نصوص أدبية

نصوص أدبية

أُسائِلها عَنِ الوطنِ المُعاني

وتَسْألني لماذا لا تَراني؟!!

*

هيَ الملويّةُ الشماءُ قالتْ

تَسامَقتِ البرايا في زماني

*

مَدينتنا نَواكبها تَنامتْ

وأفجَعَها التَعللُ بالأمانِ

*

كأنَّ وجودَها أضْحى غَريبا

ونهرُ السوءِ يَجْرُفها كجاني

*

مَنائرُها بلا صَوْتٍ رَحيمٍ

مَرابعُها مُقفّرة المَباني

*

كفيلٍ دونَ عَظمٍ كيفَ عادَتْ

تُباغتها أباليسُ المَكانِ

*

شَوارعُها مُعوّقةٌ بعُثرٍ

وتَرمُقها الكواسرُ باحْترانِ

*

عَجائبُ أمّة ٍفي قلبِ ذاتٍ

تعذّبهُ العواذلُ بالشَنانِ

*

أشاحَتْ عن تساؤلنا بزجْرٍ

وشزْرٍ مِن مُكابدةِ الهَوانِ

*

ألا تبّتْ يدُ العدوان إنّا

نَفيضةُ مَجْدِها بذرى الكيانِ

*

وكمْ جاؤا إلى أرْضٍ وباؤا

بآثامٍ مُتوَّجةِ الخِيانِ

*

أعاصيرٌ من الدَهماءِ هبّتْ

بسيّئةٍ رعَتْ عقدَ القرانِ

*

أ شرْقاً نالَ غرباً وافتراها

بغابرةٍ وأمْجادِ امْتهانِ

*

ومِنْ وَجَعٍ إلى وَجَعٍ خُطاها

مَخاطيفٌ بها والقتلُ ثاني

*

عقابيلٌ مُكرّسةٌ بصَمْتٍ

فما نَبَستْ جَحاجيحُ الضَمانِ

*

تؤمِّرُهم نفوسُ السوءِ دوماً

وتُخبّرهمْ بصولاتِ السِنانِ

*

فما سَرّتْ ولا يوماً تباهَتْ

وأقعدَها التوسلُ بالرِعانِ

*

تسارعَتِ الخطوبُ إلى ثراها

وأجْهرتِ المساوئ بالضِغانِ

*

أبادِلها التساؤلَ دونَ ردٍّ

وتأسرني التلائد بالعَيانِ

*

كأنّ وجوَدها نورٌ بنارٍ

وصوتُ الحقِ مقموعُ التَداني

*

أفاقتْ مِنْ توؤدِها بغفلٍ

وإجْحافٍ وداهيةٍ عَوانِ

*

وما رَكنتْ لجَوْهَرها وحارَتْ

بأوْغادٍ وأعْلاجِ التواني

*

فهلْ سَئمَتْ نداءَ الروحِ فيها

وهلْ عُجمَتْ وما رأفتْ بعاني

*

إذا الأيامُ أوْسَعتِ المَقاما

سأطعِمُها بسلاّفِ المَعاني

*

وأفديها بعُمرٍ من عَطاءٍ

يؤمّلها بتيجانِ الجُمانِ

*

تلوّتْ في مَواكبها لأمْرٍ

بهِ الأفكارُ يَنبوعُ التفاني

*

لأكوانٍ تعالتْ في فضاءٍ

تطيرُ على براقٍ أو حِصانِ

*

أخاطبُها بقلبي ثمَّ روحي

ويَسبقني إليها غُصنُ بانِ

*

أراها أمّةً جُمِعَتْ برمْزٍ

يُحدّثنا بأسْرارِ الفِطانِ

*

بعيداً في ديارِ الغُربِ أحْيا

ويَهْصِرُني التحرّقُ بالوطانِ

***

د. صادق السامرائي

22\7\2023

تتذكّرُ كيف كانت تعجّ رأس والديها بأسئلتها الممزوجة بالثّرثرة وهي تشاهد  الشريط الهاضم لحفلة زفافهما:

" لم لا تعانق صورتها وصورة إخوتها بهجة الاحتفال؟ لماذا لم تظهر هي في الشّريط المصوّر كغيرها من المدعوين والحاضرين؟ لماذا لم تتمتّع بلذّة الرّقص وبهجة الاحتفال، وتنعم بأطايب الطّعام والشّراب؟ وتزداد ثورة وفورة أعصاب حين يأتي ردّهما كسهم يصيب الهدف:

"كنتِ تمارسين طقوس الّلعب مع رفاق الحارة، ولم نرد اختراق طقوسك". فتبدأ بإنشاد تراتيل بكائها ونحيبها، ما أجبر الوالدين على الاستعانة بالمصوّر ليتفنّن في أخيلة موهبته، ويخرق صورتها في الشّريط المصوّر، ويدعها تبرق قاعة الحفل رقصاً وابتهاجاً.

ما عادت الطّفلة صغيرة، نفحات الصّبا تزنّر كيانها بالغنج والدّلال، تكلّلها بتاج الأميرة في كرنفال الرّبيع. كبرت الطّفلة وبراعم الخجل تثمر على شفتيها وجبينِها وهي تهزّ الرّأس:

"يا للطّفولة وعالمها! يا للطّفل وأعاجيب تخيّلاته! لم كنت أفعل ما أفعله؟ كيف كانت ثريّا مفكّرتي تتبعثر فوق ثرى انتفاضتي وثورتي؟ ولماذا كنت أبحر في مزاح والديّ وكأنّه الحقيقة المطلقة؟"

كلمات ابنتي الصّبيّة المنثورة في صخب صديقاتها المعبّأ بالضّحكات والابتسامات كانت توقظ فيّ طيور أيّام تتخطّى أعوامها عتبَة الأربعين وصناديق أمّي البديلة عن الخزائن ترفرف حولي في زمن يكرّر ذاته كما تكرّر البضائع التّالفة، فتولد الشّباب المتجدّد.

تصدح بتغريدها في مسمعيّ أمّي كلّ يوم والطّفولة كابنتي تفترش لي أخيلة تسَع الزّمن والزّمان:

"أمّي! ما أزالُ أتذكّر يوم زفافك والفرَس الأبيض يتمختر طرباً مع بهاء وشموخ أبي الذي ينطّ من الفَرَس كحمامة تتماوج الفرح نهراً، يحتويك كعصفورة على جناحيه، ثمّ يأمر الفرَس بالانثناء وأداء مراسم الاستقبال، وبحركة لا يتقنها إلا فارس الفرسان ينصبك أميرة على القلب والخاطر والفرَس الأكثر ابتهاجاً يزيد من جرعات تمختره والنّاس المحتفلون يسيرون خلفهم يرقصون، ويغنّون.

كانت تبتسم لي وهي تبقي دموعها النّاشفة أصلاً في قاع حلْقها: "نعم حبيبتي، كم أنت ذكيّة ونبيهة! أنا سعيدة لأنك تتذكّرين تفاصيل ذلك اليوم بدقّة متناهية". وتظلّ تثني على حديثي الذي أصيب بآفة التّكرار والملل وكأنّها تسمعها لأوّل مرّة وهي تخفي غصّات ألم تكاد تسكت القلب والخاطر.

كنت أنطلق مع أفق تخيّلاتها دون أن أعلم أنّها تصوّب نحو قلبها وخاطرها بعشرات القنابل التي أراد لها مبتكرها أن تحيي البشَر والكائنات، فأغار عليها بعضهم وبها أبادوا كائنات حيّة وجامدة في غمضة عين.

نعم، أذكّرها بأبي الذي كان لها الزّوج الحبيب والحبيب الزّوج ولكنّ  الموت الذي سلب القلب والخاطر منذ تشكّله الجنينيّ فاجأهم بشبحه المبكر، فساق عمرها نحو غروب أبديّ المنْبَت والفيضان.

صناديق أمّي الثّلاثة كانت تشكّل في غرفتِها زاوية قائمة الأضلاع. صندوق تغفو فيه ثيابها المزركشة، بديعة الألوان والأشكال، وأغطية رأس من الكِتّان النّقيّ الأبيض كبياض أحلام طفولتي وابنتي مخصّرة بخرزات ربيعيّة الألوان والأطياف أضربت عن تزيين جسدها وقامتها بها بعد رحيل أبي. صندوق آخر يدفن في عبّه أوراقاً تخصّ الزّوج والعائلة وأسلحة كانت صمّام الأمان للرّجل وإن كان فارساً هيّاباً، بل وصفة من صفات شهامته ورجولته. وحده ذلك الصّندوق المنقوش بهندسة فسيفسائيّة لامس بالي وحسّي، الصّندوق المرصّع جوفاً بسلاسل ذهبيّة متطابقة البناء والبنية، يقال لكلّ قطعة منها ليرة ذهب، تتوسّطها ليرة كبيرة تسمّى في عرف النّساء والشّعراء "واسطة العقْد".

سلاسل معظم النّساء كانت مقيّدة بحبّات محار متعدّدة الألوان، ليرات أمّي كانت معقودة بالذّهب الخالص لأنّ حبيبها الزّوج كان يهبها في كلّ مناسبة عقداً، ويعزّ عليه ألا تكون من الذّهب كلّها.

شكْلة ذهب مجبولة من محارتين سماويّتين، وأخرى من خلاصةِ الذّهب وثالثتها تزيّن الشَّعر الأسود المتماوج في غرّة تلاطف سواد العينين. ثلاثة مثلها من أشكال الحَلَق، وجموع من الخزامى تروق للأنف فتمنحه الجمال والبهاء.

الصّناديق لم تكن مجرّد صناديق خشبيّة مرصّعة بأبهى أنواع الزّينة، بل كانت بمثابة هالات تتعطّر بعبق المحبّة والعشق المولّدِين من قلبَيهما اللذين ما يزالان يتدفّقان بأناشيد عشّاق توالدوا وتكاثروا من مدرستيهما البستان والرّوض.

رحل أبي وبقيت الصّناديق مكاحل عطر تسقي ذاكرة أمّي بثيابه وقدّاحته النّاريّة وعلبة دخانه التي ما تزال تتنفّس الشّباب والعنفوان بها تعطّر مسامات حنينها إليه بنسائم عطفه ودفء حنانه .  رحلت أمّي دُفِنَت بعدها الصّناديق، ولم نعد نتلامسها إلا  كسراب في رمضاء الخاطر والنّفس.

***

قصّة قصيرة - نارين عمر

......................

* هذه القصّة من القصص الفائزة بمسابقة الأديبة رولا حسينات للقصّة القصيرة التي أقامها الكيان الأدبي وجُمِعت في كتاب ورقيّ بعنان "حواتيت حواء" عام 2017. وهي منشورة في المجموعة القصصية التي طبعت وصدرت هذا العام في دار النخبة للطباعة والنشر في القاهرة/ مصر

أفيـــــــقُ من الكرى أو لا أفيـــــــقُ

تشابهــت الأمـــورُ فلا فــــــــــروقُ

*

فما في الصحْـــــوِ جدوى فهْـوَ نومٌ

إذا كانَ الغروبُ هـــــوَ الشـــــروقُ

*

تقلّــبت الأمــورُعلـيَّ .. أضحـــــى

عدوّأ مَنْ ظننتُ هـو الصـــــــــديقُ

*

كمـــــا المسجــون أحيـا فـــي بلادٍ

حسـبتُ بأننـــي فيــــــها طليـــــــقُ

*

ومــنْ تكُ نفســهُ جُبلــتْ كنفســــي(1)

بـــــهِ الأوطـــانُ والدنيــــا تضيـقُ

*

أيـــا نفســـــي التي حلمــــتْ بدنيا

علـــــى روحِ المحبّــــةِ تستفيــــقُ

*

لكَــمْ جذبتــــكِ أشيــــاءٌ ولكـــــــنْ

توارتْ عنـــكِ وانطفـــــأَ البريــــقُ

*

إلــــى أينَ المسيــرُ ؟ وكــلُّ أرضٍ

بهــــا للشــرِّ قدْ نبتتْ عـــــــــروقُ

*

فكــمْ غيّــرتِ درباً بعـــــــدَ دربٍ

ولكـــــنَ الطريــقَ هــوَ الطـــريقُ

*

يقـــودكِ في النهــــايةِ نحْــوَ روما

ففيـــها قد يروقـــــــــك ِ ما يروقُ

*

ورومـــا اليـــوم دنياً غير أمـــسٍ

فلا نيرونُ فيـــــــها أو حــــريقُ(2)

*

ولكنْ مــــنْ لنــارٍ فــي ضلوعـي

تزيـــــدُ لظـــىً فتزدادُ الحـــروقُ

*

أجيبـــــي يا سمــاء متـى التلاقي؟

متــى يحظـى بهِ الصــبُّ المشوقُ

*

ألا مطــــــرٌ سينـــزلُ فــــــــي بلادي؟

ألا رعــــــدٌ يُبشّــــــرُ أو بــــــــروقُ ؟

***

جميل حسين الساعدي

كتبت بتاريخ 31/7/ 2023

برليــــــن

................

(1): يجوز حذف نون (تكن) كما في قوله تعالى: (ولا تك في ضيق مما يمكرون)ـ سورة النحل وعدم حذفها في سورة النمل الحكم النحوي: جواز الحذف إذا كان الفعل مجزومًا بالسكون ولا يليه ساكن أو ضمير متصل.

(2): نيرون هو خامس وآخر اباطرة الروم من السلالة اليوليوكلودية.

عرف بالإستبداد، وهو الذي كان وراء حريق روما الكبير، الذي دمّر ثلثي المدينة، فهو من أرسل الرجال لاشعال النار في المدينة.

حينما

قبلني طيفُك في قلبي وثنّى

قلّبَ الجُرحَ وأوزانَ القصيدةْ

احرقَ المشهَدَ بالبوحِ

فأغراهُ العِتابْ

امتطى ظَهرَ الغضبْ

قالَ شيئًا ومضى

وانا في الحُلمِ

نفذتُ وصاياكِ

وأكملتُ القصيدةْ

*

حينما أخبرني الحلاج يوما

"انه الحق" تندت كلماتي

برعَم الشعرُ واغواني قصيدةْ

قابَ وجدينِ وأدنى

في التجلي

*

حينما خَيرني الصَّمتُ مساءً

بين نفسي وخُطى النصِّ اكتشفتُ

انه يأخُذَني منّي اليهِ

بَغتةً..

يَشرِقُ بي صوتَ قصيدةْ

*

حينما صَيّرني الشعرُ نبيًا

ثبّتَ الوَحيُ جَناني

كَي يُبلِّغَني

مَزاميرَ قصيدةْ

*

حينما أفقدُ جُمّارَ حُضورِك

تَتداعى كلَّ تَقوى كَلِماتي

لم أعِدْ أقدِرُ أنْ اَغري

تَرانيم القَصيدة!

*

حينما تبسمُ لي عَينَيكِ شِعرًا

كَم مِنَ الغَبطَةِ هَيّأتُ جُنونًا

وعلى اُهْبَةِ أنّي

سَأراكِ في القصيدة

*

حينما تَفرَطُ حَبّاتِ القصيدةْ

في اختلاط العابرين

يَكدرُ النبضَ المُعنّى

بزَفيرِ الغُرباءِ

***

طارق الحلفي

لم يجئ.

تسلّط اللّحظة المتوتّرة عليَّ الضّوء فأنكشف ملء وعيي اللوّام الواقف على عتبة الصّحو، ولا أجد كيف أحتمي بالغياب من جديد هربا منه، منّي..

أرمش سريعا عنيفا دامعة بغير بكاء، وأغمض أشدّ. أخشى لو رُفعت عن عيني ستارة الظّلمة أن ينفر عن روحي الهدوءُ راكضا من باب الحياة الخلفيّ، ويذرني صورة امرأة مُكمّمة القلب، وحيدة تماما، عرضة لعيون مفجوعة تصوّب نحوي بنادقها مخافة أن أفشي كلّ تلك الأسرار التي أودعوني إيّاها فيما أنا تحت لوح الصّمت الجليديّ بهذا المستشفى الذي كمقبرة نهِمة.

منذ سقطت على العتبة الحرجة من مكتب القاضي فاقدة للوعي والرّغبة في الحياة، وأنا هنا على السّرير المعقّم، داخل حجرة العناية المركّزة، خارج الإدراك، على رصيف حيويّ من شارع الوجود يرتاده المتعبون، أتمدّد..

غيبوبتي انزياح وجوديّ، عماء راءٍ. وعي خاصّ بالعالم تنبت له، في الصّمت المطبق على جسده، قرون استشعار تتحسّس المناطق الخبيئة في الذّوات الملتبسة بالثّياب والانضباط الاجتماعي، وتفتح على المسارب السّريّة للقلوب المقفلة والنّفوس الغامضة.

يُطمْئنهم أنّي في عداد الموتى مشرعة الأذنين مطبقة الشّفتين، سُخرة باردة لرغبتهم المريعة في الثرثرة من طرف واحد، فيختلون إليّ عراة إلاّ من ألبسة تستر عوراتهم الجسميّة. أنا المغيّبَة قيامتهم قبل القيامة، يقرؤون عند جسمي السّاكن كتبَهم. أنا الصّامتة طقس في الاعتراف لكن بلا كاهن يسدي النّصائح نفسها للجميع، أو إمام يمنح التّوبة لمن يشاء ويحجبها عمّن يشاء، بلا سلطة مولعة بالرّدع والتأنيب..

بيد أنْ لا أحد، إذ يتخفّف من أوزار أسراره، ينتظر فينة أخرى ليحمل عنّي بعض شَكاتي.. فجأة أعود وحيدة جدّا.

مرّ بي جميع الذين أذنبوا فيّ ومسحوا في ملاءة الصّمت البيضاء أخطاءهم وذهبوا.. ناصر، ابني، ابنتي، الأقربون من الأهل والأبعدون، الأصدقاء، الجيران، الزّملاء، المعارف، العابرون، وكثير غيرهم لم يبق منهم في قاع الأذن غير رجع البكاء المرتّل في صحائف الاعتراف. يتخفّفون بسرعة ولا يبقى، بعدئذ، لزيارتي من معنى سوى تقصّي أخبار رحيلي، والمحطّة التي يقف عندها قطار العمر الآن. لم يعد أحد منهم ليعرف إن كنت غفرت له أم لم أغفر. اِكتفوا جميعا بتفريغ حمولة الاعترافات جانب جسمي الهامد وانصرفوا.

وحده الذي كان يجيء ليسكت فيمنحني فرصة رُخاء للفضفضة.. أكان يعرف أنّه منصّة اعترافي الخفيّة كلّما جاء اعتلتها بقايا المرأة التي فيّ واسترسلت في ترميم وجودها الصّدع بالحكي؟

يجيء.

يؤقّت بندول الحنين المعلّق إلى ظهر يدي الملقاة جانبا منّي موعده. يهيّج، فور دخوله، نثرُ التّراب حساسيّة جيوبي الأنفيّة كما لو كان على سفر مستمرّ يجيء إليّ من المسالك الترابيّة القديمة للعمر، من ذاكرة جسد يخاصمني منذ أشهر وينتبذ منّي ركنا قصيّا من الإدراك..

خالصا لي، مفعما بي، لهِفا عليّ، يأتي ليجلس صامتا على جانب من عين البوح المتفجّرة. تحطّ شفتاه بردا شفوقا على نار الجبين. تسكن أرضي الرّاجفة. يرفّ دمي مستدركا شيئا من نبض العنفوان المُخمَد. يهجع في الرّأس نمل الحمّى حين نفَسه خشنا مجروحا مغرورقا يسرّب إليّ ماء الحنان. لا يتكلّم فأراه، لكن تبصره عين الخيال وجها نضِرا لوجهي المطفإ، جسدا ثريّا لجسدي المحنّط في شحمه الوفير، عينا رفيقة لعيني المغمضة كطفلة تطبق على حلوى الفرح بين أصابعها المشتبكة، وتخشى لو فتحت كفّها لم تجد غير الفراغ الدّبق.

تعال..

تقول أخراي التي لم تنته فيّ من الحياة بعد، ضع النّور الذي على كتفيك عند قدميّ، وأضئني. أنت الفانوس الأخير على ناصية الشّارع الوحيد المؤدّي إلى أنفاقي الدّاخليّة المطفأة، ووحدك الذي لا أخجل من عريي المريع ملء حضوره البذِخ. اُدن منّي، اِخلع عنك صمتك وعليّ بعض السّكينة، وارفع عنّي حجاب الحرج أخرجْ لك بكلّ صدقي المطمور في كُمّ التحفّظ، ضمّني رفقا بلا شفقة واحذر أضلعا تراخت أربطتها. اُنفخ فيّ بعض نفسك الحميم تبرد نار بالجوف تتّقد، ويلد الرّماد طائر الفينيق من جديد..

لا تقل من أنتَ، ظلّ هكذا حضورا رحبا تامّ البهاء بلا تاريخ، انتماء آمنا بلا هويّة، وكن الغد الذي لن أبلغه. أنت تجعل خساراتي أقلّ، وسفرتي الأخيرة أشهى.

تعال..

أرسل في حضورك فوضاي وأترك نوافذ النّفس مفتوحة دوما على الطّريق الرّئيسيّة للوجود، وأغطيتي منشورة على حيطان الرّجاء تشرب الشّمس نهارا وتندى غسقا تحت دمع القمر. لا أكنّس غُرَفي الدّاخليّة من غبار أعضائي الآخذة بالتّفتت داخلي منذ أشهر، على أهبة الرّحيل حواسّي، لا تنفكّ تضرع بالصّلاة. وعلى العتبة أنا ممدّدة أحمّل حمام الأثير إرساليّاتي القصيرة إلى الحياة فتروح وتجيء أنت ويذهب الثّقل عن وزني. " تكلّمْ.. تكلّمْ.. لماذا تنسى حين تلقاني نصف الكلام.." وأنت الآن صديقي الأخير القديم الذي لا أعرفه ولم أنقطع أنتظره على شرفة الأمل وبلا سأم أنتظر.. لكن، متأخّرا جدّا قد أتيت. مضى أجمل العمر ولم أعش إلاّ لأجل أن أكون ما أنا عليه الآن: ضفدعة بدينة، ثقيلة الخطو، لاهثة أنفاس الحياة. زوجة سابقة لرجل يصاحب شابّة بنصف عمري، وأمّ صالحة، بشهادة هاتفي الجوّال وبطاقتي البنكيّة، لولدين يحبّانني دوما وأكثر عند كلّ حوّالة بريديّة..

أتعلم.. !؟

لا يبقى أطول ليعلم. يذهب خفيفا كما يأتي. تنقر الممرّضة على باب الغرفة فتصرفه عنّي وتترك عند سمعي الجملة ذاتها:

- هذا الزّائر يردّ إليك الرّوح كلّما جاء.. يبدو فعلا أنّك لا تحبّين أن تغادري حالتك هذه لاستبقائه أطول إلى جانبك. لو كنت مكانك لفتحت عينيّ لأراه..

"صفيه لي أرجوك."

أتوسّل، فتمرّ إلى قيس ضغط دمي المستقرّ، ودرجة حرارتي التي اعتدلت في حضرته..

- أنت بخير.

"صفيه لي.. ألا تعرفين اسمه؟"

لا تسمعني. يردّ سَدُّ الصّمت صوتي إلى كهفي العظميّ بانتظار الغد..

غير أنّه اللّيلة أيضا لم يأت..

تنتصب مكانه شاشة مسطّحة تكتسح مجال عين القلب، وتعرض عليّ في بثّ حيّ مسترسل مغرض شريط الحياة الأقسى في حياتي مدّة ذلك اليوم الذي بطول أُمّة من الضّنك.. أغمض أشدّ فرارا منّي فأراني في ظلمة الغيبوبة أوضح أسمن أصدق أقصر، و.. أسوأ.

ذلك اليوم.. !

ماءت أواصر الباب الخشبيّ كقطّ موجوع. لفظ مكتب القاضي عبوّة بشريّة حانقة ليستقبل أخرى. رجل رذيل العمر يغادر مزمجرا، تتبعه عجوز تثرثر بعشقه لقاصر في الحيّ.

شابّة تجرّ فستانها، وتدفع حمْلها إلى داخل المكتب. زوجها من خلفها يفرد صدره، ويُسقط حزام بنطاله إلى ما دون خصره بمسافة تستفزّ أزواجا مزدحمين جاؤوا على قدم الإصرار وساق يتشاكون أو يتطالقون.

بعضهم كالـ... غمغمت أُهوِّئ صدري من بقايا الضّغينة، ثمّ سرّحت جدي الكلام يرتع في حقل العمر الآخذ بالشّحوب. سيطلب الصّلح كالمرّة السابقة ولن أقبل. ناصر لا أحد دوني. يقف أمامي خاشعا كطفل مذنب، حزمة من عظام ترتعش توشك تنفكّ روابطها تحت جلد ناشف ينشدّ على هيكله فيبرّز مقاطعه وتنتأ منه رؤوس المفاصل.. دمعه يمِض مكابرا بين الجفون وكلّ ما فيه يرتجف، يهتزّ، يعلو، ينخسف، يروح على حافّة الوجع الجهم على تقاسيمه النّاشبة وينكسر.. قامة رجل شبه مُنْتَهٍ كان، بعض حياة ساخنة تنتفض أعضاؤها تحت بقايا الأدريالين.. ضمّة واحدة تلملم تبعثره كلّه من أوّله حتى انهياره الأخير هذا، ضمّة واحدة تعيده حيّا يرفرف..

لا أضمّه.

شيء ما يمدّ أذرعه النّباتيّة الغليظة ويشدّني عنه إلى غوري.. أعترف. لم أنته إلى اليوم من طيّ صفحة الأمس.. يحبّ الحبّ قطع عِرْق العلاقة المنتهية وتسييح دمها على أرصفة الأجوبة العارية ليمضي في شأنه إلى حبّ جديد. الجروح الطّفيفة تجعله معلّقا إلى نقط الاستفهام كفانوس في مجرى التيّار الهوائيّ، وتذر علبة البانادورا مفتوحة على أسرارها المهلكة.. مضى العمر ولم أنس. أكرّر الـ "لماذا" نفسها، واقفة على باب "لو" لا أبرحه.. أضطرب، أغرز أصابعي في جلد حقيبة اليد لأثبّتني إلى رصانة كاذبة على مقعد الانتظار..

أنا على حقّ. ناصر ما كان له أن يخرج عن حدّ الخصاصة لولا أنا. لا تستقيم الحياة الأسريّة دون قبضة صارمة تبني المستحيل، دون امرأة نظيفة بكفاءة عالية مثلي.. لا وشَب يعلق على أثاث، لا لطخة لحذاء تمسّ البلاط، لا مشكلة تنسرب إلى الحياة، لا فاتورة يتأخّر خلاصها.. كيف يجحد؟ منزل بطابقين توغر هندسته قلوب الحُسّد، سيّارة لم تُمسّ بخدش منذ عقد، الابن البكر بجامعة خاصّة، والبنت تدرس الطبّ بروسيا. أمن عميم. هدوء وِقْر. هناء بارق. نظافة ناصعة. وزوجة برَكة لا تتابع غير برامج دينيّة تنير سبيل الجنّة وتوشك لا تكلّم أحدا خوف الإثم، ونحن بعد في حيّز الأربعين..

كيف يا ناصر !؟

عشنا معا عمرا مكثّفا بطول قرن من حديد القبضة النّاجعة.. كلفة النّجاح باهظة. لم أقتّر إلاّ لأجل أن أوفّر لولديْنا كلّ ما يطلبان.. كيف يجرؤ فيطلب منّي تلويث حياته بالخصام وهو فاحشة، تبذير ماله في الرّحلات وهي ترَف مجانيّ.. تحريك ساكنة السّعادة بالسّفر إلى بؤر الرّقص وهو حرام.. حشو الأذن المؤمنة بقطن الغناء وكلّه مستفزّ للشّهوة، مفقر للجيب.. هل الآن؟ ونحن على آخرة العمر؟ لكن.. لماذا وصلتُ سريعا إلى حدود الآخرة؟ أليس تقتضي الحكمة شيئا من المرونة؟ نعم.. أو ربّما.. لكنّه..

- تأخّر.

غمغمت شابّة مترفة الهيئة والحسن إلى جانبي تصادر تنهيدة هواجسي:

- من..؟ سألتُ.

- أتُرى ذات السّترة الخضراء كضفدعة هي زوجته؟ أم العوجاء تلك..؟ لا - وكزتني لتعدّل وجهة نظري- هناك..؟ أترينها؟ لا لا، لا أظنّ. قال إنّها طويلة، تلك الشّمطاء، ويابسة كحطبة. يبدو أنّها لم تأت بعْد. سئم من شرّها "المِسْمامَة"، أدمت قلبه الرّقيق، وألقته إلى حضني جريحا أضمّد نزفه فلا يكاد يتأسّى حتى يتردّى إلى مواجعه ثانية. لا يهمّ. سيكون قريبا حرّا يخفق جذلان في قفصي الذّهبيّ.

- عفوا من تقصدين..؟

دلف ناصر إلى رواق الانتظار. وقف عند ناصيته يفتّش عنّي في ثنيّات الزّحام.

اِنخلع جدار ما في بنائي العظميّ.. كان في بدلة باذخة لم يقتن مثلها منذ عقدين تحيي أناقتَه القديمة وهي رميم، وتحُدّ من سطوة حضوري عليه.. نضِرا كما لم أره منذ سنين، ينضح ماء عذب خفيّ من غضون الوجه يروي كلّ الجدب في جسمه ويُنذِر كلّ مخزوني المائيّ للجفاف فأراني أعوم على ضفّة عينه ضفدعة سمينة مترهّلة.. صغر سنينا عشرا وشِخْت في جسمي الذي كحبّة الملفوف عشرين أخرى.. سقط أمامي العمر برُمّته دفعة واحدة كما سقف نخر قد خرّ.. خمس وعشرون سنة كاملة تتالت على شاشة الوعي المشدوه مضغوطة التّفاصيل، مكثّفة الصّور، مزدحمة الأصوات..

في أيّ تفصيلة كنتُ؟

في الغسل، في الشّفط، في الفرك، في الطيّ، في الطّبخ، في التدريس خارج المنزل وداخله؟ في أكوام الغبار التي نضوْتها عبر السّنين عن الأثاث؟ في دلاء الماء الذي سفحت؟ في المال أسلّه من عظمه لتجديد الأثاث والسّتائر والفرش والمناشف الفاخرة أعلّقها يوما بعد يوم على حبل الغسيل إثارة لحسد الجارات المهملات..؟ في الوسائد تخنق النّواح والصراخ ونزق الخصام فلا ينسرب صوت من فم الجدار الأدرد إلى حيّ يتنصّت بعضه على بعض عبر الحيطان..؟ في مطبخي الأنظف في الحيّ، ومنزلي الأجمل في المدينة، وحكمتي الأندر في النّساء.. في عيني التي لا تغفل عنه، في قسوة الحبّ التي لا تلين عليه؟ في أيٍّ كنت حيّة أرزق؟ هل هو الذي على حقّ..؟

ناصر لم يجئ. ناصرها من جاء. وأنا من قضيتُ العمر أحيا على هامش الدّنيا، تحت وجهي، خلف جسمي، على جانب من الحبّ، عند منحدر أناي إلى اليوميّ الرّتيب. أسير متّكئة إلى سور اليوم صوب غدٍ يسلمني فورا ورأسا إلى غد يليه سنة عن سنة، شدّة عن صرامة عن جديّة عن نجاح عن استقرار عن سعادة أسريّة عن غصّة متورّمة.. مكنسة ميكانيكيّة تلاحق نثرة الغبار المتمرّدة، دلو ماء لا ينضب يسيح في كلّ ركن نيّر وخافية من بيتي، آلة حاسبة ألقط الملّيم المنفلت عن العدّ، زوجة صارمة الحبّ والنّظرة..

تقدّم نحوي ولم يدنُ. تصحّر خدّاي. اِحمرّ المشمش على خدّيْ الشّابّة. تخشّبتُ، ونثرتْ هي عليه في رصانة مخادعة ورد نظرتها الخجول فلم يجد من الرّبَك ما به يخصف على سرّه العاري ملء عينيّ.. كان يقف منّي قاب دهشة صفراء كفلاة تروّع حواسّي التي أُخِذت به الآن على غِرّة..

أكان جميلا أم الفقد يزيّن الأشياء في وقت بدل الضّائع للمباراة الخاسرة؟

كلاّ. لم يكن على حقّ.. وماذا يجدي الآن هذا؟ الحقيقة بيّنة لا لُبس فيها: ذهب ناصر معها، سقطت إثره في الغيبوبة، تسلّلتَ إلى خلوتي من حيث لا أعلم، تغيّرتُ معك ولأجلك ثمّ لم تأت.. أخلفت موعدك للّيلة الثالثة، ونُذِرتُ من جديد لوصلات الهجر المتكرّرة..

لمَ لمْ تجئ..؟

صرّت مفاصل السّرير تحت جسمها المتشنّج ينتفض أهوج مغمّسا في مائه والهاتف إلى جانبها يرنّ.. هرول إليها الطاقم الطبيّ. كانت بخير..

"ما الذي جدّ؟"

تزاحم على باب غرفتها كلّ الذين تردّدوا على أريكة سمعها متخفّفين من أوزار أسرارهم..

"هذه سكرات الموت"،

سمعت إحداهنّ تقول، ثمّ أجهشت بالعويل، وتعالت من جهات عدة زغاريد..

"هذا نهار مبارك.."

أشرعتْ عنوة عينيها..

كان الضّوء بهارا، والعوْد أحمد، والفرح أطباق حلوى مرصّفة على نحو شهيّ، والفوانيس المعلّقة إلى السّقف تأتلق رقصا وموسيقى..

مرهقة كمن يخرج من بئر غائرة غِبّ ليل أعمى، غادرتْ غرفتها. تأمّلت الفرحين بها نفَسا إثر نفَس تتحسّس الحفيف بأذنيها علّها تعرفه، فقد يكون جاء الآن على جناح العويل.. أو قد..

- تبدين مرهقة يا صغيرتي، هيّا عودي ونامي قليلا آخر. ينتظرك يوم حافل وطويل حبيبتي. ستكونين أجمل عروس.. وَرَرَرَيْ.. زغردن يا بنات..

كانت أمّها تأخذ بيدها إلى السّرير ثانية، وكانت بالكاد تستوعب أنّها رأت في المنام فيلما مقتبسا عن قصّة غدها التي بدت حقيقيّة، وأنّ هذا يوم زواجها من ناصر..

***

بسمة الشوالي - تونس

عبثًا حاول أن يجذب النوم إلى عينيه، صورة ابنته صغنونته حبيبته الابدية لم تترك فضاء للنوم. كلّ محاولاته ولّت سدى. في الماضي كان يعرف كيف يجذب ملك الكرى إلى عينيه، صحيح أن جلبَه هذا للنوم كان يحتاج إلى مجهود ما، إلا أنه كثيرًا ما كان يوفّق في مسعاه. أما في الحاضر المُرّ، في هذه الليلة تحديدًا، هذه الليلة المُرّة كالحنظل، فقد بات جاهلًا لا يعرف "وين الله حاطه". في البداية سحبت رفيقة دربه البساط من تحت قدميه ليجد نفسه بعيدًا عن أحبائه فيه، وها هي تبلغ ذروة تعذيبها له فتطرد ابنته الصغيرة من بيتهما المشترك في الامس، بيتها وحدها اليوم!!.

يُرسل نظرة حائرة مُمرّرًا إياها في جميع أنحاء غرفة الاستقبال. منذ وجد نفسه مُهجرًا ووحيدًا هو وكتبه وحاسوبه في شقته القصيّة القديمة، وهو ينام في هذه الغرفة. هجر تلك الغرفة التي كانت أيام عزّها، مخصّصة للنوم إلى جانب زوجته، بعد أن استقلت بشقتهما الجديدة، رافضة متابعة حياتها معه، كما هجر غرفة الاولاد، هو لا يتحمّل رؤية أسرّتهم فارغة فيها.

إحساس بالاختناق يجتاح حلقه، ما الذي يحدث معه؟ ترى أيكون مجرّد كابوس سيفيق منه ذات يوم ليواصل حياته مع اسرته، زوجته وابنائهما، مجدّدًا؟. احساسه هذا يحمله إلى الشبّاك المُطلّ على الاشجار المسترخية في عتمة الحديقة المحاذية لبيته، هناك يخيّم ظلام صامت. يُنعم النظر لعله يرى ما يتحرّك هناك في قلب الليل. ينتظر طويلًا إلا أن شيئًا لا يتحرّك. الليالي السابقة الطويلة، خلال ما يربو عن الخمسة أعوام، من البُعد القسري عن شقته الجديدة، وإقامته في هذه القديمة، علّمته أن الليل بهيم لا يفهم، وأنّ ما ينتظره من شعاع لا يبزغ.

يعود إلى سريره. ماذا تراه يفعل؟ ما يواجهه فوق طاقته. في الماضي البعيد، يوم جاء من حي الصفافرة إلى هذه الشقة في "نتسيرت عيليت"، للاقامة فيها، أحس أن امرًا جللًا سيحدث. كان حينها خائفًا على ابنه، ابن الخمسة أعوام، فربّما اختطفه مجنون ما، او ربّما دهسته سيارة عابرة "ولا على بالها". هو لم يُخفِ خوفه يومها على ابنته الصغير حبيبته الابدية، كانت آنذاك صغنونة تبتسم له فيبتسم العالم. بعدها مضت السنوات ليكتشف أن خوفه لم يكن في مكانه، وأنه كان ينبغي أن ينتبه لأن الخطر من مأمنه يأتي. لم يكن يتوقّع ولا في اسوأ تخيّلاته، أن يدخل عليه الخوف من باب زوجته حبيبته ورفيقة دربه خلال ثلاثة عقود من الزمن، غير أن هذا ما حصل. هو الآن، في هذا الليل، لا يريد أن يتذكّر الماضي، لا يريد بالمرّة، فالماضي بات وراءه، بنكباته المتلاحقة وخسائره الفادحة، وأمامه حاضر يحتاج إلى المزيد من الحذر، وإلا فإن الخسائر ستتواصل حتى تقضي على قلبه المُتعَب، وتُجهِز بالتالي على وجوده، فيعود إلى ظلام جاء منه.

" لا هذا لن يكون" قال وهو يشدّ يده على حديد الشباك.

لا، لا يمكن أن يكون. هو سيخرج بأقل ما يمكن من خسارة. الهزائم المتتالية منذ ولد، مهجرًا ابنًا لمهجّر، حتى كهولته اليوم، علّمته أن الشَجاعة صبر ساعة، وأن مَن يصبر أكثر تكون له الحظوة في مملكة الامل، لكن كيف يصبر وقد عَلم صباح اليوم، أن ابنته الصغنونة محبوبته الابدية، تقيم عند أختها، بعد أن طردتها والدتها من بيتها؟ كيف سيصبر وهو لا يعرف ماذا يفعل... كان آخر ما توقّعه، حين تلفن لابنته الكبرى صباح اليوم، أن تسأله عمّا إذا كان يريد أن يطمئنّ على شقيقتها الصغرى. لهذا كاد يُهيئ نفسه لنكبة جديدة، وسأل ماذا بها اختك؟ فردّت ابنته الكبرى، اعتقدت أنك تعرف ان أمي طردتها من البيت وهي عندي في بيتي منذ يومين. عندها فقط شعر بأنفاسه تعود إلى أنفه وفمه، غير أنه ما إن أعاد سماعة التلفون إلى مكانها حتى راح يتساءل عمّا يمكنه أن يفعل لإعادة ابنته إلى بيتها. في نهاية تساؤلاته كان لا بدّ من أن يقرّر: بما أنه ليس في البيت ولا يستطيع أن يقترب منه جراء تهديدات قاهرته.. رفيقة دربه بالشرطة والثبور وعظائم الامور، فإنه يترتب عليه أن يتوجّه إلى واحد من أقاربه، لكن مَن يمكن أن يكون هذا القريب؟ كلّهم ماتوا لم يتبقّ منهم إلا الاضعف، فهل يتوجّه إليه؟ أجل ليفعل وماذا بإمكانه أن ينتظر؟.. الغريق لا ينتظر ويفضّل أن يتعلّق بحبال الهوا. هكذا وجد نفسه يندفع في ساعات المساء باتجاه بيت قريب له. الطريق إلى هناك كانت طويلة، فقد كان يعرف تمام المعرفة أن أحدًا لن يُقدّم اليه يد المساعدة، وأنه سيبقى غارقًا في ظلامه إلى ما شاء الله، أو حتى تحصل معجزة في زمن لا يعرف المعجزات ولا يريد، ومع هذا غذ الخطى باتجاه بيت قريبه. أخيرًا وصل إلى هناك.. توقّف قُبالة باب البيت المُغلق، كان الباب يغرق في عتمته. لا، هو لن يطرق هذا الباب، فقد طرقه أكثر من مرّة في السابق ولم يُفتح له، فهل يضيف إلى تلك المرّات مرة أخرى جديدة تضاف إلى دفتر هزائمه؟ ليكن ما يكون. نعم ليُضف هزيمة أخرى بماذا سيضره هذا، وهو إذا لم يربح لن يخسر، وتقدّم من الباب. رفع يده لطرقه، غير أنه أحس باسترخاءٍ يسري في يده فأنزلها رويدًا رويدًا ومضى في عتمته، متجاوزا ذلك الباب، في محاولة للبحث عن باب آخر، ومضى في ظلامه، مضى يغذّ المسير. الابواب كلّها مغلقة أمامه فإلي أين يمضي؟ إلى أين؟ وانطلق في طريقه يمشي بسبعة أرجل، بعشرة، بألف.. بآلاف الارجل، إلى أن وصل إلى باب بيته، استخرج مِفتاحه من جيبه وفتح بابه. هذا هو الباب الوحيد الذي يُفتح له. كلّ الابواب الاخرى مغلقة "محدا وراها فاضي لحدا ولتمت انت في شجاك وحزنك". قال لنفسه وهو يردُّ بابَ شقته وراءه، ويتوجّه إلى سريره في غرفة الاستقبال ليستلقى هناك، بانتظارِ وسنٍ لا يأتي منذ أكثر من خمسة أعوام هي تاريخ تهجيره الثاني.

***

يرفع جسمه من على سريره في غرفة الاستقبال، يشعر بتثاقل ما، ينبذ ما يشعر به، يتوجّه نحو باب شقته القديمة، يخرج إلى الشارع. لقد أضمر أمرًا، هو لا يمكنه أن يقبل بهكذا وضع، وبات من الواضح له على الاقل أنه يوجد أمامه واحد من أمرين، فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا، هو لا يمكن أن يُسلّم بالخسارة كاملة، وهو يعي تمام الوعي أنه ما زال أمامه متسع من الوقت للمناورة، وحتى للمغامرة، وانطلق في طريقه راكضًا مثل سيف، كان الطريق أمامه طويلًا ممتدًا بلا نهاية، وكان يركض غير عابئ بالظلام أمامه، كان يريد أن يعمل أي شيء من أجل إعادة ابنته صغنونته محبوبته الابدية إلى بيتها. كان يركض ويركض وإلى جانبه.. يركض الليل.

***

قصة: ناجي ظاهر

أياد ناصعة

تزرع نرجسا

بنفسجا

واقحوانا

قرب مدارات

حقول الملح

والحنظل

وأياد شاحبة

تزرع شوكا

عوسجا

وحنظلا

وعنادل الشوق

المضيء تغرد

حزينة فوق

شجيرات الامل

المفقود وهداهد

اليوم الموعود

تتبدى من احلامها

غيوم بروق

رعود ومطر يسقي

مدارات حقول

الايايل والغزلان

المطاردة في السهول

في التلال وفي الحقول

وتمنح العصافير

والهداهد

والسنونوات

الباحثة عن ينابيع

الماء العقيقية

ا قيثارا

كرستاليا لتعزف

على اوتاره

لحن الغد المضيء

لحن حقول

الشوك والعوسج

والحنظل المحترقة

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

مَجْنُونَةٌ بِكَ يَا حَبِيبِي مِنْ زَمَنْ

هَلْ لِلْجُنُونِ بِلَيْلِ دُنْيَانَا ثَمَنْ ؟!!!

*

مَجْنُونَةٌ بِكَ وَالْجُنُونُ مُؤَصَّلٌ

حَتَّى يُوَارِيَنِي بِدُنْيَايَ الْكَفَنْ

*

مَجْنُونَةٌ بِهَوَاكَ يَا رُوحِي أَنَا

وَعَلَى هَوَانَا أَنْتَ - رُوحِي – الْمُؤْتَمَنْ

*

مَجْنُونَةٌ وَهَوَى الْأَمِيرِ بِقَلْبِهَا

يَحْيَى بِمُقْلَتِهَا عَلَى مَرِّ الزَّمَنْ

*

مَجْنُونَةٌ بِكَ فَارْحَمِ الْقَلْبَ الَّذِي

يَهْوَاكَ فِي صِدْقٍ وَأَنْتَ الْمُمْتَحَنْ

*

مَجْنُونَةٌ بِكَ فَارْتَقِبْ بَعْضَ الَّذِي

قَدْ زَارَ قَلْبِي مِنْ هَوَاكَ الْمُرْتَهَنْ

*

مَجْنُونَةٌ بِكَ في صَبَاحِي فِي الدُّجَى

قَدْ بِتُّ أَحْلُمُ أَنْ أَرَانَا فِي السَّكَنْ

*

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

صبابة

شُعلةُ الصّبِّ تاهت

في لهيب البٍعادٍ

قطرةٓ من حنينٍ

ضٓوّعَتً في الوِهادِ

والقطوفُ الدّواني

طيبُها في اعتدادِ

رانياتٌ لوعدٍ

قد مضى في عنادِ

حاملاتٌ بشهدٍ

حُلمها في ازديادِ

سائلاتٌ حيارىَ

في انتظار المرادِ

أين منًي نديمِي

شِيعتي واعتمادي

ألِعهدي وفاءٌ

يا عزيز الفؤادِ

أم تُراه سرابٌ

في غُمار السّهادِ

***

زهرة الحواشي

........................

في بحر الزهراء

فاعل فاعلاتن

فاعلن فاعلاتن .....

من: وميض الماء

قبل..

المدينة غارقة في دوامة الصخب حتى أذنيها. عقارب الساعة تعلن منتصف النهار وأنت مشدود إلى بيتك تحث الخطو وسط محيط من الأنفاس والعرق. الناس زرافات وفرادى وقد أخذ الإرهاق كل جهدهم..

فجأة جمحت صفارات عن أعنتها. وخزك صهيلها. انتشر في الشارع المزدحم عبر أقاليم جسدك كالبرق في الآفاق.. غمرتك قشعريرة وارتجفت كقصبة طرية طوقتها عاصفة هوجاء..

خلال..

حالت الأجساد وشما على الطرقات والأرصفة. خرست الألسنة واعتقلت أياديها وأكفها عن بكرة أبيها.. جحظت الأعين. لا حركة ولا جلبة. انتصب الناس كأصنام رومانية. غرقت المدينة في طوفان الصمت. لم تطق الصبر مقدار قطمير.. تساءلت مندهشا:

- يا إلهي ماذا حدث؟

ثم رددت بخفوت:

- كلهم كانوا يسيرون ويتكلمون. لماذا توقفوا كعرائس كراكوز؟

انطلقت تعدو بينهم لا تلوي على أحد. تجوس بين الأجساد المنتصبة كجذوع نخيل التهمتها نيران الغدر. وصرخت غائر الحيرة:

- يا إلهي هل وقعت الواقعة؟

لكزك أحدهم هامسا:

- قف يا مجنون وإلا ثكلتك أمك؟

- ولماذا الوقوف والصمت والثكل يا صنم؟

- قف وإلا أكلتك دودة المعتقل بتهمة الخيانة العظمى. قف واصمت دقيقة واحدة تضامنا مع إخواننا في فسطلين، تنديدا بجرائم آل صهيون؟

- بل فلسطين يا صنم؟

تدفق نهر الأسى هادرا إلى قرار الروح وسويداء القلب ,,قلت بحرقة وسأم:

- أعوذ بالله من شر الصمت والوقوف.. دقيقة واحدة ثم ينصرف كل منا إلى كهفه.. أعوذ بالله.. لن أصمت ولن أقف ولو ثانية واحدة. إلى متى الصمت والوقوف؟ إنهما يمتدان من غرناطة إلى القدس إلى بغداد. كفانا، كفانا، كفا نا، كفانا ااااا.

ثم صرخت والألم ينخر كيانك:

- أيها الناس، احرقوا الصمت والوقوف، تحركوا، تطهّروا من الزيف.

لكن أحدا لم يأبه لصرختك المدوية التي زلزلت الأجداث. لم يشعروا بوجودك قط ,,تاهت صرختك في قيعة السراب. أعدت الكرة وزرعتها سيوفا في راحتيك وطفقت تدفعهم بكل قواك وعزائمك الملتهبة ولسان حالك يردد:

- تحركوا شبرا، مترا، لا تقفوا كالتماثيل، لا تصمتوا كالأموات. هذا ليس زمن الصمت يا أشباه البشر، تحركوا ,تحركوا..

لكنهم واصلوا طقوس الصمت في براري ليس لها حدود كما لو كانت شريعة سماوية.

همست مصعوقا:

- مابهم لا يجيبون ولا يتحركون.. يا إلهي هل تبرأت منهم أسماعهم وأبصارهم؟

اتسعت جراحك وتعمقت، وانزرعت في أثلامها واحات الملح، وأشواك الأسى. اضطرم غضبك، واشتدت عواصف غضبك. تمنيت لو أنك تملك مدية يمنية، أو سيفا عمريّا، أو كنانة معبأة بنبال أمازيغية، وددت لو تحصد تلك الرؤوس المشرئبة نحو هوة العدم. ضربت الأرض بقدميك لعلها تميد بهم، ودعوت الله بقلب سليم أن يدك الجبال على رؤوسهم، أو يحيلها حجارة من سجيل فتجعلهم كعصف مأكول؟؟

طوفت بين الأجساد المتصنّمة. أدركت أنهم فقدوا نعمة الإحساس. عقولهم متيمة إلى المجهول وهم منتصبون كأعمدة نخرة. لمحت امرأة عارية كاسية كأنها مومياء فرعونية. ثم ذ كرا ملتصقا على شفا حفرة نتنة يكاد يكب على وجهه ومنخريه. ازدادت سراديب روحك غثيانا. انحنيت وتقيأت وأوشكت أمعاؤك تنزلق من حلقك المبحوح. تعوذت ولعنت الشيطان الرجيم.

أحسست أن الدقيقة تناسلت. بدأت الأجساد تفقد ستائرها رويدا رويدا. بدا منظرها سخيفا طأطأت رأسك خجلا , خشيت أن يصيبك مس من هول المنظر. حوقلت وتعوذت. كانت الأجساد المسمرة تنحف وتتقزم. حدست أن وحشا خرافيا خفيا ينوش لحومها ويرتشف دماءها. رمقت العيون الجاحظة تنكمش وتضيق، والمقل تتخلى عن ألوانها وبريقها. جسست جسدك وأنت ترتجف. وددت لو رأيت سحنتك في مرآة مصقولة..

تأوهت ثم ابتلعت ريقك كمن نجا بأعجوبة من طلقة طائشة. رددت مستغربا لاهثا:

- يا إلهي، ألم يشعروا بما أصابهم؟ لقد صاروا عرايا. متى يتحركون؟ إنهم يصغرون، يذوبون كقطع الثلج أدركتها شمس حارقة. متى، متى؟

استمررت تسعى بينهم. أقزاما كانوا وكنت عملاقا. صرخت للمرة الألف:

ما بكم كأعواد غابة مندثرة.. تحركوا.. كفى صمتا ووقوفا.. لن تفلحوا أبدا ولو وقفتم الدهر كله. هزائمكم تكبر وتتمطى فوق صدوركم في كل ثانية.. ستتراكم على هاماتكم وأنوفكم حتى تصبح طودا باذخا..

لم يحركوا طرفا. أصروا على الوقوف والصمت.ضرب الدهر على أسماعهم. طارت من جوانحهم أفئدتهم فهم كالحجارة أو أشد.. تقززت نفسك وقهقهت كالمجنون.. ازدادت الأجساد نحافة واصفرارا.. بدأت الشعور تنسل وتتطاير في مهب الريح.. كدت تقع أرضا.مررت أناملك بين خصلات شعرك. أطلقت زفرة حتى ضاق صدرك..

ثم راحت الأظافر تهجر أصابعها , وتتناثر حانقة، رافضة البقاء بين أحضان الأيادي المشلولة..

نظرت إلى أظافرك وقلبت كفيك على جميع الجهات.. غلبك الغثيان كرة أخرى.أيقنت أنك وحيد وسط أكوام من أجساد بلا شعور ولا أظافر. هتفت بتبرم وملل:

- أما آن لكم أن تتحركوا وتضجوا، آه لو ترون صوركم. ستفرون منها تحركوا قبل انقراضكم، تحركوا.. تحرّكوا.

لكن هيهات، كل ما فيهم جمد وهرم وصدأ.. تساقط اللحم. تعرت العظام.تراءت الأجساد هياكل بلا لحم ولا شحم ولا دم. ارتعت وتفحصت جسدك..

توشّحت المدينة السواد وملأت العفونة السبل والأرصفة. غزت الديدان فتات الأجساد.. أطلقت ساقيك للريح بعيدا عن جحافل الدود. خشيت أن تحسبك منهم فتلتهمك وأنت حي ترزق. انزويت في ركن غير مصدق بعدما حاصرتك كتائب الدود من كل ناحية.

بعد..

اخترق رنين الصفارات أسوار الصمت. دبت الديدان مسرعة نحو جحورها.لم تعد المدينة كسيرتها الأولى. تغير لونها. كأنها مقبرة من أيام عاد وثمود وإرم ذات العماد.وفجأة تهاوت الهياكل العظمية وتبعثرت، اقتلعتك الدهشة من فزع المكان، ووليت هاربا.

{ تمـــــــت }

***

قصة قصيرة:

بقلم الناقد و الروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

سُئلت في مرة عن مصدر إلهامي في الكتابة أربكني السؤال فأجبت وبصورة عفوية: لا أدري!

و أنا فعلاً لا أدري ولا أستطيع تحديد مصدر أو مصادر معينة فما أن أبدأ الكتابة تتدفق الأفكار في رأسي بشكل تلقائي دون إختيار مني وبمحفزات لانهائية.

لسبب ما أجدني في كثير من الأحيان سجينة مرحلة معينة من حياتي وتكاد تستحوذ على جزء كبير من ذاكرتي ولا أعلم لماذا رغم أني أعتقد أن مرحلة النضوج هي المرحلة الأكثر سعادة أو على الاقل إستقراراً ولعل هنا تكمن الإجابة، أن إستقراري رتيب مقارنة بمرحلة الطفولة والمراهقة.

أو ربما هي ذكرى ما أو مشاعر ما عالقة في قلبي ولا سبيل لتحررها بعد. وكأني الآن وبعد أن هدأت عواصفي أعيد كتابة الماضي بسعادته وقسوته.

المرحلة الإبتدائية تعد نقطة فاصلة كنت دائماً إبنة أخت المديرة المدللة المجتهدة ذات الشخصية القوية والحضور الطاغي التي تقول ماتريد دون خوف من العقاب أو الضرب لكن على كل المزايا التي حظيت بها إلا أن لكل نعمة عواقب كان الجميع بشكك بتواطؤ المعلمات وعدم إنصافهن في منحي الدرجات الكاملة في جميع المواد الدراسية ولم ينسب لي أحد الجهد الذي أبذله في الدراسة..

بحكم صلة الدم بيني وبين المديرة عوملت بشكل خاص وبتمييز طبقي ومنحت حصانة مطلقة وبالطبع أسأت إستخدامها.

لا أذكر أني تناولت الفطور أو الغداء مع الطالبات كنت أتناول فطوري في الإدارة وعلى كرسي المديرة وأطلب عصير البرتقال أو الشاي بالحليب من المربية لم أقف في طابور مقصف المدرسة لأشتري لوح شوكولاتة أو تسالي بل كانت هناك قائمة مشتروات معدة مسبقاً وأصناف رفعت على رفٍ بعيد عن متناول البنات خصصت لي، كذلك لم أحمل في جيبي مصروف كنت أدخل المقصف من الباب الخلفي أنا  بكبرياء طفلة مدللة حد الإزعاج تطلب من المحاسبة وضع المبلغ على الحساب لتدفعه والدتي أو خالتي لاحقاً،  أنظر بإستعلاء لتلك الحرب الطاحنة وأعمال الشغب بين البنات خلف القضبان الحديدية للنافذة  يتدافعن بكل ما أوتين من قوة للوصول  يمددن نقوداً مهترئة لشراء فطائر جبن أو حلوى أو أي شيء يسكت جوعهن قبل انتهاء الربع ساعة..

لم أتخيل مطلقاً أن يكون لي من في يوم من الأيام من تلك المعاناة البروليتارية نصيب..

ثم حصل مالم أتوقع، انتقلت خالتي إلى مدينة جدة وبقيت أنا وحدي أقاسي خطط الإنتقام مع سبق الإصرار والترصد من المعلمات والطالبات على حدٍ سواء لم أقوى إحتمال إختلاف المعاملة وفقدان الإمتيازات فانتقلت بدوري إلى مدرسة الإسكان العسكري وهناك شعرت ولأول مرة أني مثلي مثل أي طالبة أخرى بلا إمتيازات بلا حماية تفاجأت أن ذلك الشعور أراحني ومنحني حرية كبيرة ربما كانت الإستقلالية أو المسؤولية لا أدري..

صار علي أن أنسى فتاة المدينة المدللة وأعتاد على القسوة والجفاف والإنسجام مع بنات المدرسة في السكن اللاواتي كن عبارة عن جنود تخرجوا للتو من دورة الصاعقة الحربية أكثر من كونهن فتيات في مدرسة إبتدائية كان كل شيئاً عنيفاً  حتى ألعابهن غريبة إحدى تلك الألعاب في الساحة في فترة الفسحة أن ننقسم إلى ثلاث مجموعات لكل مجموعة قائدة أسميناها "ضابط" وعلى الضابط أن تربط أقدام فريقها ببعض ليبدأ سباق بالقفز ومن تقع وتتسبب بوقوع فريقها تربط معصوبة العينين على إحدى الأعمدة حتى نهاية فترة الفسحة سبق أن تم ربطي في عمود ونسوني حتى مرور ساعه بعد فترة الفسحة تحت الشمس عندما سألت المعلمة عني أخبرتها صديقتي نسيناها مربوطة على العمود في الساحة، حررتني المعلمة وأنا مصابة بالإعياء من ضربة الشمس وعوقبنا بشدة يومها

وبالطبع خجلت من إخبارهن عن إمتيازاتي القديمة كتاريخ مشين تمنيت طمسه لأنه بالنسبة إليهن ترف معيب ولا لزوم له.. لم يكن لديهن إعتراف بالفسحة للأكل نأكل أي شيء بشكل سريع ليعطينا طاقة للعب فقط بل أن من تأكل كثيراً تعد فتاة سمينة كسولة منبوذة مما أثر على علاقتي بالأكل لفترة طويلة بسبب هذه القناعات السيئة.

أذكر في مرة دخلت سحلية في حديقة المدرسة وركضت خلفها مالا يقل عن عشرين طالبة أخرجوها من كل جحر حاولت الإختباء فيه تحاول بيأس الهروب كان يبدو عليها الخوف الشديد وأدركت أن الغريزة الطبيعية للبقاء والدفاعات الحسية لاتجدي نفعاً، كنا نركض وتركض المديرة خلفنا وهي تصرخ  "اتركوها بحالها يا جن  "حينها علمت أن النحس لايصيب البشر فقط وأن حظ تلك السحلية الغلبانه أوقعها بيننا.

أما باص المدرسة فقد كان حكاية أخرى نفرغ فيه ماتبقى من طاقة شيطانية حتى نصل لبيوتنا ،بحكم أننا كنا في سكن عسكري فسائقي الباصات كانوا من الجنود في القوات المسلحة كذلك وسائق باص منطقتنا كان الأتعس حظاً بعد السحلية كان نحيف البنية ناعس العينين شاحب اللون على الدوام بملامح طبيعية توحي بنعمة البلادة تجاه كل مصيبة يراها أذقناه ألوان العذاب ، تمد إحدانا يدها لتدغدغه في خصره وترش الأخرى الماء على رقبه،عند كل مطب نقف جميعنا ونصيح "النطة النطة النطة" ثم نلقي بأجسادنا على المقاعد بقوة ، نفك الأحزمة ونربط خصرنا ونرقص والفرقة العازفة معروفات بآداء عملهن على أكمل وجه في كل رحلة نضع جميع الحقائب في مقدمة الرف العلوي كي تقع على رأسه مع كل "فرامل" ولايعطي أي ردة فعل على الإطلاق أعتقد أنه كان "قناص" في الجيش من المستحيل لشخص عادي أن يمتلك تلك الدرجة من الصبر ولأنه لم يكن يصرخ أو يوبخ أو يغضب أو يقول أي شيء أسميناه "دايخ"، كان مسؤولاً عن سلامتنا فطلب من المديرة رفع خطاب لإحضار مساعد له يراقبنا فقط وعذبناه هو الآخر وأسميناه "سرحان" المحزن أني لازلت للآن لا أعلم أسمائهم الحقيقية!!!!

 في حصة التربية الفنية درسنا صناعة أواني فخارية بعجينة السيراميك وفي الصرفة جلست على أرضية الباص جمعت العجين الخاص بي وبصديقاتي وفردته بالفرّادة الخشبية لمد العجين وما أن عبرنا إحدى البوابات أخرجت نفسي من النافذة وألقيت العجينة على وجه الجندي المناوب على البوابة أوقف الباص وأحضر عصا وراح يصرخ بنا من شدة الرعب إختبئنا تحت الكراسي ثم جرني "سرحان" من تحت الكرسي وأوشى بي وقال أنه سيرسل خطاب لوالدي بالعمل لكن مسألة إرسال الخطاب أخذت وقت لعدم إستطاعتهم التعرف على هويتي الحقيقية كون أن إسمي الحركي في الباص هو "فاطمة خميّس" ولاتناديني أي طالبة بإسمي الحقيقي لهذا إعتقد دايخ وسرحان أني فاطمة ولست لمى..

ثم انتقمت من سرحان قبل نزولي لحارتنا جررت القبعة العسكرية التي يرتديها وألقيتها في الباحة الترابية لينزل خلفي يركض حتى دخلت البيت وأغلقت الباب وتسترت علي جدتي رحمها الله ومن جديد لم يتوصل إلى والد فاطمة خميس ..

لم آخذ فترة طويلة حتى تأقلمت بشكل أكثر من المطلوب وكونت شلة ترأست زعماتها لسبعة سنوات، من أعضاء الشلة صديقتي المقربة اسمها روان التي إستغرب الجميع صداقتنا القوية والعميقة رغم الإختلاف الصارخ في الشخصيات هي هادئة مؤدبة طالبة مثالية على جميع الأصعدة جميلة جداً تشبه الشخصيات الكرتونية طويلة رشيقة بيضاء تملك شعر طويل ناعم كثيف حالك السواد وعينين سوداوين بسواد لايخترقه ضوء وكأن تلك الطفلة لم تخلق من رحم وأنزلت مباشرة من السماء في ليلة معتمة إمتصت من الفضاء سواده وسحره..

على الرغم من تفوقي وإجتهادي إلا أني كنت أعد بعض البراشيم قبل الإمتحانات لمساعدة صديقاتي وتفننت في إخفاؤها وفي إمتحان الجغرافيا برشمت خريطة قارة آسيا وفي وسط الإمتحان مررت البرشام لصديقتي روان 

و لأنها لم تنتبه للمشرفة قبضت عليها متلبسة بالبرشام بيدها  وسحبتها على الإدارة في جلسات لانهائية من التحقيق يردن منها الإعتراف أن البرشام كان لي وأنا من مررته لها بالرغم من الضرب والتهديد وإنذار الفصل وإستدعاء والدتها رفضت الإعتراف حتى عندما ترجيتها أن تقول الحقيقة كانت تتمتع بقوة نفسية وعاطفية جبارة مشابهه لقوة عميل مخابرات وجاسوس عالي المستوى لايستسلم تحت التعذيب مما زاد تعلقي بها وبالرغبة من تسخير كل سيطرتي وقوتي لحمايتها من كل شيء بعد ذلك والإنتقام لاحقاً من تلك المشرفة ومساعدة المديرة على العذاب الذي عاشته بسببهما.

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

دَمٌ على الطَّفِّ أمْ نبضٌ منَ الألَقِ

فكلُّ ذرّةِ رَمْلٍ .. فيهِ  مُحْتَرَقي

*

وكلُّ  قَطْرةِ  ماءٍ  في مَسَارِبِهَا

دَمْعٌ جَرَىْ غُصَّةً مِنْ عَيْنِها الْوَدِقِ

*

فكَمْ تقِيٍّ هَوَىْ ما بَيْنَ مِرْجَلِها

مُقَدَّسٌ مِنْ سَلِيْلِ الطاهرِ العَبِقِ

*

وقفْتُ أسألُ أرضَ الطَّفِّ فانْتَفَضَتْ:

دمُ الْغَوالي، عَلَى وَجْهِي، وَفي رَمَقي

*

مرَّتْ على ساحتي خيلٌ وساريةٌ

ومرَّ كلُّ بَغِيٍّ، فاسِقٍ، خَرِقِ

*

تَشَابَكَ الْقَومُ فاشْتدّتْ ملاحِمُهُمْ

نَواصِيُ الْخَيرِ، في صنّاجةِ النزَقِ

*

وقَفْتُ أنظرُ في الْآفاقِ مُقتفيّاً

ريحَ الحسينِ بإشْراقٍ وبالمَلَقِ*

*

ناديْـتُـهُ، وعروقُ القلبِ في لَهَـبٍ

والنارُ في أضلعي والجَمْرُ في حَدَقي

*

يا سيّدَ الطفِّ، يا مَنْ في مقاتلِكمْ

قد زُلزلَ الكونُ زلزالاً، ولم يُفِقِ

*

سِفرَ الشهادةِ، إنّي صوبَ مَنهلِكُمْ

شددْتُ أوردتي خيلاً  لمُنطلَقي

*

حتى أتاني بشيرُ النَهْلِ مُصطحِباً

بدراً تماماً سقاني عَذْبَ مُندَفِقِ

*

وشـعَّ مِـنْ وجهِـهِ نـورٌ لِـيغـمـرَني

فكنْتَ أنتَ سراجي غامراً غَسَقي

*

يا سيدي يا إمامَ السائرينَ هُدىً

كي يقتفوا أثراً من دربِكَ الغَدِقِ

*

ملأتَهُ بهُدىً مِنْ طِيْبِ منبتِكُمْ

لا خاشياً سيفَهمْ أو حومةَ الفِرَقِ

*

بئسَ الذينَ تبارَوا في مذابحِكُمْ

فأصـبحُوا لعنةً، في شَـرِّ مُنزلَقِ

*

يا قِبلةَ الحقِّ والأفلاكُ في رَهَبٍ

ملائكٌ حولَكُمْ بالنجمِ والفَلَقِ

*

الطُهرُ في بيتِكمْ آياتُ سيرتِكُمْ

فعمَّ في الناسِ عِطراً فائحَ العَبَقِ

*

يا ابنَ الذينَ أشـاعُوا مِنْ منـاقبِهِمْ

الزهدَ في سيرةٍ والجُودَ في الخُلُقِ

*

وابنَ النبيِّ الذي تسمو كواكبُهُ

وحيدرٍ ومِنَ (الدُريِّ في الغَسَقِ)*

*

أنا ابنُ بيتِ وليٍّ ... كلُّهُ غَضَبٌ

مِنْ أولِ الشَبِّ حتى آخِرِ الرَمَقِ

*

لِما لقِيْتَ، وما لاقَتْ مَحارِمُكمْ

منْ غلَّةِ الحقدِ والنكباءِ والحُرَقِ

*

أنا ابنُ مَنْ شرّعوا جَمْعاً، ومِنْ وَلَهٍ

بأهلِ مَنْ طُهِّروا، عَهْداً وفي العُنُقِ

*

قد أسلمُوا لطريقِ الحقِّ رايتَهُمْ

فكانَ صـوتُ نِداكمْ خيرَ مُعتَنَقِ

*

ساروا على هَديِكمْ، والطَفُّ سائقُهُمْ

فاستنشقوا ريحةَ الفردوسِ في الطُرُقِ

***

شعر: عبد الستار نورعلي

الأحد 30 تموز 2023

.....................

* الدُريّ في الغَسَقِ: أي الكوكب الدُريّ المُشِعّ في الظلام. وهنا كناية عن فاطمة الزهراء عليها السلام.

* المَلَق: التضرُّع والدعاء

كان أبي يُحبّ العتمة

ما إنْ يأتي الليل

حتى يطردَ مصابيح البيت إلى الشارع

هناك تنام متدثّرةً بالأعشاب

وتقتاتُ من قمامة النجوم السائبة

**

ولأني أتنفّس الضوء بأصابعي

لم أنمْ في جيوب أبي

متذرعاً بخوفي مما فيها من الأحراج

والأشجار التي تزأرُ طوال الليل

بل كنتُ ككل الأطفال

أنامُ داخل جلدي الشفيف كالزجاج

لذلك كنت أتعاطفُ مع المصابيح المطرودة

فأتخلى لها عن صحون عشائي

وأخفيها تحت لحافي

كي لا تُصاب بنزلة برد

**

كبرتُ من دون أن أستأذن أبي

فقد كان قد مات

وصار أبنائي وأحفادي يُغنوني عن المصابيح

عندئذٍ عرفتُ سِرَّ الظلمة في حياة أبي

إذ ما حاجته للضياء

ما دام قلبُهُ مولّدةَ طاقة

يُزوّدُ منها أبناءَهُ بالأمل

***

شعر: ليث الصندوق

ترددتُ كثيرا، قبل أن آخذها منه، بأصابع وجلة. فعل ذلك ببساطة، كما لو أني معتادة. لكني في الحقيقة لم أعرف كيف أمسكها وكيف أضعها في فمي، وكيف سأنفث الدخان. والأسوأ من هذا كله، أين سأدير وجهي، بعيدا عن مجموعة الشباب عن يميني، والرجل مع زوجته عن يساري، والرجل الكهل قبالتي. ثم كيف أستطيع طرد صورة أبي التي نطتْ في رأسي، ما إن استقرت سيگارة الكنت بين أصابعي؟

ببساطة اشعل ولاعته، مشيراً لي كي أقترب.

ثمة صوت ما في أعماقي قال له: شكرا.. أنا لا أدخن، لاسيما في الأماكن العامة! أنا في الحقيقة أخجل كثيرا.. عذرا.. إحتفظ بسجائرك، أنا لستُ مهتمة وليس لديّ شغف بتجربة التدخين.

لكن ذلك الصوت ظل يتأرجح خامدا ولم يبرح الأعماق، حيث تصول الأفكار وتجول.

قربت وجهي من ولاعته والسيجارة في فمي. لاح لهب النار طرف أنفي بخفة، ثم انطفأ فيما توهجت السيجارة، والتمع جمرها ببهاء.

بطرف عيني أردت معرفة ماذا ستقول عيون المحيطين بي، فعلتُ ذلك وأنا أسحبُ نفساً تسبّب لي بعدّة سعلات. إتسعت حدقتا عينيه وهو يقدم لي كأس ماء. فيما رحت أبحث خجلة عن انطباع ما في وجهه.

سيقولُ أني بسيطة وغرّة. عبثا بحثت عما يؤكد ظني، لكنه كان هادئا، ينفث الدخان بثبات ويتحدث عن صديقه في زمنٍ ما. يا إلهي، في مرآة النافذة رأيت وجهي، كنت كمن يشرب قدح عصير! هذا ليس تدخيناً!

أنا مضحكة!

أخرجت السيجارة من فمي وفركتُها في المنفضة، ثم آه.. يا للهول! كنت أمسك السيجارة وهي بلا جمرة.. لقد انطفأت دون أنتبه!

نظرتُ مجدداً إلى وجهه الساكن، ثمة ابتسامة تلوح في ملامحه. لقد اكتشف أني ساذجة! وفي منزله، سيتذكر ويضحك كثيرا، يضحك حتى الإعياء.. قلتُ بألم:

-تظن هذا مضحكاً؟! ها !

-‏ماهو؟

-‏أنت تعرف!

-‏لا.. لا أعرف.. ماذا هناك؟

-‏بخصوص السيگارة.

-‏أهااا.. هههه.. لا تهتمي.. كثيرون يمسكون السيگارة بالمقلوب!

***

قصة قصيرة

تماضر كريم

هو يقرأ صمت المناخات،

يلمح سرّ اجنّتها، يتوازن

فوق جذور الحقيقة.. والكشف،

يلبس وجه البلاد العريضة،

يمتدّ مملكة وقرارا

عينه

وقفة الحبّ في شرفات العذارى

وجهه اخضرُ

قلبه اخضرُ

ويداه القرى المستفيضة بالرمز، والشعر،

رغم رمال الصحارى

والخطى.. خطوة..

خطوة

في امتداد الفصولْ

ترتقي سلّما

لا تطيق انتظارا

*

بطراوته

تتألق فيه السماوات

تمنح فضتها للقمر

وتفيض نخيلا.. ضياء.. وماء

تستفيق العصافير شادية:

عشش الشوق بين (السوابيط)

ينضح في أوجه العاشقين

عسل التمر، واللبن الحلو، والياسمين

مرة صاح بي:

كيف تمضي لغير النخيلْ

العناوين فارغة

فاقترب:

أنني تائه ٌ...ودليلْ

واقتربتُ أواصل وجدي المعطّر

ثم انحنيتُ

على أضلع الأرض – مستذكرا –

هذه الأرض تفصح عن نفسها

بامتلاء الجلال

والخصاصيف.. والخضرة النابتة

والجواخين والـ.....

لم تكن قطعة من حجر

أنها سرّ أفراح كل البشر

هذه الأرض قامتها

شجر تضفر الشمس أوراقه

يرفض الانحناء

*

قال لي:

أترى وجهك الآن في رجفة العشب

في النهر.. قد غصّ بالذكريات ْ..؟

شفة الأمس لا... لم تكن صامتة

كنت منتظرا أن أراك

- ثم لوّح لي -

للحقيقة.. في راحتيك ندى الصبح

بلّل درب الحكايات، أجنحة للزمان

استرح:

نتقاسم بوح الفوانيس، دخانها

- واسترحت على جذع نخل قديم -

تحدّثْ عن الأمس ..

عن رحلة العمر أبّهة، ومكان

سيدي

أمس كنّا هنا

مالنا غير حبّ نبيلْ

لم نزل في الطفولة،

نأخذ عدّتنا

- الحصير..

إناء

وأباريق شاي، وثرثرة في النفوس

نقتفي خطوات الرجال

يجمع البعض مناّ الحطبْ

من بقايا النخيلْ

ثم نجلسُ

تحت ظلال الشجرْ

البراعم تبدأ رحلتها

نشعل النار، اقصد يا سيدي

نضرم النار في بهجة،ليس فينا تعبْ

نغسل الوقت

نلبس طعم الثمرْ

نحتسي الشاي في فرح ونغني:

(بصرتنا ما عذبت محبْ

واحنا العشق عذّبنا)

ويلفّ الصدى

نكهة الصدق

خلف أريج الشموسْ

في المياه

نمسح التعب الحلو،

عن فم الأرجل الناعمة

ونقول إلى الأرض:-

اقترحي العمر.. تزدهر الرغباتْ

*

- والتفتُ لكلّ الجهاتْ -

آه أرجوك معذرة

دع تفاصيل عمري على الطرقات

وقصائد حبي  ونورستي

وصدى الصوت يوم الخميس

دع على معطف الأمس محبوبتي

وهي تمضي إلى صفها في (رفح)

والملابس مرشوشة بالحنين

دع غبار الطباشير بين اليدين

وبقايا الدفاتر والواجب المدرسي

دع على السطح ساهرة نجمة حانية

وبراءة – عبد – وضحكته الصافية

دع أحاديث كل الغصون

وتفاسير أمي.. أبي

لمعنى الهدوء السكون

دع لسنّارتي  سمكا

دع على فمي الأغنية

دع منابت قوس قزح

ومواضيع خير جليس

دع هنا الكلمات

ما مضى

ظلّ حقّا

يمدّ الحياة

بالهوى.. والجنون

آه لم يبق غير التوغّل بالأصدقاء

لأضيع بغابات أيامهم

أصدقاء

كلهم رحلوا في غبار السنين

واحدا.. واحدا.. واحدا

لم أزل أبدا

اذكر الآن أسماءهم

افرش الوهم دربا

اقطع حبل الجفا

أنهم أخوتي

... ... ...

بيننا ألف باب وباب

يتناسل بالحبّ

يكتب فوق الخيال

قصة الأمس.. صحوته الحالمة

*

يا صديق الخصوبة.. والشعر.. والفقراء

في بساتين روحي

الطفولة أتعبها الانتظار

ها هو الدمع قد غصّ في المقلتين

لا أطيق التحدّث،

اغرق في شهقة الحلم، أوغل، أوغل

احلف باسمك أنت الخصيب

لا أطيق التحدّث

- أنّ المحبة دين -

ليس يجدي التحدثّ لا...

فجأة

تلفت نحوي كئيب

مدّ لي يده باكيا

قائلا:

نتقابل ثانية

........ ثمّ غابْ

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

تائه في جسدك

الفضفاض

كالبحر  تماما

و حزنك ينضج ببطء

على وجهك

صمتك ينام بهدوء

في مهده

و كلماتك لم يؤذن

لها بعد

و انت كالبحر تماما

لا تعرف ما وراءك

هل هو  العدو

ام العدو

تشعر بالدوار من جنونك

و حين تهدأ عواصفك

و يعود الهدوء الى نبضك

لا تتذكر عدد المفقودين

في داخلك

و لا عدد العابرين من فوقك

و انت كالبحر ايضا

تسلم أوراقك  لضجيج

الرياح لتأخذك

لمدن

اعتادت على غربتها

تقرأ حضاراتها السابقة

في عيون ينتشر فيها الضباب

فتعيد كالبحر تماما  تلميع

الاسماء

المحفورة على جدران القلب

فتغرق  في وحل

الذاكرة

و كالبحر أيضا

عليك ان تقدم اعتذارات مطولة

لكل من لم يجد اسمه

داخل  قصيدتك

و لكل من لم يجد لونا

يشبه لونه داخل عينيك

و عليك ان تقدم اعتذارات

لكل  من  عبر  من دمك

واخذ معه قطعة ثمينة

من وقتك

و  لكل من مر

فوق ملامحك

و سحب

بريق الندى من وجهك

وعليك   ان توزع الحنين

بالتساوي على الغايبين

و الحاضرين

حتى لا تغادر إسمك

و حتى

تدخل كلماتك

معابدهم

و هي في كامل طهارتها

و أنت كالبحر

لا تعرف كم نمت

داخل قوقعتك  وتلك الاغنية

التي كنت تدندن بها

لا تعرف إن  كانت صوتك حقا

ام صدى صوتك

و انت كالبحر

لا تعرف كيف

تهدئ روع الزمن المحترق

سوى بأن تشاركه الاحتراق

وانت لا تعرف ان العدم

يلد صغاره بلا كينونة

وعندما يكبرون

يمسكون  عليك فجرك الاشقر

فلا يستيقظ

وانت لا تعرف كيف تنام

وانت مكتظ بالاحلام

وانت لا تعرف كيف

تبتلع صمتك

رشفة بعد رجفة

وفي كل مرة تعود من نافذة

الكلام بعصفور جريح

ولا تتذكر كيف

سقط من اليقين

سهوا

فيدركك الضجر

قبل ان تتم صلاتك..

***

بقلم: وفاء كريم

لم يبق أمامه إلا زاوية تبدو صغيرة، لكنها كبيرة جدا بالنسبة إليه، بات يمارس طقوس أفكاره أملا بتحقيق ما يصبو إليه.

لم تعد تستهويه حكاية الجلسات الخاصة بمنصات التواصل، ولا متابعة الفضائيات التابعة للأحزاب والمؤسسات، ولا ما يتم نشره في مساحات التواصل كالفيسبوك، أومأ شابه، ما يشغله هذه الأيام هو أن يستكمل كتاب محاضراته الخاصة بموضوعات علم النفس والمجتمع، بعيدا عن صخب المجاملات، والمناقشات الفارغة.

استحضر فكرة احتفظ ببعض مقدماتها، ليستكمل تفاصيلها لاحقا تحت عناوين العقل، والنفس، والحياة.

تحققت معه نفحة الأمل الذي صار به يستنجد، عبر استئناف ما رسم له من خطوات، فهي الأستاذة والعالمة التي أمسى من خلالها يجيد لغة البحث، وهي المعلمة التي بناء على أفكارها غدا أكثر قدرة على مزاولة النظر في تفاصيل جديدة.

***

عقيل العبود

عيدٌ وأنغامٌ وجوٌّ ساحرُ

وأنا وأنتِ مشاعرٌ تتناثرُ

*

قلبي وقلبُكِ يخفقانِ صبابةً

لا تحرمي قلبي فإنِّي شاعرُ

*

آليتُ أن أمضي بدربِكِ مولعًا

طالَ النوى؛ لكنَّ وجهَكِ ناضرُ

*

وأنا المتيمُ في هواكِ تحبّبًا

ما زالَ يأسرُنِي النشيدُ العاطرُ

*

لا تحسبي قلبي أحبك غفلةً

فلقد أتانِي منكِ طيفٌ عابرُ

*

غنِّي معي، فحمائمِي جذلى وقلـ

بِي مذْ رآكِ محابرٌ ودفاترُ

*

ناديتُ باسمِكِ غيرَ مكترثٍ بما

حولي، فمذْ  أحببتُ فيكِ أجاهر

*

لا خائفٌ ممن يلومُ، وحاسدي

قهرًا يموتُ، وعاذلي يتصاغرُ

*

بالأمس كنّا طائرينِ وفوقَنا

سربُ الحمائمِ  عائدٌ ومسافرُ

*

شغفي بهذا الوجدِ يعلو حدَّهُ

هل يعلمُ السمارُ أنَّهُ  حاضرُ

*

قلبي تعلّقَ في هواكِ ولم يكنْ

من قبلُ قد أغواهُ  بدرٌ باهرُ

*

يا طلعةَ البدرِ المنيرِ، و نفحةَ  الـ

أسحارِ  إنّي مذْ عرفتُكِ ساهرُ

*

أناَ في أثيرِ الحبِّ أمضي  سائرًا

وعلى حطامِ الذكرياتِ أناورُ

*

أنا ملتقى الآمال ما بَقِيَ الهوى

صوتي انطوى في الأرضِ وهي أزاهرُ

*

كلُّ القوافي قد أتتكَ مطيعةً

في دوحةِ الأشواقِ يهدل طائرُ

*

ابدا احبك ما حييت وكيف لي

احيا؟! وحبي  في شحوبي ظاهر

***

د. جاسم الخالدي

خلت ما حدث نزوة مع القادمين إلى من البحر أو الجوّ، فأنا حسب الدستور الذي وضعته معي لجنة الأطباء اقترحت أن يكون في الجزيرة مطار وميناء، نستورد عبرهما مانحتاجه ونصدر مايفيض عن حاجتنا، لم يكن ممكنا أن ننقطع عن العالم القديم، كان البحارة الغرباء وملاحو الطيران يبقون في الميناء وفي فندق المطار، ولعل بعضهم يدخل المدينة متجوّلا ليوم أو بضع ساعات، ولم تقم نساء جزيرتنا اللقحات أية علاقات مع هؤلاء ولم يقم ابناؤهن من الجيل الجديد بعلاقات سوى حالات قليلة غادر أصحابها عالمنا إلى العالم القديم..ستار حديدي شفاف يستطيع أيّ أحد الخروج منه.قلت ببعض الحِدّة:

هل تنكرين أنك دخلت عالمنا وأنت في السابعة عشرة من عمرك، ورحبت بكل الشروط أنت الآن في السابعة والثلاثين من المحتمل أن تكون بويضاتك ضعفت...

لا أعرف راودتني رغبة في الأمومة ..

هكذا فجأة؟

بعد معاناة !

توقفت عن الكلام:

هل لديك معلومات عنه؟

وقد ترقرقت بعينيها دمعة:

نعم.

من عمال الميناء أم المطار الضيوف؟

من هنا؟

حدة وغضب أكبتهما بقسوة:

ماذا؟ أنت تقريبا بسنّ أمهات الجيل الجديد.

عادت إلى عبارتها السابقة:

لا أدري العاطفة والحب جعلاني أنسى نفسي.

اعتراف..

صراحة

ماذا غير أن تنسى نفسك وتلغي شذرات الماضي التي عاهدت الآخرين على الإيفاء بها:

سأقول لك كلاما صريحا ..لا أريد أن أبدو جافّا معك حين نراهن بتعهدغير مجبرين عليه لمشروع يُنجز في المستقبل منذ تلك اللحظة نضع في حسباننا أننا بالتأكيد نسبب ضررا للآخرين إذا خالفنا التعهد الذي يصبح أشبه بالمقدّس.

أعترف كان علي منذ البداية ...أن.. أن لا أحد يتحكم بالمرض والعاطفة !

حسنا تستطيعين الانصراف الآن وسنجد لك حلا

وغادرت، وفي اليوم ذاته بدأت حالات عنف تظهر بين طرفي الصراع المعارض والمؤيّد لي

أصروا على أن أمهاتهم اقترفن خطأ ومن حقهم أن يعرفوا من هم آباؤهم، بعضهم أحب أن يغادر إلى المدن الأخرى، اشترطت جزيرة العالم الجديد في دستورها أن الذي يغادر لايحق له العودة، غادر قليلون وحدهم، وبعضهم رحلوا مع أمهاتهم، لم أعترض، ولم أعارض في أن يناقش العديد منهم مسألة الحياة والموت..والحق أنا لا أعرف هل ثقفت بعض الأمهات الأبناء بما كن يحملنه من ثقافة دينية، الجزيرة تخلو من أي معبد ديني ..مركز للتوحيد أو الوثنية، النساء الحوامل وافقن، وأقررن قبل التلقيح ألا يتحدثن عن الخلق والله والحياة والموت.

كن سعيدت .بعملهن بنشاط

قلت للسيد (ك)هل أنت مقتنع بما تفعل؟

أجاب بابتسامة: ياسيدي لا أحب أن يكون لي طفل من زوجة ولا صديقة أريد أن يكون امتدادي مجهولا مثل الأفق البعيد.

تساءلت مع نفسي:هل أحدث فيلسوفا أم عبثيا:

ماذا تعمل؟

أجاب بابتسامة:

في معمل بيرة ولعلك تصدقني حين تسمع أنّي لا أحب الكحول ونادرا ماجربته.

لكن قل لي هل هناك من سبب ما غير الامتداد دفعك لهذا السلوك.

تأمل قليلا وقال:إسمع دكتور أنا لا أحب التنقل ولا السفر أؤمن بالثبات.. لدي رغبة في السكون ..لم أسافر طول عمري ولدت هنا وعشت هنا مادمت كذلك فإنّي أراهن أراهن مع نفسي على أن امتدادي سيكون أكثر حبا للحركة مني.

ربما

بل أنا على يقين لأنه سيولد في زمن آخر أسرع من زمننا هذا.

لدى مركزنا شرطان الأول ألا تسأل عمن تأتي لتصبح أمّا مثلما تقبل هي ألا تعرف من تكون أنت.

قبلت؟ (وأضاف) على الأقلّ من الأفضل للمولود الجديد ألّا يعرف النصف الآخر من ماضيه.

و سنقبل منك إن كان كل شئ من الناحية الصحية على مايرام.

لا أظنني عانيت من مرض منذ وعيت.

راح يؤدي دوره بإتقان ويمنح المركز مايريده.

كل العملية تحت إشرافي

وكل المعلومات عندي.الرجل اسمه ..عمره.. عنوانه..حلمي الواسع ..أو هو تجربتي الأولى.صورة السيد(ك) في ذهني لم تتغيّر.

لا قلق

لاخوف من المجهول

لعله العالم الأفضل على حسب ظني

حتى انفجرت بوجهي المظاهرات الأخيرة....

 وقد تجرّؤوا بعد قضية حمل الممرضة (ن)

الكثير يتظاهرون يريدون أن يعرفوا آباءهم

والكثيرون يعارضونهم

اشتبكت الفئتان فسقط بعض القتلى

وكان حقّا علي أن أتخذ موقفا صارما

فظهرت لهم عبر وسائل الإعلام ووجهت إليه كلاما..

قلت إني على استعداد أن أخبرهم الحقيقة..وآمل أن يعودوا إلى اعمالهم ..

وعدتهم بذلك

وصدقوني

لكن قبل كل شئ كان علي أن أغادر الجزيرة لأبحث عن السيد (ك) فهو وحده القادر على حل الإشكال الذي بدا عنيفا قبل بضعة ايّام، سوف يقنعهم بلا شكّ أو يقنع الأغلبية الغاضبة منهم.

قبل مغادرتي عقدت مجلسا طارئا للكادر الطبي.عشرون شخصية من كبار الأطباء، واخترت من مجلس الممرضات الخبير لعلاج السكان الذي تشرف عليه الآنسه (ن) بعض الممرضات .

صارحتهم فصُدموا

ذهول

وتذمّر

قضيتان مرعبتان في وقت واحد الممرضة الحامل، وتظاهرات الخارج، وربما بدت الممرضات الخمس اللائي كن حوامل قبل عشرين عاما أكثر استياءا منا نحن الكادر الطبي القادم من العالم القديم.. لم أكن أتكلّم بانكسار لئلا يصاب أحد بالإحباط.انتقيت كلماتي بدقة وقلت كلنا التزم بالتعهد الذي أخذه على نفسه قبل أن يهجر العالم القديم للعيش هنا، مارأيكم لو حبلت واحدة من الكادر الطبي، ماذا تقولون.ابتدأت بالممرضات الأمهات من قبل.سألتني السيدة (م)

كيف التقت بالرجل الغريب وأين؟

لا مارست ذلك مع شاب من الجيل الجديد:

يمكن يكون ابني أو ابن أخرى..لا أدري

وعقبت الممرضة (ج)

مهما يكن ليرحلا

قالت الممرضة (ص) لابدّ من أن تعرف أمّه فقد يراودنا حنين لحفيدها فترحل معهما.

وقال (ن أ) طبيب مراقبة التخصيب:

أقترح لو سمحتم أن نحظر عينة من مني الشاب وبويضة الممرضة لكي ندرسها ضريبة عن فعلهما عوضا عن العقاب.

وحين وصل الدور إلى مساعدي المباشر قال:

هي حالة فريدة حقا يمكن أن نعزلهما، فمعظم حالات الحمل كانت بين المواليد الذين تمّ تخصيبهم قبل عشرين عاما، أما هذه الحالة فبين الجيل الجديد والجيل القديم.

رفع طبيب الطوارئ يده وقال:

مالفرق هناك فتاة تخصبت من عامل وصل إلى الميناء حبلت منه وطلبنا منها الرحيل لتلحقه وأربعة ذكور وصلتهم رسائل من فتيات يعملن في النقل الجوي يخبرنهم بحملهن فارتأوا اللحاق بهن.

قال السيد المساعد: هذه الحالة غريبة تماما لأن الممرضة التي تعمل معنا خالفت الدستور نعم لكننا نريد أن نعرف الآثار الجانبية لعلاقة بين جيل سابق يكبر الجيل الجديد ب بعشرين عاما للتجربة فقط.

لم يرفع أحد يده بالموافقة.هو ا الجيل الجديد الذي لابدّ أن يبقى نقيا.بالأمس تمرد أفراد...خمسة من مجموع مليونين ..لا شئ.. أقلّ من قطرة في بحر. الجيل الجديد النقي الخالي تقريبا من الأمراض يدير شؤونه بنفسه..أطباء..مهندسون عمال موظفون.مليون امرأة خلفن لنا مليونا آخر.. المساعد الذي اقترح أن نقبل بالحالة الأخيرة.كان وحده.وحين حلّ التصويت..أصرّ الجميع على الطرد!

ورحت أغادر الجزيرة التي أوجدتها بطريقتي الجديدة إلى المدينة القديمة التي بدأت فيها تجربتي الجديدة منذ ربع قرن وأنا في الجزيرة أدير شؤونها مع مجموعة من الكوادر القديرة فلا أدع أي شئ عليها يفلت من بصري.سهل أن تصنع عالما لكن من الصعب إلى درجة المحال أن تجعله يدوم من دونما رقابة.لديك عالم كان مليونا من الإناث ثم أصبح مليونين بعد سنوات من المحال أن تراقبه كله لكن قدر الإمكان أجعله لا يفلت من يدي..لا أريد لتجربتي أن تنهار كما انهارت قوة عظمى ..أو تتحلل إلى كيانات صغيرة مثلما حدث لبعض الدول..

بدت المدينة القديمة جديدة تماما بعد كل تلك السنوات .معالمها تغيرت بعمق.زرت بناية المشفى فوجدتها أصبحت مدرسة ثانوية، معالم البناية القديمة اختفت.كنت قد بعتها مع شركائي الأطباء والبايولوجيين ثم غادرنا على دفعات مع النساء الحوامل.معي معلومات كافية عن السيد(ك) عنوانه.. هوايته.لابدّ أن ألتقيه ليذهب معي إلى الجزيرة التي أخذت تتغيّر.لعل وجوده معي يثني الآخرين عن التمرّد...الرجل خضع لشروطي، من دون أن أجبره والتزم بتعهده.أراد أن يكون له امتداد لايعرفه .ولكي لا أخيّب رجاءه رفعت سماعة الهاتف حين جاءت أول امرأة لتتلقح فأخبرته أن هناك سيدة حملت جزءا منك وهناك أخريات.قهقه وقال إنه ارتاح وسيستكين ويرتاح ليكتفي بآخرين منه بعيدين عنه يتنقلون.

تبقى مسألة العاطفة والحنين ..لعلها تتحرك فيه ...وأحاول أن أثيرها فيه..

.ولم يكن قد غادر المدينة التي عاش فيها طول حياته.بيته الصغير في حارة قديمة، لا يبعث على الكآبة وإن كان يشبه الصندوق..  قلت له بعد رحلتي في البحث عنه:

-أنا أعتذر إليك لأني اشترطت عليك ألا تسألني عن ابنك القادم يوم جئت عندي لمركز التخصيب.ولا عمن تكون أمّه!

-وها أنا قد نفّذت الشرط ولا أظنك جئت لأمر تافه فلعل ابني ثار بوجه أمه متسائلا من أبي أو ابنتي لا أعرف أولد هو أم بنت.

استدراج:

ألا تحن لرؤية ابنك أو ابنتك؟.

أبدا

أيعقل ذلك؟

أنت طبيب لاتهمك العواطف وأظنك تتذكر آخر مكالمة أخبرتني فيها عن أول سيدة تلحت مني قلت لك الآن سيحا جزء مني بعيد عني وآن لي أن أرتاح!

دفعني فضول:

وما كنت تفعل خلال السنوات الماضية.

كل شئ ولا شئ

هل أنت متأكد من أنك لا تحب أن ترى أبناءك وبناتك؟

لا أغير كلامي مثلما لا أغير بيتي، ألقيت بالمستقبل لك، فلا ألتفت إلى الماضي لأنني أريد أن أحقق حضوري وحده ولا أشغل نفسي بشئ آخر سواه.

أعرفه، عامل كيمياوي في معمل كبير للبيرة، ولم يتناول الكحول على الرغم من أنه يمكن أن يشرب في المعمل بضع زجاجاتمن دون أن يدفع ثمنها قد تبدو كلماته أكبر منه ولعله لا يفقه معانيها ربما هو خطأي حين قرأت حيامنه فعرفت أنها الأصح والأقدر من غيرها فجعلتها نموذجا لكيان جديد بدأته قبل ربع قرن فأخذ يتمرد علي بعد أن أدرك حقيقة وجوده، فهل التقيت فيلسوفا أم متحذلقا أو مدعيا العلم لا يدرك مايقول:

أتعرف كم هم ابناؤك الآن؟

لا لا يعنيني ذلك.لقد تجردت منهم منذ زمن انتهى

حتى وإن قلت لك إنهم مليون مابين فتى وفتاة؟

***

رواية جيب

د. قصي الشيخ عسكر

متى أجد عصرا مريحا

لزمني

لعينيك

متى

أغمضهما بهدوء

على لوح البحر

أركن إلى فجر

لا ينقصني

أو …علني لا أركن أبدا

أعيرك عينين

جد لي نسيما

أداعبهما…فيه

و حبات نخيل تترامى

على وجنتيك

قرب زمننا

نلتف بجدار صلد يحضننا

للتجربة

أو قرب زمن مدمن

على السفر

لا أسس تكرسنا…له

أو …

عدد أزمنة

تلون تجاعيده

بالورد

أعيرك عينين

أرحهما لإخضرار الربيع

فالزمن هنا

أو…

صادر اللون

فالمكان ضباب

و زمن دائم التلاشي

لا يحتاجه زخم الحضور.

***

مفيدة البرغوثي

تقدم ضابط برتبة نقيب تعلو وجهه ابتسامة متخابثة، تبادل التحية مع الخاطفين، بعدها أمر شرطيا بأخذ صيدهم مثلما سموه، إلى داخل بناية المركز، فسحبه الشرطي من ساعده ودفعه أمامه، حينها سمع الضابط يوجه كلامه لمن في السيارة.

ــ تحياتي لأبي رحيم، ليكن كل شيء عند حسن ظنه، وليأمر بما يرغب، فليس لنا غيره، له التحية القلبية والسلام والاحترام، ولكم وافر الشكر والممنونية، جهودكم طيبة ومخلصة، تسلمون.

بعد ذهاب سيارة الخاطفين أمر الضابط شرطيه برفع الغطاء عن رأس سجينهم.عندها طالع السجين باب البناية، تفرس بالواجهة جيدا، وأطلق حسرة كان يختزنها في صدره ثم عب من الهواء ملء رئتيه. تذكر واجهة البناية هذه حين دخلها للمرة الخامسة، وكانت الأخيرة له ، عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعون ، على عهد حكم حزب البعث، وكان دخوله إليها يتكرر عهد ذاك، كلما حل ضابط جديد لإدارتها ، وها هو يعود ليجد نفسه فيها وبتهمة جديدة رغم جهله بطبيعتها، ولكن مثلما اخبره خاطفوه فهي معارضة السلطة أيضا.

اليوم هو الخامس من الشهر الثاني من العام ألفين وعشرين . كم مضى من الزمن في تأريخ هذا البلد، ورغم جميع التغيرات والتحولات، فقد بقي يحمل ذات السمات من القسوة والقهر، ولم تهجر الكثير من العقد النفسية والسياسية صدور الكثيرين، ولذا تلح في خاطره الآن فكرة، أن هناك فكرا جمعيا أو مرضا متوارثا وحتى أواصر قربى بين مرتزقة ذلك العهد وما قبله وما يأتي بعده فالنفس البشرية الخائفة الغبية دائما ما تلجأ لكبح جماح الأخر وتطلعاته للحرية والعدالة بالكثير من القسوة والعنف.

نظر إلى جدران البناية ولاحظ طلاءها الأزرق الغامق.غير هذا الطلاء الجديد، لم تحدث تغييرات تذكر في مدخلها، ولا حتى في الممر الطويل المفضي إلى غرفة ضابط الخفر، وهي الغرفة المقابلة للممر الأخر الطويل الذاهب حيث زنزانة السجن، التي سبق له أن كان جزءً من محتواها وكان نزيلها لمرات عديدة.

 كانت اللوحة المعلقة فوق باب غرفة الضابط قد أبدلت عن سابقتها،  فهي الآن مؤطرة بإطار ألمنيوم، وبخط كوفي ذهبي جميل، وبخلفية بنية خافتة اللون، وخط عليها بخط أنيق بارز، ضابط الخفر. يتذكرها على ذلك العهد، حين كانت قطعة خشبية بطلاء اسود غامق، وخط مرتبك بلون ابيض.ربما هذا الذي تغير وليس غيره. ابتسم وسحب جسده بتثاقل، عندها لكزه الشرطي بقوة،  ثم دفع به نحو وسط الغرفة. واجهه الضابط بسيل من كلمات جوفاء سمجة، كان يلف ويدور بها حول موضوعة، لم يجد بدوره فيها ما ينفع للسماع، فخرج بأفكاره بعيدا نحو مدينته التي تبعد عن بناية هذا المركز المشؤوم عشرة أمتار لا غير، وهو نفس امتداد الممر الخارجي حتى الشارع المجاور. كان الضابط يشرح مهام الشرطة وواجباتهم تجاه الوطن والمواطن والأمن والسلم الاجتماعي، وأطرى بالمديح لمهامهم في كشف الجرائم وإعادة هيبة الدولة، ثم ختمها بالقول:

ــ ألا تخجل من ممارسة الدعارة والقمار وأنت في هذا العمر.

شعر بفمه جافا ولسانه يابسا كخشبة، فلم يستطع ابتلاع لعابه ومن ثم هضم هذه الشتيمة والكلام البذيء، ولم يكن مستعدا للتغاضي عنها وإهمالها.

ــ من المناسب أن تعرف أني من سكان هذه المنطقة التي تخضع لسلطتكم، وحسب ظني بأجهزتكم الأمنية، فأنتم تملكون المعلومة والمعرفة الكاملة عن جميع سكانها، وتحصون جيدا بيوت الجميع. أنا ولدت هنا، وعشت حياتي بطولها وعرضها هنا أيضا، واعتقلت في عهد الحكم الماضي لعدة مرات، وقبعت لأيام طوال في زنزانة مركز شرطتكم هذا، قبل أن أرحل للمحاكم بتهمة معارضة السلطة، وسجنت لسنين عديدة، وفي كل مرة من تلك الاعتقالات والتحقيقات والسجون، نلت من التعذيب الكثير، ولكن لم توجه لي مثل هذه التهم القذرة السخيفة، التي استمع إليها الآن، لذا أعتقد بأن من وجه لي تلك الشتائم ومن أخبرك بها ، حتما هو بالذات من مارس ويمارس الدعارة والرذيلة وليس أنا.هذا كل ما لدي لأقوله.

ــ أنا لا أوجه هذه التهمة لك وإنما هم من أخبرني بها.

ــ وهم بالذات من يمارس الرذيلة والعهر وليس غيرهم، هل جلبوني إليكم بكتاب اعتقال رسمي ؟

ــ كلا، لا يوجد مثل هذا .

ــ إذا كيف ترتضي مهنيتك بالذي يحدث، وما الذي يجعلك تعتقلني دون سند قانوني؟

ــ على أي حال لنرَ ما الذي يكون بعد ذلك.

ــ وما هو ذلك ليكون بعده؟

ــ أخي لست مسؤولا عن الذي حدث وانتظر الأوامر التي تأتي.

ــ ومن أين تأتي هذه الأوامر؟

ــ أنت متهم وتضعني الآن في موضع الاتهام.

ــ لست متهما بل أنا مختطف من قبل عصابة، وأنت تشارك في عملية الاختطاف.

وكأنه لدغ من عقرب، صرخ الضابط بأعلى صوته طالبا من الشرطي الذي كان يتنصت خلف الباب، أن يأتي ويسحبه إلى غرفة الحبس. بلمح البصر قفز الشرطي وسط الغرفة، وسحبه بقوة من ساعده وقاده عبر الممر، ليقفا أمام الباب الحديدي الذي كان نصفه العلوي شباكا بقضبان حديدية، وتظهر خلفه قاعة الحبس. أدار الشرطي قفل الباب الثقيل، وطلب إليه الدخول ليغلق الباب وراءه. كان هناك مجموعة من معتقلين، بعضهم يغط بنوم ثقيل. أربعة اتخذوا الزاوية الشمالية للقاعة، كانوا يتهامسون، دون أن يثير حضوره اهتمامهم. آخرون يجلسون متكئين إلى الحائط المواجه لباب الزنزانة، راح البعض ينظر نحوه ببرود، وبدت على وجوههم ملامح تجهم. سجينان يغطان بنوم عميق قرب بعضهما في طرف القاعة القريب من الباب. بدت قاعة الحبس مهملة لم تنظف منذ فترة، فالأرض متربة، وهناك بعض قصاصات جرائد مرمية وسطها، وثمة قطعة قماش تبدو وكأنها بقايا غطاء مطروح في الزاوية القصوى، وقميص أسود معلق على الحائط.

جال بنظره زوايا الغرفة وتذكر دخوله المتكرر إليها في المرات السابقة، وكيف كانوا يحشرون فيها بأعداد كبيرة، تكتظ بهم أمتارها القليلة، فيسهدون لأيام، يتداولون بينهم الأماكن ، للحصول على حصة نوم ولو لساعات قليلة. وتحل بهم لحظات فرح، حين ينادى عليهم للترحيل إلى المحاكم، حيث يصدر هناك قرار الحكم بالسجن، فيساقون بعدها مباشرة، إلى أحد السجون، حيث القاعات أوسع وأرحم من زحمة هذه القاعة.

توجه نحو الزاوية التي سبق واتخذها مكانا تنافس عليه سابقا مع آخرين. ابتسم وهو يتذكر كيف كان يستحوذ على المكان بشق الأنفس، عندها تكون تلك الزاوية وكأنها مخصصة له دون غيره. وضع ظهره في الزاوية عند تلاقي الجدارين وراح يتلمس جسده. كان الألم يغطي مساحات كثيرة منه، وبالذات ظهره وعند مكان الخاصرة والساقين.

 في هذا المكان وفي المرة الأخيرة لاعتقاله، حفر على الجدار اسمه وتاريخ اعتقاله. نبهه أحد السجناء بشيء من الطرافة على ضرورة تأبيد حضوره في المكان، وهذا ما جعله يحفر اسمه وساعة اعتقاله وتاريخ اليوم والعام بملعقة الطعام وبأناة وجد. تلمس الجدار، وكأنه يبحث فيه عن تلك الذكرى، ود لو يستطيع أن يزيح الطلاء الثقيل عنه، لم يجد لديه آلة تزيح تلك الصبغة الغامقة التي تراكمت عليه بمرور الزمن ولكثرة تكرار طلائها، وكأن هناك أمرا مقصودا لمحو ذكريات من العذاب والوجع دائما ما كان يتردد صداه بين هذه الجدران، وما كان مناسبا استخدام أظافره لانجاز هذا العمل، ولكن وجوده وإنفراده في ذات المكان وفي هذا الوقت دون مزاحمة الآخرين، شعر وكأن حالة من الرضا وشيء من سكون تنتاب جسده المنهك.

جميع الاعتقالات والسجون وحتى التعذيب والبذاءات التي واجهها على ذلك العهد، لم تكن لتستطيع تدجين عناد روح. فلم يكن فريسة سهلة لنوايا الجلاد الشريرة الخبيثة، وكان لذلك سحرا خاصا يقترن بعزيمته وقوة إرادته وقدرته على الصمود.ولكن كثيرا من الأشياء قد تغيرت وتبدل إيقاع الحياة ومثلها شخوص السلطة، ولكن بقيت ذكرى تلك القسوة والآلام راسخة في النفوس، وما عاف الوجع قلوب الناس، ويجدها اليوم وقد أعيدت بذات العنف مسربلة بخدعة الديمقراطية المنتقاة، وعاد الخوف يسربل حياة العراقيين، بعد أن ظنوا خيرا بالتغيير.

 كان الليل طويلا جدا لم يغمض له جفن، فراح يحدث نفسه ويعيد سيرة حياته ، منذ أول يوم دخوله مدرسة القدوة الابتدائية، ولحين إحالته إلى التقاعد. تتسلل الأفكار تباعا، مشبعة بالوحشة. تتقافز الصور أمامه بعجالة، فيجد نفسه مسكونا بالبحث عن منافذ للهروب بعيدا عن الكدر والغم، ولكن هيهات فكل الذي حدث ويحدث وما مضى كان يلاحقه ويركد راسخا في تلافيف رأسه.

 بعد هذا النهار الذي عانى فيه ما عانى مع هؤلاء الأوباش. وكاد الغضب والألم يأكلان روحه. وهو يفتح عينيه على سعتهما رافضا الإغفاء. يا ترى هل اصطفاني القدر لمسيرة عذاب طويلة، هكذا تساءل، ويكاد يتلمس الآن بيقين كيف أضحت أماله هباءً منثورا، وذهبت نشوته وأفراحه سدى.

***

فرات المحسن

نَعى صَريعَ المُنى أم قد بكى الناعي

نديمَ مَنْ عَطَّروا الرُؤيا بِنَعْناعِ

*

سليلَ مَنْ أدْمنوا التَرْحالَ قافِلةً

تَقْفو الشيوخُ بِها أثارَ أيْفاعِ

*

حفيدَ مَنْ نَحَتوا الأوتارَ مِنْ حَجَرٍ

فَسالَ مَدْمَعُهُ شَلّالَ إبْداعِ

*

دِرْويشَ شِعْرٍ بِلا شيخٍ وَ مَسْبَحَةٍ

مُسَبِّحاً دونما صوتٍ وَ مِذْياعِ

*

بّلْ هامَ مُرْتَشِفاً سِرّاً طريقَتَهُمْ

وليسَ في بالِهِ تَرْويضَ أتْباعِ

*

حَطّابَ فَجْرٍ بها الحَطّابُ عَمّدَهُ

في طَلِّ غاباتِهِ أو دمْعِ. زُرّاعِ

*

يَصيحُ في قومِهِ لا لسْتُ مُتّخِذاً

سِوى كؤوسِ الطِلا نُدْمانَ إيقاعي

*

كَسادِرٍ قلبُهُ الدرويشِ مَجْمَرةٌ

يشقى بأمْزِجَةٍ شتّى وأطْباعِ

*

لَمّا تَواجَدَ في تَنّورِ باطِنِهِ

أغارَ مُنْتَقِماً مِنْ لُبِّهِ الواعي

*

صوْتُ النَعِيِّ كَديكِ الفَجْرِ أيْقظنا

وكم أذانُ الردى أوْدى بأسْماعِ

*

دموعُنا أدْمنتْ توديعَ مَنْ رَسَموا

نَزْفَ القرائحِ من نورٍ وإيلاعِ

*

صرعى القصائدِ والأبياتِ دونَهما

(بابٌ يُلاحِكُ مِصْراعاً بِمِصراعِ)

*

يَخُطُّ أحْرُفَهُ الجذلى على كَبِدٍ

حَرّى وَ قَدْ شُوِيَتْ في جوْفِ مُلْتاعِ

*

طافَ المهاجِرَ بَحْثاً عن غزالَتِهِ

حتى بَدى دَمُهُ أشْفاقَ أصْقاعِ.

*

فَيا مَها (الرّاينَ) الهدّارَ لي عَتَبٌ

فذا غَريبٌ ذوى من غيرِ أشياعِ

*

تَقَرّحتْ كَبِدُ المفتونُ هازِئةً

بلائمٍ ساطَها في سوْطِ إقناعِ

*

وَمالَ عن جِيرةِ اللوّامِ مُنْتَبِذاً

رُكْناً قصيّاً لينسى لوْمَ أوْزاعِ

*

تقولُ نادِلَةٌ هَمْساً لزائرِها

تجاوزَ المُبْتَلى أوهامَ إقْلاعِ

*

يَرْعى أغاني الأسى في قَلْبِ حانَتِها

والنايُ قَبْلَ الطِلا قد أسْكَرّ الراعي

*

حاناتِ (برلينَ) إنّ الصَحْوَ يوجِعُهُ

فَعَتِّقي خَمْرَهُ من فيضِ أوْجاعِ

*

عادَ المُعَنّى الى بُسْتانِ قَرْيَتِهِ

يَرجو قِطافَ التي.. مِنْ بعدِ إيناعِ

سعى دُهوراً الى أعذاقِ كَرْمَتِها

فهل عناقيدُها شلّتْ خُطى الساعي؟

*

إِذْ سَهْلُهُ مثلما لَيْلاهُ مُمْتَنِعٌ

يَصُدُّهُ عن هواها ألْفُ مَنّاعِ

*

كَقابضٍ جَمْرةً والريحُ مُهْرَتُهُ

وقلبُهُ نازفٌ من خلفِ أضلاعِ

*

مودّعاً قلبَهُ النهرينِ مُلْتَمِساً

بُرْءاً لِعِلّتِهِ لا وَصْلَ إيداعِ

*

وديعةً قُرْبَ مَنْ يَهْوى ويَسْألُها

رفقًا بأسرارهِ إِنْ غادرَ الداعي

*

بينَ الظِباءِ لَهُ ياصاحبي تِرَةٌ

مَنْ مُدْرِكٌ ثأْرَهُ .. الصاعَ بالصاعِ

*

رُحْماكَ ربّي بِعُشّاقِ الندى فَلَقدْ

فاضوا لنا عَسَلاً من خيْرِ أنواعِ

***

د. مصطفى علي

كُلَّما تحاولُ كلابُ المنافي

أو ذئابُ البلادِ المسعورة

أَنْ تعضَّ أصابعَنا النحيلة،

نرميها بجمراتِ الشعرِ

تقاويمِ سنواتِ الضيمِ

والجوعِ والظلام

ودفاترِ الذكرى …

التي تستوطنُ قلوبَنا

وتتوهَّجُ في أَرواحِنا المقهورة

وكتبِنا العتيقة

وقمصانِنا المُستعارة

وما نحلمُ بهِ

في دوراتِ الفصولْ

وكوابيسِ الأيامِ والأحوالِ

وبوصلاتِ الأهواءِ والأهوالِ،

وكلِّ مايُمكنُ أَنُ نقولَهُ:

حتى نُبرّىءَ القصائدَ والأغاني

من اتهاماتٍ لا تليقُ بها ولا بِنا

نحنُ الذينَ برغمِ بياضِنا الثلجي

لم نسلمْ من سكاكينِ ألسنتِهم

ضغائنِ قلوبهم السود

وسمومِ أَرواحِهم التي هيَ

في جوهرِها وحقيقتِها

بلا أيِّ معنى .

*

منذُ البدءِ،

ونعني بدءَ حياتِنا

أدركنا معنى أَنْ تكونَ

ليستْ سوى عربةٍ معطوبةٍ

بالخسائرِ والأسى

والفقدانِ والحرمانِ

والفواجعِ التي لاتُحصى ولا تنتهي

بالقهرِ ولا بالأوجاعِ

ولا بالموتِ الفادحِ أبداً .

*

قُلنا: منذُ البدءِ

أَو هكذا نحنُ نرى:

أنَّ كلابَ المنافي

لاتختلفُ عن ثعالبِ البلادِ

وكتّابَ التقاريرِ السودِ

لايختلفونَ عن القَتَلَةِ

والخونةَ المستوردين

ليسَ بينهم أيّ إختلافٍ

معَ اللصوصِ القادمينَ

بعرباتِ الغزاةِ القذرة .

***

سعد جاسم

1- وَرَحَلْتَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى = يَشْتَاقُكَ الْوَطَنُ الْحَبِيبُ

2- هِيَ مَكَّةُ الْبَلَدُ الْأَمِي = نُ فِرَاقُهَا أَمْرٌ صَعِيبُ

3- مَا كُنْتَ تَرْغَبُ هَجْرَهَا = لَكِنَّهُ الشِّرْكُ الْكَذُوبُ

4- فَاضَ الْأَذَى بِبُحُورِهِ = وَجَفَوْا فَمَا تَحْنُو الْقُلُوبُ

5- قَدْ كَذَّبُوكَ بِغِلْظَةٍ = حَتَّى تَشَعَّبَتِ الدُّرُوبُ

6- وَلَأَنْتَ شَمْسُ الصِّدْقِ تُشْ = رِقُ مَا لَهَا أَبَداً غُرُوبُ

7- قَدْ دَبَّرُوا الْمَكْرَ الْخَبِي = ثَ وَبَعْضُ مَكْرِهِمُ يُشِيبُ

8- كَيْ يَقْتُلُوكَ وَأَنْتَ تَدْ = عُوهُمْ وَتَأْمَلُ أَنْ يُجِيبُوا

9- وَكَأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُو = نَ بِمَا تُخَبِّئُهُ الْغُيُوبُ

10- وَبِأَنَّ{أَحْمَدَ}فِي الْأَعَا = لِي وَالْجَحُودُ لَهُ غَرِيبُ

11- وَبِأَنَّ دَعْوَتَهُ خَلَا = صٌ تَسْتَغِيثُ بِهَا الشُّعُوبُ

12- اَللَّهُ أَكْبَرُ..فَوْقَهُمْ = وَشَدِيدُ مَكْرِهِمُ يَخِيبُ

13- أَوْحَى الْإِلَهُ بِلُطْفِهِ = لِرَسُولِهِ عَمَّا يَغِيبُ

14- هَذَا الْإِمَامُ{عَلِيُّ}لَا = يَخْشَى الْمَمَاتَ وَيَسْتَطِيبُ

15- وَيَنَامُ فَوْقَ فِرَاشِ أَحْ = مَدَ إِنَّهُ بَطَلٌ مَهِيبُ

16- يَهْوَى فِدَاءَ مُحَمَّدٍ = وَاللَّهُ بِالْحُسْنَى يُثِيبُ

17- أَدَّى الْأَمَانَاتِ الَّتِي = أَوْصَى بِهَا طَهَ الطَّبِيبُ

18- وَخَرَجْتَ تَتْلُو ذِكْرَ رَبْ = بِكَ وَالْجَمِيعُ لَكُمْ هَيُوبُ

19- وَأَمَامَ بَابِ دِيَارِكُمْ = مَأْوَى شَبَابٍ لَا يُنِيبُ

20- عَمِيَتْ بَصَائِرُهُمْ فَرَبْ = بُكَ – يَا شَفِيعُ- لَكُمْ رَقِيبُ

21- أَ وَهَكَذَا تَمْضِي بِلَيْ = لٍ لَيْسَ يُؤْنِسُهُ دَبِيبُ؟!!!

22- تَسْعَى إِلَى الصِّدِّيقِ فِي = شَغَفٍ وَسَعْيُكَ لَا يَخِيبُ

23- بُشْرَاكَ يَا صِّدِّيقُ نُو = رُ مُحَمَّدٍ كَوْنٌ رَحِيبُ

24- فِي دَارِكُمْ وَالدَّارُ بُشْ = رَاهَا بِشَمْسٍ لَا تَغِيبُ

25- فَكَّرْتُمَا فِي هِجْرَةٍ = يَأْتِي بِهَا الْحَقُّ السَّلِيبُ

26- وَتَقَلَّدَتْ{أَسْمَاءُ}دَوْ = راً إِنَّ وَالِدَهَا الْأَدِيبُ

27- أَوَ مِنْ بِحَارِ الْجُودِ يَا = أَسْمَاءُ قَدْ خَرَجَ الْحَلِيبُ؟!!!

28- وَالصِّدْقُ وَالصِّدِّيقُ سَا = رَا إِنَّهُ لَيْلٌ رَهِيبُ

29- وَبِغَارِ ثَوْرٍ يَدْخُلَا = نِ حَفِيظُهُمْ رَبٌّ حَسِيبُ

30- وَالْعَنْكَبُوتُ بَنَى الْبُيُو = تَ وَحَالُهُ حَالٌ عَجِيبُ

31- وَحَمَامَتَانِ عَلَى الْمَغَا = رَةِ حَطَّتَا فَنَأَتْ كُرُوبُ

32- وَالْمُشْرِكُونَ يُشَاهِدُو = نَ بِحَسْرَةٍ وَسَرَا اللَّهِيبُ

33- وَقُلُوبُهُمْ حَيْرَى بِغِلْ = لٍ إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَشُوبُ

34- وَيَنَامُ{أَحْمَدُ}وَالصَّدِي = قُ تُثِيرُ خَشْيَتَهُ ثُقُوبُ

35- فَتَسُدُّهَا رِجْلَاهُ فِي = حِرْصٍ وَتَنْهَلُّ الْخُطُوبُ

36- فِي الْحَالِ تَخْرُجُ حَيَّةٌ = قَدْ شَدَّهَا النُّورُ الْمُذِيبُ

37- لَدَغَتْهُ وَالصِّدِّيقُ يَكْ = تُمُ عَادَهُ الدَّمْعُ الصَّبِيبُ

38- يَحْكِي لِطَهَ مَا جَرَى = وَكَأَنَّهُ الْغَيْثُ الْمُصِيبُ

39- وَيُوَاصِلَانِ الدَّرْبَ يَتْ = بَعُهُمْ{سُرَاقَةُ}لَا يَؤُوبُ

40- حَتَّى تَبَيَّنَ نُورُ{أَحْ = مَدَ}وَاسْتَجَابَ لَهُ نَجِيبُ

41- أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَحَّبُوا = بِهِلَالِهِ فَغَفَتْ حُرُوبُ

42- وَمَحَا الْعَدَاوَةَ بِالْمَحَبْ = بَةِ فَالْجَمِيعُ لَهُ مُجِيبُ

43- وَاسْتَبْشَرُوا بِأُخُوَّةٍ = مَا عَادَ بَيْنَهُمُ كَئِيبُ

44- وَتَوَحَّدُوا حَتَّى أَتَى = مِنْ رَبِّهِمْ فَتْحٌ قَرِيبُ

45- هِيَ هِجْرَةٌ لِلْمُصْطَفَى = يَشْتَاقُهَا الْعَقْلُ الْأَرِيبُ

46- هِيَ هِجْرَةٌ نَبَوِيَّةٌ = نَصْرٌ مِنَ الْمَوْلَى وَطِيبُ

47- عِطْرٌ لِدُنْيَانَا الَّتِي = يَغْتَالَهَا وَحْشٌ وَذِيبُ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

.................

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158سورة الأعراف صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمْ

اَلْإِهْدَاءْ

إِلَيْكَ سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِي أَحْلَى قَصَائِدِ الْحُبِّ صَاغَتْهَا نَبَضَاتُ قَلْبِي وَهَمَسَاتُ رُوحِي وَأَشْوَاقُ صَبٍّ تَيَّمَهُ الْحُبُّ فَعَاشَ فِي نُورِ هَذَا الْحُبِّ يَسْرِي بِهِ فَيُحِيلُ الظُّلُمَاتِ نُوراً وَالصَّعْبَ سَهْلاً وَالضِّيقَ فَرَجاً وَالْهَمَّ فَرَحاً سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا أَحَبَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ يَا أَحَبَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ إِلَى قَلْبِي سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ حُبُّكَ يَسْرِي فِي شَرَايِينِي وَأَوْرِدَتِي وَدِمَائِي قَضَيْتُ سِنِي عُمْرِي أَشْدُو بِحُبِّكَ إِلَيكَ سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ- يَا إِمَامَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدَ الْمُتَّقِينَ وَشَفِيعَ الْمُنِيبِينَ وَغَوْثَ الْمُسْتَغِيثِينَ وَمَلاَذَ اللَّائِذِينَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ لِلْعَالَمِينَ- أُهْدِي هَذِهِ الْقَصِيدَةَ أَبْدَعَهَا حُبِّي لَكَ وَسَمَّتْهَا قَرِيحَتِي

* هذه القصيدة من بحر الكامل المجزوء

سادس الكامل

العروض مجزوء صحيح والضرب مجزوء مرفل

ووزنه :

مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ = مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلَاتُنْ

والترفيل هو زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع .. مُتَفَاعِلُنْ {مُتَفَاعِلَاتُنْ} ويجب في ضرب الوزن السادس مثل :

وَرَحَلْتَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى = يَشْتَاقُكَ الْوَطَنُ الْحَبِيبُ

هِيَ مَكَّةُ الْبَلَدُ الْأَمِي = نُ فِرَاقُهَا أَمْرٌ صَعِيبُ

مَا كُنْتَ تَرْغَبُ هَجْرَهَا = لَكِنَّهُ الشِّرْكُ الْكَذُوبُ

فَاضَ الْأَذَى بِبُحُورِهِ = وَجَفَوْا فَمَا تَحْنُو الْقُلُوبُ

قَدْ كَذَّبُوكَ بِغِلْظَةٍ = حَتَّى تَشَعَّبَتِ الدُّرُوبُ

وَلَأَنْتَ شَمْسُ الصِّدْقِ تُشْ = رِقُ مَا لَهَا أَبَداً غُرُوبُ

قَدْ دَبَّرُوا الْمَكْرَ الْخَبِي = ثَ وَبَعْضُ مَكْرِهِمُ يُشِيبُ

إنه منتصف حزيران.. الجوّ حارّ، والشمس وسط السماء تتضاحك دون اكتراث، ونحن نعدو يميناً ويساراً، نبطئ ثم نسرع بلهاث حارّ خلف الحافلة لنجد فيها كرسيين شاغرين نرتمي داخلها مع الأكياس التي تتأرجح بين أيدينا. وقد غدت ركلات أقدمنا منهكة، والعرق يسيل بغزارة من كل أركان وجهي، والكحل أيضاً أغرق عيني وسط هالة سوداء في وضح نهار مشمس، لم تطفئ قناني الماء لهيب العطش داخلنا على الرغم من أني تناولت عدداً من قناني الماء . كذلك عمّتي بلقيس التي كانت برفقتي، فقد اصطبغ وجهها الناصع البياض باللون الأحمر، كانت ملامحها ناعمة على الرغم من تقدّمها في السنّ، لها بشرة صافية بيضاء بلون الحليب، وحين كان يقول لها أحدنا: كم وجهك جميل، وبياضك ناصع، كانت تبتسم ويبرز طقم أسنانها الذي كان أنصع بياضاً من وجهها، قائلة: أنا من أصول تركية! مع أنها وبحسب علمي لم تتخطى حدود بغداد، لا هي ولا جدي رحمه الله. بدأ التعب ينال منها والسكري يهبط بعد أن شعرتْ بجوع شديد، لم يكن أمامنا سوى أن نستأجر إحدى العربات الصغيرة (التك توك)، فهي الوحيدة التي تناسب ذوي الدخل المحدود، وتعتبر سيدة الشارع بالرغم من حجمها الصغير وسرعتها وكأنها فأر صغير يهرب مذعوراً وسط الزحام. أسرعنا صوب إحداها بعد أن قرّرنا أن نستأجرها، فلا أمل في الحصول على مقعدين في الحافلة، وبخاصة أننا في ذروة الزحمة التي تزامنت مع خروج الموظفين وطلاب المدارس والجامعات، هكذا هو الوضع في موقف (باب المُعظّم) وسط بغداد. وجدنا هناك عربة صغيرة حمراء اللون متوقفة، يجلس صاحبها داخلها في انتظار من يستأجرها. كان رجلاً في متوسط العمر، جالساً في المقعد الأمامي كالقنفذ دون حراك، متلبد الملامح بالرغم من حرارة الجوّ، تقدّمت عمّتي نحوه، وسألته بأسلوب فض بعد أن حددت له وجهتنا : كم تطلب كي توصلنا، حرّك يديه مُمسكاً بمقود عربته، قائلاً: خمسة آلاف دينار! رمقته بنظرة اعتداد بنفسها: (هواية)، سأعطيك ثلاثة آلاف دينار، أومأ برأسه أنْ لا . مضت دون أن تلتفت إليه، وكأن إصرارها على الرفض أذهبَ عنها التعب والجوع، قلت لها وبالكاد تحملنا قدمانا: لا بأس نجعلها أربعة آلاف، فالجو حارّ جداً، وهذا الرجل يبدو مسكيناً وعلى باب الله، لم تقتنع بكلامي وسحبتني كطفلة صغيرة، قائلة لي: هيا أنت لا تفهمين، تلك المركبات صغيرة، ولا تستهلك وقوداً، اصمتي واحملي الأكياس عني تلك الاكياس ايضا ، تقدّمنا الى الأمام نبحث عن سائق غيره، أقبلنا على مركبة أخرى مركونة في الجانب نفسه، كان سائقها مراهقاً، له سحنة سمراء، وهو نحيف جداً، يرتدي ثياباً رثة أفقدتها حرارة الشمس لونها، تُزيّن يده النحيفة وشوم عدّة، سألناه أن يوصلنا وكم يطلب مقابل ذلك، فطلب ستة آلاف دينار. حاولنا أن نخفض الأجرة، لكنه رفض باستهزاء، قائلاً: (لا عمي لا). وسألنا آخر، فطلب منّا المبلغ نفسه. أصبحت أسير بخطىً متثاقلة مع عمّتي التي ركبها العناد، بدأ المكان يخلو إلا من بعض المتسكعين الذي أخذوا يظهرون كمصاصي الدماء الذين نشاهدهم في أفلام الرعب. أقنعتُ عمّتي أخيراً أن نعود الى السائق الأول، فلم نعد نحتمل حرارة الجوّ أكثر من ذلك. من حسن حظنا أننا وجدناه على حاله، يراقب بعينيه الصغيرتين منتظراً ببالغ الصبر ركاباً، عدنا إليه طالبين منه أن يوصلنا وسندفع له ما طلب منا، تحرّك ماّطاً جسده النحيل المتيبس كمن يودّ أن يبثّ الحياة فيه من جديد، جاء ردّه قاسياً، حدثنا بأسلوب فظّ شامت، موجهاً كلامه إليّ: سمعتكِ تقولين عني مسكين! يبدو أنه سمع حديثنا! لستُ مسكيناً ولا أقبل صدقة منك، الرزق على الله، لا عليك، أنا أعمل بكدي ولا أمدّ يدي لأتسول من أحد، قلت له: لكني لم أعنِ بكلامي شيئاً و...، قاطعني وأشار إلى عمّتي: تفضّلي سيّدتي، سأوصلكِ أنتِ فحسب...

***

نضال البدري

عضو اتحاد الأدباء في العراق

انا لا أبكي حين أريد أن أبكي

أنا أضحك وأترك القصيدة

تنكسر من الحزن

بين صمت وضجة الصمت

أرتب يومي

وأعد عدة الصبر

لغدي

*

انا لا أمضي مع الوقت حين

يغادرني الزمن

لدي عيون

في قاع زمني

تشدني

الى زمن بعيد

من الأسى والشجن

*

انا لا أنام حين أريد أن أنام

يأخذ الأرق كل ليلة ملامحي

ويعبث بها

وفي الصباح

لا أعرف وجهي

في المرايا

*

انا لا أموت حين اريد أن أموت

أنا أرتكب الحياة

وأنتحر كل يوم

***

بقلم: وفاء كريم

1- قديم جديد

كانت شمس تشرين الأول

قد أشرقتْ

وبدأت ترسل خيوطها الذهبية

إلى صفحات الأرض

مع أسراب هائلة من الطيور

وكان أبي

قد نهض من فراشه بعد ليلة

لم ينم فيها ..

وأنا كنتُ على فراشي

أراجع ..

واستذكر كل الساعات

التي مرّت البارحة

ودارت نفسي على نفسي

أبي كان دائماً طوداً شامخاً

نتوارى خلفه حين تغشانا الملمّات

هو لم يفرّط بالوقت أبدا

فالوقت ثمين

كيف مرّ الليل عليه

أكان يبعث رسالة مليئة بأوجاع الوداع ..؟

وثارت رياح الأفكار والهواجس... في داخلي

وتقاذفتني أمواج الحيرة المتلاطمة

وعربدت العواصف ...

كبرت ْ علامات الاستفهام

أمام عيوني

ولكنّي هدأتُ

وأنا أنظر إلى والدي

وهو يقرأ بصوت عال سورة الفاتحة

قلتٌ له : صباح الخير

قال : صباح الخيرات والمسرّات يا ولدي

واستطرد قائلا : هيّأ نفسك للذهاب إلى الكلية

سيأتي يوسف النداف بسيارته مع زملائك

لا تفكّر بي ..

فأنا أدري أنّك لم تنم الليل كلّه،

وكنتَ تراقبني، تبحث عن حزني

ولكن الحمد لله على كل حال ...!

وتذكّر يا ولدي الحبيب حامد

أنّي قد ابتسمتُ بوجهك

على الرغم من كل الآلام

فابتسم مثلي دائما ...!

رتّبتُ منضدته قليلا .. بصمت وادع

قالتْ أمي : يا ولدي أترك كل شيء

سأقوم انا بالواجب

وبترتيب الغرفة كلّها

قبلّتها على الرأس ...

فعانقتني

وطبعت قبلاتها على خدي

ثمّ قبّلتُ يد والدي النحيلة ..

ربّتَ على كتفي

وهو ينغّم أبيات الإمام علي (ع) :

اذا هبّتْ رياحك فاغتنمها

فعُقبى كلِّ خافقة ٍ سكونُ

ولا تغفلْ عن الإحسان فيها

فما تدري السكونُ متى يكونُ

سمعته ..

.وغادرتُ

وأنا أردد بخشوع :

" اللهم اجعل النور في بصري

والبصيرة في ديني

واليقين في قلبي

والاخلاص في عملي

والسلامة في نفسي

والسعة في رزقي

والشكر لك أبداً ما أبقيتني ".

**

2- ليلة يقظة

كان أبي، في كل أوقات ليلة البارحة

يتجوّل في البيت

يدخل إلى غرفة الاستقبال

يتأمّل الصور

واللوحات المعلّقة على الجدار

ويردد:

هذا السيّد عباس جمال الدين

هذا الميرزا عناية

هذا السيد الشاعر مصطفى جمال الدين

هذا الشيخ محمد أمين زين الدين

هذا محمد مهدي الجواهري

وهذا ....... وهذا....

وذاك أنا ....

يطلق آهات

يخرج من غرفة الاستقبال (الديوانية)

يتجه إلى نخلة البيت

يرفع رأسه

يتأملها

– أيّتها النخلة لقد أعطيتِ الكثير

الف شكر لكِ

حفظك الله لعائلتي ..وأحبتي -

يعود لفراشه

وقد تدلت في يده مسبحة حسينية

كان يسبّح ..

ويصلي على النبيّ الكريم

وعلى أهل بيت النبوّة

عليهم أفضل الصلوات

فقد نمتْ في روحه

العواطف النبيلة

وتطورت محبته

حتى بلغت عنفوانها الأكبر

ليؤدي رسالته الحياتية

على نور حب الله تعالى

شهيقه معطّر

بأنفاس رسالات السماء

السماء الواسعة، الزرقاء

التي تتهادى

اليها النجوم

فيراها

مشعلا، وانتباهات

تتفجر في صدره

ابتهالات، وتراتيل

تعبق بتضاريس النفس

وعلى فمه ابتسامة سلام

شلالات حب

ودفقات خير ...

يا الله ...................

فهو الربيع

الذي يمشي

على ساعديه شذا الورد

ينشره

في الفضاء الفسيح

في كل مكان

*

أجل كنت َ حقّاً

يا والدي العزيز

يقظة الحياة

وسفر الضياء

**

3- العودة من الكليّة

كنت عائدا، انا، وزميلتي العزيزة، من الكلية

في ذلك اليوم، بالتحديد، منتصف تشرين الأول

والساعة تشير الى الرابعة عصرا

والشمس تجنح للمغيب ..

كنا جالسين معا،على مقعد واحد

في مصلحة نقل الركاب

أحسستُ أنّ قلبي يئنّ.. ويتوجع

وتراكمت الأفكار في رأسي

الحيرة تشتدّ بي ...!

كانتْ صورة والدي أمامي ..

وهو يقول لي : "تذكّر أني ابتسمتُ لك

وأنت تغادر البيت، ذاهباً الى الكلية..

أهناك أجمل، من هذا الوداع ...؟"

وضجّت الدنيا من حولي

وترددتُ ..ماذا أقول لزميلتي ..؟

كانت هذه الزميلة، الصديقة،الوفيّة

من أقرب الناس إلي

لها مكانة في نفسي

وكلماتها تجعلني، أتذوّق هناءات العالم

لكنّي لم أجد الآن، ما أقوله، كل الكلمات

قد ماتت على ثغري

وكنتُ في دواّمة من الأفكار، والهواجس

والباص تأكل الطريق ..

طريق أبي الخصيب

فجأة

صحوتُ على صوتها الرقيق

- لقد عبرنا جسر حمدان .. يا حمدان

ما بك يا حامد، أراك ملغوما ً بالقلق ....؟

- لا شيء يا ......!

- أصحيح، لا أظنّ ذلك ..

فضجرك قد حاصرني ..

وصمتك رحلة طويلة ...؟

كأنّك تتجرع الأحزان .!

(ألقتْ نظرة على وجهي)

مالتْ برأسها للأسفل،

تلمّستْ السلسلة الذهبية المحيطة برقبتها،

وراحتْ تلفّها

حول خنصرها الصغير

وردّدتْ بنبرة حزينة:

" لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان "

- أجل انها حكمة عظيمة

من رجل عظيم

انه امامنا علي عليه السلام-

سأبقى أفكّر فيك، ستمر

الساعات،

ببطء وثقيلة ...

المهم ان شاء الله

سأراك غداً

أن شاء الله، بأحسن حال

والآن لقد وصلتَ يا حامد

التفتُ اليها ..!

- أجل لقد وصلتُ

،شكرا مع السلامة

- مع السلامة ..الله معك

أراك بخير

***

حامد عبد الصمد البصري

1- سقوط:

غادرت مهن الحروف،

وأسرار التلقين،

منذ سنين...

واليوم تطل مسودة،

من العاصمة مستعجلة،

كعاصفة للقهر مكتظة،

تقول مغرورة متشدقة:

سأرديك شهيد المنظومة،

قربانا لكل الأنظمة السالفة والآتية،

ذليلا مستسلما...

سألبسك كفن مهن،

أزلته عن طواعية

لتصير للفزع رمزا،

وللغبن منارة...

لن تنشر الأمل بعد اليوم،

ولن تسافر في المستقبل كما عهدت،

فقد حلت المسودة،

وفيها أنك ضمن التربية...

مسودة أنت بل مكفهرة

في وجه الحالمين،

برقي في المراتب،

وبلوغ الدرجات...

لم أعد عشتار التضحية،

بل صرت كدمية من طين،

في أيادي العابثين،

تارة يجعلون مني تقنيا،

وتارة لا شيئا،

وتارة أخرى مؤجلا غير محسوم...

صرخت ولم يسمع صراخي،

ناضلت وحُجِبَ  نضالي.

أديت من أجرتي الكثير،

لهذا الوطن الكبير،

ولم تأت الْمُبيّضَة،

لعلها تغطي القليل،

من تجاعيد انتظار طويل...

أخذوني،

أنا القليل العدد

العظيم الأدوار،

وفرقوني أطباقا من يأس

خال من شوك يقاوم،

على موائد جلسات،

قيل أنها لتوحيد المسارات.

إنهم حقا عازمون،

أن تقتات منك كل الفئات،

وتحمل أسفار الهيئات،

راضيا مصلوبا،

وممددا في أدنى الدركات،

فزغرد بدنو النصر

أيها الجلاد،

إذا لم يستفق المستشار من السبات،

ويملئ كل الفضاءات،

بالضجيج والهتافات،

حتى تستعاد الحقوق والمكتسبات...

**

2- انبعاث:

أنا الغضبان على الجور،

الرافض للحيف،

لن أرضى بغير الإطار،

ولن  أُقَبِّلَ زوايا المعابد القديمة،

لاهثا وراء تنويه من ورق،

مختتم بلون أزرق من نكوص...

أنا ذلك الممتنع المعتنق،

زادي في ذلك خسائري الفادحة:

حولين في العاصمة،

وسنوات في الفيافي...

ذكرياتي على دروب قطاعات الموت،

وتأملاتي لسطور مذكرات تكبيل،

شحذتها توالي طعنات،

من لم يتعلم فلسفة الاستشارة....

***

حمزة الشافعي

تنغير-المغرب

بعد أن ماتت زوجته تنازل الحاج عبد الله لأبنائه عن حقه في الإرث كما سلم لهم البيت الكبير واكتفى بشقة صغيرة اشتراها في عمارة حديثة البناء،لم ينقل لها الا الضروري من الثياب والأثاث ..

اتفق مع راضية الخادمة وهي سيدة مطلقة في عقدها الثالث أن تزوره يوميا، تعد طعامه حسب مايريد ويشتهي وتسهر على تنظيف شقته و ثيابه من آلة الغسيل الى المكوجي ..

قلما كانت راضية تتأخر عن موعدها الصباحي الا اذا منعها وابل من مطر شتاء أو تأخرت حافلة عن وقتها،فهي تدرك أن الحاج لاينام بعد صلاة الصبح ويحب ان يتناول فطورة باكرا والذي لا يتعدى بيضة مسلوقة وشريحة خبز رقيقة مع قهوة يحبها ثخينة، أحيانا كان يطلب منها إنضاج بيضتين في قطرات ماء قليلة قبل ان تضع عليهما ملعقتين كبيرتين من زيت الزيتون ثم تدردر خليطا من كمون وقزبرة ناشفة، وفلفل أحمرحار، وتعويض القهوة ببراد صغير من شاي ثخين بلا نعناع ولا سكر..

ينتقل الحاج عبد الله الى زاوية من شقته تعوَّد أن يتركن فيها، يسند ظهره الى وسادة كبيرة وفوق فخديه يضع أخرى صغيرة عليها يحط حاسوبه المحمول ويشرع في القراءة أو الكتابة ؛ قريبا منه طاولة صغيرة عليها تضع راضية كاس عصير من حامض او برتقال حسب رغبته ..

روتين يومي تعوده وكأنه لا يحقق وجوده الا بتنفيذه، ولا يعانق حريته الا حين تلبي راضية كل ما يريد وحسب عادته اليومية ..

كان لا يشتكي من وحدته ومنها لايطويه سأم ولا قنوط كأنه معها في قران لحظي وسعيد ..

تطل راضية عليه بين حين وآخر لتذكره بما يمكن أن يسهو عنه :

ـ هل تحتاج الى ماء؟

الا أغير لك كأس العصير؟

كان يكتفي بتحريك رأسه سلبا او ايجابا حسب رغبته ..

كانت راضية تتمنى أن تتوقف عيناه عن متابعة ما يكتب أو يقرأ وان ينسل من خلوة عقله وتفكيره بحديث معها او ببسمة نحوها تشجعها على الجلوس معه لحظات يحدثها عن نفسه،عما يخطط، وعن خيالاته التي كثيراما تتناهى اليها الى المطبخ وهو في حديث خاص معها، وكأنها تملي عليه ما يكتب،حتى هاتفه ينسى شحنه اذا فرغ وراضية هي من يقوم بذلك، كان مبدؤه : اخترت وحدتي حتى لا اصطدم بأحد ومن ارادني فعليه أن يطرق بابي ..

كانت راضية تتفانى في خدمته، رجل كم تحمل من صبر وحرمان جراء مرض زوجته الطويل فلم يتأفف ولم يشك أو يتدمر،بل كان لها الشحنة التي ملأت صدرها بصبر ابان زواجها .. كانت تعرف رضاه عنها وسعادته بخدماتها حين يقول لها ضاحكا :

انت مرآة نفسي وكفايتي بعد ان تجاوزت الستين وبقيت وحيدا

تحرك رأسها في اعتراض ولنفسها تردد بعد تنهيدة عميقة:

غيرك وفي عمرك يجدد حياته بابتداء ..ماذا ينقصك ؟

كان يسعدها أن تسمع منه كلمات مدح كهذه والتي أنستها مع الأيام ماعانته مع زوج قبل أن تنال طلاقا كلفها الكثير من التنازلات، ذنبها أنها عاقر لم تلد وحتى يطلقها الزوج دون أن يدفع لها حقا من حقوقها، مارس عليها كل أنواع المكر والخداع من ضرب وتقتير في النفقة،و إصراره على التنازل عن حقها في بيت دفعت اقساطه من عرق جبينها وعملها في إحدى تعاونيات التموين قبل أن تعمل في بيت الحاج أيام زوجته، تنازلت راضية عن كل شيء وخرجت بنفسها تتلهف حريتها وهي من توسمت في من اختارته رغم عمره الذي يكاد يتجاوز سنوات عمرها شريك حياة تعيش بجانبه وتتعلم من خبرته في الحياة ويعوضها يتم الابوين ..

كان الحاج حين تسرقه راضية بحديث طويل عن حياتها الماضية، أمها التي لا تعرفها، أبوها الذي مات ولم يصلها غير خبره، زوجها الذي نكل بها حتى صارت لاترى رجلا الا و أحست بالدوار والغثيان..كانت راضية  تجعل الحاج بحديثها كلاعب ينسى الجمهور من حوله، يصغي اليها بانتباه  فينسى حاسوبه فوق ركبتيه كما ينسى حرقة غياب أبنائه الذين لا يحركون هاتفا بسؤال أو يكلمون جرس الباب برنين ..

 يتعب الحاج من جلسته فيتحرك في شقته غدوا ورواحا أو يقوم بإطلالة على المطبخ ليتنسم ما تعده راضية لغذائه .. تشهد له بالذوق وقدرته على التمييز بين أنواع الطبيخ قد ينصحها بإضافة إحدى التوابل او يضع يده على كتفها مشجعا فترتاح للمسته وفي ذاتها يسري دبيب خاص ..

يعود الحاج الى ركنه المفضل وبين عيونه صورة راضية بقدها الممشوق، وجهها الهادئ، وعينيها اللتين لاتغيب عنهما بسمة، يتساءل عن نوعية الرجل الذي فارق أنثى مثلها في أوج شبابها من أجل طمع فيما تملك ..

تأخرت راضية هذا الصباح عن موعدها فسواق الحافلات في إضراب، فماكان منها الا أن تقطع الطريق راجلة .. استغرب الحاج لتأخرها ..

عاد الى سريره وتمدد فأخذته غفوة .. فتح عينيه مرعوبا على ضربات فاس تحفر خلف الجدار في الشقة التي تحادي شقته .. هب من مكانه متحسسا ألما في رقبته، فتح باب الشقة، من خلال اطلالة على شقة الجيران وجد ان عاملا يهدم أحد جدران الشقة .. عند لقاء بصاحبها أخبره في نوع من الزهو والغرور أنه يريد توسعة صالون بيته ..

عاد الحاج الى شقته وقد انتبه ان راضية لم تحضر بعد :

ما الذي أخرها ؟ ..

شرع يعد فطوره بنفسه حين سمع بكارة الباب تفتح ..

كانت راضيه تلهث والعرق يتصبب من وجهها الذي كسته حمرة إجهاد.

ـ خير !! .. أين بقيت الى هذا الوقت ؟

ـ سواقو الحافلات في إضراب ..

ـ هاتفيني ولا داعي لحضورك، بدل هذا الجهد

ـ لا .. يهم ..رياضة صباحية على حسابك،أعتذر ..

تنتبه الى صوت الهدم بالجوار ..

ماذا يحدث عند الجيران ؟

ـ توسعة الصالون بلا رخصة ..

تضع راضية صينية الفطور امام الحاج ولسانها لا يتوقف عن الاعتذارعلى تاخرها . يمد الحاج يده الى ذراعها يمسح عليه برفق :

ـ فيه خير لا عليك، عوضت الفطور المبكر بغفوة كسرها هدم الجيران..

وهج ضوء وطاقة من حياة تسري في ذاتها كلما لمسها، لو تستطيع تقبيله !! ..

تتراجع وقد تنبهت الى انها لم تخلع جلبابها، وهي تستدير الى غرفة خاصة بها ودفء إحساس مايسري في ذاتها، يتداعى الجدار الفاصل بين المطبخ والصالون،بسرعة ترتمي راضية على الحاج لتقيه الطوب المتداعي عليه، دم نازف من جبهته ومؤخرة راسها، حاولت ان تسنده ليقف لكنه كان غائبا، بجهد تجره الى غرفتها ثم تمسح وجهه بماء .. كانت تصيح وهي باكية خوفا من أن يكون قد فقد الحياة ..

أسرعت الى هاتفها واستدعت سيارة إسعاف ..

يفيق الحاج من غيبوبته بعد يومين، ثقيل اللسان، ذابل النظرات

عند خروجه من العيادة طلب منها أحد أبنائه ان كانت تعرف الرقم السري لخزينته، تملته باحتقار وقالت :

ـ لاعليك سأقوم بالواجب..

حجزت راضية غرفة في فندق الى ان تم اصلاح جدار البيت ..

مذ دخل الحاج الى العيادة والى عودته الى البيت كانت راضية تحس بالم في مؤخرة راسها يبدأ رقيقا ثم لا يلبث ان يسري في جميع أطراف جسدها، تتناول مهدئا فترتاح قليلا، رغم بعض الدوار الذي لا يفارقها ..

كانت أول كلمات الحاج بعد أن استعاد عافيته شكر راضية بعناق وقد لف ذراعيه حولها، مسد شعرها ثم مسك يدها وقبلها، بسرعة سحبتها وطبعت قبلة حارة على خده والدمعات من عينيها فوارة .ثم سألها عن أبنائه.

لم تخبره بأي شيء فهي أكبر من أن تفسد علاقة بين أب وأبنائه لكن من كلام أحدهم معه هاتفيا أدرك أن راضية هي من أدت فاتورة العلاج فاصر على أن تسترد منه ما دفعت،أملى عليها الرقم السري للخزانة،وهي تحاول القيام لجلب ما طلب لفها دوار وغثيان اسقطها على الأرض ..

بعد الفحوص تبين أن نزيفا داخليا قد أصابها في مخها اثر ضربات الطوب من الجدار الذي تهدم أدى بعد عدم انتباه الى سكتة دماغية كانت سبب وفاتها بعد يومين من سقوطها ..

اسى حارق أصاب الحاج وقد قمطه في شعور بالذنب وغضب فقد معهما القدرة على الإحساس، ادلهمت الحياة في وجهه فما كان يحمله لراضية هو حب جاهد كتمانه وهاهو يصير مرارة، فعن فراق راضية لايطيق صبرا، شوق متواصل ولهفة علي أمرأة خدمته بإخلاص ولم تتأخرالا يوم كان القدريترقبها بضربة قاضية..

ذات يوم وجد حارس المقبرة رجلا تعود أن يراه يوميا يتوسد تراب الرمس بعد أن يقرأ صفحات من أوراق يحملها، نثر الريح ورقة منها بعيدا ...

أنثى عوضتني عن صدمة غياب أبنائي بعد أن تنازلت لهم عن كل ما أملك واكتفيت بدخلي الشهري ..

عني أدت ما لها يبقيني بحياة، كانت لي عاشقة وكنت بها المتيم ..

بين الأوراق كانت وثيقة رسمية  هي وقف شقته على أحباس المقبرة، صدقة جارية لروح راضية ..

***

محمد الدرقاوي - المغرب

قـــوةُ الفـِـكــرِ، لا تُــقـاسُ بـزَنْــدٍ

تَـتَـعـالى آفـاقُـهـا فـــــي السِّـِجـالِ

*

والـتّـباهـي  بـلا  رَصيـدٍ  ضَياعٌ

ومَـخـاضٌ،  فـي رائـب الأوْحـالِ

*

كــلُّ فَـخْـرٍ فـيــه الـغـرورُ مِــدادٌ

يَـفـقــدُ الـوصلَ فــي نـقاء الفِعـال

*

عـبَـقُ الفضل فـي المواقفِ يبقى

رمـْزَ خـيـْرٍ علـى مسار اللـيـالي

*

لا تُـجـادلْ ، إنْ لـم تـكـن بجَـدِيـرٍ

رُبَّ أمْـرٍ  يـُـودي  لِـداءٍ  عُـضالِ

*

يا رفـيعَ المَـقام، فـي القلبِ شـوقٌ

تــتـجلى أوصافُـه  فـــي الـمـقـال

*

من سُــروري، أرَتّـلُ الشعرَ فيكم

مُـسْـتـطـيـبـا  أحـاســنَ  الأقــوال

*

كلما  مَـرَّ  ذِكـرُكـم  فـي حديــثٍ

يَــتَـحلّـى  الـتَـبْـجـيـلُ  بـالأمـثـال

*

يا ربــيـبَ البـيان ،  زِدني بـيـانـا

فـالـقـوافي لـبحـرِكـم فـي امْـتِـثـال

*

كـلُّ قـلبٍ يستـوعبُ الحُبَّ طوْعـا

غـيـر خافٍ ، فـي حِـلّـةٍ وارْتِحالِ

*

قـدْوةُ الــقـومِ ، فـي الحياة ربـيـعٌ

دائـمُ  الوصل ،  في رُبى الأجيالِ

*

فـإذا  ســاءَ فــي المسـيـرة  أمـرٌ

حَكَّـمَ العـقـلَ ،لاجـتـنـاب الوَبـالِ

*

حِكمةُ المرْءِ في سجاياه تسْـري

باقـتـدارٍ تـَحـمي خُـطى الأفعالِ

*

فـإذا أينَـعـتْ  ثـمـارُ الـقـوافــي

أبدعَ الوصفُ فـي ثـناء الجَمالِ

***

(من الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

عَيْنَانِ خَضْراونِ كَالْأَلْمَاسِ

ببريقها  تسبي قلوبَ الناسِ

*

كالكوَّتانِ على مشارفِ جَنَّةٍ

حَضَناهُمَا زوجٌ من الأقواسِ

*

وَكَأَنَّهَا فِي الْحُسْنِ توءَمُ فَرْقَدٍ

لَاحَتْ عَلَى الْأَكْوَانِ فِي الأَغْلَاسِ

*

أَو ظَبْيَةٌ عِنْدَ الصَّبَاحِ تَخَبَّأَتْ

مِنْ أَعَيْنِ الْحُسَّادِ تَحْتَ كِنَاسِ

*

أَخْفَى الْحِجَابُ طَلَاَوَةً وَنَضَارَةً

فَبَدَتْ  مُشَعْشِعَةً كزَهرِ الْآسِ

*

كمَليكَةٍ  إِذْمَا تَحَرَّكَ رِمْشُهَا

يَهْتَزُّ  آلآفٌ مِنَ الْحُرَّاسِ

*

لَمَّا  رَنَتْ بِلِحَاظِهَا وَتَبَسَّمَتْ

ماظلَّ عَقْلٌ رَاسِخٌ فِي الرَّاسِ

*

أَصَبَحْتُ كَالْبَهْلُولِ أَمْشِي تَائِهًا

وَنَسِيتُ  بَعْدَ غَرَامِهَا جُلَّاسِي

*

وَكَأَنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا فِي لَحْظَةٍ

صَبَّتْ  خُمُورَ الأَنْدَرِينَ بِكَاسِ

*

فَرَضَخْتُ طَوْعَا حَيْثُ ذُبْتُ صَبَابَةً

وَأَنَا الَّذِي قَدْ كُنْتُ كَالْعَبَّاسِ

*

وَرَفَعْتُ رَايَاتي لها مُسْتَسْلِمًا

وَفَقَدْتُ كُلَّ شَجَاعَتِي وَحَمَاسِي

*

كَيْفَ النَّجَاةُ أَأَتَّقِي سِحْرَ اللمَى

أَمْ نَغْمَةَ الْإيقَاعِ فِي الوَسْوَاسِ

*

أَدْمَنْتُ  خَمْرَتَهَا وَدَيْدَنَ دَلَّهَا

وَسَبَقْتُ مَرْجِعَها أبا نَوَّاسِي

*

لم يقتربْ كأسُ المُدامةِ من فمي

دَارَتْ  بِيَ الْأَفْكَارُ كَالْخَنَّاسِ

*

أَهْذِي كَمَا يَهْذِي الْكِلَاَمَ مُهَلْوِسٌ

عَانَى مِنَ الْإِرْهَاقِ وَ الْوَسْوَاسِ

*

وَتَحَشْرَجَتْ رُوحِي ومَابيَ عِلَّةٌ

لَكِنْ  هَوَاهَا بَاتَ فِي أَنْفَاسِي

*

قَالُوا انْسَها واسْمَعْ كلامَ مُجَرِّبٍ

حَتَّامَ تَبْقَى فِي الغَرَامِ تُقَاسِي

*

فَأَجَبْتُهُمْ  إنْي غَدَوتُ مُتَيَّمًا

وَتَكَبَّلَتْ  كَفَّايَ بِالْأَمْرَاسِ

*

هَلّا سَأَلْتُم غَيْرَ هَذَا مَطْلَبًا

لَا أَسْتَطِيعُ وماأظنُّ بِنَاسِي

*

إنْي عَرَفْتُ مِنَ النِّسَاءِ جَلائِلاً

هِي وَحْدُهَا مَنْ أَلْهَبَتْ إِحْسَاسِي

*

إِنَّ الْمَشَاعِرَ لِاِتُبَاعُ وَتُشْتَرَى

هِي لِلْمَحَبَّةِ دَائِمًا كَأَسَاسِ

*

سُفُنِي مُحَطَّمَةٌ بِشَطِّ  جَزِيرَةٍ

قَدْ مَرَّ أَعْوَامٌ وَهُنَّ رواسي

*

وَطُيُورُ أحْلَاَمِي بِلَيْلٍ هَاجَرَتْ

وَالْأُمْنِيَاتُ تَبَدَّدَتْ مِنْ يَاسِ

*

ماضرَّ إِنْ مَرَّتْ بِأَرْضِي نَسْمَةٌ

أَوْ  أَنَّ أَمْطَارًا أَتَتْ بيباسي

*

فاخْضَرَّتِ  الآفَاقُ بَعْدَ تَصَحِّرٍ

وَتَفَتَّحَتْ  بِالحبِّ كُلَّ غِرَاسِي

*

مَرَّتْ  كَمَا مَرَّ الرَّبِيعُ بِقَاحِلٍ

وَغَدَتْ لِبَعْضِ مُواجِعي كَالآسِي

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

كنت في طريقي إلى بيتي في حارة سوق البلدة القديمة، عندما شقّ صوت غريب مألوف نوعًا ما ظلام الشارع متوجّهًا نحوي.

- ألست الناجي؟

مَن تُرى يكون صاحب هذا الصوت. إنني أعرفه ولا أعرفه في الآن، ولماذا هو يعترض طريقي في هذا المساء الكوروني الصعب العصيب؟. لم أردّ عليه، وحاولت أن أواصل طريقي فدنا مني:

- لماذا لا تردّ عليّ.. بماذا أنت مشغول عنّي.. أيها القاصّ المُبدع؟ تمهّل قليلًا أريد أن أتحدّث إليك.

شددت على حقيبتي الجلديّة وأدنيتها من صدري. وخطر لي أن أجاري محدّثي بكلمة أو أكثر ليحلّ عن ظهري وليدعني أمضي في طريقي، أنا ومدّخراتي من القصص الجديدة الهاجعة المسترخية داخل حقيبتي.

- أنا مشغول الآن بقصة جديدة. أجبته وأنا أحاول أن أمضي في طريقي. فاستوقفني:

- عمّاذا تتحدّث قصتك؟ .. سألني في محاولة واضحة لإطالة الحديث. أجبته وأنا اجذب كيس ملابسي إلى كتفي:

- سأنشرها قريبًا. بإمكانك أن تقرأها.. مثلما تقرأ أية قصة أخرى.

بدا أن إجابتي هذه فتحت له منفذًا آخرَ لمواصلة حديثه الثقيل معي، فتابع يقول:

- هل ستكون قصتك الجديدة عن الكورونا.. مثل سابقتها؟

هززت رأسي مرسلًا علامة الموافقة. ومحاولًا المضيّ في طريقي. إلا أنه عاد يستوقفني:

- انتظر قليلًا.. أشعر أن هناك مَن نقل إليّ عدوى الكورونا.. استمع إلىّ ما حدث ربّما يساعدك فيما سأقصه عليك في كتابة قصتك الجديدة.

انتابتني حالة من الرعّب. كورونا؟ ويلي إذا ما كان محدّثي قد أصيب بالكورونا ويا مصيبتي إذا ما نقل عدواه تلك إليّ. عندها ستكون النهاية ولن يكون بإمكاني مُعايشة حلم العمر في مواصلة كتابة القصص. ابتعدت عنه وجريت في الشارع الممّتد أمامي. وسط استعطافه إياي بأن أستمع إليه. وكنت أركض في ذلك الشارع أحمل حقيبتي القِصصية وكيس ملابسي، فأبدو مثل شبح يحمل كوخه القِصصي وينطلق في غابة لا نهاية لها. ركضت.. ركضت.. وركض هو ورائي طالبًا منّي الانتظار. إلا أنني أغلقت أذني ومضيت طائرًا في حالة هستيرية. حالة لم تمكّني مِن تبيّن الاتجاه، أهو وسط الشارع أم رصيفه، وبينما أنا أركض وهو يركض ورائي، شعرت بحافلة كبيرة ضخمة تنطلق باتجاهي، وتفصل بيني وبين مُطاردي. تعلّقت بأسفل الحافلة، غير مفكر إلا في أمر واحد ووحيد.. هو التخلّص من ذلك الكوروني المفاجئ. عندما توقّفت الحافلة في مركز البلدة. حرصت على ألا يراني سائقها فأتعرّض إلى سين وجيم. واحتمال عدوى أخرى متوقّعة، تقطع عليّ الطريق إلى بيتي وحلمي في أعماق سوق البلدة القديمة. ابتعدت عن الحافلة، وأنا أغبط نفسي على أنني تخلّصت من حادث كان من المتوقع أن يكون قاتلًا، وقبله عن كوروني موبوء. وجريت متعلّقًا أكثر من أي وقت آخر بحقيبتي القصصية وملابسي في كيسها الكبير. وكنت حريصًا على أن أصل غرفتي الصغيرة لمواصلة العيش على حافة الحلم وكتابة قصتي العتيدة.

انطلقت في شارع الكازنوفا باتجاه السوق. لأقف متأملًا منظرًا طبيعيًا مُبهرًا، هُيء لي أن أصحابه ملّوا مِن قِدَمه فقذفوا به إلى الشارع، لعلّ مفتونًا بالأنتيكات يأخذه ويكتب قصة في أجوائه القديمة. اقتربت من المنظر المجسّم بطريقة قديمة محبّبة. غير عابئ بنظرات فتاة تحاول أن تجمع أغراضها القديمة المعروضة على حاجز حديدي كاد يلتصق بجدار مبنى الكازنوفا. ورحت أتمعّن فيه. وأفكّر بطريقة سهلة تُمكّنني من إضافته إلى حملي الثقيل. بينما أنا أفكر في تلك الطريقة اللعينة، التفتّ إلى ملابسي لأراها مبعثرة هناك دون كيس، ولأرى بالتالي فتاة أخرى ترسل نظرتها باتجاه جدار الكازنوفا موحية إليّ أن تلك البائعة الصغيرة قد أخذت كيس ملابسي بعد أن أفرغته منها. انطلقت باتجاه تلك الفتاة فرأيتها تجمع اغراضها وتضعها واحدًا بعد الآخر في كيس ملابسي، قلت لها إنني بحاجة إلى ذلك الكيس، وإنها أخذته منّي دون أن تسألني كما تقتضي آداب التعامل، فأنكرت أن يكون ذاك كيسي، قائلة الاكياس كلّها تتشابه. وهذا الكيس ليس لك. وأرسلت نظرة حملت معنى غامضًا باتجاه موقع حقيبتي وملابسي ومنظري الانتيكي. لأفجأ باختفاء الملابس والحقيبة العزيزة الغالية. احتبست الكلمات في فمي، تاهت عيناي في عتمة الشارع. ترى مَن أخذ حملي الثمين العزيز؟. وتوجّهت وسط شرودي، رُعبي وذهولي إلى فتاة الكيس قُبالتي:

- مَن أخذ حقيبتي وملابسي؟ سألتها فردّت بنوع من الدلع المقصود:

- لا أعرف. شعرت من إجابتها هذه أنها تعرف، فغرست عينيّ في عينيها:

- قولي لي.. هل أخذت تلك الفتاة أغراضي؟ سألتها وتابعت:

- قولي لي مَن هي تلك الفتاة وأنا سأسامحك بالكيس.

ابتسمت الفتاة قُبالتي، وطلبت منّي ألا أدخلها في مشاكلي. بعد أن أقسمت لها أنني لن أتسبّب لها بأي ازعاج. أخبرتني بأن تلك الفتاة استغلت فرصة توجّهي إليها - حيث وقفنا- ، وحملت ملابسي وحقيبتي وانطلقت بالاتجاه المعاكس. نحو بيتها القائم في آخر الشارع، الدور الثاني. ركضت في الشارع، غير عابئ أنني إنّما أجري في الاتجاه المعاكس ومبتعدًا عن هدفي.. وبيتي، وصلت نهاية الشارع. فتحت بوابة الدور الاول وارتقيت لاهثًا الادراج المُفضية إلى الدور الثاني. فتحت الباب الخارجي للشقة المقصودة. لئلا تغلقه مَن استغلت الموقف وأخذت ملابسي وحقيبتي القصصية، وتحولُ بذلك بيني وبين استعادة ممتلكاتي الدافئة. نظرت في البيت كان يبدو فقيرًا. الخزانة مخلّعة الابواب. بقايا طعام موضوعة على منضدة في وسط المكان. وملابسي المسروقة للتوّ تنتشر على الارض، فاتحة أفواهها كأنما هي تودّ أن تستغيث بي طالبة أن تعود إليّ، غرست عيني في عيني سارقتي ساكنة الشقة:

- أعيدي إلي ملابسي. قلت لها. فردّت ببرود:

- وهل تعتبر هذه الخِرق ملابس؟ لو كنت أعلم أنها قديمة وبالية إلى هذا الحدّ ما كلّفت نفسي أخذها. قالت وتابعت:

- اعتقدت أنك لا تريدها.. لستُ بحاجة إليها.. خذها مباركة عليك.

- والحقيبة؟ أين هي.. سألتها بلهفة طريد مُلاحق. فردّت ببرود:

- يبدو لي أنك رجل مفلس.. لم أجد فيها سوى أوراق.. وتوقّفت ربّما لترى ردّ فعلي.. بعدها تابعت.

- إذا أعدتها إليك.. بماذا ستكافئني؟

- سأترك لك ملابسي كلّها. أجبتها بلهفة وسرعة.

قهقهت:

- ألا تُحلِّ فمي؟

عندها أخرجت كلّ ما في جيبي مِن أوراق نقدية.. وقذفتها تحت قدميها، فانحنت تجمعها، وأشارت نحو زاوية خفيّه هناك. اندفعت باتجاه تلك الزاوية. فأطلّت حقيبتي الغالية نحوي بعينين دامعتين. احتضنت حقيبتي بحنوّ وحنان، وربّتت على كتفها.. عانقتها، ونزلت الدرجات جريًا. ركضت في الشارع مثل حكيم عاقل اكتشف أنه مجنون للتوّ.. وركضت.. لأفاجأ بذلك الكوروني الثقيل يركض ورائي.. ولأزيد بالتالي مِن ركضي.. حاملًا حقيبتي القِصصية.. حلمي وخوفي..

***

قصة: ناجي ظاهر

كان يوما قائظا. انتابه إحساس بضيق صدر وشيء من كدر. لهاثه كان مسموعا. راح يغذ السير نحو أقرب منطقة يستطيع الحصول فيها على واسطة نقل توصله إلى البيت، حين حوصر بمجموعة رجال، عند الطرف الجنوبي لشارع حيفا القريب من الزقاق الذاهب نحو جسر الشهداء وسط بغداد. رفعوا جسده الناحل بخفة وسرعة فائقتين، ودفعوا به نحو حوض سيارة مظللة رباعية الدفع. كانوا غلاظا فجين، تصدر عنهم رائحة غريبة،كأنها خليط من عفن ورائحة مقززة لبخور عتيق رخيص. منذ اللحظة الأولى وجهوا له سيلا هادرا من شتائم. كان قد عرف دوافعها مسبقا، لذا لم ينبس بكلمة للرد.

تخيل ما سوف يحدث قبل قدومهم المباغت هذا. فليس من المناسب أن يستسلم لهم طواعية،لذا وضع في تفكيره سيناريو للمواجهة المحتملة،استحكامات يجب عليه اتخاذها. ممكن أن يكون هناك اشتباك وصراع بالأيدي،ومن الجائز أن يترافق بإشهار أسلحة، عندها سيدافع عن نفسه بأقصى ما يستطيع، ولن ينقاد لهم بسهولة، تلك كانت نواياه وهو يجهز نفسه لمغامرة ترك ساحة الاعتصام في ساحة التحرير.

كان اختطافه متوقعا، لذا كان يتوجس خيفة أن يؤخذ غدرا، دون حدوث مواجهة حقيقية مع الخاطفين. فقد وجهت له العديد من رسائل التهديد التي اتخم بها هاتفه، ولكن دائما ما استخف بمحتواها،واعتقد أنها لا تعدو غير لعبة صبيان ليس إلا. ولذا لم تراوده رغبة مسحها ورميها بعيدا رغم مشاعر الضيق والحنق التي تنتابه في كل مرة تعلن رنة هاتفه ورودها،لحين ساعة اختطاف زميله المعلم محمد خيون خريبط العرادي، والذي وجد بعد يومين مرميا في منطقة مهجورة خارج العاصمة، بجسد مشطب بالسكاكين.عند تلك الحادثة أضطر لمعاودة قراءتها بحثا عما تخفيه وتضمره من تهديد حقيقي لحياته.

قبل خروجه من الخيمة المنصوبة وسط الساحة ،وكان ذلك قراره الذي اتخذه مساء البارحة، في ساعة ضجر وبعجالة ودون تروٍ. فقد أخذت صور زوجته وأبنائه وحفيديه تراوده بإلحاح، وتضعف إرادته على المطاولة. ستة أيام من الابتعاد عن الأهل والأحفاد، بدت جد طويلة ومؤذية، ويحتاج أيضا لحمام دافئ وملابس نظيفة.

نبهه بعض أصدقاء، لضرورة أخذ الحيطة والحذر، إن رغب الابتعاد عن الساحة،فتلك مسألة تحتاج للكثير من الفطنة والحصافة والحذر الشديد، وبالذات هذه الأيام، لمن أتخذ قرار الخروج بمفرده. فحوادث اختطاف المنتفضين باتت شبه يومية وعلنية أيضا،وما عادت بذات أهمية تذكر عند السلطات، وشاطرها هذا التغافل اللئيم الكثير من وسائل الإعلام.  فهناك من يتعقب المنتفضين منذ لحظة مغادرتهم مكان الاعتصام، ويصطادهم مثل طرائد. تكرر ذلك في الأيام الأخيرة بشكل مفزع. فوقائع عمليات القنص ومثلها الاختطاف، شارك فيها العديد من الأطراف ذوي الملامح المجهولة والدوافع الظاهرة أو المخفية، لذا أشار عليه شركاؤه في الخيمة،بضرورة اتخاذ الأزقة المتداخلة والبعيدة ممرات للابتعاد عن الساحة.

توقف وقد اعتراه بعض قلق، سار مسافة ليست بالقصيرة، وكان يتلفت بحذر شديد، ثم هرول. توغل في أزقة ملتوية،أضاع فيها وقتا طويلا،فلم يسبق له أن درج في تلافيفها، وما كان يملك اليقين والدراية بمداخلها و مخارجها. بعدها اجتاز جسرا تمهل وهو يسير فوقه، متأملا ضجة لطيور النورس وهي تقترب من سياجه الحديدي الأخضر، لتلتقط نثار خبز عافه أحدهم. شعر كأن هناك فوهات بنادق موجهة نحو ظهره من نوافذ البنايات المجاورة للجسر،وكانت أكثر الفوهات وأشدها تماسا وبأسا تخرج من فتحات تلك القبة الزرقاء الصامتة والصامدة منذ دهر طويل، مثلما عرف عنها، حيث روى المحدثون، كونها شاهدا دائما على انتفاضات ومسيرات حاشدة، ولازال جوف قبتها يحتفظ بصدى لعلعة رصاص، كان قد وجه لصدور وظهور رجال كانوا يرتشفون دمهم ببسالة، وتتشقق حناجرهم بحرقة هتافاتهم عن الحرية والعدالة التي أضمرت طويلا في الصدور.

هبط من الجسر وأخذ يجاور جدران الدكاكين المرصوفة على طول الشارع،ثم اختار التوغل في الأزقة الضيقة، محاولا الوصول إلى الشارع المفضي لقلب منطقة علاوي الحلة. لم يتبق غير الشيء اليسير ليكون الطريق سالكا بعدها نحو وسط المنطقة حيث المرآب الكبير للسيارات.  فجأة توقفت جواره سيارة رباعية الدفع مظللة، وبسرعة فائقة ترجل منها خمسة رجال بملابس مدنية ولحى مشذبة وابتسامات متشفية. بمرافقة سيل كلمات بذيئة، أحاطوه. تسمر مكانه، فلم تمنحه المباغتة فرصة التفكير بالهروب، واختفى لحظتها عن ذهنه، رهان ذلك السيناريو الذي سهد وهو يجسده في مسرحية ضج بها رأسه في ليال أشتد سوادها وهو يطالع سقف الخيمة الحاجب لضوء القمر.

كان المكان ضيقا لا يسمح بحرية الحركة والإفلات، لذا سهل عليهم مهمة محاصرته واعتقاله. كانوا وكأنهم قد دربوا على إتقان مهامهم، مثلما عليه رجال الصاعقة في الجيوش النظامية.دون عسر ومقاومة،  قيدوا يديه إلى الخلف بإنشوطة بلاستك، كانت تضغط على ساعديه، فشعر وكأنها حد سكين، ثم وضعوا كيس قماش كالح اللون، غطوا به رأسه، كانت رائحته عطنة مثل براز حيوان، أحس بالاختناق ورغبة بالتقيؤ. رفعوه بخفة، وألقوا جسده بقوة وسط الحوض الخلفي لسيارتهم.لم تستغرق عملية اختطافه غير دقائق معدودات، فقد كانوا مهيأين لها بشكل جيد وإتقان احترافي.

حركة السيارة المسرعة تشي باختراقها لشوارع عريضة، وكان سيرها بطيئا بداية الأمر، واهتزازها جعله يشعر بألم عظام شديد. ورغم سيرها الحثيث لوقت ليس بالقصير، فقد عرف بأنها لم تغادر وسط المدينة، وما كان اللف والدوران طيلة الوقت، غير جزء من عملية تمويه. لمرتين توقفت السيارة فسمع فيهما صوت ينادي من الخارج، تفضل سيدي.

شعر وكأن السيارة سارت ببطء شديد ولمسافة ليست بالقصيرة، داخل أزقة ضيقة مكتظة بالسكان. وبوجود بيوت قريبة، كان يصدر عنها صراخ أطفال وأصوات نسوة ، بل كان بالإمكان سماع مقاطع من حوارات قريبة، فعرف أنهم في حي مليء بالبشر.بعد فترة اختفت الأصوات كليا، وبدأت تزداد اهتزازات السيارة، وكأنها تسير عبر شارع ترابي مرصع بالحفر، ثم توقفت السيارة،سمع بعدها صوت صرير ثقيل لباب حديدي يفتح.

كانوا بعجالة من أمرهم،لذا سحبوه من حوض السيارة الخلفي ورموه أرضا فسقط  مثل كيس رمل ثقيل.انكفأ على وجهه فوق أرض ترابية ، ليجلس أحدهم بجسده الثقيل فوق ظهره، ومع رائحة العطن المنبعث من غطاء الرأس شعر بالاختناق وضيق وألم شديد في الصدر.

 لا تتحرك إلا حين تؤمر.

كان الصوت ناعما صافيا قريبا لصوت أنثوي، ولكن نبرته واضحة وحازمة.

 إنهض.

أعانه أحدهم على الوقوف. أصوات تئز في رأسه. وشعر بتشنج ربلة قدمه اليسرى، فأضطر للقفز الخفيف محاولا إرخاء وفك حالة التشنج، فسمع ضحكاتهم. ولكن الصوت الناعم صرخ بشدة مرة أخرى.

 توقف أرعن، معتاد على الرقص ،توقف وإلا..

سمع صوت سحب أقسام سلاح. وفجأة وجهت له ضربة كف قوية ترنح إثرها والتف بجسده دورة كاملة. حاول أن يتماسك كي لا يقع. لم يكن يعرف أي اتجاه يتخذه جسده، ثم سقط على ركبتيه.

 قف

تقدم أحدهم وسحبه من ساعده ليساعده على النهوض. شعر بغثيان ثقيل يداهمه.

 تقدم إلى الأمام ثم أستدر يمينا، خطوتين إلى الأمام، استمر بالتقدم لحين أطلب منك التوقف. اجلس على ركبتيك.

كان سيل الأوامر يتقاطع بحدة مع قهقهات قوية تتردد من المجموعة. شعر بمقدار ما يحمله هذا الصوت الأنثوي البغيض، من خبث وغل، وهو يلهو بتعذيبه. فجأة انتابته قوة وإيحاء روحي للمقاومة والصمود، ورغبة عارمة في إهمال ما يصدر عن هذا الصبي النزق، وقرر تحدي هذا الأرعن الخبيث. لذا توقف وتجاهل الأوامر.فقد راوده شعور بالقدرة على تقبل جميع الاحتمالات، بما فيها الموت، واستعداده لمواجهة هذه الطرق الصبيانية، الساعية لتحطيم معنوياته وإذلاله.

الخبث الداعر يحتسبه هؤلاء الأوباش انتصارا وشجاعة ما بعدها شجاعة،حدث نفسه وانتابته مشاعر ازدراء وكره شديدين. حاول الاسترخاء نفسيا وجسديا، وأحس بعدم المبالاة تجاه ما يجري حوله. تيقن بقدرته على مقارعة هذه اللعبة القذرة التي تمارس معه. ترقب غريب وشعور بلحظة أكثر غرابة، لم تراوده مشاعر خوف ورهبة. كل هذه المخاوف أحس وكأنها غادرت روحه ورميت بعيدا وغُلف جسده بحالة استقرار وطمأنينة ، فلم يعد يخيفه ما يحدث أو ما سوف يفعله هؤلاء للتنفيس عن ساديتهم وجبنهم، فليس هناك في خاطره الآن غير احتمال تهور هؤلاء الجبناء واندفاعهم لقتله.

 من الذي دفعك لمثل هذا الموقف المعارض للحكومة، إلى أي جهة حزبية تنتمي ؟ اخبرنا وإلا سوف يحدث ما لا تتوقعه، ولن يكون في صالحك وصالح عائلتك.

كان صوتا أخر لرجل أقترب منه وضغط بأصابع يابسة كأنها أقلام حديد عند الحفرة الرخوة بين الكتف والرقبة،يبدو بحركته هذه وكأنه يتقن طرق التعذيب. أحس بفحيح يلامس رقبته. شعر وكأن سبق له وسمع هذا الصوت. سمعه يتحدث في أحد أماكن ساحة التحرير، في خيمتهم أو بالقرب منها، كان صوتا خشنا أجشا جافا. جال بتفكيره داخل الخيمة وجوارها، ولكنه لم يستطع بكامل اليقين استحضار وجه صاحب الصوت. فضل الصمت، ووقف دون حراك، وكأن الكلام لم يكن موجها إليه، والأمر برمته لا يعنيه.

عند تكرار حالات الاعتقال، تدور في مخيلة المرء الكثير من الأسئلة،ويستحضر العديد من المواقف، أسباب الاعتقال رغم معرفته المسبقة واليقينية بها، ثم يبدأ التفكير بما سوف يكون عليه القادم، أو كيف تكون المواجهة ،ولكن بعد مضي وقت قصير، تقصي بعيدا جميع الرغبات بالبحث عن أجوبة،وعندها يشعر المرء بأن لا حاجة للحديث وإنما الصمت يحمل الكثير من البلاغة.

- ما الذي جعلك تذهب وأنت في هذا العمر وتحرض الشباب على التظاهر والانتفاض ضد الحكومة، أنتم مجموعة الجوكرية سيكون حسابكم عسيرا.

تلك اللحظة ود أن يرى وجه هذا الرجل الخبيث، ليتيقن جيدا من صورته التي وجدها تنط فجأة أمامه بكامل تجلياتها القبيحة. فكر بضرورة الامتناع عن الإفصاح بمعرفته لهذا الشخص، فذلك سوف يكون دافعا لقتله. طلب منهم رفع الغطاء عن رأسه. فرد أحدهم عليه بضربة كف قوية، ترنح إثرها ووقع على الأرض، فبدأت ركلاتهم تتوالى بقوة وسرعة. أخذ جسده يتلوى ألما.كان يحاول تحاشي الضرب، ولكن مع غطاء الرأس ما كان ليستطيع معرفة من أي مكان تهوي عليه الركلات. استمروا لعدة دقائق ثم أمرهم الصوت الأنثوي بالتوقف.

- تطلب وتريد، لا بل تأمر يا ابن الزنا،هذه المرة الأولى ولتتذكرها جيدا، في المرة القادمة إن كررت وجودك مع المتظاهرين وتحريضك لهم، فسوف يكون عقابك نهاية وجودك في هذه الدنيا.

 وماذا فعلت لتعاملوني هكذا؟ ومن تكونون أنتم؟

بسرعة وقسوة أعيد استخدام الركلات مرة أخرى جوابا على تساؤله. احدهم استخدم حزاما جلديا راح يسوطه به ، أخذ يتلوى وجعا وبذل جهدا فائقا لأجل كتم توجعه. كان أحدهم يوجه ضربات مقدمة حذائه الثقيل نحو وسط جسده وكأنه يريد أن يغرزه عند الخاصرة، ليصل إلى حيث الكلى، ومهما حاول التحرك والتخلص من الضربات، يجده يعاود الركل الشديد بذات المكان. كان وكأنه يعرف الهدف الساعي إليه، وبهذا الشكل الاحترافي، وسبق وأن مارسه مع العديد من الناس سيئي الحظ،من الذين وقعوا بذات الفخ الخبيث. فهذا اللعين يملك اليقين بكون ما يفعله، إذا لم يسبب انفجار الكلية فهو يعطبها، استمر الركل والضرب لما يقارب العشر دقائق.

- دعوه الآن فيكفي مع أبن العاهرة هذا، ما تلقاه هذه المرة من أحذية وضرب.لعله يرعوي.

 فعل جبناء، تنفردون بنا واحد إثر الأخر..

 أخرس وإلا فجرت رأسك.

 وماذا تنتظر.

 أرسلوه إلى مركز الشرطة في منطقته ليقبع هناك، وأخبروا الضابط أبو أنس بأن هذا الملعون يمارس الدعارة والقمار، ويحتاج لعقوبة قاسية بما يستحق.

 أبا رحيم،  هذا عنيد ولسانه سليط، ولم ينل اليوم ما يستحقه من تأديب.

 أعرف هذا، لعله يتأدب بعد هذا الدرس..خذوه.

رفعوه بخفة ورموه ليتكور جسده في حوض السيارة التي انطلقت نحو مركز الشرطة مخترقة الشوارع دون توقف.

*****

فرات المحسن

(قصيدة مستوحاة من بيته الشعري:

يا صاحبيّ اثأرا لي واحرقا كتبي

وحصّلا ديّتي من مهنة الأدبِ)

***

ســأحرقُ كــلَّ أوراقي وأمضــــي

وأطوي صفحــةَ الألــمِ المُمــــضِّ

*

كتبــتُ فلـــــمْ أجدْ إلّا حســـــــوداً

ومجبولاً علـــى لــــؤمٍ وبغــــضِ

*

فذي كُتبـــي معــي تشكو وتبكـــي

وتندبُ عـمـــري الماضي كومضِ

*

وقلبي فــي طــــريقٍ عكْسَ عقلـي

شُطرتُ فصارَ بعضي ضدَّ بعضي

*

غــريباً عشـتُ فــي الدنيـــا كأنّــي

بأرضٍ لـمْ تكُــنْ يـــــوماً بأرضـي

*

تصــدّتْ لـي لتدلغنــي الأفاعــــي

وكُــدّرَ من كــلابٍ ماءُ حوضي

*

فيا كتبي التــي سرقــتْ حيـاتـي

كفـى ما نلْــتُ من لدغٍ وعــضِّ

*

لهيــبٌ فــي انتظاركِ لا رفوفٌ

سيُضرمُ فيكِ في طُولٍ وعرضِ

*

هــوَ الحلُّ الوحيــدُ لما أعانـــي

فمــا حــلٌّ لـديّ ســواهُ يُرضـي

*

دوامُ الحــالِ يا كتبــي مُحـــالٌ*

وكـــلّ حقيقـــةٍ يوماً لنقـــــضِ

*

حــــراكٌ سوفَ يعقبــهُ سكونٌ

ويذبــلُ في النهايةِ كلُّ غــضِّ

***

جميل حسين الساعدي

....................

* اشارة الى القول الشائع: دوام الحال من المحال

في معارضة لقصيد أضحى التّنائي لابن زيدون: بالأمسِ كنَّا

***

بالأمسِ كنَّا وكان الودُّ يجْمعُنا

و اليومَ في اليمِّ قد تاهتْ مراسينا

*

لا الشّوقُ دام كعبْقِ الورْد يغْمرُنا

فيومرق زهرُ اللوْز أحيان  تلاقينا

*

بل اسْتحال فِجاجًا فجّة وجوًى

رياحُ قفْرها طِيعًا في وَجانينا

*

حسدْنَك في بهاءٍ كنتَ تزْهو به

و العهْد صافٍ وخمْرُ الوصْل ساقينا

*

فيسْتبدُّ عنادا صارخا حِممًا

منْ فوق بِيضٍ يواقيتٍ مراجينَا

*

تغارُ منكَ عليْه الشمسُ والشُّهبُ

و تنْحنِي حين تلقانِي تَغازيلا

*

يصُدُّها الشَّوق ذاك ... تغْدو يائسةً

لٍطيفكَ موْتًا ... وأيْكٍ كان يأْوينا

*

و كنتَ تُنشد وجْدا شاكيًا ولَعًا

" شوْقا إليْكمْ ... ولا جفَّتْ مآقيِنا "

*

و كنتَ تُمضي الليالي حائرا أرقاً

تملمِل النَّوم حينًا ... ساهدا حِينا

*

لا الوجْد دام ولا الشَّكوى اغتابتْ زمنًا

بل انْبرتْ هجْرا ... وداعًا باتَ يُدْمينا

*

أتذْكرُ العهْد كمْ كانتْ تُلاطِفنُا

حمائمُ الوادي بالهمْس ... فتدْنينَا

*

و يرْقصُ السّيسبانُ عنْد مطْرحِنا

و التُّربُ ترْطبُ سجّادا ياسَمينا

*

و الْغيدُ ينْعسْن هُدبا فِي نَواظِرها

خجْلى ...فتُذكي المُلتقى فِينا

*

ألستَ تذْكر شجْوا كانَ يطْرحُنا

إذا سرى بيْننا الْواشي وناهِينا

*

و كمْ مَرارًا سقانا البُعد والعَذل

إنْ أنت ناسٍ ...فلا انسابتْ سَواقينا

*

وَ لا طلَعتْ شمْسُ فجْرٍ عنْد مشْرقِها

و لا أمطرتْ مطرٌ فوقَ رَوابينا!

***

زهرة الحوّاشي

(من كتاب حرف ودمعة)

وأنا في أعماقِ شجرة

من ظلال متغيّرة

أتخلى

وأثمل

بسخطي الأخير

هذه الكأس تشربني

والاصطفاف بين نظراء

عقابٌ سقيم

أزدردتُ طعمَه الفاتر

منذ أولِ اللحظات

على الأرض

ضفيرتاي لاهيتان

وقلبي معفّرٌ

الرأسُ كالعادة هناك

في الأعالي

حيث أطلُّ

لأعرف

وكي أتلقى قدري

من اللعنات

أتجلى

خارج الحجرات

في عليتي

بصورٍ وامكان يرتضيني

أو لا يرتضي

كل شيء سواء

هكذا حدقتُ مستوحشة

ولم أنتسب

تحت رياحٍ تتسلّى

بلبّ صمتي

صامتة عن كل شيء

بلا خطوات

ولا هوى

انفضُ يدي من الماضي ومستقبله

وأبتعد..

**

د. سهام جبار

كل حين

تتسلقني أعشاب الخيال ...

فيوضات شغب

تزاحم زُغب أوقاتي ...

بلفحات رفيف ...

هامسة مزامير الحروف ...

هنيهة ..هنيهة

تسري نبضات يقظة

على جبين النعاس تعوم ...

دلائل فكرة زاخرة الانهمار

تستبيح حدقاتُ الدواة

لشغفِ التدوين تتأجج

بأنواءِ لهفتي

*

كل حين

تمخر أشرعة التأمل  ...

رحيق حواس موشمة الرؤيا

شرودا متمردا بأوكار وعيي

يناور ديار الطلل بجداول الذاكرة

وبهمس براءة عاتي التسلق ...

يتنفسه زفير القلم

شهقات بوح تطوف ...

دفقة.. دفقة

من أمس السبات تَتمَهرج ...

مرساة صور وأسراب مجاز ...

فأتوج أُنس اشتياقي أُلفة عنوان

يتسلل بسملة المداد

يعزفه رذاذ الأنامل ...

إيقاعات رموز رائقة المعنى

باوتار فيروزية السطور

تحتضن زرقةَ الأفتراض

على أجنحةِ حلمٍ

مسافرٍ.......

***

نص / إنعام كمونة

عندما لا يعود لك في مكان ما تفعله غير تجنب حروب زوجتك فأهرب إلى طرف ذيل أمريكا اللاتينية. قلت هذا لنفسي وأنا أدقق النظر في خارطة العالم، بحثاً عن أبعد مكان يمكن لزوجتي أن تتوقع هروبي إليه. أي، ووفقاً لمعرفتي بطريقة تفكير زوجتي، لن تفكر بوجودي في ذيل أمريكا اللاتينية، ببساطة لأنها لن تتوقع أن أترك العواصم الأوربية وأذهب إلى جزيرة مجهولة وضائعة في بحر الجانب الثاني من الكرة الأرضية... وهربت. مهلاً، عليّ أن أقول أن بُعد أمريكا الجنوبية لم يكن السبب الوحيد لهروبي إليها، بل إني اخترتها لأني كنت قد درست اللغة الاسبانية في الجامعة وتعلمت ما يساعدني على التفاهم بها مع سكان تلك القارة أيضاً.

وصلت ذيل أمريكا الجنوبية في ظهيرة ساخنة وماطرة. لم يزعجني المطر سوى لأنه لم يدعني أرى ظهر الجزيرة الصغيرة بهدوء في لحظة وصولي. لم يكن في الجزيرة فندق؛ استأجرت أحد أكواخ الصيادين من اجل قضاء ليلة ذلك اليوم، على أمل أن أجد مكاناً أفضل في اليوم التالي.

واصل المطر الغاضب انهماره لساعات ما بعد الظهر بوحشية لا تصدق، ولكني كلما اقتربت من شباك الكوخ المطل على الساحة التي تتوسط الجزيرة، والتي تطل عليها جميع الأكواخ، كنت أرى جميع السكان يدورون، ذهاباً واياباً وفي جميع الاتجاهات، وكأنهم لا يشعرون بهطول المطر ولا يسبب لهم أي ازعاج أو يعيقهم عن قضاء شؤونهم.

هل كنت الحبيس الوحيد في ذلك اليوم؟ هذا ما أخبرني به صبي في نحو الرابعة عشر من عمره، بعد أن طرق باب كوخي ليقدم لي سمكة كبيرة وقال، وهو يضعها على الطاولة الصغيرة التي تتوسط مطبخي الصغير:

-أرسل أبي لك هذه السمكة لعشاء هذه الليلة. وبعد أن مسح الكوخ بنظرة أضاف: أنا رودريغو ابن صاحب الكوخ، ولكن لم لا تخرج إلى البحر؟ لم تهدر يومك في الكوخ؟ حولت نظري إلى السمكة الكبيرة، مدارة لخجلي وقلت:

- بسبب المطر.. سأخرج عندما يتوقف المطر. فتح عينيه السوداوين بتعجب وقال:

- هل تخاف المطر؟ وبحركة آلية، ولكن بود، قبض على معصمي الأيسر وقال وهو يجرني باتجاه باب الكوخ: بربك يا رجل، هل يعقل أن تترك هذا المطر الأبله يمنعك عن متعة مصارعة سمكة وارغامها على الاستسلام لسنارتك؟ حاولت أن أشرح له وأقول أني متعب بسبب سفري الطويل، ولكنه لم يمنحني الوقت، لأنه سرعان ما جرني إلى الباب وهو يقول: العمر قصير يا صديقي وعليك أن تصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه كي تخرج رابحاً من الحياة، كما يقول أبي. وفي الدقائق التالية كنت أجلس إلى جانبه على حافة المحيط، أمسك بعصا طويلة، يتدلى من طرفها البعيد خيط إلى عمق الماء وأنتظر أن تسحب طرفه سمكة ما.

ربما بعد نصف ساعة من جلوسي إلى جانب رودريغو، تقبلت وضع المطر وبدأت بفتح عينيّ لأمسح الشاطئ بنظرة، كنت الوحيد الذي يرتدي قميصاً فوق سرواله، فقد كان جميع من حولي من الرجال والصبية، يكتفون بلبس سروال طويل وصدورهم وأقدامهم عارية... وفجأة شدت سمكة طرف سنارتي بقوة فأفلتت العصا من يدي، ولكن رودريغو، دائب الحركة، كان منتبهاً فرمى بنفسه على طرف العصا ليمسك بها، قبل أن تهرب بها السمكة إلى عمق المحيط وهو يصرخ بي:

-ما بالك يا رجل؟ كدت أن تهدر أحد أيامك بلا صيد. بربك يا رجل، ليس كل يوم ستجدني إلى جوارك لأساعدك. عليك أن تكون أذكى من أن تهدر يوماً من أيام عمرك القصير بلا صيد، لأنه وفي النهاية، لن يعوضك أحد عما هدرت من حياتك دون صيد.

ما هذا بحق السماء؟ هل أنا أمام حكيم في الرابعة عشرة فقط؟ قلت مداعباً لرودريغو وأنا أبتسم:

-بربك يا رجل، وكيف سأعوض السنوات الطويلة التي قضيتها هناك دون صيد؟ كان قد تمكن من سحب السنارة وسمكة كبيرة فعلاً تتدلى من طرفها، فرمقني بطرف عينه وسألني:

- وأين كنت هناك؟ أشرت برأسي ناحية الشرق وقلت:

- في الشرق، ربما في الجانب الثاني من الأرض. رمقني بنظرة شك وسأل وهو يعالج اخراج السنارة من فم السمكة:

- وماذا كنت تفعل هناك؟ ابتسمت ساخراً من بلاهتي:

- كنت متزوجاً. رمقني بنظرة هي مزيج من عدم الفهم وعدم الرضى:

- ماذا تعني أنك كنت متزوجاً؟ جميع الرجال هنا متزوجين ولكن لا يكفون عن الصيد. هل يعني إذا تزوج الرجل أن يكف عن الصيد؟ كيف يملأ حياته إذن وكيف يعوض قصر أيامه في الحياة؟ يا رجل قلنا أن العمر قصير وعلينا أن نصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه. حمل السمكة ووضعها أمامي فقلت، محاولاً الهروب من الرد على كلامه:

- لماذا تضعها أمامي؟ هي سمكتك وأنت من اصطادها. رد وهو يسرع للامساك بعصا سنارته التي شدت طرفها سمكة في عمق الماء وهو يقول:

- ما دمت أنت الذي ألقى بالسنارة وبرغبتك في الصيد فالصيد لك.. يا رجل، على الرجل أن يكون صيده خالصاً لذاته وأن يأتيه بنفاذ وسطوة شخصيته لا أن ينسب صيد غيره لنفسه. وبعد أن سحب صيده، وكانت سمكة تفوقه طولاً وبذل جهداً يفوق عمره معها، أضاف: الصيد كالزوجة، إن لم تأتيك بنفاذ شخصيتك وسطوتها فإنك لن تحس أنها لك وأن لحمها سيمتزج بدمك. نفذت ملاحظته الأخيرة حتى نخاع عظامي فسألته، رغم أني لم أتوقع أنه سيفهم مقصد كلامي:

- هل يعني هذا أن على الرجل أن يعتمد على نفاذ شخصيته وسطوته وأن ينتظر أن تأتيه امرأته؟ رد وهو يرمقني بنظرة شفقة:

- وهل المرأة تعيش في البحر لترمي لها سنارة يا رجل؟ المرأة إن لم تأتيك لأنها تراك جديراً بأن تكون صيادها ووحدك القادر على قتلها فلن تجني منها غير نظرة الاحتقار. قلت بصوت رفعته الدهشة رغماً عني:

- ولكني تزوجتها بموافقتها بربك... شد عصا سنارته واقترب ليجلس إلى جانبي، من دون أن ينزل نظره عن طرف عصا السنارة البعيد وقال بهدوء:

- يا رجل اهدأ، قلت أنك تزوجتها بموافقتها ولم تقل أنها جاءتك مستسلمة لسطوة شخصك. هل سألت نفسك يوماً لم لا يستطيع إلا قلة من الرجال الصيد بالصقور؟ ببساطة لأن هذه القلة لها قوة السطوة التي تخضع الصقور وتجعلها تعود إلى أيديها، بعد أن تطلقها وتصير حرة في الفضاء ويكون بمقدورها الهرب والتمتع بالحرية من جديد.

كنا قد دخلنا المساء وكان المطر قد توقف عندما سحبت سمكة جديدة عصا السنارة من يدي مرة ثانية، فقفز رودريغو خلفها ليمسك بها ويسحبها وهو يقول:

-لا أعرف عم تبحث يا رجل إن لم تبحث عن صيد يسجل مرورك بهذه الأرض؟

كان قد تقدم وخاض في الماء حتى منتصفه، وهو يصارع السمكة، من أجل مراوغتها واجبارها على الاستسلام له، فرفعت صوتي من أجل أن يسمعني:

-ربما لأني لا أتواءم مع فكرتك، أعني فكرتك عن الصيد فقط. ونهضت وسرت في الظلام متوجساً باتجاه الكوخ، ولكن بعد خطوتين أو ثلاث وصلني صوت منه، من دون أن أميز لهجته:

- إذن أنت سمكة، ولذا عليك أن تغوص في البحر لتعرف بأي صيد تعوض الأسماك قصر أيامها في الحياة.

***

د. سامي البدري

في عشق الحياة

أغنية

يغنيها الربيع مرة واحدة

و يتردد صداها

في قلب الشتاء

آلاف المرات

حين تجف أنهري

أملؤها

من عيون

اليتامى و الفقراء

والمساكين

وأبناء السبيل

أملؤها أيضا من عيون الغرباء

والعابرين

تصادفني وجوههم

حيثما يحل بي وجع

الكلام

تتقاطع مساراتي

مع مساراتهم

يأخذني

عبث لاإرادي في

الوجود

طوعا أو قسرا

يأخذني

الى

أسئلة مجهولة

هاربة من سبات

الكتب

وهدوء المكتبات

من أنا لأخلص لغتي

من بؤسهم

ومن كوابيس يقظتهم

من أنا لأقول لهم

ان لا موت يتسع

لأحلامهم

ومن أنا

لأحول  رماد الزمن المتفحم إلى

ذهب وأكتب به

قصيدة عقيمة

لا تدر لبنا

خذوا

أصابعي

وازرعوها في أحواض

أمانيكم القاحلة

أو

أقيموا عليها الحد

إن شئتم

فلا

لون للعدم

هكذا يبدو من بعيد

ومن قريب

لا لون له أيضا

***

بقلم: وفاء كريم

1- عتبة

إنّي أنا المغروس

- رغم ملامح حزني -

في أرض الطيبة ، والمروءة..

التي لم تزل تشيّع أيّامي ،

يوماً بعد آخر ..!

أهرب  من دمعة لا تجفّ

ومن قلق يسير في الليل إلى المجهول

أهرب من حلاوة الأملاح في الريح

اهرب من جلال الحزن

فوق  سرير النوم

أستفيق - بنقاء الفجر-

في كتب ترتدي الشعر

تبحث عن نوافذ من عيون

في بسمة الحزن الجميل

يتوهّج قلبي ..

يبحث عن عنوان ضائع

في عاطفة ،سامية ، فذّة

أترك  بعضي

خلف زجاج النافذة

أهرب من بعضي لبعضي

وتدور النفس على نفسها

مرة ..مرتين

أدري:

أنّ الكواكب تسير

تسير

والساعة العجلى

تحاول جاهدة

أنْ تعبر بنا

إلى ضفة عام جديد

أدري..

ولكن.......

**

2- وداع

من فيض القلب

وساحل الروح

من رمز القصائد

والمرافئ الجديدة

من نجمة تشعّ في المدار

قد هيّأت ُ زورقي

ولوّنته بأجمل ألوان

طيبة أبي الخصيب

وجعلته

أحلى من الرطب المعسّل

وله نكهة حلاوة (نهر خوز)

وكدّستُ فيه شرائع محبّتي

وصناديق أشعاري

على الرغم من أنّني

لا أملك إلاّ حفنتين

من تراب الطفولة

وحزمتين

من شعاع قريتي ( الحمزة)

وقطرتين من ماء نهر حمدان

وهو يزهو بالمشاحيف

وشباك الصيادين..

وصدى صوت العصافير ..

وهي تبوح بأسرارها الغالية

على شرفات المساء ..!

ويقظة سيّدتي الجميلة

في  قريتي الحمزة(المحيلة )

وهي خلف مرايا هواي

تضحك من البكاء

ربّما .......!

- ها قد عبرنا الوقت .. وأتمنى ذلك..!

ما دامتْ بقايا الحكمة في صدري

وما دامتْ لوعة الشعر

في أمواج العينين ..!

- أه هل أعبر ...؟

- لم يجفّ نبع الذكرى

والنبع عنوان المحبّة ..

ونشيد الإخلاص

- ما الجدوى ..؟ سأفتح نافذة المعقول ..!

كي تتسع حروف الأبجدية ..

- لم أزل على جدار الوحدة .. آه...آه

حتى ظل الشجرة

قد رحل عنّي ..!

لمّا أزل منكفئا ًفي عام مضى ...!

أتطلّع إلى أيّامه الراحلة .. !

- أعرف أنّ الصبر جميل

- وصبرت على كفّ الريح الشتويّة

وهي تقدّم لي البرد والأحزان

وأقدّم إليها حرارة أشواقي ..

وذاكرتي الممطرة بالوجد ..

والودّ والياسمين ..!

أعذرني أيّها العام

ودّعتك ..أجل ودعتك

بصوتي القرويّ الحقيقي

المتعب بالأمل

والخيبة

بالحيرة

والاطمئنان

بالحركة

وسكون السكون

بالثقة والشكّ

بالترقب والانتظار

أيّها العام

كلّ أيّامك

قد عبرتها

بتراتيلي الخاصة

حتى وإنْ تاهت بي الأقدام ...!

وطارت

بعيداً .. بعيداً

كلّ أوراقي ..!

***

حامد عبدالصمد البصري

 البصرة – العراق

في نصوص اليوم