نصوص أدبية

نصوص أدبية

سكــرَ الهــــوى وتكسّرت أكــــوابي

فلنختـــم ِ اللقيا بدون ِ عتـــــــــــاب ِ

*

مــا عادَ لــي قمــرٌ يســـامرُ وحشتي

مــا عادت ِ النجمــات من أصحابي

*

اليوم غير الأمـــس ِ شئ ٌ آخــــــــر ٌ

فلننـــــه ِ جلستنــــا بغيـــــر حساب ِ

*

لا تســأليني عنْ زمــان ٍ قدْ مضـى

أو أن تضيعي الوقت َ في استجوابي

*

الحــــبُّ مرّ شبـــــابهُ وربيعـــــــه ُ

مـــا أقبـح َ الدنيـــــا بغيــــر ِ شباب ِ

*

جفّتْ ينابيـــــــع ُ الهوى وريـاضنا

حجـــر ٌ تبعثـــــر َ في ركـام ِ تراب ِ

*

ما عادَ يسقينـــا الهوى من خمـــره ِ

لمْ يبق َ عنقــــــود ٌ من الأعنـــــاب ِ

*

فردوسنا الأرضــيّ صــارَ جهنمــا ً

وزماننـا النشــوانُ ســـوط َ عـذاب ِ

*

كلمـــــاتنا نظـــــــراتنـا بسمــــــاتنا

قــدْ فارقتنـــــا واختفتْ كســــــراب ِ

*

أنا لا أحبّـــــذ ُ أن يطـــــولَ جلوسنا

فنكـــــون تمثــــالين ِ مــن أخشــاب ِ

*

قــــدْ قلت ِ لي منْ قبــلُ إنّـك َ مُنقذي

ومــلاذي َ المأمــــون ُ بينَ ذئـــــاب ِ

*

يا من رسمـتُ لــهُ بقلبـــي صــــورة ً

وحملتُــــها كالكحْـــل ِ فــي الأهـداب ِ

*

أهديتـَـني بالأمــــس ِ أجمــــل َ وردة ٍ

فشممــتُ ألوانـــــا ً من الأطيــــــاب ِ

*

ما زلْـت ُ أنشق ُ عطـرهـا متهاديــــــا ً

ينسابُ فـــي شَعْـــري وفوق َ ثيابي

*

قــــدْ قـــلت ِ هـــذا كلّـــهُ فجعلتِنــــي

سكـــــران َ منتشيـا ً بدون ِ شــراب ِ

*

وصحـوتُ يومـــا ً لمْ أكُنْ بمُصـــدّق ٍ

إنّــــي أرى الثعبــان َ فــي محرابي

*

أنـا لمْ أعُدْ طفــلا ً بريئــــا ً ســـاذجا ً

متعلّقـــــــا ً باللهـــــو ِ والألعـــــاب

*

قررت ُ أن أحيــــا بدون ِ خــــــرافة ٍ

وأريـح َ مِنْ وَهْــم ِ الهوى أعصابي

*

وسأختـم ُ الفصْــــل َ الأخيــرَ فلمْ يعُدْ

لـــي غير أن أنهــــي فصولَ كتابي

*

فليقـــرأ العشّــــاقُ مــــا سطّـــــرتُهُ

ولينتفـــعْ مـــــن بعضــه ِ أحبـــابي

***

جميل حسين الساعدي

إيقَاعَاتٌ مُتَبَاعِدَةْ

بَيْنَ اَللُّعْبَةِ وَالْأُلْعُوبَةْ

بَيْنَ اَلدَّهْشَةِ وَالْأُعْجُوبَةْ

بَيْنَ سِنِينٍ نَائِمَةٍ

وَسِنِينٍ بَاكِيَةٍ

وَسِنِينٍ مَقْلُوبَةْ

كُنْتَ تُبَعْثِرُ أيّامَكَ

وَتُغَرْبِلُ أحْلاَمَكَ

في ذاكرة مَثْقُوبَةْ

تَسْمَعُ نَوْحَ سِنِينٍ مَسْلُوبَةْ

وترى إِنَّكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

في مِرْآتِكَ وَجْهَكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

ماذا قَبْلَكَ

ماذا بَعْدَكَ

***

مَنْ بَدَأَ اَللُّعْبَةَ،

مَنْ؟

مَنْ أَيْقَظَ دَهْشَةَ أَحْلاَمِكَ،

مَنْ؟

هَلْ تَسْألُ نفسكَ

أَمْ تَسْألُ غَيرَكَ

أَمْ إنَّكَ

ما عادَ بِوِسْعِكَ

أَنْ تَسْألَ إنْسَانًا

أَحْيَانًا؟

***

مُرَاهِنٌ في بِئْرٍ

كَانُوا يَتَبَارَوْنَ وَأَرْجُلُهُمْ

تَتَنَاوَبُهَا

رَكَلَاتٌ مَعْطُوبَةْ

بِمُبَارَاةٍ يَشْهَدُهَا سَوَاحٌ

جاءوا مِنْ مُدٌنٍ مَنْكُوبَةْ

رَاحَ يُرَاهِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا:

مَنْ يَرْبَحُ هَذِي اَللِّعْبَةَ؟

مَنْ يَخْسَرُهَا؟

كَانُوا يَدْرُونَ بِأَنَّ جُيُوبِي

فَارِغَةٌ

وَنُدُوبِي نَازِفَةٌ

قَالُوا رَاهِنَ مَعَنَا

قُلْتُ لَهُمْ لَا أَمْلِكُ مَا أَدْفَعُهُ

سَرَقُوا أرديتي، قَذَفُونِي

فِي بِئْرٍ

لَا تُبْصِرُ شَيْئًا مِنْهُ عُيُونِي

***

شعر: خالد الحلّي

كانتْ شفتاكِ كالضوءِ

منذُ الحلم

حينَ اختمرَ الحرفُ عليهنَّ

وسَكِرْنا بالحرفِ الآخر.

2

حين تفترقُ الأشجارُ

وتبقى القُبَلُ في الانتظار

تجفُّ الروحُ

ويذبلُ النظر...

3

أبقيتُ على خميرةٍ

من قُبلِ الأمسِ

كي لا أموتَ

أو أفقدَ سرَّ الخمر

حينها ستهتزُّ الأرضُ

ويغضب الربُّ.

فسُكِبتْ كلُّ الكؤوسِ

على الدروبِ إجلالًا

كي يظهرَ القمرْ..

4

آهٍ من محطَّاتِ السفر

أضعتُ بها أنفاسي

ومزَّقْتُ حقائبَ السفر

وكلُّ الاتجاهاتِ يركضُ فيها نظري

هنا… هناك .. هيَ .. لا

رحل القطارُ

وبقي العمرُ

شاخصةٌ تدورُ

كطاحونةِ الهوى 

5

ضاعتِ الاتجاهات

وأمحلتْ دروبُ القمر

وأنتِ نائمة…

ليس سوى عطرِك

يجذبُ الروحَ

لمحطَّاتِ السفر..

***

كريم شنشل 

لم أعد أصدق شيئا

إلا السماء

وصلاة أمي

لا شيء يستحق ندمي

*

هذي الخَطايا

تتناسل بيننا

كما يولد الموت

في السواد

لا دور لها هنا

إلا ما ترك الحب

بعد رحيله

من سلالة الطغاة

نسميها حينا لعنة

وحينا نسميها حياة

تشبه الحرب

وتغتال دمي

*

خارطة الجريمة

تشتد حول الرؤى

ليكتمل المشهد

بالضحية

تباغت الطفولة

على حين براءة قبرا

وتحفره ما تبقى

ألمي

منذ قاتل أخيه

إلى قلمي

*

ورثنا الملح

صحراء عن صحراء

*

دعوني

أتأمل نهايتي

بين الترادف

والتلاشي، ريثما

يتسع المدى للوضوح

لا شأن لكم بي

إن حدثت غيمة

ولا شأن لي بالصور

الصور جفاف الروح

تحت سقف الغموض

على البدو إن شاؤوا

التشبه باللغات

وعلي أن أعيد

تكويني في المفردات

وأنصرف إلى نفسي

كما انصرف

إلى حلمه حلمي

*

هي اللامبالاة

آخر معاني الحب

وما يحكي الصمت

من تفاصيل

كي يحبك أكثر

تعود على غيابه

هذا العالم لا يشبه أمي

***

فؤاد ناجيمي

 

الوقت امسى

سكينا خنجرا

سيفا ينحر

رقاب الطيور

الغزلان

البطاريق

النوارس

والانسان

والوقت امسى

مروجا حقولا

حدائقا وبساتينا

للثعالب

لبنات اوى

وللذئاب

والوقت امسى

هروبا هروبا

وفرارا فرارا

للعنادل

للعصافير

لاطيار القطا

واليمام

وينبوع قلبي

امسسىى سلسبيلا

للطير للزهر

للنخل الحزين

وللانسان .

***

سالم الياس مدالو

 

البارحة لمحتها وحيدةً تتهادى وسط الشارع العريض المحاط بأشجار البوهيميا المزهرة والمفضي إلى زقاق آخر بعيد بعض الشيء، ولكنه يذهب أيضا نحو السكن. لم أتجرأ الاقتراب منها رغم إدراكي أهمية مثل هذه الفرصة التي ربما لا تسنح لي طيلة العام. في المدرسة تراني أتحاشى الاقتراب منها وهي كذلك لا تروم ذلك، وحين تكون هناك فترةُ استراحة، فكلانا لا يفعل سوى تبادل النظرات من بعيد. أو هكذا أعتقد أنا.

هي في الصف المنتهي من الدراسة الثانوية وأنا ما يزال أمامي فصل آخر لأنهي دراستي وألتحق بالجامعة، كلانا جاء مع عائلته من ذات البلد وفي ذات السنة وعلى ظهر نفس المركب، حين تم تهريبنا، وكاد المركب يغرق وسط لجة البحر وهياج الأمواج وزحمة الركاب. ثم وضعنا جميعا في معسكر واحد قريب من مدينة فالون السويدية، ومن ثم حددت لنا منطقة السكن، ودخلت وإياها مدرسة قريبة من وسط المدينة، سبقتني هي في فصل دراسي وتخلفت أنا عنها عاما واحدا بسبب نفوري من اللغة السويدية. لم أنتبه لأهمية وجودها جواري قبل هذا العام الدراسي الذي لم يتبقّ على نهايته غير ثلاثة أسابع. لاحظتها وجلبت اهتمامي حين شاركنا سوية في التحضير لاحتفالات نهاية العام الدراسي لطلاب الصفوف المنتهية. كنت أتقدم في السنة الثانية الإعدادي وهي في نهاية سنتها الثالثة. وأنا أراقبها وجدتها قوية ذكية تتحرك بخفة وحيوية، ولها ذوق رفيع في اختيار الألوان والزخارف والشرائط التي توضع فوق الجدران الداخلية للمدرسة لتتدلى من فوق أبوابها وشبابيكها.

 كنت عازفا عن مخالطة الفتيات، وأنا مع ثلاثة أخوة لم نتعرف في حياتنا المنزلية على فتيات من أقاربنا أو من الجيران، حتى حينما كنا في العراق، لذا لم أجد في نفسي الجرأة للاقتراب منها بادئ الأمر، ولا حتى محاولة النظر إليها واكتشاف وجودها قريبا مني، لم تكن مثل هذه الفكرة لتخطر على بالي أو تراودني طيلة الزمن الذي انقضى، ولكن مثل تلك اللحظة جاءت مصادفة، وحين تنبهت لوجودها اعترتني رغبة جامحة لا أعرف طبيعتها، رغبة في الاقتراب منها ومحادثتها. لم أفعل بادئ الأمر سوى إلقاء التحية باستحياء فأشاحت بوجهها عني، ولكني سمعتها تجيب تحيتي بصوت خافت ثم استدارت لتواجهني وكأن ثمة ابتسامة خفيفة قد ارتسمت فوق محياها، هذا ما شعرت به، وساورني الشك بذلك.

 راقبت أوقات خروجها من شقتهم ووجدتني أتتبع خطاها باستحياء محاذرا الاقتراب منها، ولكني كنت في كل مرة أحاول إثارة انتباهها.

نصل المدرسة سوية فتلتفت نحوي لنتبادل النظرات فأشعر ببلاهتي وبشيء من الخذلان. في إحدى المرات تجرأت وقلت لها إن فستانك اليوم أجمل ما رأيت، فشكرتني باستحياء وأسرعت الخطى نحو السكن. لعدة أيام وبشكل متكرر كانت ترتدي ذات الفستان وتنظر نحوي برقة ترافقها ابتسامة خجولة تحاول إخفاءها. لم أدع الأمر يمر اعتباطا دون أن أحاول إيجاد تفسيرا له، لذا سألت أخي الكبير عن معنى أن تقول لشخص ما، إن ما ترتديه جميل جدا، فيقوم ذلك الشخص بتكرار ارتدائه لأيام متتالية، ضحك أخي بصوت عال واكتفى بالقول، إنها محاولة لجلب الأنظار لا بل هو الرضا بالحب يا عزيزي، وهذا ما أكده أيضا البعض من أصدقائي الذين حدثتهم عن الموضوع.

على ذات المنوال مضت السنة نحو نهايتها وأنا طيلة الوقت أكتم حبي وألوك بداخلي خجلي ورعبي من مصارحتها. لم يتبقَ سوى أيام لتكون هي في الجامعة وأقبع أنا سنة أخرى في مدرستي أنتظر اللحاق بها. من الجائز أنها ستـُقبل في إحدى الكليات وربما تكون الكلية في مدينة أخرى، وهناك ستكون الوقائع مختلفة كليا عما أرغب فيه، ولكن في داخلي صممت أن ألحق بها في أي كلية وفي أي مدينة تكون.

 البارحة حين لمحتها وحيدة تميس باتجاه السكن انتابتني أول الأمر مشاعر رهبة وقررت أن لا أقترب منها، ولكني فكرت مليا بتلك الرحلة الطويلة التي أوجدتنا في هذا الوضع، سوية في سكن قريب ومدرسة واحدة واليوم تدخل هذا الزقاق الذي لم تكن لتطرقه سابقا، فتساءلت هل هي الصدفة أم أنها تعمدت اختيار المكان وهي التي تعرف جيدا بأني ألاحقها منذ فترة طويلة، واليوم حتما ترغب في لقائي. ترددت لبضع دقائق ثم اكتسحني شعور غريب وكأن فرحا غامرا غطى كياني وجعلني خفيفا محلقا، فأسرعت الخطى لأجاورها ملقيا تحيتي، فابتسمت وردت التحية، تلعثمتُ ولم أستطع بعد التحية أن أتفوه بكلمة أخرى، استدرنا سوية باتجاه المنعطف المفضي إلى شارعنا الذاهب نحو السكن. عند الخطوات الأولى ظهر أمامنا شاب طويل جميل الملامح مكتمل الرجولة يرتدي ثيابا بيضاء فضفاضة، وبابتسامة عريضة تقدم نحو محبوبتي وضمها إلى صدره، توقفت جوارهما وكأن قدمي أصابهما شلل، شعرت بجفاف لساني وتيبس حلقي وسمعت دقات قلبي وكأنها تريد الخروج من صدري وسالت قطرات عرق هابطة رويدا فوق ساقية ظهري. أدارت وجهها نحوي قائلة: أقدم لك خطيبي رياض، سوف أنتقل معه إلى مدينة كارلستاد بعد الزواج، ثم مالت نحو خطيبها قائلة، هذا جارنا وطالب معي في المدرسة، وهو ابن العائلة العراقية التي تسكن بالقرب منا، أظنني حدثتك عنهم. تلك اللحظة لم أعد ألوك بداخلي خيبتي وخجلي فحسب وإنما ابتلعتهما بكامل مرارتهما وألمهما.

***

فرات المحسن

 

رافِقيني يا صَبيّة

نعزفُ الوقتَ غراماً

بينَ (رُكْنِ الدينِ) آناً

ثُمّ آناً في دروبِ (الصالِحيّهْ)

**

رَدّدي بوحَ المُغنّي:

في زنازينِ الطُغاة

وصدى (الساروتِ) دَوّى

في الميادين القَصيّة

**

قَدُّكِ الميّاسُ يهفو

مثلَ روحي لِقُدودٍ حَلَبيّهْ

**

وَصباحاتُ الأغاني في المقاهي

كَفَناجينِ النَدامى تَتَشهّى

قهوةَ الشامِ الشَهيّهْ

**

إذ دِمَشقُ الشامِ تبدو

بعدَ سِتّين عِجافْ

مُهْرةً جذلى أبيّهْ

**

بَرَدى فاضَ إشْتِهاءً

بعدَ قَحْطٍ وَجَفافْ

**

وغدى أبهى عروسٍ

تزدهي حولَ الضفافْ

**

تَتَمرأى في مرايا مهجتي خلفَ الشِغافْ

**

وَأنا الضامي لِكأسٍ من نَبيذْ

عُتِّقتْ ستونَ عاماً

في العيونِ العسليّهْ

**

نادِميني يا بهيّهْ

وإشربي نَخْبَ الضحايا

وأذْكُري (حِمْصَ) العَديّهْ

**

وَلْتُعيدي بَهْوَ (وَلّادَةَ) عشقا وبهاءً سَرْمديّاً

يَعْتلي طوقَ يَمامَهْ

وَرُؤىً أسرارُها أنْدَلُسيّهْ

**

وفراشاتُ الفراديسِ بِريفِ الغُوطَتيْنْ

بعدما حَرّقها جَزّارُها المعتوهُ غَيّاً

فَرَثاها دمعُ عيني والبُطينْ

**

رَجَعتْ سَكْرى

تَعيدُ الزَهْوَ للألْوانِ في قوسِ قُزّحْ

في سمائي وفؤادي والوَتينْ.

**

تَسْكُبُ الأكوابَ للأحرارِ عَذْباً

كَفُراتِ العاشقين

**

فَتَعالي

ياشَذى الآسِ المُحَنّى بالندى والبَيْلَسانْ

وَرَذاذَ الغيمةِ العجلى كَدمْعي

يُشْعلُ الدنيا حَياءً في خُدودِ الياسمينْ

**

وَهَلُمّي:

نَتَهَجّى عَتَباتِ الدورِ أغنيةً وذكرى

بينَ حاراتِ الشآمْ

عَلّنا نعلو مقاماً

في طريقِ السالكينْ

**

لم أجِدْ في الشامِ فَرْقٌ

بينَ أهْلِ الدارِ حقاً والضيوفِ الزائرينْ

**

إنّما أرواحُ أبناءِ الشآمْ

وأهاليها الكِرامْ

مثلَ ياقوتٍ وتِبْرٍ

وحَريرٍ وعقيقْ

**

كَأريجِ الزَهْرِ والنارَنْجِ نشواناً يُحاكي

(بَحْرَةَ) البيتِ الشآميِّ العتيقْ

**

فإتْبَعيني.

خلفَ أصداءِ الأغاني وظلالِ الزيزفونْ

**

حيثُ فيضُ البُنِّ في مقهى المدينة

مثلَ خمرٍ يحتسيهِ الطيّبونْ

**

وَبِها الحَكّاءُ يروي

للورى جَمْرَ الحَكايا

خلفَ قضبان السجونْ

**

رُبَّما يبكونَ حيناً آملين

أن يَجُفَّ الدمعُ يوماً

في الحنايا والعُيونْ

**

لَيْتَهم ينسونَ ثاراتِ اليتامى

ليْتَ شِعْري يَصْفحون

**

أهْلُ داريّا وَدوما أو حَماة

ليتهم لا يذكرونْ

**

غيرَ عَزفِ النغمةِ الأبهى صَدىً

في (مَيْسَلونْ)

**

عانقيني

عندَ سَفْحٍ ماثلٍ حَذْوَ الشآمْ

بعدما فرّت ذئابُ الليلِ قسراً

وغدا حُرّاً أشَمّاً (قاسِيونْ)

**

د. مصطفى علي

أورثني أبي، ساعة حائط لا تعرف الوقت،

عقاربها تدور للخلف أحيانًا،

لتعيد لي لحظات لم أطلب استعادتها،

وأحيانًا تتوقف تمامًا،

لأسمع صمتًا يُشبه النسيان.

*

أورثني كومة أحلام مستعملة،

بعضها مُمزق الأطراف،

وبعضها يحمل رائحة مطر لم يهطل بعد،

وقال لي: "هذه لك، جربي أن تحلميها."

*

أورثني بابًا قديمًا،

قال إنه كان يُفتح على حرية،

لكنني وجدته مغلقًا بمفتاح فقد في عاصفة،

فصرت أطرقه دون أن أسمع صدى.

*

أورثني ضحكة غير مكتملة،

كأنها تُركت في منتصفها،

وعينين أرى بهما الأحزان،

لكنهما لا تبصرا سوى نهايات مؤجلة.

*

أورثني وصية مكتوبة على ورق الشجر،

قال لي: "إقرئيها إذا ضعت"،

لكن الرياح كانت أسرع مني،

فلم أقرأ إلا كلمة واحدة: إنتظري .

*

أورثني أرجوحة،

تأرجحني بين حافة اليقين

وهاوية الشك،

قال إنها كانت تضحكه،

لكنني شعرت بالدوار.

*

أورثني حبلاً من الضوء،

قاسٍ كالصبر،

لين كالكذب،

وقال: "اصنعي به طريقك."

*

أورثني أبي ميراثًا من الرماد،

جمعه من حرائق لم أشعلها،

وطلب مني أن أبحث بينه عن شرارة جديدة،

لكنني وجدتني أنثره على الريح،

لأُبقي على شيء من الذكرى.

*

أورثني أبي كل شيء...

وأخذ معه كل ما لم أستطع فهمه،

ترك لي ظله،

ليذكرني أنني امتداد لحكاية لم تكتمل....

***

مجيدة محمدي

لم أعرف أما لي غيرها حتى أني كنت أناديها أمي، كانت بوجه مستدير يحيط به إيشارب أبيض يغطي رأسها ويجعلها تبدو كملاك، لها ابتسامة تعكس إشراقتها أحد أسنانها المغلفة بالذهب، دفن معها حين رحلت كما يدفن الملوك سابقا بجواهرهم وحليهم الذهبية.

حين كبرت قليلا وعرفت أنها جدتي، سألتها لماذا تركتني أمي التي ولدتني!! الجميع في الصف يسخر مني ويظن أني متبناه، هل ما يقال عني صحيح؟

لم يتركك أحد ولست متبناه، أنت حفيدتي وأنا أمك، الأم الحقيقة ليست من تلد بل هي من ربت وسهرت الليالي ستفهمين ذلك حين تكبرين، لا عليك منهم ولا تشغلي رأسك الصغير بالتفكير لو كنت تحبينني بحق تفوقي في دراستك، وذلك ما يجعلني أفخر بك دوما ويوما ما سأقول تلك ابنتي التي ربيت..

بعدها تنهدت أخذت نفسا عميقا و هي تنظر إلى قائلة: أنا من تعب عليك وسهر الليالي حين كانت تأخذك نوبات الاختناق.

- كيف ذلك حدثتني!

كنت نحيفة جدا وتعانين من التهاب القصبات المزمن (الربو)، انشغلت أمك عنك بعد أن ولدت أختك فقد كانت الطفلة خارقة الجمال بعينين زرقاوين كأنهما من الزمرد، كانت بالنسبة للجميع أشبه بطفرة وراثية، تلا قفتها الأحضان واستولت على اهتمام الجميع وأولهم والديك. ثم انتقلوا بعدها للعيش في سكن آخر بعد أن ضاق بنا المكان، أنت أول أحفادي من ولدي البكر، تصدقين لو قلت لك اني أحبك أكثر من أمك التي ولدتك ! كنت اهز لها برأسي نعم.

في سري كنت أتمنى أن أعيش وأكبر مع أبواي وأختي هذا ما فكر به حين كنت أنام بجانب جدتي وأغفو على صوت شخيرها، كان فراشي أشبه بفراش الملوك ولي وسادة من الستان مطرزة بالزهور، دس داخلها حجاب مثلث الشكل ضم داخلة ورقة كتب بين سطورها حرز يحميني من العين والحسد، مع أني لا أرى في شكلي ما يبعث على الحسد، لم يكن نومي على صوت أنثوي ناعم لأم شابه تقص لطفلتها قصص الأميرة والأقزام السبعة، أو (سنو وايت)، و لم أكن أحلم بالطيور والفراشات، أو يكون لي ثوب زهري طويل كثوب الأميرات، بل كنت أنام على وقع صوت حبات مسبحة جدتي، وهي تنسدل تباعا الواحدة تلو الأخرى مع أذكار المساء وتسبيحها التي كانت ترددها بسرعة كبيرة، بالكاد كنت أفهم ما تقوله وبعد أن تنتهي منها، تحدثني عن الجنة والنار وجحيمها ثم تلقنني قبل أن أنام الشهادتين أشعر وكأنني لن أدرك الصباح بعدها وسأموت ولن أصحو ثانية، لكن ما حدث في أحد الصباحات، وماكنت أخشاه أنا دوما، حدث مع جدتي، أن نامت هي ولن تصحوا ثانية.

***

نضال البدري / العراق

 

(القصيدة التي تشرفت بإلقائها في جلسة افتتاح: مهرجان الإمام علي "ع" للإبداع الشعري في دورته السابعة" في النجف الأشرف يوم 10/1/2025)

***

أمـسـي ويـومـي فـي الـهـوى خـصـمـانِ

أأنـا الــمُــضـامُ؟ أمِ الـمُـضـيـمُ الـجـانـي؟

*

يَــتــقـاتــلُ الــضِــدّانِ تـحــتَ أضـالـعـي

نــورُ الإلــهِ وظــلــمــةُ الـــشـــيـــطــانِ

*

وكـلاهــمـا رغـم انـتـصــارِهــمـا عـلـى

بُـقــيــا غـدي الــمــأسـورِ مُــنـهــزمــانِ

*

فـأنـا عـدوّي فـي الــطـعـانِ ونـاصـري

وأنــا وقـــودي والــلـــظــى ودخـانـي

*

ما الـعُـجـبُ إنْ غُـصـنـي يُـحـاربُ جَـذرَهُ

وتــخــافُ مــن أهــــدابـهــا أجــفــانـي؟

*

أعـمَـتْ غـواياتُ الـشـبـابِ بـصـيـرتـي

فـجــنـحــتُ عــن نــورٍ الـى نــيــرانِ

*

حـتـى أتــيــتُــكَ ســيـدي مُـسـتـشـفـيـاً

بـــهـــواكَ لا بــسُــلافــةٍ وغــوانــي

*

فـأضـأتَ قـلـبـي قـبـل ظـلـمـةِ مُـقـلـتـي

وردَمــتَ بــئــرَ أســـايَ بـالــســلــوانِ

*

مـولايَ مـا شـرَفُ الـهـوى إنْ لم يـكُـنْ

يُـفـضـي إلــيــكَ بــنـبـضِـهِ شــريـانـي؟

*

آمــنــتُ أنَّ مـحــمــداً خــيــرُ الــورى

فـي الـعـالـمـيـن وأنـتَ مـنـهُ الــثــانـي

*

فـكأنـنـي أكـمـلــتُ نــصـفَ ديـانــتـي

بـكَ سـيـدي فـنـجـوتُ مـن نـقـصانـي

*

أبـدلــتَــنـي نــورًا بـديـجـورٍ فــمـا

مـعــنـى صـلاحِ فـتـىً بـلا إيــمـانِ؟

*

إنـي عـثَـرتُ عـلـيَّ فــيــكَ فـلا مُـنـىً

كـرضاكَ عـن عـشـقِ امـرئٍ هَـيـمـانِ

*

أسـرى الـى الـنـجـفِ الـشـريـفِ بُـراقُـهُ

قــلــبٌ عـلـيُّ الــنــبــضِ والــوجــدانِ

***

مـولايَ شــكــوى فــاطـــمــيٍّ راعَــهُ

زَيْــغٌ عـن الــنــاســوتِ فـي الــقــرآنِ

*

مـولايَ واخـتـلـطَ الـصـدى في يـومِـنـا

مــا بـــيــن صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ .. !

*

الـقـائـمـون الـى الـصـلاةِ جــبــاهُـهـم

كالـقـائــمـيــنَ الـى كـهــوفِ غــوانـي

*

الـخـيــبــريــون اســتــبـاحـونـا عـلـى

مــرأى الـكـتـائـبِ مـن بـنـي عــدنـانِ

*

بـتـنـا أبـا الـحـسـنـيـنِ لا مـن حـاسِــدٍ

فـجـمـيـعـنـا فـي الـنـاسِ رمـزُ هَـوانِ

*

"قـومي هـمـو قـتـلـوا أمـيـم أخي" وهم (1)

أغـووا بـنـي صـهـيـونَ بـالـعـدوانِ

*

الـمـوصـدون بـوجـهِ غـزةَ بـابـَهـم

والـفـاتـحــون الــبــابَ لِـلــذئــبــانِ

*

الـشـامـتـونَ بــقــتـلِ أشــرفِ ذائــدٍ

عـن غــزَّةٍ تُـسـبـى وعـنْ لــبــنـانِ

*

لا مـازنٌ قـامــتْ لِــغــزَّةَ نُــصــرةً

بـاسـمِ الـحـنـيـفِ ولا بـنـو شَـيـبـانِ

*

كـم مـلـجـمٍ فــيــنــا وأبــرهــةٍ وكـم

هـنـدٍ وكـم من عـصـبـة الـسـفـيـاني

*

بَـلغ الـزبى فـيـنـا الـهَـوانُ ولـيـس من

شـمـسٍ تضيءُ الـلـيـلَ فـي الـمـيـدانِ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُ المُـسـتـجيـرَ إذا اشـتـكـى

ظُــلــمـًا قـصِـيٌّ فـي الــبــلادِ ودانـي

*

والـيـومَ صـرنـا نـسـتـجـيـرُ ولـيس مـن

سَـيـفٍ يـسَــلُّ عـلـى الـعِـدا وسِــنـانِ

***

يـــومـي بــهِ لــيـلانِ مُــتــصــلانِ

أمّـا صـبـاحـاتـي فــبـعـضُ ثـوانـي

*

يـشـكـو زمـانـي لـلـمـكـانِ ويشـتـكـي

زمَـنـي الـمـؤرَّقُ مـن خـرابِ مـكاني

*

زادي قـلـيـلٌ والـطـريــقُ طـويـلــةٌ

ويــدايَ راسِــفــتــانِ والـعــيــنــانِ

*

حـاولـتُ أكـفـرُ بـالـعـراقِ وأهـلِـهِ

فـاعـتـابـنـي شَـرفـي وشُـلَّ لِـسـانـي

*

وأردتُ تـجـربـةَ الـخـيـانـةِ مــرةً

فـتَـحَـجَّـرَتْ مُـقـلـي وهُـزَّ كِـيـانـي

*

لـي طـبـعُ بـاديـةِ السـمـاوةِ رمـلُـهـا

لـم يـشـكُ جـمـرَ الـقـيـظِ لـلـغـدرانِ

*

كـفـرتْ بـغـيـر نـدى الفراتِ فـراشـتـي

وأبـى ســوى أمـواجِــهِ بُــســتــانـي

***

مَـولايَ لا زَعــمًـا ولا مـدحـًـا ولا

طـمَـعـًا بِـجــاهٍ فـي الـورى وجِـنـانِ

*

منذُ اعـتـصـمـتُ بِـحـبلِ عِـشقِـكَ سيدي

عَـرفَـتْ خـطـايَ الـدربَ لِــلإنــســانِ

*

فـأغِـثْ مُـريـدَكَ سـيـدي بِـشـفـاعـةٍ

يــومَ الـــورودِ إذا يـحــيــنُ أوانـي

***

يحيى السماوي

.....................

(1) ما بين المزدوجات: من بيت للشاعر الحارث بن وعلة الذهلي .. ونصّه:

قومي همو قتلوا أُميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

 

ضاعتْ بدورٌ..

أضعتُ عمري وفي قلبي العراقُ بقي

ضاعت بدورٌ، وبدرٌ ظلَّ في أُفُقي

*

لذا جفاني منامي كيفَ أتركُهُ

وهو السميرُ وأُنسُ الليلِ في أَرقي

*

لديَ قلبٌ عظيمٌ في بسالتِهِ

وفي الهوى ما مشى في كلِّ مفترقِ

*

هنا جموعُ جواسيسٍ مُلثَّمةٌ

هناكَ جندٌ تهيلُ الصخرَ في طُرقي

*

لَمْ أفترقْ عن حبيبي قيدَ أُنمُلةٍ

أنا الفريدُ وجيشُ الوجدِ مِن فُرقي

*

لو ينشفُ النهرُ في روحي سأوْدعُهُ

نهراً عظيماً سيروي المجدباتِ سقي

*

رهنُ الاشارةِ حُبِّي لا سدودَ لهُ

أمواهُهُ حرَّةٌ اِنْ قلتُ: انطلقي

*

حتى تعودَ الى الدنيا نقاوتُها

وعِشْقُها مضربُ الأمثالِ في العِشِقِ

***

(2)

..أقولُ جديداً

أُريدُ جديداً لا يُمَّلُ ولا يُسلى

سعاداتُنا ثكلى، وأوقاتُنا عجلى

*

أُريدُ وداداً طافَ في النجِمِ سارياً

ومازجَ نورَ الكوكباتِ جوىً أحلى

*

أريدُ حبيباتٍ سيحلفنَ للهوى

بأنَّ كرامَ العاشقينَ همُ الأَولى

*

بهنَّ على الأنذالِ شحٌ وهيبةٌ

لهنَّ معَ الأطيابِ وصلٌ دعا وصلا

*

كفى أنْ نسمي الوغدَ شهماً وسيداً

ونمدحَ مَن خانَ الديارَ اذا ضلّا

*

فباعَ ترابَ الأرضِ والترْبِ والندى

وأنكرَ كونَ الأَهلِ والنهرَ والنخلا

*

أُريدُ من الأصحابِ مَن كانَ صوتُهُ

صدى قلبِهِ بوحَ الضمير اذا صلَّى

*

وأعلنَ انَّ الكائناتِ أَمانةٌ

وانَّ نفوسَ الناسِ مِن سافلٍ أعلى

***

شعر: كريم الأسدي

طويل هذا المساء

وقلبي هرّ سجين.. يموء في غرفة مغلقة

رسمت نافذة.. اطلقته يرافق قطط المدينة

في الشّوارع الخلفيّة ..

قد تتّضح الرّوائح...اكثر

*

فتشتعل شهوة القفز..على أرصفة باردة

ثمّ في ركن دافئ قد يتكوّم هرّي ..

سعيدا بيومه الكثير...

*

" سأطارد هرّي في الشّوارع الخلفيّة .."قلت:

لن احتاج حذاءً كعبه عال ..

انا مثله سانطّ.. واقفز، ومثله سيوقظني دفء الغزالة في ميناء بعيد...

*

في الغرفة المغلقة رسمت بابا..

وحين حاولت....

صفعني ..الجدار

***

حياة بن تمنصورت

كيف لو جفَّت الريحُ

قبل أن تَلمسَ عبيرَكِ؟

كيف لو أُطفئتِ النوافذُ،

وصمتتِ الشوارعُ

عن حكاياتِ خطاكِ؟

*

ماذا لو نسيتِ

كيف تُعيدين ترتيبَ الريح؟

أو كيف تفتحين أبوابَ الصباحِ

بمجردِ التفاتةٍ؟

*

ماذا لو كان للوردِ

أيدٍ تمتدُّ

لتتعلمَ منكِ

فنَّ أن يزهرَ دون صخبٍ؟

*

يا امرأةً

تَفتحُ الزهرَ

بلمسةِ يديها،

تُعيدُ للمطرِ ذاكرته

حين ينسى الطريق.

*

لو اختبأتِ خلفَ غيمِ الغياب،

ماذا أقولُ للنهارِ

الذي لا يعرفُ غير دفءِ وجهِك؟

وماذا أتركُ للشعرِ

إذا ضاعَ من الحروفِ وهجُ حضورِك؟

*

أنتِ النسيمُ

الذي يلتقطُ أنفاسَ المساء،

والظلُّ الذي

يُعيدُ للشمسِ توازنها.

*

علِّميني

كيف أرتّبُ الوقتَ

بينَ انتظارِكِ وإطلالتِك،

وكيف أكتبُ حُباً

لا يذوبُ في غيابك،

بل يشتعلُ أكثرَ

مع كلِّ ارتعاشةٍ في قلبي.

*

يا امرأةً

حين تغيبُ

يصبحُ العالمُ

قصيدةً لم تُكتب،

وحين تأتي

تصبحُ القصائدُ

كلُّها أنتِ.

*

يا امرأةً

حين تحضرُ

تكتملُ الأشياءُ

وتتلاشى الأسئلةُ،

وحين تغيبُ

يصبحُ الوقتُ رماداً

يُثيرُ الحنينَ دون أن يُجيب.

*

علِّميني

كيف أكتبُ حباً

لا يشبهُ قصائدَ العاشقين،

ولا يلتقطُ ظلالَ الماضي

بل يصنعُ ضوءاً جديداً

بينَ كلِّ نبضةٍ ونبضة.

***

جاسم الخالدي

أيُّ حُزن

كأنّه إلى الأبد

في هذا البلد

مَضى شتاءُ ثورةِ الخُبز

والجراح

وأتى صيفُ صُفوف المَوز

والتفّاح

هذا الصّباح

لن أقول صباحَ الخير لأحد

لن أمُدَّ لأحدٍ يدِي

***

السُّكّر أسودُ مالح

الحليبُ بالبَرص

القهوةُ كالبَوْل

وخُبزُنا

مُغَمَّسٌ بالدّم

صباحُ الخير

بل صباحُ الويْل

***

هذا الصّباح

لن تُشرقَ الشّمس

لن يتنفّس الصّبح

هنالكَ

وراء الأسوار

خلف الأبواب

عَشرُ أزهار

مُلقاةٍ على الإسمنتِ

ذابلةٍ مُختنقهْ

طيورٌ عَشَرَهْ

لا رَفْرفَهْ

لا زَقزقَهْ

تنتظر

حَبلَ الْمِشنقَهْ

***

سُوف عبيد

1984

......................

* كتبت هذه القصيدة إثر أحداث ثورة الخبز بتونس سنة 1984 التي سقط فيها عشرات الضحايا من بينهم الشاعر فاضل ساسي وحُوكم فيها عديد الشبّان بالإعدام وقد نشرتها بجريدة ـ الطريق الجديد ـ بتونس بتاريخ 16 ـ 6 ـ1984

لا أحدَ، كانَ يجرؤُ على الولوجِ إلى تلك البنايةِ الخربة، التي أخذتْ تتهدَّمُ عاماً بعد عام، وشهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، كانتْ مبنى شاهقاً، يناطحُ عددُ طبقاتهِ عنانَ الغيوم.

 مبنىً متعدِّدُ الاستعمالات، للسكنِ والسياحةِ والتجارة، ويمكنُ أن نضيفَ، للصناعةِ والزراعة، فمحالهُ الواسعةُ الأنيقة، تبيعُ المنتجاتِ الصناعيَّةِ والزراعيَّة، وكلَّ شيء.

شققُهُ مختلفةُ الأحجامِ والتصاميمِ والأثاثِ، يقطنها أناسٌ من مختلفِ القوميات، الذينَ بعدَ أن كان يجمعهُمُ السكنُ والاسترزاقُ في هذا المبنى، باتتْ تجمعهُمُ التعاملاتُ اليوميَّةُ بتفاصيلِها المختلفة، من حبٍّ وتسامحٍ، ولؤمٍ ونكدٍ، وغيرةٍ وحسدٍ، وكراهيةٍ واعتداء.. ولكن لا أحدَ منهم، كانَ يعرفُ أنَّ هناك ملجأً عملاقاً متعدِّدَ الطّبقاتِ أيضاً، تحتَ المبنى الشاهق، وكأنَّهما مبنيانِ عملاقانِ أحدهُما يشهقُ فوقَ الأرضِ، والآخرُ يزفرُ تحتَهُ.

ملجأٌ مجهولٌ سوى لزمرةٍ قليلةٍ من حاشيةِ الطاغية الأكبر، هي زمرةٌ مستعدةٌ لتلقّي أوامر فوريَّةٍ من الطاغية، متى ما أرادَ الولوجُ فراراً إلى الحصنِ العملاق، إذا ما عَلمَ عن بدء انطلاقِ ضرباتٍ خارجيةٍ جويةٍ تأديبيةٍ للطاغية.

لم يخَفْ عبُّود العنتيك، وهذا ما يُطلقهُ عليه العامَّة، بسببِ جرأتهِ في التهجمِ على الطاغيةِ وحاشيتهِ، وكذلك لامتهانهِ الأعمالَ، التي تتطلبُ جهداً عضلياً كبيراً، لم يخَفْ يوماً من تلك الغاراتِ، بل يطلقُ سبابَهُ وشتائمَهُ بأعلى صوتٍ، فالضرباتُ تنصبُّ على الطبقاتِ الفوقيةِ فتصيب الناسَ ومهاجعَهم، وإذ علمتِ القوى المهاجمةُ للطاغيةِ وحاشيتهِ، بأنَّه لم يُصبْ بأذىً، استخدمتْ قاذفاتِ الصواريخِ المحمَّلةِ برؤوسٍ نوويةٍ، جعلتِ البناءَ الشاهقَ مُهلهلاً، حينها بدأتِ الراداراتُ تتحسَّسُ ما هوَ تحتَ الركامِ، ولم تتحسسْ لأنفاسِ الطاغيةِ الذي هربَ إلى مكانٍ مجهول.

الهربُ وقى الناسَ والحيواناتِ والأشجارَ من استمرار الضربات. كلٌّ بدأَ يبحثُ عن قتلاه، وآخرونَ يبحثونَ عن مأوى، بعد أن اختنقت أروقةُ المبنى بكثافةِ الإشعاعات، وأصبحَ خطرُ الإصابةِ بالسرطان قائماً، يصيبُ كلَّ من يبقى في هذا البناءِ المهزومِ، بُنية وأناساً، فاشتدَّتْ قوافلُ الهجرةِ من المبنى إلى مبانٍ أخرى بعيدة، والإيواءُ إليها أكلافه باهظة، لا يقوى عليها كلُّ الناس، ولكنَّهم غادروه، حفاظاً على البقيَّة الباقيةِ من أولادهمْ وأحفادهمْ، فهمُ الجيل الثاني والثالث، أما الجيلُ الأولُ.. الآباء والأمهات، فقد انقرضوا.

غادر الأولادُ والأحفادُ المبنى، اضطرَّ بعضُهم إلى المبيتِ في العراء، أو في أكواخٍ ينشؤونَها من خوصِ النخيل، وبعضها من موادَّ أخرى، مثل طوبِ الطين، وأصبحت بمجموعها مهاجعَ عشوائيةً تتناثرُ على محيطِ دائرةٍ مركزها ذلك المبنى الشاهقُ الحزينُ، الذي أصبحَ مهجوراً بالكامل.

وحدهُ كانَ عبودُ العنتيك، بثيابهِ المهلهلةِ، ولحيتهِ الكثَّةِ وشَعرهِ الطويل، كان يطوفُ على تلك المهاجعَ البائسةِ، ويلومُهم على تركِ المبنى الكنز، والاغترابِ في العراء، حيثُ البردُ القارسُ الذي أصابَهم بأمراضٍ أخرى، خاطبَهمْ: - لن تسلموا من الأمراضِ هنا أوهناك.

كانتْ هيئتهُ الهزيلةُ، لن تُغوي أحداً في الإصغاء اليه، حسموا أمرهُ على أنَّه مجنون، كانَ يثرثرُ في المقاهي والتجمعاتِ عن الطاغيةِ وأفاعيله، ومجونِ أولادهِ وحاشيتهِ وفسقهم، ويقادُ إلى سجونِ الطاغية تحت الأرضية، فيلاقي صنوفاً من التعذيب، ما أنزلَ الله بها من سلطان، لكنهُ ابن وجهاءٍ يسارعون بالتوسّط لدى أفراد متنفذين من حاشية الطاغية إلى الالتماس بإخراجه من السجن، وبمعيَّتهم وثائقُ طبيةٌ تثبتُ ذلك.

عبّود المتينُ البنية، يَصبحُ هزيلاً كهُزالِ المبنى، لا أحدَ يأويهِ بسببِ الشّتمِ والسبابِ لكلِّ من هجرَ المبنى، بمن فيهم أهله. لكنهُ يقدمُ على خطوةٍ جهنَّمية، حينَ يأوي إلى المبنى المهجورِ المرعب، الذي يترقَّبُ ساكنو الأطرافِ انهيارهُ كليةً، خاطبهُ أغلبُهم نساءً ورجالاً:

- إرجعْ يا عبُّود سَتَهلك.

لم يبالِ بكلِّ تلك المخاطبات، بل وقفَ أمام المبنى، يخاطبهُ، لعلّهُ يُصغي إليه، يقولُ بأعلى صوته:

 - نحنُ متشابهانِ بهُزالِنا وخَرابِنا..

لم يجبْه كائنٌ ما سِوى الصَّدى، ومن ثَمَّ تجيبهُ قهقهاتُ بعضِ الناس، ودموعُ آخرينَ، على كلِّ هذا الدمار، الذي سيبتلعُ مجنوناً، ولكنَّه واحدٌ منهم.

لم يصعدْ عبّود إلى طبقاتِ المبنى المُضَعضَع.. بل انحدرَ إلى أسفلهِ، واكتشفَ أجواءً فارهةً لملجأٍ عملاقٍ سبقَ وإن اقتيدَ إلى ما يشبههُ أو هو ذاتهُ، لكنّهُ غيرُ متيقّنٍ من ذلك، لأنَّه كانَ معصوبَ العينين.

لاحظَ أنَّ الملجأَ لم يصبْهُ الكثيرُ من الأذى، وكأنَّهُ مكانٌ قابلٌ للعيش... لكنَّ الأنوارَ مُطفأة، التجأ إلى لوحةِ أزرارٍ ضخمةٍ، وبدأَ يفكِّرُ بما بقيَ عندهُ من عقل، وبما تحصَّل عليه من خبرةٍ في أعمالٍ حرةٍ عندما كانِ سليمَ العقل، لكنَّ اللوحةَ أزرارُها غريبةُ الشَّكلِ، فضلاً عن أنَّها مفتوحةٌ جميعُها ماعدا واحدة، ابتسمَ لذلك، فحينَ يضغطُ عليها بإصبعه، ستشتعلُ الأنوارُ ويعيشُ ملكاً متوَّجاً في هذا المكانِ الفردوسي.

ضغطَ عليهِ وإذا بسيلٍ هائلٍ من الموادِ المشِعَّةِ يتجهُ إليه من كلِّ مكان، وترديهِ جثةً افترستها النيران، حتى تلاشت نهائياً.

وفي لمحِ البصرِ، أصابتْهمْ غشاوةٌ، ناسُ الأطرافِ المترقبين لما يحدثُ بعد ولوجِ عبود العنتيك المبنى الآيلَ للسقوط، ومن ثَمَّ فُتحتْ عيونُهم بعصا ساحر، ليجدوا المبنى الشاهقَ الذي كان يضمُّهم جميعاً، عادَ كما كان، بمساكنهمِ العموديةِ ومحالهم ومكاتبهم، كلها عادتْ زاهرةً مضيئةً، وقبلَ أن يهرعوا، كلٌّ إلى مكانه، خرجَ عليهم خطباء، اجتمعوا في كلماتهم على أنَّه قبل أن يلجوا المكانَ، عليهم أنْ ينحتوا الآن نصباً تذكارياً عملاقاً لعبود العنتيك، الذي لا يعرفونَ الآنَ هل هو حيٌّ أم ميتٌ لأنَّ روحهُ، إن كانَ شهيداً، وهذا ما يتوقعونهُ، ستحرسُ المكان، وتمنعُ كلَّ واحدٍ أن يتجاوزَ على حقِّ آخر. غالبيةُ السُّكانِ، أصغوا جيداً إلى ما قالوه، عدا من تململوا من خطاباتِ الحكماء، لأنهم لن يستطيعوا أن يحرزوا مكاسبَ إضافيةً، فوقَ ما يمتلكون.

شرعَ المعماريونَ والفنانونَ لتصميمِ نصبٍ عملاقٍ يناظرُ المبنى في عملقتهِ، وانطلق البسطاءُ من المهرةِ حدّادينَ ونجّارينَ وكسبةً بالمشاركةِ في تشييدِ النّصبِ بأسرعِ وأفضلِ ما يمكنُ أيضاً.

كأنَّ روحَ عبود العنتيك حلَّتْ فيهم، وكانتْ مخاطبتهُ للمبنى التي سمعوها جميعاً:

- نحنُ متشابهانِ في هُزالنا وخَرابنا، أخذوا يردّدونها أيضاً- ولكنَّهم أضافوا لها- كما نحنُ متشابهانِ في انتصارنا وازدهارنا.

***

قصة قصيرة: باقر صاحب

.....................

* العنتيك: هي مفردةٌ عاميةٌ عراقية، ومعناها: الشخصُ الذي يوقعُ نفسهُ في الشدائدَ والمآزق.  

 

نهوضٌ قادمٌ نحوَ العراقِ

وحاديةٌ لمشوارِ اتْفاقِ

*

بهِ الأزمانُ تَرعى احتفالا

تُناصرهُ ميادينُ السباقِ

*

كطيرٍ من رمادِ البينِ يَحيا

يُجابهُها بواهبةِ انعتاقِ

*

ويُغريها بمبتدئٍ عريقٍ

يُعلمها مَراسيمَ العِناقِ

*

بعاصمةٍ من التفتيتِ ترقى

مُحصنةً بممنوعِ افتراقِ

*

بلادٌ كلّ ما فيها جميلٌ

وإشراقٌ بأوديةِ انبثاقِ

*

على الأزمانِ سادتْ واسْتقامتْ

بحاضرنا تواصَتْ باعْتراقِ

*

تواجهُنا الحوادثُ باحْترابٍ

وتدعونا لواهبةِ الوفاقِ

*

بها صُحفٌ من الويلاتِ تُسقى

كتبناها بواهبةِ انْهراقِ

*

طوَيْناها بلا ألمٍ وشكوى

تُبادلنا الأسى بدمٍ مُراقِ

*

تشنّأ جَمعُها برؤى التلاحي

فأضْحى حَيْفها حلوَ المَذاقِ

*

مَشيْناها على مَضَضٍ لشأوٍ

وما بَرحتْ تنادي للتلاقي

*

فهلْ وصلتْ لمأواها بليلٍ

وهلْ عرفتْ مراسيمَ الصَداقِ

*

تعمْرَمَتِ المساوئُ والخَطايا

وأنجبتِ التفاعلَ بالخِناقِ

*

كأنَّ سلوكَنا مَحضُ افْتراءٍ

وأنَّ وجودَنا إبنُ الخَلاقِ

*

سَنهزمها إذا جارتْ ودامَتْ

بأجْيالٍ أتَتْ روحَ انْدفاقِ

*

مَعالمُها تراءتْ من بَعيدٍ

مُرصّعةً برائعةِ اتْساقِ

*

هيَ البغدادُ ما عَرَفتْ قنوطاً

إذا خَمَدتْ سَتسعى للحاقِ

*

لها وطنٌ به الأوطانُ تَرقى

مَسيرتُها مُؤجِّجَةُ اخْتراقِ

*

عليها صالتِ الدنيا وجارتْ

وما تَعِبَتْ وعاشتْ بارْتفاقِ

*

غشيمٌ في مواطنها تردّى

جهولٌ إذ يراها كالوثاقِ

*

تحيّاتي إلى بَغدادَ روحي

مُعَطرةً بأحْلامِ ائتلاقِ

*

سَلوا عنّا زماناً عاشَ فينا

سيُخبركمْ ببرهانِ اعْتناقِ

*

أرى الدنيا عراقاً مُستنيراً

بألبابٍ مُناهِضَةِ النفاقِ

*

سَنعلو فوقَ هاماتِ البرايا

نذكّرها بمانعةِ انْمحاقِ

*

ألا تبّتْ يدا زمنٍ عَضوضٍ

سَنَرْدعهُ بأجْيالِ انْطلاقِ

*

تواصى كلّ موجودٍ بفعلٍ

يؤسسُ مَعلماً فوقَ المَحاقِ

*

بنا رَجحتْ ودامتْ في سُطوعٍ

مُدوّرةً مُسوّرةَ الطِواقِ

*

بها الأذهانُ كمْ بلغتْ مُناها

وبيتُ حِكْمَتِها قمرُ اسْتباقِ

***

د. صادق السامرائي

المَـجْــدُ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ، والــشِـيَـمُ

فـي جَـوْهـرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِـمُ

*

لــمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولــدَ الأمَــلُ

فـي الكعــبـةِ، ازدانَــتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـــاءَ أنْ يَصطفي للمُصطـفى، عَـضُـداً

بــــه المَـسِـيـرَةُ، نِــبْــراسٌ ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ، فـي يــــوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ مِــــنْ عَـــليـائــهِ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلـــهِ، أنْ يــخــتـــارَ فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ، لـِـوالِـدهــــا أزْرٌ، بـــه شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـــورٌ، فــي اقـتـِرانِـهـما

وبـارَكَ الـمُــصطفـى، فانْـهـالـت الـنِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ أحـــداثٌ، مُـــؤرَّخَــــةٌ

ولـلــمَـواقِــفِ رأيٌ، فـــيــه تـنـحَــسِــمُ:

*

لــمّـا فـدَيْـتَ رســـولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تــصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَـكـرُهُـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قــدْوَتَـه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ، لــهــا قِــدَمُ

*

خُـلِـقْــتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَــداً

لأن كــفَّــكَ، فـــي وضـح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّــبْـرِ أمْــنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَــبْـقــريـةُ، مُـذ فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله، إذ أصـبحَـتْ لـلـعَــدلِ، تـحــتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَــدٍ، الـعَــوْزُ ألـجَـأهــا

حـتـى وأنــت تُـصَلـي، نـالـهــا الـكَــرَمُ

*

وفي القضاء، انـحَـنى كلُّ الـقُضاةِ لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيـه، فـزالَ الـشــكُ والـوَهَــمُ

*

أنـصفْـتَ حـتى عَـلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ ) صـِراط، فــيـه نـلــتَــزِمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبــيـت الـمال صار لــه

حـديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَـعــنَـويَّـةُ، قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

في نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهـَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لــه

صدىً يُــعــززُ فـــي الأخــلاق نـهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مــا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الأعـداءُ تَــنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كــفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكــهُ

قــبـل الــنِـزالِ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُــمُ

*

بـه، قَـطعـتَ جــذورَ الشِـركِ، مُــرتَـجِتـزاً

واسـتسـلـمَ الخَـصمُ، لا سـيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيــتَ، بإيـمانٍ وتــضـحـيــةٍ

فـانْهارَ مِـن وَقْـعِـهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَــفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلـحَـمَـةٍ

إذ كــلـمـا قَــيـل: ذا الــكـرّارُ، هـالَـهُــمُ

*

إذا رجَــزْتَ، فـلِـلأجـواءِ هــيْـــبَــتُـهـــا

ولـِلــحَـمـاســةِ، فـــي أصـدائهــا حِــمَـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصــمُ، فــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قــبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَـفْــسَ رسـول الله، حـيـن دعــا

في (خندق) الحَـسْـمِ،حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَـعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَةُ الـنصـرِ، فـي قــوْلٍ يـُـجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ،وقـد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُـمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى، زالَ عـنه الـوَهْـمُ والـعَــتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ، فـي الــذي كــسـَـبــوا

ثـمّ اقـتـدوا بـك، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَالجُـنـدُ لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا: لا فــتـىً إلّاكَ، بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى : انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ، بالإيــجـاب كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، لو جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجــواءَ، يَــسْـمُ بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَــدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ، والآفـــاقُ تَــشـــهَـــدُه

قـد حَـرّكَ الـوعيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلـعـلـم، والآدابُ تَــصـحَــبـُـه

(أيـن الأسِــرَّةُ،والـتـيـجـانُ)، والـخَــدَمُ

*

عَــقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشـــجـاع بــلا

ســـيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفــرســان مـوهـبـة

والـمقـتـدون بـهـم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بـلـغْـــتَ فـــي صِـلــةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـــلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثـقتْ

بـــهِ الـعُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عــقيلاً، إذ أشــارَ الى:

(أم البـنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ تَــنْــتَـظِـمُ

*

فكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افـتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابـو الحـسَـنيـن، الـعِـزَّ في عَـمَلٍ

بــه الـكــرامـةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفــيّــةَ، لا تــفــريــقَ فــــي زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَــتَّـسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المـصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

نـاديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُـــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيــث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

(وجع الحرية)

 عندما ارتديت ثيابي في يوم الإفراج عنا شعرت أنها لشخص آخر غريب عني، وكذلك ضوء النهار الذي استقبلني في باحة السجن ومن ثم خارج البوابة الأمامية التي نسيت أي أمل بعبورها نحو الحياة الاعتيادية، وأني سوف أرى اناسًا يمشون في الشوارع بكل حرية، دون قيود ولا أوامر ولا تهاوي العِصي الغليظة لدى تعليقنا بالفلقة حتى نفقد الوعي. لوهلة كدت أطلب من السجان أن أبقى في زنزانتي حيث اعتدت التأرجح ما بين الحياة والموت، دون السماح بالاتكاء على أي حائط ولا القيام بأي حركة لمدة اثنتا عشرة ساعة، لأنني لا أدري إن خرجت في أي اتجاه أمضي، فقد ضاعت مني اتجاهات مدينتي وشوارعها وميادينها ومناطقها، حتى أني خشيت ألا أستطيع المشي ولو لعدة أمتار حتى أعثر على سيارة أجرة تقلني إلى منطقة الكرادة، فلا بد من الابتعاد عن مبنى السجن الكبير مسافة كافية كي لا يخشى ركوبي السائق الذي لزم الصمت طول الطريق متوجسًا من هيئتي الغريبة، وقد بدوت في المرآة الجانبية الصغيرة، والقريبة من جلستي إلى جواره، بقصة شعري الغريبة والمضحكة عن عمد وبقسمات وجهي المتورم أشبه بشبح خرج من قبر شخص مات مقتولًا دون أن يعرف سبب مقتله.

 ظلت السيارة تجوب بي الشوارع، من سجن (أبو غريب) نحو منطقة العامرية، ومن اليرموك نحو تمثال الفارس العربي، ولمَا مرت من أمام جهاز المخابرات شعر السائق بما اعتراني من رجفة سرت في كل أنحاء جسدي الذي تغور فيه أوجاع الجروح والرضوض والكدمات، فمد يده نحو ركبتي المرتجفة كي يهدئني، كما لو أنه اعتاد فعل ذلك، وحاول الإسراع قدر ما يستطيع كي يبعد عني شبح الاعتقال مجددًا، ثم أوقف السيارة إلى الرصيف المحاذي لمتنزه الزوراء، خشيت أن يطلب مني النزول، إلا أنه التفت نحوي مبتسمًا، وقد بدا لي في مثل عمري، بملامح تنم عن طيبة أصبحت غريبة عني، ثم قال أنه سوف يجلب لي عصيرًا وشيئًا آكله، على حسابه، فقد بدا له أني لا أملك نقودًا، مع ذلك قبَل أن يوصلني. تجرأت وأخبرته أني أشتهي سيجارة الحرية أكثر من أي شيء آخر.

 أخذت أتنقل بنظراتي عبر سياج الزوراء وشارع دمشق العريض بجانبيه من أمام محكمة بداءة الكرخ ومعهد الفنون الجميلة، وأكثر ما شد انتباهي الزي العسكري الذي يرتديه الشباب، كما لو أنه (مودة) أشبه ببناطيل (الجارلس) الفضفاضة وياقات القمصان العريضة والسوالف الطويلة في السبعينات، إلا أن قرار إطلاق السراح أكد أننا في عقد الثمانينات.

 رحتُ أحدق في كل صورة تمر السيارة من أمامها في (علاوي الحلة) و(الصالحية) و(حافظ القاضي)... صور كثيرة، في كل الزوايا تقريبًا، متباينة الأحجام، منها صورة كبيرة جدًا، شعرت أنها تحتويني وتحتوي كل المدينة، وتغشى حتى قطع القماش السوداء المعلقة إلى الأسوار وبعض الحوائط، تنعي الشهداء في قواطع جبهات المدن الحدودية جهة الشرق.

 لم يحاول السائق أن يتكلم معي كلمة واحدة، فتواطأت معه على الصمت، وكأن كلًا منا يتلمس رجفة الخوف الذي يراود الآخر، لكن عندما وصلنا منطقة الكرادة لم أستطع تمالك نفسي أكثر، فأجهشت ببكاء ربما أكون اختزنته على مر سنوات، وكأني أشم عبق أمي وأبي بعد عمر من الغياب، دفء البيت ورائحة البخور التي كانت والدتي تحب أن تعَطر بها مكان جلستها بصورة خاصة، أمام المدفأة النفطية التي يعلوها دورق الماء المغلي (الكتلي) يرتكز فوق فوهته دورق الشاي (القوري) (المهَيَل). كانت تنتظر عودتي المتأخرة بصبر وعينين قلقتين من أسى اعتقال جديد يبعدني عنها لفترة لا تعرف أمدها، أو من تفتيش يقلب البيت رأسًا على عقب حتى أُنهكت من ترتيبه كل حين، إلا أنها لم تعد تقول شيئًا تحاول من خلاله إثنائي عن الطريق الذي اخترته منذ أن كنت في السادسة عشر من عمري، تكتفي فقط بالتنهد الحزين الذي راح يغور في أوصالي مثل سكين حاد حتى استطعت تذكر شارع بيتنا، بعد أن مررنا بعدة أحياء ومحلات وشوارع، فأخذت ذاكرتي تسترجع أسماءً كثيرة غابت عني، رغم أنها كانت فيما مضى بمثابة الشرايين والأوردة المتشعبة في أوصالي. كان الدمع يغَبش نظراتي المتطلعة إلى ذلك التوهان الجميل، وكأن السائق تعمد أن يروي بعض حنيني إلى عمرٍ آخر أوجعني مدى غربتي عنه، كما لو أن القيود تواصل حزَ جسدي والضربات توالي طعن أضلعي وعظامي بألمٍ مبرح لا يرضى أن يفارقني.

 أشفق السائق على نظرات ذهولي فتخلى عن الصمت أخيرًا وأخذ يتلو على مسامعي أسماء (البوشجاع)، شارع (السيد إدريس) (الزِوية)، (رخيتة)، (أبو قلام)، محلة (البو جمعة)... كان يبدو كمن يستغل الفرصة كي يتغزل بصفات محبوبة سكنها الحزن منذ سنوات، فيما أواصل النحيب مثل الثكالى ممن يفقدنَ أحباءهن في حرب تقيم مجالس العزاء هنا وهناك كالوباء المنتشر بسرعة في أوصال المدينة، بينما لا يحق لذوي القتلى منا تحت وطأة التعذيب الجهر بذرف الدموع لدى تشييع الجثامين نحو المقابر. كنت شبه أكيد أن السائق الذي لم يستطع كبت دموعه لدى اقتراب عثوري على بيت والدي، كما لو أني اغتربت عنه منذ كنت صغيرًا أكاد لا أعي في الدنيا شيئا، مبتلى باعتصار الفقدان الذي يقبض على حسراتي الحرى بعد أن طال كتمانها، وأن له حكاية لعلها تفوق حكاية هزائمي على أيدي الرفاق مرارة، مع ذلك لم يفضِ بمواجعه، وبدَوري لم أشأ أن أضيف نزيف ألم آخر إلى غصة اختناقي.

 عندما ترجلت أخيرًا أمام باب بيت والدي لم يرضَ الانتظار حتى آتي بالنقود من الداخل، فقط أخبرني أن أحرص ألا أعود إلى (هناك) مجددًا مثلما حدث لأخيه الصغير، فلم يصله خبر عنه سوى شهادة وفاة، واكتفى بهذا القدر دون شرحٍ أكثر، ثم مضى بالسيارة سريعًا كما لو أنه شارك بجريمة شنعاء ويخشى اكتشاف أمره.

 أولمّا عبرتُ الباب الخارجي لبيت أهلي الكبير، والذي كان يبدو لي مثل قلعة شامخة لا يمكن لشيء النيل منها، ولا حتى الزمن، هجست أكثر فأكثر أني أمام واقع مغاير لكل ما ألفت، واقع ليس لمناضل منبوذ مثلي القدرة على تغييره ولا حتى التغاضي عنه، ودوي قصف غارة جديدة يكاد يدك الأرض من تحت قدميّ كما لو أنه يصدني عن الدخول كي أستأنف حياتي من جديد.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

حين انتخبَ الفؤاد

رايةَ السلامِ مستقرّاً

أشرعْتُ بابَ القلب

لتدخلَ الحمامةُ البيضاء

مسكنَها

في عشِّها اللازورديّ

الموشَّح بالزهرِ

والنهرِ

ونخلِ الله....

**

وحينَ حلَّقتْ بعشِّها

صوبَ النجومِ البارقاتِ

بالقبابِ

وحروفِ الرفع

تساقطَتْ مجراتٌ

في حضنِي،

وأشعلتْ فتيلَ مصباحي

فامتلأتْ أزقتي

بمهرجانِ النورِ

والحبورِ

والسطورِ الفائضةِ

بالكلامِ

منْ عسلٍ مصفّى

ألقيتُه

على لسانِها الأخضر

فانطلقتْ سِرباً

منَ الحمامِ

فوق هامتي

وهدلتْ...

لكي أنامَ على فراشٍ

منْ أمان...

***

عبد الستار نورعلي

 

كنت واهمًا

أبكي ضياع الأوطان

احتجَ الكلبُ، فهز لي الذيلَ

بالنفي..

تأملت الهزَ

وأدركت وهمي

باكيا ضياع الأنسان.

**

كنت واهما

أبكي ضياع الأوطان

فكان الحقُ، أن أبكي الإنسان

**

أسكرُ

فالليل عراء

والخمرةُ دفءٌ

في عري الرب.. رداء.

**

أوهمني العمر

أن أرجعَ يوما أطرق بابك

فكانت غربان تحمل نعشك…

وتحرس أبوابك

أوهمني ...

أوهمني الدربُ إليك

لكني أبكي طوال الدرب

وهذا العمر

أبكي... موت الإنسان

لن يبقى فيك، سوى بعض قلوبٍ

وملايين الغربانِ

**

في الغيمة روحي

كتابٌ للربِ

يقرأه.... فيغضب مني

فينزلني مطرا

كما أنزل ادم.

قد أفيق غدا

أو لا أفيق

وأنتَ مازلت تحدثني

عن حفلة عرس بثوب خليفه.

***

كريم شنشل

سار الصديقان الجديدان جدًا، الختيارة والختيار، بضع خطوات في قمّة الجبل، وكان مِن المُتّفق عليه فيما بينهما أن يفترقا، قُرب محطتها باتجاه بيتها في السفح الأول، في حين ينطلق هو باتجاه محطته في الاتجاه المحاذي، للانطلاق نحو بيته الوحيد في الجانب المقابل من الجبل ذاته. قبل أن يفترقا خطر في باله أنهما.. هُما الاثنان.. كما جرى الحديث بينهما على حافة مرض لا دواء له إلا المشي والانطلاق في الدروب الطويلة المُمتدّة. أرسل نظرة مُتخابثة نحو مرافقته وقال لها " إنني سأنزل هذا الجبل العالي سيرًا على القدمين. صحتي تحتاج المشي بالضبط كما تحتاج شرب الماء الزلال والنوم الحلال". هنا حدث ما توقّعه منها، فأردفت ما قاله بكلمات كانت غامضة مبهمة نوعًا ما، وأكثر من ذلك نقلت له ما أراد أن يستمع إليه. وهو أنها سترافقه. همس لنفسه قائلًا:" فعط الفخّ". وهكذا حظي بردّها المتوقع المنشود. سأرافقك. ردت بنوع من الخفر وتابعت أنا أيضًا أحتاج إلى مثل ما تحتاج إليه.

انطلق الاثنان نازلين الجبل الاشمّ، هو إلى جانبها وهي إلى جانبه وحرص على الا يسبق أحدهما الآخر. شكا لها من صعوبة أن تعيش وحيدًا، فبكت له قائلة إن أصعب ما في الكون أن تعيش وحيدًا. قال لها إن مشكلة الطعام والشراب تأتي أولًا في صلب معاناة الوحدة بعد امتلاء، فأكملت وغسل الملابس يأتي في مكانة لا تقل أهمية. هكذا ابتدأ التوافق المُضمر فيما بينهما، هي المرأة الملآى بقايا انوثة رغم الشيخوخة المُداهمة وهو الشيخ المليء شبابًا رغم افتضاض العالم كلّه عنه بما فيه الابناء.. ثلاث اناث وذكر واحد. " كلهم متزوجون"، قال فأرسلت ابتسامة مَن اكتشف مَن يُشبهه على الأقل. وقالت " بي مثل ما بك يا شيخ الشباب".

هذا التوافق فيما بينهما شدّ من عزيمتيهما، فانطلقا يغذان الخطى نازلين متنقلين من رباع إلى رباع. وكان كلّ منهما يستذكر أن له في تلك المنحدرات المتتالية ذكريات، فما يكاد هو يقول هُنا كانت لي ذكريات مع عازفة عود سمينة.. كان ذلك حانوتها، حتى تشرع هي في سرد ما ادخرته ذاكرتها عن تلك العازفة، فذكرت أن رجالات حيها كانوا يدعون تلك المرأة عازفة العود لتحيي الاعراس والافراح والليالي الملاح. تلك المرأة تمتّ إلى أبناء عائلتي بشيء من القرابة. قالت فردّ. لقد نادتني عندما كنت طفلًا صغيرًا ارتجف تحت المطر لتدفئني في دكانها.

تابع الاثنان انطلاقهما. حكاية تُفضي إلى أخرى. ويدًا تقترب من يد. وكانا كلّما توقفا قُبالة مطبخ أو مغسلة روى أحدهما للآخر حكايته معها. ليكمل الآخر تلك الرواية بحديث طليّ يعيد الماضي وكأنما هو لمّا يمض. وما زال ماثلًا... ويغذي الحاضر بنسغ الحياة باستمرارها وكينونتها.. وحتى بوجودهما هما الشيخان الشاهدان الوحيدان في ذلك الدرب على أن ما كان لم يكن وهمًا وخيالًا وإنما كان كينونة ووجودًا.

عندما تعب الاثنان توقّف كلّ منهما قُبالة الآخر، مُرسلًا نظرة استفسارية.. سألتها عيناه " هل أنت متأكدة من أننا كنّا هنا؟"، فردّت عيناها" ألم تُجب الذكريات على ما فاضت به ذاكرة كلّ منّا؟"، أطربه أنها أجابت على السؤال بسؤال مُفحم، وتابع الطريق.. كان يودّ ألا ينتهي ذلك الطريق، وكان السؤال المُلحّ رغم كلّ ما ضمّته تلك المسيرة مِن تفاهم واضح وجليّ. ترى هل يوجد بها مثل ما بي.. أم هي ضريبة كلامية تدفعها لي لقاء اقتراحي ذاك في أعلى الجبل؟". وبدا أن المسير الطويل أخذ مأخذه من كلّ منهما.. هما الاثنان، فظهر الاعياء على قدمي المرأة المُسنة المرافقة، وما إن ترنّحت في حالة من التعب والارهاق هتفت " يمّا.. أشعر أنني سأسقط"، عندها مدّ يده مستعينًا بما تبقّى بها من قوة شباب وعنفوان وأمسك بيدها هاتفًا بها" تروّي.. لا تصرخي.. أنت معي لا يمكن أن تسقطي"، مُساعدته لها مكنتها مِن العودة إلى انتصابها السابق الأول. وأدنت وجهها مِن وجهه كأنما هي تُريد أن تشكره وتُقدِّم له أسمى آيات الشكر والعرفان لمساندتها تلك.. هكذا انطلق الساعيان في طريقهما الوعر حينًا السهل آخر. انطلقا غير عابئين بما اعتور طريقهما مِن عثرات وعقبات فقد كان كلّ منهما يسند الآخر حين يتهاوى من طول الطريق وشدة الاعياء. وقد حصل معه بعد أن سرت في جسدها دماء القوة لمساندته إياه، في أحد مقاطع المنحدر الصعب، ما سبق وأن حصل معها، كان ذلك عندما ترنّح متهاويًا وتبدّت له نهايته الوشيكة في أسفل الجبل. فما أن تداعى بجسده الناحل حتى شعر بيد الهية وقويّة تمتد إلى يده بقوة عملاقية.. وتنتشله في اللحظة الأخيرة.. لحظة ما قبل النهاية. أرسل نظره إلى تلك اليد يودّ أن يتبيّن صاحبها ليشكره ويُقدّم له آيات عِرفانه وتشكراته الخالص. ليفاجأ بانها هي مُرافقته المُسنة مَن مدّت إليه يدها وسحبته من متاهته .. نهايته المحتّمة.

واصل الاثنان انطلاقهما هذه المرة بخُطى مَن تأكد أنه لم يعد وحيدًا في انحداره الجبلي، وكان كل منهما يُرسل ابتسامة إلى الفضاء المجهول وتعلو وجهه علامة سؤال " ترى هل انتهى زمن الوحدة وما تخلله من مشاكل قلة الطعام وغياب مَن يغسل الثياب؟"، وبقي هذا السؤال يراود كلًا منهما إلى أن خطرت لها هي.. وليس هو هذه المرة.. أن تلعب لعبتها الخاصة وأن تضرب ضربتها الحاسمة. همست في أذنه سائلة إياه:" ها نحن وصلنا إلى منتهى الجبل وأسفله.. ترى إلى أين ستتجه.. "، فردّ عليها قائلًا بنوع من التخابث سأواصل طريقي حتى نهايتها"، هنا وجّهت إليه ضربتها القاضية الأخيرة.. فإما تصيب وإما تخيب. اصطنعت هيئة مَن لا يهمه ماذا سيحدث وفي خاطرها أن تجري له الامتحان الأخير، فإما يُكرم وإما يُهان.. وهذا ما سينطبق عليها بالطبع قبل انطباقه عليه. قالت أنا سأتوقف هنا وسوف أنتظر الحافلة الطالعة إلى بيتي هناك في الناحية الجبلية المحاذية لناحيتك"، انتابته حالة من البرود فقد كان يتوقّع بعد كلّ ما حصل أن تقول له سأرافقك. انطوى على أحزانه القديمة. ودعها وواصل طريقه وهو ينظر إلى الامام.. لقد كان منطلقًا انطلاقة من حدّد هدفه ورآه بأم عينه.. وقد كان يراها أشبه ما تكون بوصلة توجّهه إلى ناحيته الصحيحة المنشودة.. أصابته حالة من الجنون المفاجئ فأخذ يجري شاقًا عُباب الدرب الطويل.. وكان كلّما واصل الجري أرسل ابتسامة غطّت الجبل من اسفله الى أعلاه.. فقد كان يشعر بقدمين قويتين تُشبهان قدميه تجريان.. وتكادان تطيران.. في الطريق ذاته..

 ***

قصة: ناجي ظاهر

 

إحساس غريب يلازمها منذ استيقظت هذا الصباح، صالت وجالت لكي تقنع نفسها أنها مجرد وساوس شيطانية لابد أن تتخلص منها، لكن للأسف فشلت، تساءلت حائرة كيف تسكنها الوساوس في هذا البيت الذي تربت فيه وكبرت في أحضانه، كيف تضيق الطرق بها ووالدها الرجل البطل الذي لا يشبهه أحد وأنه مادام على قيد الحياة فهي وأخواتها بأمان، لكن بقت تردد لما هذه الوساوس اللعينة تفسد يومها وبهجتها، كانت تتمتم بهسيس الروح ونبض الخطوات المتردد، دارت حول نفسها مرات ومرات، حاولت أن تشغل نفسها لتخفف عنها قلقها وتوترها، تحاول التخلص من ثقل هذا الوسواس بالبسملة والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، رن هاتفها وجاءها صوت غريب يخبرها أن والدها بالمستشفى وهو يتواجد بغرفة الإنعاش في حالة حرجة، أسرعت نهال إلى الخارج دون أن تخبر أحدا في البيت بهذه الفاجعة المدمرة وقد تملكتها رعشة في عظامها وانتفاضة شديدة في خلاياها، لم توقظ أحدا من أهلها، رأته ممدا وموصولا بأجهزة طبية كثيرة تأملته عسى أن يفتح عينيه في أي دقيقة، دلكت رجليه ويديه بكل رقة ونعومة، علمت أن مواطنين أبلغوا عن سائق مغمى عليه داخل حافلته، وبعد تفقد هاتفه جرى الاتصال بمنزله، لم تكن يداه دافئتين، لكن لما تشعر بهذه البرودة تدب في أنامله ببطْء ومصممة على أن تسري في كل جسده، حركت أحاسيسها الكلمات الحائرة، أين اختفت تلك البهجة وأنت صانعها؟ يا أبي العزيز، من يرسم البسمة على وجهي غيرك ؟ وأراك وحدي ترسمها بتلقائية وبراعة. أبلغت نهال أهلها دون أن تنقل لهم إحساسها بالقلق، وحالته ليست سوى أزمة خفيفة وستمر بسلام، وأصرت على أنها هي من ستبقى معه وتهتم به. ظلت تنظر إليه طويلا وتدعو الله أن يشفيه وأن يساعدها على تجاوز هذا الموقف المؤلم العصيب، تحلت بالعقل والحكمة على مدى سبع أيام متتالية حتى انتفضت مبتهجة من نومها على الكرسي بجوار السرير لما رأته يتململ من اغفاءته العميقة ويحاول أن ينزع قناع الأكسجين، هالها شحوب وجهه، احتضنت برفق يده المستسلمة بين راحتيها، شعرت وكأنها أمام العد التنازلي لكل شيء جميل رسمه بحياتها، وماهي إلا لحظات حتى عاودته الألام، سارع إليه الأطباء وأعادوا إليه قناع التنفس، وبعد محاولات مضطربة عديدة وسريعة نفذ قضاء الله، وقفت متسمرة في مكانها فاقدة الشعور بالزمان والوعي بالمكان وتمنت أن تنسل روحها من جسدها وتدفن معه، صراخ بداخلها يخنقها، يبكيها، وهي تتذكر آخر كلماته أن أمها وأخوتها أمانة عندها، لا تشعرهم بفقدانه وغيابه عنهم، فوجودها إلى جانبهم يعني وجوده، وعندما ينام نومته الأخيرة سيكون مرتاحا لأنه تركهم معها، تنهدت في صبر والدموع تغالبها ولكن تأبي أن تنزل من محجريها، شعرت بمرارة الحياة وآلامها، وقساوة لياليها الطويلة، كيف تبدأ من بعده؟ لقد استأمنها أمانة كبيرة لا تقوى على حملها وهي الأنثى الوحيدة المدللة عنده، أودعت في الأيام الأولى حافلة والدها لدى صديق له اقترح أن يعمل عليها ويأتيهم كل مساء بالحصيلة ويأخذ هو أجرته اليومية، ولم يكن في أسرتها من يمكنه سياقتها لانشغالهم بالدراسة التي حرمت منها بعدما لم يحالفها الحظ فتوقفت لمساعدة والدتها في تربية ورعاية أخواتها الذكور، مرت الأيام وعلمت نهال أن صديق والدها يسرق مبلغا معتبرا من ما يتحصل عليه من العمل في الحافلة صارحت والدتها بالأمر وتأسفت كثيرا أن يكون هذا جزاء من أكرمه والدها، إنه زمن العجائب، والله يرحم من عرف قدره وكفّ الناس شره، كان الظن أنه سيساعدهم ويقف معهم وإذا به يأكل بالباطل خيرهم ويخدم غيرهم وصاروا هم المساكين، لقد تقدم إليهم بلطف كصديق أمين على مال صديقه الراحل، لقد انقلب إلى شخص انتهازي، استغلالي، لقد عانت نهال وأسرتها منذ وفاة والدهم من كل رأس مطاطية وراءها ألف بلية فكان آخر المعروف ضرب الكفوف والنميمة ونشر الأكاذيب، لذا قررت أن تتولى سياقة حافلة أبيها والعمل عليها بنفسها، قد يكون الأمر في البداية غريبا لكن الناس سيتعودون عليه خشيت أمها أن يرفضها مجتمع السائقين وسطهم وينبذونها ويناصبونها العداء، فاقترحت بيع الحافلة واستغلال ثمنها في مشروع آخر، رفضت نهال أن تفرط في شيء واحد من أشياء والدها فهي تعيش في تفاصيل أشيائه الصغيرة والكبيرة، وطلبت من أمها عدم التفريط في ملابسه فهي من سترتديها عند العمل، حصلت نهال على رخصة قيادة مركبات الوزن الثقيل حيث كانت قد تدربت على سبيل اللهو والمرح على يد والدها من قبل لذا لم يكن الأمر صعبا عليها، لقد تهيأت جديا للعمل، وكانت ذكرياتها معه تمدها بالصلابة والقوة، فكم أراد الآخرون أن يمحو المعالم الطيبة والأصيلة والمعاني الجميلة التي زرعها فيها فكانت تهرب إلى تلك الذكريات الأبدية التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف ومهما كانت السحب معتمة ستنزل الأمطار غزيرة تروي القلوب التي لا تعرف إلا الحب وتزيل الحزن عن المشاعر وستنبت الروح النقية من الانفعالات الوقتية رياحين عطشى للنقاء بعيدا عن الزيف والنفاق، وبياض يطله ندى الفجر يبدأ به الشرفاء يومهم متوكلين على الله

نهضت نهال مبكرة فارتدت ملابس والدها، جاكيت وبنطلون جينز أسود، جمعت شعرها خلف رأسها ووضعت قبعته وساعته وقفازه الجلدي ونظارته الشمسية، وأخذت كل ما يحمل ذكراه الجميلة، تأملت شكلها الجديد في المرآة أطلقت بروح فكاهية عدة رمشات خاطفة كأنها عصفور يوشك على الطيران لحق بها ابن خالتها العاطل عن العمل بعد تخرجه من الجامعة بدأ الركاب في الصعود الى الحافلة المتوجهة لولاية تبعد أكثر من خمسين كيلومترا، كانت تتوقف في كل المحطات وكان شعور النساء والبنات نحوها بالفخر والاعتزاز، فيما نظر إليها الركاب من الرجال بفضول لطريقة قيادتها وباستغراب من دقة تحكمها، وبإعجاب أيضا من انضباطها وحسن تصرفها، لم يكن الأمر سهلا على الكثير من السائقين إذ كان من الصعب في مجتمع ذكوري تقبل مثل هذه التجارب من أول وهلة، لذلك كانت المصيبة التي أرقتها أنهم كانوا غير راضين بوجودها وسطهم، فدبروا لها كل أنواع المكائد لدفعها إلى بيع الحافلة التي بدت من نظافتها الداخلية والخارجية وتعطيرها عروسا أتت من كوكب آخر، إنه تقليد تربت عليه منذ نعومة أظافرها، إذ كان هذا أسلوب والدها اليومي في العمل، لم يقف تفكير نهال عند حد معاملتها الطيبة مع الركاب، الصغار والكبار، حتى رجال الشرطة يحيونها في ذهابها وإيابها احتراما وتقديرا لها حيث لم ترتكب أي مخالفات، إنها مثالا لمن خطت بأقدام ثابتة مسارها في زحمة الهاربين من الأوطان إلى منافي الخوف لأن ذاكرتها تحفظ بأيام حلوة، تعلمت كيف تكلم الآخر بعناية وإحساس فهي أميرة والدها التي تحفها الورود وتذوب من أجلها الشموع وتسهر لراحتها عيونه وتلبى طلباتها ورغباتها في الحال، وتتضاءل مشاكلها وهمومها في حضنه الآمن، أمدها بالقوة والثقة بالنفس في الصغر فوجدت نفسها في الكبر واقفة تجابه الرجال وقوتهم بما تربت عليه من قيم ومبادئ، ثاقبة البصيرة حادة البصر، تعرف جيدا ما تريده، ملتزمة، ورغم فقدانها الحضن والسند والدافع إلا أنها كلما نظرت في المرآة قبل خروجها إلى العمل تراه في جسدها، في روحها، في تصرفاتها، إنها تكمل مسيرته في الحياة، كل شيء منتظم، رتبت أمور عائلتها واهتمت بوالدتها لكن طموحها كان كبيرا وخاصة لما صادفت سيدات وشابات يطلبن معرفة تجربتها وانطلاقتها في العمل المحتكر من الرجال، كانت تبتسم وهي تؤكد على معاني الإرادة والعزيمة. استشعرت نهال دوافع داخلية للتفكير في تنويع مجال عملها، ففتحت مرأب بالطابق الأرضي أسفل منزلها بعد شراء حافلات متوسطة الحجم، بما تسنى لها جمعه من أموال إلى جانب ما تركه والدها في البنك، لقد نالت موافقة العائلة بعد استشارتهم ومباركة والدتها التي كانت على ثقة كاملة أنها لن تهدر حقوق اخوتها، وأنها ستكون حريصة أشد الحرص على تضخيم مدخرات كل فرد منهم تأمينا لهم من تقلبات الزمن. قامت بكل الاجراءات واختارت فتيات يافعات وبعض السيدات لقيادة الحافلات وحرصت على تحذيرهن من بعض المضايقات والمعاكسات وحالات التنمر، وأكدت على ضرورة الثقة بالنفس والشجاعة والالتزام بالأدب مقابل ما قد يواجهنه من قلة أدب بعض الركاب وحتى تجاوزات السائقين، كما فتحت نهال المجال أمام تشغيل الفتيات كمحصلات داخل الحافلات، وأخريات يعملن في محل جعلته مطعما لتقديم الوجبات السريعة والمشروبات الساخنة والباردة لكل المتواجدين بالمحطة من السادسة صباحا إلى الثامنة مساء ويتولى أحد السائقين توصيلهن إلى باب منازلهن استأجرت محل آخر كان مهمل جعلته عيادة صحية صغيرة على رأسها طبيبة وبعض الممرضات وأخريات لتنظيم دخول المرضى وتنظيف المكان، لقد وفرت لجمع كبير من النساء والفتيات فرص العمل والكسب بكل عزة وشرف بعيدا عن أي مساومات رخيصة، كانت تمني النفس بتحقيق أجمل الأحلام وأطيب الآمال بحياة كريمة كلها تفاؤل بالسعادة والخير لكل النساء والفتيات، لأنها تعلم ما أحوجهن إلى العمل في زمن غلبتهن الدموع واكتوين بنار الألم وعانين الضيق وشر الأحزان ضبطت نهال شؤونها ونظمت أعمالها خاصة المطعم الذي قدم أشهى المأكولات التقليدية التي يعشقها أهل المدينة أعدتها أيادي نساء محترفات للمسافرين والعائدين في ساعة متأخرة إلى بيوتهم التي ذكرتهم بالزمن الجميل، ولم تغلق باب العيادة في وجه فقير محتاج للرعاية الطبية الأولية، لقد فرضت منطقها في العمل بشكل قانوني محترم حتى صار من كانوا يتنمرون بها من الرجال يستشيرونها في كل صغيرة وكبيرة، ويوما أتاها أحد كبار السن الذي ألفته راكبا إلى جانبها سائلا إن كان لديها متسع من الوقت آخر النهار إذ يريد أن يفاتحها في موضوع، رحبت نهال. في المساء وجدته ينتظرها داخل المطعم الذي كان يطل على أرض فضاء مهملة منذ سنين، بادرها بأنه ممتن لها طيلة السنين حيث لم تأخذ منه أجرة ركوبه الحافلة أو ثمن وجبة الأكل بالمطعم ولا مقابل العلاج بالعيادة لقد أسعدته كثيرا في وقت حرمته الحياة طويلا من الأشياء الجميلة التي كان يتمناها في صغره، كان يرى في أولاده زينة الحياة، ومن أجلهم ركب المخاطر وخاض الدروب الشاقة، ولم يكن يدري أن مقابل سهر الليالي والتضحيات سيكون رحيلهم عنه بعيدا إلى الخارج، انتظرهم طويلا بدون جدوى، كلما مرت سنة زاد جفاؤهم، لم يعد يسمع صوتهم منذ سنوات، ماتت زوجته ولم يحضروا جنازتها، مؤخرا أجرى فحوص طبية وعلم أنه مصاب بالسرطان ويريد الآن أن يرتب أموره قبل أن يداهمه الأجل، تأثرت نهال وتزاحمت دموعها في مقلتيها، حدثت نفسها متسائلة باستنكار أي قلب يرضى بهذه الأفعال، إنه العقوق، ثم تذكرت جارتها التي انقطعت عنها أخبارها وكانت الشرطة قد اقتحمت بيتها بعد أن اشتم الجيران رائحة تخرج من البيت ووجدوها ميتة، وأخبروا ابنها الطبيب المقيم في أمريكا بوفاتها، واصل الشيخ حديثه بعد أن لاحظ شرودها للحظات موضحا لنهال أن الأرض التى بجوار المحطة كانت مزرعة وجنة خضراء ثم صارت مكبا للقمامة، وهو لا قدرة له على تحمل مسؤوليتها وأرهقه المرض، ثم اقترح عليها أن يبيعها نصف الأرض ويجعل النصف الآخر صدقة جارية يبني عليه مسجدا، أما الأمر الآخر الذي أراده فهو البحث عن من يراعيه في حالته الصحية الحرجة وعمره المتقدم، وافقت نهال على شراء نصف قطعة الأرض، وشرعت في اجراءات بناء المسجد، وأحضرت الشيخ إلى بيتها وتكفلت بحضور جلسات العلاج الكيماوي بينما تناوب أخوتها على ملازمته والاهتمام به، وسرعان ما أتمت نهال بناء المسجد وفندق صغير يطل على حديقة واسعة غرستها أشجار وورودا. مر عام وخفت حدة المرض تدريجيا عن الشيخ أحمد فانتهز الفرصة وسافر لأداء فريضة الحج بصحبة أثنين من أخوة نهال، وعند عودتهما اقترحت نهال أن تأخذه إلى مكان جميل لم يره منذ فترة طويلة، أجلسته بجانبها كما جرت العادة في الحافلة وانطلقت، شاهد المسجد الذي نذره صدقة جارية وقد اكتمل وكذلك المزرعة التي عادت إليها الحياة، تنهد عميقا وهو يتأملها طويلا، كم كان يتمنى أن تكون ذريته كلها بنات، فلا يعرف أحد قيمتهن إلا أوقات الشدائد، باركها وأثنى عليها في وقت أحس بدوار قوي أراد أن يقاومه فأغمى عليه، نقلته نهال إلى المستشفى وعلمت أن حالته صارت حرجة جدا ولا يسع أحد عمل شيء إلا الدعاء له، أفاق الحاج أحمد وهو يجهل ما حدث له فأخبرته أنها حالة ارهاق وما عليه إلا أن يبقى لفترة بالمستشفى ووعدته أن لا تتركه أبدا. التزمت نهال بوعدها وأخوتها الجميع تناوبوا عليه وآنسوه في وحدته وبعد أيام انتقل الى رحمة الله تكفلوا جميعا بالدفن، شردت نهال وعيناها تترقرق بالدمع على فراق الأحبة الذين ألفت وجوههم وحضورهم، وتأسفت على من لا يميزون بين ما لهم وما عليهم وتزاحمت حولهم أشواك الأنانية وحب الذات حتى نسوا من بفضلهم أصبحوا في هذا المقام، ويغفلون عن حقيقة أن القادم أليهم سراب بعد أن فقدوا الأصل وفضلوا شوارع الغربة البائسة المتمردة التي عزلتهم عن كل نفس جميلة في أوطانهم. مرت الأيام والشهور ووجدت نهال أنه من الأجدر تسمية مكان الصدقة الجارية باسم الحاج أحمد، أما المحطة وكل ما يحيط بها باسم والدها الحاج محمد.

ترعرع مشروع نهال وفتحت بيوتا كثيرة يسترزق أهلها الرزق الحلال، وفي يوم دخلت بيتها ووجدت كل أفراد عائلتها يتبعونها بملء العيون تشع منها السعادة وتغشى وجوهم البهجة والسرور، وبادرتها أمها بأنه قد حان وقت تغيير ملابس والدها، وتعد نفسها لانطلاقة جديدة، طاوعت نهال أمها بضرورة تغيير ملابسها لأنها اهترأت لكنها ستبقى على نفس النمط والأسلوب والفكر الذي زرعه فيها والدها، دعت والدتها وتمنت أن يصلح كل الآباء من أحوالهم من أجل صلاح أبنائهم، وأن يعلم الأبناء كلهم مقدار تضحيات آبائهم ويقدروها حق قدرها، وبقيت نهال تنتظر أن يكشفوا عن سر سعادتهم الغامرة، أخبرتها والدتها أنه أتى أناس يطلبون يدها، وترجتها أن لا ترفض هذه المرة، فهي تريد أن ترى أحفادها، إنه رجل كما تحبه وتتمناه أي فتاة، يهتم بأهله وبكل من حوله، ويتمتع بكل المواصفات الجيدة وحسن الأخلاق والتربية الأصيلة، فكانت همزة الوصل بينهما والاستمرارية هو العمل من أجل الآخر بعيدا عن الأنانية وحب الذات، فهناك الكثير على قارعة الطريق محتاجين أن يأخذ أحد بيدهم إلى البدايات الصحيحة ونقطة الانطلاق بدون أخطاء في حقهم أو في حق الآخرين، والنظر إلى الحياة بنظرة أحادية لا معنى لها في الوجود، فكل شيء له عدة زوايا وأبعاد، وتخطي الحواجز مهما كانت العقبات، لكل شيء نهاية مهما كان نوعها، لقد تيقنت نهال أنه لابد أن يغير الناس ما بأنفسهم بنفسهم أذا أرادوا تغيير مستقبلهم، وأن يجعلوا بإيجابيتهم للحياة طعما يميزهم، فكثيرة هي الأحزان التي تعكر الحياة رغما عن البشر، وما عليهم سوى أن يسعوا لتلوين أيامهم بألوان مضيئة، فالتعلق بأشياء جميلة تستحق فعلا المجازفة، إنه العناد مع الحياة، وآلامنا تمنحنا قدرة الاستمرار على الحياة.

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

     

في صدع الليل

أعلّق قلبي بين النجوم

أراقب الريح تسري خلسةً

على وجوه الشوارع المهجورة

كلصٍ، يسرق همسات الفجر،

يترك خلفه آثاراً من الحنين،

ويبقى الليل شاهداً على سرقته.

***

من بعيد،

يتنفس الغيمُ أحماله،

وأنا بينهما

أحاول أن أستعيد نفسي

من حطام السنين.

*

ما زالت المدينة تغني للصمت،

تخفي جراحها بين أضلعها،

تستعيد ذكرى

كلما لامسها الغروب.

*

وحيدة في دروبنا،

كم مرةٍ عبرنا ذات الجسر

ومشينا ذات الطريق

دون أن نلمس الماء؟

دون أن نجرح التراب

هل يكفي أن نحتضن الفجر

لننسى سواد الليالي؟

أم أن الظلال تحب الليل

كما تحب الزهور الندى؟

*

وجهك،

مثل لوحة لم تُكتمل بعد،

يلامس ضوء الفجر

في انتظار لحظة تجلًّ

ليكتب الحلم.

*

عندما تهب العواصف،

يرقص السكون.

وأنا،

أبحث عن صوتكِ

في زحمة الصمت،

أحمل غبار الأيام

وأرميه في مهب الريح.

*

كم مرةٍ نادتنا الأرض

ونحن ما زلنا نسير

دون أن نلتفت؟

أيا تلك العيون التي تختبئ في الضباب،

استريحي،

فالمساء لن يأتي اليوم

ولا غداً.

***

جاسم الخالدي

لم أكن أتوقع أن يأتي اليوم الذي أتحدث فيه عنك ...

أو أكتبك في مساحة سطري الذي ازدحم بكل شيء إلا منك ...

 تساؤلات كثيرة تتكاثر في داخلي.. كيف أكتب عن شيء لم أعرفه يوماً؟، ولم يعرفني يوماً؟

بقيت لوقت طويل في زاوية قلمي رغم إنك كنت تطوف في مداراتي، وكنت كلما يجرفك المد نحوي تشيح بوجهك؛ وأباغتك باعتذاري قبل أن تبادر بعذرك...

أنت الذي كنت تختار روادك، ولم أكن يوماً أنا منهم، وأنت الذي كنت تجالس حضورك، وكنت أنا الغياب الطويل في كل مرة ...

أنت الذي لم تنتظرني يوماً، ولم تفتش عني على جانبي الطريق الممتد من حدودي وحدودك، وأنت الذي لم تنظر إلي كأن وجودي وهمي في حضرة كل الوجوة المكتملة...

ما لا أفهمه لماذا يصطدم حرفي بك عند منصة الورق، ثم يتلاشى ظلك خلف ضبابية الوجوه؟، ولماذا بعد كل هذا أرى انعكاس ضوئك على مرايا صوتي كالحلم، ثم تعيدني إلى مقولة إنه أضغاث أحلام...

هل تتصور إننا أنا وأنت ما نحن إلا تقاطعات طرق في كل شيء لم يجمعنا سوى لون حرف على صفيح سطر، والغرباء على طاولة حوار وجوار ...

أعلم إنك حين لمحتني في ذات مساء انقبض قلمك واكفهرت ملامحك كمن أراد أن يلقي بشذر من مداد لغة، وأعلم إنك تحيد بأبجديتك حتى لا تلتقي بجغرافية نبضي...

ما أعجز عن تفسيره هو من الذي أخبرك إنني أرقب مرورك عبر فصل البكاء، ومن بين زحام اللغة.

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان..

كان الوقت منتصف الليل، وقدْ خيّمَ السكونُ على القرية وأخذت الأنوار المنبعثة من كوى البيوت تنطفئ تدريجيا، إشارة إلى بدء وقت النوم إلا كوّة واحدة ظلّت ساهرة، يتسرّب عبرها ضياء ضعيف من مصباح نفطي ليلتقي بالضياء المنبعث من نجوم لا حصر لها، كانت تتألق في تلك الساعة على صفحة السماء الصافية.

لمْ يشعرْ الشاعر بحاجة إلى النوم، فقد كانت عيناه تتطلّعان إلى شعاع المصباح الصغير. أمّا أفكاره فقد كانت تطوف في عوالم بعيدة بُعْد َ تلك النجوم، التي توشك أن لا تدركها الأبصار لبعدها السحيق، وأحسّ على حين غفلة بصفاء جميل يغمر كيانه، وانبعث في أعماقه شعور قويّ بأنّهُ قد تحرّرّ نهائيا ً من الجسد، وبأنّ روحه اتخذت شكل طائر غريب له القدرة على اختراق المسافات والأزمنة بسرعة فائقة كلمح بالبصر.

وانطلقت روحه كالبرق تعبر بوّابات الأزمنة واحدا واحدا حتّى حلّقت أخيرا في سماء الزمان الأول. وعلى حين غرَة انبعثت فيها الأشواق البدائية الصافية في مراحل الخلق الأولى وغابت في جمال الإطلالة ألأولى للأشياء. فالأرض ما تزال في فرحها الطفولي تعيش بهجة الخلق الجديد، والكائنات الحيّة قد اتخذت مواقعها، التي أعدّها لها الخالق في خارطة الخلق: الطيور في الفضاء، الحيتان والأسماك في البحار، والوحوش الكاسرة في الغابات وهكذا دواليك.

حلّق الشاعر فوق السهول والوديان والمياه. كان كلّ شئ يجري مثلما أراد له الخالق، واستمرّ في التحليق بموازاة الأرض حتّى أبصر على مسافة غير بعيدة شبحين ضخمين، توقّف عن التحليق وهبط إلى الأرض ليستقرّ على ربوةٍ صغيرة وأخذ يراقب الشبحين، وفي هذه الأثناء سمع تغريداً جميلاً ينبعث من فوقه، رفع رأسه فلمح طائرين جميلين. كان الطائران يحركان أجنحتهما في إيقاع جميل ويطلقان أصواتا ً جميلة احتفاء ً بإطلالة اليوم الجديد. امتلأ قلبه بفرح ٍ صاف ٍ وأخذت بلبّهِ روعةُ المشهد، حتّى أنّهُ نسي كلّ شئ من حوله ِ وانتقلَ بأحاسيسهِ إلى دنيا من الالوانِ والأضواءِ تنبعث من أعماقها نغماتٌ تحملُ دفءَ وانسيابيّة الحياة البدائية وغاب في سحر تلك الدنيا واستغرقَ في متعها الجمالية، لكنّهُ سرعانَ ما انتزعهُ صراخٌ مروّعٌ من تلك الدنيا، وعاد ليجد نفسه فوق الربوة، وصوّب بصره في اتجاه مصدر الصراخ، فلمحَ أحد الشبحين ممدّدا ً على الأرض يلفظُ أنفاسه الاخيرة. أمّا الشبح الثاني فقد وقف عند رأس ضحيته يتأملها حتّى سكنَ فيها الحراكُ نهائيا. بعدها استدار ناحية الشرقِ وانصرف.

اقترب الشاعر من القتيل، تفرّس في وجههِ وفي أعضاءِ جسمه، فعرف فيه ذلك الإنسان، الذي تحدّثتْ عنه الكتب القديمة: هابيل الذي قتله أخوهُ قابيل حسدا ً.

في تلك اللحظة انطفأ سحر الوجود في نفسه وتحوّل العالم في مخيّلته إلى خرائب تعصف فيها رياح سوداء مجنونة.  فقرر أن يغادر عالم الزمان الأول وعالم الجريمة الأولى، وهكذا عبر بوّابة الزمن الأول إلى الزمن الثاني. كان العالم في الزمان الثاني ما يزال جميلا لم يفقد من جدّته الكثير. تنقّل الشاعر من مكان إلى آخر يمتّع نظره بجمال الطبيعة الخلاّب، حتّى وجد نفسه أخيرا على سفح جبل، تلفّت حوله فأبصر عددا ً من الرجال، يحملون في أيديهم رماحا، يطاردون رجلا وامرأة. كان الرجل وزوجته يلتقطان الحجارة الصغيرة ويقذفان بها الرجال المهاجمين، وهكذا تمكّنا من مشاغلتهم بعض الوقت، حتّى خارت قواهما وهما على مقربة من كهفهما، فاضطرّا للإستسلام.

أمّا الرجل فقد ربطت يداه ورجلاه بحبال الجنّب بعد أن طرح ارضا. ثمّ أنهال عليه الرجال بالرماح طعنا وهو يصرخ ويستغيث إلى ان خمدت أنفاسه. أمّا زوجته فقد كانت تحاول أنْ تخلّص نفسها من أيدي الرجال، الذين امسكوا بها بقوّة. لكن من أين لها أن تنقذ نفسها من أيدي الكثرة المسلّحة وهي المرأة الضعيفة العزلاء من السلاح. وبسرعة فائقة تمّ الفصل الاول من الجريمة، ليبتدأ الفصل الثاني منها. كانت المرأة قد طرحت أرضا في الحال وهي تطلق صرخات حادّة، رددتها جنبات الجبل. كان الرجال يهمّون باغتصابها. إلا أنّها كانت تدفعهم عنها بيديها ورجليها، حتّى خانتها قواها فلم تعد قادرة على المقاومة. وهكذا اغتصب شرف الإنسان بعدما اغتصبت حياته. ذهل الشاعر لفظاعة ما رآه وقال في نفسه:

إنّ الزمن الثاني أسوأ بكثير من الزمن الأول. وجاءه الصوت من داخله:

لم ترَ بعد أيّ شئ. ما زلت في الأزمنة السعيدة. انّ هناك ما هو أسوأ بكثير.

وانطلقت روح الشاعر تعبر بوّابات الأزمنة على غير اتّفاق، حتّى وجدت نفسها في زمان لا يبعد كثيرا عن الزمن الحالي، تلفتت حولها، كان العالم قد تغيّر كثيرا. فقد خرج الناس من الكهوف وانطلقوا جماعات في مشارق الأرض ومغاربها، نقلوا الحجارة من الجبال، كسروها وشيّدوا منها القصور والقلاع الضخمة، فنشأت بذلك المدن وحكوماتها.

طاف الشاعر بمدن عديدة، فاسترعى انتباهه التفاوت الكبير القائم بينها. فمن مدنٍ غنيّة حدّ الفحش إلى أخرى فقيرة حدّ الإقداع، ومن مدن أسكرها الجبروت إلى أخرى أذلّها الضعف.

وقال الشاعر في نفسه:

نفس التقسيم الأزلي للعالم، نفس المعاناة ما زالت قائمة. وحلّقت روحه بعيدا، حتّى حطّت في آخر المطاف على أحد الأسوار المهدّمة، نظرت أمامها فانتابها الرعب من هول ما رأت: اجساد بشريّة تركت في العراء طعما لوحوش البرّ والطيور الجارحة، بيوت هجرها أهلها وسكن فيها الصمت، وحدّث الشاعر نفسه مرّة أخرى:

يا لها من مدينة بائسة، لم يترك فيها الجبروت أثرا للحياة. إنّها صورة عن حقيقة عالم المدن، الذي يسكنه هوس الحرب، فلأترك هذا العالم الى عالم القرى، ربما يكون الأمر مختلفا تماما هناك.

وفي غمضة عين وجد نفسه في سهل فسيح، ورمى ببصره محدّقا في المدى البعيد، فلاحت له على البعد مجموعة أشباح، لم يستطعْ أن يتبيّنها، فرأى أن يختفي في مكان غير بعيد عن طريق مرورها، ليتسنى له مراقبتها عن كثب. اقتربت الخطوات حتّى اصبحت على مسافة جدّ قريبة منه. رفع رأسه يختلس النظر فوقع بصره على أربعة رجال.. ثلاثة منهم يمتازون بمتانة البنية، أمّا الرابع فقد كان بيّن الهزال، فقرّر أن يتابعهم ليعرف ما هي قصتهم، وظلّ يقتفي آثارهم ساعات طوالا، وهم يجرون من مكان الى آخر ابتغاء صيد يظفرون به، إلّا أنّ كلّ محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح. وفي طريق عودتهم قرّر الثلاثة الأقوياء أن يقتلوا رفيقهم الرابع الضعيف ويتقاسموا لحمه فيما بينهم. أحاط الثلاثة بصاحبهم من كلّ جانب وسدّوا عليه منافذ الهرب، ثمّ جرّوه بشدّة إلى شجرة ضخمة، وربطوه إلى جذعها. كان المسكين يتوسل إليهم ان يتركوه، إلا أن مسامعهم كانت مغلقة في تلك اللحظة، التي استيقظت فيها الوحوش النائمة في أعماقهم مدفوعة بحمّى الإفتراس، فغرسوا حرابهم في جسده النحيل، واحسّ الشاعر وكأنّ تلك الحراب كانت تنغرس في جسده هو.

في هذه الأثناء مزّق السكون صراخ مروّع، انطلق من أحد البيوت في القريّة، والذي حمله النسيم من بيت إلى آخر، حتّى أوصله اخيرا إلى بيت الشاعر، الذي كان غارقا في تأملاته البعيدة. انتبه مذعوراً لدى سماعه الصراخ وقال في نفسه:

ماذا من جديد؟ أيتها السماء

***

جميل حسين الساعدي

بَلانا الدَّهْرُ في قَوْمٍ حُثَالَةْ

أَراهُمْ مُدْمِنُونَ عَلَى السَّفالَةْ

*

أَلا كُفُّوا عَنِ التَّهْويشِ حالاً

فَرَكْبُ الحَقِّ ماضٍ لا مَحالَةْ

*

سَيَأْخُذُ بِالنَّواصِي دونَ بُطْءٍ

فَلا خَوَرٌ هُناكَ ولا إطالَةْ

*

وَمَنْ أَفْعالُهُ كانَتْ صِحاحاً

مُحَالٌ أنْ يَخافَ مِنَ العَدالَةْ

*

فَأَخْذُ الحَقِّ لا يَعْني انْتِقامًا

وَلكِنْ لِلْحَياةِ هُوَ الكَفالَةْ

*

كَفاكُمْ تَنْدُبُونَ فُلُولَ جَيْشٍ

عَقيدَتُهُ الجَرائِمُ وَالضَّلالَةْ

*

لَقَدْ خانَ الأَمانَةَ دونَ رَيْبٍ

وَنَحْو الشَّعْبِ ما أَدَّى الرِّسالَةْ

*

لَقَدْ تَرَكَ الثُّغُورَ إِلى الأَعادي

بِقَتْلِ الشَّعْبِ قَدْ أَبْدى بَسالَةْ

*

وَفي هَدْمِ البُيُوتِ غَدا خَبِيرًا

وَجَمْعُ العَفْشِ باتَ لَهُ وَكَالَةْ

*

وَصارَ مُكَلَّفاً يَحْمِي وَضِيعاً

لَهُ رَسَمُوا مِنَ الأَقْداسِ هَالَةْ

*

كأنَّ أُصولَهُ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ

وَقَدْ خافُوا عَلى تِلْكَ السُّلالَةْ

*

فَسَخَّرَهُمْ لِخِدْمَتِهِ عَبيدًا

طَعامُهُمُ الشَّعيرُ أَوِ النُّخَالَةْ

*

بِرَغْمِ فَسادِهِ أَضْحى جَلِيًّا

لَقَدْ هامُوا بِهِ حَتَّى الثُّمالَةْ

*

لأَجْلِ حِذاءِهِ راحُوا فِداءً

وَقَدْ ماتُوا مُقابِلَ بُرْتُقالَةْ

*

وعاثُوا فِي البِلادِ وَدَمَّرُوها

فَكافَأَهُمْ وَأَعْطاهُمْ جَعَالَةْ

*

قلاعُ الظُّلمِ إنْ مَكَثتْ طَويلاً

فَفي يومٍ يَتِمُ لها إِزالَةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أَمْوُاجٌ فِينِيقِيَّة ٌ

تَلِدُ رَذَاذاً..

يَنْهَالُ زَهْرُ اللَّوْزِ

عَلَى عُنقِ اللَّيْلِ

**

الفَرَاشَاتُ عَشِقَتْ قَمَراً

صَرْخَةٌ حُلُمٌ

تَوَرَّدَ في نَبْضِي

**

نَسِيمٌ ثَمِلٌ

يُشْعِلُ الرَّمَادَ

زِلْزَالٌ يَخْتَالُ بِوَقْتِي

رِيحٌ تغزلُ شِرْيَانِي قِيثَارَةً

**

اِسْتَوْقَفَنِي لَحْظُكَ

اِغْتَالَنِي وَمْضُكَ

يـاااااااغَيثاً يَرِقُّ لهُ الصَّخْرُ

أَعْشَقُكَ حُراً

اِنْهَمِرْ وَطَنَاً

**

مَا بَيْنَ شَغَافِي وَالحَنِينِ

بَيْنَ القَطْرَةِ والقَطْرَةِ

رَفْرِفْ مُسْتَحِيلاً

***

سلوى فرح - كندا

 

من قبضة

كفي اليمنى

ساصنع برتقالة

لطفلة جائعة

على رصيف

الازمات ومن

نبضات قلبي

ساصنع نجوما

لتضيء بها

اروقة شراينها

المرهقة

2 -

احيانا الوقت

يمسي مراة لقلبك

واحينا اخرى

سياجا من الاسمنت

المسلح حول حقل

امالك احلامك

ورؤاك واحينا اخرى

جسرا جسرا

بين النهر الذي

يجري في عروقك

وبين بحر الرغبات

المضيئة والامنيات

3 -

قرب سياج

حقل الامنيات

التقيت بغزالة

مضيئة العينين

فاعطيتها قنديلا

كرستاليا وشمعة

واعطتني نظرة حرى

من عينيها

اللوزيتين .

***

سالم الياس مدالو

شاءت الظروف أن تلتقيه أثناء وجودها على الرصيف البحري تنتظر بشغف كبير مرور سيارة أجرة تقلها سريعا إلى الجامعة، كانت على عجلة لتسليم بحثها لنيل شهادة الدكتوراه.

"نيهال " وحيدة والديها، أمها إنسانة هادئة الطباع، طيبة القلب، محافظة، من عائلة أصيلة ووالدها صاحب مصنع الشكولاتة، سمى مصنعه باسم وحيدته من فرط حبه لها، هي قرة عينه، رباها تربية صحيحة، وشارك أمها في توعيتها بالتقاليد والأصول تمضي في الحياة دون متاعب أو اعوجاج، فشبت تتحلى بالأخلاق النبيلة، وتميزت بالعفوية والخجل.

عرفت "نيهال "بين زميلاتها بالبساطة والتواضع وبالقيم العالية، لم يغرها أنه لديها الشيء الكبير والكثير ذات القيمة الغالية تعلم أن والديها أرادا أن يوفرا لها بجهدهما كل ما يحقق لها المتعة الكاملة في الحياة . توقف التاكسي أمامها فاستقلته سريعا، كان الطريق مزدحما وحركة المرور بطيئة، عيناها لا تغادر ساعة يدها قلقا رن هاتفها وكان والدها يطمئن عليها، أخبرته أنها عالقة في الطريق المزدحم، لامها والدها لأنها لم تستقل سيارتها في وقت مبكر أو تتصل به فيرسل لها السائق من الشركة، أخبرته بلطف أن عليها كما تعلمت منه أن تباشر حياتها معتمدة على نفسها وجهدها لتشعر بقيمة نفسها، في الأثناء كان سائق التاكسي يسترق السمع تدخل بأدب جم في الحوار ليطمئنها أنه سيوصلها حيث تريد في الوقت المناسب، بدا السائق كمن يريد أن يرسم لنفسه طريقا إليها وعلى حسابها، كان شابا وسيما، أنيقا يعشق الحياة السهلة ويريدها تأتيه دون جهد منه على صينية من الذهب، ودفعه ذلك إلى أن يبدي اهتمامه بها دون تردد عبر حوار فضولي بخصوص حياتها الشخصية، بدت له عفوية فجعلها ترتاح إليه وكانت عيونه الزرقاء تسحبها وتجذبها إليه شيئا فشيئا حتى أوصلها إلى باب الجامعة، ولم ينس أن يعطيها رقم هاتفه ويخبرها أنه في خدمتها دائما ليأخذها أينما أرادت، شكرته، غادرت وشعور غريب قد اعتراها سرعان ما ترعرع في زاوية من قلبها، شعور تعيشه لأول مرة رغم أنها ليست المرأة التي يذوب في حسنها الشباب، أغلب صديقاتها تزوجن وأنجبن، أما هي فبقى كل همها نيل أعلى الشهادات الجامعية وكأنه الهروب من واقع يضطرها أن تصنع من نفسها الأنثى القوية بعلمها على الأقل في نظر نفسها وأهلها، هي تعلم أن معظم الشباب يبحثون عن الجميلات الرشيقات وهي للأسف لا تملك هذه الصفات ولا تتمتع بتلك المؤهلات وليس لها سوى صفة المرأة الأنثى المؤمنة بأن الحياة لا تعطي كل شيء، مؤمنة بالنصيب وبما قسمه الله تعالى لها، ولكن كان شيئا ما بداخلها يمنعها ويصد اندفاعها نحو آدم طيلة سنوات، ربما كان خوفها من غدر عابر أو هجران درامي عن قصد أو ربما خوفا من ما قد تحمله مأدبة الغيب من أطباق تجمع بين أوراق الحب وأشواكه، لقد تعوّدت على حياتها البسيطة الخالية من التجديد، أيامها الصورة طبق الأصل من شهورها، تصحو على ما تنام عليه وتمسي على ما تصبح، عاشت في روتين يومي إلى أن بدأ القدر يصب عليها بضعا من قطراته الزهرية وكل يوم يمر يزيد في نفسها إعجابا بسائق التاكسي الذي كانت تلجأ إليه كثيرا ليوصلها حيث تريد لقد استطاع أن يجد لنفسه طريقا إلى قلبها، أخبرها أنه كان في البداية ينوي في صغره السفر للعمل في الخارج، لكن لم يكن هناك من يعتني بأمه ويرعي شؤون أخواته البنات، وكان هذا هو السبب وراء تركه مقاعد الدراسة في سن مبكرة واللجوء للعمل على سيارة الأجرة التي ورثها عن أبيه، كان الأمر صعبا فقد كان الحمل ثقيلا عليه أن يقوم بتجهيز اخواته وتزويجهن، وهو ما حرمه من فرصة أن ينتبه لحياته، سألته بكل خجل عن ما إذا كان فكر في الارتباط، ابتسم " مالك " وأكد لها أنه الآن يفكر حقيقة حيث أنه يشعر فعلا أنه وجد نصفه الآخر، في هذه المرة شعرت نيهال أن قدرها يأخذها إلى موطن لم تكن لتقصده غير أن القدر كان أقوى، وتمنت في نفسها أن يكون هذا اللقاء وثبة جديدة نحو حياة ربما تكون الأفضل لها، ظلت روحه تلازمها وتستحضرها في كل وقت، لقد أحبت في ملامحه صور العزة والكبرياء، رأته منحوتة ربانية في أحسن تقويم، وجميل الخلق .

عاشت نيهال متعة اللحظة التي تمنتها طويلا عندما استسمحها أن يتقدم لها، كانا يشعران بأنهما قد تعرفا جيدا على بعضهما بما يكفي، حدقت نيهال فيه تتأمله في خجل ووجدت نفسها انتقلت إلى عالم آخر ألوانه زاهية، معالمه واضحة وخطوطه مستقيمة، غلبها حياؤها أكثر ونطقت بصعوبة أن عليها أن تصارح أهلها أولا، غادرته سريعا قبل أن تكشفها الفرحة التي لم تسعها، لم تستطع إخفاء مساحة ابتسامتها العريضة أو احتواء محيط سرورها، أحست بنفسها أميرة في عرشه، تتقرب منه ويتقرب منها، تعجب به ويشتاق إليها، تحن لقربه ويحن لرفقتها، ألفته وألفت حنانه وعطفه، لقد سكن بدفء مشاعره في معاقل اهتماماتها، أحبت سحر عينيه، أغرمت به وهي تراه فارس الأحلام، أخذت ترسم أحلامها معه على أوسع مدى.

دخلت منزلها على غير العادة مبكرة، واستغلت أول فرصة لقاء مشترك حتى صارحت والديها بالأمر، كانت مفاجأة أن يسمعا منها ذلك بعد أن كانت ترفض كل من يتقدم لخطبتها، سألها والدها عنه وعن عائلته، فأخبرته بحقيقة ما كانت تعرفه عنه وعن مستواه الدراسي، تراجع الأب عن امتعاضه بالأمر ثم تنازل عندما لاحظ في عيني ابنته خلال حديثها عن الشاب الكثير من الحب والإعجاب لم يرهما من قبل، تبادل مع أمها نظرة اتفاق، لم يشاءا تحطيم فرحتها وإفساد سعادتها.

صارح مالك والدته بما كان، وأدركت أنه يكون قد وجد أخيرا الفتاة التي طالما بحث عنها، وتمنت أن تكون هي من ترحمها من مواصلة مهمة البحث الشاقة عن عروس بمواصفاته، تأملته وهو في غمرة فرحه وبوحه عن معني القسمة والنصيب الذي لا يعترف بشروط قسرية أو مواصفات معينة، وكيف أن المرأة الصارخة الجمال تجلب كثرة المشاكل بجمالها، الغيرة، الإسراف في الإنفاق على طلباتها وكثرة مصاريفها ..لقد رفضته الجميلات الثريات، والجميلات الفقيرات يشعرنه بالنقص والتعاسة، أما ذات الجمال العادي فقد تكون ربة بيت ممتازة وزوجة صالحة تعينه على هموم الحياة، حينها اختلط الأمر على الأم وهي ترى كيف يغير الله تعالى الأحوال فلقد كان مقياس الجمال من قبل أحد أهم أولوياته، حسنا لقد تأكدت الأم أن وليدها يكون أجاد اختيار من ستكون شريكة حياته، واطمأنت عندما علمت أن من اختارها قلبه ابنة عائلة محترمة وغنية وأنها وحيدة والديها. في المساء تذكرت الأم ما كان من قول وليدها أن الجانب المشرق في مستقبل حياته هو عند اختياره وتفضيله الثراء على الجمال، فالثراء يجلب كل الأشياء الجميلة، تذكرت أيضا عندما هزت رأسها وهي تستدرك قوله بأن المرأة والزوجة الصالحة جميلة في روحها وفي اعتنائها بزوجها وطيب عشرتها وصلاح أمرها وإجادة تدبيرها وحسن تربية أبنائها، ليس مهما الجاه والمال والشهرة، المهم أن يرضى كل طرف بنصيبه وبمن يشاركه حياته على الحلوة والمرة، ولا يطمع فيما ليس له، ومن يرضى بقليله عاش وطابت معيشته، إن الحسن والجمال يزولان بمرور الوقت وليس هناك ما هو أسرع من الوقت، ومن يرضى بالنصيب يرتاح مع الحبيب .

علم والد نيهال أن الشاب مالك من عائلة محترمة ولا تشوبها شائبة، فارتاح ووافق على مقابلتهم، فكان اللقاء وتم الاتفاق على مراسم العرس، لم يثقل والد نيهال على الشاب بالتكاليف وقد امتنت والدة مالك لموقفه، وفي طريق العودة أوصت ابنها بصيانة الأمانة فالله أكرمه بهم، إنهم عائلة تستحق كل الاحترام والتقدير ولا يجوز استغلال طيبتهم والتلاعب بهم .

تمت مراسم الزواج وانتقل العروسان للعيش في أرقى أحياء المدينة/ واستلم مالك منصب عمل محترم في شركة والد زوجته، فتغيرت حياته سريعا للأفضل، وبعد سفر ممتع عاد العروسان لتباشر نيهال عملها بالجامعة، وهناك التقت زميلاتها بعد فراق طويل واخبرتها أنه تزوجت حديثا، تعجبت زميلاتها من أمرها حيث لم تلاحظ عليها ما يبدي جمال وفرحة المرأة بعد الزواج، بادرتها نيهال بعفويتها الممزوجة بالتفاخر أن زوجها لا يحب كثرة المساحيق والمبالغة في الزينة ويفضل البساطة، لم تقتنع زميلتها بالكلام وابتسمت ابتسامة خفيفة تحمل معاني خبيثة، لقد وثقت نيهال في صدق مشاعر زوجها وكان بالنسبة لها مثالا.

شعرت نيهال ذات يوم بوعكة استدعت أن يرافقها زوجها إلى الطبيبة، وعنده علمت أنها حامل، انفجرت فرحتها من فرط سعادتها التي لا توصف، ولكن لم تر نفس الفرحة في عيون زوجها، شكّت أن يكون هناك ما يزعجه فكان رده الصادم أنه لم يعد نفسه بعد ليكون أبا، كان يأمل أن يتمتعا ببعضهما ويستمتعا بحياتهما زمنا أطول، طمأنته بكل الود أن لا شيء سيتغير فظروفهما جيدة ولا تستدعي عناء كل هذا التفكير .

مرت الأيام، وعادت نيهال مجددا إلى الطبيبة تشكو من انتفاخ غريب في ثديها، نصحتها الطبيبة أن تؤجل الفحوص إلى ما بعد الولادة حيث لم يبق أمامها سوى بضعة أيام فقط، كان أمر الانتفاخ الغريب محل قلق أهلها ولكن لم يكن كذلك بالنسبة لزوجها، لم ينزعج ولم يهتم كثيرا للأمر، التمست نيهال له العذر فقد يكون ضغط العمل وكثرة أسفاره وراء هذا التغير . أنجبت نيهال ولدا وكان شديد الشبه بأبيه، وسعدت وأهلها بالمولد كثيرا، وبقدر هذه السعادة كانت صدمتها بعد اطلاعها على نتائج الفحوص العاجلة التي أجرتها دون تأخير، إنها مصابة بسرطان الثدي ولا بد من استئصاله، لم تستطع إرضاع صغيرها، ولم تتمكن من البقاء بجواره طيلة فترة الفحوص المرهقة والعلاج الطويل التي قضتها معزولة بالمستشفى حيث بقت وحيدة، تعاني مواجهة اجتياح طوفان صقيع ملون بالخداع المفروش بخيوط العنكبوت وزيف المشاعر الرمادية، لم يزورها زوجها مرة واحدة منذ علم أنها معرضة لاستئصال ثديها، وبئس ما تعلل بكثرة الأعمال برغم أن والدها كان يخبره أن ابنته بحاجة إلى وجوده بجوارها وقريبا منها، تفطن والد نيهال لخبث ونفاق مالك بعدما أبان عن طمعه أن يتكفل والد زوجته بفضل علاقاته الواسعة بمعالجتها، فقرر أن يخصص من يراقب تصرفاته وحركاته داخل وخارج المصنع.

لم يدم الأمر طويلا حتى أحست نيهال في لحظة انفراد بفكرها أن انقطاع زوجها عن زيارتها قد قتل فيها براءة مشاعرها الغضة المتخمة بالحياء، وقضى على رومانسية روحها العذراء، واغتال العفوية الراقدة بين خلجات أحاسيسها وذبح البشائر الراقصة الني كان يعدها بها، هل يستلذ بمرارة مرضها؟ هل يرضيه الحزن الساكن بعينيها المتعبتين؟ أكاذيب سوداء عاشتها معه، شعرت أن نواياه كانت عارية من نبل الحقيقة الصادقة، وإن المشرط البارد الصدئ استأصل حبها قبل ثديها، أقبل عليها والدها يتأمل نظراتها المنطلقة من فجوات العيون الغارقة في اليأس، وجسمها كيف صار ضعيفا ، وهيكلا هزيلا ملثما بالأكفان الصفراء والندم المخضب بعطن الموت، استمر علاجها طويلا حتى نجت من المرض فتكا ومن الموت قهرا على ما كان، وبقي لها والدها سندها الذي سخّر من أجلها كل علاقاته ليضمن لها السفر لمواصلة العلاج بالخارج، وعمد قبل ذلك من تجريد زوجها من كل صلاحياته ومسؤولياته المالية بالمصنع، ولكن مالك كان كل ما يهمه أنه مازال يتمتع بالرفاهية التي يقدسها على كل شيء آخر.

قضت نيهال فترة علاج تكميلي وأيام نقاهة ناجحة، ووجدت بعد عودتها ابنها " سرور" قد كبر ولم يكن قد رآها من قبل بما يكفي كي يتذكرها، أوصت والديها أن لا يخبرا زوجها بعودتها فقد قررت أن تذهب إلى بيتها تتفقده، فتحت لها باب البيت شابة شقراء جميلة في العشرين من عمرها، وجدتها حامل، سألتها من تكون، فأخبرتها أنها زوجة مالك ! وبدورها سألتها الشابة الشقراء: وأنت، من تكونين ؟ فأخبرتها أنها جاءت تسأل عن صديقة لها اسمها نيهال تسكن في هذا المنزل، وافقتها الشابة الشقراء بإيماءة خفيفة برأسها وأضافت إنها ماتت.. ومالك هو صاحب هذا البيت. كان كابوسا ثقيلا يكتم أنفاس نيهال ويخنقها، وهكذا تحجرت الآمال المرجوة على خشبة المستحيل وشعرت بنفسها مسكينة تنظر إلى جثتها التي قتلت بطيبة قلبها وحسن نيتها وبفعل الأكاذيب وبظلم من صدّقت أنه أفضل زوج وبأنه كان جائزة الدنيا الكبرى لها، لم يعد حبها كما كان، أصبح كغريب دخل مدينة في وقت متأخر من الحياة، لقد اغتال أحلامها وعيشها وحبها له والآن يسلبها رغبتها في الحياة، لكنها قررت أن تستحضر القدرة والثقة بنفسها التي أودعها والدها فيها منذ صغرها، عزمت أن لا تستسلم أمام احتضار أحلامها، يكفيها وجود والديها بجانبها وابنها سرور الذي تنتظرها معه حياة طويلة، لن تستسلم لدموعها الصامتة ولا لسواد كوابيسها، ستمضي في الحياة من أجل كل من أحبوها.

عادت إلى بيت والديها وأخبرتهم بما كان، وكان أبوها على علم مسبق بأمره منذ الأيام الأولى من مرضها بل وأخبرها أنه كان يحاول كثيرا معه كي يكتب البيت باسمه، ولكنه أرجأ الموضوع لحين تمام شفائها وعودتها سالمة، فبيدها وحدها اتخاذ القرار، وقررت نيهال بيع البيت والسيارة التي في حوزته، واللجوء للقضاء لطلب الطلاق أو الخلع، لم تعد تريده في حياتها، وابنها سيبقى في رعايتها، قام والدها على الفور بكل الاجراءات اللازمة دون أن يلجأ إليه، ثم قرر الاستغناء عن خدماته بالمصنع، وفي قمة صدمته وجد نفسه في لحظة بدون عمل ولا بيت ولا أسرة، لجأ إلى بيت أمه الذي رفض يوما أن يسكنه، إنه الآن يعود إلى الصفر، أما هي فقد أصبحت أكثر وعيا ونضوجا وإشراقا، امرأة صامدة تضع الكحل بعينيها وأحمر الشفاه القاني، وتمشط شعرها المسدول لتداعبه نسائم الصباح وتتعطر بأفضل العطور، تنسى ما مرت به من غدر وخيانة وترمي خلفها تراكمات الكآبة والبؤس، تصم أذنيها عن أكاذيب وافتراءات البشر، تدفع أحزانها إلى ركن قديم منسي، تتحداه بنظراتها الواثقة وهو يتبعها بسيارته الأجرة القديمة، يرجوها أن تعود إلى حياة سبق أن رماها بعرض الحائط، إنها تتحداه بثقتها في نفسها وقوة شخصيتها، إنها الآن الدكتورة المنتصرة على خشبة الحياة، تغني مع الطيور وترقص على إيقاع الأمطار، مودعة الماضي، متأنقة للقادم، تواصل حياتها بنفس جديدة وبإنسانية ستبقى دوما جميلة في القلب والروح .

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

إلهي

أأصدقُ أخبارَهم

أنهم أخضعوكَ

لغسلِ دماغِ!

فنسيتَ المائدةَ

وضيعتَ البقرةَ

وقيل فتحوا لكَ

حساباتِ بنوك

فرزقتهم

وأشعلتَ لنا

نارًا موقدة

ونسيتَ مئة وخمسين مليون جائعٍ

وضحايا الحروب

والمشردين

وألغيت المغفرة

أغرقت أطفالًا في النهرِ والبحرِ

طلبوا الفرح،

وأبقيت على الخضراء والبيضاء

والسائرين في الشوارع

أبناء العاهرة

إلهي

تركت كارتلات الذهب

ولاحقتني

على كأسٍ

أُسْكِرُ فيه ملائكتك

فقد أثقلوا كتفي

وملأوا كبدي قيحًا

وأسكنوا روحي

امرأةً حائرةً

إلهي

أأصدقُ الأخبارَ

أنهم دفعوا لك

ومنحوكَ دبابةً

لقتلي في الآخرة

إلهي

العدلُ حياةٌ

وليس قبورٌ في الحياة والآخرة

إلهي

وما زلتُ في النورِ قبلَ الظلام

وفي الفرحِ قبل الحزن

أحبك

وسأحرقُ بعد الموتِ روحي

كي لا تتعبَ

وتوقِد من حطبِك

في الآخرة

إلهي

نحن البشرَ

فقاعاتٌ متساوية

نفخت بنا الروحُ

وأوقدت لنا

نارٌ صالية

أهو ذنبُ

الفقاعات إلهي

أو النارِ

أم النفخِ والتسلية!

إلهي

لماذا محيت السنابلَ بالحقولِ

ونفختَ بالجرادِ أفواجًا

وتصالحتُ مع الزانية

يا إلهي

لا أطلبُ

سوى الكأسِ يبقى

وبصيصٍ من النظر

وقليلِ السمع

كي أبقى أسجِّلُ أخبار

حلفك َ مع الطاغية.

***

كريم شنشل

 

مَدينتُنا أصِيبَتْ بالجَفاءِ

وإهْمالٍ لواهِبةِ الرَجاءِ

*

مُقدّسةٌ ولكنْ شانَؤها

أحاطوها براعيَةِ العَداءِ

*

كأنَّ مَسيرَها أضْحى وَجيعاً

وأنَّ حَياتها رَهْنُ البَلاءِ

*

مُعَسْكرةٌ بأتباعٍ لبُغضٍ

مُقيّدةٌ بمولعَةِ الجَلاءِ

*

بمَخطوفٍ ومَقتولٍ ومَنعٍ

وتغييبٍ لواعيَةِ النِداءِ

*

ضَحاياهمْ بها كَثُرتْ ودامَتْ

فَتاواهُمْ مُبهْرَجةُ العَماءِ

*

أرى بُدَعاً أضاعَتْ ما بديْنٍ

وسارَتْ مِثلما جَهَرتْ بداءِ

*

ألا اتْخَذوا رُموزاً لابْتزازٍ

تِجارَةُ ديْنِها برؤى المُرائي

*

خِطاباتٌ تَغالى مُحْتواها

فكفّرتِ المُجاهِرَ بالسَواءِ

*

مُبجّلةٌ مَدينتُنا ولكنْ

تُدنِّسُها الأعاجِمُ بالهُجاءِ

*

مَجاهيلٌ إذا مَرَقوا أجادوا

بعاديةٍ مُدمّعَةِ الأداءِ

*

فكلُّ جَريْمةٍ فيها تَوالَتْ

مُؤزّرةً بأسْبابِ الثناءِ

*

وَجيعٌ مِنْ قَساوَتِها تَعالى

وأيْتامٌ براعيةِ البُكاءِ

*

ترامَتْ فوقَ تُرْبَتِها المَنايا

وغابَ الأمنُ في وقتِ الضياءِ

*

بها الأيّامُ لوْ تدري أُصِبْنا

كأنّ الناسَ في بلدِ الفناءِ

*

غَريْبٌ في مَحافِلها تَمادى

يُخاطِبًها كمَعْدومِ الحَياءِ

*

ويَنأى عَنْ مَواطنها بحِقدٍ

ويَرْدَعُها بمَسْفوحِ الدِماءِ

*

لماذا تَخْطفوا رَجُلاً بَريْئاً

وتَرْموا جُثّةً حَتفَ العراءِ

*

ألا تبّتْ مَذاهبكمْ وخابَتْ

أضَلّتكمْ فَتاوى الأشْقياءِ

*

لجَورٍ مُسْتَدامٍ كمْ سَعَيْتمْ

وعِشْتمْ في مَعاقلِ إنْزواءِ

*

فما وَعِيَتْ بَصائرُكُمْ بَديْها

ولا عَرَفتْ خطاباتَ السَماءِ

*

مَدينةُ أمّةٍ في عُقرِ دارٍ

تَنالُ بكَيْدِكمْ سُوءَ الجَزاءِ

*

تشوّهَ وَجْهَها والعَينُ شاحَتْ

فهل أضْحَتْ مُخرَّبةَ البناءِ

*

مَعالمُها مِنَ العُدوانِ ناءَتْ

مُهدَّمةً مُجرَّدةُ السناءِ

*

رموزُ رَقائها ذُبحَتْ بغَدرٍ

وأمْسَتْ في مَداراتِ القَضاءِ

*

هي العلياءً عاشتْ حينَ سَرّتْ

فَكيفَ لها بحاديةِ انْطِواءِ

*

تغيّبَ سِحْرُها وبَدتْ بسوءٍ

مُكبّلةً بمَأمورِ الوَراءِ

*

سَمِعتُ صَريخَها في بَحْرِ كَهْفٍ

بهِ القاطولُ مُنتَجَعُ الإباءِ

*

وأوْلَتُها أضاعَتْ إبْتداءً

تُهاجمُها نَواطيرُ الجَفاءِ

*

ومُسْتشفى بها سَقمٌ مُقيمٌ

يُقيّدُها لفقدانِ الدواءِ

*

فكمْ عَجَزتْ وكمْ أشقتْ مَريضاً

وما عَرَفتْ مَساراتَ الشفاءِ

*

مَدارسُها بها الإهْمالُ يَطغى

شَوارعُها مُمَزّقةُ الرداءِ

*

بَناها إبنُ هارونٍ لجَيشٍ

كجَوهرةٍ لبُرهانِ العَلاءِ

*

وعاصمَةٍ لمِشوارِ انْطلاقٍ

تسرُّ الناظرينَ إلى البَهاءِ

*

تلوّى شأنُها حَتى تقوّى

فَحلّقَ فوقَ آفاقِ الفَضاءِ

*

هيَ الدُنيا بمُخْتَصَرِ المَعاني

وساحَتُها مَيادينُ احْتواءِ

*

ثراها مِنْ بُناةِ الفِكرِ يُسْقى

تُعطّرهُ المَنايا بالثواءِ

*

ومِنْ نَسْلِ الخليفةِ دامَ حُكمٌ

بهِ الفَوضى أطاحَتْ باللواءِ

*

بها الأتراكُ قد سادوا وقادوا

فأضْحى صُبْحُها وطنَ المَساءِ

*

تّهدَّمتِ القصورُ بما أتاها

وأصْبَحَتِ المَعالمُ كالهَباءِ

*

خَرائِبُ فِكرةٍ قتلتْ كفيلاً

فصارَ الليلُ مَسموعَ العَواءِ

*

تَلاحى كلُّ موجودٍ بقَصْرٍ

فحَطمَ هَيْكلاً مِثلَ الإناءِ

*

خليفةُ مَجْدِها مُرْدى بإبْنٍ

أصابوهُ بعاديةِ الغَباءِ

*

بها المُعتزّ مقتولٌ بظلمٍ

ومَرموضٌ ومُحْتَضِرٌ بماءِ

*

ألا ذَهبوا وما بَقيتْ قصورٌ

كأنّ القومَ في زمنِ السِباءِ

*

تَسمّرْ أيّها المفتونُ فيها

وتاجرْ في مَرابِعها بباءِ

*

أرى الدنيا بما وَهبتْ أغاضتْ

فعِشْ أملاً وحاذرْ مِنْ رياءِ

*

كأنّ زمانَها أفنى مُناها

وقد سَكبَتْ نبيذاً مِنْ وعاءِ

*

فلا حَمداً ولا شكراً جَميلاً

ولا فَرَجاً لداهِمَةِ الطواءِ

*

يُسائلني لماذا الإهْمالُ فيها

وأخْشى مِنْ جَوابٍ كالطلاءِ

***

د. صادق السامرائي

(1) رأيتُ جميعَ الكائناتِ

رأيتُ جميعَ الكائناتِ بِعينِها

وأجملُهنَّ الساقياتُ خمورا

*

أتينَ الى روحي يُبشرنَ بالجوى

وبالطلِّ اذ تأوي الطيورُ طيورا

*

أتى فلكُ الأكوانِ حوليَ دائراً

لِيسكرَ قلبي في الهوى ويدورا

*

وحتى أرى نخلَ السماواتِ طائراً

وأقطفُ منه مُرطِباً وتمورا

*

رأيتُ وعيناها رؤايَ ، وخافقي

سرى بِجناحِ الفرقدينِ أميرا

*

ويُطلقُني حبُّ الجَمالِ الى المدى

واِنْ كنتُ في قاعِ الجحيمِ أسيرا

*

لذا كانَ وجدي دونَ حدٍ قبستُهُ

مِن النارِ ماءً في الفؤادِ ونورا

*

وأوكلَني بالنوِّ أسري لقلبِها

وأمطرُهُ حتى يشبَّ سعيرا

***

(2)

..أَفِقْ فيكَ روحي

أفقْ فيكَ روحي لو تنامُ تنامُ

أَفقْ لا تغِبْ انَّ المنامَ حِمامُ

*

هنالكَ نهرٌ سادرٌ في صهيلِهِ

!!هنالكَ نجمٌ بارقٌ وظلامُ

*

هنالكَ حبّي أيقظَ الكونَ عزفُهُ

هنالكَ قلبي : جَنَّةٌ وغرامُ

*

هنالكَ نخلٌ نرجسيٌ اذا بدا

!يعاينُ ظلَّ الماءِ ، كيفَ يُلامُ؟

*

أفِقْ لا تبددْ نشوةً اثرَ نشوةٍ

أنا كلُّ ما يعطي الكرامَ كرامُ

*

تعالَ ولا تصخبْ مع الناسِ هوَّموا

فعنديَ في الصحوِ الجميلِ هيامُ

*

لدي دروبٌ سوفَ تدري بِسحرِها

فآفاقُها بَعدَ المرامِ مرامُ

*

وأفعالُ كلِّ العاشقينَ جِنانُها

وأقوالُ كلِّ العاذلينَ كلامُ

***

شعر: كريم الأسدي ..

يَرنو الى الأفقِ، مَنْ فاقَ الطموحُ به

وللقــوافـي صـداهــا، حـين تـزدهِـرُ

*

مــبادئ الحَـزْمِ فــي اعـتاب نهْضتِهـا

إنْ زانَها الصِدقُ يخشى قربَها الضَررُ

*

الشــأنُ لا يـعـلو فــي تَـزْويـقِ بُـردَتِـه

إنْ لــم يـكن لـه مِـن عِــزّ العُـلا صُـوَرُ

*

إذا المُـباهــاة، عــن نــقْصٍ تَـفاعُـلها

ســرعان ما تُـفْـصِحُ الأحداثُ والهَـذَرُ

*

لا يـحجبُ الســرَّ مَـن كانت سَــرِيرَتُه

ســوءَ الفِـعال، وفـي الأوهام يَسْتَـتِـرُ

*

رســالة الحُـبِ، عينُ الحب تـقرؤها

كم مُـقْـلَـةٍ تَــدَّعي، والقــلبُ يَـنْـبَهِــرُ

*

يا صاعــدا جَـبلَا، إن كـنت فــي ثـِقَةٍ

تَـعـلو، وإن مسَّـك الوسواسُ تـنْحَـدِرُ

*

كــم مِــن وِســامٍ زَها فَخْراً بحامِله

وكــم وسام بــلا حَـقٍّ، به اشتهروا

*

بعض الوجوه بِنور الوَعي مُــشرقــة

وربَّ صَــمْـتِ حَــكـيـم ٍ، وَزْنُــه دُرَرُ

*

(مــا كــل مــا يتمنى المرءُ يـُـدركُه)

لــكــنه باقــتـحـام الصَـعـْـبِ يـُخْـتَـبَـرُ

*

سُـــمْـرُ القَـنـا، اذا ما الاتقانُ فارقـهـا

تَــسْــمو عــليـها سِهامٌ، زادُها الخِـبَـرُ

*

انْــشودَةُ الــمَـجْـدِ، في أرجوزةٍ بَعَـثَتْ

رِســالةً، تـوحي انّ الحــقَّ يـَنـتَـصِـرُ

*

إنْ كــان لــلـعَــزْم إيـــمـانٌ يــوثّــقـــه

فـــوحــدةُ الصــف، إيــمانٌ بـه ظَـفَـرُ

*

تــاجُ العُــروبةِ يدعــو الشمْلَ مؤتَـلِـقاً

وفـــي الوفــاقِ وحُـب الخــيـر يَــنْغَـمِـرُ

(من البسيط)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

لكَ أن تمُرَّ على السهولِ نسيمًا

لتزيحَ عن وجهِ الحياةِ همومًا

*

تشدو لآمالِ الحقولِ بشائرا

وتشيدُ في عرشِ الحياةِ نجومًا

*

خُذْ من يدي إرثَ السنين وعبئها

واكتبْ على ذاك الجدار رسوما

*

وامنحْ جراحي فرحةً تتجددُ

يروي بها الدمعُ الحزينُ كرومًا

*

فالحبُّ يزهرُ كلَّما نبتَ الأسى

ليكونَ للجرح العتيق وسوما

*

والعشقُ أنْ يسمو الغرامُ سحابةً

تُغني ربوعَ العاشقينَ نعيمًا

*

بلّغْ عن الروحِ التي أهدتْ ندىً

قدْ كابدتْ وجعَ السنينِ عظيما

*

بدماءِ حقلٍ ظلَّ يورقُ رغمَ ما

عاثَتْ بهِ ريحُ الطغاةِ ظُلوما

*

غرسٌ تحدّى النارَ حتى أثمرَتْ

بعد انتظارٍ لم يعره عميما

*

وروى الأسى عهداً تليداً زاهرًا

وعدًا يُعيدُ إلى السماء نجومًا

*

فأتيتُ بالشمسِ التي في راحتي

وحملت قلبا ما يزال كليما

*

واكتبْ على دربِ الفداءِ مؤرَّخًا

مجدَ الشعوبِ إذا استحالَ عظيما

*

آليتُ أنَّ الحقَّ يبقى رايتي

ودليلُ دربي في الحياةِ قويمًا

*

لكنَّهُ عهدُ السماءِ لشعلةٍ

أهدتْ شعوبَ العالمين نعيما

*

فأتيتُ بالشمسِ التي في راحتي

أرنو بها نحوَ الدُّجى تسليما

*

وأقولُ للشمسين إنّي ها هنا

سيفُ العراقِ إذا استفاد ظليما

*

فأنا الذي يزهو العراق بفضله

ويعود بعد الغابرين سليما

*

وملأتُ كأسَ الصبح عطرا ناضرا

حتى غدا وجه الحياةِ وسيما

*

وطني بحارُ الخيرِ تجري في يدي

ونخيلُهُ ظلٌّ يُعانقُ ريما

***

جاسم الخالدي

 

تشبهني قصائدي...

مثل ظلٍّ أعمى يتعثر في ممرات الذاكرة،

كأنني أكتبها وهي تكتبني،

تُحاورني الأبيات،

تُمارس طقوسها في صمتٍ مُريب،

كأرواحٍ خرجت من نافذة الحلم

لتتسكع في أزقة اللغة.

كل كلمة

مصيدة،

كل فاصلة

حفرة في طريق لا ينتهي.

*

تشبهني قصائدي،

حين أنثرها على بياض الورق

كغيمٍ شارد يبحث عن موطئ ماء،

وحين تتكدّس فوق بعضها

مثل حقائب مليئة بذكريات لا تخصّني،

أخاف منها

كما أخاف الأقنعة على وجوه العابرين .

*

تشبهني قصائدي...

في فوضى العناوين التي تجهل مقصدها،

في حزن الحروف التي أُتْعبها السير في متاهة نفسي،

وفي ارتجافة الكلمات

وهي تتهجّى حقيقة لم أجرؤ على نطقها.

*

كم مرة حاولت الفرار منها؟

لكنها تطاردني كظلٍّ يتنفسني،

تندسّ بين أنفاسي

وتحفر في أعماقي أخاديد من وجعٍ قديم.

هي أنا...

لكنها ليست أنا،

صدى بعيد لنبضٍ يصرخ

في قلبٍ لا يعرف صوته.

*

تشبهني قصائدي،

حين أكرهها،

وحين أحبّها

كما يُحبّ منفي مدينةً لا ينتمي إليها.

كل بيتٍ فيها

وطنٌ غامض،

كل مقطعٍ

جرحٌ يزهر.

*

تشبهني،

بملامحها غير المكتملة،

بتناقضاتها،

بأسئلتها التي لا تنتظر إجابة.

هي وجهي الآخر،

وجهٌ يطلّ من شقوق الذاكرة،

يرسمني بالكلمات

ويمحو نفسه.

*

تشبهني قصائدي...

وأنا أتأملها

كغريبٍ ينظر إلى صورته

في مرآة نسيها على الطريق...

***

مجيدة محمدي - تونس

إلى حفيدتي تعانق البحر أوّل مرّة

***

لارَا

مِثلُ رَفّةٍ

خُطاها كنقر البيانو

تتسارع نحو البحر

يَعْشوْشبُ الرّملُ

يُزهر

مِن تحتِ قدميها

*

لارَا

جَذْلى تحتضِن البحر

بين المَوجة والموجة

تَغطِسُ حينًا

تطفو حِينًا

وسِربٌ من صَغيراتِ السّمك

يَنسابُ يُرفرف حولها

يُلاعبها

إحداهنّ تكاد تُمسكها

فتنزاحُ بين يديها

وتمضي بعيدا في اللُجّة

*

ترنُو لارَا في المدَى

نحوَ المدَى

حيثُ لاح أزرقُ البحر

يُلامس أزرقَ السّماء

في لازَوَرْدِ عينيها

لارا

***

سُوف عبيد

في مطار عمّان الدولي، وفي منتصف التسعينات، كان الليل قد أرخى سدوله والساعة تشير إلى التاسعة مساءً. تجمع القادمون إلى عمّان بالمئات، وكانت تقف وسط الحشود مع طفليها، تحيطهم ضوضاء المسافرين وصفوف المنتظرين أمام شباك فحص جوازات الواصلين. في ذلك الزحام، تقدم أحد موظفي المطار نحوها بخطى واثقة، وابتسامة مليئة بالاحترام، طلب منها أن تتجاوز صفوف المنتظرين لإنهاء إجراءات الدخول سريعًا. ادهشتها شهامة تصرفه، فشكرته بحرارة.

لم يكن في ذهنها سبب واضح لذلك التقدير والاحترام والتميز الاستثنائي، الا انها عزتها الى مظهرها المحتشم، ولباسها الإسلامي الملتزم الذي غطى كل جزء منها، من رأسها حتى أطراف قدميها، والذي يمكن ان يكون قد ترك انطباعًا جليلًا ومهيبًا. لقد بدت كما صورتها في جواز السفر اليمني الذي حملته خلال رحلتها إلى عمّان.

استقبلتها أختها وزوجها سلام، اختها التي لم ترها منذ عقدين، بفرحة غامرة. امتلأ البيت بحفاوة اللقاء، ودفء الكلمات، وكرم الضيافة. بعد العناق والحديث الطويل، أفصحت عن نيتها السفر مع طفليها طلبًا للجوء في إحدى الدول الأوروبية. طلبت مساعدتهم للحصول على فيزا لإحدى الدول كخطوة أولى للوصول الى الهدف، خاصة، وأنها تحمل جواز سفر يمني، وهو أمر، ربما، يجعل المهمة صعبة.

أبدى سلام كامل استعداده للمساعدة دون تردد. وخلال أيام التحضيرات، وبينما كانت الامسيات المليئة بالأحاديث والذكريات، فجرت أختها نبأ غير متوقع، حين قالت بهدوء:

"سلام مسافر إلى بغداد فجر الغد، وهو يريد اصطحابك معه لزيارة والدتنا".

كانت كلماتها صاعقة، أشعلت في ذهنها سيلاً من التساؤلات والمخاوف. مضت سنوات طويلة منذ ودّعت والدتها عند مطار بغداد الدولي. ها هي أمام فرصة قد تكون الوحيدة لرؤيتها مجددًا. لكنها كانت تعرف جيدًا ما تعنيه بغداد لها رغم ولعها وحبها لها.. وشغفها في رؤية والداتها.. ولكن بغداد الان بالنسبة لها، مدينة مليئة بالمخاطر، خاصة وهي من السياسيين المطلوبين لأجهزة أمن النظام الصدامي الحاكم.

غاصت في بحر أفكارها، تائهة بين الرغبة في لقاء والدتها والخوف من عواقب الزيارة. لم يمهلها ذهنها الكثير من الوقت حتى قطعت أختها حبل تفكيرها قائلة:

"لا تخافي. أنت تحملين اسمًا وجواز سفر أجنبيًا. سلام لا يمكن أن يغامر هكذا إلا إذا كان واثقًا من النجاح. السفرة كلها سوف لن تستغرق سوى يوم واحد، بل أقل من ذلك".

لكن ماذا عن الأولاد؟ سألتها بقلق. فأجابتها: "سيبقون معي. لا تقلقي بشأنهم".

رغم كل تلك التطمينات، ظلّ قلبها مثقلًا بالهموم. فكرت في الاحتمالات التي قد تُفسد خطة الرحلة الى بغداد.. عيون الحراس عند نقاط التفتيش، النظرات والاسئلة المحتملة التي قد تؤدي الى الشك في شخصها وهويتها.. وسواها من الأسئلة.. فكرت أيضًا في زوجها، وفي إخباره بما تنوي وما ستقدم عليه. فهي ستترك طفليها  في عمّان وتغامر بمصير مجهول.

أمام كل تلك الأفكار، بدت أختها مطمئنة بشكل يثير الدهشة. قالت لها بحزم: "سيكون كل شيء على ما يرام. لا داعي لإبلاغه الآن؛ أخبريه عندما تعودين بالسلامة". ثم أضافت بابتسامة: "نامي، فغدًا سيكون يومًا طويلًا".

كان سلام يتابع الحديث بصمت، لكنه قطع الصمت بنبرة مليئة بالثقة:

"أنا أتحمل كامل المسؤولية. سأوصلك إلى الوالدة وأعيدك إلى أطفالك بسلام. ولن يحدث شيء".

نظرت إليه مليًا، تقرأ ملامح وجهه، تبحث عن ذرة تردد أو خوف، لكنها لم تجد سوى الإصرار هكذا هو كما عهدته أيام الدراسة.

تنهدت بعمق، ثم قالت:

"هذه فرصة العمر بالنسبة لي، رغم ما تحمله من مخاطر. من يدري متى أستطيع رؤية والدتي إن لم أغتنم هذا الظرف؟"

كانت تعلم أنها تقامر بكل شيء، لكنها كانت على استعداد لخوض هذه المغامرة.

في فجر اليوم التالي، كانت الرحلة قد بدأت. رحلة ليست فقط نحو بغداد، بل نحو ذاكرة عمرها عقدين، نحو حضن أم كانت بعيدة لكنها لم تغب يومًا عن القلب. بينما كانت السيارة تقطع اولى الكيلومترات، كان قلبها يخفق بالأمل والخوف معًا.

تذكرت وجه زوجها، شريك روحها، وهو يودعهم بصمت مكسور وقلب مثقل بالألم. لم تستطع أن تنسى ملامحه الحزينة وهو يغلق باب المنزل خلفه، محاولاً أن يخفي دموعه وآهاته عن أعينهم. كان ذلك المشهد محفورًا في ذاكرتها ولما يزل.. صورة لن تفارقها أبدًا، تتوارى ملامحها رويدًا رويدًا كلما ابتعدت بهم سيارة الأجرة عن الدار، وهي متجهة إلى مطار عدن الدولي. كان الوشاح الذي يلف رأسها قد تشبع بالدموع، في حين نسجت عيونها خيطًا واهيًا بين لحظات الوداع القاسية وعالم الذكريات الذي بات ملاذًا، بالرغم من هشاشته، أمام واقع لا مفر منه.

لم يستطع الزوج مرافقتهم، ليس بقراره، بل لظروف قاهرة حالت دون ذلك. وعدها بأنه سيبذل قصارى جهده لتجاوز تلك العقبات والالتحاق بهم قريبًا، لكن وعده لم يكن كافيًا ليبدد مخاوفها. تضاربت مشاعرها بين ألم الفقد وأمل اللقاء. تساءلت وهي تغرق في دموعها: هل سأراه مجددًا؟ متى وكيف؟ أسئلة كبرت معها لتصبح ثقيلة كالصخر، تحجب عنها الرؤية نحو المستقبل الذي تتمناه.

كان قرار السفر ضرورة فرضها الواقع. عطلة المدارس كانت توقيتًا مثاليًا لتنفيذ الخطوة دون أن يُثير غيابها وأطفالها الريبة. لكن قلبها ظل مثقلاً بالذكريات الموجعة، خاصة بعد ما خلفته حرب صيف 1994 بين شطري اليمن. كانت تلك الحرب بمثابة الطعنة التي قسمت حياتهم إلى ما قبل وما بعد. الآثار النفسية الثقيلة التي ظهرت بوضوح على الاولاد، ولا سيما ابنها البكر، الذي كان أكثرهم تأثرًا. لم يكن يتجاوز الصف الرابع الابتدائي حينما هاجروا للعمل في اليمن بعد سنوات من الدراسة والعمل في بلغاريا. لكن الحياة في بلد تحكمه التقاليد الصارمة والدين المتزمت، والتي كانت قاسية عليه، بحيث لم يستطع التكيف مع القيود المفروضة على التعبير عن وجهة النظر الحرة والمغايرة للسائد آنئذ.. حتى أن السنوات الست التي قضاها في اليمن كانت بالنسبة له كابوسًا لا يكاد ينتهي، لتأتي الحرب وتجعل الواقع أكثر سوءًا.

قرار الرحيل إلى المجهول لم يكن سهلاً. ان أول عقبة واجهتها كانت انتهاء صلاحية جوازات السفر العراقية للعائلة، وهو أمر لا يمكن تجاوزه بسهولة بسبب المحاذير السياسية والأمنية المتعلقة بالنظام العراقي الذي لا تزال معارضته تشكل خطرًا عليها. تدخلت إحدى زميلاتها في العمل، والتي كانت تتمتع بنفوذ قوي، لمساعدتها في استصدار جواز سفر يمني لها وللأولاد وبأسماء زائفة. ثم ان السفر من مطار عدن وبجواز سفر يمني، يتطلب المزيد من الحذر. كان عليها أن تتخفى تحت العباءة اليمنية الصارمة، والتي يكملها النقاب والبرقع والجوارب والقفازات، لتبدو كجزء من الصورة التي يرسمها المجتمع اليمني التقليدي للمرأة الملتزمة.

السؤال الأكبر ظل معلقًا: إلى أين؟

كان الأهم هو الخروج من دوامة اليمن بأي وسيلة. جاءت الإجابة عبر الأردن، حيث تقيم أختها المتزوجة من أردني زميل دراسة سابق في بلغاريا. هذا الرابط ساعد في تسهيل الخطة، لكن تبقى أمامها عقبة أخيرة: عبور مطار عدن، الذي كانت إجراءات التفتيش فيه صارمة إلى حد الاختناق.

تطوع أحد زملاء زوجها لتحمل مسؤولية تأمين المرور. ورغم كل التدابير الاحترازية، لم يكن المرور سهلاً. حين وقفت عند بوابات التفتيش، شعرت أن قلبها يوشك على التوقف. الخوف كان جاثمًا على صدرها، يكاد يكشفها رغم شجاعتها الظاهرة. حتى أولادها، الذين أدركوا حجم المخاطر، كانوا ملتصقين بها، يحاولون إخفاء وجوههم تحت قبعاتهم الصغيرة.

عبرت المرحلة الأولى بنجاح، لكن التوتر لم يهدأ. في صالة الانتظار، جلست بجوارهم إحدى زميلات العمل التي تعرفت على الأطفال. أثارت الزميلة شكوكها عندما لاحظت تنكرها بزي لم يعتده أحد منها، خاصة أنها كانت مثالاً للأناقة في العمل. طلبت منها بلهجة مرتجفة ألا تكشف سرها، ففهمت قصدها

عندما استقرت هي وأطفالها أخيرًا على مقاعد الطائرة، تنفست الصعداء، لكنها لم تدم طويلاً. قبل إقلاع الطائرة بقليل، صعد ثلاثة رجال من أمن المطار لتفقد ركاب الطائرة او لغرض اخر.. الامر الذي اشعرها وكأن العالم بأسره قد توقف.. وما صعودهم الا مقصودا.. ومن اجلها. انكمشت على نفسها، تمسك أيدي أطفالها المرتجفة، وكأنها تحاول بث الطمأنينة في قلوبهم. كان الوقت يمر ببطء قاتل، كل ثانية تحرق روحها كالجمر. شعرت أن مصيرهم معلق بخيط رفيع.

وأخيرًا، نزل رجال الأمن من الطائرة. أغلقت الأبواب، وأقلعت الطائرة. عندها فقط، تنفس الأطفال بارتياح، وهتفوا بفرح عفوي: "هورا!" وكأنهم قد انتصروا في معركة مصيرية. ضمتهم إلى صدرها، ودموع الفرح تمتزج بدموع القلق. نظرت من نافذة الطائرة وهي تردد في قلبها دعاءً صامتًا: أن يجتازوا فضاء اليمن بسلام، وأن تكون هذه بداية رحلة جديدة نحو الأمان.

شعر زوج أختها بشيء من شرودها العميق، فتوجه إليها بنبرة صوته الهادئة والواثقة التي كانت دومًا ملاذًا للطمأنينة والثقة لمن حوله. أراد أن يخفف عنها، ربما لينتشلها من دوامة أفكارها، أو ليبدد بعضًا من قلقها الممزوج بالحنين، فتحدث عن المسافة الطويلة التي تفصلهم عن بغداد وعن محطاتها المتعددة. بدت كلماته كنسيم بارد يلامس أطراف الحيرة ويبدد الهواجس التي كانت تأخذ بتلابيبها. ابتسمت له امتنانًا لنبله. لقد أدركت في أعماقها أن تلك الرحلة لم تكن لتكتمل لولا شجاعته التي جعلت منه بطلها دون منازع.

حين وصلوا إلى محطة "طربيل"، كانت الحدود الفاصلة بين الأردن والعراق أشبه بعالمٍ جديد يفتح أبوابه ببطء. إجراءات الخروج من الأردن مرت بسلاسة، لكن ما أن اقتربوا من نقطة التفتيش العراقية، حتى انطلق سباق من الهمسات والحركات المتسارعة. موظفي الجمارك تسابقوا نحو السيارة وهم يتهامسون: "خليجية؟". لم تفهم ما يجري حتى التقطت أذنها حديثًا عن السيارة، ومحاولة أحدهم لعرض "شراء نوبة التفتيش"* مقابل مبلغ مالي لزميله المناوب

نزل الجميع من السيارة لاستكمال الإجراءات. كانت جوازاتهم اليمنية والأردنية كافية لإثارة فضول رجال الحدود، الذين طرحوا أسئلة لا تنتهي عن صلة القرابة، وسبب الزيارة، ووجهتها ومدتها. استغرقت هذه المرحلة وقتًا بدا كأنه يمتد بلا نهاية، حتى جاء دورها للتوجه إلى قسم النساء. هناك، استقبلتها نساء شابات من موظفي التفتيش، كل منهن تحمل في نظراتها مزيجًا من الفضول والريبة.

إحدى المفتشات استوقفتها بسؤال فاجأها: "هل أنتِ يمنية حقًا؟ لم أرَ يمنية بهذه الأناقة والترتيب من قبل." أرادت أن ترد على هذه الملاحظة التي شعرت أنها تحمل في طياتها عنصرية خفية، لكنها آثرت كتمان انفعالها. أجابت بجفاء واضح وبلهجة يمنية خالصة، محاولة الحفاظ على هويتها دون أن تُفصح عن مشاعرها.

انتهت إجراءات التفتيش الشخصي بعد طلبات لا تنتهي شملت العطر وغيره حتى مشبك الشعر لم يسلم من التسليب. شعرت براحة عميقة حين تجاوزا هذه المرحلة، وأخبرها سلام بأنهم قد اجتازوا العقبة الأصعب في الطريق إلى بغداد. تحدث بصوته الواثق عن أمان الطريق نهارًا، وخطورته ليلًا، حين تسيطر عليه عصابات وقطاع طرق يشكلون تهديدًا حقيقيًا للمسافرين قد يصل الى حد الخطف والقتل.

فتحت زجاج النافذة بجانبها، وأخرجت جزء من راسها لتستنشق الهواء الذي حمل لها رائحة العراق. بغداد، عروس العواصم العربية، كانت في انتظارها. تدفقت ذكريات طفولتها وصباها أمام عينيها كلوحة مرسومة بألوان متداخلة، تزدحم فيها اللحظات السعيدة والحزينة، حتى آخر مشهد وداعٍ جمعها بوالدتها ودموعها.

حين اقتربوا من حيهم الذي تركته حينذاك، شعرت وكأنها تعود إلى قلب الزمن، حيث توقف كل شيء عند آخر لحظة غادرت فيها المكان. عرفته رغم تغير ملامحه، لكنه ظل ينبض بذكريات لا تموت. فجأة، اجتاحها شعور بالغيبوبة، وكأن الزمان والمكان تآمرا ليسلباها قواها. مال رأسها إلى الخلف، لكن صوت سلام أعادها إلى الواقع: "لقد وصلنا، اجمعي قواكِ."

ساعدها على النزول من السيارة، وقادها بخطى ثابتة نحو الباب. استقبلتهم زوجة أخيها، التي لم ترها من قبل، بابتسامة دافئة. طلب لها سلام قدحًا من الماء، وعندما هدأت قليلاً، تساءلت بلهفة: "أين أمي؟"

تفاجأت زوجة الأخ من سؤال الضيفة، إذ ظنّت في بادئ الأمر أنها أخت سلام. ولما كانت تخشى وقوع صدمة مفاجئة قد تهدد صحة والدتها عند معرفتها بعودتها بعد سنوات من الغياب، فقد رتّبت مسبقًا مع شقيقها، قبل قدومها إلى العراق، أن يُمهّد لحضورها بطريقة مدروسة. اتفقا على الادعاء بأن المرأة التي ترافق سلام هي أخته، ليترك للوالدة فرصة اكتشاف الحقيقة بنفسها دون تعجل.

وللتغلب على هذا الالتباس، بادر سلام بتوضيح الأمر قائلًا: "إنها أم يسار". حينها، استدركت زوجة الأخ الموقف، وأعادت الترحيب بها بحرارة، موضحة أن والدتها قد خرجت إلى السوق برفقة ابنها، وأنهما سيعودان قريبًا.

لم تكد تلتقط أنفاسها حتى عانقت عيناها صورة والدها الراحل المعلقة على الحائط. ابتسامته الحنونة كانت وكأنها ترحب بها من عالم آخر. انفجرت بالبكاء، وقبل أن تستجمع قواها، سمعت وقع خطوات أمها تقترب. هبت واقفة لتحتضنها، وانهارت على الأرض تقبّل قدميها. لم تستوعب الأم هذا المشهد، فظنت أنها أخت سلام. لكن صوتًا مرتعشًا اخترق الصمت: "ماما، أنا أم يسار، ابنتك!"

سقطتا أرضًا متعانقتين، والدموع تروي لحظة اللقاء بعد سنوات طويلة من الغياب. كانت الأم تتفحص ملامح ابنتها بذهول، وكأنها تقرأ في تفاصيل وجهها فصول الغربة والمعاناة. شكرت الله، وسجدت ركعتين حمدا له.

بالاتفاق مع العائلة، تقرر التكتم على أمر الزيارة لأسباب أمنية تضمن سلامة العودة إلى الأردن. ومع حلول الليل، اكتمل جمع الأسرة، وحضرت الأخت الأخرى وعائلتها. امتلأت الأجواء بفرحة اللقاء، وتبادلت الأحاديث عن أحوالهم وعن الرحلات التي اعتادت عليها، بحثًا عن الأمان المفقود.

رغبت بتفقد ما تركته من صور ووثائق، وكأنها تريد الإمساك بخيوط الماضي لتعيد ربطه بحاضرها. لكنها صُدمت عندما أخبروها أن والدتها، خوفًا على سلامة العائلة، دفنت كل ما يتعلق بها تحت الأرض، على أمل الحفاظ عليها وعليهم من أيدي الأمن. لكن رطوبة الأرض أتلفت كل شيء. حاولت أن تخفي حزنها، وفهمت دوافع أمها وعذرتها.

بقيت الأم بجانبها طوال الليل، تتفحص يديها وأصابعها، وكأنها تقرأ فيها تعب السنين. كان وداع الفجر يقترب، فاحتضنت والدتها، وأوصت الجميع بأن يحافظوا عليها، فهي أعز ما تملك. حين انطلقت السيارة، شعرت أن قلبها بقي هناك، مع أمها، فيما جسدها يتجه بعيدًا.

نظرت إلى سلام، وقد ملأتها مشاعر الامتنان، وقالت له بصوت خافت: "لقد منحتني أعظم هدية في حياتي. سأحملها معي حتى قبري."

***

سعاد الراعي

عندما تقرع طبول اليأس فتتراقص الأزمنة الشاحبة فوق نعش القلوب المتحجرة، وتتعثر الخطوات على أرض تميد ودروب تتصدع، وصخور الوجد تتفلق عن ألف سؤال يحوم حول المستحيل، تطحنها رحى الأحداث وتذرها وجعا خلف المدى،  تبحث" وحيدة" وسط كون الأشياء الجميلة فيه مستحيلة، حاولت أن تفهم هذا الكون حولها لكن كان كل مبرر تضعه تجد السؤال يزيد غموضا وتعقيدا حتى في أبسط صياغته، يسحبها إلى أراضي المستحيل ويحرضها على السباحة في عوالم مبهمة وهي وحيدة تطحن بذور الخيبة التي علقت بسيرتها وروحها، وتذرها رياح اليأس لمخطط لم تكن جزء منه في يوم من الأيام، نظرت " وحيدة " طويلا إلى وجه المرأة التي ربتها، إطلالة وجهها تحمل أسئلة لا جواب لها في مجتمع لا يرحم، سعادة طفولية زائفة مؤقتة عاشتها وهي تحمل بداخلها خوفها من المجهول، أخبرتها متبنيتها وهي لا تزال في سن صغيرة بالحقيقة، هي ليست أمها الحقيقية، أمها كانت ضحية زوج منحرف وأسرة مفككة ومجتمع قاسي، دخل زوجها وشقيقه السجن بتهمة القتل مع سبق الإصرار، ووجدت أمها وزوجة عمها وأولادهم كلهم وعماتهم جميعا بدون أي مصدر للقوت، ولا سبيل لدفع أيجار البيت، كانوا من النازحين حديثا من الريف إلى المدينة، لم تجد حماتهم من حيلة إلا استغلال سذاجتهن وغفلتهن عن شؤون المدينة للمتاجرة بأجساد الفتيات الغضة لإعالة هذا العدد الكبير،  إنهن بعيدات عن الأهل، ومجتمعهن يرفض عودة الفتاة بأولادها إليهم، وقعت أم وحيدة فيما لم تكن تحسب له حسابه، حملت من أحدهم، وبحثت عن من تعطيه مولودها، حتي تعرّفت على سيدة لطيفة وطيبة بالصدفة وارتاحت لها، ثم أخبرتها أن زوجها لا ينجب وهي لا تستطيع أن تتركه بعد عشرة عمر طويلة، اقترحت أن تعطيها المولود ذكرا كان أو أنثى، بعد الموافقة أخبرت زوجها أنها ستجلب طفلا تقوم بتربيته، سألها زوجها من أين ستأتي به فأخبرته أنه ابن خطيئة، وستتستر على الأم والعائلة، أصغت وحيدة لحديث متبنيتها صالحة بمرارة شديدة ولكلامها الذي أصابها كالوجع الذي يحل بالجسد، إنها معاناة شديدة تضيق بها الروح، وجدت نفسها مضطرة تمشي دربا وتصبر على ألم أشواك لم تغرسها وعلى آلام أخرى لم يكن لها دخل فيها، عليها أن تتحمّلها وتتقبلها كصديق ورفيق لصيق كاللازمة المتلازمة، فقد اختارت لها المقادير أن تكون واحدة من أبناء الخطيئة لما تواطأت الضحية من الآثم والظروف لتكون هي البذرة المنبوذة في المجتمع، ذرفت صالحة دمعا حارا أحرق مقلتيها حزنا على الفتاة التي ربتها التي ليس عليها أي ذنب فيما تتألم بسببه، ولكن وحيدة أرادت أن تهوّن عليها الأمر بأن وجودها في أسرة محترمة كانت هي السبب في انفصالها عن زوجها، أخبرتها صالحة أنها كانت تعلم منذ البداية أن عائلة زوجها المحافظة سترفض الطفلة غير مبالين بها، وأنه من أجلها خرجت للعمل في تنظيف البيوت والمدارس، وتحمّلت الإهانة فوق إهانة حتى يشتد عودها، تعلم وحيدة أنها تحصد وحدها نتائج أخطاء من لن تسامحهم، ولذا تخشى مواصلة السير نحو مستقبل مجهول بلا هوية حقيقية، وفي نفس الوقت تملكها شعور بالشفقة على المرأة التي ربتها وضحت بسمعتها من أجلها في حين كان يمكن أن تحافظ صالحة على زوجها وبيتها، صارحتها أن شقيق زوجها كان يبيت النية لتطليقها مسبقا اعتقادا بأنها السبب في عدم الانجاب وتزويج أخيه بفتاة أخرى من عائلة زوجته، إنه النصيب المسطر، وهكذا يتم تقييم الفعل وفقا لشخصية الفاعل، علت ابتسامة نادرة خفيفة وجه وحيدة وبدت أقرب إلى السخرية ممن لم يخجل بعار فعلته وزج به في السجن مجرما بتهمة القتل العمدي، وقد كان لا يتردد أن يكيل التهم بالباطل على من تعمل لتعيل أطفالها، هذا هو حال جان من المجتمع الذي فيه وراء كل جريمة رجل حين لا يكون عيبا أي جرم يرتكبه أو حرام يقوم به، أما المرأة فأي حركة تقوم بها فهي جرم، إذن إنها حالة لا يدرك خطورتها إلا المتعاطفين معها، ولا يتلظى بحرارة نارها إلا من يقع في شباكها، وتبقى الطفولة البريئة هي الضحية وهي من تدفع ثمن استهتار الآخرين بالعواقب، فتتغير الملامح ويختفي الجمال الطفولي. أمتنت وحيدة كثيرا لفضل مربيتها صالحة عليها، لم تحرمها شيئا من حقوقها حتى أدخلتها الجامعة، حينها واجهت فيها حرج الاسم الناقص من اللقب العائلي وتعرضت للتنمر حتى من أقرب الصديقات، ونظرات النقص في عيون الأساتذة، من أجل كل هذا عقدت العزم أن تعمل من أجل حبيبتها مربيتها، إنه مسار قد يبدو مظلما ولا يعلم عواقبه إلا الله ولكن عليها أن تسلكه، لم تعد وحيدة تلك الطفلة الحالمة التي ترتدي ملابس صدقات المحسنين، أو تلك الفتاة المتعبة التي تنام وتسند رأسها على كتبها الممزقة القديمة التي تحصل عليها أمها من أبناء معارفها والجيران، ستبدأ العمل حتى تعتق أمها من ذلك البيت البائس الذي يستغل مالكه جهد صالحة في خدمة زوجته الجميلة مقابل الروايات الجميلة باللغة الأجنبية التي تحضرها لأبنتها وحيدة التي كانت تعشق قراءتها. وعلى حافة الوقت الهادر كنهر صامت تمضي وحيدة إلى المجهول البعيد خائفة، أنها على مشارف العشرين من عمرها، هل يمكنها أن تجد لنفسها غدا عملا وسط مجتمع ينهش بعضه لحم الساذجات بشراسة ثم لا يبالي، احتضنتها أمها صالحة وهي تهدئ روعها أنه مهما كان الآخرون يتربصون بأحلامك، ومهما شحذوا سكاكينهم وأظهروا أحقادهم، ومهما زرعوا الطريق شوكا، فإن الطفلة التي تنام بداخلك قد كبرت أظافرها، وقد آن الأوان أن تشحذ سيوفها لتدافع عن كيانها ووجودها، وأن لا تسمح لأحد أن يملأ وقتها بقبح أرائه وعفن أفكاره،

مضت الأيام سريعة وبدأت عملها مندوبة مبيعات لمنتجات إحدى الشركات الأجنبية الكبيرة بفضل إجادتها للغات الأجنبية، لم تكن مرتاحة بعد تسليم ملفها، لاحقتها نظرات من حولها المثيرة للشكوك، والعيون يقفز منها خبث الشياطين، وكلما ضاقت تذكرت حديث أمها صالحة فتزيدها شجاعة على المواصلة وحماسة على الاستمرار. لقد هرمت والدتها صالحة وضعفت قواها بعدما ضحت من أجلها بالكثير، وباعت الدنيا وما فيها لتربيها في أفضل حال ولتنشئتها في وضع جيد مهما حكمت عليها الظروف. ذات صباح ارتدت وحيدة أجمل ملابسها وقد ظنته صباحا ليس مثل الصباحيات الكئيبة السابقة، لقد حققت نجاحا لافتا للشركة وقيل لها أن تنتظر مكافأة مالية كبيرة، تهيأت لإسعاد والدتها، والمفاجأة أن تم الإعلان عن نسب النجاح إلى عاملة أخرى هي زوجة مدير الشركة، انزوت وحيدة بعيدا وعيون المدير تلاحقها، يتأملها، يرسم تفاصيلها، تنهش نظراته جسدها الممشوق حتى وإن كان لا يعنيه إنه يحمل في اعتقاده وصمة الماضي، أعلن المدير إقامة حفل كبير بالمناسبة في اليوم التالي وطلب من وحيدة أن تكون مشرفة عليه وأن تتعامل مع الضيوف الأجانب، لم تشعر وحيدة بالارتياح ولكن تجاهلت وساوسها واعتبرتها مجرد هواجس لابد من التخلص منها وأن عليها أن تتريث في أحكامها وأفكارها لتحسن التدبير والتصرف فربما تغيرت أفكار بعض الناس وخاصة أصحاب المناصب الكبيرة، فالقيل والقال منسوب دائما للطبقة المتواضعة والبسيطة. في مساء نفس اليوم انتبهت وحيدة على صوت أنين صادر من غرفة والدتها، كانت تقبض بشدة على صدرها من الألم، لم تكن المرة الأولى ولكنها أقوى بكثير من المرات السابقة، لم يكن لوحيدة المال الكافي للفحوص والعلاج والعملية الجراحية بعدما تبين أنها تعاني من أزمة قلبية، العلاج في المستشفى الحكومي سيتطلب الانتظار لفترة طويلة، تذكرت المكافأة المالية التي كانت تنتظرها يمكن أن تحل مشكلتها وتخرج أمها من أزمتها الصحية، توجهت إلى الصيدلية لإحضار دواء مسكن وهي تحمل بأفكارها أول إغفاءاتها وتلك اللمسات الناعمة الني كانت تهدهد شعرها، ، لقد تركت والدتها وراءها بالمنزل منحسرة على أنها دخلت معها مستنقع الحياة الذي لا يرحم من أجل أن تلبسها السعادة وتكسبها الشجاعة التي تمحي بها كل بغيض، وزرعت في نفسها أفكارا هي رصيدها للقادم، ، وصادفت في غمرة انشغالها وسرعة خطواتها صاحب البيت في مواجهتها يحاول أن يتحرش بها دون مقدمات، عابت عليه وذكرته أنها في سن ابنته وأنهم يدفعون له الايجار بانتظام فلا داعي لهذه التصرفات الصبيانية، صرخ فيها وأطلق القذر العنان لينهال عليها بأبشع الشتائم والأوصاف، ونهاها عن التشبه بابنته فلا مجال للمقارنة بين بناته وبنات الحرام، وأنه ليس لهم مكانا وسط مجتمع له أصوله وعاداته، غادرت وحيدة المكان خائفة وعادت إلى البيت دون أن تحصل على الدواء لوالدتها، وبررت ذلك بأنها وجدت الصيدلية مغلقة، ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد لأن الشوارع خالية ومظلمة، أعدت وحيدة مشروبا ساخنا من بعض الأعشاب المهدئة ارتاحت عليها والدتها، وفي الصباح اشترت وحيدة الدواء، ثم توجهت لاستشارة الطبيب الذي استعجل إجراء العملية في أسرع وقت قبل أن تصاب عضلة القلب بالدمار الشامل، زاد قلق وحيدة أكثر على أمها فليس لها أحد آخر في هذه الدنيا سواها، ستفعل المستحيل من أجلها، ربما كانت المكافآت ستحل مشكلة تقديم الدفعة الأولى للمستشفى، أسرعت إلى العمل وقد بدا أنها تأخرت عن الحفل، ولكنها لم تجد أي مظاهر للحفل بل وجدت صاحب الشركة بمفرده ينتظرها، تجاهل انشغالها، فعرفت أنها دخلت شبكة العنكبوت، لم يعبأ بتوسلاتها وأنه يخطئ الظن بها فهي ليست من النساء اللائي يبعن أجسادهن، قهقه طويلا وتساءل بخبث عن أمها التي باعت جسدها، ثم طلب منها ألا تخاف فلا أحد يمكنه أن يلومها أ ويسأل عن ما تعمل، الشرف لا ينفع من لا أصل لهم، وألح عليها أن لا تكترث لأمر الأخرين لأنها لا تعني لهم شيء، رفضت بشدة، فلاحقها وهمّ بالاعتداء عليها بالقوة، أبصرت قضيب الستائر موضوع جانبا معد للتعليق فضربته به ضربة أوقعته في الأرض، فتشت جيوبه تبحث عن المكافأة، وجدت مبلغا كبيرا فأخذته، تذكرت وهي تهم بالخروج ما قرأته في الروايات التي كانت تقرأها، فمن الممكن أن تقبض عليها الشرطة بتهمة يلفقها لها المدير فلجأت إلى حيلة قبل أن يفيق وهي أن تجرده من كل ملابسه وقامت بتصويره عاريا في مكتبه، ثم غادرت مسرعة.

في اليوم التالي جن جنون الرجل واتصل بها يأمرها بالحضور إلى الشركة، فبادرته بأنها قدمت استقالتها، توعدها بأنه لن يتركها في حالها، تمكنت أن تجر لوالدتها العملية الأولى وخفّ الألم عليها، وبقيت العملية الثانية التي يجب أن تجريها بعد مرور سنة على الأولى، بدأت وحيدة تشعر أن الدنيا تضيق عليها أكثر، وجدت عملا آخر لا يتطلب تقديم ملف تفصيلي عن المتقدم له فرضيت به على الفور، كانت تعود لبيتها كل مساء فتدون على الكمبيوتر مذكراتها اليومية التي تحمل أقصر درجات الاستنكارفي بحث الكثيرين عن الرذيلة، وتتساءل عن سبب سعي بعضهم لإسقاط الأنثى ذلك المسقط الجنسي المعيب للمجتمع الذي يعشعش في دخيلته البحث عن اللذة في الحرام، كتبت كثيرا لتفرغ مظاهر المعاكسات والمتناقضات في مجتمع تكاد تعمه الفوضى، المخدرات في الشوارع، اطفال صغار هجروا المدارس لبيع الحبوب المهلوسة، مطاردات الشرطة لا تنتهي، أمهات يقمن بصبغ شعور صغارهن بألوان قوس قزح وتستعرضنهم لممارسة الجنس دون الخوف من احتمال أن تكون هناك فضيحة الحمل، أمهات يبعن ضمائرهن من أجل الحصول على ما يشاهدنه في مواقع التواصل من أبهة زائفة ومتع زائلة، الجميع يبيع كل شيء، لا يهم كيف أو متي أو بكم المهم " المال" ولا تعني هنا كلمة الشرف لهم شيئا، أنهم أصحاب ضمائر نائمة وأكثرها ميتة، يعبثون بمستقبل أبنائهم وبنات غيرهم، المهم تحقيق المكسب المالي الذي يتحصلون عليه في الظروف الصعبة. كانت وحيدة تفرغ كتابتها باللغة الأجنبية في موقع أوروبي، دأبت على الكتابة كل ليلة بعد عودتها من العمل كانت سعيدة بالأمر رغم تعاستها طوال اليوم بسبب ما تلقاه من مضايقات وتحرشات.. ومساومات، إنه مرض استفحل حتى استحال أن يفيد معه العلاج. تتذكر وحيدة يوم أبلغتها احدى الموظفات أن المدير يريدها وأردفت "أنه برفقة مدير شركة للأدوية وتناهي إلى سمعي أسمك، وكان الحديث يدور حولك.. " بادرها المدير فور دخولها مكتبه بالسؤال عن ملفها الإداري الذي لم تودعه بعد، تعللت بانه لم يسألها عليه أحد، تأملها بنظرات استهزاء وتوجه إليها بكلمات يقصد أحراجها وتجريحها أن مثلها لا يهم وضعه، فالأمر واضح، عرفت إلى أين يريد أن يقود الحديث، تشجعت وتجاهلت الموضوع، وأرادت استيضاح الأمر، فكان أن طلب منها المجيء إلى العنوان المكتوب في ورقة سلمها لها للمشاركة في موعد مهم مع أحد العملاء، وجدت وحيدة نفسها تحارب في معركة خاسرة، إنها تواجه حملة تكالب كل الكلاب المشردة في صورة أخرى ببدل محترمة، لم يبق الأمر إذن محصورا في الطبقة المتوسطة والبسيطة أو الفقيرة، لقد اصبح الجميع يتباهى بالآثام في العلن، لا فائدة من الركض في نفس المكان، إنه نفس السيناريو يتكرر معها وليس هناك من يسند ظهرها، عبثا تبحث عن ما قرأته في الكتب، المشاعر النبيلة، والمواقف الشريفة، الأخلاق الحسنة.. إنه صراعها الدائم مع الحياة التي تحياها ولا تعيشها،  ضاعت أهدافها التي طالما حلمت بها رفقة أمها صالحة، صارت الحياة بالنسبة لها فوهة فرن كبير ينصهر فيه جسدها وأحلامها وأفكارها، أتعبتها ضغوط البشر، فكتبتهم ووصمتهم بكل تفاصيل الرذيلة فيهم، لم يعد يهمها ما يقولون عنها فما دام الإنسان لا يريد أن يتخلص من أسر شهوته العابرة، فضّلت أن تسير قليلا حتى يحين موعدها المقرر الذي تراه مقززا، تعلم جيدا أن الأفاعي تلاحقها أينما وجدت، وأنها منبوذة في المجتمع، لذلك سئمت أقاويل الناس، وضاقت بأشكالهم المقيتة، انتبهت على وصول رسالة على هاتفها، إنه صاحب دار نشر بالعاصمة الفرنسية باريس، يدعوها إلى حضور التوقيع على طباعة ونشر كتابها بعد أن حققت كتاباتها عدد مشاهدات وقراءات قياسية، وأنه يمكنها أن تحصل على التأشيرة وتذكرة السفر من مقر السفارة الفرنسية، لم تصدق وحيدة نص الرسالة المفاجئة وكأنها في حلم تخشى أن تستفيق منه، لقد جاءتها الرسالة في وقتها بالضبط، أسرعت إلى بيتها وأخبرت أمها فاستبشرت ونصحتها بالسفر وطالبتها بتحقيق ما كانت تطمح إليه وأن لا تدع أحد يستغلها مهما كان، اعترفت لها وحيدة أن نجاحها كان بفضلها، والكتابات التي كانت بتوقيع الفتاة الغامضة التي تعيش في الزوايا العتمة قد آن الأوان أن ترى النور، لقد تغير موعد المساء، وتغير مساره، ستذهب لاستلام التأشيرة لها ولأمها وستشتري لها تذكرة السفر معها فما أصبح لهما بقاء وليس لهما متكأ سوى جدران مهترئة، وليس لهما من نصير، إلى متي يبقين مرتجفات، خائفات، يعانين برد الحياة وجوعها وسياطها وقوانينها، الحب هنا لا يساوي بين الجميع، أنهما تدفعان ثمن خطأ لم ترتكبنه.

أخبرت وحيد ة الشركة أنها لن لا تستطيع أن تحضر مساء بزعم أن والدتها مريضة، وعليها أن تأخذها للطبيب، وربما في غضون اسبوع تعود للعمل، كانت وحيدة قد أنهت خلال هذه الفترة كل أمورها ولم تخبر أحدا حتى صاحب البيت. وفي صباح شتوي بارد توقفت سيارة في ساعة مبكرة أمام منزلها ونقلت الحقائب بكل هدوء دون أن تثير انتباه الجيران، انطلقت السيارة إلى المطار، وقبل السفر اتصلت وحيدة بصاحب البيت تخبره بمغادرة المنزل وان أجرة البيت داخل مظروف في صندوق بريده، حينها أحست وحيد براحة نادرة فلقد أتمت المهمة بنجاح.

وصلتا باريس واتجهتا إلى الفندق المقرر ثم عقدت لقاء مع صاحب دار النشر ووقعت عقدها ونالت حقوقها المالية وأخبرته أنه ستقيم في فرنسا إلى الأبد فسره ما سمع وساعدها على إيجاد مسكن ومنصب عمل، والأهم أنه لم يسألها عن أصلها و فصلها، ما كان يهمه هو انتاجها، شعرت لأول مرة بأن كيانها غير مرتبط باسمها، ولم تجد من يساومها لأنها مجهولة النسب. ظل مدير الشركة مصدوما بمجرد علمه بخبر سفرها إلى " وجهة غير معلومة " وكانت الصدمة الكبرى عندما بثت مختلف القنوات الفضائية والصحف الأجنبية خبر نجاحها وانتشار كتابها، لقد حققت ما تريده بدون مساومات، حافظت على عزتها وشرفها بعيدا عن كل من أراد استغلالها بعبارات مبتذلة سئمت سماعها كأسطوانات أصابها الشرخ وظلت تتردد دون أي معنى، إنها تولد من جديد على أرض جديدة.. وبعيدة، لا تحمل أي هوية بين أوراقها، تحمل دينها وأمها ومسقط رأسها، ستكون المرأة الناضجة التي يمكنها أن تصمد.

أثناء سيرهما في شارع "ساندوني " الباريسي الطويل تأملت صالحة وجها ابنتها وحيدة فرأت ما لم تكن تراه من قبل، رأت بريقا جذابا وتألقا جميلا في عينيها ولمحت مسحة فرح حقيقية على وجهها، احتضنت وحيدة يدي أمها صالحة وهي تعترف أنه أخيرا وجدت ملاذها وملجأها الدائم الذي ينسيها هموم طفولتها المجروحة، أنها مع والدتها في عاصمة الجن والملائكة، ربما سيكتب لهما أن تكونا بجانب الملائكة، لا يريدان العيش بين وجوه أنذال ترسم الشرف ويمزقون أثواب الشرف ويمزقون معه الأمنيات، ويحيلون الابتسامات الدافئة إلى صقيع، هنا يجدن حرية الاختيار، لا مساومات من أجل لقمة العيش، ولا إساءات لأحد كونه ابن خطيئة، عبرت الأم صالحة عن عميق مشاعرها بسعادتها إلى جانب ابنتها، حيث تذيب نظرة واحدة منها كل مشاكل الدنيا وضنكها، الانسان عظيم بمواقفه تجاه الآخرين مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه دون تهميش، المرء يقاس بفكره وعطاءه وعمله وأخلاقه، تشعر الأم من فرط سعادتها أنها تود أن تغني وترقص مع المطر، وتودع ذلك الماضي التعيس الذي لاحقهما طويلا، ستتأنقا لأيامهما القادمة دون أن تلتفتا خلفهما.

***

قصة قصيرة

صبحة بغورة              

 

يقولون إن الغيمَ يسبقُ حامله

وتأتي إلينا من بعيدٍ قلاقله

*

وتنثرُ مما جادَ فيها وتشتكي

فصولٌ بنا مرت ولم نرِ نازله

*

وأجملُ ما فيه انتظار وغبطةٌ

اذا همرت أرجاءَنا وهي قاحله

*

كأن وميضَ البرقِ حينَ انبلاجهِ

بريقُ عيونٍ ساحراتّ مخاتله

*

تلاطفني عمدا وللشيب حرمة

تقول حذار من كثير المجامله

*

وأصغي لها صغي الشغوف لعازف

وانظر فيها بين عطف وفاصله

*

وتفضحني في القول رقة شاعر

واخفي الذي في القلب حين أماطله

*

وتخذلني عيناي حين لقائه

فافركها عمدا لكي تبدو هاطله

*

فلا أنا ممن مستجيب لذي الهوى

ولا انا بالصمت الرهيب اجادله

*

فان كانَ وصفي عاجزا قلتُ آسفا

فهذا الذي بالنفسِ والنفسُ ناحله

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

اوتار قيثارة قلبي

تتمايل بلحن مضيء

لكل حفيف ورقة

ولكل زقزقة

عصفورة

مضيئة

حين الفجر وحين

اكتمال القمر

2 -

بهجة الفراشات

والنحلات في

الحقول المضيئة

ترسم على

مرايا قلبي

شمسا شفقا

ازرقا وقوس قزح

3 -

قوس قزح

الصباح

يدخل من

نافذة قلبي

ليعكس على

مراياه

روعة الحقول

روعة الينابيع

وبهجة الشجر

***

سالم الياس مدالو

 

في نصوص اليوم