خلت ما حدث نزوة مع القادمين إلى من البحر أو الجوّ، فأنا حسب الدستور الذي وضعته معي لجنة الأطباء اقترحت أن يكون في الجزيرة مطار وميناء، نستورد عبرهما مانحتاجه ونصدر مايفيض عن حاجتنا، لم يكن ممكنا أن ننقطع عن العالم القديم، كان البحارة الغرباء وملاحو الطيران يبقون في الميناء وفي فندق المطار، ولعل بعضهم يدخل المدينة متجوّلا ليوم أو بضع ساعات، ولم تقم نساء جزيرتنا اللقحات أية علاقات مع هؤلاء ولم يقم ابناؤهن من الجيل الجديد بعلاقات سوى حالات قليلة غادر أصحابها عالمنا إلى العالم القديم..ستار حديدي شفاف يستطيع أيّ أحد الخروج منه.قلت ببعض الحِدّة:
هل تنكرين أنك دخلت عالمنا وأنت في السابعة عشرة من عمرك، ورحبت بكل الشروط أنت الآن في السابعة والثلاثين من المحتمل أن تكون بويضاتك ضعفت...
لا أعرف راودتني رغبة في الأمومة ..
هكذا فجأة؟
بعد معاناة !
توقفت عن الكلام:
هل لديك معلومات عنه؟
وقد ترقرقت بعينيها دمعة:
نعم.
من عمال الميناء أم المطار الضيوف؟
من هنا؟
حدة وغضب أكبتهما بقسوة:
ماذا؟ أنت تقريبا بسنّ أمهات الجيل الجديد.
عادت إلى عبارتها السابقة:
لا أدري العاطفة والحب جعلاني أنسى نفسي.
اعتراف..
صراحة
ماذا غير أن تنسى نفسك وتلغي شذرات الماضي التي عاهدت الآخرين على الإيفاء بها:
سأقول لك كلاما صريحا ..لا أريد أن أبدو جافّا معك حين نراهن بتعهدغير مجبرين عليه لمشروع يُنجز في المستقبل منذ تلك اللحظة نضع في حسباننا أننا بالتأكيد نسبب ضررا للآخرين إذا خالفنا التعهد الذي يصبح أشبه بالمقدّس.
أعترف كان علي منذ البداية ...أن.. أن لا أحد يتحكم بالمرض والعاطفة !
حسنا تستطيعين الانصراف الآن وسنجد لك حلا
وغادرت، وفي اليوم ذاته بدأت حالات عنف تظهر بين طرفي الصراع المعارض والمؤيّد لي
أصروا على أن أمهاتهم اقترفن خطأ ومن حقهم أن يعرفوا من هم آباؤهم، بعضهم أحب أن يغادر إلى المدن الأخرى، اشترطت جزيرة العالم الجديد في دستورها أن الذي يغادر لايحق له العودة، غادر قليلون وحدهم، وبعضهم رحلوا مع أمهاتهم، لم أعترض، ولم أعارض في أن يناقش العديد منهم مسألة الحياة والموت..والحق أنا لا أعرف هل ثقفت بعض الأمهات الأبناء بما كن يحملنه من ثقافة دينية، الجزيرة تخلو من أي معبد ديني ..مركز للتوحيد أو الوثنية، النساء الحوامل وافقن، وأقررن قبل التلقيح ألا يتحدثن عن الخلق والله والحياة والموت.
كن سعيدت .بعملهن بنشاط
قلت للسيد (ك)هل أنت مقتنع بما تفعل؟
أجاب بابتسامة: ياسيدي لا أحب أن يكون لي طفل من زوجة ولا صديقة أريد أن يكون امتدادي مجهولا مثل الأفق البعيد.
تساءلت مع نفسي:هل أحدث فيلسوفا أم عبثيا:
ماذا تعمل؟
أجاب بابتسامة:
في معمل بيرة ولعلك تصدقني حين تسمع أنّي لا أحب الكحول ونادرا ماجربته.
لكن قل لي هل هناك من سبب ما غير الامتداد دفعك لهذا السلوك.
تأمل قليلا وقال:إسمع دكتور أنا لا أحب التنقل ولا السفر أؤمن بالثبات.. لدي رغبة في السكون ..لم أسافر طول عمري ولدت هنا وعشت هنا مادمت كذلك فإنّي أراهن أراهن مع نفسي على أن امتدادي سيكون أكثر حبا للحركة مني.
ربما
بل أنا على يقين لأنه سيولد في زمن آخر أسرع من زمننا هذا.
لدى مركزنا شرطان الأول ألا تسأل عمن تأتي لتصبح أمّا مثلما تقبل هي ألا تعرف من تكون أنت.
قبلت؟ (وأضاف) على الأقلّ من الأفضل للمولود الجديد ألّا يعرف النصف الآخر من ماضيه.
و سنقبل منك إن كان كل شئ من الناحية الصحية على مايرام.
لا أظنني عانيت من مرض منذ وعيت.
راح يؤدي دوره بإتقان ويمنح المركز مايريده.
كل العملية تحت إشرافي
وكل المعلومات عندي.الرجل اسمه ..عمره.. عنوانه..حلمي الواسع ..أو هو تجربتي الأولى.صورة السيد(ك) في ذهني لم تتغيّر.
لا قلق
لاخوف من المجهول
لعله العالم الأفضل على حسب ظني
حتى انفجرت بوجهي المظاهرات الأخيرة....
وقد تجرّؤوا بعد قضية حمل الممرضة (ن)
الكثير يتظاهرون يريدون أن يعرفوا آباءهم
والكثيرون يعارضونهم
اشتبكت الفئتان فسقط بعض القتلى
وكان حقّا علي أن أتخذ موقفا صارما
فظهرت لهم عبر وسائل الإعلام ووجهت إليه كلاما..
قلت إني على استعداد أن أخبرهم الحقيقة..وآمل أن يعودوا إلى اعمالهم ..
وعدتهم بذلك
وصدقوني
لكن قبل كل شئ كان علي أن أغادر الجزيرة لأبحث عن السيد (ك) فهو وحده القادر على حل الإشكال الذي بدا عنيفا قبل بضعة ايّام، سوف يقنعهم بلا شكّ أو يقنع الأغلبية الغاضبة منهم.
قبل مغادرتي عقدت مجلسا طارئا للكادر الطبي.عشرون شخصية من كبار الأطباء، واخترت من مجلس الممرضات الخبير لعلاج السكان الذي تشرف عليه الآنسه (ن) بعض الممرضات .
صارحتهم فصُدموا
ذهول
وتذمّر
قضيتان مرعبتان في وقت واحد الممرضة الحامل، وتظاهرات الخارج، وربما بدت الممرضات الخمس اللائي كن حوامل قبل عشرين عاما أكثر استياءا منا نحن الكادر الطبي القادم من العالم القديم.. لم أكن أتكلّم بانكسار لئلا يصاب أحد بالإحباط.انتقيت كلماتي بدقة وقلت كلنا التزم بالتعهد الذي أخذه على نفسه قبل أن يهجر العالم القديم للعيش هنا، مارأيكم لو حبلت واحدة من الكادر الطبي، ماذا تقولون.ابتدأت بالممرضات الأمهات من قبل.سألتني السيدة (م)
كيف التقت بالرجل الغريب وأين؟
لا مارست ذلك مع شاب من الجيل الجديد:
يمكن يكون ابني أو ابن أخرى..لا أدري
وعقبت الممرضة (ج)
مهما يكن ليرحلا
قالت الممرضة (ص) لابدّ من أن تعرف أمّه فقد يراودنا حنين لحفيدها فترحل معهما.
وقال (ن أ) طبيب مراقبة التخصيب:
أقترح لو سمحتم أن نحظر عينة من مني الشاب وبويضة الممرضة لكي ندرسها ضريبة عن فعلهما عوضا عن العقاب.
وحين وصل الدور إلى مساعدي المباشر قال:
هي حالة فريدة حقا يمكن أن نعزلهما، فمعظم حالات الحمل كانت بين المواليد الذين تمّ تخصيبهم قبل عشرين عاما، أما هذه الحالة فبين الجيل الجديد والجيل القديم.
رفع طبيب الطوارئ يده وقال:
مالفرق هناك فتاة تخصبت من عامل وصل إلى الميناء حبلت منه وطلبنا منها الرحيل لتلحقه وأربعة ذكور وصلتهم رسائل من فتيات يعملن في النقل الجوي يخبرنهم بحملهن فارتأوا اللحاق بهن.
قال السيد المساعد: هذه الحالة غريبة تماما لأن الممرضة التي تعمل معنا خالفت الدستور نعم لكننا نريد أن نعرف الآثار الجانبية لعلاقة بين جيل سابق يكبر الجيل الجديد ب بعشرين عاما للتجربة فقط.
لم يرفع أحد يده بالموافقة.هو ا الجيل الجديد الذي لابدّ أن يبقى نقيا.بالأمس تمرد أفراد...خمسة من مجموع مليونين ..لا شئ.. أقلّ من قطرة في بحر. الجيل الجديد النقي الخالي تقريبا من الأمراض يدير شؤونه بنفسه..أطباء..مهندسون عمال موظفون.مليون امرأة خلفن لنا مليونا آخر.. المساعد الذي اقترح أن نقبل بالحالة الأخيرة.كان وحده.وحين حلّ التصويت..أصرّ الجميع على الطرد!
ورحت أغادر الجزيرة التي أوجدتها بطريقتي الجديدة إلى المدينة القديمة التي بدأت فيها تجربتي الجديدة منذ ربع قرن وأنا في الجزيرة أدير شؤونها مع مجموعة من الكوادر القديرة فلا أدع أي شئ عليها يفلت من بصري.سهل أن تصنع عالما لكن من الصعب إلى درجة المحال أن تجعله يدوم من دونما رقابة.لديك عالم كان مليونا من الإناث ثم أصبح مليونين بعد سنوات من المحال أن تراقبه كله لكن قدر الإمكان أجعله لا يفلت من يدي..لا أريد لتجربتي أن تنهار كما انهارت قوة عظمى ..أو تتحلل إلى كيانات صغيرة مثلما حدث لبعض الدول..
بدت المدينة القديمة جديدة تماما بعد كل تلك السنوات .معالمها تغيرت بعمق.زرت بناية المشفى فوجدتها أصبحت مدرسة ثانوية، معالم البناية القديمة اختفت.كنت قد بعتها مع شركائي الأطباء والبايولوجيين ثم غادرنا على دفعات مع النساء الحوامل.معي معلومات كافية عن السيد(ك) عنوانه.. هوايته.لابدّ أن ألتقيه ليذهب معي إلى الجزيرة التي أخذت تتغيّر.لعل وجوده معي يثني الآخرين عن التمرّد...الرجل خضع لشروطي، من دون أن أجبره والتزم بتعهده.أراد أن يكون له امتداد لايعرفه .ولكي لا أخيّب رجاءه رفعت سماعة الهاتف حين جاءت أول امرأة لتتلقح فأخبرته أن هناك سيدة حملت جزءا منك وهناك أخريات.قهقه وقال إنه ارتاح وسيستكين ويرتاح ليكتفي بآخرين منه بعيدين عنه يتنقلون.
تبقى مسألة العاطفة والحنين ..لعلها تتحرك فيه ...وأحاول أن أثيرها فيه..
.ولم يكن قد غادر المدينة التي عاش فيها طول حياته.بيته الصغير في حارة قديمة، لا يبعث على الكآبة وإن كان يشبه الصندوق.. قلت له بعد رحلتي في البحث عنه:
-أنا أعتذر إليك لأني اشترطت عليك ألا تسألني عن ابنك القادم يوم جئت عندي لمركز التخصيب.ولا عمن تكون أمّه!
-وها أنا قد نفّذت الشرط ولا أظنك جئت لأمر تافه فلعل ابني ثار بوجه أمه متسائلا من أبي أو ابنتي لا أعرف أولد هو أم بنت.
استدراج:
ألا تحن لرؤية ابنك أو ابنتك؟.
أبدا
أيعقل ذلك؟
أنت طبيب لاتهمك العواطف وأظنك تتذكر آخر مكالمة أخبرتني فيها عن أول سيدة تلحت مني قلت لك الآن سيحا جزء مني بعيد عني وآن لي أن أرتاح!
دفعني فضول:
وما كنت تفعل خلال السنوات الماضية.
كل شئ ولا شئ
هل أنت متأكد من أنك لا تحب أن ترى أبناءك وبناتك؟
لا أغير كلامي مثلما لا أغير بيتي، ألقيت بالمستقبل لك، فلا ألتفت إلى الماضي لأنني أريد أن أحقق حضوري وحده ولا أشغل نفسي بشئ آخر سواه.
أعرفه، عامل كيمياوي في معمل كبير للبيرة، ولم يتناول الكحول على الرغم من أنه يمكن أن يشرب في المعمل بضع زجاجاتمن دون أن يدفع ثمنها قد تبدو كلماته أكبر منه ولعله لا يفقه معانيها ربما هو خطأي حين قرأت حيامنه فعرفت أنها الأصح والأقدر من غيرها فجعلتها نموذجا لكيان جديد بدأته قبل ربع قرن فأخذ يتمرد علي بعد أن أدرك حقيقة وجوده، فهل التقيت فيلسوفا أم متحذلقا أو مدعيا العلم لا يدرك مايقول:
أتعرف كم هم ابناؤك الآن؟
لا لا يعنيني ذلك.لقد تجردت منهم منذ زمن انتهى
حتى وإن قلت لك إنهم مليون مابين فتى وفتاة؟
***
رواية جيب
د. قصي الشيخ عسكر