نصوص أدبية

نصوص أدبية

إضحكوا ما تشاؤون منّا

فنحن بأعينكم مُضحكون

دغدغوا الخشبَ الصُلبَ

حتى يلينَ

فتنهضَ للرقص تلك الكراسي كما ترقصون

إفتحوا منفذاً للضفادع

كي تتحرّرَ من ظلمات البطون

علّقوا كالقرود بأعناقنا عُلَبَ التنكِ الفارغاتْ

وادّعوا أننا إذ نجوعُ

نبيعُ كرامتنا بالفتاتْ

أوهموا النائمين

بأنّا خرجنا كما الجنُّ من تحت أجفانهم

فاكتسبنا ملامحهم

ونَمَتْ من قروح الندوب أنوفٌ لنا وعيون

أطلقوا خلفنا في الدروب أرانبكم

تتقافزُ فوق مناكبنا

وتعيثُ بهيبتنا

أنهُ زمن القافزين

فأهلُ الحوافر من قبلُ قد أسلمونا لأهل القرون

**

أضحكوا ما تشاؤون منا

فنحنُ بأعينكم مُضحكون

ألسنا دُمىً إصطفاهى المُهرّجُ حيناً

ومن ثَمّ قد مَلّها فرماها كِسَرْ

أضحكوا

لا اعتراضَ لنا أيها الفائزون

ففي إختبار السعادة لم نكسبِ الفوزَ منذ قرون

سنُرجيءُ ضحكتنا لغدٍ

فأفواهُنا اليومَ مزمومةٌ بالإبرْ

ولكننا سوفَ نضحكُ

حينَ تبينُ دمامةَ أوجهكم

بعدَ أن يغسل الصِبْغَ عنها المطرْ

***

شعر: ليث الصندوق

حِينَ الهَديل يؤجِّج حَنينِي

الروحُ تتوق لأقصى مَداها

يَنهَمرُ قوسُ قُزَح في قلبِي

باحثاً عن ألوانٍ جديدةٍ تعكسُ أسرَارَه

يناديكَ جدول العبير الشامي

لسفرٍ نَجمِيٍّ إلى روضةِ العَرش

إلى الِلحاقِ بالأمل

بريقٌ جليديٌّ يتأهبُ في عينيكَ

أطلقِ الحبَّ المُطلَق بداخِلكَ

زفرةً زفرة

الحُبُّ يقظةٌ

لنْ يستيقظَ بِدُونِي

نظراتُكَ تُعرِّيني

توسَّدْ صدري

استَحِمَّ بِضُوئِي على ضِفافِ الحياة

ودَعْ حَمائِمَ الشَّغف تُحلِّقُ

*

في خَيالي ويَقيني

الحُلمُ والحَقيقة ..

تِلكَ حكايةُ أُنثى

استَهواها تَسلُّق الشُّعاع

فعادت فراشاتٍ ملونةً لكُلِّ الفُصول

أغوَاها عَبقُ السَّماء

فتَحوَلت نَجمةً

أغرَاها وفاءُ النَّدى

تَغفو في كُلِّ غَسقٍ بينَ شَفتَيه

حينَما يَتَسلَّلُ الأمانُ إلى مَعطِفِي

نُغَنِّي معاً.. نَطيرُ معاً..

***

سلوى فرح - كندا

 

معطّرَةٌ بالسّواد

أكُفُّ الحمام وأجنُحُها.

ومُوغِلةٌ في القتامةِ

أيْدي الضِّباعِ وأعيُنُها.

وهذي النّوافذُ

أتْرعَها وَرَقُ اللّيلِ  والْوَجَلُ.

وهذي المناضدُ

نَضَّتْ قَرَابِينَها،

وبين الْمَجامِرِ

ألْقَتْ عناوينها.

تَداعَى الذّبابُ إليها

يَلُوكُ  غُبارَ الْفُتاتِ على جمْرِها.

عليها هَوَى وَرَقُ التُّوتِ لمّا ذَوَى.

**

مُعَطَّرَةٌ بالسَّوادِ

أكُفُّ الْحَمامِ وأَجْنُحُها.

ومُوغِلةٌ في الْخَواءِ

مَآقي السّماءِ وأَضْلُعُها .

وكَعْبُ " أَخِيلَ "

بها تَتَلَهّى الْوَقَاوِقُ والْعَنْكَبُ.

وأنتِ هنا

يتَجَرَّعُ وجهُكِ

زرقَةَ بَدْرٍ ينامُ على الْقَرَفِ.

كأنّكِ مريمُ

تكتُبُ شوْقَ النَّخِيلِ بِطُهْرِ الْيَدِ،

وتغرِسُ في الطّينِ

مُضْغَةَ حَرْفٍ

يَنِزُّ ضياءً على الْخَزَفِ…

وتسألُ عن زكرِيَّاءَ نخلَتَها،

وتسألُ عنه جداولَ

يَمْتَشِقُ الْعنكبُوتُ منابِعَها.

**

كأنّكِ أختٌ لِهارونَ

تَنْأَى بِغُصَّتِها.

تُرَتِّبُ أنْفاسُها جُمَلَ النَّصِّ

في الْمُقَلِ.

ويَنْضُو بأَجْراسِها

صَدَأُ النَّضَدِ.

ومِنْ خَطْوِها

يتدَفَّقُ ماءُ الأساطير

في النُّجُدِ…

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

ما كان لي ان أقف هذا الموقف، لكن شاءت الأقدار ان ألبس اساور من حديد، صدقوني لم يكن بيدي حيلة ولكني أعيش خارج قوسين عما يدور حولي.. فالمسالة أني مثل حبة حنطة طحنت برحى الزمن دون رحمة لأن مالكها لدية السلطة والقدرة على ذلك، فما كان عليه والدي هو السبب، لكن هي الحياة تلف بورق صحيفة كل وليد يولد في تلك المحلة البائسة.. سارعت خطاها الليالي ولفتني المساءات حتى بلغت من العمر ما جعل الرجل يتساقطون عند حذائي الذي ارتديه يتسابقون لنيل رضاي، لا اخفيكم كنت ملكة وأنا أراني ألطم هذا وأبعد ذاك وأزج بمن أريد الى خارج المكان.. حتى في ذات يوم سمعت ان والدي قد قُتل في صراع على قنينة خمر.. أو هكذا أُشيع، يا للعار قنينة خمر وجسد عاهرة، مرت مسألة قتله مثل فك رحى الأيام حين يدور تطحن كل ما يصل الى فمها هي الايام وديدن الكار الذي ولدت فيه، حزنت أم لم أحزن المسألة في داخلي ميتة في الأصل فلا مشاعر أبوة عشتها ولا أحاسيس بنوة تمتلكها نفسي غير أني اختليت لبضعة أيام مع نفسي فَصَلت لي حياتي كأنها أوقفتني على جبل أشاهد كيف كنت أحياها وأعيشها والنسيج الاجتماعي الذي ولدت فيه، فلا تعليم، ولا حلم، ولا شرف، ولا كرامة مجرد حياة نفاق وخراب وجريمة تدمير للانسان.. الإنسان همست نفسي ماذا تعرفين عن الانسان؟؟ وجدتني لا أفقه الرد فابتلعت لساني وراودتني فكرة الخروج الى العالم النظيف الآخر، كيف واتتني الفكرة؟ ولم طرأت في عقلي؟؟ لا أعلم السبب؟؟؟ سارعت في تلك الليلة وقبل أن أذهب جلست مرة ثانية أردد على نفسي مخاطر ما أنوي فعله وطلبه، غير أن هناك من يدفع بي للهروب الى خارج العالم الموبوء كما سمعتها تسميه نفسي بعدها ابتلعت التسمية غير عارفة بمعناها الحرفي، فذهبت الى صاحب الرحى الكبير الذي كان يحيط به كوكبة من رجال عصابته، رحب بي وحاول ان يواسيني بلعابه الذي يتساقد من فمه العفن بعدة كلمات، كنت أعلم بداخلي أنها كاذبة تصدر من منافق مرائي.. وما ان أفرغ بما على لسانه حتى قلت دون مقدمات أريد ان اعيش خارج هذه البيئة، أريد ان أرحل عن عالم الوضاعة والفساد والمومسات والجريمة.. فجأة صمت الجميع كأن على رأسهم الطير، الجميع يتطلعون الى ما يخرج من فمي وعلى لساني حتى أفرغت مافي جعبتي من مفردات لم أعي صداها أو شدة وجعها، فجأة دوت ضحكة منه التي كانت على شكل قهقهة عالية ثم تبعه قطيع الخنازير يضحكون على قهقهته وهو يترع من زجاجة الخمر ما يجعله يختنق بالخمر ولعابه المتطاير.. فرمى بها بعيدا وقد اصابت أحدهم فذهب يتلوى، فجأة!! أمسك بيدي وهو يقول:

أكملي يا حلوتي أو أعيديه ثم دعيني أسمع ما قلته قبل قليل.. أتريدين الخروج من عالمك؟ علم ابوك وقبله جدك ومن قبله امك وجدتك.. أي هراء هذا!! إنك يا فتاة مُلكي وأمر حياتك وحتى أنفاسك هي رهنا برغباتي، تركتك على سجيتك لأن عاهدت الحقير والدك أن لا اقترب منك إلا حين يموت.. كثيرا من الليالي كنت أتحرق وأنا أرك تنضجين كثمرة من التوت، صارعت رغبتي وطويتها الى أن فاض بي ومات أبوك الحقير، وقد مَنيت نفسي بك، ستكونين جارية بين يدي تنفذين رغبتي كيفما أشاء وأشتهي وها أنت تلقين بالترهات رغبة منك في ترك كارك وكارك اهلك القذرين.. اقسم لولا أن لي رغبة بجسدك لكنت قتلتك بيدي.. لا.. لا أوسخ يدي بل بيد أي خنزيز من هؤلاء..

جميع من يسمعونه يتحدث يبتلع لسانه دون أي يُحدث صوت زفير أو شهيق.. كان الحنق يغمر وجهه وهو يفرك أصابعة برأس الخنجر الذي في خصره.. لم أعي المشهد بكل السيناريو المكتوب عن القدر صرخت في وجهه.. ماذا تقصد يا ابن الكلب؟؟ هل أنت من قتلت والدي؟ كي تفرغ لك الساحة حتى تمتلكني؟

- أظنك فهمتي الآن، سنين وأنا اتجرع الشهوة سم زعاف، أرى الرجال يحيطون بك كالذباب وأنت تهشينهم بعيدا عنك، لكنهم يعاودون الطنين حولك.. كنت قوية جسورة حتى في ذات مساء حاولت وعرضت شرائك من والدك الذي رغم أنه كان سكرنا إلا أنه رفض بشدة وهددني إن أقتربت منك سيقتلني وقبل خروجه صفعني بقوة.. شعرت بالإهانة ولأول مرة في حياتي.. كانت رغبتي بقتله قوية وأجلتها، وأجلتها لأن والدك كان يدفع لي أتاوة كبيرة كي يبقيك على ما أنت عليه، قلت فليكن لوهلة لغرض في نفسي فهذا الحدث لم يعلم به سوانا أنا وهو.. إبتلعت مرارة الصفعة وشحنت الغريزة الى الدفع بأحدهم لقتله، وكان الأمر وها أنت بين يدي ملكا لي وتتحدثين بالترهات عن ترك بيئتك بعيدا عن رغبتي وشهوتي ومشيئتي أمجنونة أنت!!؟؟ أقسم سأقتلك وقبلها سأغتصبك إرضاء لنفسي وشهوتي.. أشار الى بعض رجاله بأخذي بعيدا الى غرفته التي لا يدخلها إلا من يريد أن يضاجعها.. بل يغتصبها حاولت الفرار من بين أيديهم لكن كيف وأنا بين رجال ديدنهم الجريمة وإطاعة الأوامر، سحبوني بقوة حتى أدخلوني غرفته، رموا بي على فراشه.. مر شريط حياتي فوجدتني أني لا زلت فتاة باكر، لم أعلم أن والدي كان يدفع أتاوة لحمايتي وبقائي فتاة عذراء.. جننت وصواعق الغضب تضربني وأنا أصرخ حقراء مجرمين سفلة.. لكن صراخ في حانة تدوي بالصخب والجلجلة.. دخل ذلك الشيطان وهو يمسك بقنية الخمر يلوح لي بالقول ستخضعين لي كالجارية، سأجعل منك ملكة لزمن ومن ثم سأحولك الى عاهرة من الدرجة الأولى أو ربما أبيعك الى أحدهم.. أظنهم سيدفعون لي بك مبلغا طائلا.. كانت ردة فعلي اني قمت بالتف في وجهه القذر والصراخ محاولة الهرب لكن أين للفريسة من هرب وهي في قفص المجرم المرتزق.. هجم علي تملصت منه، لكنه أمسك بي، عنفني وضربني حتى تراخت عضلاتي، أسلمت نفسي لواقعها كانت أنفاسه نتنة ورائحة جسده ينفر منها الخنزير، قاومت دفعت به في محاولة بائسة قاومت .. وقاومت لكن محاولاتي بائت بالفشل، شعرت ان خطيئة والدي ووأمي وتلك المنطقة قد دفعت بي كي أكون بذرة خطيئة، وها هي أنفاسي المتقطعة تشهد بذلك.. أفرغ جنون هوسه على جسدي بعد أن مزق ثيابي وجعلني عارية، كالحيوان سارع بنزع ثيابه ثم رمى بنفسه عليّ وأنا أشاهد وأسمع خنخته دون حراك أو ردة فعل بإرادة أو دون إرادة.. فجأة تلمست يدي الخنجر الذي كان في خصره قريب مني على الفراش فأمسكت به ودون تردد أو شعور بخوف، غرزته في خاصرته مرة وأخرى حتى تغطيت بدمه وانا أصرخ الى الجحيم بك أيها الخنزير الى الجحيم يا حيوان يا قاتل أبي..

- لم أعي بعدها إلا، انا اقف أمام ضابط شرطة مرتدية أساور الحديد، يحقق معي عن الجريمة التي إقترفتها لا عن الجرائم التي أقترفها من قتلت والبيئة التي كانت تحت العيون المغمضة للقانون.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي

كانَ فتىً مِنْ فتية الزُّقاقِ

الضَّيِّقِ ضيقَ قلبِهِ الخفَّاقِ

أيامَ كانَ الحبُّ مبنيّاً

على الصَّمتِ

ومرسوماً على الأوراقِ

بالوَلَهِ المحكومِ بالأطواقِ،

*

الفتى قيسُ البغداديُّ

كانَ يقفُ على رأسِ الطَرَفِ*

الحارِّ اللاهب لهيبَ قلبِه،

ينتظرُ مرورَ ستِ الحُسْنِ والجمال،

بعباءتها المُلتفَّة بقدِّها الممشوق

مثلَ الغزال،

والتفاتتِها الذكيّةِ العابرة

قاراتِ الشَّوقِ

سهماً.....

مارقاً خاطفاً

ترميهِ سلاماً..

بطَرفِ عينها النجلاء

فتطعنه طعنةً نجلاء

لا تُبقي في قلبهِ ولا تذر دَقةً

إلّا وجعلتْها شذرَ مذر،

تتسمَّر..

على جدرانِ بيوتِ الزُّقاقِ

المتصدِّعةِ،

لتتصدّعَ وتتشقّقَ

أكثرَ مما هي تحملُ بين طيّاتها

منْ قصصِ الحبِّ العذري

واللاعذري،

دونَ أنْ يرفَّ جفنٌ للعادياتِ

خلفَ الأخبار

الصَّاحياتِ

بعيونهنَّ الوسيعةِ

وآذانِهنَّ اللاقطاتِ

ليلَ نهارَ،

وألسنتُهنَّ مِذياعٌ عابرٌ للأزقةِ

والبيوتِ

بألفِ ألفِ قنبلةٍ شفهيّةٍ ....

*

الفتى قيسُ البغداديُّ

لم يكنْ يُعيرُ

للقنابلِ الشَّفهية انتباهاً،

فشفتُهُ متشقِقةٌ

منْ فرط حرارةِ الشَّوق

وجمرة التَّوق،

وهي في جفافٍ مُقيم،

*

الفتى قيسُ البغداديُّ

كانَ يحبُّ فريدَ الأطرش،

وصوتُهُ - سبحانَ الله -

كأنّهُ توأمُ الأطرش،

ولم يكُ قيسُ البغداديُّ

أطرشاً بالزفَّةِ أبداً

- معاذ الله -

فأذناهُ حسّاستانِ

تلتقطانِ

صوتَ الحبيبة

ووقْعَ خُطاها

منْ بدايةِ الزقاقِ...

حتى رأس الشارع الطويل

- شارعِ الكفاحِ -

منْ أجلِ قلبِه المُتيَّم بالحُسنِ

والعيونِ السُّودِ،

والعدلِ الضائعِ..

بين الأرجلِ....

والغيلان....

***

عبد الستار  نورعلي

نوفمبر 2025

...................

- الطَّرَف: بمعنى الزقاق بالعراقية

أتبعيني حيثما كنت أكون

أتبعيني وأكسري طوق السكون

*

وتماهي سير نجم في السما

حب ليلى منذ أسرى في العيون

*

كنت أهوى حب ليلى في العراق

فيض قيس ما تغنى في المجون

*

ما حلمتم كيف قس في الديار

أنا لم أخرج وللشرع حصون

*

ليس عدلا أنصف الهجر القضاء

كان وصبا ثم أشرى من سجون

*

أذكريها قول صدق من بعيد

أتبعيني وأكسري طوق الشجون

*

ليس زعما كل ما أشهى الغيود

لك حسن زاد من لسع العيون

*

وأرغميني ابلغ الروض هناك

بات عرفا وسرى عند القرون

*

همسة تزجيك لحنا في المساء

كان عزفا ليس عشقا قد يخون

*

وركضنا نجري في الوادي البعيد

ليس وصبا أنما نخشى الظنون

*

ورأينا عندما نهوى مساء

ذاب قربا هوى مع لعق الفتون

*

كم رجونا ثملا كأس الشراب

من سقاني كان للدفء حنون

*

دون رصد من ثقوب في المكان

يا لأمري غيث أرسى من هتون

*

أن لمسنا وصب برد في الشتاء

لا نبالي أنما الحب شؤون

*

بعد هذا ما دهاك من سؤال

ما كفاكم من سؤال عند دون

*

وأتينا نهمس الريح سؤالا

ريح ليلى أنبؤني من تكون

*

أذكريها كم طرقت من غياب

لك باب مد للكف الدجون

*

ليت ليلي  بعد هذا ما تريد

يا لشعري حب ليلي من يصون

***

علي جبار الاسدي

باللهِ قلْ ليَ: من منّا هوَ الحجرُ؟!

أراكَ حيّاً وموتى نحنُ نفتخرُ

*

اليومَ نكتبُ أشعاراً ولا أحدٌ

يصغي إلينا وقد يغتالُنا الضجَرُ

*

وأنتَ كنتَ إذا ما قُمتَ تُنشدُهم

أصغى إليكَ الندى والصخرُ والمطَرُ

*

أبا المعاني التي بِكْرٌ موارِدُها

ونحنُ أشعارُنا في جُلِّها هَذَرُ

*

لقد هدمتَ عَمودَ الشِّعرِ عن تَعَبٍ

ونحنُ نكسِرُ وزناً ثُمَّ نُشتَهَرُ

*

لم ترضَ معنى مُعاداً قطُّ في لغةٍ

فَرُحْتَ تنحِتُ من قلبٍ وتبتكِرُ

*

قلتَ: السفينةٌ بنتٌ للحديقةِ إذْ

لم تَمخُرِ البحرَ لولا أنّها شجرُ!

*

إذا مدحْتَ تمنّى الميّتونَ مُنىً

لو أنّهم طالَ فيهم ذلكَ العُمُرُ

*

لكي ينالوا مديحاً منكَ في غُرَرٍ

يفنى الجميعُ ولا تفنى هنا الغُرَرُ

*

وإنْ رثَيتَ تمنّى العائشونَ مُنىً

بأنْ يكونوا همُ الموتى ليَنتشِروا

*

وإنْ تغزّلْتَ في رُوْدٍ مُهَفْهَفةٍ

يكادُ يسقطُ من عليائِهِ القمرُ

*

عابوا عليكَ انتقاءَ اللفظِ مُعتَسِراً

وهل تُعابُ على أصدافِها الدررُ ؟!

*

يا أيُّها الطَّوْدُ يا أعلى الذرى أبداً

لقد نظرْنا وخِفْنا العُنْقُ تنكسِرُ!

*

لا البحتريُّ ولا الأعشى ولا ابن أتى

ولا ابن زيدونَ لا بشّارُ لا عُمَرُ

*

تُناطحُ المُتنبّي في ممالكِهِ

كلاكما ربَّةٌ للشِّعْرِ لا بشَرُ!

*

إيهٍ حبيبُ وعَمُّوريّةٌ زمناً

صارت فِلِسْطينَ والتاريخُ ينتظرُ

*

هل ثَمَّ مُعتصِمٌ فيكم يُحرِّرُها؟

فقد تبخَّرَ ماءُ الكأسِ والنُّذُرُ

*

يا آمنَ الدارِ لا تأمَنْ فما ولدَتْ

حياتُكَ الصَّفْوَ إلا التوأمُ الكَدَرُ!

*

اليومَ تُسبى فلسطينٌ وأنتَ غداً

من مأمَنٍ مُطمئنٍّ يُلدَغُ الحَذِرُ

*

ويا حبيبُ لقد حلَّتْ بمَوصِلِنا

مجازرٌ والضحايا نحنُ لا البقرُ!

*

كالمسرحيّةِ؛ دَورُ الموتِ كانَ لنا

ومخرجُ الحربِ عنّا كانَ يستترُ

*

أمّا الجماهيرُ كانوا أهلَ جِيرتِنا

وعاليا ضَحِكوا والطفلُ يُحتَضَرُ

*

وصارَ دجلةُ قبراً للجميعِ هنا

يا حافرَ الماءِ وَسِّعْ ضاقت الحُفَرُ

*

بالأمسِ قد هدَّموا تمثالَكَ الوَقَفَتْ

فيهِ العصافيرُ لمّا هدَّها السفرُ

*

رأى شُهودُ عِيانٍ منظراً عجَباً

أنَّ الفُتاتَ منَ الأحجارِ يَستعِرُ

*

وراحَ يُقذَفُ مثلَ الجمرِ مُلتهِباً

حتّى استقرَّ نجوماً ليسَ تندثِرُ

*

فيا حبيبي أبا تمّامَ مُدَّ يداً

وخلِّ كفّي بكفٍّ منكَ تَشتجِرُ

*

لعلُّ نُسْغَكَ يجري في عروقِ دمي

إذن سيَنْبُتُ من أشعاريَ الزَّهَرُ

*

أمامَ نُصْبِكَ إنِّي قد وقفتُ وكم

من كَرْمَةِ الشمسِ كانَ الظلُّ يُعتَصَرُ

*

وقفتُ أتلو عليكَ الشِّعْرَ يا مَلِكاً

فإنْ رضِيتَ أَجِزْني يَخلُدِ الأثرُ

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

لا أدري كيف صعدت "لُوبانيّةُ" الطفولة

من قاع النسيان...

حلوى مطاطيّةٌ بيضاءُ

كانت تتدلّى من أصابع البائع المتجوّل

مثل خيطٍ من نورٍ

يُساقط على أفواهنا

ابتسامةَ الكون الأولى.

*

كنتُ أقفُ أمام المدرسة

وأرى العالمَ يُطوى

في تلك القطعة الناعمة،

قطعةٍ تلمعُ كروحٍ

لم تُمسّ بعدُ

بخدوش الحياة.

*

واليوم،

بعد عمرٍ يفيضُ بالظلال،

استدعيتُ مذاقَها إلى فمي -

يا للعجب -

كأنّها لم تغادرني يومًا،

كأنَّ ذاك البياضَ

ما زال يحرسُ طفولتي

من الصدأ.

*

ربّما لأنّها كانت حلوةً

كحلمٍ لا يعرف الخوف،

ورقيقةً

كالخطوة الأولى نحو ضوءٍ لا ينطفئ،

وناصعةً

كقلبٍ لم يختبر بعدُ

موتَ الكلمات.

*

وربّما…

لأنّ الإنسان، حين يشيخُ قليلًا،

يبحث في فمه

عن طعمٍ يعيد إليه إسمه،

ويعيد إليه تلك اللحظة

حين كان يظنّ

أنّ العالمَ

قطعةُ حلوى

تذوبُ ببطءٍ في القلب.

***

مجيدة محمدي

 

لم يكن مقتل الرئيس مجرّد حادثٍ سياسيٍ عابر، بل كان الشرارة التي أطلقت النار الكامنة في هشيم الوطن. ففي اللحظة التي سقط فيها جسده مضرجًا بدمه، سقطت معه هيبة الدولة، وتهاوت الأعمدة التي طالما أوهمت الناس بصلابتها. لم تمضِ ساعات حتى غادر أفراد عائلته خلسةً نحو الحدود، يتبعهم كبار المسؤولين كمن يهرب من طوفانٍ قادم. أمّا الشوارع، فقد امتلأت بغضبٍ يشتعل كوقودٍ أُريق منذ زمنٍ طويل ينتظر من يُشعل فتيله.

حينها انفتحت أبواب الجحيم على مصاريعها؛ خرج الغاضبون والمتمردون والناقمون من كل صوب، وسقطت لغة الخوف أمام هدير الحشود. حاول رجال السلطة أن يقاوموا بالسلاح، لكن الرصاص لم يعد يرهب أحدًا. سقط كثيرون في الطرقات، وتلطّخت الأرصفة بدماء المقهورين، حتى بات الموت مشهدًا عابرًا لا يثير الدهشة.

في ذلك الفراغ الذي خلّفه غياب الدولة، صعدت قوى الظلام من جحورها. تقاسمت العصابات المدن كما تُقسَّم الغنائم، يرسم كل فصيل حدوده بدماء الآخرين.

صار

الانتماء هو القانون...

العشيرة هي الوطن...

والسلاح هو القاضي الأعلى...

في كل زاويةٍ ولد تاجرُ حربٍ جديد، يبيع الخراب كسلعةٍ ثمينة:

سماسرةُ سلاح،

مهرّبو مخدرات،

تجارُ أجسادٍ...

يختبئون خلف شعاراتٍ جوفاء.

تسلّقوا الخراب بخفّة، حتى صار لكلّ منهم مملكة صغيرة تحرسها البنادق وتُغذّيها الرشوة والخوف.

استُبيحت المدن كما تُستباح الغنائم بعد معركةٍ طويلة. صار القتل وسيلةً لتصفية الحسابات القديمة، والخطف طقسًا يوميًّا لإذلال الآخرين. كانت النار تأكل البنايات التي حملت يومًا اسم "مؤسسات الدولة"، ولا يبقى منها سوى الرماد. النهب في وضح النهار. تُقتلع الأبواب والنوافذ ويُحمَّل البلاط من أرضيات القصور التي هجرها أصحابها أو قُتلوا داخلها.

لم يعد أحد يسأل: "لمن هذا؟"

فكلّ ما تقع عليه العين صار ملكًا للقويّ، وما لم يستطع حمله يتركه ليعود إليه لاحقًا مع مزيدٍ من الرجال والسلاح.

المهرّبون تنفّسوا، كما لو أُعيد إليهم الهواء.

تحوّلت الحدود إلى أسواقٍ مفتوحةٍ للمغادرين واليائسين، يُدفع فيها ثمن النجاة ذهبًا أو دمًا. بعضهم عبر إلى الضفة الأخرى، وبعضهم التهمته الصحراء قبل أن يبلغ الوهم الذي يسمّونه "أمانًا".

حتى المستشفيات، تلك التي كانت آخر ملاذٍ للضعفاء، لم تنج من الفوضى. اقتحمتها المجموعات المسلحة بحثًا عن الدواء كما يبحث اللص عن الغنيمة، اختلط أنين الجرحى بصيحات الناهبين. لم يبقَ من المراكز الطبية سوى مستشفى وحيد، يرفرف عليه علم الصليب الأحمر، تحرسه منظمةٌ دوليةٌ تتمتع بالحماية الدولية. كان ذلك المستشفى كجزيرة صغيرة وسط بحرٍ من الجنون، تحيط بها النيران من الجهات الأربع.

في ليلةٍ اختنق فيها الأفقُ بالدخان، حتى خُيِّل للناس أن القمر قد خُنق في مهده، توقّفت أمام بوابة المستشفى سيارة "جيب" عسكرية. كانت أضواؤها تشقّ الضباب كخناجر من نور، فيما تفوح من معدنها رائحة البارود، كأنها عادت تجرُّ أصداء معركةٍ خاسرةٍ على أطراف المدينة.

ترجّلت منها امرأتان؛ إحداهما صبية في مطلع عمرها، تنزف بغزارة، وقد غمر الدم الجزء الأوسط والأسفل من ثوبها، تتكئ على امرأةٍ تبدو ملامحها مشتعلة بالأمومة والوجل. كان في عيني الأمّ خوفٌ مكثّف، خليط من رجاءٍ وعجز، بينما ترتعش يداها محاولةً أن تُبقي ابنتها واقفة للحظاتٍ أطول.

ما إن بلغتا الباب حتى خارت قواهما، وسقطت الشابة على الإسفلت البارد، تفيض دماؤها كأنها تسقي الأرض العطشى بالوجع. التفّ حولهما طاقم المستشفى بسرعةٍ مشوبةٍ بالرهبة، فكلّ إنقاذٍ في زمن الحرب مغامرة. حملوها على نقالةٍ صدئة، جرى بها المسعفون نحو الداخل، فيما بقيت الأمّ تتبعهم بعينين غارقتين في الدمع والذهول.

تحرّكت السيارة التي أقلّتهما مسرعة، تلوّح فوهات الرشاشات من نوافذها المفتوحة، واختفت في عتمة الطريق كوحشٍ يبتلع نفسه في الظلام. بقي الصدى فقط، أزيز محركاتٍ وطلقاتٍ متقطّعة تتردد بين جدران الليل الذي لم يعرف بعدُ طريقه إلى الفجر.

هكذا...

بدأ زمنٌ جديد، لا هو سلمٌ ولا هو حرب. زمنٌ يتساوى فيه الموتى والأحياء، وتُختبر فيه إنسانية البشر عند حافة الانهيار. كان الجميع يبحث عن خلاصٍ صغيرٍ في عالمٍ لم يعد يُشبههم. وفي قلب ذلك الخراب، داخل المستشفى الوحيد، كانت حكايةٌ ما، حكايةٌ عن الوجع، عن البقاء، وعما يتبقّى من النور حين تُطفئ الحرب آخر مواقدها.

حين أُدخلت إلى غرفة الإنعاش في الطوارئ، كانت جسدًا ممدّدًا على حافة الغياب، غارقًا في صمتٍ ثقيلٍ يشبه آخر ما تبقّى من الوعي قبل السقوط في العدم. تحرّكت الأيدي بخبرةٍ آلية، أعدّوا قنينة المغذّي، جهّزوا ما يلزم لإيقاف النزيف، فيما ظلت الممرّضة تتفحّص ذراع المريضة بحثًا عن وريدٍ مطواع. وحين كشفت عن ساعدها، اعترض نظرها ما بدا لها شيئًا غريبًا: قطعة صغيرة من جلدٍ قديمٍ خُيطت بعنايةٍ رتيبةٍ، كما تُخاط الأسرار في الصمت، مربوطة بحبلٍ متينٍ حول زندها كأنها عهدٌ لا يُمسّ.. حرز؟ تميمة؟ دعاء قديم يختزن عمرًا من الخوف والرجاء؟

مدّت الممرضة يدها لتفك الرباط وتسمح بمرور الدواء، لكن يد الصبية الأخرى، رغم وهنها، انكمشت فجأةً كأنها تدافع عن حياتها الثانية. قبضت على كمّ ردائها بقوةٍ غريزيةٍ، وبدت تلك القبضة أبلغ من كل صراخٍ مكتوم، إذ تحمل رجاءً لا يُقال:

ـــ اتركيها، إنها لي

مالت الممرضة برفقٍ عليها، وبصوتٍ حاولت أن يجمع بين العطف والاحتراف:

ـــ لا تخافي، كل ما يخصّك سيكون محفوظًا تحت وسادتك. أنتِ في أيدٍ أمينة.

لكن الصبية فتحت عينيها بغتةً، بعينين متّسعتين من الفزع، تحدّقان كمن عاد من حافةٍ مظلمةٍ إلى ضوءٍ لا يعرفه. لمحَت في لهجة الممرّضة نغمة غريبة، فأدركت أنها أجنبية. تلفّتت حولها، بحثت عن مألوفٍ فلم تجد سوى جدرانٍ بيضاء لا تعرف الرحمة. بصوتٍ متهدّجٍ خرج من أعماقها قالت:

ـــ أرجوك... احتفظي به عندك. وإن متُّ... تصرّفي به، لكن لا... لا ترميه في سلة النفايات... إنه عمري...

ثم غابت ثانية في غيبوبةٍ كأنها سباتُ الطمأنينة الأخيرة بعد اعترافٍ موجع.

وقفت الممرضة لحظةً تتأمل الوجه المرهق، الشاحب، الذي كان رغم ذلك يحمل ملامح جمالٍ غامضٍ، كأن النور في أعماقه لا يريد أن ينطفئ. مدّت يدها بخفةٍ، ولفّت الحبل على الحرز برفقٍ، ثم دسّته في جيبها كمن يحتفظ بأمانةٍ مقدّسةٍ لا يجرؤ على خيانتها.

كانت الممرضة لا تدري ما الذي يدفعها لتلك الرقة المفرطة تجاه مريضةٍ لا تعرفها. ربما لأن في تلك القطعة الجلدية الصغيرة ما يشبه قصة حياةٍ بأكملها، أو لأن في لمحة تلك العيون الغارقة خوفَ إنسانةٍ ظلت طوال عمرها تدافع عن شيءٍ لا يراه سواها:

معنى،

ذكرى،

أو حبٍّ دفينٍ لا ينبغي له ان يموت.

**

يتبع

***

من رواية تحت الطبع

سعاد الراعي - المانيا

2025.11.23

لَنْ أُبارِحَ نَحْرَكِ…

فَرَشْتُ فَرْعَ المَسافَةْ.

أَيْنَ أَنْتِ؟ أَيْنَ أَنْتِ؟

أُريدُكِ… أُريدُكِ

بِحُرْقَةٍ،

وَذُبولِ قَرَنْفُلَةٍ

قَبْلَ سُقوطِ الغَسَقِ.

2

لَنْ أَبُوحَ،

وَحائِطُ السِّرِّ

صَمْتٌ… فَزَعٌ… يَبْعُدُ عَنِّي.

جِذْعُ النَّخْلَةِ الصَّلْعاءْ

شَغَفٌ يَعْلُو… وَشَبَقْ.

3

أَنْحَتُ نَرْجِسَةَ الشَّوْقِ

فَوْقَ جَبينِ صَباحِكِ،

وَفَراشَةُ كُحْلٍ تُضيءُ

بِلَهَبِ أَنْفاسِكِ الحارَّهْ.

4

قُبْلَةُ قِطارٍ عابِرَهْ

في زَمَنٍ يَجْري بِلا وَقْتٍ،

أَفْتَحُ نافِذَةَ اللَّيْلِ،

وَصَدْري مَكشوفُ الأَسْرارْ،

مُتَأَبِّطًا نَسَماتِ البَرِّ،

رِيحَ الشَّلَبِ،

وَرِيحَ الهُورْ.

5

أَقْتَبِسُ الآنَ رَنَّةَ شَوْقٍ،

وَالمَرْدِيُّ يَزِلُّ عَلى لَوْني،

تَتَوَكَّأُ روحي وَهْنًا،

وَأَدْفَعُ ظِلَّكِ مِنْ صَمْتي.

6

جَوْقَةُ قَمَرٍ تُرَتِّلُني،

وَتَدَحْرَجُ أَوْعِيَةُ الضَّوْءِ

فَوْقَ سَماءِ ظُهورٍ تَغْفو.

أُوَثِّقُ مَسْقَطَ مَطَرٍ

بِتَنَفُّسِ قَدّاحٍ يَعْلُو.

7

أَغْسِلُ ساقَكِ مِنْ وَهَنٍ،

وَأُنَشِّفُها بِشُعاعِ النَّجْمِ.

أَيْنَ أَنْتِ؟ أَيْنَ أَنْتِ؟

أُريدُكِ… أُريدُكِ.

8

بِنَبْضِ سَريرٍ يَجْرِي،

وَبِوَشْمِ عَبيرٍ يَتَضَوَّعُ،

وَبِنَمَشٍ يَرْتَفِعُ اللَّوْنُ

فَوْقَ ثَغْرِ السَّافانا.

9

أَيْنَ أَنْتِ؟

وَحضْني خاوٍ

يَجْمَعُ شَهْقَةَ فَقْدٍ جَرِيحًا.

أُريدُكِ… أُريدُكِ.

*

الكودا

أَسْكُنُ صَوْتًا مِنْ نَبْضِكِ

يَجْري في دَمِ هَوايَ الأَوَّلِ.

فَإِذا غِبْتِ تَفَتَّتَ لَوْني،

وَإِذا جِئْتِ عادَ النَّبْضُ.

فَالحُبُّ يَؤُمُّ خُطايَ إِلَيْكِ،

وَيُقيمُ صَلاةً

في جَسَدي

***

د. سعد محمد مهدي غلام

ما مرَّ ذِكرُكَ إلَّا عادَ يُنعِشُنِي

كَأنَّ وَجهَكَ عيدٌ لاحَ يبتَسِمُ

*

يا فرحةَ الرُّوحِ، كم بالحُسنِ ألهَمْتَها

حتَّى غَدَتْ بضياءِ القلبِ تَرتَسِمُ

*

سَكَنتَ نَبضِي، وَما غَادَرتَ ذَاكِرَةً

إلَّا وتَهمِسُ: مَن تَهوَاهُ يَلتئِمُ

*

إِن غِبتَ غَابَ سَنَا الأيَّامِ وَانطَفَأَتْ

شُمُوعُ دَهرِي، فَلا بِشرٌ وَلا نَغَمُ

*

وَإِن حَضَرتَ تَفَتَّحَ في دَمِي أَلَقٌ

وَزَهرَةُ الشَوقِ فِي أَعمَاقِنَا تَهِمُ

*

أَمضِي إِلَيكَ عَلى خَوفِي وَمَعذِرَتِي

فَالرُوحُ نَحوكَ بِالإِيثَارِ تَلتَزِمُ

*

كَم قُلتُ: مَا لِي سِوَى وَجدٍ أُحَاصِرُهُ

لَكِنَّ طَيفَكَ مَأنُوسٌ بهِ الكلِمُ

*

لَولاَ حُضُورُكَ مَا رَاقَ الهَوَى أَبَدًا

وَلاَ تَبَاهَى بِأَحلاَمٍ لهُ الحُلُمُ

*

يَا مَنْ هَوَاهُ لَدَيَّ العُمرُ أَجمَعُهُ

والقُربُ مِنكَ هَوىً فِي القَلبِ يَرتَسِمُ

*

تَبقَى الحَبِيبَ الذِي مَا زِلتُ أَحمِلُهُ

فَوقَ الجَوَانِحِ، لاَ يُبلَى وَيَنصَرِمُ

*

مَا كُنتُ أَعرِفُ مَعنَى العِشقِ فِي لُغَتِي

حتَّى نَطَقتُكَ، فَانسَابَ الهَوَى نَغَمُ

***

بقلم: سليمان بن تملّيست

تونس في 2025/11/22

بأيدي مرتعشة

يتسلق الظل شجرة

والسراب يسيل لعابه

بخيوط الشمس الملتهبة

*

خائن وطنه

يهرول خائفا

تقتفي آثره

رصاصة واحدة

*

الزعيم المسلم

الذي لا يشبهني

الا في الاسم

لم يحضر في الموعد المحدد

أمام حبل المشنقة

*

حتى الأعداء

لا يحبون الخونة

أضافوا وترا جديدا

الى قوسهم

*

ماذا لو قمت بانجاز خطة

لحرب قادمة

وناقشتها في الامم المتحدة

وصفق لها المرتزقة؟

*

طالما أحبابنا الذئاب

تحرس خرفاننا

وثرواتنا

ونفطنا

فلا خوف علينا

ولا نحن نحزنون

*

سقطت أحجار الدومينو

المصابة باكتئاب وفوبيا الانهيار

ثمة قرد يلعب الشطرنج

مع جنرالات مخصية

يحلمون بتدمير العالم

***

بن يونس ماجن

فتح الفنان طلب الرفيع عينيه في ساعة متأخرة من الصباح. أطلّ من النافذة. الجو متلبد بالغيوم. يبدو أنها ستمطر. وقد كان عليه أن يستيقظ مبكّرًا، غير أنه لم يفعل بل كان عليه أن يردّد خمس، ثلاث او سبع مرّات سأستيقظ في العاشرة.. كما فعل في مرات سابقة غير أنه لم يفعل، وربّما كان بإمكانه أن يشتري ساعة رنّانة خاصة وأن يعبئها اهتمامًا بذلك الاجتماع المصيري، غير أنه لم يفعل، لا هذا ولا ذاك، واستسلم إلى نوع من الدفء. أخّره أكثر من الساعة المُحدّدة مسبقًا للاجتماع الفني القريب في الثامنة من صبيحة اليوم. أرسل نظره إلى التوقيت على هاتفه الخلوي. لقد تأخر فعلًا ساعة كاملة. الساعة الآن تشير إلى التاسعة وكسور. " ما كان عليك أن تسهر حتى ساعة متأخرة من الليل. لتفكر في مصير تلك العلاقة بزميلتك الفنانة الموهوبة طالبة الفنجري. " قال لنفسه، وتابع" أنت ينبغي ان تضع حدًّا لاستهانتها بك وبمشاعرك الجيّاشة تجاهها".

بسرعة مَن خطّط واستعد لكلّ طارئ ونسي في الوقت ذاته، ما ينبغي عليه أن يفعل ليحضر الاجتماع الفني في جمعية الفنانين، أو جمعية الفنجري كما فضل تسميتها.. على الأقل بينه وبين نفسه. انطلق مثل صارخ حائر وغير مُحدّد التصويب.. تمام التحديد، انطلق نحو حمّامه الصغير. فتح بابه الضيّق دخله وسرعان ما خرج منه. توقّف قُبالة المرآة المعمرة الكبيرة. المُعلّقة في صدر غرفته الضيّقة. سوّى ما تبقّى لم من شعر، وضع نظارته الطبّية على عينيه وانطلق.. بحيث بدا كما أراد وخطط.. شابًّا جميلًا وفنانًا ذا انتاج ابداعي لا يحتاج إلّا لمن يقدره ويجري وراءه.. جري الراغب المعجب.

الطريق نحو مبنى جمعية الفنانين البلدية كان على غير عادته قصيرًا.. ربّما قصّره تفكيره بفنّجريته العاصية رفيقة ليله وسميرته الساهرة. قبل أن يدخل المبنى توقف متفكرًا فيما عساه يفعل وسأل نفسه ما هي الخطوة التالية التي ستُقرّبه من فنانته المبدعة، وأحلامه المُبدّعة. لمعت في خاطرة فكرة ما لبث أن أعجب بها، وأضمر أن يشرع بتنفيذها بسرعة مَن يريد أن يفتح كتابًا ليقرأ فيه رواية حبّ روسية.. سمع عنها ولم تتح له قراءتها إلا بعد أن بحث عنها حتى كلّت قدماه وهو يتنقل من مكتبة إلى أخرى للعثور على نسخة منها. أما الآن وقد حضرت الفكرة فما عليه إلا أن يدخل إلى المبنى من أوسع أبوابه، وأن يفتعل أي حركة تُمكّنه مِن إنساء زملائه الفنانين أنه تأخر وأنه.. لن يبطّل تلك العادة وكأنما هو يتثقّل على الجميع.. كما قال له في موقف مشابه سابق صديقه الساخر المُقرّب.. الفنان محارب الغزي.

سوّى الفنان العاشق ملابسه بحيث يظهر في أبهى حالاته.. حالات المحب المفتون بـ ..الفنّ وأهله. دخل وطرق باب الجمعية، فلم يردّ عله أحد. كان الصمت مُخيّمًا على المكان "ما الذي حدث"، هل انتهى الاجتماع بمثل تلك السرعة؟.. ساعة و... مسافة الطريق؟.. أما أمر غريب. وبما أنه كان بحاجة لأن يواصل مشواره أو يعود إلى غرفته الصغيرة. وحمّامها البارد.. بل ومرآتها المنتظرة حضرته وطلعته ليلًا نهارًا. كان لا بُدّ له من أن يفعل شيئًا.. تناول خليويه وضغط على رقم زميله الغزي. وسرعان ما جاءه الردّ. لقد اقترحت الفنانة طالبة الفنجري أن ينتقل المجتمعون إلى المدينة المجاورة للقاء تعاونيّ بين جمعيتهم وجمعية تلك المدينة. وسرعان ما وافق الجميع فنحن يفترض أن نوسّع دائرة عملنا. وأين أنتم الآن؟، سأل زميله فردّ عليه هذا قائلًا لن تعرف مبنى الجمعية بسهولة.. سأرسل لك التمكين المكاني. سيكون اجتماعنا مطوّلًا.. بإمكانك أن تأتي.

توجّه الفنان الرفيع إلى أقرب محطة باصات وبعد انتظار دقائق توقّف الباص المسافر إلى البلدة المجاورة، فصعد درجاته الثلاث العالية وهو يتوسّم خيرًا وحظًا موفقًا هذه المرة بالذات. ها أنا ذا أبدأ السفرة بقدمي المباركة اليمين. أما الحظّ فيبدو أنه سيكون قمحة تُذكّر بسنبلة الكتاب المقدس. هذه المرّة لم يكن الطريق طويلًا، ورّبما ساعد في وصوله بتلك السُرعة أنه باص جديد.. "يخلف على شركة باصات البلد". قال وهو ينزل مُتعمّدًا الدرجات الثلاث التي صعدها.. حين امتطائه الباص. هكذا كان لا بُدّ له مِن أن يفعل ما طلبه من نفسه بعد قراءته كتابًا رائعًا عن اللاشعور وتأثيره على النفس البشرية.. فما تقوله بلسانك يتسلّمه عقلك الباطن ليترجمه لك. ما إن خطرت له هذه الفكرة المُتفائلة حتى شعر بقوة لم يسبق له أن شعر بمثلها خلال لقاءاته السابقة الفاشلة، أجل الفاشلة، بمن طال الطريق بينه وبينها وكان لا بُدّ له مِن أن يقصر. " سأقنعها هذه المرة"، قال وهو يسوّي ملابسه ويركز نظارته على ارنبة أنفه. ويدخل قاعة اللقاء الفني المزدوج.. ما بين جمعيتين مباركتين.

دخل الفنّان الرفيع قاعة الاجتماع، وفي فمه كلمات اعتذار على التأخر أولًا والتفاجؤ ثانيًا بالتوسيع الموفّق للاجتماع. غير أن أحدًا لم يعبأ به. ولولا أن زميله المُحارب دعاه للجلوس على كرسي حجزه له الى جانبه، لبقي واقفًا ولطالت وقفته وربّما لزعل وعاد قافلًا إلى بلدته الُمعتّرة. شعورٌ آخر بالتوفيق انتابه.. رغم كلّ ما حدث وجرى ووقع له حين دخوله ذاك. وكانت المفاجأة الكُبرى أن إدارتي الجمعيتين البلديتين، توصّلتا بسرعة إلى ابرام اتفاقية تعاون فيما بينهما. الامر الذي شجّع مُقترحة اللقاء وناسجة ثيابه الفنّانة المحبوبة طالبة الفنجري، أن تقترح جلسة احتفالية بما تفتّق عنه الاجتماع، من تعاون بين فناني البلدتين، من أجل إنعاش الحياة الفنية المُتراخية في الفترة الأخيرة تحديدًا. وزاد في روعة تلك الاحتفالية أن الفنان المُحارب غمز صديقه الفنان الرفيع وهو يتوجّه إلى الجميع مُقترحًا ان يجلس كلّ اثنين أو ثلاثة فنانين.. على حدة ليتم التعارف قبل التعاون وليشكّل بالتالي لبنة أولى وحقيقية في البناء الفني الشامخ.

تدافع المجتمعون بعد ذاك الاقتراح مباشرة وكان بإمكان كلّ منهم أن يختار مَن يجلس معه وإلى جانبه.. حول طاولة واحدة. وهكذا كان.. أما بخصوص بطلنا الفنان الهُمام، فقد بدا أنه استمد شيئًا من القوة مما أعدّه وأضمر أن يهيل به على الفنانة الأُمنية الفنجرية. أولًا ومن الاقتراح المُعظّم الذي اقترحه الفنان الزميل الغالي المحارب الغزّي على سن ورمح. ووضع السبع في ثيابه وهو يتقدّم من فنّانته العاصية، ضمن محاولة مستميتة لإقناعها بصدق مشاعره تجاهها، وليكن بعد ذلك ما يكون.. لمفاجأته الثانية اليوم أو الثالثة..أو.. وافقت الفنانة المنشودة المُتمنّاة على الانضمام إليه والتحدث بما أصرّ على أن يُسمعها إياه من أحاديث طلية واسرار ندية. فما أضمره ليس بالبسيط. ولا بُدّ أن يضع الحدّ على الزعرورة.

سار الاثنان في شارع حالم بعيد.. بعيد، تحيط بجنباته الأشجار المُخضرّة العالية. وكانا كلّما ما تقدما ينبض قلب الفنان العاشق.. في حين تُطل علامات التساؤل من عيني رفيقته، وعندما فاض بها الكيل. اقتربت مِن مقعد خشبيّ قديم.. انتظرهما على ما بدا دهرا تامًا، وطلبت من مُرافقها أن يجلس. جلس الاثنان مُتباعدين كلّا عن الآخر.. كما أرادت هي دونًا عن رغبته الجليّة الواضحة... وابتدأ الفنان المبدع في الاستعداد لتوجيه ضربته القاضية. فإما فلاح يسرُّ الصديق.. وإما اخفاق يسرّ العواذل. وهكذا ابتدأ الرفيع بغزل نسيجه المُتمنّى. افتتح حديثه بامتداح الطبيعة منشدًا مُتغنيًا بسحرها وهيجانها الخلّاب وعَرّج على عالم الفن الساحر، فقال مثل هكذا مناظر يُفترض أن نرسم.. طبيعة بلادنا .. هذه البلدة تحديدًا.. هي الأجمل في العالم. "هذه البلدة هي جنة الله على الأرض"، قال جازمًا. هكذا نسي دستوفسكي وأبلهه وكلّ ما أعدّه مِن حكايات تهزّ قلب الحجر وتدفعه دفعًا إلهيًا في أن يعطف ويقترب ويحب زميله الحجر. وراح يتغنّى بالمكان وأهله. وبالتعاون الفنّي البنّاء الذي بادرت إليه هي ذاتها.. الفنانة الرائدة طالبة الفنجري. وانهال عليه الكلام من كل ركن وزاوية.. ضمن محاولة مكشوفة وواضحة لإقناعها بأنها لن تندم إذا ما وافقت على فتح الأبواب المُغلقة للعلاقة فيما بينهما هما الفنانان الرائدان الخلاقان.. وزاد في تماديه الغرامي الواضح هذا.. انه لمّح إلى جمالية أن يتّفق فنان وفنانة.. لرسم أجمل المشاهد في تلك البلدة المجاورة. عندما لاحظت الفنانة الفنجري أنه فتح محطة بثّ إعلامية إذاعية في رأسها. انتصبت واقفةً.. في حين هو.. واصل تدفّق سيله الكلاميّ. ولم يُفيّقه مِن الاندفاع الصاخب المجنون في تيّاره ذاك، إلا انتهارها إياه قائلة أليست بلدتنا وأشجارها أحق وأجدر بان نرسمهما؟.. ولم تنتظر ردّه غير المطلوب. وانصرفت مبتعدةً عنه.. وسط اقتراب صديقه محارب الغزّي منه.. حيث جلس مثلَ عصفور بلّله المطر.. واعدًا إياه بالخير المنتظر القادم.

***

قصة: ناجي ظاهر

كم أحبُّ أنْ أراكِ.. وأنتِ تلعبينَ لُعبةَ الطَّيرِ

رغم عدم وجودِ أيِّ طائرٍ يطيرُ في مملكتِكِ بجناحينِ

*

كذبتُ عليكِ مرَّةً حينَ رفعَ الهواءُ ثوبكِ، فسقطتُ

كنتِ في الطَّرفِ الآخرِ من العُمرِ

وكان الشَّارعُ بعيدا، يغشاهُ ضبابٌ يُرشدني إلى بيتكِ

*

أمسكُ الأحمرَ من اسمكِ فأطيرُ

حتى ليُصدِّقني قوس قزح وأنا أحمله الى واديكِ

كيف سأصل إلى حدائقِ عنبي

إلى أحلامٍ لا يستيقظُ فيها فجرُك

ألوّحُ له، فتخضرّ الأصابع من ايقاع الغيم

*

لكنّ الهواءَ وعدني أن أتسلَّلَ إليكِ كُلَّ ليلةٍ

بخفّةِ قصيدةٍ نثريّةٍ.

*

آهِ.. ما أوجعَ العُشبَ حينَ يُركزُهُ الأصفرُ

كيف لقلبي أن يَسمعَ هذا الدّويَّ

وهو يمشي نحو ربوتكِ بهاجسِ الصيف

شمّ كل ياسمينةٍ اختزلتْ ضحكتَكِ الذهبية

وإن لمْ يجدْكِ في حياتهِ، تعذّبَ بأحزانهِ

*

ولا تُغرهِ مرايا هذا الكون

ما يجرحُني هو أن يبقى هذا الفراغُ دونكِ.

***

زياد كامل السامرائي

 

يَنبَعُ عَطَشي مِثلَ إِكسيرِ المَاءِ…

يَتَلَمَّظُني، مُرْتَابَةً بَيْنَ قَصيدَةٍ وَنَافِذَةٍ عَجْلَى…

تَطيحُ بِأُمنِيّاتي،

وَتَستَرِدُّني سَرابَاتٍ فِي المَجهولِ…

كُنتُ عاشِقَةَ لَيلٍ،

قاطِفَةَ مَشْيٍ مُستَعجِلٍ…

أَذوبُ فِي عُزلَتي،

كَيْ أَستَنفِدَ ما تَبقّى لي مِن أَغاني العُمرِ…

لَكِنَّني أَتَحَرَّرُ مِن يَأْسٍ لا يَفْتُرُ فِي ابتِلائاتٍ

تَطلُبُني فِي أَثَرِ الضَّجيجِ…

كُلَّما نَظَرْتُ إِلَى الأَعلى،

أَوقِدَني ضِياءٌ نُورانيٌّ،

يُحَدِّقُ بي،

كَأَعيُنٍ أَو سِهامٍ جائِعَةٍ…

تَنَعَّمُ فِي مَلمَسِها جائِلَةً،

عَلَى حِصانٍ أَبيَضَ…

كَفارِسٍ يَتَجَلّى فِي سِربالِ المُنتَصِرينَ.

*

فأَمْضِي،

كَأَنَّ خَطايَ تُوشِكُ أَنْ تُفْلَتَ مِن جاذِبِيَّةِ الأَرْضِ،

وَكَأَنَّنِي أَبْلُغُ تَرَقُّوَةَ السُّؤَالِ القَصِيِّ:

كَيْفَ تُفْتَحُ العَتْمَةُ عَلَى احْتِمالٍ صَغِيرٍ لِلنَّجَاةِ؟

أُواصِلُ عُبُورِي فِي مَمَرَّاتِ الرِّيحِ،

أُرَمِّمُ كَمائِنِي القَدِيمَةَ…

وَأَفْتَحُ لِلْقَصِيدَةِ صَدْرًا شَاسِعًا،

عَلَّها، حِينَ تَكْتَمِلُ،

تَسْتَرِدُّنِي مِن شَتَاتِي،

وَتُوَثِّرُنِي مِن غَلَوَاءِ فَرَاغٍ

كَعَائِدَةٍ لِتَوَّهَا

مِن عُمقِ البَحْرِ إِلَى يَقِينِ المَعْنَى…

*

أَيَّتُها المُوغِلَةُ فِي كُموني…

كَأَنَّكِ مِنِّي إِلَيَّ،

تَنْشُبُ فِي شِفائي رُوحٌ أُخْرَى

هادِرَةٌ، مُلْتَبِسَةٌ،

لا تُعْذَرُ فِي سَقَطَاتِ الوَهْنِ،

لا تَفْرَحُ فِي الغُروبِ الجَمِيلِ…

رُبَّمَا، لأَنِّي أَخْشَى العَتْمَةَ المُوْحِشَةَ،

أَخْشَى المَا بَيْنَ،

أَو عَماءً لا يُصْلِحُ لِلْهَبَاءِ….

نَافِذَةٌ مُشْرَعَةٌ عَلَى العَدَمِ؟

***

مالكة العلوي

ذا النّورُ منذُ عقودٍ يا أخي ارْتحلا

ونجمُهُ لم يعُدْنا منذُ أنْ أفَلا

*

قد ضاعَ منّا الذي يُغري بأوجهِنا

نجمَ السّما ما وهَى منهُ وما اشْتعلا

*

ذاكَ الصِّبا والصِّبا في العمرِ تعبدُهُ

الدُّنيا وتصْدُقُه الإيمانَ والعمَلا

*

لو لمْ يكُنْ، منْ لها حْلْما تواعِدُهُ

ومن سَيَبْني على ما تُوعدُ الأمَلا

*

ومن سيُصغيْ إليها قلبُهُ ومنِ

المجيبُ حتّى تُسوِّي أجلَه السُّبُلا

*

ومن سيُفنيْ لترضَى عنهُ أجمَلَه

ومن يبيعُ لتُربي ما عَلا وغَلا

*

وأين لو لم يكُنْ تُلقيْ مفاتنَها

و أينَ فيما لها تَلقْى له مَثَلا

*

تِيهُ الصّبا معْرِضُ الدّنيا ودونَ صبًا

أينَ يُرِىْ التِّيهُ ما مِن حُسنِها اكْتَملا

*

وكلّ ما قبلهُ في العمرِ جاهلُها

وما وراهُ إليها عازٍ العِلَلا

*

فيا أخيْ راحَ منْ يُعطي وظلّ لنا

من بعدِه مُجتدٍ لا يملكُ البَدَلا

*

فلا تقُلْ "نارَ" فيمَن غابَ نائرُهُ

واحْمَرَّ حينَ التقىْ فيكَ الصِّبا خَجَلا

***

أسامة محمد صالح زامل

مدنَ الماءِ

مُذْ أسَّستْكِ الروافدُ

كنتِ الوصالَ الجميلَ

الذي وحَّدَ الأرضَ مأخوذةً بالسماءْ

فتأتي النجومُ لِتسكنَ قاعَ الجدوالْ

أو ـ لِفرطِ الزحامِ ـ تحاولْ

ويهبُّ هديلُ المياهِ - احتفاءً بسرب النجومِ الضيوفِ ـ غناءْ

*

الطيورُ التي هاجرتْ

أسَّستْ وطناً بين شمسٍ وماءْ

وتهادتْ لِتكتبَ في وطنٍ للكتابةِ ما يُدهشُ العاشقينْ

والمدادُ مياهُ الروافدْ

وكلُّ فوادٍ جميلٍ لقطرةِ ماءٍ بحجمِ المحيطِ

سرى فيهِ حُبُّ السماواتِ والأرضِ نحوَ قلوبِ الجميلاتِ وافدْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

.......................

ملاحظة: كتبتُ هذه القصيدة اثر رحلة الى أهوار العراق قبل أسبوع..

 

تعجّبَتْ من كفّيَ العرّافةْ،

وحدّقَتْ بها كثيراً عندما لم تجد الخطوطْ،

كيفَ امَّحَتْ؟ قالتْ كأنَّها خُرافةْ،

قلتُ لها: لرُبَّما أنا خُلقتُ هكذا،

أو رُبَّما من غادروني عندما احتجْتُ لهم،

قد أخذوا من كفّيَ الخطوطَ كي تُرشدَهم،

كما الطيورُ تأخذُ الحكمةَ من صفصافَةْ،

فقالت العرّافةْ:

يا ولدي مصيرُكَ المجهولْ،

لا أبصرُ البدايةْ،

لا أبصرُ النهايةْ،

*

وعندما غادرتُها نزعتُ من شُجَيرةٍ فتيّةٍ ما مسَّها الذبولْ،

وُريقةً خضراءَ فيها تنضَحُ العُروقْ،

ألصقُتها بباطنِ الكفْ،

وقلتُ فلْأقتبس العروقَ دونَ خوفْ،

وعدتُ للعرّافةْ،

فعدّلَتْ جِلستَها واستعجبَتْ،

قالت: أرى نُسغاً غريباً جارياً،

كأنّما الأشجارْ،

تجيرُ من يأتي إليها هارباً،

فيدخلُ الجذورَ والغصونْ،

كأنّما الأطيارْ،

فاكهةٌ تخفّفتْ من قيدِها،

وألهمتْ بقيّةَ الثمارِ في السجونْ،

لكي تذوقَ لذّةَ الأسفارْ،

وفجأةً توقّفَتْ ووجهُها تجهّمْ،

وقطّبَتْ جبينَها وصوتُها تلعثَمْ:

يا ولدي،

إنيّ أرى الغِربانْ،

تحوِّلُ الأغصانْ،

مشانقاً للبانْ،

ويحكمُ الدخانْ،

وسيّدُ الألوانْ،

الأسودُ الفتّانْ،

وتصدَحُ الألحانْ:

الموتُ للإنسانْ!

*

فقمتُ أمسحَ العروقَ بالحجرْ،

لعلّهُ يُورِثُني سُلالةَ الشررْ،

وعدتُ للعرّافةْ،

فأمسكت يدي،

يا ولدي يا ولدي،

إنّي أرى المطرْ،

عروقَهُ التنسابُ في جلدِ الثرى،

معاتباً يقولْ:

لماذا لا تختارُني كفُّ الفتى؟

لَقطرةٌ منّي سترسمُ العروقَ في حوافرِ الوعولْ،

سحبتُ كفّي غاضباً،

وقلتُ للعرّافةْ:

سأتركُ الكفَّ بلا عروقْ،

خيرٌ ليَ المجهولْ،

من أن أرى مستقبلي،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

 

بزغ الشوق وقد علمتني

أن تناديني أذا الشوق ظهر

*

ليس عندي ولقد أزجيته

ليس يخفى كلما القلب جهر

*

ما الدواهي عاجلات ما بها

سابقات الكيد من صنع البشر

*

كيف حقي في بلادي ضائع

كنت ليثا مثل سيفا قد شهر

*

خفت موتا  كلما كنت أرى

شاع ظلما بعدما الحق أنتصر

*

هكذا الدنيا سقتني هولها

كيف تبدو حيث تختل الصور

*

كم أعانت ضرمها خير الورى

ليس فيها كل شيء مستقر

*

وسيوف في الوغى قد أبرقت

لا تبالي الموت  غيب ام حضر

*

كم كميت حدثت عنه الورى

في المعالي كان ليثا منتصر

*

هذه الامصار جالت ما بها

وبلاء الحرب فيها تختبر

*

أترى  بعد الذي فينا  جرى

لتطيل العيش زهدا او عبر

*

أتماهى لست اشكو قصتي

ليس سرا قول صدق قد بدر

*

أتراني قول صدق قلته

منك يحلو كل حكم قد صدر

*

يا لشعري كيف ترجو شوقنا

ما سلاني الشوق لكن قد كفر

*

كمل البدر وقد أخبرتني

لا نبالي عندما يدنو السحر

*

بعد هذا الصبح ماذا قد نرى

ولقاء فيه قلبي قد أسر

*

واشتريت الحب من أهل الهوى

ما لقيت الكنز لا والدرر

*

عندما انت هنا قد زرتني

يا أنيسي قيد كفي قد كسر

*

ما الفيافي وضياعي زينت

سحرك الآن رنى عبق النهر

*

وأتبعيني في الفيافي كلما

لاح شوق منه قلبي قد أسر

*

لمح الفجر وقد علمتني

أن أصلي ريثما الفجر بدر

*

كف كف الفجر قد كفت له

مال كفي كيفما الغيد غمر

*

أبلغ المحبوب أني قيده

ليس حبا كل من غاب هجر

*

ما دهاني لم أذق نوم الهنا

يا رجائي قد كفاني ما صدر

*

كم أعانت ظلمها خير الورى

ليس فيها كل شيء مستقر

*

أبذل المعروف طبعي صنته

ما أراني فعل خير قد أضر

*

هجر الراحة سهدي كلما

في الليالي كان نومي مختصر

*

ما لهذا الحال نفسي ترتجي

لم أجد طلا لليلى من أثر

*

أتراني بات قلبي متعبا

ما لقى غير طريق وانكسر

*

كلما أحببت قلبي مرهف

ما ابتغينا غير ذكرى من صور

*

ما سألقي بعد هذا كله

يا صحابي هل لديكم من خبر

*

أنثر الازهار في درب الورى

وجزائي كان نفثا من شرر

***

د. علي جبار الاسدي

 

(على تخوم الرؤيا)

كَيْفَ تَجَمَّلْتُ بِالآمَالِ؟

وَأَيْنَ يُقْتَادُ السَّبِيلْ؟

هَلْ إِلَى اللّا–أَيْنِ؟

سُؤالٌ يَطْرُدُ ظِلّي

فِي مَتاهاتِ التَّهْجِيرْ.

إجَابَةُ صَدْري نازِفَةٌ،

مِنْ ضِلْعِ غَيْبٍ

لا يَنْطِقُ إلّا

بِوَحْيٍ مُنْكَسِرٍ،

مُغْرِقٍ بالتَّسْيِيرْ.

اِنْشَقَّ الجِسْمُ، وَأَنْهَدَ قَلْبي،

وَجَفَّ زَيْتُ القِنْدِيلِ عُمُري،

فَانْكَسَرَ بَيْرَقٌ خَجِلٌ

فِي لَيْلٍ يَسْحَقُ خُطاهُ،

وَيَمُدُّ دُخَانًا

لا يَسْتَدِيرْ.

لا ضَوْءٌ يَبْزُغُ فِي نَفَقٍ،

لا نُورٌ يَسْنُدُ خُطَايَ،

لا وَشْكٌ يَحْفَظُ جُرْحي،

لا أُفُقٌ يَسْتَرْجِعُ

لَحْنَ مَسيرْ.

طَفِقَتْ «جُودِيُّ» تُصَلِّبُ صَوْتًا،

والجَبَلُ المُنْهَدُّ يُرَدِّدُ

هَمْسًا كالعِهْدِ الأَوَّلِ،

فَفَاضَ المُحالُ، وَعادَ الظِّلُّ

يُطارِدُ ظِلًّا

فِي جَلْجَلَةٍ

لا تُعْرَفُ فِيمَ تَسيرْ.

فَمَا نَفْعُ حِبالٍ تُطْلَى

بِمِلاحِ القَلَقِ العاتِي؟

وَمَا نَفْعُ الغَوَّاصِ

إذَا عَالَى المَوْجُ

وَأَقَامَ عَلَى المَاءِ

نُدوبَ المَصِيرْ؟

رَكِبَ البَحْرَ،

وَأَبْوَابُ المُخْرَجِ مَوْصُودَةٌ،

يَسْرِي فَوْقَ العَتَمِ،

عُبابٌ، ضَبابٌ،

وَظِلالُ مَاءٍ

تَطْمُرُ ظِلًّا

فِي غَيْهَبِ التَّسْيِيرْ.

بِالصَّمْتِ أَلْتَحِفُ المِحْنَةَ،

وَأَزُمُّ صَبْرِي كَنَبِيٍّ

يَصْعَدُ فِي «سِدْرَةِ غَيْبٍ»

يَحْرُسُ لُغْزًا

يَمَّمَ وَجْهَ النُّورِ،

وَلَمْ يَبْلُغْهُ التَّعبِيرْ.

أَكْتَرِصُ نَفَسِي… أُرَقِّعُهُ

رَجاءً يَسْنُدُ رُوحًا

تَتَفَلَّتُ فِي سِربِ الرُّؤْيا،

أَرْتَقِبُ المَجْهُولَ…

وَأَرْتَقِبُ

مَا لا يُؤْمَلُ،

وَمَا لا يُرْتَجَى

فِي سِفْرِ التَّفْسِيرْ.

*

الكودا

وفي آخر السَّفْرِ،

تَبْقَى الآمالُ

خُيوطَ نارٍ

تَنْسِلُ مِنْ كَفِّ الرِّيحِ،

تَجْرَحُ،

تُضِيءُ،

وتَجْهَلُ

أَيَّ لَيْلٍ تُريدُ…

وأيَّ فَجْرٍ

يُريدُها.

***

د. سعد غلام

 

يستيقظُ الشاعرُ

من ليلٍ يتهدّلُ فوقَ كتفيه،

ليلٍ تشيخُ فيه الكلماتُ

قبل أن تبلغَ أفواهَ المعاني.

يتسكّعُ في ظِلِّه،

ويجرجرُ في عزلتِه

تابوتَ حنينه،

يمشي كمن يحملُ

جثّةَ فكرةٍ

تُقاومُ حفرتَها الأخيرة.

أفكارُهُ…

طيورٌ جارحة،

تَحُطّ على جمجمته

وتخمشُ لحمَ صمتِه،

فيَلوذُ — لا إلى الهدوء —

بل إلى شتيمةٍ

تُنقذُ ما تبقّى من روحه.

يستيقظُ

وأنفاسُهُ غضبى،

وصوتُهُ صدى أكواخٍ

تنهارُ عند أوّلِ نداء،

يتنفّسُ كضبيّةٍ مذعورةٍ

هربت من فخٍّ

لم تُخلقِ النجاةُ له.

من يزورُ قبرَ قصائدِه؟

من ينفضُ عن حروفِه

رمادَ السنوات؟

قصائدُهُ حقولٌ

أكلتْها الريح،

وأغصانٌ لم يرثْها أحد.

يستيقظُ بقوامه الهزيل،

يجرّ خلفه سذاجتَهُ العارية،

فهو لم يكُنْ بطلًا

في حكايةِ امرأةٍ

يُزهرُ الليلُ بين يديها،

ولا كان شهوةَ أصابعٍ

تتسلّلُ إلى نهدِ الحبيبة.

إنّه ببساطةٍ…

الـ «لا» التي تتدلّى

من شجرةِ الأسئلة،

الـ «لا» التي تمشي

عكسَ رياحِ الجميع،

الـ «لا» التي

لو نطق بها حجرٌ

لارتجّتِ الأرضُ من تحته.

فيا أيُّها الشاعر…

لا تُصلحْ ما انكسر في ليلك،

ولا تعتذرْ لقصائدٍ

أجهضها الهواءُ قبل الولادة.

اكتبْ كأنّ الظلَّ آخرُ وطنٍ

يستطيعُ أن يحتملك،

وكأنّ الليلَ

يستعيرُ من وجعك

قنديلَه الوحيد.

امضِ

واتركْ للغيمِ نافذتك،

فلعلّهُ يفهمُ ما لم يفهمه البشر؛

أنّ الشاعرَ

ليس ابنَ المعنى،

بل ابنُ ذلك الفراغ

الذي يصرخُ كلما حاول

أن يصيرَ كلامًا.

***

باقر طه الموسوي

اكتشفتها في سطرين أو ثلاثة. تلك البلاغة العميقة عن الموت ورحيل الآخرين بلا استئذان. كان أبي أحدهم، وربما لم أفقد غيره بمثل تلك الدعابة الفجة التي صاغها حكيم عن الفراق المبكر للحياة.

نمشي إلى الموت غير مصدقين. حيارى يأكلنا الحنين إلى انبثاقات الرحم، حيث تبدأ الحياة صراخا كأنها لا تطاق منذ البداية. ثم يصير الأمر عادة قبل أن ندمن وهم الخلود. وفي هدأة العمر حين ترتخي العضلات، يبرز صدأ الحقيقة المتدثر بالأمنيات: فلان مات!

وفلان هذا يقطن غرفة في سطح البناية. متران على ثلاثة أمتار هي كل ما جادت به الدنيا على "عمي حدو". كهل قارب الخمسين بلا ولد أو وتد. زعموا أنه كان يخنق النصراني بيديه زمن الاحتلال الفرنسي، ويلقي الجثة في مزبلة خارج البلدة. بحثوا عن الفاعل شهورا طويلة قبل أن تشي به أرملة في الأربعين لعشيقها الذي يعمل كلب حراسة في فيلا الكولونيل.

"سوق النسا سوق مطيار" يقول عبد الرحمن المجذوب. وبعد أن سطعت شمس الحرية والاستقلال كثر المجاذيب في حينا. منهم من قضى نحبه تحت وطأة الجحود، أما عمي حدو فكان يشير بسبابته إلى السماء راضيا. تحملوا وطأة التعذيب ورطوبة الزنازين ليفترشوا عتبة الوطن حتى حين. وطال ال"حين" سنوات قبل أن تشرع الحكومة في جرد اللوائح وتخصيص المعاشات.

في فيلا يملكها تاجر قماش بفاس وجد حدو ضالّته. ها هو يقضي يومه في سقي أحواض النعناع والثوم والفلفل الحار، مترقبا عشية السبت ليتجاذب أطراف حديث مقتضب مع الحاج الصقلي. شيء غامض يجمع بين الاثنين، ويرفع الكلفة في حضرة براد شاي منعنع، وعلبة حلوى فاسية يبللها حدو بريقه ثم يبلعها بشغف.

كان يجب أن يمضي عام قبل أن يقرر حدو كراء غرفة في سطح البناية. على سريره المهترئ تولدت رغبتي في القراءة. يسحب حدو كُتيبا كل أسبوع من مكتبة الحاج ثم يلقي به إلي: " اقرأ باسم ربك" فاقرأ بالكاد صفحة أو صفحتين. يعاتبني على تهجئتي الخاطئة لبعض الكلمات. كيف يرصدها وهو الأمي الذي لا يكتب غير اسمه؟

- بالتكرار الذي يٌعلم حتى الحمار! نعم، شاركني الزنزانة شاب متعلم قضى أشهره الستة في ترديد ما يحفظ من سور القرآن وأشعار الوطنية. وبعد ترحيله إلى سجن آخر، كان علي أن أردد ما علق بذهني حتى لا أصاب بهلوسة في ليالي الشتاء الطويلة.

مالت بي العربة مرتين قبل أن نصل إلى السوق. لا أدري من أقنع حدو بأن يجرب حظه في التجارة. هي ليست سوى حزم من النعناع والميرمية وحبات الفلفل الحار، لكنها في أحلام الظهيرة رأسمال قد يفتح دكانا يريحه من تعب السهر. الحاج الصقلي رجل طيب، لكنه على أعتاب الثمانين ولا يبدو على أبنائه أي تقدير للموقف. ذهبت الجارات بنصف المعروض لأن حدو رجل طيب، والدراهم تروح وتجيء. مللت من تنبيهه إلى الغمز واللمز الذي يدور في الحي، وحزم التجار الآخرين في استيفاء ديونهم، لكنه لا يبالي.

يومها اغرورقت عيناه بالدموع على رحيل الحاج. بكيت لأنه بكى بصدق على خيط المودة. بعض الأولاد نبتً شيطاني يحرض نُذُر السماء. جفت أحواض النعناع والثوم لأنهم دفنوا مع الحاج أشياء قلبه الحميمة. جيل قيمش..تفو!

هدأت نفسه بعد أن دلّه أحدهم على فوائد السمسرة. صفقة ثم اثنتان فظهر حدو بجلباب نظيف وساعة يد. لا خير في أولاد الكلب إن لم تنتف من لحاهم ما تضمن به لقمة عيشك! وسرعان ما ابتهجت غرفة السطح بأثاث جديد. هل سيتزوج حدو؟ من يدري! لكنه حدثني يومها عن التعذيب ورطوبة الزنازين، ثم تنهد بحرقة قبل أن يشد أرنبة أنفي مازحا: لا أريد قردا مثلك!

على السور الغريب للمقبرة تتمدد شجرة تين عجوز. هناك استرحت للحظات متأملا حركة المشيعين. كل ما أعرفه أنهم أخرجوا جثة نصف متفحمة من قبو البناية. زعموا أن شمعة حولت أثاث القبو إلى فرن مشتعل. مسكين!

ولأن لكل ميت حكاية تروي أحلامه وخيباته، وقد لا يسعفه الموت بكشف خيوطها لصبي مثلي، فقد أسعفتني شجرة التين العجوز، وتلك القبور المنتصبة كشواهد للحقيقة بأن أقص ما قرأته.

كذبت؟ ربما!

***

حميد بن خيبش

أنا.. لست كما تظنين!..

لماذا لم تفهمي أن الرحيل هو بابي الذي أدخل منه، لأكسر كل تفعيلات القلوب وأوزانها؟

وكيف تبعتِ ظلي، كأنني أهشُّ على غنيمات حبك، بينما أنا لا أملك غير شتاءٍ أروي به قصائدي كلّما أزهر القلب بصمتٍ رهيب؟

لماذا لم ترحلي باكرا؟

كيف انتظرتِ بسذاجة أن يضيء حبي معناك،وما هو سوى غبار لصدى السنين؟

كنتِ وهماً جميلاً، يمرّ على أطراف الذاكرة كنسمةٍ من زمنٍ بعيد، لكنني كنتُ أعرف أن النهاية مكتوبة منذ البداية، وأن اللقاء لم يكن سوى استراحة عابرة بين غيمتين.

هل قلتُ لكِ:

انتظريني.. لأكتبكِ في قلبي بكلماتٍ من نارٍ لا تُمحى؟

أظنّني فعلت، حين كان الوهم يخرج من رحم حرفي ليبني لي مكانًا غير الذي أعرفه الآن.

لماذا لم ترحلي باكرًا؟

وضعتُ حقائبكِ على وجه السراب، وقلتُ بصمت: ستفتح شباكًا كي تراني، وستدرك أن شغفي استعارة، وقصائدي صيف، وعمري خريف أحاول أن أجمع فيه كل الفصول، كي يأخذني المعنى نحو الكون فأتركك.

لماذا لم ترحلي باكرًا؟

وتركتِ كل المسافات تجمعني، أحببت مرات، لكني لم أتنفس صبحا إلا في توهجكِ، فكنتُ أفتش عن غيركِ وأمضي.

زرعت في ضلوعي ذكراكِ، وجعلت من المجاز شراعًا لعلكِ تطلين من نافذة الوقت كي تريني بوضوح، لكنكِ لم ترحلي.

لماذا لم ترحلي باكرًا؟

كي لا أكون مثل أوديسيوس وأفقد مفاتيح البحر، فقد أضحيتُ محاربًا لكل ما هو باقٍ منكِ، هو الجنون نعم؛ لكن الزمان يضيء بأشياء كثيرة، رغم الأوراق المجهولة التي تصطاد عمري، وأعرف أنك تعرفين أسرارها ولا تتكلمين.

فلماذا لم ترحلي باكرًا؟

كي أصرخ أنني أحببتكِ يومًا، وما بقي من ذكريات تلاشت كطير حزين وقف على هشاشة قلبي ونام في ليلة ساحرة.

هل أحببتكِ؟

ربما نعم.. ربما لا. دعيني مع أسئلتي وتوسدي حقيبة السفر.

آه.. نعم.. أخيرًا رحلتِ..2151 najat

نجاة الزباير

حِـينَ جُـنَّ الـلَّيْلُ وَانْـشَقَّ الْـقَمَرْ

حَـيْثُ لَاحَ، انْـسَابَ فِـكْرًا لَا صُـوَرْ

*

قَـدْ تَـرَاءَى شَـكْلُهُ فِـي خَـاطِرِي

مَـحْـضُ ظِـلٍّ مِـنْ بَـقَايَا الـنُّورِ فَـرْ

*

كُـــلُّ حَــرْفٍ مِـنْـهُ نَـهْـرٌ لَا يُــرَى

يَـمْلَأُ الْأَرْوَاحَ هَـمْسًا في السَّحَرْ

*

والــنـدى صـــوتٌ قــديـمٌ ضــائـعٌ

ضَـمَّـهُ الـنـسيانُ فـي نـارِ الـقَدَرْ

*

عـلّقَتْ عـيني رجـاءً في الدُّجى

ثُــمَّ نَـامَتْ فِـي تَـجَاوِيفِ الـسَّفَرْ

*

كُـلُّ نَـبْضِي كَـانَ نَايًا فِي الْمَدَى

يَـسْتَبِيحُ الـصَّمْتَ، يَصْحُو إِنْ عَبَرْ

*

لا تـقـولي: كـنـتُ طـفلًا عـاشقًا

كـنتُ وجـهًا ضاعَ في ضوءِ القمرْ

*

كــنـتُ نـــارًا، ثـــمّ ظـــلًّا خـافـتًا

يـنـحـني  لـلـعِـطرِ إن مـــرَّ الأثَــرْ

*

يـا أنـا... يـا نـصفَ مـعنى غـائباً

هل أنا الإنسانُ؟ أم وهمُ الخَبَرْ؟

*

مـنذ أن حَـطَّتْ رحـالي في الدُّنا

صرتُ فكرًا ضاعَ في صمتِ الحُفَرْ

*

وَاسْـتَعَاذَتْ مُـهْجَتِي مِنْ فِكْرَتِي

فـاستجارَ القلبُ من سِحرِ الفِكَرْ

*

كــلّـمـا أطــفـأتُ نـــارًا داخــلـي

أيـقـظتْ قـلبي سـيوفٌ كـالمَطَرْ

*

قُلْتُ: يَكْفِي... قَالَ ظِلِّي: لَا أَرَى

إِنَّــمَـا نُــحْـرَقُ كَــيْ نَـحْـيَا زُمَــرْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

رحت خلف الوقت أركض

أطارد حروفا مبهمة

قصيدة ثائرة

على الأوزان، متمرّدة

متجاهلة للأبجدية

ولأسماء البحور

وكتبت..

بشغاف القلب

بلغة الأسى

بحروف الصّمت

بحبر الزّمن

نصّا.. مبتورا

بلا روح

بلا نهد

بلا جسد

وتحت وسادة الوجع

خبّأت حكاياتي

كان رأسي يرتّبها بحسب

أهميّتها

يرصفها ساهما في صناديق

ذاكرتي

حواسي كانت مضطربة

وكانت أناملها تداعب

خصلاتٍ َمن شعري الغجريّ

المشاغب

لشفاهي المتورّمة

وخدّي المُلتهب

لا صوت للتّرانيم

لا همس لخطوط الجبين

جلستُ وذاكرتي القرفصاء

عند شاهدة.. قبر

والدتي

أتعبني صوت ندائها

يتردّد في مخيلتي، بارقا... خافتا...

الوقت يبتلعني

وأنا أبتلع خيالاتي وخيباتي

أمّي...

إنّي أتغذّى على دعواتكِ

وأتّعكّز على أمنياتكِ

فاستقبليني عند باب السْموات...

لعلّي ألقاكِ.. "

***

سونيا عبد اللطيف - تونس

 

للبحر نافذةٌ،

تطلُّ عليَّ من صخبٍ

وتحملني إلى شجنِ الرّحيلْ...

ولِنبض روحِكَ موجة ٌ

أمضي إليها،

كلَّما اتَّسعتْ جروحي

أو هوى قلبي،

إلى ليلي الطويلْ ...

لكأنَّ نبضكَ في دمي

روحانِ يفتتحانِ دربَ المستحيلْ ...

**

أتأمّلُ الصبحَ النّديَّ

يلفُّ روحي،

حينَ تتبعني خطاكْ ...

وألمُّ ماءَ الحلمِ

كي أسقي رؤاكْ ...

والسرُّ في عينيَّ

أنتَ ضياؤُهُ،

وفضاؤُهُ

والصّبحُ من وهج المحبّةِ

جاء يشدو في رُبَاكْ ...

هيَّا صغيري

ابقَ طفلاً شاعِراً

كالموج في صوتي

وأجِّجْ ماءَ روحي في ذراكْ ...

وامْلأ عيوني بالحنينِ

لكي أضيئكَ دائماً

وأظلَّ أومضُ

في هواكْ ...2140 daly

أملٌ يُطَيّرُ في فضاء الحبِّ

أجنحتي

ويحملني البريق إلى مدى بريّةٍ

في مهجتينْ

و أناملُ الورد التي حطّت سناها

في سماءِ السنبلهْ

تستصرخُ الأزهارَ في فينوسَ

أن تأتي،

وترسمَ قبلتينْ ...

وأنا وأنتَ ،

حمامتانِ

تُحمْحمانِ الضّوءَ

واللغة َ الغريدة َ

في مدائنِ غربتينْ ...

ألأننا طيران في أفق الصدى؟

نطوي جناحينا ربيعاً كالسَّناءْ ...

أم أننا ثمرٌ،

تفتّح في أنين الأرضِ

يلتمس البقاءْ؟

أمْ أننا نحن الطبيعة ُ؟

نحْنُ أولادُ الخصوبةِ

نحْنُ أزهارُ النقاءْ ...

من نبضنا،

من صوتنا الآتي

سنصعدُ في الضِّياءْ !...

***

إباء إسماعيل

.......................

* اللوحة لـسلفادور دالي

يستيقظُ الظلُّ قبلي،

يمتدُّ على الجدارِ

كما لو كانَ يبحثُ عن  وجه جديدٍ.

يلمسُني ببرودةِ مَنْ تَعلَّمَ الفقدَ باكرًا،

ثمّ يسألُني،

هل أنتَ أنا؟

أم أنا الحقيقةُ التي سقطتْ منك؟

*

يمشي في الأزقّةِ،

يحملُ اسمي،

متجاهلا الجميع،

يرتدي ملامحي كعباءةٍ ضاقتْ عليه،

ويتركني أُعيدُ تعريفَ نفسي كلَّ صباح.

*

في المرايا،

يُمارسُ سلطتَهُ عليَّ.

كلّما ابتسمتُ،

ابتسمَ أولًا.

كلّما حزنتُ،

سبقَني بالبكاء.

كأنّ الحزنَ ليسَ لي،

بل هو دَينهُ الذي يُسدَّدُه من وجهي.

*

أراهُ يتأمّلني،

أُسقِطُ بقايا وجعي،

وهو يجمعُها كغنائمِ نصرٍ.

يتسلّلُ إلى نواياي،

ويحرّفُها بخفّةِ نُسّاكٍ مُتمرّدين.

يكتبُ في الهواءِ وصيّتي،

"الكائنُ مملوكٌ لانعكاسه،

والضوءُ حارسُ سرّه."

*

حينَ أُطفئُ المصباحَ،

لا يختفي.

يبقى هناك،

ينتظرُني في الغيابِ،

يُرتّبُ كوابيسي،

ويجرّبُ جسدي كما يجربُ الخزاف طينه.

*

وفي الفجرِ،

حينَ أعودُ إلى نفسي،

يكونُ هو أكثرَ يقينًا بوجودِه.

أمدُّ له يدي،

فيُبعدُها برفقٍ،

ويقولُ،

"اخلعْ عنكَ هذا الجسدَ —

فقد صارَ لي."

***

مجيدة محمدي

(محو وصحو)

السِّفْرُ الأوّل: (نَفَسُ البَدءِ)

تَنَفَّسَ حَلْمُ السَّمَاءِ العَلِيِّ

فَفَاضَتْ شُهُودٌ تُنِيرُ العَدَمْ

*

وَهَبَّ الغَمَامُ يُفَتِّتُ صَمْتِي

وَيَبْنِي لِرُوحِي طَرِيقَ السَّنَا

*

وَنَادَى النَّهَارُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ

لِيَكْشِفَ بَابًا يُجَلِّي الخَفَا

**

السِّفْرُ الثَّانِي: (مِعْرَاجُ الغَيْم)

اِرَكْبْ جَنَاحَ الغِيَابِ المُنِيرِ

وَجُزِ الضِّيءَ حَتَّى يَفِيضَ الأَبَدْ

*

وَسِرْ فِي دُرُوبٍ تُنَادِي بِنُورٍ

يُقَلِّبُ فِي القَلْبِ شَكْلَ الزَّمَنْ

*

فَفِي كُلِّ نَبْضٍ مِنَ اللَّيْلِ سِرٌّ

وَفِي كُلِّ سِرٍّ فَتَحْنَا السُّدَا

**

السِّفْرُ الثَّالِث: (مَحْوُ الشَّمُوس)

اِمْحُو الشَّمُوسَ الَّتِي حَاصَرَتْنَا

فَمَحْوُ السَّنَا أَوَّلُ الاِشْتِعَالْ

*

وَدَعْ فَوْقَ صَدْرِكَ نُورًا يُنِيرُ

وَيَكْسِرُ بَابًا يَخَافُ الجَلاءْ

*

لِكَيْ يَتَجَلَّى لَكَ السِّرُّ حِينًا

وَيَفْتَحَ فِيكَ طَرِيقَ الفَنَا

**

السِّفْرُ الرَّابِع: (صَدَى البُخُور)

لَجَّ البَخُورُ، فَصَاغَ انْثِيَالًا

يُذِيبُ الظِّلالَ وَيَرْفَعُ نَبْضْ

*

وَعَادَ الصَّدَى مِنْ كُوَى الرُّوحِ،

يُنَادِي دَمَاعَاتِ سِرٍّ قَدَمْ

*

فَيَنْهَدُ فِيكَ زَمَانٌ قَدِيمٌ

يُفَتِّتُ صَمْتًا وَيَبْنِي صَدَى

**

السِّفْرُ الخَامِس: (خَلْعُ العُيُون)

اِنْزِعْ عُيُونَكَ إِنْ ضَيَّعَتْكَ،

فَفَوْقَ البَصَائِرِ يُولَدُ ضَوْءْ

*

وَدَعْ رُوحَكَ الوَحْدَ تُوغِلُ سِرًّا

وَتَحْمِلُ فِي الدَّرْبِ نَبْرَ الشُّهُودْ

*

لِتُبْصِرَ فِي الظُّلْمَةِ الوَجْهَ حِينًا

وَيَخْفُقَ فِيكَ ضِيَاءٌ نَقِيّْ

**

السِّفْرُ السَّادِس: (المِيضَأَة)

مِيضَأَةُ القَلْبِ تَجْلُو صَبَاحًا

يُسَاقِي جِرَاحًا نَمَتْ فِي الضُّلُوعْ

*

وَيَرْفَعُ فِيكَ دُخُولَ البَيَانِ

لِيَهْدِي لِرُوحِكَ مَدَّ الرُّؤَى

*

فَيَنْفَجِرُ السِّرُّ فِي لَوْنِ نَفْسٍ

تُرَاوِدُ نُورًا وَتَخْتَزِنُ الرُّوحْ

**

السِّفْرُ السَّابِع: (نَامُوسُ العِشْق)

فَعِشْقُ البِدَا نَامُوسٌ عَتِيقٌ

يُفَكُّ الطَّلَاسِمَ عَنْ بَابِهَا

*

وَيُمْهِلُ نَفْسَكَ حَتَّى تُصَلِّي

بِسِرٍّ يُقِيمُكَ فَوْقَ الزَّمَنْ

*

فَيَخْفُقُ فِيكَ وِصَالٌ يُنَادِي

وَيَسْكُنُ فِيكَ نَدَى الاِشْتِيَاقْ

**

السِّفْرُ الثَّامِن: (الغَيْبُ وَالوَصْل)

فَفِي الوَصْلِ غَيْبٌ، وَفِي الغَيْبِ وَصْلٌ،

وَفِي الحُضُورِ يُقِيمُ السَّنَا

*

وَفِي السَّهْوِ خَمْرَةُ نُورٍ تُضِيءُ

جَوَانِبَ قَلْبٍ يُفَتِّتُ لَيْلْ

*

فَيَغْدُو الطَّرِيقُ بُخُورًا رَخِيصًا

وَيَغْسِلُ صَوْتًا تَخَلَّفَ فِينَا

**

السِّفْرُ التَّاسِع: (سُكْرُ السَّالِك)

يُسَافِرُ فِيكَ دَمٌ مُنْسَرِي

يُنَقِّي طُرُوقَكَ مِنْ كَدَرِكْ

*

وَيَعْبُرُ مِنْ بَابِ نُورٍ خَفِيٍّ

لِيَهْدِي خُطَاكَ لِدَرْبِ الفَنَا

*

فَتَنْهَضُ فِيكَ أَسَارِيرُ وَحْيٍ

تُفَلِّقُ صَوْتًا وَتَبْنِي سَبِيلْ

**

السِّفْرُ العَاشِر: (خَاتِمَةُ النُّور)

فَسِرْ فِي دُرُوبِ اليَقِينِ الوَثِيقْ

فَلَا شَيْءَ يَهْدِمُ نَبْضَ الهُدَى

*

فَكُلُّ الطَّرِيقِ وُصُولٌ إِلَى

وُصُولٍ، وَكُلُّ الوُصُولِ سَنَا

*

وَفَوْقَ الفَنَاءِ يَقُومُ جَمَالٌ

يُؤَسِّسُ فِينَا حَقِيقَةَ نُورْ

*

الكودا

هذا السِّفرُ ليس قصيدة،

بل عودةٌ طويلةٌ إلى أولِ الضوء،

إلى اللحظة التي ينسحب فيها العالم

ويبقى وجهٌ واحد…

وجهٌ بلا شكل،

ولا زمن،

ولا ظلّ.

وما النورُ يا صاحبي

إلا أن تعودَ شيئًا

لم يمسّه أحدٌ

منذ خُلِق الوجود.

قالَ: غرابُ السدرةِ،

اركبْ جفنَ الغيمِ الأسمرِ

امحُ الشمسَ،

لَجَّ أقنومَ بخورِ قُمْقُمكَ

:تفتحُ أمامكَ الحضرةَ

فاِنزعْ عينيكَ،

واخْلَعْ حلمَكَ

مشكاةَ عشقكَ،

قلبُكَ

***

د. سعد غلام

 

عَانِقْ وُرُودَ الفَجْرِ مُؤْتَلِقًا،

وَاشْرَبْ رَحِيقَ العُمْرِ مِنْ ثَغْرِ الصَّبَاحِ.

ضَوْءُ النَهَارِ اصْطَفَاكَ،

وَاللَّيْلُ غَادَرَ مُذْ رَآكَ،

مُسْتَسْلِمًا،

فِي كُمِّهِ لَفَّ الجِرَاحْ.

*

فَاكْتُبْ —

بِنُورِ الضَّوْءِ — مَلْحَمَةَ الخَلَاصْ،

وَاسْكُبْ شُعَاعَ الشَّمْسِ

فِي طَلْعِ الأَقَاحْ.

*

إِنِّي أَرَاكَ اليَوْمَ مُخْضَرًّا،

وَأَرَى البِلَادَ بِكَ تَهِيمُ،

مَفْتُونًا بِأَعْرَاسِ الحَصَادْ،

مَسْكُونًا بِآيَاتِ اليَقِينْ.

*

فَاشْرَحْ نَشِيدَكَ لِلرِّيَاحْ،

وَاقْرَأْ قَصِيدَكَ — كَيْ يَفُوحَ اليَاسَمِينْ.

*

لَمْلِمْ دُمُوعَكَ فِي الغُيُومْ،

فَالنَّبْعُ جَفَّ،

وَالأَرْضُ حُبْلَى،

فَمَتَى سَتُمْطِرُ؟

كَيْ يَحِينَ مَخَاضُنَا،

كَيْ يُولَدَ الطِّفْلُ الَّذِي

مِنْ نَسْلِهِ نَحْنُ نَكُونْ.

*

لَا تَكْتَرِثْ —

تِلْكَ خِرَافُ الأَمْسِ،

أَرْهَقَهَا التَّطَلُّعُ لِلطُّلُولْ،

مَاضِيهَا حَاضِرُهَا،

وَوِجْهَتُهَا الأُفُولْ.

*

وَقِنَاعُ،

مَنْ مَنَحُوا الغَرِيبَ، وُجُوهَهُمْ!

سَهْمٌ يَشُقُّ الصَدْرَ!

أَطْلَقَهُ الغَرِيبْ!

*

لَا تَكْتَرِثْ —

مَا مَرَّ عَصْرٌ

دُونَ أَقْنَانٍ، عَبِيدْ،

لَقِّنْ، إِذَنْ،

لَقِنْ، حُرُوفَ الأَبْجَدِيَّةِ وَالكِفَاحْ،

هَذَا الَّذِي، مِنْ نَسْلِهِ،

سَيَكُونُ إِشْرَاقُ الصَّبَاحْ.

*

فَغَدٌ سَيُولَدُ مِنْ جَدِيدْ،

وَغَدًا يُوَحِّدُنَا مَعًا،

فِي حِضْنِهِ الوَطَنُ — القَصِيدْ.

***

بقلم:️ سلَيْمَان بن تمَلِّيسْت - تونس

جَرْبَة، 30 أُوتْ 1996

 

وَلِهالةِ القمرِ البعيدِ قَداسَةٌ

نقلَ السُراةُ حديثَها مُتَواتِرا

*

رَشَفوا النبيذَ مُعتّقاً من دَنِّها

ثمّ اهتدوا وَرَمَقْتَها مُتَحيّرا

*

أَفَكُلّما كَرَزُ الصِحاحِ يَلوحُ لي

رِيقي يَسيلُ فأنثني مُتحذّرا؟

*

شَغِفتْ بزخْرفةِ الغلافِ بصيرتي

وَلِعلَّةٍ رَأتِ المِدادِ مُشفَّرا

*

حُبْلى السنابلِ في الصِحاحِ نُجلُّها

وَنَرُدُّ أشواكَ الضِعافِ تَحرُّرا

*

وَنُجلُّ من حَصَدوا السنابُلَ خُشّعاً

إذْ أنجزوا ما قد بَدا مُتَعذّرا

*

لَسْنا ذَوي تِرَةٍ على قُدَمائِنا

وَنَرى القطيعةَ صَرْعةً وَتَهوّرا

*

لكننا نهوى التراثَ مَراقِياً

للماوراءِ وَليسَ عَوْداً لِلْورا

*

فَكرامةُ المخلوقِ خيرُ فريضةٍ

فافتحْ شبابيكَ البصيرةِ كي تَرى

*

واصعدْ سماواتِ السرائرِ رائياً

أسرارَ آلاءِ الكتابِ تَدبُّرا

*

تُثْري فتوحاتُ الجوى ان أشرقتْ

مُتذوّقاً عَرِكَ الرُؤى مُتبصّرا

*

فَتتبّعوا آثارَ أسلافِ النَقا

وَتَوجّسوا أثَراً هُناكَ مُزوّرا

*

أثَراً على عَدَدَ الشفاهِ رُموزُهُ

وَسَرى بِعَنْعَنَةِ الأُلى… مُتَحوّرا

*

هَوَساً بتحريمِ المُباحِ فصارَ مَنْ

يَسموا بِموسيقى الغرامِ مُكفّرا

*

وكذا مُصافحةَ الضباءِ جزاءُها

سَفَرٌ إلى سَقَرِ فَوا نِعْمَ القِرى !

*

تَهْوي العقائدُ إذ تَصُبُّ ضِعافُها

للشاربينَ نجيعَهُنَّ الأحْمرا

*

فكأنّها صَبّتْ زُعافَ ضَلالِها

وأحالتْ المَزّاءَ لُؤْماً أصفرا

*

وجميعها هَتَفتْ بدعوى أنها

منحت ذوي الالبابِ غصناً أخضرا

*

نسجوا أسانيدَ السَديمِ سلاسِلاً

نصبت على عُنُقِ السؤالِ مُسوّرا

*

واهتزّتْ الاكوابُ نَخْبَ حِكايَةٍ

إذ غائبُ النُدماءِ يُطربُ حُضَّرا

*

وتعاقبَ الإملاءُ سَجْعَ مُرَدِّدٍ

يُمْلي وَيَسْتمْلي الندامى سُكّرا

*

سَكِروا وراويةُ القبيلةِ شاهدٌ

لِيُبدِّعَ المرتابَ والمتذمّرا

*

(لا تربطوا الجرباءَ قُرْبَ صحيحةٍ)

وَحَذارِ من داءِ العليلةِ لو سَرى!!

*

أنا لا أصدّقُ ناقلاً مُتعالماً

لِهياكِلِ التقديسِ عاشَ مُسيَّرا

*

فَلَكَمْ قَذى المنقولِ أوهنَ عارفاً

وأزاحَ عن تلكَ الديارِ مُنوّرا

*

هل تُصلحُ الجُلّاسَ صرخَةُ شاهِدٍ

فلطالما غَشيَ الظلامُ المِنْبرا

*

يسقي الأنامَ مِنَ (الضعيفِ) غُثاءَهُ

مُتَبلّداً مُتَغوّلاً مُتحجّرا

*

يغلي بمكذوبِ الحديثِ مَزاجُهُ

وَيُردّدُ المَلَأُ البليدُ مُكبّرا

*

سكرى الطوائفُ والرَوايا تنتشي

فَمتى تُساقينا (الصحيحَ) فَنَشْكُرا

*

وَلَرُبّما (المغشوشُ) أسكرَ قاتِلاً

بِدِماءِ زرعِ اللهِ خاضَ لِيْسكرا

*

كيف الوصولُ لِماءِ زَمْزَمَ خالِصٍ

والماءُ من صَدَأ الدِلاءِ تعكّرا

*

تركوا الفواكِهَ عندَ موْسِمِ قَطْفِها

والى حصاد الأمس عادوا القهقرى

*

بَعُدَ المرامُ على اللواقطِ في الفلا

وتناثرَ الملقوطُ في أُدُمِ الثَرى

*

رَجَعوا إلى زمنِ السَماءِ بلابِلاً

طفقتْ تُغرّدُ كي تُحاكي البيْدرا

*

لكنّما التغريدُ أضعَفَهُ النوى

والرجْعُ من وَجَعِ الغيابِ تَكدّرا

*

أَتَلَمّسَ القيّافُ يُنبوعَ الهُدى؟

فَسَلوا (بُخارى) الأمسِ أو (أ مَّ القُرى)

*

وَسَلوا (كُليْنَ* ) وَ* سائلوا (الرَيَّ ) التي

زَعَمَتْ بِأنَّ الصيْدَ في جوْفِ الفَرا

*

رَكِبوا سُروجَ الليلِ صوْبَ سِراجِنا

بِيضُ المقاصِدِ قاصِدينَ الجوْهرا

*

عطشى القوافلُ والخيالُ هَوادِجٌ

هَتَكتْ سرابَ البيدِ ترجو الكوْثَرا

*

طَلَبوا رضابَ الحوضِ ثُمّتَ أدركوا

عَسَلَ الرضابِ على الشِفاهِ تَغيّرا

*

صَدَحَ الأوائلُ بالنُقولِ شَفاهَةً

وتناقلوا شوكَ الجنائنِ أعْصُرا

*

وَتَلقّطوا ثَمَرَ الصدورِ رواجِعاً

كَمُقامرينَ وما أباحوا المَيْسِرا

*

بذلوا قصارى العشقِ في قَطْفِ الجَنى

وَقِطافُهم بِصدى السنينِ تَعفّرا

*

ياناقلي (سُنَنَ) الحَبيبِ رُويدكمْ

(سُنَنُ) الدُهورِ قد تُغيّرُ أسْطُرا

*

بِكنوزِهِ حَفِلتْ حوافظُ ثُلّةٍ

ترعى الأمانةَ والذِمامَ تَذُكُّرا

*

مادنّسوا دُرَرَ البِحارِ وإنّما

زَبَدُ الذَواكِرِ قد يُخالطُ أبْحُرا

*

كَثُرَ الحُداةُ على الرواحِلِ في الدُجى

وَبِدمعِهم ياما الدليلُ تَعثّرا

*

نَفَدَ المجازُ مع المِدادُ فَهَيْتَ لي

غُرَرَ القوافي الراحِلاتِ مع السُرى

***

د. مصطفى علي

 

إِذا مـا رَأَيْـتَ النَّـاسَ عَنْـكَ تَحَـوَّلُـوا

تَحَـوَّلْ، تَجِـدْهُمْ مِنْ حَـوَالَيْكَ أَقْبَلُوا

*

طَـبَـائِعُ نَـفْـسٍ ما يُـطَاوِلُـهَا البِـلَـىٰ

ومَنْ كَـانَ مِنَّا لا يَرَىٰ النَّفْسَ أَحْوَلُ!

**

ولَـوْ أَنَّ (قَـيْـسًا) لَـمْ يُـجَنَّ جُـنُوْنُـهُ

بِـ(لَيْلَىٰ)، لـَجُنَّتْ/ (قَيْسُ عَيْلَانَ) زُلْزِلُوا

*

ولَوْ أَنَّ تِلْكَ (الدَّوْدَحِـيَّـةَ)(1) حَلَّـقَتْ

عَلَىٰ الحُبِّ، لَـمَ يَخْطُرْ قَنَا الغُصْنِ يَنْزِلُ

*

ولا قَتَـلَـتْهَا غَـيْـرَةُ الأَهْـلِ، لا.. ولا

هَـمَتْ في الأَغانِـيْ دِيْمَةُ الخُلْدِ تَهْمِلُ

*

أ تِلْكَ الفَـتَاةُ اغْتَالَـهَا الحُبُّ؟ أَمْ هُمُ؟

فيَا طُوْلَ هَمِّ الحُبِّ! والظُّلْمُ أَطْـوَلُ!

*

كَـقِـدِّيْـسَةٍ، ظَـنَّتْ سِـهَامًا تَنُوْشُـهَا

وُرُوْدًا، فَـضَمَّتْـهَا بِقَـلْـبٍ يُـقَــبِّـلُ

*

فيَـا وَيْلَ ما لاقَتْ مِنَ الوَيْلِ في الهَوَىٰ

وكَانَتْ فَـتَاةَ الحَـيِّ والحَـيُّ حُـوَّلُ!

**

وكَـمْ ذا يَـرُوْعُ العـاشِـقِـيْنَ تَـمَـنُّـعٌ

ومَـا هُـوَ إلَّا رَوْعُـهُـمْ آنَ كُـبِّـلُــوا

*

تُعَـادِيْ الفَتَىٰ نَفْسُ الفَتَىٰ في وُجُوْدِ مَا

يَـوَدُّ، وقَـلْبُ الـمَرْءِ لِلمَرْءِ يَقْـتُـلُ!

**

صَعِـيْـدٌ عَلَـيْـهِ كُلُّـنَا فِـي صعُـوْدِنَـا

ولٰكِـنْ هُـنَا كَلٌّ.. هُـنَالِـكَ كَـلْكَـلُ

*

فمَنْ عَـزَّ بَـزَّ السَّابِـقِـيْنَ، ومَنْ يَـهُـنْ

يُـبَزَّ: صَرِيْـمًا دِيْـسَ والخَـيْلُ تَصْهَلُ!

**

سَـلَامٌ عَـلَىٰ الإِنْـسَـانِ أيـَّانَ بُـدِّلَـتْ

مَعَـاهِـدُهُ الأُوْلَـىٰ وأَهْـلُـوْهُ بُـدِّلُـوا

*

وأَنَّـىٰ لِـمَيْتٍ يَـبْعَثُ المَـوْتَ طَـائِـرًا

جَنَاحَـاهُ نَـارٌ مِنْ دَمِ الدَّهْرِ تُشْعَـلُ؟

*

وما كَـانَ أَمْـسِ صَفْـوَةَ العُمْـرِ، إِنَّـما

نَحِـنُّ لذِكْـرَىٰ كالطُّـفُوْلَةِ تَهْـطِـلُ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................

(1)  إشارة إلى مأساة تلك الفتاة اليَمنيَّة، من وادي (بنا). وعنها جاءت الأغنية الشهيرة «خَطَر غُصن القنا»، من كلمات (مطهَّر بن علي الإرياني).

 

يهيمنُ ريحُ الشتاءِ ولكنْ

نَ ريحَ الخريفِ يعاود كرّا

*

يخالُ بأنّ الصّمودَ طويلًا

يُغيِّرُ حظًّا ويجلبُ نصْرا

*

وينسى بأنّ حليفَ الشتاءِ

زمانٌ تحدِّيه يقصِمُ ظهْرا

*

يعزُّ على ذا الخريف انكسارٌ

سينزعُ عنهُ رداءً وسِتْرا

*

وليس يفيدُ الدّعاءُ خريفًا

ولو قامَ دهرًا وأمسكَ دهْرا

*

أحبُّ الشتاءَ ولكنّ دمعِي

لأجلِ الخريفِ تدفّقَ نهْرا

*

ولو أذنَ اللهُ واسْطعتُ شيئًا

لنقّصْتُ عُمريْ ليزدادَ عُمْرا

*

ولكنّ أمرَ المُهيمنِ يمضيْ

وهل من مفرٍّ إذا رادَ أمْرا

*

وما عشتُ إلّا كهذا الخريفِ

بأرضٍ بها يولدُ العِتْقُ أسْرا

*

ويحيا بها الشرٌّ بشّا وحرا

ويسعىْ بها الخيرُ إنْ عاش سرّا

*

إذا ما بكى الناس عمر الشبابِ

ادّعيت وواسيتُ بالقول: صبْرا

*

وصدقُ المواساةِ إدراكُ معنى

الّذي فقدَ النّاسُ حلوًا ومرّا

*

ولكنّني والخريفَ شبيها

ن إذ لا شبابَ لنبكيهِ قهْرا

*

وإلا لأنسى البكاءَ بكاءٌ

فإنّ له مثلما قيلَ سِحْرا

*

وداعًا خريفَ الفصولِ وداعًا

خريفي وربّي بما ظلّ أدْرى

***

شعر: أسامة محمد صالح زامل

كفوا دواعي البهرجه

ليست حياتي سفتجه

*

ما بالكم عامت بكم

كل الدواعي المبهجه

*

كادت وما صارت لنا

كبش أتاه فرجه

*

ما لي أرى في حارتي

سوق علاه هرجه

*

كيف أكون فارها

صوت سماعي ضجضجه

*

قد قلت يوما حينها

كيف دجاي أوهجه

*

ما حيلتي كان معي

يرقى سلاما منهجه

*

كيف المساري كلها

نار بها قد تلعجه

*

أصغ وقال صاحبي

ميل الحياة رهججه

*

بدر السناء طافني

قد كنت أسري الدلجه

*

كفو خصاما في الهوى

شوق الغوالي هزجه

*

من بعدما شاءت لنا

سلمى أضاعت درجه

*

ما لي وصرت في الجوى

قلب الهوى ما احوجه

*

ثم أتيت يا سهى

أدعو وارجو مفرجه

*

كيف رقاني وصلها

شوق الهوى ما أولجه

*

ثم ركبت سفنها

بحر الكوى ما أموجه

*

كفو أذن من ضرمها

كف المعاني ناسجه

*

لست أنا من موشك

مهما الاماني ناتجه

*

ما لي أنا من دونه

ينهار بيت الاسيجه

*

أصغ وهل كنت لكي

غير رضاك ألهجه

*

ماذا أرى من  بعدما

قطف المنايا ناضجه

*

ما حالها تلك الدنا

غير ذئاب هائجه

*

كفوا أذن من قطفها

وصل الاماني مزعجه

*

ما بال من ذاق الونى

يلقى الثمار الناضجه

*

حبا لكم يا صحبتي

ضرم حشاي لاعجه

*

دفء لسلمى في الهوى

ريح الشتاء ثالجه

***

علي جبار الاسدي

 

سلمى، موظفة بسيطة تعيش في هدوء نفسي وسلام داخلي. لا تتدخل في شؤون الغير ولا تهتم بحياة الغير. حياتها تختزل في شغلها كموظفة في شركة استيراد وتصدير، وفي أسرتها المتكونة من والدتها التي تعيش معها وزوجها وابنيها. تراها صباحا ذاهبة الى عملها بسرعة لا تلوي على شيء، أو عائدة في المساء الى بيتها، لا تلقي بالا لما يحدث حولها. منحنية الرأس، تضع تحت ذراعها حقيبة متوسطة الحجم. لونها أسود. تقول دائما "انه لوني المفضل. يمدني بطاقة غريبة وراحة بال لا أفهمها. لست أدري لماذا ينعتونه بأنه لون الحزن؟". وهي دائما تسرع الخطى وتحاول أن تنتصر على المسافات التي تبعدها عن بيتها حتى تصل في الوقت المناسب وتلبي طلبات أسرتها الصغيرة. نادرا ما تأخذ سيارة أجرة. ترى أنها مصاريف غير ضرورية. حتى وهي في عملها، تكون منشغلة بما ينتظرها بالبيت من أشغال. قالت يوما لزميلة لها:

- لم أستطع أن أطبخ اليوم، ولست أدري كيف سأتصرف.

أجابتها زميلتها بصوت واثق:

- اطلبي من زوجك وهو عائد الى البيت أن يحضر معه أكلا. وهكذا سترتاحين.

ابتسمت سلمى وأجابت بافتخار:

- في البيت لا يحبون أكل المطاعم. يعشقون أكلي.

ظهرت علامات التوتر على ملامح زميلتها. وسألتها بعنف رغم أنها لم تكن تقصد ذلك:

- لا أفهمك يا سلمى. تشتكين من الإرهاق في البيت ولا ترغبين في المساعدة. زوجك لديه سيارة ولا تطلبين منه أن يتركها لك بعض الأيام في الأسبوع حتى ترتاحين من المواصلات. أمرك غريب.

وتذكرت ساعتها سلمى يوم فاتحت زوجها بخصوص السيارة وطلبت منه أن يوصلها الى العمل أو يتركها لها. قال لها:

- أنت تعلمين جيدا أنني لا أستطيع الذهاب الى العمل بدون سيارة. وأنت تعلمين أيضا أنني أكره سيارة الأجرة. ومع ذلك، تفتحين هذا الموضوع. انسي تماما السيارة.

فهي تحاول أن تترك حياتها الخاصة بعيدا عن ألسنة زملائها بالعمل. تخاف كثيرا من أحاديثهم التي تكبر وتكبر وتصير مثل كرة الثلج كلما تدحرجت، كلما ازداد حجمها. تفضل الصمت على الخوض في هذه المواضيع. حتى رفضها حضور احتفالات الشركة أو دعوة غذاء، كانت تجيب دائما من يبادرها بالسؤال: "بيتي أولى بكل دقيقة" ولا تقول لهم الوجه الآخر من الحقيقة.

تلك الحقيقة التي اكتشفتها يوما بعدما تأخرت بعض الشيء عن وقتها المعهود للعودة الى البيت. ولجت يومها بيتها، وكانت منهارة من التعب والقلق. وجدته بالمطبخ، كثور هائج. قال لها أمام والدتها وابنيهما:

- أين الأكل؟ آخر مرة أحضر الى البيت ولا أجدك..

حاولت أن تشرح له سبب تأخيرها، رفض الاستماع وخرج.

ووبختها والدتها وقالت لها:

- معه حق. بيتك أولا. وهو وافق على عملك بشرط أن تكوني دائما بالبيت.

نظرات متفرقة بين زوجها الذي خرج غاضبا وأمها التي تؤنبها وولداها اللذين ينتظران الآكل في صمت.

سألتها يوما احدى زميلاتها: " متى ستهتمين بسلمى؟" أجابتها بطيبوبتها المعروفة ودون تفكير:" من سلمى؟" ضحكت زميلتها وقالت لها "الى هذه الدرجة، نسيت اسمك؟".

وسط صخب الحياة اليومية، نسيت نفسها. وكانت تسارع الزمن والتعب والإرهاق حتى تلبي طلبات أسرتها دون انتظار أي اعتراف. فكلام والدتها لا يفارقها حتى وهي في الحمام." الزوجة التي تهتم ببيتها وزوجها وأولادها، هي الزوجة الصالحة...الزوجة التي تكون أول المستيقظين وآخر النائمين، زوجة محبوبة عند زوجها..." كلام يتطاير حولها من الصباح الى المساء حتى نسيت أن اسمها "سلمى".

استيقظت ذلك الصباح وهي غير مرتاحة. كانت تشعر بتعب وارهاق شديدين، كأنها لم تنم منذ زمن. قاومت ذلك الشعور الذي يستوطن جسدها، واتجهت صوب المطبخ لتحضير وجبة الفطور وسندويتشات لابنيها. تركت الأكل جاهزا على المائدة، وخرجت الى عملها. تضطر الذهاب باكرا حتى لا تتأخر في المواصلات. كل يوم، تعيش نفس الحكاية، تنتظر سيارة أجرة، ويمكن أن يطول الانتظار أو يقصر. دائما تضع في حقيبتها حذاء بكعب عال خاص بالعمل. وتلبس حذاء رياضي يساعدها على الوقوف والانتظار في صمت.

لازمها ذلك الإحساس بالتعب حتى أغمي عليها وهي وراء مكتبها.. حملت الى المستشفى. كلموا زوجها، لم يحضر لأنه كان لديه اجتماع. طلبوا والدتها في البيت، لم تستطع الحضور لأنها لا تعرف كيف تـأخذ سيارة أجرة. حيث أنها طيلة حياتها، لما كان زوجها على قيد الحياة، كانت لا تغادر البيت بتاتا. وكان زوجها هو الذي يتكفل بكل ما يخص البيت من الخارج. حتى زيارة أهلها، كان يصطحبها بالسيارة ويعود اليها بعض ساعات.

ظلت سلمى بالمستشفى اليوم كله، عادت الى بيتها مساء، تحمل أوراق التحاليل وبعض الأدوية. لم يكن زوجها قد حضر بعد. استقبلتها والدتها وحضنتها ثم قالت لها:

- انه التعب يا ابنتي. قلت لك اتركي العمل واهتمي ببيتك أحسن.

كانت سلمى ساعتها منهارة. ابتسمت لها ابتسامة باهتة وولجت غرفتها. عادت والدتها تشاهد التلفاز وتتابع مسلسلها المفضل، دخل الولدان غرفتهما بعدما عاتبا أمهما على الـتأخير لأنهما لم يجدا ما يأكلانه.

نامت سلمى بعد يوم شاق.  تركت التحاليل جانبا مع الأدوية. ونامت دون ان تغير ملابسها.

استيقظت في الصباح على صوت ولديها، يطلبان الفطور لأن وقت المدرسة قد حان. وعلى صراخ زوجها الذي من عادته، إذا لم يجد الأكل جاهزا، يصرخ ويثور ويغضب ويلومها على اهمالها. صراخه تجاوز غرفة نومها، حاولت والدتها تهدئته فقالت له:

- لقد عادت بالأمس مرهقة. سأوقظها.

دخلت غرفتها وحاولت ايقاظها فقالت لها بصوت خافت لكنه عنيف:

- زوجك ينتظر فطوره. انه سيتأخر على عمله. قومي ...ما هذا التهاون.

لم تفهم لماذا في تلك اللحظة، افتكرت ما قالته لها زميلتها يوما" ألهذه الدرجة، نسيت سلمى؟"

ظلت تتأمل الأدوية التي بين يديها، وأوراق التحاليل على الطاولة. والبلبلة الآتية من المطبخ. فقامت بشكل آلي، غيرت ملابسها وحملت حقيبة يدها ووضعت فيها الأدوية والتحاليل لأنها ستبدأ رحلة جديدة مع المرض. خرجت من غرفتها وكانوا هناك ينتظرونها ويصرخون كل واحد يريد منها أن تلبي طلبه. كثرة الطلبات التي تهاجمها كالحجارة منذ ولوجها البيت الى أن تغادره. تأملتهم ومرت من أمامها عشرون سنة تتسابق بشكل هيستيري. لم تنتبه للزمن. رأت كما يرى النائم في منامه، عشرون سنة من حمل ورضاعة وغسل الأواني وكوي الملابس ومراجعة الدروس والاستيقاظ الباكر لإعداد الفطور وكذلك وجبة الغذاء. سألت زوجها:

- هل تعلم اين كنت بالأمس؟

لم تنتظر منه جوابا. أردفت بكل قوتها الغائبة منذ سنين وقالت له:

- كنت في المستشفى. واتصلوا بك ولم تحضر. واتصلوا بوالدتي ولم تحضر. كنت وحيدة، مع أنني أهديتكم عمري.

اتجه صوب الباب وقال لها:

- أحسن لك الاستقالة من عملك وتتفرغين لأسرتك.

تأملته مليا وقبل أن يغادر البيت طلبت منه مفاتيح السيارة ومرت من أمامهم كما مرت سنوات عمرها وكسرت حائط الصمت وخرجت.

***

أمينة شرادي

 

(العبور إلى المجهول)

سَأُغْرِقُ خُطْوَيَّ فِي نِدَاءِ الضَّوْءِ،

وَأَمْضِي فِي انتِشَاءِ غَمَامَةٍ سَوْدَاءِ،

أَسِيرُ عَلَى مَدًى يَشْتَدُّ فِي صَدْرِي،

وَأَلُفُّ نُجُومَ أَحْلَامِي عَلَى رِيحٍ تُدَاعِبُهَا السُّهُوبُ.

2

أُرَاوِغُ سَاعَةَ الْفَنَاءِ، وَأَسْتَبْقِي

شُظَايَا الْوَقْتِ فِي أَكُفٍّ تَبْسُمُ الْأَفْلَاكُ فَوْقَ رَيَّاهَا.

3

يَذُوبُ صَدْرِي فِي مُرُوجِ الْمَاءِ،

وَيَصْحُو فَوْقَهُ صَوْتٌ مِنَ الْغَيْبِ،

يُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الْحُلْمِ مُسْتَنْفِرًا كَوَاكِبَ السُّدُومِ.

4

لِأَقْرَعَ أَبْوَابَ الْغُيُوبِ، وَأَنْسُجَ

مِنَ الْيَأْسِ الْقَدِيمِ قُبَّةً أُخْفِي بِهَا وُجُوهَ الْكَوَاكِبِ.

5

يَا أَيُّهَا الصَّوْتُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظِلِّي،

غَيِّرْ نِدَاءَكَ، لِيَفْتَحَ جُرْحُنَا أُغْنِيَّتَهُ الْمَرْسُومَةَ.

6

وَرَجَعَتِ الْقَافِلَةُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَادِ،

وَأَشَارَ السِّرَاجُ إِلَى وَجْهِ الْفَتَى،

فَخَافَ الْخُطْوَةَ، وَارْتَدَّ إِلَى الظِّلِّ،

فَاقْتَادُوهُ، وَقَطَعُوا عُنُقَهُ فِي السُّحُبِ،

وَمَضَيْتُ أَجُرُّ وَجْهَ دَمِي، وَأَحْفَظُ حُلْمَهُ.

7

مَضَيْتُ كَالرِّيحِ الَّتِي تَجْتَازُ أَجْفَانَ الصَّدَى،

تَخُطُّ عَلَى ضُلُوعِ الْغَيْبِ أُغْنِيَةَ النُّدُوبِ.

8

قَطَعْتُ صَحَارِيَ الْيَأْسِ، أَحْمِلُ ظِلَّنَا الْمَجْرُوحَ،

يَرْتَفِعُ الْحِصَانُ عَلَى شُرُفَاتِ نَجْمٍ مُشْرِقٍ طَلِقٍ.

9

لَوْ أَنَّنِي أَمْلِكُ زَمَانَ النُّبُوَّةِ،

لَسَجَّيْتُ الطُّفُولَةَ فِي بُسْتَانِ اللَّوْزِ،

وَحَوَّلْتُ حُرَّاسَ الظِّلَالِ طُيُورَ أَمَانٍ تَطِيرُ.

10

يَا أَرْضُ، خُذِينِي إِلَيْكِ كَيْ أَسْكُبَ أَسْمَاءَ الْفَقِيدِينَ فِي نَبْضِكِ الْخَفِيِّ.

11

أَصْعَدُ كَالْجِذْوَةِ الْعَاتِيَةِ فِي وَقْدَةِ النَّهْرِ،

وَأُشْعِلُ فِي دَمَائِي وُجُوهَ أَيَّامِي الْقَدِيمَةِ.

12

يَرْفَعُنِي الْيَأْسُ كَهَزِيمَةٍ نَبِيلَةٍ،

وَيَغْسِلُنِي الْوَعْيُ كَمَطَرِ الْخَرِيفِ الْمُشْرِقِ.

13

لَسْتُ نَجْمًا وَلَا نَبِيًّا مُعَدَّدًا،

بَلْ سَاكِنُ الْخَلْقِ فِي مَتَاهَةِ الْجَسَدِ الْمُقَفَّرِ،

أَنْحِتُ مَصَائِرِي عَلَى أَكُفِّ الرِّيحِ، وَأَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ.

14

فِي صَدْرِ هَذَا الْكَوْنِ أُشْعِلُ أَلْفَ نَشِيدٍ،

وَطَنِي نُقْطَةُ دَمٍ عَلَى جَبِينِ الرِّيحِ الرَّؤُوفِ.

كودا:

فِي الْمُنْتَهَى

يَبْقَى الظِّلُّ ظِلًّا،

وَتَبْقَى الْخُطَى فِي الرِّيحِ عَلَامَةً لَا تُمْحَى

فِي مَسَافَاتِ النُّورِ الْخَفِيِّ

يَصْغُرُ الْمَلَكُوتُ فِي صَدْرِي،

وَتَتَّسِعُ الْعُزْلَةُ حَدَّ الْكَوْنِ

أَنَا النَّازِفُ فِي جُبَّةِ الْغَيْبِ،

السَّابِحُ فِي مَرَايَا السُّدُومِ،

الْمَطْرُودُ مِنْ يَقِينِ الْحَشُودِ؛

أَكْتُبُ بِالدَّمِ رِسَالَتِي الْأَخِيرَةَ:

-وَطَنِي لَا يَسْكُنُ الْخَرَائِطَ؛

وَطَنِي هُوَ النَّازِفُ فِي نُقْطَةِ الضَّوْءِ،

يَنْبُضُ كُلَّمَا أَضَاعَهُ الزَّمَنُ في صمت الخراب، يهمس الضوء،

يقول لي: «هذا هو العبور».

كل رماد، كل سقوط، يولد صدىً جديدًا،

والظلّ يصبح وجه الحقيقة.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

أحببتُ أيامي الماضية

ولوعتي وحنيني

أراه في زوايا

الحكايات

ثم أكتم قلبي

سقط فنجان قهوتي

برعشة يدي

أرسمه في مخيلتي

كأنه يبحث عني

أكتب له رسائل حنين

لكني لا أرسلها

أسرد حكاياته في كل ليلة

لكي أغفو بهدوء

أحفظ كلماته كأنها

خلاصة الحياة

أرسم وجهه

في لوحة ذاكرتي

وأشكر الحياة سرا

فقد منحتني هذا اللقاء

وان كان بعيدا

وأخاف ان تخذلني لهفتي

فيختل توازن قلبي

بين حضوره وغيابه

وأخاف ان لا يعرف

وخز أضلاع أشرعتي

فأبقى حبيسة هذا الوجع

لكن القمر يحب البحر

يقترب منه كل ليلة

ثم يعود الى وحدته

دون ان يلمسه

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

دَعَتْني وردتي اليومَ

أُلَبِّي دعوة الحَاجَةْ

وقد لَبَّيْتُها فَتنفْسَت صُبْحاً

وشمس بناتها شَرَعَتْ

تُكَفَّكفُ دمعَ مُحْتَاجَة

وَحَلَّقَ نورسٌ في الكونِ مُحَتَجَّاً

لماذا يَقْطَفُ الإِنسانُ

زَهْرَ أخِيهِ

مغتالاً بـ (دَرَّاجَةْ)!؟

***

محمد ثابت السميعي

 

لا الخيلُ تعرِفُني ولا البيداءُ

لكنَّما السمراءُ والشقراءُ

*

لا أدّعي أنّي نبيٌّ مثلَهُ

ديني النساءُ وكعبتي الأهواءُ

*

أنا ثورةُ الشِّعرِ التي قد زلزلَتْ

عرشَ الكلامِ وهابَني الشعراءُ

*

قبلي النساءُ قصائدٌ منسيّةٌ

حتّى استقَتْ حِبري فسالَ الماءُ

*

هم ينظرونَ إلى النساءِ كأنّهُنَّ..

سيوفُ حربٍ في الفلاةِ ظِباءُ

*

وأنا أرى فيهنَّ سِرَّ مجرّة

فالجاذبيّةُ هذهِ الأثداءُ

*

غَرِقَتْ بحورُ الشِّعرِ فيكِ حبيبتي

أنتِ القصيدُ وما سواكِ هباءُ

*

لمساتُ كفِّكِ ريشةُ الضوءِ الذي

نحتَ المكانَ فكلُّهُ أفياءُ

*

ورفيفُ همسِكِ مثلُ غيمِ غوايةٍ

وأنا بكلِّ جوارحي استسقاءُ

*

أنا ذلكَ البركانُ لكنّي إذا

دَنَتِ الفراشةُ من يدي أنواءُ

*

أنا لا أمرُّ بكلِّ أنثى عابراً

إلّا وكانَ بُعَيدَ ذاكَ لقاءُ

*

ثوبُ القصيدةِ كانَ قبلي مُترَباً

ومُمزَّقاً وأنا أنا الرفّاءُ

*

هل غادرَ الشعراءُ غزةَ بعدَما

نادَتهُمُ الأموالُ والأمراءُ

*

وفُحولةُ الشّعراءِ أينَ نِتاجُها

إنَّ القصائدَ عندَهم عذراءُ

*

ما خُنتُ لوني عندَما طلعَ الصبا..

حُ مُبشِّراً وكأنّني حِرْباءُ

*

يا دجلةَ الخيرِ التي بركاتُها

للآخرينَ، لنا هنا الأقذاءُ

*

لمّا هززتُ النخلَ في أرضِ السوا..

دِ تنزَّلَتْ جثثٌ عليَّ، دماءُ

*

لا الهُورُ مزهوّاً بأرضِ جَنوبِهِ

كلّا ولم تتعمّرِ الحدباءُ

*

أنا صرخةٌ مذبوحةٌ لكنّما

آذانُ قومي دائماً صمّاءُ

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

أتى زمنٌ ليَ التصْفيقُ فيهِ

اعْتزازًا وابْتهاجًا جَفوُ جافِ

*

وأُكْبِرُ جمعَكُمْ لكنّ ذبحي

بأيدي أمّ موسى غيرُ خافِ

*

و موسى حولَهُ الدّنيا انتصارًا

لهُ ولهَا جيوشٌ في اصْطِفافِ

*

وما زِلتُمْ كما كنتُمْ أَكُفًّا

تُصفِّقُ والمقاصدُ في تنافِ

*

وآمالًا بعتقٍ وانْتصافٍ

بعَصرٍ معْهُ أنتُمْ في تجافِ

*

وخوفًا من رؤوسٍ لا تُداوَى

بطولِ الصّبرِ لكنْ بالقِطافِ

*

وفي قلقٍ منَ الأيّام تُدني

لكمْ موسى بثوبِ الإنحِرافِ

*

ومعْهُ ثلّةٌ منكُمْ تناديْ

به أهلًا لها شكلُ الخِرافِ

*

وفي حُلم بمهديٍّ  يُعيدُ

السّيادةَ بعدَ أزمنةٍ عِجافِ

*

وأجْنادٍ على أسوارِ روما

وقُسْطنطينَ منْ بعدِ التّعافي

*

وعيسى في دمشقَ يردُّ ديْنًا

لمنْ خلَعوا الفُجورَ على العفَافِ

*

ويأجوجٍ ومأجوجٍ غزاةً

وأرضٍ عن مدارٍ في انْعطافِ

*

تيقّن ضعْفُكمْ أنّ المواضيْ

محالٌ عودُها بعدَ انْصرافِ

*

وقد كانتْ لكمْ كالحِصنِ حينَ

الشّعورِ بنقصِكمْ والإختِلافِ

*

عن الأُمَمِ الّتي صارتْ تخافُ

اسْمَكُم حتّى على وجْهِ المُضافِ

*

فطِرْتُمْ نحوَ آتٍ في حديثٍ

به يُمسي الرّواةُ على خِلافِ

*

وحاضِرُكُمْ بحاجتكمْ ليَخطوْ

بِكمْ خطْوَ الحواملِ في المشافي

*

وهَذي أمُّ موسى قدْ أعدّتْ

لمُحْتَملٍ بِلَمْلَمَةِ المَنافي

*

وجمْعِ الغرْبِ والشّرقِ المُنافيْ

وأُولي الأمرِ فيكُمْ في ائْتلافِ

*

وقتلِ مُحمّدٍ -صلّوا عليه-

وكم قتَلُوهُ بالسّمِّ الزُّعافِ

*

ودفنِ عزيزِكمْ حيًّا على أر

ضِ عزّتِكمْ وأنتُمْ في اعْتكافِ

*

ورصدِ رضيعِكُمْ فرضيعُكُمْ خصْـ

مُها مهما يقُلْ زمنُ التّصافي

*

وسحقُ حشودِكمْ آتٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالتّظاهرِ والهتافِ

*

ونهرُ دمائِكمْ جارٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالوقوفِ علىْ الضِّفافِ

*

وجوعُ صغيرِكم عارٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالمؤونةِ واللّحافِ

*

ومسخُ حروفِكم ماضٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالخطابة والقوافي

*

وجمعُ شتاتِكم ناءٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ باللّقا حينَ الطَّوافِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ما عادوا كما كانوا. عادوا وفي عيونهم نيازكُ لم تسقط بعد، وفي أفواههم مذاقُ رمادٍ يشبه الحقيقة. كلّ خطوةٍ يمشونها تُصدر صدى انفجارٍ قديم، كأنّ الأرض لا تزال تتذكّر وقعَ أجسادهم وهم يركضون نحو موتٍ لم يكن عدوّاً بقدر ما كان مرآة.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب يعرفون شكلَ الضوء حين يُنزَع من صدر إنسان، ويعرفون كيف تُصبح السماءُ ثقيلةً حين تُفكّر في الله أكثر مما يحتمل الهواء. يبتسمون للأطفال بحذر، كأنّ الضحك قد يُوقظ جثّةً كانت نائمة فيهم منذ سنوات. وحين يحدّقون في المدى، ترى في نظراتهم خريطةً للدمع أوسعَ من المحيط.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب يحملون أصواتَ رفاقهم في جيوبهم، كتمائم من طينٍ ومعدنٍ وصلاة. أصواتٌ تهتف في الليل: لا تنسَ... لا تنسَ. لكن النسيانَ، مثل المطر، يتسلّل من بين الأصابع، ويبلّل وجوههم في النوم، فيستيقظون وفي أعينهم شمسٌ مكسورة.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب لم يعودوا يبحثون عن البطولة، بل عن معنى أن يبقى القلبُ نابضًا في عالمٍ يمكن أن ينهار بلحظة. يؤمنون أنّ السلامَ ليس غيابَ الطلقات، بل لحظةُ صمتٍ تقدر أن تحتملها الروح دون أن تنفجر.

*

هم أبناءُ الكواكب التي احترقت ثم أضاءت، أبناءُ الأزمنة التي عرفت كيف تُعيد تكوين نفسها من العدم. وحين يسيرون بيننا، نشعر أنّ الكونَ يمرّ فيهم مثل مجرّةٍ تتذكّر أصلَها الناريّ.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب لا يموتون حين يسقطون، بل حين لا يجدون أحدًا يُصغي إلى ما لم يقولوه.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

في نصوص اليوم