وتوقعنا في المفسدة والتزوير والتزييف والمطبّات. ولولا خوفي من تهويل الآخرين وإتهامهم إياي بالمبالغة والتهور، لقلتُ: إنها أمر مستحيلٌ، وأصعب من إعادة كتابة تاريخٍ أراد مسودَن العراق أن يدونه حسب أهوائه من جديد، ويغيّر قوانين البلد بجرّة قلم ..

هناك أمر مهم، بل خطير للغاية تذكّرتُه الآن كما أعتقد وأتصور وأتخيّل أو بالأحرى أتوّهم، ولا أريد أن أجهره أو أفشيَه وأعلنَه على الملأ، بل أهمسُ به إليك وحدك، وهو أني أعدتُ كتابةَ الرسالة! أجل، تعبتُ وأنهكتُ ومللتُ من البحث عن الوثيقة الأصل، هذا هو الواقع، أخيراً يئستُ، كتبتُ لك رسالةً ثانيةً، نسخةً أخرى لكنها هي أيضاً تبخرت مثلما تضيع أهم الأشياء وأجملها في حياتنا! قسمه! فُقدتْ كما تضيع القوانين وتفاصيل التاريخ اليومي والأرواح كقطرة في المحيطات.

لا أدري إن كنتَ تتفقَ معي في خطورة هذا الأمر أم تعتبره تافهاً. إزدادت شكوكي وظنوني، وقلقي لما يمكن أن يحدثَ، وأنه سيكون الزوبعة، العاصفة، الإعصار، القيامة أو أي أمر كبير، ضخم، عظيم، مهول، هائل، أكبر من الديناصورات وآلهات العصور الأسطورية، إنها قضية عصية ومرعبة ستجرف كلّ شيء معها: رسائلي المسروقة والتالفة والمجهولة والمفقودة وغير المكتوبة وغير الضائعة، أموالي المنقولة وغير المنقولة، أسمائي وكلماتي، كلها يمكن أن تذهب سدىً، أدراج الرياح الغربية العاتية، إلا حبي وكياني، بل كل الجغرافية والتاريخ العراقيين، إلا دجلة والفرات. هذه هي المرة الأولى التي تجاوزت فيها شكوكي المحظورات، شملت أموراً كثيرة، لكن ليس كلها والحمد لله.

صرتُ أشكُ في نفسي وفي الذين يتحركون حولي! بدأت أشعر أني حسن النية أكثر من اللازم، وأن الماء يجري من بين رجليّ، وأن العالم من حولي يغلي، وإلا فلماذا تضيعُ الرسائلُ والوثائقُ وتختفي ويتغير التاريخ، بل يتبعثرُ هنا وهناك.

هذه هي الرسالة الثانية التي أكتبها لأرسلها إليك وتختفي في فترة قصيرة للغاية من بين جميع أوراقي. الطامةُ الكبرى هي أني لا أعرف بالضبط هل كتبتُها حقا أم أن ذلك ضرب من الخيال، وإذا كنتُ فعلاً قد دوّنتها فهل تُلفت أو إنمحت؟ أو قد أكون حقّاً أرسلتُها إليك وقد تكون أصلاً إستلمتَها وقرأتها بإمعان وأنعمتَ التفكير بها، وتسخر مني الآن عندما تقرأ وساوسي هذه، وحزني على ضياعها.

كلُّ شيء جائز في هذه الدنيا! ولا أدري إن كنتُ قد قمتُ بكل هذه الأمور في الحلم وليس في الحقيقة. هل تم كلُّ شيء في خيالي؟ يتهيأ لي أني قمتُ بكلِّ هذا حقّاً. هل ترى وجه الخطورة؟ إضطربت علىَّ الأمور كما يختلط الحابل بالنابل. أنا خائفٌ من إعلان مثل هذه الهواجس لعائلتي وأصدقائي، سيسيئون الظن بي، سيعتبرونها مجرد تكهّنات ويتهكّمون بي. قد يعدّوني مخرفاً أو في طريقي نحو ذلك، وقد يتصورونني مدمناً أو معتوها متخلفاً عقلياً ومهلوساً. تصوَّر!

رنَّ الهاتف. لا بد أنه الدكتور النفساني نيلس!

- أهلاً نيلس،

- ……

- ستتصل فيما بعد؟ عندما سيفيقُ المريض من النوم؟ طيب!

الحمد لله. إتصلَّ الدكتورُ النفساني، أخبرني بأن "مُراجِعَنا أو مريضنا أو زبوننا"، لا يزال نائماً، لم يأتِ حتى الآن. وعدَني الدكتور نيلس بأن يتصل بي حال قدوم المريض إلى عيادته، إنها تقع في نفس البناية. تمنىّ لي أيضا بأن أستمتع بهذا الوقت. إنه دكتور نفساني ويعرف قيمة الزمن والبشر، كان يقول لي في أوقات الإنتظار:

- أنا أتألمّ وأعاني من تأنيب الضمير في كلّ مرة أعالج فيها بالذات مريضاً نفسياً عراقياً، أحسُّ بأن إنسان الميسابوتاميا، بلاد النهرين إلى هذه الدرجة مهان يئنُّ تحت الحصار.

أخبرته مرةً ساخراً بأن أحد المرضى النفسيين العراقيين من المتعالجين عنده قال لي: الإنسان العراقي مسودَن! وترجمت له الكلمة حرفياً، ومعناها مجنون! لم أكرر عليه ما سمعتُ مراراً وتكراراً من طالبي اللجوء العصبيين: العراقي مجنون، حساس، أرعن، قصير النظر، عصبي، متعصب، إنفعالي، بل مسودَن وزدت عليها قليلا من بهاراتي قائلاً: ألف مسودَن، والعباس أبو رأس الحار مشوّر به! ولا علاقة لهذا المسودَن لا بالتاريخ الميسابوتامي ولا جغرافيته، هذا إنسان من طينة أخرى.

قلت للدكتور نيلس:

- العراقي فنان! شاعر! ملهم! تشكيلي! متذمر، مشاكس ومحتج! حصان جامح صعب المراس والترويض، ثور هائج! لايحب الموت بدون مغامرات الحرب والقتال!

طبعا كنتُ حزيناً وأمزح قليلاً، وكان نيلس يدرك ذلك جيداً، حاول أن يوقفني عند حدّي. الدكتور النفساني نيلس هذا يدرس التاريخ الرافِديني في الجامعة ويعمل صباحاً مساءاً، المرضى العراقيون يقولون عنه:

- هذا مخبّل لازم يتعالج!

"صرّح" أحد العراقيين من المراجعين المدمنين على الأطباء النفسانيين:

- العراقيون فظيعون، ليس لديهم حلول وسط، سألتهم: مخبّل مرة واحدة؟ على الأقل قولوا عنه مثلاً: إنه يعاني، مرهق، مُتعبْ، منهك، مفلّش، مريض نفسياً!

الدكتور نيلس سمع رأيهم عنه من أحد مرضاه العراقيين، قالَ له ذلك في إحدى جلسات العلاج كما لو يرمي الطينَة بوجهه، وما كان عليَّ إلا ترجمة ما يقوله، طبعاًلم يبالِ الدكتور لكلامه، أو إنه قد يكون تظاهر بذلك كأي محترف، ردَّ عليه مبتسماً بهدوء:

- هذا أمر ممكن، أنا أحضر جلسات مع مشرف كي لا أتمرض نفسياً، كلنا بشر بحاجة لذلك بسبب ضغط العمل!

المهم، أتذكر في وقتها أن نيلس قال مستفسراً:

- مسودَن؟ السومريون القدامى إعتبروا السواد إشارة إلى الجنون! والعراقيون سومريون!

إستفسرتُ منه ساخراً:

- هل تشمل هذه الكلمة كلّ العراقيين: الآثوريين، العرب، الكُرد، التركمان، المسلمين، المسيحيين، الصابئة، اليزيديين الزرادشتيين العلياللاهيين؟

أجابني نيلس مبتسماً:

- يالها من خلطة! كل سكان ما بين النهرين مجانين "مسودنين" بما فيهم أنت، بل أنت أولهم!

وغرقنا في الضحك.

طبعاً فرحتُ. سُعدتُ ليس لأن العراقيين "مسودنون" من الأصل، يعني قبل دخول العرب والمسلمين، وهذا أمر يمكن الإفتخار به، نحن عراقيون أقدم الناس في المسودَنة أو السَودَنَة، ولنا إذن الأسبقية في الجنون، وباع كبير في الفنون، والفنون جنون! لكني إرتحتُ أيضا، المريض النفسي العراقي، المفترَض أن أترجمَ له الآن لا يزال ينعم بالنوم العميق، يغطُّ فيه، عسى ولعلّه يتخلص من الإكتئاب والإحباط وضعف الذاكرة وعدم التركيز والفلاش باك وكلّ الأعراض النفسية.

وابتهجتُ، بالتأكيد سأستمر في التفكير وأواصلُ البحثَ عن الرسالة الضائعة والتطلع قليلاً إلى مزهرية مليئة بالورود الحمراء الجميلة المتناسقة مع لون الستائر. أضفتْ هذه الزهور الحمراء بعض التفاؤل على نفسي، إلا أني والحق يقالُ حزنتُ كثيراً ليس على الرسالة، بل ضياع عمري، إنه إحساس مقيت وقاتل تمكن مني في الآونة الأخيرة. حاولتُ مراراً وتكراراً التخلص منه، وأن أقنع نفسي بأن لا علاقة لإختفاء الرسالة بحاضري وبنوباتي السوداوية احياناً وتقلباتي المزاجية، وتاريخ حياتي السابق ومستقبلي! لكن دون جدوى!

قد أكون غير دقيق وغير صادقٍ بخصوص هذه الرسالة، لكن شعوراً بالضمور والقنوط والإنتهاء قد غمرني وأخذ مأخذه مني! يا إلهي!

وقد أكون سجّلتها في الحلم متوهماً أني أبدعتها في "الحقيقة والواقع" كما كان يحلو لمعلمنا أن يقول. لا أدري في حقيقة الأمر ماذا أقولُ لك وكيف اشرحُ لك الأمرَ، قد أكون حقاً صغتها وأرسلتها إليك، لكني فقدتُها في المنام، وإذا حدث وأن المكتوب لم يصلك فمعنى ذلك أن حلمي قد تحقق وأن أجهزة بريدنا هنا المعروفة في هذه الجزيرة بالسرعة والتنظيم والدقّة خاضعةٌ لأحلامي، وهذا أمر خطير لا بد من بحثه مع الأخصائيين النفسانيين بمن فيهم الدكتور نيلس.

بهذه الطريقة قد تتدخل أحلامي في مجريات أمور أكثر خطورة، تهز العالم. أجل، وقد أنشرها بعنوان: "عشرة أحلام هزّت العالم"! سيتضايق الصحفي الراحل جون ريد، سيفضحني، سيقول لي:

- إنك سرقتَ عنوان كتابي الشهير!

وسأريحه وأرضيه وأجلب له الهدوء والسكينة في لحده:

- نَم قرير العين يا جون ريد! إنها مجرد توارد خواطر! لم أسرق أفكارك! لم أخن أمانتك! لستُ من هذا الصنف!

ومن الممكن أن تكون لأحلامي تأثيرات إيجابية كبيرة على العرب والبشرية. فماذا لو أني كنت قد حلمتُ بأني تكلمت إلى مسودن كبير آخر يتحكم في الكون، إنه الرئيس (ك) وأقنعته بأن يرفع الحصار عن العراقيين ويتركهم لشؤونهم، ويحلّون مشاكلهم بأنفسهم فأهل مكة أدرى بشعوبها، ويكفّ عن إيذائهم، وعليه أن يضغط على "زميله" مسودَن العراق، ويخبره بأن البيريسترويكا العراقية هي الحل الأمثل له، وأنه سيضمن له المشاركة بإنتخابات نزيهة، أو رحيله هو وعياله إلى جزيرة يشتريها ويمتلكها ويحكمها حكماً أبدياً على هواه ومذاقه ومزاجه، وقد تسنح له فرصة الحصول على العلاج النفساني عند الدكتور نيلس، وطبعاً سأترجم له بأفضل الطرق، وسيكتب مذكراتِه عن كل بطولاته وانكساراته، عندها سيستخلص العراقيون العبر والتجارب من حياتهم الماضية وسينعمون بوجود مسودنهم على قيد الحياة حتى في عصر إنعتاقهم منه وسيكون عبرة للأجيال. كم تمنيت لو لم يُقتل الملك "المفدّى" ولا الزعيم الأوحد "ئاسم" العراق كما سمّاه باني السد العالي، على الأقل كنا سنعرف من قسّم البلد حقاً؟ وماهي اسرار الحكم! ونتعلّم من أخطائنا!

وإذا رفض مسودنُنا هذا الطلب، فسأتحدّث مع مسودنهم عبر حرمه المصون، إنها أم وتفهم معنى الحنان، عسى ولعلها تستطيع إقناع زوجها الأستاذ الجامعي "المهذب" بأن يكف عن تجويع أطفال العراق وقصفه، ولا يطبق السيناريو الروماني عليه ويتخلص منه بدمويةٍ لا تليق بالديمقراطية، كما فعلوا مع معتوه رومانيا وزوجته، لا، لا، لن أنصحة بتكرار هذه الجريمة البشعة أمام أعين الناس، لو كان الأمر بيدي طبعاً، ولن أشي بمسودننا لأنه مهما يكن عراقي من دمنا ولحمنا، ولا أريد أن أتّهم بالخيانة، بينما يتحول هو إلى بطل تاريخي قومي قتلَه الكاوبوي، ستحتفي بذكرى تصفيته الأجيال القادمة، وستؤدي إلى إقتتال الأخوة بين مؤيديه ومعارضيه. يا للهول!

أما المسودَنون أولاد أعمامنا، فهؤلاء أيضا ورثوا سودَنَتَهُم من السبي البابلي، إنهم من نفس الطينة، ولابد أن جنود نبوخذ نصر إستباحوا نساءَهم الجميلات، وعلى السيد (ك) أن يفهم بأن الفلسطينيين بشر من نار، عماليق وجبال لا تهزها الرياح! يستحقون نفس الإهتمام، وإلا ستحل عليه لعنة الآلهة، وليُقنعَ أو ليجبرَ باراك على التراجع عن التهديدات، وإعطائهم حقوقهم! قد نتخلص جميعاً من كل أنواع المسودَنين ومشتقاتهم، وبياناتهم الرنانة.

هذا حلمٌ مستحيلٌ، مثل الحلم العربي، لا يمكن إنجازه لا في الحقيقة ولا في الخيال، ولا في رأسي المثقل بالهموم، المضغوط كعلبة معدنية مطعجة مرمية في النفايات. حلمٌ مستحيلٌ! اقصدُ أن يتدخلَ السيد ك لصالح  العراقيين، والعرب وحتى اليهود وكل الشرق أوسطيين، ويخلصنا! خلاص، كفى! لكن ماذا سيفعل (ك) و في عالم بلا مسودنين يحكمون هنا وهناك؟ ماذا سيعملون بلا مجانين يسممون "آخرَهم بكأس الأول" كما يقول جرير؟ اعتقد انها ستكون كارثة، عليه وزملائه اللاحقين أن يديروا إداراتهم بلا رُعناء وغوغاء وجبناء ومشعوذين، وقد يعانون من البطالة وأزمة دعاية لإنتخاباتهم كل أربع سنوات، وقد يُضطرون إلى إعادة تصنيع مسودنين جُدد وتدويرهم، وإنتاجهم بجودة أعلى لتصديرهم من جديد إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل إيطاليا، وأوروبا أيضا.

نعم، أنا غير متفائل، سوداوي، متشائم، كئيب، محبط، قانط، مدحور، مقهور، منخور، بل يائس ومنهار، لكني مع ذلك لستُ مهزوماً، وإنتبه، أنا لا أتفوّه بهذه المفردات من باب الضعف والخنوع والكبرياء والإدعاء والتبجح. هذه هي الحقيقة، أنا إنسان عُوراقي كما يقول أحد الأصدقاء الأردنيين، شهم! أبيّ كريم! غيور! صاحب نخوة! مكابر، عنود، جرىء، طموح من جماعة " أحلامنا تزن الجبالَ رزانة ويفوقُ جاهلُنا فعالَ الجُهّلِ"، لكني والحق يقال، والحكي بيننا "هَمْ شويّة مسودَن!" والجيران كانوا يصيحون عليّ في طفولتي: مسودَن والله مسودَن والعباس مشوّر به!**

إذن هناك إحتمالان بشكل عام وباختصار شديد: الأول: إني لا أزال أعاني من "المسودنلغية" المخفية في شخصيتي. وإني رأيت نفسي في المنام جالساً أكتب رسالةً إليك. أي إنها مجرد رؤيا لا أكثر ولا أقل! وأنا أصلاً لم أكتب لك يا صديقي العزيز رسالة. وإذا كان الأمر حقاً كذلك فعلىَّ أيضا أن أتصلَّ بالدكتور النفساني وأشرح له الفكرة، إنه حدثٌ في غاية الخطورة، وهي حالةٌ غير مسبوقةٍ، لم تحدث في حياتي أن تتهيأ لي أمور لم أقم بها إطلاقاً، هذا شيء لا يمكن أن أقبَلَه أنا على نفسي.

الاحتمال الثاني: هو إني فعلا كتبتُ الرسالة وأرسلتها لك في الحقيقة والواقع المعاش لا في الحلم ولا في الخيال، وهذا حدث سعيد ومفرح بالنسبة لي، إنه يعني قبل كلِّ شيء أنك ستستلم الرسالة فعلاً وعن حق وحقيق كما كنا نقول. لكني أشعر مع ذلك بالمرارة والحزن والخوف من مستقبل حالتي النفسية. أنا قريب من حالة الشكوكية من الدرجة العالية، المرضية والتردد وضعف الذاكرة، والإحساس بكل الإلتباسات والملابسات الإنسانية، وهذا يتطلب العلاج السريع، أنا قريبٌ من الهاوية بل أنا على شفاها!

في حقيقة الأمر، لا تدخل هذه القضايا في صلب موضوعي. المهم هنا الآن هو أن أحاولَ كتابة القصيدة، عفواً أعني الرسالة. إعادة كتابة التاريخ كما يكرر مسودَن العراق! هنا بيت القصيد! وهنا تكمن خطورة الموقف وجديته!

رنَّ الهاتف من جديد!

- نعم، هذا أنا

- .........

- أوكي نيلس، أوكي، لن يأتي مريضنا الحالي اليوم… طيب، دعنا نرى!

إذن، بإختصار، عليَّ أن أستغلَّ الوقتَ وأعيد تدوين التاريخ. أعيد تأليف ما أبدعتُه في الرسالة الزائلة البائدة التالفة المفقودة المسروقة أو المصادرة كالأموال المنقولة! عليَّ بإختصار وبالعربي الفصيح أن أكتبَ لك رسالةً أخرى كما أوحى لي أو أمرني إبني الصغير "الكلاوچي" نقلاً عن أمه سيدة الإبداع والإقناع إلهام. ***

لكن ماذا إذا فضحتْ الرسالةُ الثانية تلفيقاً كتبتُه في نظيرتها البائدة؟ ألم يقولوا الكذب "المصفّط" المنمّق أحسن من الصدق المخربط؟ كيف سيكون موقفي عندها أمامك؟ أنا، والحكي بيننا ألفِّقُ في بعض المرات! وعندما أنسى نفسي تتغير روايتي للأحداث! يعني أضع بعض التوابل والبهارات على سردياتي مبالغاً في تصويرها، ليس لدرجة التهويل. لكني مع ذلك منزعجٌ، بل قلقٌ من أي سوء فهم يعطي إنطباعاً سيئاً عن حضرة جنابنا! ولا أريد أن أبدو كذاباً أو مزوراً للقص والسرد والحكايات ولا ملفقاً حقيقياً للتاريخ!

معاذ الله من منافستي لمسودَني العراق والعرب في تضخيم إدعاءات البطولة والإنتصارات، هذه هي أشغالهم، لن أقطع أرزاقهم وما أنا إلا مجرد إنسان موتوووور، كما يقولون عنّي، أتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة، أناقش وأتفلسف بدون مقابل، لكني لا أبحث في الجِيَفِ ولستُ من جماعة: إن لم تنفع فَضُرْ ! ومَن لم يدفعْ لك إهجِهِ أو إشتمه!

بل إني أحسدُ، لا، لا، العياذ بالله، أنا أغبطُ ولا أضربُ بالعين، عيني أصلاً لا تصيبُ ابدأً، عيني شبعانه ولهذا باردة! أغبطُ الأخيارَ، وأحياناً "أغبطُ" بعضَهم لقدرتهم على تزوير التاريخ، بينما لا أقوى أنا حتى على الكذب الأبيض.

إنه مصابٌ جللٌ! أمرٌ مهولٌ! يزوّرُ المسودنون التاريخَ وينسبونه لأنفسهم! يا إلهي أي تلفيق هذا! أي تزييف وفبركة هذا؟ يا الهي!

نعم، هذه هي الحقيقة ولا بد لي من المصارحة قبل المصالحة كما يقال في هذه الأيام! ألم يقلْ الشاعر: أكذبُه أصدقُه؟ إذن لِمَ هذا الانزعاج مسبقا من التلفيق؟

رنَّ الهاتف مرةً أخرى! يا إلهي، عليّ أن اترك إعادة كتابة الرسالة وأكفَّ عن التفكير بأي أمر آخر غير الترجمة للمريض المعاني!

- هذا أنا، مرة أخرى ... ها قد ظهرَ مريضنا، صحيح تأخرنا ولم يبقَ إلا القليل من الوقت المحجوز ...

- آه، طيب، طيب، لا مانع لدي من الترجمة. من حسن حظك أنا لم أستلمْ حجزاً جديداً. أنا حاضر للترجمة، دعني أتحدث إليه….

***

كما ترى يا صديقي فأنا قد أدخل في معمعةٍ لا تختلف كثيراً عن تزوير الحقائق والتاريخ أحياناً، بل أخطر منها، قد أُضطر لترجمة مبالغاتِ متمارضٍ مهووسٍ، حاذقٍ ومحترفٍ لا يبالي بكلِّ ما يمتُّ بصلةٍ بروح الإنسان وأحاسيسه وثقافته وتقاليده، أو معاناةِ مريضٍ صادقٍ حقيقيٍّ من بلاد النهرين الطافحين بالحب والإنفعالات والنار والدمار، يحمل على كتفيه جبالاً من الهموم وتذرفُ عيناه أنهاراً من الدموع تكفي لسقي الصحراء الكبرى كلها بينما يتبجح الأدعياء المسودَنون بإحتفالات النصر وأعياد ميلادهم!

***

زهير ياسين شليبه

أيلول 2000

..................

* كلمة مسودَن من اللهجة العراقية تعني: مجنون، تُقال بشيء من السخرية.

** مشوّر أو يُشوّر: يعاقب، من اللهجة العراقية، تُقال عن الأولياء الصالحين والأئمة.

*** كلاوچي، (كلاوتشي): من اللهجة العراقية تعني محتال، تُقال أيضاً بأريحية وعن شخص يتظاهر بالتودد.

 

الحرارة ارتفعت إلى أعلى مستوياتها المعهودة في موسم الصيف. الاحتباس الحراري أفقد الناس صبرهم وحيويتهم ووأد آمالهم. الجو مكهرب وزوابعه الغبارية تكتسح الفضاء اكتساحا. النفوس الباحثة عن الأرزاق تكاد تختنق. الباعة المتجولون يتجلدون لعلهم ينجحون في إتمام مسار رحلتهم التجارية اليومية في أزقة المدينة. الكساد أصاب القدرة الشرائية للأفراد والجماعات. الشباب تائهون يتحركون بدون وجهة معلومة. الرجل المصهود بالحر مسجى كعادته على سريره. يتكبد عناء التفكير لتفادي الانشغال بواقع الشباب المر. لا يجد ضالته إلا في القراءة والكتابة. غاص في تأملاته وهو يلتهم سطور رواية شيقة. غاصت روحه في متواليات سردية مبهرة فنيا ودلاليا. لم يعد يبالي بلسعات الحر المضنية.

وهو يتصبب عرقا، انجذب بكل وجدانه للقوة الفنية التي اعتمدها كاتب الرواية لإخراج الأشياء والأحداث والأشخاص من دوامة الواقع المتنافر مع قانونه. امتصه سهاد وهو يفكر كيف أبدع الكاتب في ترصيف واقع جديد في بنية أخرى بمنطق فني لم يصادف مثله أبدا.

بغتة، سمع دقات عنيفة على باب منزله الحديدي. نزلت زوجته مفجوعة عابرة الأدراج من الطابق العلوي في اتجاه الباب. سقط أمامها أخوها باكيا ينوح كامرأة فقدت أعز ما لديها. حملق بنظراته القاسية في محياها ثم قال :"جردني الزمن يا أختى من كل شيء. همشتني بقسوة آفة الزبونبة. التيه وغربتي في وطني أفقداني معنى الحياة. بنيتي النفسية والجسدية والعقلية تهاوت واستسلمت للغبن المزمن. تَمَلَّصْتُ من عتاب ولوم أب أناني جاحد، فتوالت خطواتي، الواحدة تتسلط على الأخرى، إلى أن تلاطم كفي ببابكم. قصدته أختي لعل زوجك المثقف المعروف يتدخل لدى السلطات لعلهم يمنحونني عملا يخلصني من أفكار الشياطين التي تؤرقني".

تسمر الرجل واقفا متذمرا من حياته وحياة الآخرين. وضع روايته بعناية فائقة في مكان آمن. توجه إلى الباب محاولا التعسف على ابتسامة لعلها تسعفه للحفاظ على طاقته الإيجابية. حملق في محيى صهره، ثم طبطب على كتفه، فأردف قائلا:" علمتنا التجارب التاريخية يا صهري أن الحق ينتزع.. عليك أن تؤسس منذ الغد جمعية للمعطلين .. فلنعمل سويا من أجل تصميم أشكالا نضالية تعيد الاعتبار للشباب وحقهم في خيرات وطنهم. لا تدفعني أتوسل أو أتسول المسؤولين من أجلك. الحرص على دوام استقلالية الفاعل يقابله الجفاء. كن متأكدا أن الاعتبار الذي فقدته اليوم سينتفض لتحتضنك الحياة مجددا".

***

الحسين بوخرطة

من عادة السيدة صونيا أن تنتبه لكل حركة في المحل، وعادة تهتم بي أكثر من اهتمامها بالأخريات رغم كوننا متساويات/ كما يبدو للعيان / في كل شيء: القامة والوزن واللون والصمت. ربما تهتم بي أكثر لأنني الأذكى أو لأنّ عيوني زجاجية زرقاء لامعة وشعري أشقر..بلون الشمس .الشعر الأشقر هوس نساء هذه المدينة المجنونة. على أطباء النفس أن يضيفوا لسلسة العقد النفسية " عقدة الشعر الأشقر عند النساء". منذ أيام ترجّتها إحداهن أن تبيعها شعري كي تتزيّن به في حفل زفاف. " اطلبي أيّ شيء إلا شعر هذه المانكان"..قالت لها السيدة صونيا .." لقد اشتريته من أكبر محل في دبي وبسعر رهيب .. إنّه شعر حقيقي ".

شعرتُ بالامتنان نحو السيدة، فلم يكن يحرجني أبدا أن أقف عارية في الواجهة أمام المارة ..العري هو الأصل وهو ليس عيبا أبدا، ولا مدعاة للخجل أو الشعور بالنقص، أما شعري؟ لا، لا أستطيع أن أتصوّرني صلعاء، ربما سأشعر بالبرد أو بالخوف.

صونيا اليوم مشغولة. تحضّر مع مجموعة من النسوة في المحل لأمر عظيم فلم تنتبه لزبونة ضخمة، مرت بقربي بعد أن اختارت فستانا ومشت نحو غرفة صغيرة في ركن المحل لكي تجرّبه. لكنها اصطدمت بي وأسقطت ذراعي أرضا، فوق ذيل فستاني الحريري الطويل.

حمدت الله أنها لم تصب بكسر وإلا كانت السيدة ستضعني في المخزن خلف المحل مع الرفيقات المشوهات إلى أن يتم ترميمي. ولن يتم.

كثيرات يقبعن هناك إلى اليوم معلّقات بين الوجود وبين العدم لكنني لست مثلهن.

لقد قررت الثورة.

ذكّرتني ذراعي المرمية عند قدمي بفينوس.. رمز الجمال.

هل يعقل ألا يكتمل الجمال إلا إذا نقص؟ الذين ينبهرون بجمال القمر ليلة اكتماله ألا يفكّرون في مراحل نقصانه؟

إنّ النقصان هو الذي يصل بالقمر إلى الاكتمال.

شوّش تفكيري مرور الزبونة ضخمة الجثة من جديد بجانبي، بعد أن انتهت من دسّ جسدها في الفستان. توقّفت وحدّقت بيّ ثم صرخت.

- ما بك؟

التفتت نحوها النسوة متسائلات.

- لا أدري. كلما مررت بجنب هذه المانكان اقشعّر بدني وشعرت وكأنّها حقيقية.

ضحكت السيدة صونيا:

- أنت تمزحين.

و قالت مادام أمينة، وهي تفتح زجاجة طلاء الأظافر لكي تعيد طلاء ظفر حدث به خدش:

- لابد أنك متأثرة بخبر أمس على الفيسبوك.

- أي خبر؟

- أب من المكسيك استخدم جثة ابنته التي توفيت في ليلة زفافها، كـموديل لعرض فساتين الزفاف في محله للملابس.

و قلّبت ضخمة الجثة شفتيها باستغراب وقالت:

- يا لطيف، لا يمكن أن يكون الخبر صحيحا .لكن لا أدري ..هذه المانكان فيها شيء غريب حقا.

- ما الغريب فيها؟ ليست سوى دمية !

و تنتابني رغبة في الضحك، وفي أن أهز السيدة صونيا من كتفها وأسألها من منا الدمية ..أنت الدمية في يد زوجك وفي يد أبنائك ومجتمعك وفي يد الموضة والمال وسوف تكونين قريبا دمية في يدي.

لقد قررت الثورة.

نظرت الجثة الضخمة في المرآة .و هطل عليها النفاق " تبدين رائعة ! ".." أصغر بعشر سنوات ! " .."انظري في المرآة ..إنها مقاسك تماما !"

طبعا الفستان لم يكن مقاسها أبدا، كانت تبدو مثل بقرة تمّ حشرها في جلد غزال.

تبادلتً مع المرآة غمزة ساخرة. يا لغباء المرأة ! تصدق المرايا! ألم يخطر ببالها أنّها كاذبة ومخادعة؟

تظهر لها ما ترغب في رؤيته لكي تكسب ودّها فتستعبدها؟ تماما كما يفعل معها الرجل.

لم أحب المرآة أبدا ..لست بحاجة إليها.أنا إذا حرة وقويّة.

البشر عبيد لما يحبون .

خرجت الزبونة وهي تكاد تطير من الزهو .بعد دقائق التحقت نادين بالشلّة. شابة في الثامنة والعشرين ..قصيرة القامة مع ميل إلى السمنة، لكن حيوية ومفعمة بالنشاط، تتحدث دائما بسرعة كأنّ أحدا يطاردها. كان بيدها كعادتها جريدة باللغة الفرنسية . لم أرها أبدا تفتحها لتقرأها ..سمعتها يوما تقول إنها تشتريها من أجل " البرستيج ".و رأيت الزبونات الحاضرات يبتسمن مؤيدات، رغم جهلهن بمعنى الكلمة.

و طلبت السيدة صونيا انتباه الحاضرات وقالت:

- ستبدأ الحملة غدا. علينا أن نقف جميعا مع الأستاذ عبد الرحمن. لابد أن يفوز برئاسة المجلس البلدي .

و أبدت النسوة تأييدهن لكن نادين قالت وهي ترفع شفتها العليا معربة عن تقزّزها.

_ نعم .. لكنه لا يعجبني .

- ولماذا يجب أن يعجبك يا عزيزتي هل ستتزوجينه؟ نحن نبحث عن مصلحتنا. تذكرين وعده لنا بمحل كبير في وسط المدينة.

و لم يكن محل السيدة الحالي صغيرا ولكنّه الجشع الذي يطلق عليه البشر اسم " الطموح " .

قبل أن يخرج الجميع، قالت نادين لصونيا:

-ساعديني كي أعيد لهذه المانكان الغبية ذراعها.

- لالا. ليس الآن. اتركيها. يجب أن نخرج فورا لتوزيع مناشير الحملة. سوف أهتم بها غدا.

كنت ابتسم بتشفّ وأنا أعلم أنها في الغد ستسقط مغشيا عليها عندما تجد ذراعي في مكانها ويدي مرفوعة بعلامة النصر.

***

آسيا رحاحلية - الجزائر

نـقولُ عـن الـحـميرِ بـها غــباءٌ

ونــحـنُ بـحـقّهـا دومــاً نـجــورُ

**

نعــيبُ سكـوتـها عنْ ظلـمِ ناسٍ

وتــرضـى بـالـركوبِ ولا تـثـورُ

**

وكــيفَ نـلـومُ مَـنْ لا عـقلَ فيـهِ

ويــركــبُ لـلـعـباقـرةِ الـحـمـيرُ

**

ومـا بـركـوبها فـرِحتْ جِـحَاشٌ

ولـكــنْ سـامــها خَــسْـفٌ كــبيرُ

**

ركـوبُ الـناسِ مـكـرمةٌ وفـخـرٌ

لبـعضِ الناسِ يغمرُها السرُورُ

**

أدامَ اللهُ ذلَّ مَــن اسـتــكــانـــوا

لـكـيْ يَـطْغـى الـتَكَـبُّرُ و الغُرُورُ

**

إذا كــانَ الـغــباءُ خِــيـارَ قــومٍ

فــلــنْ يـثـنيـهمُ عـنــهُ الـنــذيــرُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

زلزال مدمر

جثث منتشلة

من تحت الانقاظ

الموتى نيام

يتكئون على الاطلال

*

الحظ لم يحالف الرضيع

آهاته تتصاعد

من تحت الركام

لا انيس له تحت الخراب

سوى خالق الكون الرحيم

*

وضغط الارض

واثقالها اصبحت لا تطاق

الاجواء اضحت

غير قابلة للتنفس

انه مخاض عسير

وانفجارفي عتمة الدهاليز

*

هكذا تكلمت الارض

المكتظة بالبشر

غضبت

والفظت

ودخلت حالة انتشاء رهيبة

هل تريد الارض

ان تقول لنا شيئا

ان تبوح باسرار دفينة

لغة الارض

لا تفهمها الا الزلازل العنيفة

*

وحين يتباهى البحر

بتسونامه

تقوم الارض وتقعد

فتغيض البراكين

من تصرفاتها الغريبة

*

تهدمت المباني المتعبة

لا طعم فيها

غير رائحة الموت

ثمة صوامع آيلة للسقوط

تحطمت معها

عمائم سوداء

واقنعة السياسيين المزيفين

***

بن يونس ماجن

جلس عند بقايا مسافة هرمة

امسك سيجارة تساقط رمادها

راح يراجع قراءاته القديمة

تعاقبت أفكاره

ارتسمت المشاهد

طوقت أحزانها

تقاربت

اصطفت معانيها

**

أعلنت السماء عن عطشها

صار يبحث عن قبر منخور

ارتفع نباح الكلاب

تعانقت الفضاءات

**

وصلت الجنازات التي تم الصلاة على أصحابها إلى المكان

قررت الملائكة ان تفتح أبواب الحضرة

استقبلت دعوات المصلين

هتفت الدموع

أعلنت الأنباء عن إبادة بطولة مقبلة

**

انطلقت أسراب العصافير

خلع الماضي بذور طقوسه

ناحت النخلة

أمسى كبرياؤهَا يفرض أنفاسه

عجزت العدسة أن تلتقط صراخ أرملة

أعلن التلفاز عن ولادة مخاضات جديدة

أحس الرجل بالانهيار.

***

عقيل العبود

كان البحّارْ

مُغتَبِطاً جِداً حينَ اِخْتارْ

مهنتَهُ

لَكِنْ في اليوم الأوّلِ

فاجأهُ

أنَّ أنينَ الموجِ يؤرِقُهُ

فغدا يبحثُ ليلَ نهارْ

بين مياهِ الأبحُرِ  والأنهارْ

عَنْ غرقى يُنْقِذُهُمْ

أو غرقى ليسَ لَهُمْ آثارْ

عن أسماكٍ

أكلتْ أجسادَ الغرقى

أو أسماكٍ

تأكلُ أسماكْ

عَنْ موسيقيينَ بلا نوتاتٍ،

و بلا آلاتْ

*

كانوا يأتونَ مع الفجرِ

إلى السّاحلِ

أفراداً وجَماعاتْ

ويُغنّونَ بلا أصواتْ

لدقائقَ مَعْدُوداتْ

ويَدورونَ، يُغنّونَ،

إلى أنْ يبدأَ يَسْمَعُهمْ

فيردّد مُبْتَهِجاً

ما أجْمَلَهُمْ

ما أَرْهَفَهُمْ

كَيْفَ اِخترقوا الصمتَ

و كَيْفَ اِبتكروا الصوتَ؟

ولَكِنْ،

حين يغيبُ الفجرُ

يراهم يختبئونْ

لا يدري أينَ يروحونْ

*

في يومٍ مِنْ أيّامِ ربيعٍ ساحِرْ

سهر البحّارْ

حتى الفجرِ  ولَمْ يأتِ الموسيقيونْ

في اليومِ الثالثِ، والرابعِ، والخامسِ، و ............، سهر البحّارُ  إلى الفجرِ، و لَمْ يأتوا أيضاً

شهرٌ، شهرانِ يمرّانِ، ثلاثةُ أشهرْ

سنةٌ، سنتانْ

ما عاد الموسيقيونْ

ما عاد الموسيقيونَ إلى الآنْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

وَلِلَّهِ حَجُّ الْبَيْتِ فِي خَيْرِ مَوْسِمِ

يُزِيلُ خَطَايَا الْمُذْنِبِ الْمُتَأَثِّمِ

*

يُسَافِر ُ حُجَّاجُ الْوَفَا لِهَنَائِهِمْ

وَنَنْشُدُ خَيْرَ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمِ

*

أَلاَ إِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ وَرَحْمَةٌ

لِكُلِّ فَقِيرٍ فَارِغِ الْجَيْبِ مُعْدَمِ

*

مَنِ اسْطَاعَ حَجَّ الْبَيْتِ فَلْيَمْضِ مُخْلِصاً

إِلَى بَيْتِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ الْمُفَخَّمِ

*

وَمَنْ كَانَ مَعْذُوراً لِعُسْرٍ وَشِدَّةٍ

يُجَنِّبْهُ دِينُ الْحَقِّ صَعْبَ التَّجَشُّمِ

*

وَيَسْتَبِقُ الْحُجَّاجُ يَبْغُونَ سَعْدَهُمْ

وَمَرْضَاتَ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُعَظَّمِ

*

وَيَنْوُونَ حَجَّ الْبَيْتِ قَبْلَ رَحِيلِهِمْ

إِلَى سَاحَةِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الْمُقَسَّمِ

*

فَمُنْذُ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْحَجُّ مُنْقِذٌ

يُخَلِّصُنَا مِنْ كُلِّ رِجْسٍ وَمَأْثَمِ

*

وَأَوَّلُ بَيْتٍ لِلْعِبَادَةِ طَاهِرٍ

(بِمَكَّةَ) رَمْزٌ لِلْوَفَاءِ الْمُنَظَّمِ

*

وَتَقْدِيسُ رَبِّ الْبَيْتِ نَصْرٌ وَعِزَّةٌ

وَإِجْلاَلُهُ دَرْبٌ لِكُلِّ تَقَدُّمِ

*

وَقَدْ سُئِلَ (الْمُخْتَارُ)عَنْ خَيْرِ مَسْجِدٍ

أُقِيمَ لِشُكْرٍ خَالِدٍ وَتَنَعُّمِ

*

فَنَوَّهَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفَضْلِهِ

وَنَجْدَتِهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَزْعَمِ

*

وَقَدْ سَاقَ رَبُّ الْعَرْشِ خَيْراً وَنِعْمَةً

إِلَى آلِ بَيْتِ اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْسَمِ

*

وَبَارَكَهُ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِجَاهِهِ

وَأَنْقَذَهُ مِنْ كُلِّ وَغْدٍ مُلَثَّمِ

*

وَوَجَّهَ كُلَّ النَّاسِ لِلْبَيْتِ طَاعَةً

فَجَاءَتْ وُفُودُ الْحُبِّ فِي خَيْرِ مَقْدِمِ

*

لِقِبْلَةِ كُلِّ الْعَالَمِينَ وَقَصْدِهِمْ

وَمَخْرَجِهِمْ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ وَمَأْزَمِ

*

فَدَعْوَةُ(إِبْرَاهِيمَ)شَرْعٌ وَحِكْمَةٌ

أَيَا رَبِّ بَلِّغْهُ الصَّلاَةَ وَسَلِّمِ

*

وَمَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مُرَوَّعاً

يُؤَمِّنْهُ رَبُّ الْبَيْتِ مِنْ سَافِكِ الدَّمِ

*

وَتَنْسَابُ أَنْهَارُ السَّعَادَةِ كُلُّهَا

مِنَ الْبَلَدِ الْمَيْمُونِ تَسْرِي كَبَلْسَمِ

*

تُلَبِّي قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَهَهُمْ

وَتَسْعَدُ أَعْيُنُهُمْ بِنُورِ التَّبَسُّمِ

*

وَيَدْخُلُ بِشْرٌ فِي صَمِيمِ قُلُوبِهِمْ

وَيَصْعَدُ فِي مَبْنَى الْعَلاَءِ بِسُلَّمِ

*

وَتَنْشَغِلُ الْأَلْبَابُ فِي بَلْدَةِ الْهُدَى

بِبَهْجَةِ دِينِ الْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْلَمِ

*

تَسَاوَى جَمِيعُ النَّاسِ فِي خَيْرِ مَوْقِفٍ

فَأَفْقَرُهُمْ مِثْلُ الْغَنِيِّ الْمُعَمَّمِ

*

وَأَقْوَاهُمُ مِثْلُ الضَّعِيفِ فَكُلُّهُمْ

سَوَاسِيَةٌ عِنْدَ الْكَرِيمِ الْمُعَلِّمِ

*

وَأَحْمَرُهُمْ مِثْلُ الْمُكِبِّ بِسُمْرَةٍ

وَحَاكِمُهُمْ لَبَّى نِدَاءَ الْمُحَكِّمِ

*

تُنَادِي حَجِيجَ اللَّهِ خَيْرُ أَمَاكِنٍ

لِتَنْفِيذِ أَمْرٍ مِنْ إِلَهٍ مُقَوِّمٍ

*

يُعَدُّونَ لِلتَّهْذِيبِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ

مِنَ الْحَجِّ فِي صَبْرٍ وَسَعْيِ مُصَمِّمِ

*

وَيَهْوَوْنَ فِعْلَ الْخَيْرِ بَعْدَ رَحِيلِهِمْ

إِلَى خَيْرِ بَيْتٍ وَاسِعِ الْفَضْلِ أَعْظَمِ

*

وَخِدْمَةَ حَقٍّ فِي امْتِثَالٍ مُحَبَّبٍ

وَمَنْ يَفْعَلِ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ يَغْنَمِ

*

فَأَكْرِمْ بِهِمْ فِي سَاحَةِ الْخَيْرِ سُجَّداً!!

وَأَنْعِمْ بِمَغْفِرَةِ الْوَدُودِ الْمُقَسِّمِ!!

*

يُكِنُّونَ إِخْلاصَ الْعِبَادَاتِ دَائِماً

لِرَبٍّ حَكِيمٍ دُونَ أَيِّ تَلَعْثُمِ

*

وَيَمْضُونَ فِي فَخْرٍ يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ

وَيَصْقُلُ أَخْلاَقَ الْمُحِبِّ الْمُسَلِّمِ

*

إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مَا بِنَا مِنْ تَشَاحُنٍ

يَعُودُ عَلَيْنَا بِالْوَبَالِ الْمُحَطِّمِ

*

إِلَى اللَّهِ أَشْكُو أَنَّ (إِسْرِيلَ)أَصْبَحَتْ

تَشُنُّ حُرُوباً فِي سَذَاجَةِ أَشْرَمِ

*

تُهَدِّدُ أَمْنَ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهَا

وَتَسْعَى لِتَفْتِيتِ الْوِئَامِ الْمُيَمَّمِ

*

وَتَخْدُمُ مَكْرَ الْكَافِرِينَ وَلُؤْمَهُمْ

وَتَهْوَى فِعَالَ السُّوءِ بَعْدَ التَّهَجُّمِ

*

وَتَبْغِي دَمَارَ الْكَوْنِ وَالنَّاسِ كُلِّهِمْ

وَتَنْسَى شِعَارَ السِّلْمِ فِي فِعْلِ مُحْجِمِ

*

إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مِنْ تَسَاهُلِ بَعْضِنَا

وَفِعْلُ لِئَامِ الطَّبْعِ لَمْ يَتَثَمْثَمِ

*

فَيَا رَبِّ أَنْعِمْ بِالْعِنَايَةِ دَائِماً

وَخَلِّصْ بِلاَدَ الْعُرْبِ مِنْ كُلِّ مُجْرِمِ

*

وَيَا رَبِّ وَفِّقْنَا وَوَحِّدْ شُعُوبَنَا

فَمَنْ تَهْدِهِ يَا رَبِّ لِلنُّورِ يَسْلَمِ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

لااااااااااااا..

لا تلمح باطلالة حلم خَلفَ مواسم الضياء

وزمجرة المساء زاجلة الصمت..!!

لا غزلة حنين تفوح جوى انعطاف

*

بغزير هوى ملتهب الجمود

شرب همس غواية..!!!

*

ثملت كأس الغياب...!!

نااااعسة الوجد شذرات العتاب..!!

بااااردة العزف بأهداب الأفول..!!

قد غشاها شوقٌ مرتجف الدفء..!!!

استوطن قهقهة القدر

***

نص / إنعام كمونة

انعام كمونة ٢٧/٦/٢٠١٧

أرسلت أمي ذات صباح نظرة ذات معنى، وقالت:

- اسمع يا ولد.

أحسست في صوتها برنة غريبة، لم أسمع مثلها، سوى مرتين في حياتي، كانت الأولى قبل نحو الثلاثة عقود، يوم طلبت مني أن أستيقظ، فاستيقظت لأجد أبي وقد مات. وكانت الثانية يوم أخبرتني أن أختي المقيمة في بلدة أخرى، بعيدة عن الناصرة، قد احترقت.

دقّ قلبي بخشية:

- نعم يا أمي.

- اسمع يا ولدي. لقد كبرت وأنا لا أريد أن أكون عبئًا على أحد. يوم الخميس سأذهب إلى البلدة، سأزور مكتب الشؤون الاجتماعية، وسوف أسأل هناك ما إذا كان بإمكانهم أن يرسلوا إليّ مَن تقوم بمساعدتي. إذا كان بإمكانهم مساعدتي سأبقى في هذا البيت، أما إذا لم يكن بإمكانهم، سوف أطلب أن يأخذوني إلى ملجأ للعجزة، في مدينة طمرة، تأميني الشخصي يغطي تكاليف مكوثي، لا أريد أن أضايق أحدًا. سأبقى هناك حتى أموت.

سكتت أمي وران صمت على الغرفة. فهمت من صوتها أنها تريد أن تقول كلامًا آخر غير ما قالته. ترى ماذا أرادت أن تقول؟ أتراها أرادت أن تمتحن قدرتي على فراقها؟ أم أرادت أن ترسل كتاب عتب إلى أختيّ، المقيمة في بلدة أخرى وتلك المقيمة بالقرب منها، وربما إليّ والي زوجتي المتمرّدة وأخوي وزوجتيهما؟

سألت امي:

- لماذا تقولين هذا الكلام؟

فردّت:

- أنت تعرف أنني قضيت عمري لا أحتاج أحدًا، وها هو المرض يهدمني. عِلة الموت يا ولدي لا علاج لها.

- لكنك مريضة يا أمي، ولست أول مَن يمرض ولا آخر من يمرض. ثم إن الله خلق الطب والدوا.

- أي دوا يا ولدي وأي طب. الموت هو مصير كلّ إنسان.

فهمت ما أرادت أن تقوله، إلا أنني تغابيت شأني في مثل هكذا مواقف:

- أعطني يا أمي يومين أو ثلاثة أيام حتى أفحص ما يمكن أن أفعله.

هزت أمي رأسها علامة الموافقة. وسمعتها وأنا أخرج من بيتها تتمتم كلامًا مفاده: لمن سأتركك يا مُهجة قلبي، لزوجة ظالمة أم لحياة لا طاقة لك بتحمّل ظلمها؟

مضيت أحمل أحزاني وتخوفاتي، مضيت خارجًا من البيت، لا أعرف إلى أين أتجه ولا ماذا أفعل. أمي فجّرت حزنًا خشيت منه طوال أيام حياتي وها هي تدفعه لأن يطرق أبواب قلبي.

سرت في الشارع كان حزينًا إلى أقصى درجات الحزن، مددت دي إلى شجيرة ياسمين استرخت على سور أحاط به الجيران بيتهم. شعرت أن الياسمين حزين. ترى سيأتي يوم أيها الياسمين ولا أراك، ترى أتكون هذه آخر مرة أم من أواخر المرات، لولا وجود أمي في هذا البيت ما أتيت إليه، وما أتيت إلى هذا الحي. وتصوّرت دمعة تهمي من عيني الياسمين، وبغصة في حلقي. إلى أين سأذهب تاركًا هذا الياسمين؟ إلى أين سأذهب. في الماضي كانت هناك شجيرة ياسمين، تسترخي على بيت أصدقاء لي في بلدة مجاورة، بقيت الشجيرة فترة من الزمن بعد رحيل بعضهم عن دنيانا، وبعضهم الآخر عن بلادنا، وبعضهم الآخر إلى عالم الشيخوخة أو المرض. بعد فترة من الزمن جاء من اجتثها، كي يقيم بيتًا جديدًا هناك. صدقيني يا أمي أن الشجيرة ما زالت ماثلة هنا في الذاكرة وان رائحتها ما زالت تعبق في روحي كلّما مررت من هناك. فاطلبي يا أمي من شجيرة الحارة أن تبقى حتى لا تتكرر الأحزان، اطلبي منها أن تتريث قليلًا. اطلبي منها.

ومضيت لا أعرف إلى أين أذهب، وبي رغبة في أن يبقى الياسمين، في أن ينشر رائحته الذكية في البيت والحارة والبلدة. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ وإلى أين أذهب في هذا الصباح؟ ماذا أفعل يا إله الكون.. يا فاطر الليل والنهار. ماذا افعل؟ أذهب إلى أختي في البيت القريب؟ أستجديها أن تحدب على أمي كما رعتها أيام كنّا صغارًا؟ أم أذهب إلى زوجة أخي؟ أم أذهب إلى زوجتي؟ إلى أين اذهب وماذا أفعل؟ ماذا افعل وأنا أعرف الأجوبة مسبقًا؟ أأبقى بانتظار أن يأتي يوم الخميس؟ وان تنتهي الأشياء من تلقاء ذاتها؟ أم أحرق روحي رجاء ضوء لا يأتي؟

أعرف أن أمي أرادت أن تحضّرني للحظة الأصعب في حياتي، وإلا لماذا هي اختارتني من بين الجميع لتخبرني بما أخبرتني به؟ أعرف أنني أعزّ عليها وأنها تعيش حتى هذا الوقت، ولم تسأم تكاليف الحياة من أجلي أنا طفلها ابن الستين. هي لم تُخفِ إحساسها وقالت لابنتيّ الشابتين يوم تكرّمتا وزارتاها، إنها تحبني أنا أبوهما، وأنها لولا وجودي إلى جانبها لكانت ماتت منذ فترة بعيدة.. من زماااااان.

يا الله أتكون أمي حملت كلّ هذه الأحزان ولم تُرني بعضها إلا بعد أن هدها المرض؟ أم أنها أرادت أن تقول لجميع أفراد العائلة، إنها عاتبة عليهم، ولا تريد منهم إلا أن يتركوها تغادر عالمهم هذا بصمت؟ بالضبط مثلما عاشت طوال أيامها ولياليها بينهم؟.. ما أقسى هكذا إحساس، ما أقسى أن تكتشف أن إنسانًا عزيزًا عليك يعاني، بعد فترة من المعاناة. آخ يا أمي، ماذا بإمكاني أن أفعل، أنا الرجل المخلوع المُبعد المهزوم ليل نهار، إذا ذهب صدرك من أين أجد صدرًا آخر يتّسع لي، لأحزاني وشقاواتي.

أحقًا أمي تريد أن تحضرني للحظة القاسية المُرّة؟ ولم لا؟ إنها تحبّني ولا تريد أن ترى دمعة في عيني حتى لو كان هذا بعد رحيلها. أنا اعرف كم هي رحيمة بي، وكم يؤلمها ألمي. أعرف هذا جيّدًا. هي إذن تريد أن تكتشف مدى رغبتي في بقائها. كيف غاب هذا عن ذهني المكدود؟ كيف؟ ما أغباني، ما أغبى الإنسان فيّ؟ لماذا لم تخطر في بالي هذه الخاطرة؟ فعلًا أمي تريد أن تعرف مدى رغبتي، أن تمتحن قوة إرادتي، فهل أوافق على أن أبتعد عنها؟.. هل بإمكاني أن أعيش بدونها؟ إذا كان بإمكاني، وهذا يتجلّى في موافقتي على ذهابها إلى مكتب الشؤون الاجتماعية يوم الخميس، فإنها ستذهب من هذا العالم مطمئنة، وإذا لم أوافق، فإنها ستبقى على مضض و.. من أجلي.

في تلك اللحظة فقط، عرفت إلى أين سأذهب، الآن.. الآن وليس غدًا سأذهب إليها، إلى أمي، سأذهب إليها هناك في بيتها، وسأقول لها، أنت لن تتحرّكي من هذا البيت، ستبقين هنا ما بقي الياسمين، وأنا وليس سواي من سيساعدك، أنا مَن سيكون إلى جانبك يا أحب الناس إلى روحي ويا أقربهم إلى قلبي.

***

قصة: ناجي ظاهر

(الناصرة في 23-7-2006)

كل ليلة وكالمعتاد كانت تحاول ان تنام او على الاقل هذا ما تفعله امامي عندما كانت ترى اني بدأت بالشعور بالتعب والاعياء، من الواضح انها ترتبط بي برباط روحي مميز وكذلك دميتها وهي على هيئة دب صغير والتي لا تفارقها حتما، حكاية الدب الدمية غريبة نوعا ما فقبل ثلاث سنوات تحديدا وعندما كانت برفقتي في السوق امسكتني من يدي بقوة واشارت الى الدب الدمية وقالت هذا هو صديقي قولي له ان يأتي معنا الى البيت ومنذ تلك اللحظة لم تفارقه ابدا وفي اغلب الاحيان كانت تحادثه عن علاقتها بي او بوالدها وكنت اسمع ذلك واحاول ان اتجاهله، جرحت يدها في احدى المرات وكان الدم يسيل من الجرح عندما وقفت امامي وقالت لقد جرح الدب يده وضمدت لها الجرح بينما قامت هي بلف يد الدمية بالضماد وهي تقول سوف يستغرق وقتا طويلا حتى يشفى .

سألتها عن اسم الدمية الدب فقالت انه يحب ان نقول له دبدوب فقط فقلت لها لعلها انثى ودبدوبه ولكنها اصرت على انه دبدوب وقالت انت لا تعرفين انه بنفس عمري تقريبا وأننا التقينا سابقا في الغابة. لم تكن قد رات غابة من قبل ولانا ايضا ولكني لا اجادلها قطعا واقلعت عن قضية شراء اية دمية لها. مزاجها مضطرب وتميل الى الوحدة والعزلة، لا اعرف متى بدأت تميل الى رسم الاشياء وتلوينها وهي تعطي لونا لكل شيء غير اللون المعتاد في رؤيته فهي ترسم الغيوم خضراء والسماء بلون احمر، الحقيقة أنى لا أتدخل في التفاصيل فانا اوفر لها الالوان التي تريدها ودفاتر الرسم. الوقت المفضل اليها في الرسم كان بعد منتصف الليل فقد كانت تكره الاصوات العالية بشكل كبير وترعبها الأصوات المرتفعة وتختبئ وتبكي عندما نتشاجر لأي سبب في البيت .لا اعرف من اين اتت تسمية ذوي الاحتياجات الخاصة او ما معنى التوحد ولكنني عايشت الامر على مضض واستجبت لكل ما يتعلق بهذه التسميات، بل ان حتى مزاجي هو الاخر اصبح متوافقا مع التوحد الذي تعانيه، كانت تهمس في اذني عندما تريد ان تقول لي شيئا ما وهكذا فعلت عندما سحبتني من يدي وارتني فمها، فيما يبدو انها كانت تعاني من الم في اضراسها التي تسوست وتكسر بعضها وبقي عالقا في الفك، قلت لها اين بالضبط فأشارت الى الجهة اليسرى من اضراسها فقلت لها لا تهتمي للأمر سوف نذهب اليوم الى طبيب الاسنان .

اثناء انتظارنا لطبيبة الاسنان رأيت قلقها وخوفها في حركات يديها وعينيها وحاولت ان أهدئ من روعها وتحدثت معها عن الطبيب التي سوف ترى اسنانها التي اكلها النمل وسوف ترش مادة طعمها طيب لكي تقضي على الالم ويذهب النمل الى الابد، اظن بانها اقتنعت بهذه الفكرة لأننا وعندما دخلنا الى الطبيبة ذهبت الى الكرسي وجلست عليه ثم فتحت فمها .نظرت الطبيب الى فمها وقالت سوف اقتلع ضرسا واحدا في كل جلسة لأني وبصراحة لا اعرف كيفية التعامل ورد فعل هؤلاء الاطفال، وافقنا على ذلك انا وزوجي واشرنا اليها بان تبدا العمل، اريد ان اقول باني ضعيفة ازاء ما يشعر به الاخرون من الالم فكيف يسعني ان اتحمل رؤية ابنتي وهي تتألم ؟ قلت لزوجي سوف انتظرك خارج الغرفة.

كنت انظر من النافذة الى حركة العجلات في الخارج وهي تمر مسرعة ولا اعرف كم استغرق الوقت عندما جاءت سيارة مسرعة جدا لم تقف عند اشارة المرور الحمراء، لان وفيما يبدو ضغط على الفرامل بقوة فأصدرت صوتا عاليا فيما رأيت احد الاشخاص الذين كانوا يعبرون الشارع وهو يطير في الهواء ثم يسقط على الارض بدون حراك وتزامن هذا مع صرخة كبيرة اتت من غرفة الطبيبة شعرت بعدها وكان قلبي قد توقف وانهارت اعصابي فلم اعد اقوى على الحراك ولكني تحاملت على نفسي وحاولت ان اركض باتجاه غرفة الطبيبة وهالني مارايت، فقد كان الدم على فم ابنتي وعيناها شاخصة باتجاه الباب ويد الطبيبة ترتجف كما يبدو وهي تحمل بقايا الضرس بينما رأيت دمعة على وجه زوجي، نظرت اليه فقال: لقد مر الوقت ثقيلا لااريد رؤية هذا الامر ثانية . اردت ان اقول له و انا ايضا ولكني لم استطع الكلام .

***

نضال البدري / العراق

عضو اتحاد الادباء

 

أَكلّمـا اشـــتقـتُ الـى قـربِـــه

عاقــبَ أفــراحي أَسَى بُعـدِه؟

*

تـَـولّـَــعَ الجـــرحُ بســكّيـنـِـه

مسـتغنياً بالنَّـزفِ عن ضمدِه

*

يا وطناً لمَّـا يَـــزلْ ســاجـني

رغــم فـراري من أَذَى قيـدِه

*

لمْ أَجنِ غيـرَ القشرِ من لُـبِّـه

ووخـزةَ الأشـواكِ مـن وردِه

*

كُوفئتُ عن حُبِّي لـه والجوَى

بطعنــةٍ نـجـــــلاءَ من حقـدِه

*

لولا هيــامي والهـوَى غالـبٌ

لمَـا احتملتُ الــذلَّ في صـدِّه

***

كـم عاشقٍ مثلي بـــه مُغــرمٍ

لـم يُغنِه العشـقُ ولـم يُجْـدِه!

*

فـقـدتُــه جَدباً ومـا عـوَّضـتْ

كـلُّ جنـانِ الأَرضِ عن فقـدِه

*

قد كفَّني عن وصلِه سـاخطاً

ولـم أَكـفَّ القلبَ عـن حمـدِه

*

وأَحـرقـتْــني كـامـــلاً نـــارُه

ولـم أَزلْ أَصبـوْ إلـى  بَـــردِه

*

يَسقي بنيه المُـرَّ في كأسِــه

وغيرهم يَسـقيـه من شهـدِه

*

قد هـاجَ كالثّـورِ علَى أَهلِــه

يـاليتــه عـــادَ الـى رشـــدِه

***

عبد الاله الياسري

 

عشقْتكَ يا إمامَ العدْلِ حتى

تمادى العِشْقُ في نفسي وذاتي

*

أتَيْتُكَ لا بِجِسْمٍ بَلْ فُؤادٍ

يُحّلّقُ فَوْقَ قافلةِ الحُفاةِ

*

وَكُنْتَ السيّدَ الأتقى وإنّي

رأيتُ الدربَ في عِشْقِ التُقاةِ

*

تَلوْتُكَ في ضميري ثمّ حَدْسي

وَلَمْ أحْفلْ بأقوالِ الرُواةِ

*

فَيا ثِقَتي تَشابكتِ النَوايا

وأخطأنا الطريق َ الى الثُقاةِ

*

دليلي نَحْوكَ الصوفُيُّ قلبي

يُهشّمُ في الورى  بُقْيا مَناةِ

*

هُنا ضوءُ النزاهةِ قد تَعرّى

عَنِ الظُلُماتِ صَوْناً للْعُراةِ

*

تَعَثّرْنا طويلًا في المَعاصي

وَلَمْ نغْرَقْ بِأوْحالِ الخُطاةِ

*

إمامَ الزُهْدِ قدْ أوْقَفْتُ قلبي

على جَمْرِ الحقيقةِ والثَباتِ

*

حَمَلْتُكَ في صَدى روحي وَ إسْمي

ولي شّرَفٌ بهاتيكَ الصِلاتِ

*

سَجيّتُكّ التقشّفُ هل رَعّتْها

دُمىً حَمَلتْ بَريقَ التّسْمِياتِ

*

مَلَلْنا لوْثَةَ الطُغْيانِ دهراً

فطاغِيَةٌ يُسَلِّمُنا لِآتِ

*

الى حُرّيّةٍ بيضاء َ نسعى

وشورى ترتدي طوْقَ النَجاةِ

*

ألا يا أيُّها الساري سلامًا

فقلبي ضاعّ في ليْلِ السُراةِ

*

يصوغُ الشِعْرَ مِنَ عِطْرِ الخُزامى

ولا يُعْنى بِفَذْلَكَةِ النُحاةِ

*

تَعَلّمَ مِنْ لُغاتِ الطيْرِ سِرّاً

يُلّقّنُهُ مُباهَلّةَ الدُهاةِ

*

لَهُ طّبْعُ الخَوارِجِ في التَحَدّي

ويأبى الكأسَ من أيدي الطُغاةِ

*

على وَتَرِ الربابةِ راحَ يَشْدو

كما تشدو العنادِلُ لِلْرُعاةِ

*

بِرايَتِهِ دُموعٌ لِلْثَكالى

سَيَرْفَعُها على جَبَلِ العُصاةِ

***

د. مصطفى علي

 

جزائر يا موطن الثائر

ويا جنة الصانع القادر

*

ويا شعلة في ظلام الدجى

تنير السلامة للسائر

*

ويا ومضة من ضياء الجمال

ويا منبع السحر للشاعر

*

وفوق الجبال وبين الوهاد

تألق نجمك للساهر

***

تحدى (ابن باديس)1 فيك اللئام

فكان العليم بحلم الكرام

*

وعجّل بالعلم يبني الحجا

بفلسفة الدين روح النظام

*

وعلم من صفوة الجيل جيلا

تسامى يمزق حجب الظلام

*

وحقّق للشعب أحلامه

(فمنكم ومني عليه السلام)2

***

جزائر يا أمّنا الغالية

فديناك بالأسد الضار يه

*

وخضنا الجهاد زمانا طويلا

دفاعا بأرواحنا الغاليه

*

وكنا لصدق الجهاد مثالا

مآثرنا المهج القانيه

*

وجلجل صوت الرّصاص يدوي

** على قمم الأطلس العاليه

***

(وعطل صوت الرّصاص اللغى)

وقد ألف الشعب طعم الرّدى3

*

ولاح من الشاهقات ضياء

كجذوة نار تنير المدى

*

ومزّق حجب الظلام سناه

ليكشف بالومض مكر العدى

*

وفي ليلة القدر ألقى سلاما

وبشرّ بالنصر جند الفدى

***

تواتيت نصر الدين / الجزائر

.........................

1 - الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد النهضة الفكرية والتحرريّة في الجزائر، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته

3-2- من إلياذة الجزائر لشاعر الثورة مفدي زكرياء رحمه الله وأسكنه فسيح جناته

 

من أعتىٰ؟

وأنا البحّارُ بأهوالِ العشقْ

لُجّةُ حبّكِ أم رَوعُ التِرحالْ

في ظُلماتِ المَجهولْ

لا أعرفُ ما الذعرْ

لكنّي لمّا أوصَلَني المدُّ إليكْ

مزّقَ مَوجُكِ أشرِعتي

فجَنَحتُ بلا دَفّةِ فِكرْ

لا يَهدَأُ إعصارُكِ حَولي

يُبقيني ..

يَسلبُ بوصَلَتي

كيفَ ىسأبحرُ عنكْ

ياعاصفةً

يغرقُ فيكِ البحرْ

**

كالدوّامةِ في رَحمِ اليَمّْ

شَفَتاكِ

أجهلُ فَورَتَها

تَجرفُني

كالماردِ ترميني في عُمقكِ مَغلولاً

أبحثُ عن قشّةِ سِحرْ

تُنقذُني

وأنقّبُ في حِكمةِ أيّامي

علّي أُبعِدُ فاكِ

إنّي أعلَمُ ..

لا يُنجدُني طَوقُ نجاة

يُلقيهِ إليّ مِراسُ العُمرْ

**

هل عَصفُكِ يُنجيني من غَرَقي

يَحملُني

أطفو في خَدَرٍ عَذْب

أم يُلقي بي خلفَ الشطآنْ

مُنكسِراً

حَيّاً

أبحَثُ عن عُذرٍ

لأعودَ الى مَوجِكِ كالظمآنْ

***

د. عادل الحنظل

 

أُلغيتْ الحقائقُ والدَّقائقْ

أُلغيَ الميعادُ والإسْعادْ

أُلغي الشَّهرُ والدَّهرُ

أُلغيَ الشَّوقُ والتَّوقُ

أُلغيَ الإبتسامُ والسَّلامْ

أُلغيَ السُّرورُ والحبورْ

أُلغيَ الحفْلُ والرَّفْلُ

أُلغيتِ الأشواقُ والإعِتناقْ

أُلغيَ العتابُ.. والإقْترابْ

أُلغيتِ الروحُ.. منْ مسْكنِ  الرُّوحْ

فأيْن تَروحُ ...

إنَّهُ العيدُ يا أبِي

هلْ تسْمعُنيِ.. يا أبيِ !

***

زهرة الحواشي

من "حديث الرّوح"

 

انقضى من العمر سيل من السنين، تاركا خلفه ركاما بقيت خيوطه تتدلى، تتغنى بآثار ماض لم يزل ينثر ورود محبته.

كبرت الطفلة كما نبتة نمت سيقانها، لتقص فيما بعد أحداث عمرها لابنتيها التوأم.

شرع المخاض برفقة طقوس تحدها ثقافة تتصارع مسالكها مع زوايا بقيت شاخصة في العقل.

غادرت ذات يوم لتحط بأجنحة عمرها الذي لم يتجاوز الست سنوات.

راح المنظر يحكي عن ابتسامة تغلفها مسحة حزن يساور أفكار صبية ما انفكت تتطلع صوب موضوعات تتلازم إيقاعاتها مع رحلة بقيت تحتضن روحها، تمد ذراعيها لتعانق أسوار براءتها وفقا لتوالي سيناريوهات يسوقها الأمل، ورحلة المصير.

أحاطت لغة الغربة بكيانها مذ أول لحظة نزلت بقاع تلك الأرض، متجاوزة تقاطعات هذه العقارب التي تندك الثواني فيها بسريان لا نقدر أن نمسك به- تزحف ثم تمشي رويدا رويدا، تطوف بنا جميعا لتبلغ أقصاها، تنحدر متزامنة مع مصادفات تلج، تغيب، ثم تحضر، كأنها أمواج بحر تتماسك مع بعضها، ترتفع تارة، وتهبط أخرى عند منحدرات دهاليزها الصماء، لتحل محلها بعد حين حزمة تيارات قادمة- هكذا نحن- تعبث بنا الدروب، تشدنا إليها، تبهرنا، ثم ترحل دون وداع، نفارق الأهل، والأحباب، يبتعد الأصدقاء، وعلى غرار ذلك تفارقنا الأوطان، والمسافات كما الرؤى تغيب عنا، يأخذنا الحنين، يحتجب العمر خلف حواجز الهجرة، نفترق، نلتقي، وربما تغيب أرواحنا إلى الأبد، نبكي ونحن يجمعنا الشوق بعد انقضاء الأعوام مع نبض ذاكرة تشدها الأوجاع، والخوف، والغربة، والألم.

انصرمت أيام الطفولة لتلميذة ترعرعت حياتها أسوة بزميلاتها، ونأت معلمتها التي عانقت لحظات بكائها يوم لم تكن تشعر بالألفة مع زميلاتها اللواتي كن يتعاملن معها بلا مبالاة، وباستخفاف وهي ترتدي الحجاب، عقب أحداث من التاريخ  أوقعت الخوف في نفوس الناس.

صار للبنت شأنا مع بداية أعلنت عن نفسها مع أشواط تعلمت فيها معنى الوفاء لمعلمتها التي أفلت.

ترافقت رحلة الأزمنة مع المشهد، بما في ذلك ملامح الطفولة التي اكتست ببصمات أمومة أغار الزمان عليها لترتبط بتحديات تختلف تماما عن عالمها القديم.

أصبحت الصغيرة مديرة مصرف، وأم لطفلتين، وتلك مساحة بها تسترجع الأمكنة شروط صحبتها القديمة، رسمت المصادفات نفسها عبر لقاءات، ولحظات غير ومرتقبة.

لم تتكهن البنت الخجولة بمصادفة أعادت إلى روحها نبضات صيف خجول من أيام حياتها الأولى في سان دييغو، لحظة إيصالها طفلتيها التوأم إلى الصف.

أجالت بمعالم ذلك الوجه، متسائلة دون تردد لتسري بروحها مع سيماء المشهد القديم.

استفاقت ذاكرتها من أجداث صورة غابت، لتعود مثل مفقود يرجع إلى وطنه، وأهله، وذويه، استيقظت دموع الشوق، سرى ذلك الشعور مع اهتزاز وجداني أعاد إليها صباها معلنا توقه لقلب سرعان ما أجهش بالبكاء مع تجلي لحظة مباغتة.

***

عقيل العبود

يَا لَيْلَةَ الْعِيدِ قَدْ قَامَتْ لَكِ الْحِقَبُ

وَالْحُزْنُ فِيكِ بِقَلْبِ اللَّيْلِ مُحْتَجَبُ

*

أَسْعَدْتِ قَلْبِي وَكَانَ الْقَلْبُ مُكْتَئِباً

وَعُدْتُ أَمْرَحُ زَالَ الْهَمُّ وَالتَّعَبُ

*

أَشْدُو بِلَحْنٍ تَزِينُ الْعُمْرَ طَلْعَتُهُ

وَعَادَ أَحْبَابُ قَلْبِي بَعْدَمَا احْتَجَبُوا

*

نَادَيْتُ يَا دَهْرُ قَدْ أَسْعَدتَّنِي عَجَباً

عَادَ الشَّهِيقُ وَزَفَّتْ فَرْحَنَا الشُّعَبُ

*

هَلَّلْتُ أَهْلاً بِعِيدِ الْفِطْرِ بَيْنَهُمُ

يَا بَسْمَةَ الْعُمْرِ أَنْتِ الْمَاسُ وَالذَّهَبُ

*

إِنِّي وَهَبْتُ لَكِ الْأَنْفَاسَ مِنْ زَمَنٍ

وَتَضْحَكِينَ وَيَحْلُو يَا أَنَا اللَّعِبُ

*

فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ زُرْنَا كُلَّ مُعْدَمَةٍ

نَحْنُو عَلَيْهَا خِيَامُ الْجُودِ تَنْتَصِبُ

*

وَأَنْتِ تَدْعِينَ وَالْأَيَّامُ تَفْرَحُ لِي

وَافَى الزَّفَافُ وَعَادَتْ حَفْلَهُ الْخُطَبُ

*

يَا لَيْلَةَ الْعِيدِ عَادَ الْحُبُّ يَجْمَعُنَا

وَاللَّهُ يَرْضَى وَتَعْلُو بِالدُّعَا قُبَبُ

***

شعر أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

الحصان الّذي بات خلف أسوار المدينة،

لم يكن غنيمة حربٍ

و لا كان عنوان انتصارْ،

لم يكن طالع خيرٍ،

و لا كان عربون سلامْ ..

كان كائنا من جمادٍ،

في جوفه الموتُ والخرابْ ..

جمرًا ينام تحت رمادْ.

*

اللّيل ساكن رهيبْ ..

العيون خلف الأسوارِ ..

نائمةٌ يحرسها الأمانْ..

الأسوار عالية حصينةْ،

العسس يقظونْ،

و الأبواب موصدة متينةْ.

و في مكان ما،

كانت الخيانة تنام في حضن الغدرْ ..

كانا يمارسان طقوسهما

على فراش واحدٍ،

تحت سقف واحدْ،

بين نفس الجدرانْ.

*

في جوفِ اللّيلِ والسّكونْ،

تمخّض "الحصان الخشبيُّ"،

كان المولودُ خرابا ودمارا،

و احترقتْ طروادةْ.

كانت مأساةٌ وكانَ موتٌ..

و كانت دماءٌ ..

و كان حريقْ..

و المتّهمُ "حصان خشبيّ"...

*

تناسلت السّنونُ، ومن بعدها القرونْ..

كان لكلّ بلد طروادةٌ وحصانْ،

و لكلّ أمّة مأساةْ..

و في كلّ شبر من الأرض آلامٌ وموتٌ وفناءْ،

الكلّ في المعارك أبطالْ،

الظّالمُ والمظلومْ،

و الكلّ يبحث في الآخَرِ عن "كعب أخيلْ"..

لِيُهْدِيَهُ الموتْ.

*

يا أيّها التّاريخُ،

يا مركبا تائها بين جنون الموجِ ودفءِ المرافئِ،

بين لمعةِ سيفٍ وتغريدةِ نورسْ..

يا أسطورةً تنضحُ آلاما وجراحًا..

يا قِصَصًا للغدرِ والخيانةِ لا تنتهي..

و سيوفا تؤذِّنُ للانتقامْ ..

لوجبةٍ لا تُؤْكَلُ إلاّ وهي باردةٌ

فتنزلُ في البطون سعيرًا،

فهل من متّعظٍ أريبْ...؟!

*

يا أيّها "الحصان الخشبيّ"

أشهدُ أنّك بريءٌ من الغدرْ،

وأنتم أيّها "الأبطالْ" ،

يا من ترفعون على أشلاء الموتى

و بقايا الأطلالْ،

كؤوس النّصر في كلّ عصرْ..

لِتَعْلَمُوا أنّ لكلّ منكم "كعبَ أخيلْ"،

و أنّكم لا محالةَ مَيِّتُونْ

و أنّ الانتصار عملاق يقزّمه الباطلْ،

و أنّ الضّحايا

ليسوا سوى وقود لحقد الأقوياءْ

و أنّ الانتقامَ وحشٌ شرسٌ،

لا يفترسُ إلاّ من يطعمُهُ ويغذّيهْ.

فلا تزرعوا الشّوكَ،

إنّه لا يثمرُ غيرَ الأَلَمْ،

و لا تزرعوا الرّياحَ

كي لا تَحْصُدُوا النّدمْ.

***

25/06/2023

محمد الصالح الغريسي

مذ خرجت زوجته ولم تعد وهو لايغادر البيت، بسمة ارتياح لاتفارق وجهه مرتخيا على كرسي هزاز في هدوء وسكينة نفس الى نافذة البهو المطلة على الشارع، يدقق النظر في الرائح والجاي كأنه يتلمس عودتها وقد تقمصت روحها أحد وجوه المارة الكذبة النرجسيين، أو ربما حلت في قطة وشق بأقدام سوداء، تقفز و تموء بلا انقطاع، أو كلبة بوكسير تلاكم بلاتوقف وتنبح بشراسة.. يضحك في أعماقه ساخرا من إيمان زوجته الشديد بتناسخ الأرواح كانت تعانده بحجج تتوهمها حقيقة لمعتقد لديها راسخ..

" ميلادي بعودتي سيتجدد، فخلود روحي ثابت، لاينكره الا دهري مثلك لا يعي غائية عودة الروح الى أجسادها يوم القيامة.. يموت جسدي لامحالة، لكن روحي راجعة لإتمام رسالتها على الأرض "..

يقهقه وهو بكامل ثقته بما يدور في رأسه أن رسالتها لم تكن غير روحها، أن تسكنه وفيه تتحكم وبرايها يحيا، انتقامية، لذتها أن تذيقه مما أذاقها أجيالا.. كان يدرك هذا منها فغاية معتقدها أن تطمس له شمسا..

ـ "عنك لن أغيب يازوجي العزيز ومني لن تهنأ أو ترتاح، أولك يهدأ بال، قد تغيب عنك صورتي، لكن روحي ستظل تحاصرك وحولك تحوم ليل نهار.."

يحرك راسه بايجاب وهو يوازن بسخرية بين نقائضها ويقظته..

كان مصباح صغير ضئيل الضوء هو ما يشير الى وجوده الليلي ساهرا يدخن أو يكلم نفسه، حتى أن أحد الجيران قد استبعد ألا تكون زوجته موجودة فعلا، بل هي من يرد عليه الصدى بنفس تسرعها وثرثرتها التي لايتوقف لها لسان وهي تستميت في الدفاع عن معتقدها، أو تفشي ما توصلت اليه ببحث ونبش عن أسرار من يشاركها العمل، إذ لا معنى أن تخرج سيدة معروفة بين سكان الحي من البيت بهدير يومي كإثارة، بها تلفت عيون المارة ومن يترقبون طلعتها البهية قبل أن تطل عليهم مساء عبر شاشات التلفزة فتثير الكبير والصغير بإلتفات، فكيف تخرج من البيت ولا ينتبه اليها أحد؟..لا الشرطة قد وجدت لها امارة تدل عليها ولاعيون المخابرات قد اهتدت لأثر..

بعد ثلاثة اشهر تعانقت أبواب نوافذ البيت عناقا طال وامتد وما عاد البيت يتنفس من الأبواب هواء، ولا الأبواب تسمح بنور من ذؤابة مصباح فتعكس إشارة بوجود..

أين رحل الزوج؟ لا أحد يدري !!.. فكما غابت زوجته خفية بلا علامة تدل عليها، فقد تبعها الزوج خفية كذلك بعد حزن شديد، وكأن أرضية البيت مطمورة تبتلع ما فوققها ثم تلتحم بلا اثر يدل عليها ؛وحين أثار الشك سكان المنطقة في أن يكون الزوج قد مات كمدا بعد أن فارقته زوجة كانت تبهر العين ولها تتناغر الأحاسيس برغبة، رغم ماكان يتبدى عليها من شراسة والتي كان يؤولها البعض في رغبة شبقية هي مامات في الزوج، وظلت عليها تستحوذ وبها تثير عشاقها إذ كل ما فيها يغري بالقبل والعناق. فتح أحدهم البيت بعد إذن من السلطات لكن لم يكن في البيت غيرالصراصير، وبعض الجرذان وقبائل النمل التي فتحت ثلمات بين الشقوق وتسعى جادة لبناء مدنها..

ثلاث سنوات وزيادة وجميع أبواب البيت تطبق على ما في داخلها، هي كما هي لم يتغير فيها الا لون الخشب الذي التهمته الشمس وشققه المطر فصار كألواح مراكب الصيادين المتلاشية الباهتة والمهملة على ضفاف الأنهار المنسية..

ذات ليلة عاصفة أرعدت وابرقت ورمت السماء رجومها مياها أغرقت بيوتا وقلبت أخرى عاليها على سافلها.ارتعب الناس وأفزعتهم الكارثة بذعر فتركوا مساكنهم وفروا صعودا بعناء وصبر الى صخرة عالية فوق نهر يخترق المدينة خوفا من تدمير آت لا محالة يسألون الله الرحمة و التخفيف عنهم..

الأقوياء منهم تمكنوا من النجاة بوضع قدم فوق الصخرة لكن غيرهم: منهم من غابوا نهائيا، ومنهم من قذفتهم التيارات المائية قلب بيوت أخرى لا يعرف أحد هل ماتوا ام لازالوا يعانون ويقاومون داخلها...

كان الفارون يطلون من أعلى الصخرة، متحسرين تدمع عيونهم وترجف قلوبهم على أمتعة الناس طافية أو متقافزة تندفع من النوافذ وأبواب المساكن فتجرفها السيول..

صاحب مقهى مشاكس يعارض كل شيء قال:

ـ هذا عقاب تنبيهي من الله لحكومة تعمى لها العيون عن الأثرياء وأصحاب المشاريع المقربين من يستغلون فضاءات عمومية فتنساهم بلا ضرائب، لكنها تحاصر المقاهي الصغيرة بإتاوات تدعيها حقوقا حول ما يسمعه روادها من مقاطع غنائية ويشاهدونه من برامج تلفزية، أنظروا الى المقاهي عوامة بأثاثها، كؤوسها وأكوابها وأباريقها كصيبات بلورية راجمة من سماء..

عويل، بكاء وصياح الفارين وهم يشيعون مع الامتعة والأغراض حزمات لأوراق مالية من مختلف العملات تلفظتها صناديق خشبية أو حديدية ولم يستطيعوا النزول اليها، ولا ملاحقتها او السباحة خلفها..

أحد الجباة المرضى بغرور العظمة توهم نفسه بطلا فرمى بنفسه قلب المياه الجارفة محاولا انقاد حزمة من مال ظهرت ثم غابت ومعها غاب نهائيا بلا اثر..

كانت أحاديث الفارين فوق الصخرة ؛حسرة على العلب المبطنة، والوسائد والمضربات وقد تفككت ورمت مخزونها من ذهب وفضة، جواهروقطع نقدية ذهبية رسبت في قعر المياه، ولن تكون الا من حظ الشركات التي ستتكلف بتنقية النهر بعد انحسار المياه أو عمال البلدية ومساعدي الصحة وغيرهم ممن يحشرون أنوفهم في كل شيء، ويتقنون البحث في مثل هذه المهمات..

شهقت أمراة وهي تجأر بشكوى نادبة حظها وحظ من ضاع وغبر :

ـ أموال جمعها سماسرة السياسة والنقابات وموظفون سامون، من الرشاوى بعيدة عن عيون الدولة، وأخرى لأصحاب الريع من يملكون رخص الرمال والمناجم، وبواخر الصيد في أعالي البحار، وأموال أخرى لتجار وأصحاب معامل وشركات مما تم ابعاده وحجبه عن عيون الضرائب يطوح بها الطوفان نكاية في أصحابها.ماذا بقي لنا ؟ حرمان قبل الكارثة وفقر بعدها...يا رحمة الله بنا !!..

شابة صغيرة لفتت انتباهها حزمات من كتب مجلدة بأوراق صفراء قد غابت ألوأنها، تبسمت رغم الذعر الذي كان يملأ صدرها ومع نفسها تمتمت:

أومن لو كتب الله لي النجاة لعشت في وطن بلا إرهاب فكري ولا ألسنة تزايد على ربها وتؤول كلامه بما لم يبلغه رسوله أو بلغه وحرفته اللحى المغشوشة حسب هواها ورغبة حكامها..

لوحة خشبية كمحفة طويلة من مترين تقريبا مربوطة عليها جثة بأحزمة جلدية وحبال كانت المياه تتقاذفها داخل بيت الزوجين المفقود ين، تكاد توشك على التخلص من حصار النافذة فتمنعها تيارات الماء الدوارة من قوة الدفق داخل البيت..

الجميع انتبه الى اللوحة وقد توهموا أن أحد الفارين بنفسه قد ربط اليها أمتعة قد يتداركها ولاتضيع منه بغرق.. وربما ضاع هو وغبر، وبقيت اللوحة تدور وتحاول الانفلات بارتطامات قوية مع إحدى النوافذ..

مالت اللوحة بعد ان قلبتها أحدى تيارات الماء فانحبست محصورة بين المتلاشيات مما فككته انسكابات السيول..

ثم مالبث الناس أن أرعبهم دوي قوي جعل المياه تغور وتنطمر بعد أن أنفتحت الأرض وابتلعت جميع من فوقها الا الفارين المنذعرين فوق الصخرة وقد صاروا مكان الأرض الهاوية.بعد أن تساوت الصخرة بما تحتها. دمدمات أخرى تسري بين الناجين وما أقلهم، حتى البيوت صارت أرضية لا تظهر لها غير بقية باهتة عدا البيت الذي علقت به المحفة الطويلة كان آخر ما هوى وظل فوق الانقاض كإطلالة باقية..اللوحة وما كان مربوطا فوقها قد انسلخ عنه كل دثار كشف رجال الانقاد انها المذيعة التلفزيونية زوجة الرجل الذي غبر، تم التعرف عليها بوحمة سوداء على فخدها الأيسر وبأحد الأحزمة الذي لم يكن غيرحزام زوجها الذي كان يتمنطق به في رحلات القنص..

بعد أن توقفت الأمطار وغار الماء تم الكشف عن خزان حديدي كخزانات المواد النفطية بسعة غرفة في المنزل لفظته أرضية البيت بعد ان فككت دفقات المياه القوية مقابضه وتلحيماته وهو الذي احدث الدوي الكبير الذي فسح الطريق باتساع للمياه ان تغور في النهر الذي يخترق المدينة..

ما فاجأ الشركات التي تكفلت بإزاحة ما تراكم من أنقاض وأزبال ورواسب هو كمية الهياكل العظمية المتفككة في النهر والتي فاقت بكثير عدد من جرفهم الطوفان بعد إحصاء الخسائر، وقد ابانت تحليلات الحامض النووي أنها لمفقودين سياسيين ورجال أعمال أثرياء غابوا من عشرين سنة مضت بلا اثر يدل عليهم، تناسهم الزمان لكن في عيون ذويهم قد ظلوا أحياء.. وما زاد في الاستغراب كذلك هو قادوس اسمنتي ضخم بارتفاع قامة إنسان امتداده كيلومتران وزيادة يؤدي الى حديقة غناء بها غرفة عالية تطل على رحابة الطبيعة يقيم فيها الزوج المفقود بكامل زينته وأناقته وقوة شبابه مع ملكة جمال الكون للسنة ماقبل الماضية، تومن كما عاشقها يومن أن الحياة غنيمة لذة من حاضر ولا روح تنتقل الى غير جسدها..

الغرفة مفتوحة على فيلا خارقة المحتويات لثري هندي حسب مايشاع وتردده ابواق المأجورين الخدمة ما يوهم الناس أن الرجل مقعد قد هده الزهايمر ولا يتنقل الا على كرسي متحرك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ياعيدُ عُدْ لديارِنا ياعيدُ

طالَ الأسى، والهم فيك شديد

*

فمن المحيطِ الى الخليجِ مصائبٌ

من هولِها شمُّ الجبالِ تميدُ

*

أحفادُ طارقَ قد نسُوا غرناطةً

وهم الأشاوسُ في القتالِ أسودُ

*

والقيروانُ تبدَّدتْ أحلامُها

فذوى الربيعُ إذِ اعتلاهُ جليدُ

*

أرضُ الكنانةِ غابَ عنها فارسٌ

يُزجي الصفوفَ وللجنودِ يقودُ

*

ليردَّ طغيانَ المغولِ وظلمَهم

مجدَ الرشيدِ إلى البلادِ يعيدُ

*

يا ربِّ بتنا للضباعِ فريسةً

فينا تطيحُ ثعالبٌ وقرودُ

*

فالقدسُ تصرخُ دونَ نجدةِ ماجدٍ

ويعيثُ في مسرى الرسولِ يهودُ

*

لا شاربٌ يهتزُّ من صرخاتِها

بل لا يهبُّ إلى اللقاء جنودُ

*

وبنو أميةَ كُبِّلتْ فرسانُهم

والرومُ يعظُمُ شأنُهم ويزيدُ

*

والفرسُ تقتلُ في ذراري منذر

لا هانئُ  يحمي ولا مسعودُ

*

رحماك ربي إنّ أمةَ يعرُبٍ

قد مزّقتْها  فرقةٌ وحدودُ

*

أعِدِ الكرامةَ والعُلا لشعوبِنا

تحيا وتُحيي ما بناه جدودُ

*

وأعدْ إلى أطفالِنا ضَحِكاتِهم

فلقدْ سباها القتلُ والتشريدُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

تحسنّت علاقتي مع معلمة مادة الرياضيات بعد الموقف الثوري، وبالتالي تحسنت علاقتي مع جميع المعلمات المتضامنات معها بلا سبب ..

وهذا العيب يغزو المجتمعات النسائية أن تعادي إحداهن أخرى فقط لأنها قالت كلمة عن إبنة خالة صديقة جارتها ..!

المهم أنني فقدت إحترامي لتلك المعلمة رغم التعامل الجيد الذي عاملتني به لاحقاً لم أكن ّ تلك المشاعر التقديسية بيني وبين المعلمات ربمالأنني لم أصادف منهن من تستطيع أن تخرج من كونها مدرسة في الصف..

في ذلك الوقت من السنة كنا نستعد لمهرجان ترتيب الصفوف الدراسية، كان بمثابة تنافس بين الطالبات وبين رائدات الفصول يصل للدرجةالتي تنشب حزازيات وأحزاب وعداوات بين جميع الأطراف إلى أن يحين الإعلان عن جائزة "الصف المثالي" وتكريم الطالبات و رائدتهن من قبل المديرة في الإذاعة الصباحية..

(هذا الأمر لايعرفونه الشباب في مدارس البنين)

كان الفوز بتلك الجائزة يتطلب عدة شروط (الديكور المميز والذي يبرز العناصر الرئيسية من "لوحة الصف بأسماء جميع الطالبات ومكتبة الصف"، السمعة الجيدة،حسن سلوك التلميذات)

وبسبب أن صفنا الدراسي كان يجمعني أنا وشلّتي الثمانية لم تقبل أيا من المعلمات أن تتحمل مسؤولية ريادتنا كان ذلك بمثابة الإهانة لنا

فما كان مني أنا "رئيسة الفصل و رئيسة النظام" إلا الإمساك بزمام الأمرر وترتيب الصف..

أبدلت الطاولات والكراسي بأخرى من مستودع المدرسة لتصبح جميعها بمستوى واحد وغلفتها باللون "البيج" وكذلك الكراسي كانت بلون خشبي فاتح، علقت لوحة بعرض الجدار الخلفي كاملا لمنظر أشجار خريفية وعلى الأوراق المتساقطة علقت أسماء الطالبات

والمكتبة كانت عبارة عن رفوف صغيرة معلقة  في الزاوية الأمامية بجانب السبورة  وتحتها ثلاثة أحجام لطاولات مطلية باللون الخشبي و و ضعت على إحداها  سمكة ذهبية حية في حوض دائري وعلى الطاولة الأخرى حوض زجاجي آخر بداخله بعض الأحجار الملونة اللامعة و شموع صناعية تعمدت إختيار تلك الزاوية لأن أشعة الشمس وقت الظهيرة تسطع في هذا المكان عادة وتنعكس على الأحجار والسمكة..

كانت من ضمن شروط التقييم كان على كل صف عمل إفطار جماعي وعلى المديرة وبقية أعضاء الإدارة المرور لتذوق الأطباق وتقييمنا.

جمعت طاولات الدراسة في منتصف الصف وغطيتها بمفرش حريري أبيض ووضعنا جميع الأطباق في أواني حديدية و حاملات شموع من الكريستال ليبدو و كأنه "بوفيه"، لحفل زفاف راقي واجهت صعوبة بإنجاح كل هذا البروتوكول نظراً لإختلاف الأذواق والبيئة الإجتماعية بين زميلاتي

دخلت المديرة وبقية المعلمات في حالة من الذهول لم  تتوقع أياً منهن أننا سوف ننجز كل ذلك بدون رائدة وبأقل من أسبوع

سألت من قامت بكل هذا و قفزت زميلتي قائلة: هذا إعداد الزعيمة لمى على فكرة  لسنا بحاجة إلى رائدة "من عافنا عفناه لو كان غالي"

كانت إحدى بروتوكولات الإستقبال التي أمرت بها ذلك اليوم أن تقف طالبتين عند الباب بسلالٍ من الخزف ترمي أوراق الورود البرتقالية  والصفراء على المديرة و بقية الضيوف ومن بينهن معلمة الرياضيات، اقتربت مني صديقتي وهي ممسكة بسلة الورد همست بإذني بإستهزاء

"هل نرمي الورود على معلمة الرياضيات؟ نحنا تحت أمرك طال عمرك "

قلت لها:

أنا أشوف نجهز لها سلة ثانية و نرميها بمية ورقة صغيرة مكتوب عليها الشتيمة اللي تطفلت بقراءتها"

ضحكنا ضحة أفسدت كل محافل الإستقبال الراقية.. وبختنا المديرة على هذه الضحكة تم تقييم صفنا على أنه الأجمل من ناحية التنسيق و الأسوأ على مقياس الإحترام وحسن سلوك الطالبات، على كل حال لم أكن أستطيع تقديم شيء لزميلاتي لربح الجائزة أكثر من التنسيق.

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

بـَــاتَ الـحَـجـيجُ يـَضـمُّهمْ عـَرفـاتُ

تَــغـشـاهـمُ الأنــــوارُ والــرحـمـاتُ

*

أرضٌ مـــبـاركـــةٌ وربٌ غـــافــــرٌ

يـاسـعــدهمْ بـصـعـيدهـا قــد بـاتــوا

*

مِـن كـلِّ أحْــدَابِ الـبسيطةِ غـادروا

وبــمـــكّــةٍ تــتـــجـمّـعُ الأشـــتــاتُ

*

فـعـلى الــوجــوهِ بـشـاشةٌ ونَـضَارةٌ

وعــلـى الـثّـغـورِ توزَّعتْ بـسـماتُ

*

جـــاؤوا لـمــكّةَ والـحــنينُ يـسوقُهمْ

لــمّــا رأوهـــا فــاضـتِ الـعَـبَـراتُ

*

وتـهـدَّجَـتْ أصـواتـهمْ فــي غَــمـرةٍ

عــنْ وصـفـها قــد تـعـجزُ الـكلماتُ

*

بــمــآزرِ الإحــرامِ حــيـنَ تـتـوّجـوا

كـالـثـلـجِ إنْ مُـلِـئَـتْ بــهِ الـفـلــواتُ

*

طــافــوا بـبــيـتِ اللهِ مـــثـلَ نـبـيِّـهمْ

وعـلـى خـطــاهُ ســارتِ الـخـطواتُ

*

ونِـــدائــهـمْ لــلــهِ بــــاتَ مُــوَحّـــداً

لا ألــســنٌ مَـــنـعـتْ ولا لــهــجـاتُ

*

لَـبـيــكَ ربـــي كـلُّــهـمْ قـــد قــالـهـا

بــاسـمِ الإلـــهِ تـعـالــتِ الاصــواتُ

*

لــبـيـكَ قــالـوهـا بــصــوتٍ واحـــدٍ

ضــجَّـتْ بـهـا الآكــامُ و الـسّـاحاتُ

*

لــبــيـكَ قــالــوهـا بــغــيـرِ تـــــردّدٍ

و تــسـارعــتْ بـقـلـوبـهمْ خــفـقـاتُ

*

يـدعـونَ لـلـرحمنِ دعــوةَ مُـخْـلصٍ

مـــا شــابـهـا زَيــــفٌ ولا غــايـاتُ

*

طُـوبـى لــهـمْ أدَّوا فـريـضةَ حَـجِهمْ

و تــحـقـقـتْ لــنـفـوسـِهمْ رغـــبـاتُ

*

وبـطـيـبةٍ زاروا لـقـبـرِ الـمـصـطفى

مِــنْ نَــفـحِ روضـتـهِ أتــتْ نَـسماتُ

*

سَــكِـرَ الـــذيـنَ تـتيَّـموا فــي عِـشقهِ

وتـلـجْـلـجتْ بــصـدورِهـمْ زفــراتُ

*

إنَّ الـــذيــنَ تــهـاونـوا فـــي حـــبـهِ

ســيَّـانَ إنْ عــاشوا وإنْ هُــمْ مــاتوا

*

حـــبُّ الـنـبيّ فـــريـضةٌ فــي ديـنـنا

ولـــنــا بـــحــبِ رســولِــنـا آيــــاتُ

*

صــلـوا عـلـى خــيـرِ الانــامِ مـحمدٍ

حــتــى تــحـلَّ عـلــيـكمُ الـبــركـاتُ

*

ربَّـــاهُ تـعـلــمُ أَنـــتَ كـــلَّ خـطـيئةٍ

فــي الـجهرِ أو مـا أضْـمَرَته الـذاتُ

*

مَـنْ لي سـواكَ إذا الذنوبُ تعاظمتْ

و رَبَــتْ عـلـى حـسـناتـيَ الــزّلّاتُ

*

أبـــوابُ عــفـوكَ لا تـــردُّ لـسـائــلٍ

قــــد أوقـعــتـهُ بـفــخِـها الـهـفــواتُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

(ظهرت الفياغرا في حزيران 1999

فكانت هذه القصيدة)

***

فـياغـرا تبـخـتري **وفَجـِّري في السَّـحَرِ

شـهوةَ شـيخٍ شـبقٍ** حـياتـُه فــــي السُّـرُرِ

وصـيِّـريـه مـَرِحاً ** مـِنْ بعد هـذا الكـَدرِ

وأنْعِـمي عَليـْه باللطـف ِ لـحـين المـَحْـشرِ

حـتّى تـَكـونَ عبْـلةٌ **تـلهثُ خلف عـنتَـرِ

وعـنـتـرٌ يـقـطــع أعناقَ العِـــدى بالبُــتُـرِ

لـكِنْ حبـيبُ العمـر مشـغولٌ بصيد الجنبري

ومـذْ دخـلتِ جـوفـَه** هـاج كـذئـبٍ أغبرِ

سـرقتِ مـنه خُـضْـرةَ العـين وحسنَ النـظرِ

فـلمْ يـعـُدْ يـُبـصِرُ فـي دنـيـاه غـيرَ الحَـوَرِ

حُبَيْـبَةَ العُمْرِ نَفخْت ِالروحَ في ذا المُهـتري

لأنـتِ حـقـاً حـبـةٌ ** زرقـاءُ مـثلُ البحَـرِ

صـافـيـة ٌكـخـمرةٍ ** ناعـمـة كالـدّ ُرَرِ

نـاطـقـة ٌفـصـيحة** ليـستْ بـذاتِ هَـذَرِ

لـكـنَّ فـي جـوفـكِ بـركـاناً شـديدَ الشـّرَرِ

يُـحـرِقُ كُـلَّ غـافلٍ**مـا لـمْ يكنْ في حذرِ

وقد يُـصابُ بالعـمى**من بَعد حـُسن البصرِ

وقد يـكـون قـلـبـُه** فـي دوْرة المـُحـتضَرِ

أمّـا إذا كان الحبـيـبُ مُـبتَـلــى بالسكّـــــرِ

إغــفاءةٌ عميقــةٌ**تـقـرضُ حبـلَ العُـمُــرِ

جـنـيَّـةٌ عـفـريتـة** انـطـلـقتْ مـن عـبقـرِ

نزلـتِ بـين مـعـشر**رجالـُهـمْ فــي بـَطـرِ

يـشكون في وَحدتهمْ **من فعلِ وقْـع الكـِبَرِ

أعـلامـُهمْ مـطـويـَّةٌ **سـيوفُـهم لـمْ تُـشْـهَرِ

وأرضُـهمْ جـَدْبـاءُ لـمْ تَشْـهـدْ هـُطولَ المطَرِ

ومُـذْ حَـلـلـتِ بـينهمْ** جَـرَتْ مـيـاهُ النَّـهـَرِ

فانتَعـشَتْ أشجارُهـمْ**وانـتصـَبتْ في صَعـَرِ

وأوْرَقـتْ أغـصـانـُها**وافْـتـَرَّ ثـغْـرُ الزَّهَـرِ

فـراحَ كُــلّ ُواحــدٍ**يـَسْعـى لنَـْيـلِ الوَطـــرِ

مُـبـدِّداً أمــوالــَه ** فـي نـشـوةِ المـنـتصِرِ

سـروالـُه فـي لـندنٍ** وثـوبـُه فـي المـَجـَرِ

ولا يـبـالـي بالـرَّدى**مـَنْ ذاق حُـلْـوَ الثَّـمَـرِ

فـي جـنّـة يـكون فـيــــهـا هـانـئـاً أوْ سـقَـــرِ

فـلَـوْنُـكِ الخـلاّبُ يَسْـري سـِحْـرُه فـي البشرِ

أحَـبَّـةٌ مـِنْ رحـمـة**أحـيـَيـْتِ بـالي الأثـــرِ

أم أنـتِ حـقـاً نـقـمةٌ** تـنـقـُضُ روحَ الوتَـرِ!

حـبّـةُ بُـرٍّ خَـنـَقـتْ** طـيـرَ سـُليمان البَـرِي

فـكيف ترجو رحمةً **من حَـبَّة المُسْـتَـثْمِرِ!3393 بهجت عباس

بهجت في صيدليته في تورنتو

***

د. بهجت عباس

حزيران 1999

............................

من كتاب

John Molyneux and Marilyn MacKenzie ” World Prospects 1994

الحياة تشرق في عينيها الخضراوين كلما نظرتُ إليهما بين الحين والحين، دون انتباهٍ منها، تتحدى سأم الانتظار المشاكس صفاء وجهها طفولي الملامح، يتلألأ بياضه في سطوع شمس الربيع، يبدد دفؤها البرد والرطوبة المتخللين عظامي.

كانت ترمق ساعة يدها كل برهة وتزفر ثقل الوقت الماضي دون وصول حبيبٍ (غبي) تأخر عن موعدهما، مؤكد أنه حبيب غبي ليترك مثل هذه الغادة المتفتحة تجلس في شرودٍ مثير يسكن الطاولة المقابلة في الكافيتريا التي اعتدت الانزواء فيها لبعض الوقت منذ السنوات الأولى لاستقراري هنا، تطل على منحدر جبل ينصرف بطبيعته الرحبة عن زحام المدينة وضجيج أنفاسها اللاهثة، عندما يقبل البرد يغطونها ـ الكافيتريا ـ بغطاءٍ سميك تخبطه الريح خبطاتها القوية مع زخات المطر المترامية فوق الخضرة اليانعة والأشجار متمايلة الأغصان، كما لو كانت في حفلٍ راقص، يغمر أطرافها فيض الجداول المنسابة بسرعة تحت هزيم الرعد وومض البرق الخاطف، فتنازعني رغبة التخفف من معطفي وكل ملابسي والركض عاريًا، بالكاد أواري عورتي، أطارد حلم الولادة من جديد في جنبات الفردوس، أنزع عني عمرًا ناهز الخمسين دون أن يثمر عن شيء، ليس أكثر من موظف مبرمَج على الأرقام، جُبل على العمل هنا وهناك حتى يواجهه يوم لا يدرك فيه سوى رقم صفر، سواء كان على شكل نقطة ختام أو حلقة بيضوية تؤطر ما تبقى لي من حياة وهشيم آمالٍ لم تتحقق، وحكايات متفرقة نهاياتها أشبه بذيول انسحاب متشرذم من جبهات القتال، درت في حلقة هزائمها طويلًا، ولا فرق بين ما انسقت إليه مرغمّا وما اخترت بحماقة إرادتي، فالنتيجة واحدة الآن، ولا سبيل أمامي للرجوع إلى حياة خاوية ليس لي فيها من أفتقد ولا من يفتقدني، والذكريات سكرات حنين أفيق منها سريعًا بجرعات مشروب محلي قوي المفعول أو جسد انفض عنه الرجال وصار سعره في متناول اليد، يستنزف أحدنا الثاني كما لو أنه يخوض نهاية اشتباكه مع الدنيا ثم يعلن النفور أوانه، قد أجد في إحداهن، دون بحثٍ مني، بعض طيف آخر امرأة تزوجتها قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، رأيتها في ذات المكان، جمالها يرنو من ملامح الشابة الحسناء الجالسة أمامي، أنوثتها كانت أكثر اكتنازَا، انثالت أمطارها فوق صحراء المغترب المتشبث بسنوات الثلاثين المارقة سراعا، ذات سرعة إقبالي وتجاوبها ومن ثم إقامتنا معّا في ذات الشقة، كنت أعمل في فرع شركة استثمارية كبيرة أخذت مكان مبنى حكومي قديم اعتلته راية حمراء عقودًا، أثبت وجودي في متابعة حساباتها، مسابقاً جداول الكومبيوتر، فأغدقت على سحرها الريّان كل ما أقبض، ووفرت للحياة الجديدة المتكورة في رحمها، بعد فقداني الأمل في الإنجاب واعتيادي حرمان الأبوة من ضمن ما اعتدت، لكن نبضات الجنين الكامنة في أحشائها رست في صدري حتى بعد ولادته التي لم أشهدها، هربت بحبلها وما ادخرتُ إلى بلاد الرخاء الحر التي أزاحتني عن أرضي إلى هذه البقعة الصغيرة المستلقية في حنايا جسد أسيا، يكاد إسمها لا يذكر في أخبار الفضائيات، ولم تضمها خرائط اللجوء السابلة، ربما كانت قديمًا ضمن ممر طريق الحرير العتيق، أو تتفررع من أحد جوانبه، أما الآن فلم تعد سوى مطمح تاجر خالِ الوفاض جاء يبحث عن واحة آمنة للسلام ينزع فيها أسماله المرقعة بالرايات.

سافرت وخلفتني إلى حرمانٍ جديد، يحتد نزيف الأسئلة وطنين أجوبتها في رأسي، إن كانت أنجبت ولدًا أم بنتا، أم أنها أجهضت قبل الرحيل لتتخفف من عبء المسؤولية في عبث حياتها الجديدة، سأراه أو أراها ذات يوم، سيعرف أحدنا الآخر، أين سيتم ذلك اللقاء الدرامي الغريب كغربتنا، أي لغة ستضم حوارنا، أي انتماء سيجمعنا، أنا الأب فعلًا بإرادة إلهية أقرب إلى معجزة أبت ألا تكرمني بذرية إلا بعد أن دك اليأس مقتبل العمر ومسني المشيب أم أنه وهم آخر تلذذت بخدره حتى أدمنته وصار حقيقة أريد ولا أريد الفكاك منها؟ تعوزني شجاعة المعرفة وقدرة البحث في دائرة مفرغة جديدة تغرسني في ذات الرقم المألوف لدي، ليلة أمس فقط أخرجتني من ظلماء قوقعته مكالمة من شابة قالت إنها صديقة أم ولدي ـ الهاربة ـ كانت في أمريكا وعادت قبل يومين، أوصتها أن تقابلني لأمرٍ هام يخص ولدنا!

بدد رنين الهاتف شرودي، طرق أذني ذات الصوت الناعم، يعاتب في ضيق عدم التزامي بموعدنا الذي سلبني النوم بعد مكالمتها الغريبة وشتى الأفكار والهواجس تجوب رأسي في توجس شهد شروق الشمس، ثم فاجأتني بضحكة طفولية ناعمة استفزني تلاعبها بأعصابي عند إقفالها الخط، أكملتها من كنت أتلصص على جلستها المتململة لدى انتقالها إلى طاولتي، انتهت من كركرتها بقولها أننا نسينا أن أحدنا لم يرَ الآخر من قبل فأمضى كل منا انتظاره المنفرد دون جدوى، جاملتها بقهقة بسيطة مغتاظة، مني ومنها، أوصلت إليها مدى تلهفي لمعرفة كل شيء عن ولدي الذي لم تذكر إسمه وأنا من هول الدهشة لم أفطن إلى السؤال إلا بعد الاتفاق على الموعد وإنهاء المكالمة المقتضبة، حديثها أيضًا كان كذلك وكل حواسي مختزلة في أذنين خاضعتين لكل كلمة تنطقها الشفتان المطليتان بحمرة غامقة، تزغردان بشرى احتضان الفتى العائد إلى أحد أوطانه مع أمه التي قررت الزواج من رجل ثري هاجر إلى أمريكا منذ عقود، اشترط عليها التحرر من عبء أمومتها لابنــ... (ابني أنا) المراهق وشرقي الملامح.

سألتني عن رأيي، استغرقت في صمت الذهول حتى أفرج عن ابتسامة أخذت تتسع مثل هالات الضياء في إبكار الصبح، تهبني حلم الولادة من جديد.

***

قصة قصيرة

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

22 ـ 9 ـ 2020 عمّان

زَهـَـتْ فـــي غـير موســِمِها الزهـورُ

وســارتْ طـوْعَ مَركَــبِــكَ الـبُــحـورُ

*

وأوْعَــزَتْ الــســمـاءُ لــــكـل ضـوءٍ

مُـرافَــقــة الـبَشــيــر بـمــا يُـــشــيــرُ

*

سِــماتُـك فــي الــنبـوّة مُــذ  تـراءَتْ

تَــسـامَى الفِــكرُ، وازدَهـرَ المصيــرُ

*

( وضاعَـتْ يثـربُ الفيحاءُ مِـسـْكا )

بـِمَـقــدَمِ مَــنْ لــه انْحَــسَــرَ العـسِـيرُ

*

ســـَـناءُ خُـطاكَ ، ضـوْء ٌ للقــوافـي

وايــعــازٌ بــــه يَــسـْـمـو الشُــــعـورُ

*

أبا الــزهـراء، مُـذ نُـودِيـتَ ( إقرأ)

تَـهاوى الشِـركُ وانْـدَثــرَ الــغُــرورُ

*

ولـمّـا الوحيُ فــي الافــاقِ نــادى

أضاءَتْ دَرْبَ مَـقْـــدَمِـك الـبُــدُورُ

*

تــرَنَّــمَت القــوافــي لـحــنَ شُــكْـرٍ

لِــرب الــعـرشِ ، إذ عَــمَّ السُـرورُ

*

ربـــيــعُ الخُــلـدِ ، في خُلـُقٍ وعِـلـمٍ

وصِــدقٍ ، قــد حــباكَ بــه الـقـديـرُ

*

يـُـفاخِــرُ بـَعـضُ مـَـن يَـسمو بـمَجْدٍ

ونَـــبـْـعُ عُــلاكَ ، قــــرانٌ مُــنــيـرُ

*

سـَــماواتُ البــيــانِ ، رأتْـكَ فــيهـا

فـصيـحــا ، فــي ضيائك تَـسْـتـنـيـرُ

*

وقــد دَوّى صُمُـودُكَ فـي الأعـالـي

فأعــقـَـبَ صَوتَــه غَــيـْـثٌ غــزيـرُ

*

إذا ذُكـِـرَتْ مَــحاسِـنُـك اسْــتَـبانَـتْ

لــهــا فــي الأفـقِ أطــيــافٌ ونـورُ

*

مَــشــيـنــا صَـوْبَ أهــدافٍ تَجَـلّتْ

كــرامات ، بـهـا زَهَــتْ العُــصورُ

*

إذا اقْــتُـفِـيـَتْ خُطاكَ ، لها صَداهــا

كَـذِكْـرِكَ ، فــيه تَـنـْشَـرِحُ الصُـدورُ

*

صَحـا مـَن غـادرَ الأوْهـامَ ، هَــديــاً

بـِـنـورِك فـاســتـقـامَ  بــه  المَـســيـرُ

*

تَـراتـِـيـلُ البـَـديــعِ ، لــهـا امْـتـيــازٌ

إذا ضـمّــتْ بــلاغــتَـكَ السـُـــطـورُ

*

عُــلـوُّكَ فــي الفـصاحــةِ والـتـحـدي

أذَلَّ شُــمـوخَهــم ، فـهـوى الــسَـريـرُ

*

وإنْ  ذُكِــرَتْ صِفـاتُــكَ فــي جــنانٍ

بــذِكْـرِك يَـنـحـني الرّوضُ الـنضـيرُ

*

(ومــا للمســـلميــن سِــواك حِـصنٌ )

ولا لــمَـقـامِـك الســـــامــي نــظـــيرُ

*

مـفاهـيـمُ الكـرامةِ ، صُغْـــتَ مــنهــا

قــنــاديــلَ الطـمـوحِ ، لــنـا تُــنــيــرُ

*

وشَــــعَّ الحـــــقُ فـانـدثَــرتْ قِــلاعٌ

بــكُــل جِـهــاتِـهـا ، صَــنَـمٌ يـَــدورُ

*

وأزهَــرَتِ المحـافــلُ ، فــي وفــاقٍ

وفــاضَ الـوَعيُ ، وانتفضَ الضميرُ

*

أبـا الــزهـراء ، أنـت لــنا شـــفـيــعٌ

بـــيــومٍ ، فــــيـه يـُـفْـتَـقَــدُ النــصيـرُ

(من الوافر)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

هذا النَّصُّ للقاصرينَ فقط .. يُقرأُ بعيداً عن أيدي النِّساء ..

سأهبُكَ عقلي

لتزرعَ فيه آخرَ شرائحِكَ التِّقنيَّة ..

*

أعدْ برمجةَ مشاعرِي

وعواطفي

وأفكاري

ووجهاتِ نظري ..

*

أريدُ أن أرى الأشياءَ على غيرِ ما كنتُ أراها

أخرِجْني من عالمي القديمِ

من عباءةِ جدِّيَ الأوَّلِ ..

*

أخرجْ منِّي امرأَ القيسِ

وعنترةَ

والحلَّاجَ

والقبَّانيَ نزار ..

*

أخرجْ منِّي عُقدَ أدونيس

وجنونَ قيسٍ

وثورةَ الشَّنفرى

فأنا كرهتُ الكذبَ

والنِّفاقَ

ونباحَ الكلابِ

وصخبَ الرِّماحِ

وتاريخَ الطَّبري وابنِ الأثيرِ

وحكايا شهرزاد

وذكوريَّةَ شهريار ..

*

ماسك:

أرجوكَ أن تُعيدَ برمجةَ ذاكرتي

أُريدُ أن أختزلَ الأمكنةَ والأزمنةَ

لأقرأَ الماضي والحاضرَ والمستقبلَ في لحظةٍ واحدة ..

*

ماسك:

ازرعْ شريحتكَ بين خلايا عقلي

لأخرجَ من العصورِ المُظلمةِ

ومن قوانينِ الطُّغاةِ

لأرى سماءً غير السَّماءِ

وظِلالاً غيرَ ظِلِّي ..

*

أُريدُ أن أتنزَّهَ في الحدائقِ الضُّوئيَّةِ

وأسبحَ في البحارِ الضُّوئيَّةِ

وأفيضَ ضوءاً على هذا الزَّمن

كمصابيحَ لا تنطفئ ..

*

ازرعْ فيَّ آخرَ شرائِحكَ

لأخرجَ من أسطورةِ الفينيقِ

لا أريدُ أن أحترقَ

لا أريدُ أن أصيرَ رماداً ..

*

اجعلني أتجدَّدُ كلَّ ومضةٍ

كلَّ نبضةٍ

كلَّ رمشةٍ

فقد سئمتُ يا صديقي هذه العتمة ..

*

ماسك:

ازرعْ شريحتكَ في عقلي

لأقرأَ الأحلامَ والأسرارَ

فأعرفَ السَّرَّ المُقيمَ وراءَ الجرحِ

ووراءَ الدَّمعِ

فالجرحُ يا صاحبي سرٌّ

والدُّموعُ المُتحجِّرةُ في العيونِ سرٌّ

وتسارعُ نبضاتِ القلبِ سرٌّ

ولكلِّ سرٍّ صوتٌ

فازرعْ شريحتَكَ لأسمعَ هذا الصَّوت ..

*

هبني لغةً غيرَ لُغتي

أُريدُ أن أُحاورُ الجذورَ

والطُّيورَ

والسَّماءَ

والحيتانَ

والموتَ

والغيمَ

والعاصفةَ

والمطرَ

والبحرَ

لأكتشفَ أسرارَ الجذورِ

لعليَّ أُعيدُ تكوينَ هذه الغابة ..

***

د. عاطف الدرابسة

ما إن خرجتْ قصتي ذات المشاهد العاطفية الحميمة إلى النور صباح اليوم، حتى أصبحتُ كمن أفاق من غيبوبة. لم أعرف كيف أتصرف، إزاء تلك المشاهد الصارخة التي توسطت صفحات أكبر جريدة في البلد.

حاولتُ أن اتذكر بماذا كنت أفكر عندما ضغطتُ زر الإرسال إلى مدير التحرير. لكن يبدو لي أني كنتُ مخدّرة، أو مأخوذة بفكرة ما، فغاب عني تماما وجه أمي الزاهد في الحياة، وملامح أشقائي الصارمة، وغابت وجوه الجيران، والصديقات في العمل، والزملاء. وأبناء عمومتي وأولاد خالتي، والأهم أني نسيت عيني والدي اللتين لا تتوقفان عن النظر إليّ من إحدى أركان جدران المنزل.

والآن هذه الصحيفة ستدور أحياء العاصمة، ومن يدري! ربما ستمضي إلى محافظات البلد الآخرى، حاملةً معها القُبل التي رسمتها، وتشابك الجسدين، والتأوهات الحارة المتلاحقة، وسائر التفاصيل التي في لحظة مجنونة وجدت طريقها نحو لوحة المفاتيح!

يا رباه! سيطردونني من العشيرة، ويعزلونني عن العائلة، في حجرة مظلمة، ولن يقدموا لي الطعام والشراب حتى أموت!

أكاد أسمعهم جميعا يصيحون بي (حقيرة ..سافلة)، حتى لو تأكد لهم أنها محض كلمات كُتبت بلحظة جنون.

أسرعتُ إلى مقر الصحيفة. هناك رئيس التحرير، صاحب الإبتسامة الأبوية! ياويلي! حتى هو ابتسامته اليوم تبدو مختلفة! بدا كأنه يغمز ُ لي (ها نجوى)!

إرتبكتُ كثيرا وأنا أحاول لملمة الكلمات لأسأله عن عدد النسخ التي تُطبع من الصحيفة وأماكن توزيعها.

قال لي مستغرباً: ليش؟

- هكذا أستاذ.

- ‏نحن نطبع بحدود خمس مئة نسخة، يذهب نصف العدد لبعض المحافظات.

- هل استطيع معرفة منافذ البيع أستاذ؟

- ‏نعم بكل تأكيد.

ناولني ورقة فيها أسماء بعض المكتبات.

صممت على شراء جميع النسخ في المدينة الكبيرة.

لقد جمعتُ المال، عبر عامٍ كامل، من عملي كبائعة في أحد المحلات التجاريه. كنت أدخره لشراء المزيد من الكتب. لكن تباً! لن يكون ذلك مهماً الآن. سأجمع المال مجددا وأواصل شراء الكتب، والكتابة، وكل شيء جميل ..ما يهمني الآن هو إفراغ العاصمة من الجرائد.

في حوالي الساعة الرابعة مساءً أصبح لديّ مئة وأربع وستون نسخة،

نصف العدد طار لمدن وسط وجنوب البلاد، بعد عملية حسابية صغيرة، عرفت أن ثمة ست وتسعون نسخة تم بيعها في العاصمة قبل أن تقع في يدي. إستبعدتُ أن تكون إحدى هذه النسخ الست والتسعين، قد وقعت في يد شخص أعرفه.

بقي أن أذهب للنهر، وأرمي النسخ التي اشتريتها.

هناك ساعدني سائق السيارة التاكسي، حيث كان يقذف معي بالجرائد وهو يضحك بقوة. في الحقيقة لم أعرف حتى هذه اللحظة لماذا كان يبدو شغوفا ومأخوذا برمي الجرائد بيديه بتلك الحماسة، وهو يقهقه سعيدا، دون أن يعرف السبب.

عندما رجعت للبيت إستقبلتني أمي بابتسامة حانية وهي تقول لي مثل كل مرة ( الله يساعدج).

وأنا في طريقي إلى غرفتي، لمحتُ نظرات أبي، من الصورة على الجدار.

نظرت فورا إلى الأسفل متجنبةً إياها.

تمددتُ على السرير. تنفستُ بعمق، أغمضتُ عينيّ، وكدت أنزلق نحو غفوة أشتهيها، لولا أن دوّى صوت شقيقي من مكان ما في المنزل: (نجوى)!

***

قصة قصيرة

تماضر كريم

عليك نفسك

اتخذها

عدوك الأول

*

لا يعرفك

أكثر منك

إلّا ذلك السؤال

العالق

بخيوط ذاكرة عنكبوتية

*

لا تبال

ولا تتلعثم

فجوابك قاب عينيك

أو...

*

اتقِ شرَّ من...

ليُبتَلِع

الإحسان

خوفا من الشرِّ

*

الوقت كالسيف...

لتفشل

محاولات اللحاق بها

لحظة يتلاشى بريقها

وإن سعينا

لامتلاكها

*

لا تؤجل عمل...

ولشدة خوفي

كرهت الغد

وتشبثت بيومي الكسول

*

وتطول الوصايا

لتتزاحم في رأسي

الذي أبى

إلّا أن يضرب بها عرض حائط

آيل للانهيار

***

ابتسام الحاج زكي

القسم الثاني، الفصل (6) من رواية:

غابات الإسمنت

***

أحسست بشيء ناعم يداعب وجهي، فتمطيّت وفتحت عينيّ، فقد كنت أغطّ في نومٍ عميق بعد وصولي الشقة، والوقت يكاد يشرف على الفجر، بقيت بعد مغادرتهن أتربّص ساعة، وفحصت قاعة الاحتفال فوجدتها نظيفة، إلا من سلة المهملات التي امتلأت ببقايا الطعام، لقد اختفى كلّ شيء.. إنّهنّ نظيفات ومرتبات على الرغم من عبثهن وغرابة أطوارهن... رائع جدّا... وعلت الابتسامة شفتيّ:

ـ هذه أنت؟

ـ أوه حبيبتي

قَبلّتني من شفتي: هل أزعجتكِ؟

ـ أبدًا.. كم الساعة الآن؟

ـ الحادية عشرة.

على أية حال نهضت مبكرًا ودخلت الشقة، أعددت لك فطورا، اليوم استثنائي ولو كان يوم جمعة، لدينا اجتماع طارئ مع مديري الأقسام.

ـ إذن سأقضي اليوم مع مديحة.

ـ براحتك.

ـ مارأيك بالشريط؟

ـ رائع جدًا، وأكثر من رائع.

ولمستْ يدي برفق وعادت تُقبلني، ثم رفعت شفتيها عن شفتيّ وقالت:

ـ صدّقيني لو حدثت بينهن علاقات مثل التي بيني وبينك، لغضضت الطرف عن الموضوع.

ماذا نفعل؟ أنا عاطفتي معكِ، مشاعري دلّتني على نساء مثلي، وعندما تحرّكتْ نحو رجل أحببته وغدر بي تيقنّت أنهم وباء، وثبت لدي بأن مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي، حتى وصلتُ إليكِ.

أنتِ تعرفين كم أنا متعاطفة مع المرأة؟ لكوني محسوبة على الإناث... وكيف أتعامل مع السجينات، والله لو حدث ذلك بينهن لكنت أعدمت الشريط؛ لكننا الآن أمام ظاهرة جديدة في البلد، ربما دخول دين جديد!

فقاطعتها باهتمام:

ـ لديهنَّ مطلق الحرية في السفر والتمتع بالحياة، فلمَ اخترن مثل هذا الطريق؟

ـ لعله التحدي!

ـ لكن لم أفهم قصدك، ماذا عنيت بقولك دين جديد؟

ـ انفتاح هؤلاء الفتيات؛ السفر للخارج، والحرية، والإنترنت، كلّ ذلك جعلهن يبحثن عن الغريب والجديد، فتحول البحث إلى الإيمان بمبدأ آخر، وقد يتطور الوضع إلى تنظيم أو مجموعة، وهذا من تخصص الأمن القومي.

ـ أرجو ذلك.

ومسكت يدي وعصرتها برفق:

ـ لا تقلقي عليهن، أنا مثلك حزينة، الهدف الأول والأخير من تسجيل الفيديوهات، آباؤهنّ الذين يحتلون مناصب رفيعة.

ـ كلّي ثقة بكِ يا حبيبتي.

ـ على أية حال، حين تنهين تجوالك مع مديحة ستجدينني في الشقة، أما إذا تأخرتْ فانتظريني هنا.

بدتْ على وجهها نظرة توحي بأسفها لأنها لا تستطيع أن تعطيني مفتاح شقتها، كانت تقفل الباب، وتفعّل جهاز الإنذار خشية من اللصوص، أو وصول أحدهم إلى بعض الملفات والأقراص الموجودة عندها، أو بعض مجوهراتها التي لا تلبسها إلا في مناسبات خاصة، أو تتزيّن بها لي عندما ترغب في أن أؤدي دور الرجل، أو ألبسها حين ترغب أن أكون حبيبتها.. تفهمّت الأمر واقتنعت به، سرّني إخلاصها، كانت مغرمة بي حدّ الجنون.

عندما خرجتْ للاجتماع، عدتُ للاسترخاء على السرير، ربما غفوت نصف ساعة أو أقلّ، كنت أشعر بهدوء اليوم.

بقيتُ في سريري لبعض الوقت، تسللتْ لنفسي بعض الخواطر وكأنني أسلخ ثوب ميساء وارتدي ثوب إنعام ما قبل جريمة القتل، الفتاة الجميلة، التي كان كل حلمها أن تعيش حياة طبيعية مع زوج أحبّتهُ، تُنجب وتؤسس أسرة، يا ربي كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة؟ سلوك يُدينه مجتمعي وديني؟ هل أنا مريضة؟

ربما مريضة، لأنني أشعر أن علاقتي مع ابتسام شيء لا مفرّ منه، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل والخيانة، خيار جنسي مُتاح دون عواقب وخيمة، وبغضّ النظر عن المحرّمات، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاءً بالنسبة لي بعد جريمة قتل وسجن وسمعة فرضها عليّ المجتمع.

من دون ابتسام ماذا كنت أعمل؟

كيف أواجه الحياة؟

وأشدّ ما يقلقني هو يوم الجمعة، يوم العطلة.. تبدو المدينة ميتة هادئة ساكنة، يزيد خوفي سكونها؛ وقد أحسّتْ ابتسام بي فكانت تأخذني إلى مدينة أمها نقضي النهار في شقتها هناك.. لم ننم قط في غرفة أمها، بل نقضي النهار ساعات في فراشها، أو ننطلق في شوارع المدينة، الذي لفت نظري أنّها كانت تحتفظ بألعابها وهي طفلة.

خلال السنوات الأولى من عمرها كانت ألعابها دمى وعرائس، ورأيت بندقية، وأحذية تزلج على الجليد؛ ومن دون أن أسأل عرفت أنها بدأت في سن ما تميل إلى لعب الصبيان، فسألتها وأنا أقلب حذاءها الخاص: هل تعلمت التزلج على الجليد؟

الرقص على الجليد، نعم في أمريكا عندما كنا نسافر أنا وماما..  ثم قلت في نفسي:

لو لم تكن مديحة معي الآن، لقضى عليّ الضجر في غياب ابتسام، رفعتْ الهاتف النقال:

ـ أهذا أنت؟

ـ ومن غيري؟

ـ "صح النوم".

ـ اليوم عطلة، أين تحبين أن نذهب؟

ـ سأذهب الى المقبرة؟

ـ إلى أين؟ّ!

ـ المقبرة، لزيارة قبر المرحوم، هل تأتين؟

ـ طيب، مثلما تحبين.

ـ أمرّ عليك؟

ـ دقائق.. أرتدي ملابسي فأكون جاهزة.

ربما كنتُ أكثر احتياجا منها إلى خشوع يمنحني صفاء أكثر، فأنا منذ ساعة الجريمة التي ألقتني في السجن، ومشهد الدم، ماعدت أفكّر بالجنة والنار بقدر ما أفكّر بحياة تحقق ذاتي وتجعلني أتحاشى التشرد، نعم أحنّ إلى الصمت.. خشوع، إيمان بالقدر والغيب، لعل ذلك في لحظات ما تعيدهُ إليّ مقبرة صامتة، إلا من نوح متقطع لحمامة، أو تغريد لطير يقفز بين أغصان شجرة يوكالبتوس يتيمة في زاوية بعيدة من زوايا المقبرة.

الصمت وأشجار السدر والنخيل التي تصطف حول سور المقبرة، تبعث الرهبة والخشوع في نفسي.. لم نكد نجتاز البوابة حتى وضعت مديحة نقابًا على وجهها، ناولتنتي واحدًا غطيتُ به وجهي، قالت لي صديقتي مديحة:

لننتظر هنا قليلًا لأتأكد.

قلت: مم تتأكدين؟

قالت: اليوم جمعة، ولعلّ أحدًا من أهله عند القبر.

ترقرقت دمعتان بعينيها كاللؤلؤتين فسألتُ أواسيها:

ـ هل صادفتِ أحدًا من قبل عند القبر؟

ـ إحدى الجُمع رأيت أمه من بعيد جالسة وهي تجهش بالبكاء.

ـ لم لا تأتين في يوم آخر؟

ـ إنه الثواب للميت.. زيارة الجمعة.

رحنا نطالع العابرين ونتسابق في تجلّي أصوات الطيور وشهقات العصافير، لم يكن هناك والحمد لله نُهام بوم أو نعيق غراب، حتى تجرأتْ وتقدّمتْ، فتبعتها ووقفت جنبها أقرأ الفاتحة، لم أسمع ما همست به، بل رأيت شفتيها تتمتمان بكلمات لا أفهمها لخفوتها، ثمّ اختفت الكلمات وتلاشت، وعلا بدلها نشيج خافت، ففقدتُ جأشي ورحت أنشج معها..

*** 

ذكرى لعيبي - ألمانيا

نهضت مبكراً قبل الوقت المعتاد بساعة كاملة ولم يكن ذلك الإستيقاظ بالحدث الجيد لمزاجي المعتم، حيث، بقيت أطرد الشياطين من وجهي حتى الساعة ٨ صباحاً..

بعد الطابور الصباحي دخلنا الفصل وجلسنا على مقاعدنا إستعداداً للحصة الأولى ولإكمال الناقص كانت حصة مادة الرياضيات والتي سوف تمتدلساعتين..

كانت مقاعدنا مقسمة إلى ثلاثة مجموعات وكما هو بديهي فمكاني هو في المقعد الآخير و تجلس على المقعد الموازي لي صديقتي ثم بقيةالشلة الذين يشغلون الصف الأخير وماقبله كاملين..

في ذلك اليوم كانت صديقتي هذه تفيض بالطاقة وبالثرثرة مع صباح لا يلائمني، حلّت عليها الحكايات الرومنسية مع خطيبها مبكراً وهذاالأمر يعد خلاف المعتاد لأن هذه المواضيع توقيتها بعد الظهر ..

لم تكن تعلم عن الجهاد الذي أقاسيه داخل رأسي فأخبرتها أن تؤجل الموضوع إلى فترة الغداء لكنها أصرت على الثرثرة قبيل دخول معلمةالرياضيات فمددت يدي لأمرر لها جملة  لائقة ولسواد حظي شاهدتنا المعلمة فتقدمت نحوي وسحبت الورقة من يدي بقوة، حاولت إيقافهاأخبرتها : "لو سمحتِ يا أستاذة الكلام لايعنيكِ اتركي لنا بعض الخصوصية" ولكن لحظتها بدت كأنها صماء فتحت الورقة رغم ترجيهاوبمجرد أن قرأت تلك العبارة اللائقة اتسعت عينيها واحمر وجهها غضباً ..

عوقبت من تلك المعلمة بأسوأ أنواع العقاب

فقد عنفتني نفسياً بتجاهل تصحيح دفتري أو الإجابة على أسئلتي فصلاً دراسياً كاملاً ولأننا مجتمع للأسف إعتاد على الشخصنه فمن الطبيعي أن أشعر بالذنب خاصة  أني مجتهده وشقيه وهذه الصفتين ناداً أن يجتمعا، شعرت بالضيق الشديد لأن أهم مادة في مرحلة الثانوية العامة أخفق فيها بهذا الشكل

بسببها إنقلبت علي كذلك معلمة الفيزياء ! رغم أنه لايوجد أي خلاف بيننا فقط اتخذت ذلك الموقف تآزراً مع صديقتها ثم معلمة اللغةالإنجليزية وهكذا وبدأ الجميع يعاملوني بشكل سيء و ملحوظ من صديقاتي مما عرضني للتنمر لاحقاً،

صبرت فصلاً دراسياً كاملاً حتى اعتقدت هي أني خضعت، كنت ألاحقها في كل ممر وبعد نهاية كل حصة أن تقبل إعتذاري فكانت  تتجاهلني كالعادة،  وفي يوم  دخلت غرفة المعلمات وناديت عليها فتجاهلتني وكأنني لست إنسانه تقف عند الباب همزت لها إحداهن بشماته وضحكةغريبة لشدة خبثها لم أستطع للآن تفسيرها

ردت عليها  أنها تعرف سبب مجيئي فشكلي مثير للشفقه لوحت لها بيدها معطية إشاره أن تتجاهل وجودي هي أيضاً ويكملوا فطورهن.

فجأة وقفت في وسط غرفة المعلمات صرخت فيها بكل ما أوتيت من قوة في حالة من الإنهيار أخبرتها أنها بلا ضمير لأنها شخصنت فعلي بآداء واجبها المهني وأنها تستحق الشتيمة التي قرأتها

إلتفت على البقية لاحقاً وقلت "كلكم إمعات،مجرد حريم قطيع"

وخرجت مقفلة الباب لكل قوة ..

الغريب أنها بعد ذلك عادت بشكل طبيعي ..!

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية.

 

راح يستجير بالصمت بحثا عن إجابة لسؤال وقع في خاطره منذ طور بعيد، جلس مع وحدته متجولا في محيط أفكاره الأصم.

عادت المشاهد تمد أخاديدها، تجرجر أقدامه، تنأى بوجوده المكاني صوب انتشارات لم يكن يتصورها من قبل. أمست الحوادث مثل قصور لها أقفال لا يمتلك مفاتيحها إلا هو.

تمثلت على هذه الشاكلة علامات أضداد عاش حلاوتها ومرارتها استجابة لمعادلات أوجبت نفسها وفقا لأسرار عالم خفي، بما في ذلك- عمره الذي تجاوز منتصف الستينات، المكان الذي يسكن الآن فيه، علاقاته مع الآخرين، انشغاله بأبحاث يروم نشرها ضمن اختصاص فرض نفسه مؤخرا، ليشغل هذا الحيز من السنين من عمره، انقطاعه عن اصدقائه الذين كان يلتقي بهم عبر المنصات، ابنته التي ما زالت تنتظر علاجا جديدا لسرطان المثانة، زوجته التي لم تعد تقوى على المشي أو الحركة، بيته السبعيني- المأوى الذي فارقه بمقدار ارتحاله، وطنه الذي انفصل فجأة عن زهو علاقاته مع الأبناء، مقاطعا إياهم دون اكتراث، لغة هذه الكثافة من العناوين ما يطلقون عليه بالعولمة؛ أو ما يسميه هو بالأخطبوط الذي أضحى يتحكم بجميع بنود هذا الكائن، جبروته، طرائق حركته، أفكاره، علاقاته مع الأمكنة.

احتشدت الأشياء جميعا في ذهنه؛ غدت المشاهد مثل مناشير تتطاير في يوم عاصف، أعاد مراجعة اللوحة التي سرعان ما تناثرت أصداؤها بعد أن تبارت على شاكلة طفولة ستينية، ومراهقة سبعينية، تعقبها تفاصيل وتداعيات أخذت تعلن عن نفسها تباعا وفقا لأحكام ثمانينيات وتسعينيات مأخوذة بشروط ألفية لم يكن يقوى بعد على الإمساك بنبضاتها، أو الاصغاء إليها.

***

عقيل العبود

القصيدة الطائية

شعيط ومعيط

***

زَمَــــانٌ فــيــهِ أعْــيـانـا الـبَـطِـيـطُ

تَـنـحّـى الـقَـرْمُ وارتَـفَـعَ الـحَـطِيطُ

**

(شـعِـيطٌ) بـاتَ يَـحْكمُ فـي الـبرايا

وراحَ لـحـالِـهـمْ يَــبْـكـي (مَـعِـيـطُ)

**

وأفــــواهُ الــسُّـرَاةِ بــهـا انــغـلاقٌ

ولــــم يُـسْـمَـعْ لــهـا إلّا الـنَّـحِـيطُ

**

تـحـاشَ الـنـاسَ واسْـلُـكْ غـيـرَ فجٍ

ولا تَـــحْـــزَنْ إذا بـــــانَ الــخَـلِـيـطُ

**

تَـخَـيَّـلْ عَـيـشَنا كــمْ بــاتَ صـعْـباً

كــأشـواكٍ بـهـا اِشـتَـبَكَتْ خـيـوطُ

**

مُــجَـافَـاةُ الــلِـئَـامِ بــهِــا ارْتِــيَــاحٌ

فــــمـــا وَالَاهُــــــمُ إلّا الــعَــبِـيـطُ

**

إذا نَــفِـدَ الـحـلـيبُ بـضَـرْعِ شَــاةٍ

فـمـا يُـغْـني عــن الـلَـبَنِ الـعَـفِيطُ

**

ومَــنْ يَـركـبْ بـرَحْـلٍ فــوقَ دِرْسٍ

نـهـايـتـهُ الــتّـدَحْـرجُ و الــسّـقُـوطُ

**

لَـعَـمْـرِي مـاعَـلِمْتُ سـمُـوَّ رَهْــطٍ

تَــوَلّـى أمْــرَهُـمْ سَــمِـجٌ رَطِــيـطُ

**

قــلـيـلُ الــفـعـلِ جَـــوّابُ الـبـرايـا

فـــــلا حـــــدٌّ يَــــرُدُّ ولا خــطُــوطُ

**

كـتَيسٍ فـي الـسفينةِ بـاتَ نـجماً

يــعـظّـمـهُ الــتُـوِيـفـهُ والــضَــرُوطُ

**

وكـالـطّـاووسِ يـمـشـي بـاخْـتِـيالٍ

وقـــدْ أخْــفَـتْ حَــوَافـرَهُ الــمُـرُوطُ

**

عـلـى صَــدْرِ الـمـوائدِ بــاتَ يَـجْثُو

كــمـا تَـجْـثـو الـشـويـهَةُ والـرَّبِـيطُ

**

عَـظِـيـمُ الـكَـشْـحِ تِـلْـقَـامٌ أَكُــولٌ

إذا هَــرَسَ الـطـعامَ عَــلاَ الأطِـيطُ

**

فَـلـو حَـجْـمُ الــرُؤُوسِ لـهـا اعْـتِبَارٌ

لــسَـادَ عــلـى الـخُـضَارِ الـقـنّبيطُ

**

ومَـنْ طّـبَّاخهمْ أمـسى (جـعِيصاُ)

فـــإنَّ طـبـيـخَهُمْ حـتْـمـاً يَـشِـيـطُ

**

ومَـــنْ يَـلْـبسْ لأَسْـمَـالٍ تَـدَاعَـتْ

سَـيقضي الـوقتَ مـنْشَغلاً يَخِيطُ

**

وفــي حــقِّ الأكــارمِ كــمْ تـمادى

يـعـيـبُ عـلـيـهمُ الـنَـغِـلُ الـلَـقِـيطُ

**

فـــلا تَـنْـصَـحْ جَــهُـولاً ذاتَ يـــومٍ

بــهِ الـغَـضَبُ الـمؤججُ يـسْتشيطُ

**

يُــجَـادِلُ دائِــمـاً مـــن غـيـرِ عـلـمٍ

كــــأنَّ لــسـانَـهُ عــــدْلٌ سَـلِـيـطُ

**

يُــثَـرْثِـرُ بــالـكـلامِ بــغـيـرِ مَـعْـنـىً

بـبـحـرِالـمُفْرَداتِ غــــدا يــســوطُ

**

وقــدْ يُـعـطي ولـيـسَ نَــدِيَّ كــفٍّ

وتـرْغـمهُ عـلـى الـبـذْلِ الـضّـغوطُ

**

بـبـعـضِ الـمـالِ يـصـطادُ الـضَّـحايا

كـمـا اصْـطَـادَ الـفـرائسَ أَخـطَبوطُ

**

فَــعِــشْ حُــــرْاً كــريـمـاً بــاقـتـدارٍ

ولا تــضــعـفْ فـيـغـلـبُـكَ الــقـنـوطُ

**

وكنْ كالشمسٍ تسْطعُ في سماءٍ

وبــاقــي الـكـائـنـاتِ بــهـا تُـحـيـطُ

**

عبد الناصر عليوي العبيدي

.............................

البطيط: العجب أو الكذب

شعيط ومعيط: محتالان تقلدا حكم بلد (باتا مضرب المثل)

النحيط: الصوت المكتوم مع الالم

دِرْس: ذنب البعير

الرطيط: الأحمق

الأطيط: صوت الجوف او الأمعاء

تلقام: كثير اللقم وكبيرها

جعيص: بدوي لايتقن صنع الطعام

في نصوص اليوم