نصوص أدبية

نصوص أدبية

امرأة من غزة

تعرّي الصمت العربي

***

يا مالكـي الأمر والأموالِ والذهــبِ

على ذراعيَّ طفلي مـاتَ مِنْ سَغَـــب(1)

*

قدْ جوّعـــونا وأنتمْ مُتخمــونَ فهلْ

(ماتَ الضميــرُ وماتتْ أمّـــة العــربِ)(2)

*

قرصُ الرغيف بعيــدٌ عن منالِ يدي

بُعْـدَ السمــاواتِ والأفــــلاكِ والشهبِ

*

أتنكـرونَ بأنّــا مـن سلالتكــــم

وأننـا واحــدٌ فــي العرْقِ والنســــبِ

*

مأسـاتنا حرّكـتْ أحــرارَ عالمنا

وأنتـــمٌ مثــــل أوتــادٍ مــن الخشــبِ

*

أيـنَ العروبةُ أينَ القائلـــونَ لنـأ

انصر أخـــــاكَ ولا تســألْ عن السببِ

*

لــمْ يبقَ منـــها سوى لفظٍ نرددهُ

مـا عادَ يُسمـعُ فـي دنيـــا مـن الصخبِ

*

وغبر بضـــعِ عبــاراتٍ منمّقـةٍ

طــابَ المقامُ لهــــا في باطــنِ الكتبِ

*

أمّا العروبةُ، دفعُ الضيم عن وطنٍ

أمسى مُباحـاً لمحتـــلٍّ ومُغتصــــبِ

*

أنكرتمـــوها جهـاراً دونما خجـلٍ

آثرتُمُ الزحــفَ في ذلٍّ علـــى الرُكبِ

*

قد خــابَ ظنّي بكم ما عُدتُ أسألكم

مـا عادَ ينفعُ لا لــــــومي ولا عتبي

***

جميل حسين الساعدي

18/8/2025

...........................

(1) السغب: الجوع

(2) عجز البيت من قصيدة للشاعر عبد الحميد الجيداوي، أحد أصدقائي القدامى ألقاها قبل أكثر من نصف قرن

أذق رغبتي طعم الرّضاب برشفةٍ

بها أنتشي كيما يقر هيامي

*

فقد قضّني فيك الهجوع بليلتي

ولم أستطع أن أكتفي بمنامي

*

إلى أن مضى الليل الطويل وأشرقتْ

على أفقها شمس الصّباح أمامي

*

مضت منيتي.. حزَّ النّعاس دواخلي

وقد ساور النّوم العتيد مرامي

*

فما لفّني نور الطّلوع، ولفّني

على ما أنا آن المنام ظلامي

*

لذا لم أزل فيه أعيش كأنني

من القَزِّ أغفو في حرير نعامِ

*

إذا شاءني حُبّي أحوك شراشفي

إلى العرس حسبي قد غزلتُ غرامي

*

بهِ كنتُ أسري .. ما أزال بوجهتي

وفي اللّيل يؤذي في المنام سقامي

*

فما كان لي عزف يسوق ربابتي

ولا كنت أشدي بالهديل حمامي

*

إلى أن سرى نايُ الغروب فهزّني

و مذ ذاك نمتُ هانئاً بسلامِ

***

رعد الدخيلي

 

كلّ كا أفتقِدُهُ أجدُهُ في صوت فيروز

ما دامتْ بابُ خِزَانة الذهب مفتوحة لي

فلن أعْدَمَ الشبابَ ولا الحبّ ولا الجمال

ربما تُغطّي العمرَ زهورُ القطن البيض

لكن ربّ زهرةٍ حمراء

ستطلّ من وسطها باسمة بأسنانٍ هازئة

**

صوتها يتناهى لسمعي من داخل قلبي

فقلبي هو جهازُ مذياعي

ولمذياع قلبي مفتاحُ تشغيل

وبطارية تنبض

ومع كلّ نبضة يتوهج المذياع بصوت

يُنيرُ ملايينَ القلوب المظلمة

أينما أدرتُ مؤشرَ المذياع لا أسمع سواها

ربما لأن فيروز لم تكن في بيروت

بل كانت تجلسُ على أريكة داخل صندوق المذياع

أي داخل قلبي1836 laith

إلى الحرب رافقتني فيروز

كان البعض يحشونَ جلودهم بقوالب الخرسانة

بينما هربتُ أنا إلى النهر

لأغسلَ ما علقَ بقلبي من الطين

نصفُ قلبٍ هو ما تركته لي الحرب

أما ما تركه لي الحب

فشفاهٌ ممزقة من عُنف القبلات

ودموعاً بالرغم من الملوحة

ما زالت صالحة للسقي

لكن كلما انخفضت مناسيب الدموع

جئتُ لفيروزَ

لتمنحَ طفولتي جرعة من الحليب

**

صوتها علمني أوّلَ درسٍ في الحب

ولم يتركني أخوضُ التجربة منفرداً

بل رافقني منذ أول قبلة

وكان يحثّني على المزيد من القبلات

فرياحُ الثلج عاتية

وإدامة النارُ تتطلبُ المزيدَ من الحطب

***

شعر: ليث الصندوق

أدوية الصباح

محطة الباص الزجاجية

‏الكرسي الذي أجلس عليه منتظراً

جسدي الذي لا يحبُّ الإضافات

مثل أن يلبسَ ساعةً أو خاتماً

‏حقيبة الظهر التي نسيت أن أضع فيها علبة وجبة الغداء

ملابس العمل الكحلية

الحذاء الذي ملَّ من خطواتي

الشجرة التي بجانبي، أقصد الشجرة التي أنا بجانبها

بناية الإسمنت التي تضعني أمامها

الشارع الذي يعاكسني

الرصيف المرصوف

‏الباص الذي يمر بالمحطة ولا يراني

أجراس يوم الأحد

فيزيائياً، كل هذه الأشياء حاضرة

إلَّا أَنا..

أَنا الغائب

***

فارس مطر

 

بعد عبور البحر من تركيا إلى اليونان، كما لو أن الأمواج فتحت لها باباً من زبد ومجهول، لم يكن الطريق إلى الحلم قد اكتمل بعد. كانت وجهتها القادمة ألبانيا، ومنها نحو وسط أوروبا التي طالما سكنت أحلامها مثل مدينة بعيدة تتلألأ خلف ضباب القدر. ترافق والدتها المسنّة، تحملها كما تحمل الأرواح أثقالها الثمينة، بينما بقي شقيقها في اليونان، يغامر بالاستقرار حيث انتهى به الموج. اتفقوا مع مهرّبٍ وصفه العابرون قبلاً بأنه رجل لا يساوم على صدقه، ولا يخون الوعد، وحدد يوم الرحيل كمن يخطّ على الرمل موعداً مع المدى.

طيف.. اسمها يشبه ملامحها الشابة، عابرة كنسمة، شفافة كظل في صباح شتوي. عيناها واسعتان، لكنهما محروستان بقلق رقيق، كأنهما نافذتان تطلان على حياة لا زالت تخشى الانكسار. التقيتها صدفة في محطة برلين، حين كنت أنتظر قطاري عائدة من رحلة عمل قصيرة. تقدمت نحوي بخطوات بين الجرأة والتردد، تسأل بألمانية متعثرة عن وجهة القطار والرَّصيف الصحيح. كان صوتها خافتاً، يتلمس الطريق في لغة لا تتقنها، قلت: "يمكننا أن نتحدث العربية، إن كانت لغتك."  انفرجت أساريرها، كمن وجد في صحراء غريبة جرعة ماء. ابتسمت، وبدأت الأسئلة تتدفق من شفتيها كما تتدفق الحكايات حين تجد من يصغي. سألتني عن وجهتي، وحين علمت انها ذات وجهتها تهلل وجهها بشرًا. سألتني عن اسمي وموطني، ثم بادلتني تعريفها بنفسها وأصلها. كنا نتحدث، والوقت ينساب من بيننا مثل نهر هادئ، حتى دخل القطار، فاصطحبنا معه، لا كمسافرين فحسب، بل كمَن يحمل في حقيبته بذور حكاية كانت قد زُرعت بالفعل في صمت المقاعد والمسافات لبداية قصة لم تُكتب بعد.

حين توقّف القطار في محطّة مدينتنا، كان صوت احتكاك العجلات بالسكك يصرخ مثل صفيرٍ طويل يودّع الرحلة. ارتجّ الرصيف تحت وقع الحديد، وانبعثت من العربات أنفاسٌ دافئة امتزجت بضباب الظهيرة البارد، فتشكّلت غلالة رقيقة كأنها ستارة تفصلنا عن بقية العالم. على الجدران العالية، ارتطمت أصداء أصوات المسافرين بأزيز الريح، وتردّد النداء الميكانيكي باسم المحطّة كصوتٍ بعيد يخرج من بطن آلة عجوز.

كانت طيف واقفة أمامي، يلفّها معطف داكن يضيق على جسدها النحيل، لم تكن تبتسم، لكن في عينيها بريق خافت يشبه شرارةً تقاوم العتمة. بصوتٍ منخفض، أقرب إلى بوحٍ على عتبة الوداع، قالت إنها ما تزال في النزل المخصّص للاجئين، وأنها تسعى لإيجاد منزل بعدما حصلت على الإقامة في ألمانيا. أضافت أنها تدرس الألمانية، بصبرٍ يشبه مشي المسافر في طريقٍ مغمور بالثلج.

ابتسمتُ لها وأنا أقاوم ذلك الشعور المزدوج بالفرح والحذر:

"ممتاز، أنتِ شابة طموحة، والمستقبل أمامك، أتمنى لكِ التوفيق."

مددت يدي لأصافحها وأغادر، لكنّها أوقفت حركتي بطلبٍ مباغت:

"أيمكنني الحصول على رقم هاتفك؟"

ترددتُ، وأحسست للحظة أن بيني وبينها جدارًا من هواءٍ ثقيل. قلت بسرعة، محاوِلةً التملّص:

"ربما في المرّة القادمة، فأنا الآن على عجلة."

لكنها تقدّمت خطوة، وكأنها تخترق الضباب بيننا. كانت نبرتها هذه المرّة أكثر قربًا ودفئًا، وفيها حافّة خفيّة من القلق:

"وكيف ذلك؟ لقد التقينا صدفة، وبصراحة.. أنا ارتحت لك. لاحظت أن لغتك جيدة، وربما سأحتاج مساعدتك."

أجبتها محاوِلة أن أبقي المسافة بيننا واقعية:

"في المراكز الاجتماعية هناك مترجمون، ويمكنهم مساعدتك إن احتجتِ، فهذا عملهم."

تردّدت قليلًا، ثم امتدّت يدها لتقبض على يدي، قبضًا لا يعرف التردّد، وفي عينيها التماعة مزيج من الرجاء والخوف. قالت بصوتٍ يوشك أن ينكسر:

"لا أثق بالمترجمين.. وبصراحة، لقد وثقت بك. ثقي أنني لن أضايقك، ويمكنك في أي وقت أن ترفضي إذا شعرتِ أنني أثقل عليك. سأكون ممتنّة لك في جميع الأحوال."

كان في كلماتها شيء يتجاوز الطلب العابر؛ كان نداء روحٍ تبحث عن مأوى. عندها أعطيتها رقمي، وقلت:

"أتمنى أن أستطيع مساعدتك."

فاجأتني حين تقدمت قليلًا، وطبعَت على وجنتي قبلة امتنانٍ سريعة، خجولة، لكنها تركت دفئًا مفاجئًا على جلدي. ارتبكت، ثم ابتسمت لها، ولوّحت مودّعة. ظلّ وجهها أمامي، محاطًا بضباب المحطّة وصوت القطار وهو يبتعد، كصورةٍ من مشهدٍ لن يغادر ذاكرتي، على أمل أن يصلني عنها يومًا خبرٌ سعيد يليق بعناد عينيها.

مرّت الأيّام، وملامح طيف تراجعت في ذاكرتي كما يتراجع صدى بعيد بين جدران مدينة غريبة. كنتُ قد طويتها في زاوية النسيان، لولا أنني حين رويت لزوجي قصّتها وما دار بيننا، أبدى رغبةً ملحّة في أن أمدّ لها يد العون، قائلاً:

"ربما هي حقًّا تحتاج إليك، فلا تُغلقي الباب قبل أن تطرقه."

ابتسمت بفتور، وفي داخلي صوت آخر يهمس: وماذا لو لم تكن تحتاج سوى شفقة عابرة لا أملك أن أقدّمها؟ قلت له:

"سنترك الأمر حتى تتصل.. وسنرى."

 ثم تركت الأمر يذوب مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي صباحٍ رماديّ الضوء، كان الهاتف يرنّ من رقم مجهول. تركته يتوقّف دون أن أجيب. لكن دقائق قليلة مضت، وإذا برسالة نصيّة تنبثق على الشاشة:

"أنا طيف.. هل لي بمهاتفتك والتحدث معك؟"

توقّفت عند الاسم، كمن يلمح من بعيد ظلّ وجهٍ كان يظنّ أنه غاب. كتبت ردًا قصيرًا:

"أهلًا وسهلًا."

لم أكن قد أعدت ترتيب أفكاري حين جاء رنين الهاتف مرّة أخرى. ضغطت على زر الإجابة، فإذا بصوتها.. كان فيه رجاءٌ خافت، كما لو أنها تقف على حافة جملة وتخشى أن تسقط. قالت:

"هل لي بلقائك هذا الأسبوع.. إن أمكن؟"

سألتها بلهجةٍ تحمل الحذر وأنا أزن الكلمات:

"هل الأمر ضروري؟"

أجابت دون تردّد هذه المرّة:

"نعم، أرجوك.. فأنا أعاني من آلام وأودّ الذهاب إلى الطبيبة النسائية."

تسلّل التعاطف إلى صوتي رغم محاولتي ضبطه:

"أنا أفهم.. ومتى الموعد؟ بإمكاني أن ألتقيك في عيادة الطبيبة، أليس هذا أفضل لكلينا؟"

تردّد صمت قصير، وكأنها تبتلع شيئًا بين الحلق والقلب، ثم جاء صوتها هادئًا لكنه ثابت، يحمل إصرارًا هادئًا:

"لا.. أودّ أن ألتقيك قبلها، وكما تشائين وأينما تشائين."

تساءلت في داخلي: ما الذي تحتاج أن تقوله قبل الطبيب؟ وما هذا الإصرار الذي يلبسه صوتها مثل معطفٍ ثقيل في يومٍ بارد؟ لكنني قلت فقط:

"أين تقيمين؟ اكتبي العنوان، وسنلتقي خلال عطلة نهاية الاسبوع.. ما رأيك؟"

انفرج صوتها فجأة، وكأن حملاً هائلًا انزاح عن كتفيها، جاء صوتها مشبعًا براحةٍ مفاجئة:

"أنا ممتنّة وشاكرة لك كثيرًا.. لقد أزحتِ عن كاهلي جبلًا كان يثقل أنفاسي."

وفي تلك اللحظة، شعرت أن كلماتها لم تكن مجرد شكرٍ عابر، بل كانت تنهيدة روحٍ وجدت فجأة من يلتقطها قبل أن تهوي. في خلفية المشهد، كان صوت الريح يمرّ عبر نافذتي كأنّه يحمل معه شيئًا من برد الغربة الذي يحيط بها، فيما ارتسم أمام عينيّ وجه طيف من جديد، هذه المرّة أكثر وضوحًا،

وجدتُها واقفةً عند محطة الباص، كأنها تنتظر منذ دهور، وعيناها تلمعان بوميضٍ دافئ يشبه الرجاء الممزوج بالامتنان. ما إن صافحتني حتى ارتمت عليّ بعناقٍ حار، ذلك العناق الذي لا تكتفي فيه الأذرع بالتشابك، بل تشارك فيه الروح كلها. كان في حضنها اعتراف صامت بفضلٍ لم أقدّمه إلا بدافع إنساني، لكنها تلقّته وكأنه شريان حياة.

سألتها إن كانت قد وجدت سكن، فأجابت بنبرة يكسوها شيء من الخيبة:

ـ الحصول على سكن لشخص واحد أمر صعب.. أغلب الشقق معدّة للعائلات.

تردّد في خاطري سؤال ظلّ معلقًا في ذهني: ألم تقل لي من قبل إنها حين غادرت اليونان اصطحبت والدتها معها؟ لكنني آثرت الصمت، كأنني أُرجئ مواجهة ظلّ ما سيظهر لاحقًا.

قالت وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:

ـ زميلتي في الغرفة ذهبت لزيارة أختها.. سنكون وحدنا.

دخلتُ معها، فاستقبلتني رائحة البخور ممزوجةً بعبق القهوة المغلية، رائحةٌ لها هيبةٌ هادئة، تمنح المكان قدسيةً لا تراها العين بل يلمسها القلب. في منتصف الغرفة، طاولة مُهيأة بعناية للاستقبال: قالب كيك يلمع تحت ضوء النهار، أقداح شاي، فناجين قهوة صغيرة أنيقة، وأوانٍ تفيض بالمكسرات من كل صنف.

نزعت معطفي، فتناولته مني، وعلّقته، ثم جلست بدعوة متكرّرة منها، وكأنها تخشى ألا أستقرّ في مقعدي. عيني وقعت على الصور المعلّقة أمامي على الجدار، فتسمّرت عليها رغمًا عني.

قطعت شرودي بصوتها:

ـ تشربين الشاي أولًا أم القهوة؟

ـ رائحة القهوة بالهيل مغرية جدًا.

ابتسمت وسكبت لي فنجانًا برغوته الطازجة، بينما كانت الصور تواصل اختراق نظري، كأنها تحاول البوح بسرّ دفين. أشارت إلى إحداها، والدمع يثقل رموشها:

ـ هذه أمي.. هنا كنّا صغارًا، وأنا الصغرى بين إخوتي الثلاثة.

قلت بلطف:

ـ اجلسي.. لا داعي للبكاء.

جلست تمسح دموعها التي أصرّت على الانهمار، فأحسست بحرجٍ جعلني أضع كفّي على كتفها، مؤاسيةً:

ـ كلّنا نحمل أثقال الهموم، لكنّها جزء من نهر الحياة الذي لا يتوقف.. وأنتِ ما زلتِ شابة وجميلة، والبدايات ما زالت أمامك، بأفراحها، إن شاء الله.

بابتسامة باهتة قالت:

ـ أشعر أنّك قريبة مني كثيرًا.. أحببتك كما أحب أمي.

عندها اجتاحتني رغبة غامرة في احتضانها كما يُحتضن طفلٌ فقد أمانه.

ثم أفرغت قلبها دفعة واحدة، بصوتٍ يختنق بين شهقات البكاء:

ـ أمي ماتت في الطريق.. كان ذلك حين تركنا المهرّب ليلًا في بيتٍ مهجور، وسط غابة على الحدود الألبانية، بعد أن أخذ كل ما نملك. تفرّق الجمع، وبقيتُ مع أمي وشابين صديقين لأخي، رافقانا منذ البداية وساعداني في رعايتها. انتظرنا طويلًا أن يعود، لكن بدلًا من خطواته، سمعنا أصواتًا تتسلل من بين الأشجار.. فهربنا.

توقفت لحظة، كأنها تعيد مشهدًا محفورًا في ذاكرتها، ثم تابعت:

ـ أمي لم تستطع الجري.. كان البرد ينهش عظامها، والجوع يثقل أنفاسها، والطريق وعرة، فحملها أحد الشابين على ظهره، أما الآخر فمضى بعيدًا، يبحث عن نجاته. أمي كانت تعاني من السكر والضغط، وكانت تسعل بصوت مبحوح، تحاول أن تكتمه.. توسّلت إلينا مرارًا أن نتركها ونهرب.

ثم شهقت، وعيناها تمتلئان بالذعر:

كانت الغابة تمسك بأنفاسها، والليل يجرّ فوقها عباءته السوداء حين بدأت نقاط الضوء تلمع في البعيد، وتهتز مع وقع أقدامٍ غامضة. كانت أضواء المصابيح تقترب كأعينٍ متوحشة، حتى خرجوا من بين الأشجار فجأة، كأن رحم الظلام نفسه أنجبهم. أسلحة طويلة في أيديهم، ورشاشات مشدودة إلى الأكتاف، لكن زيّهم لم يكن زيّ شرطة.. بل ملابس سوداء عادية، ووجوه مموهة بالقماش، كأنهم يخفون عنّا حتى ملامح ادميتهم. لا يُرى منهم سوى قبضة السلاح، وبرودة الحديد، ونصل الليل المسلط فوقنا.

لم أحص عددهم، فقد التفوا حولنا كالأشباح، وأفواه الرشاشات تحدّق في جمجمتك قبل عينيك. أشاروا بصمتٍ قاسٍ إلى الأرض، أمرونا أن نجلس ونشبك أيدينا خلف ظهورنا. لكن أمي.. أمي التي ورثت صلابة الجبال، لم تنحنِ لأمرهم. ارتفع صوتها من قلب الخوف، استغاثة وشتيمة في آن واحد، كأنها تمزق صدر الليل لتخرج منه.

اندفع أحدهم من خلفها، ضربها على ظهرها بقسوة، فترنحت، لكنها لم تسقط في روحها، بل أطلقت صرخة أشدّ حدة، فأطبق بعقب الرشاش على رأسها.. كانت الضربة ثقيلة كحكم إعدام، فتهاوت، والدم يسيل من شعرها كجدول أحمر يفترش وجهها والتراب.

صرخت باسمها، وركضت نحوها، لكن عاصفة من الألم انقضّت عليّ بضربةٍ او ضربات جعلت الأرض ترتطم بوجهي، ثم غاب عني كل شيء في عتمةٍ غليظة.

استيقظت على حفيف الفجر، ونشيج يتسلل إلى أذني. كان الألم يثقل كل عصب، وكل مفصل، حتى الهواء كان يؤلمني. التفتُّ بصعوبة، فرأيت الشاب الذي كان معنا منكسرًا، يلطم رأسه وينوح، وكأنه يحاول أن يوقظ روحه من الكابوس. همست أسأله: "أين أمي؟" لم ينطق، بل أشار إلى مكانٍ قريب. هناك.. كان جسدها مسجى على الأرض، مغطى بشالها الذي اعتادت أن تدفئ به كتفيها.

عند هذه اللحظة، انكسرت طيف.. انكمش صوتها تحت وطأة الدموع، وارتعشت يداها كأوراقٍ في ريحٍ باردة. قلت لها برفق: "كفى.. خذي نفسًا، لا داعي لان تكملي، فقط استريحي." التقطت قدح الماء، ارتشفت منه كأنها تبتلع مرارة الجمر، ثم قالت بصوتٍ مبحوح:

"لقد خسرت كل شيء.. أمي، ونفسي، وحتى الشاب الذي كنت أتشبث به لأفهم ما جرى.. لم ينطق. وحين وصلنا وقدّمنا طلب اللجوء، تبخر أثره. ومنذ تسعة أشهر وأنا أعيش مع ألمٍ لا يفارقني، عاجزة ومترددة حتى عن دخول عيادة طبيب، حتى ولو كان معي مترجم."

***

سعاد الراعي

2025.08.14

كلُّ شيءٍ يقولُ غادرْ بلادَكْ

فَجَرادُ العراقِ أنهى حصادَكْ

*

كلُّ شيءٍ يقولُ غادرْ وغادرْ

إنَّ هذا الظلامَ يخشى اتّقادَكْ

*

غادرِ النهرَ كم قرأتَ لهُ الشِّعْـ..

رَ لِيغفو وكم أطالَ سُهادَكْ

*

غادرِ النخلةَ الـ (تَّغزلْـتَ) فيها

ثُمَّ أعطَتْ تُمورَها جلّادَكْ

*

أيُّ شيءٍ تخشاهُ عندَ المنافي

بعدَ أن روّعَ العراقُ فؤادَكْ

*

أوَتخشى على الصغارِ فساداً؟!

إنَّ هذا البقاءَ كانَ فسادَكْ!

*

غادرِ المَوْصِلَ التي تتباهى

أنتَ فيها فأكثرَتْ حُسّادَكْ

*

بعدَ دفنِ المنارةِ انْفَضَّ عنها

أهلُها أنَ لم تُغادرْ حِدادَكْ

*

فوقَ أنقاضِها كتبتَ قصيداً

فاستفاقَتْ لأنّ فيها امتدادَكْ

*

أعطَتِ الضوءَ للجميعِ ولمّا

وهبَتْكَ الضياءَ كانَ رمادَكْ!

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

أنا للموتِ لم أُخلقْ وإنّي

أَحَقّ الخلقِ بالأُخرىْ وهَذي

*

أُعمّرُ ذي لأظْفرَ ذيْ وما عشـْ

تُ فالدُّنيا بلا شطَطٍ مَلاذي

*

ورايٌ قابلٌ بالموت غايًا

شذوذٌ أصْلُه شذُّ الشّواذِ

*

وإنْ نادىْ به دينًا إمامٌ

لبيْتِ الشّمسِ مَسْكنُهُ مُحاذِ

*

وإنْ حاباهُ يأسٌ مُبتليهِ

على الدّنيا اصْطبارٌ في نَفاذِ

*

أنتْبَعُهُ ولمْ نسْمَعْ بهِ مِنْ

رجَالٍ مثْلِ سَعْدٍ أو مُعاذِ؟

*

و مُنقطعٍ عن الدّنيا كشوكٍ

ببيدٍ أُلْقِيَتْ خلْفَ العَواذي

*

فلا جانٍ ولا مُعطٍ لاُخرى

سيحْظى مِن جَداها بالرّذاذِ

*

فأحيا لا أحرِّمُ ما أحلَّ الـ

عليُّ بذي الحياةِ مِنَ اللِّذاذِ

*

وأمضي لا أحلّلُ ما كتابي

يُحرِّمُ أجْلَ ميلٍ والتِذاذِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أرى الجوع كحيوانٍ شفاف،

ينام على وسادةٍ من عظامٍ لم تجد أسماءها بعد.

يستيقظُ ببطءٍ مع أول ضوء،

يُطلّ من نوافذ البيوت المطفأة،

يحرك أصابعه

كما لو كان يعزف على وترٍ خفي

يجعل القلوب ترتجف.

*

التجويع ...

كلمةٌ تمشي على أربعٍ في الظلام،

تلعقُ الأرصفةَ الباردة،

وتترك وراءها أثرًا يشبه العطش.

*

غزة،

مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب،

وتعيش على رائحةِ ماءٍ يتبخر،

لكنها، رغم كل شيء،

تستيقظ في الصباح،

تضع الشمس في يدها،

وتعلّم الأطفال كيف يضحكون

على كذبة العالم.

*

السماء هنا ليست سماءً،

إنها عينٌ زرقاءُ مملوءةٌ بالحجارة،

تحدّق في الأرض

وتسألها:

كيف تصنعين الحب من لا شيء؟

*

وأنا

أجلس أمام هذا المشهد،

أشرب القلق كما لو كان قهوةً مُرّة،

وأقول لنفسي:

الجوع ليس قَدَرًا،

إنه وجه آخر للوحش،

وجهٌ يبتسم ببرودٍ

حين يظن أنه انتصر.

2

الجوع ليس صمتًا.

إنه صوتٌ أجوف،

يضرب الجدران بأظافره،

يترك ندوبًا على أبواب البيوت

كأنها خرائط من دمٍ ناشف.

*

أراه يمشي في الشوارع كمتسولٍ أعمى،

يمد يده إلى الروائح،

يبحث عن فتات الكلام

الذي نسيه البشر على موائدهم.

كل حجرٍ هنا يعرفه،

كل بابٍ يسمع أنينه،

حتى الريح حين تمرّ

تخفض صوتها احترامًا

أو سخرية.

*

غزة تصنع من رمادها خبزًا خياليًا،

تعجن صمتها بدموعٍ دافئة،

وتوزعه على الأمهات

ليظلّ في قلوبهن طعمٌ آخر للحياة.

*

يقال: التجويع أقوى من السلاح.

لكنني أرى في عيون الأطفال

ابتساماتٍ تلمع كالسكاكين،

تقطع الظلام نصفين،

وتعلن أن الجوع

يمكنه أن يحني الظهور،

لكن لا يستطيع أن يسرق الأغنية.

*

وأنا

أتذكر أن العالم كلّه

يضع يده في جيب الموت

ويبحث عن مفاتيح البقاء،

لكنه يجد صدى،

صدى فارغًا،

يضحك بصوتٍ عالٍ.

3

الجوع

يرقص في الأزقة،

يضع قناعًا من الهباء على وجهه،

ويصفق كأنه مهرجٌ في مسرحٍ مهجور.

لكن خلف ستار الظلام،

تلمع العيون، وتهمس:

"لن نكون وجبةً سهلة في المأدبة ."

*

الأرض هنا تنبض كقلبٍ قديم،

ترفع رأسها من تحت الركام،

وتضحك،

ضحكة متعبة،

لكنها تكفي لتفتح نافذة صغيرة للريح.

*

السماء

تبدو أحيانًا متواطئة،

ترى كل شيء،

لكنها تعود في لحظةٍ واحدة،

ترسل غيمة صغيرة

تسقي الوردة التي نبتت على طرف السور،

وكأنها تقول:

"انظروا، الحياة لم تنتهِ بعد."

*

وأنا

أكتب،

وأعرف أن الكلمات،

حتى وإن كانت جائعة،

تستطيع أن تشبع الروح،

أن تشعل نارًا صغيرة في عتمة هذا الليل البارد.

أضحك من الجوع نفسه،

لأنه، رغم كل قسوته،

لا يعرف كيف يهزم قلبًا يظل يردد الحكاية.

***

مروان ياسين الدليمي

 

إذا سرقتني الحرب، لا تبحثي عني في ممرّات المشافي ولا تحت أنقاض المدن. ابحثي عني في الورق. أنا، ذلك الظلّ الذي وقع بين سطرين، وترك قلبه ينبض في منتصف القصيدة. لا تصدّقي النعوات، ولا ترتدي سوادًا من قماش. ارتدي حروفي، إنها أثوابي الأخيرة، وشهقتي المعلّقة على حبل الوقت. إذا اختفيت، وكان العالم مزدحِمًا بالرائحة والرماد، فأنا لم أمت، بل تسرّبت من جسدي، كالحبر حين يُغتال من قلمٍ مكسور. لا تبكي على قبرٍ مسمّى باسمي، أنا لست هناك. أنا في الصفحة التي رفّ فيها اسمك كعلمٍ أبيض في ميدانٍ لا ينتصر فيه أحد.

*

أوصيكِ، أن تحتفظي بقصائدي كما يحتفظ العشّاق بصوت المطر، وأن تقرئيها بصوتٍ منخفض، كما لو أني أتنفّس في رقبتكِ. فإن سألكِ أحد: أين ذهب الشاعر؟ قولي لهم: سافر في قصيدةٍ لم تنتهِ. وإن لاحظتِ يوماً أن الشمس تبكي في شقوق الجدران، فتلك روحي، تمشي حافية، باحثة عنكِ.

*

لقد عرفت الحرب جيداً. كان لها أصابع حبيبة، وعيونُ قاتل. نادَتني.  فمضيتُ مثل غزالٍ لا يعرف أن الشبكة من حرير. أبقي على روحي في رفٍّ عالٍ من مكتبتكِ، فإنّ الأرواح تموت فقط حين تُنسى.

*

أوصيكِ أن تنجبي لي حياةً من الذاكرة، طفلًا من ضوء الكلام، يسير في الأزقّة وهو يتهجّى اسمي. أوصيكِ أن تضحكي — حتى وأنا غائب، فالضحكُ مقاومة، وأنا يا صغيرتي كنتُ دومًا أحارب بالنكتة وبأبيات الشعر لا بالرصاص.

*

إذا مرّت الحرب من هنا، وأخذتني معها، فدَعيها، لكن لا تمنحيها قصائدي. هي لكِ. أنتِ وريثتي، وصوتي، ويدي التي لن تعجز عن الكتابة، طالما أن قلبكِ ما زال يخفق فوق كل ورقة.

*

توقيعي:

شاعرٌ فقد جسده

ولم يفقد صوته.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

لا ترتجي هذي الحشودُ نواحا

أو أنْ تضيفَ الى الجراحِ جراحا

*

لا ترتجي نزعَ السلاحِ وقد سرتْ

دولٌ الى كفِّ اللئيمِ سلاحا

*

بلْ ترتجي كوناً يكونُ بِهِ المدى

اُفُقاً يشعُّ عدالةً وسماحا

*

هذي الحشودُ عواصفٌ هدّارةٌ

انْ هبَّ حقدُ الظالمينَ رياحا

*

أتتِ العراقَ سليلَ آدمَ وانضوتْ

تحتَ القبابِ فأشغلتْ أشباحا

*

بالهمِّ والأرقِ الطويلِ وافصحتْ:

مَنْ يذبحُ الأطفالَ لنْ يرتاحا!!

*

أتتِ الحسينَ فقادَها نحو العلى

مُستبشِراً مُتبسِماً وضّاحا

*

هذا الهتافُ بِهِ النجوم تألقتْ

ليصوغَ مِنْ بَرقِ النجومِ رماحا

*

تهوي على عرشِ الذين تكبّروا

وتحيلُ أرضيَ للعدالةِ ساحا

***

شعر: كريم الأسدي

القليل من الهشاشة

أو

الكثير من الهشاشة

تلك بدايات ليست مبشرة

لنص يقف عند مفترق الطرق

بدايات لا تصلح لأن تركل بها أي شيئ

ستكتب وتكتب

ولكن لن يتوقف إحساس الأكلان عن العواء

إذن تلك هي البداية المناسبة

عطب ينهش الداخل

في مناوبات مجنونة

عرائس بحر تصرخ

ودموع تنهمر بألوان خرساء

ساعات بعقارب تجري عكس التوقيت

وقلب واحد

مفتوح البوح على كل الجبهات

يحارب لغة البؤس

الجوع المرض العبث الموت

بكل لغات الدنيا

ولا يفهمه أحد

يتكئ على صور شاردة من ذاكرة عرجاء

على جذرين من آخر شجرة حناء

كانت تنمو في باحة بيت الجدة

قبل قيام الساعة في زمن آخر

وبنت يتدفق نيلان من وقع تثنيها

وتنبت في كفيها حقول ومواسم وفرة

لن أستغرق أكثر

في حميمية هذا الصدر الأغبش

وهو يناولني في مطلع كل نفس

أبجديته الأولى لتعلم الغناء بفم مغلق

القليل من الهشاشة

أو

الكثير من الهشاشة

مقاييس هزيلة

لاحتمال كل هذه الغرابة الخرابة

التي تتشدق وهي تلقي هذه القصيدة

وتنهش ما تبقى في تلذذ

بينما يحاول القلب أن يمنحها عنوانًا

قبل أن يستسلم للسقوط الأخير

***

أريج محمد أحمد

 

استغرق وقتًا طويلًا حتى شعر بنبضات قلبه تتدفق، كمن يعود من غيبوبة حلمٍ قديم. كان يتكئ على حافة الزمن، كغريبٍ تاه في زحمة الفوضى، يرى الأفق ضبابًا يعانق السماء، فيواري صفاء النهار، ويبث في نفسه دائرة من الشك، كمن يسير على خيطٍ رفيع فوق هاويةٍ لا قرار لها.

صدى صوتٍ يخترق حدود الصبر، كأنه تلميحٌ بشؤمٍ يسكن قاع المكنون، صراخٌ مكتوم ينطلق بصمتٍ عبر الأثير، لا يثير ضجيجًا في الفضاء المترامي، بل يتلاشى كفقاعاتٍ بلا أثر.

إنها لحظة الانكسار الحقيقي، حين تتكشّف هشاشة الروح في مجتمعٍ تتنازعه الخيبات والانتهازية، ويترك أبناءه معلّقين بين الرجاء والخذلان.

تتنازع الأفكار فوق طاولةٍ من الجهل والكراهية والتنافر، كأنها خلطةٌ من عناصر متنافرة، تفتقر إلى النوعية والاتساق.

وفي أروقة الخيال، حين يطرق الجحيم أبواب الرزق وأعماق الضمير، تتكشّف الحقيقة: لا سند في زمن التشتت، ولا دفء حين يتفكك نسيج الألفة، ويتهاوى جسر التضامن كسرابٍ يعبر سواد الليل بصمتٍ مريب.

إنها مأساةٌ في بحر الظلمات، تتضاعف فيها المعاناة كلما غاب الانتماء، وتحوّل الجمع إلى جزرٍ متباعدة. هناك من يوزّع الصكوك على أراضٍ معلّقة خارج الكون، ويحفّز الأرواح على القبول بموتٍ مجاني، لا لشيء سوى أن يبقى الفكر حبيس القهر والتشظي، كأن الخبث صار سياسة، والوهم عقيدة.

ومع كل انكسار، يظلّ في الأفق نبضٌ خافت، كأن الحياة تهمس: ما زال في القلب متّسعٌ للدفء، إن عاد الجمعُ من غربتهم، وإن خيطت الألفة من جديد بخيوط الصدق.

وربما، في لحظة صدقٍ نادرة، حين يعود الجمع من غربتهم، نعمر ما تهدّم، لا بالحجارة، بل بالصدق، وبنبضٍ لا يخاف الغياب.

***

كفاح الزهاوي

لم يبذل جهدًا كبيرًا وهو يعتلي إحدى تلال قريته التي اعتاد ملامحها منذ صباه، ولم يتكاسل… رغم جوعٍ عضَّه مرارًا، وعطشٍ ظلّ يجرّح داخله كحبلٍ مبلول بالملح.

لم يكن الجوع غريبًا عليه؛ الغريب كان ذلك الفراغ المتسع داخله، مذ فقد أتانه البيضاء تحت قصف مدفعي أعمى، نُسفت معه سلالات دفءٍ قديم، وأحلامٌ صغيرة بولادة جحشٍ يشبهها… أبيض، بعينين لامعتين كحلمٍ لم يكتمل.

منذ تلك الليلة، فقد شهية الطعام والشراب، وتحول نصفه حمارًا، ونصفه الآخر ألمٌ يتعفن بصمت.

عندما مرّ بعشبة ربيعية مزهرة، توقّف. كمن يستعيد وطناً من رماد. أحنى رأسه إليها بخشوع، شمّها بعمق، كأنه يريد أن يستنشق وجهها من جديد، وجه المواسم التي هجرت تلال قريته. منذ أعوام، لم تزر أنفه تلك الرائحة. رفع رأسه إلى الفراغ، كان يبحث عن شيء لا يعرفه، يسأل الغياب عن الغياب، وعندما عجز، عاد بأنفه العريض إلى العشبة، يداعبها بلطف، كأنها أنثى بين حلم وذكرى غابت عنه.

لم يتذوقها. تركها، معتقدًا أن بعض الأشياء أجمل في مكانها وأن العشب الذي يُترك للنظر خير من الذي يموت في الفم.

واصل طريقه… والمسافة إلى قمة التلة لم تكن طويلة، لكنها بدت كأنها عُمرٌ آخر. على الطريق، كانت الدجاجات يقفزن بكسلٍ، ينظرن إليه كصندوقٍ رمادي أجوف، وحتى إحداهن، أرادت أن تبيض في أذنه ذات ظهيرة، لولا صهيل الحصان الأشهب، جاره الوحيد الذي ما زال يعترف بأن الألم له اسم.

في رأسه، ارتفعت أسئلة كالعوسج:

- ماذا لو لم أكن حمارًا؟

- بل ماذا لو لم تُخلق سلالة الحمير أصلًا؟

- كيف ستحتمل قريتي المنكوبة ثقل أكياس القمح، وأحجار السواقي، والشتائم؟

- من سيحمل الهوان عنهم، ويُجلد بدلًا عنهم؟

- بماذا تحلم الحيوانات لو لم يكن بينهن حمارٌ صبورٌ مثلي؟

- كيف ستنجو سفينة نوحهن، لو غبتُ عن ظهرها؟

فكّر… بأن كل الموجودين ينتمون للهواء، وهو الوحيد الذي ينتمي للتراب.

أخذته وخزةُ هذه الأسئلة كسوطٍ، كأن وليّه القديم عاد بعصاه، يضربه في خاصرته، ويجرّ روحه خلفه على الطرقات.

كان كل ضربةٍ توقظ في جسده شهوة الركل… لكنه صبر. صبر لأن الجوع أرهف قلبه. وصبر لأن التراب حافظُ السرّ الأخير.

وعند قمة التلة بدت قريته كخرقةٍ محترقة. لم يتبقَّ من خميسة سوى دخان وأصوات بعيدة، كأن الريح تكنس ذاكرته حجرًا حجرًا.

تذكّر أم نافع… رحيمته البيضاء، أنثى حلمه التي قضت مع الجحش الذي لم يُولد. كانت تحك له ظهره بأسنانها، تغمض عينيها حين يغازلها، وتكتفي بإيماءة صغيرة فيها من القبول ما يُصلح خراب الدنيا.

الحياة دونها… ظلمةٌ واجترار. والطريق إلى الحظيرة صار أبعد. لم يعد التراب يحفظ أثر حوافرها. حتى الحصان الأشهب بات صامتًا، كأن الخسارات تعلمت كيف تصمت.

أتذكر كيف كنا نتمرغ تحت الشمس… نفتعل الفوضى، نلعب بالتراب، نخدش ظهر الأرض بأجسادنا. كان يضربنا… سيدنا الذي لم يكن سيدا سوى على أسمائنا. يضربنا ويخفي وجهه كمن يخشى أن يرى رجولته تتساقط أمام بهيمة.

لكنه كان أجبن من أن يقترب من الحصان. لطالما جرحنا ذلك… أن الألم انتقائي، وأن الوجع يعرف أين ينزل.

كنت قادرًا أن أركله بحوافري… أن أطرحه أرضًا وأكسر قفص أضلاعه… لكنني صبرت.

صبري ليس ضعفًا، بل حيلةٌ لأجل شعير الغد. غير أن صبري له حدود. موت زوجتي المبكر جعلني أؤجل مصيري معه. ربما سيأتي اليوم الذي أفجّره في جسده.

ـ لا تخف، أيها الحمار، قال لنفسه. ما زلت في مأمن من الجوع، ما دام في فمك رمق.

وعلى حين غرة تذكر حكمة أبيه الحمار الأكبر:

- إذا ما خانك صبرك، فتيقّن أنك ستطير كنورس.

ابتسم… ولم يفهمها. لأن زمن النوارس لم يصل بعد.

ولأن النوارس لا تطير إلا حين تتعب الأرض من العابرين، ظل الحمار يعدّ الأيام، يحمل أعباءه بصبرٍ معلّق على حبل ذاكرة تفور كالقَدر.

***

زياد السامرائي

كان سلام، بعينين شاخصتين وروح معلّقة، يلتقط كل كلمة من الخطاب المهيب الذي ألقاه الأمير على نخب الطاعة، المدعوّة بمناسبة العيد الوطني لاستقلال إمارة سيكا.

في القاعة المفروشة بالحرير والمخمل، كانت الثريات تبعث على الوجوه وهجًا ذهبيًا، غير أن صوت الملك كان يقطع السكون كحدّ السيف العاري.

سقطت الفقرتان الأوليان كأحكام قاسية، بنبرة جافة لا تعرف المساومة:

"عليكم، وبعزيمة لا تلين، أن تهيئوا الساحة السياسية لولي عهدنا. عليه، بعد غيابي، أن يعتلي العرش محمولًا على مناخ من المجد والوحدة الوطنية".

زفرة قصيرة، وصمت عابر… ثم عاد الصوت الملكي، أكثر عمقًا، يكاد يرتجف:

"لقد حانت ساعة التحولات الجذرية. لم يعد مقبولًا أن يبقى وطننا أضحوكة الممالك والإمارات في العالم! واعلموا أنّه، رغم جهودي الإصلاحية التي لم تعرف فتورًا، فإن أعداءنا لا يتورّعون اليوم عن وصمنا بلقب مهين : "غابة سلطة فاسدة".

كانت كلمات الملك لا تزال تتردّد في أرجاء القاعة الفسيحة، تصطدم بأعمدة الرخام وتتلاشى في الستائر الثقيلة، وكأنها تبحث عن مخبأ.

أما سلام، فظلّ واقفًا بلا حراك أمام شاشة التلفاز، يداه مشبوكتان خلف ظهره، وعيناه معلّقتان خلف الزجاج الملوّن بألوان زاهية.

كل جملة ملكية، مدروسة وحادّة، تركت فيه أثرًا حارقًا، كندبة طازجة على جلد أنهكته خيبات سابقة.

فكّر في ذلك "الوريث" الذي أُعلن عنه بكل وقار… وجهٌ ما زال فتيًّا، لم يتذوّق مرارة المعارك بعد، يستعدّون لتتويجه في صندوق من ذهب.

وفي قلب سلام كان يدور سؤالٌ مكتوم: هل العرش في هذا الوطن وعدٌ أم لعنة؟

***

الحسين بوخرطة

......................

الترجمة بالفرنسية

Labyrinthe du pouvoir

Lhoussain BOUKHARTA

Salam, le regard fixe et l’âme suspendue, buvait chaque mot du discours solennel que le souverain adressait aux élites dociles, convoquées à l’occasion de la fête nationale de l’Indépendance de la principauté de SIKA.

Dans la salle tendue de soie et de velours, les lustres jetaient sur les visages une lumière dorée, mais la voix du souverain, elle, tranchait comme une lame nue dans le silence.

Les deux premiers paragraphes tombèrent comme des sentences, d’un ton sec et implacable :

« Vous devez, avec une ardeur sans faille, préparer la scène politique à notre prince héritier. Il devra, après ma disparition, s’asseoir sur le trône, porté par un climat de gloire et d’unité nationales. ».

Un souffle, un court silence… puis la voix royale reprit, plus grave, presque vibrante :

« L’ère des bouleversements radicaux est venue. Il est désormais insupportable que notre patrie demeure la risée des royaumes et des principautés du monde! Sachez que, malgré mes efforts inlassables pour réformer, nos ennemis ne se privent plus de nous flétrir d’un surnom infâme : « la jungle d’un pouvoir corrompu »

Les mots du Roi résonnaient encore dans la vaste salle, rebondissant contre les colonnes de marbre et se perdant dans les draperies comme s’ils cherchaient à se cacher.

Salam, lui, restait immobile devant sa télévision, les mains jointes derrière le dos, le regard perdu au-delà des vitraux aux couleurs vives.

Chaque phrase royale, pesée et tranchante, avait laissé en lui une empreinte brûlante, comme une cicatrice fraîche sur une peau déjà marquée par les désillusions.

Il songea à cet “héritier” annoncé avec solennité… Ce visage encore jeune, encore vierge de combats, qu’on s’apprêtait à couronner dans un écrin d’or et de gloire feinte.

Dans le cœur de Salam, une question sourde tournoyait : le trône, dans ce royaume, est-il une promesse ou une malédiction ?

كنت أظن أن الشعر هو ما تقولهُ جدّتي وهي تطهو*

***

أكتبُ القصيدة كما يكتب المجنونُ

وصيّتَه على الحائط:

كلماتٌ مجرّدة من العقل،

لكنها مبلّلة بدم القلب.

*

أترك علاماتٍ لا ترشد،

وخرائطَ بلا شمال،

وأمنحُ لكلّ قارئٍ حقّ التيه،

فمن لم يضِع في المعنى،

لن يعرف أن الشعر هو نوعٌ آخر من الخراب،

خرابٌ

يجعلُك تحبّ العالم أكثر،

لأنه لا يفهمك.

2

الشعرُ لا يُولد من العقل،

بل من عطبٍ صغير في آلة الفَهم.

هو جرحٌ يتقنُ التخفي،

يضحكُ حين نُحاول تضميده بالكلمات،

ثم يفتحُ فمهُ ليلتهمَ الصياغة.

*

في تلك اللحظة،

أدركتُ أنّ البيت الشعري ليس بيتًا،

بل زقاقٌ ضيّق تضيع فيه خطواتي،

وأصواتُ المارّة كلُّها تقول لي:

"ارجع إلى الخلف،

فلا أحد هنا يعرفُ لماذا البكاءُ يبدو موسيقًى

حين لا يسمعه أحد".

3

حين كنتُ صغيرًا،

كنت أظن أن الشعر هو ما تقولهُ جدّتي وهي تطهو.

الآن،

أفهم أنها كانت تكتبُه بالبصل،

وتنقّطهُ بالملح،

وترتّله بصوتٍ مُبحوح،

في صحنٍ من الخوف

وأصابعَ من ذهبٍ مكسور.

4

أحيانًا،

يمرُّ أمامي ظلٌّ أشعر أنه يشبهني،

لكنه لا يسلّم.

*

أتبعه،

أدخّن خطواته،

أسأله: هل الشعرُ أنت؟

فيضحك كمن وجد مزحةً في جنازة،

ويرد:

"أنا فقط

الفكرة التي نسيتها على السطر الرابع،

حين خفتَ من نفسك".

5

أكتب لأني لا أجيدُ الحديث.

أحبُّ المجاز،

لأنه لا يطلبُ إثباتًا

ولا يردّ على الهاتف.

*

الصورةُ عندي لا تُوصف،

بل تُشمّ،

تُذاق،

تُغنّى بين الأسنان،

كأنها خُدعة

أُتقنتْ لا لتُفهم،

بل لتوقظَ فيك إحساسًا بأنك نسيت شيئًا…

ولا تعرف ماذا.

***

مروان ياسين الدليمي

................

* المقاطع جزء من مجموعتي الشعرية "أبحث عن الشعر" 2025

 

في أعماق التاريخ

حيث تتشابك

الأرواح مع الطفوف

تنحني الهامات

إجلالاً لفارسٍ مهيب

أسطورة الموقف

الخالد،

في ذاكرةِ الزمن

في هذا المكانِ المقدس

يقطر النورُ الإلهيُّ

ويصعدُ من موقدِ الثورةِ

شعاعٌ لا يخبو

يحملُ في طياتهِ

الولاءَ والوفاءَ

أحرفاً كُتِبتْ

بدمِ الصمودِ

فكانتْ عنوانًا

للثباتِ والبقاء

لم يهَبِ

الموتَ بل يقاومُ

بكلِّ عنفوانٍ واقتدار

هو الحسين المستقيم

نورُ الحقِّ في قلوبُ المؤمنين

شمسٌ يهدي

إلى طريق الحرية

في ليلِ كربلاءَ يثورُ

الفراتُ بصرخةٍ مدوية

شوقًا لوجهِ الحسين

وفي دموعهِ عويلُ السماء

وانينُ الأرضِ يصمُّ الآذان

من لهيب النيران

التي التهمت الخيامَ

والزمنُ يبكي

والخلودُ يهتفُ

باسمِ الحسين

باسم الضحايا

في مشهدٍ لا ينسى

وذكرى لا تمحى

وحزنٍ لا يُطوى

ولم يزلِ الفراتُ ظماناً

لأنه لم يرتوِ

من ثغرِ الحسينِ المبجل

يبكي الفراتُ

ندماً

كما ينزفُ جرحٌ عميق

لا يندثرُ

ولا يشفى

جرح يتجدّدُ

مع كل ذكرى

وسيبقى الفرات أسيرًا للشوقِ

وامواجُه تردَدُ

يااااحسرتاهُ عليك ياحسين..

***

باقر الموسوي

 

سل خيالك في صقيع الليل

سله..

سله، لا ينحني لشيء،

أو يهادن او يكلُ ..

سلهُ، في عتمة الليل البهيم

عن القرارْ..

سله عن شغف النهار

وعن الفجر والصبح

والانتظار..

إن كان في وضع يملْ ..

وفي حالٍ تملُ

ونهاره مسخ غدى

شيئا يذلْ ..

كإنه شبح يغامر

في دروب، لا يكلْ..

لا صراخ أو شجار

هوذا الدليل على القرارْ ..

**

لا تسلْ، عن منبعٍ الصحو

يغفو، بين جنبيه جرح..

**

سل جحيم النار

عن صمت الدهور

سله عن مثوى القبور

وكل مهزلة وعارْ..

تلك، مرحلة الهروب

على طريق الانتظارْ..!!

***

د. جودت صالح

12/ آب 2025

 

كثير ما يواجهني سؤالُ

لماذا الشوقُ يقتله الوصالُ؟

*

لماذا كلما اقتربت فُتَاتٌ

من الآمال ينقطع المنالُ

*

لماذا كلما طلعت شموسٌ

شكت عيناي والشكوى انخذالُ

*

لماذا كلما حاولت دفئًا؟

أفاق القلبُ والتاعَ السؤالُ

*

كأنَّ البعد يشعل في الحشايا

لهيبًا من حنينٍ لا يُحالُ

*

كأنَّ القربَ يقصيني بعيدًا

وياخذني إلى الوهم الخيالُ

*

كأنَّ الدربَ يطويني جحيمًا

ويُغرقني، ولا يُجدي النضالُ

*

كأنَّ الحلمَ ينسجُ لي سرابًا

ويُخلفُ وعدَهُ حتى المُحالُ

*

أحاولُ أن أرى في الليلِ ضوءَا

ولكنْ كيفَ والظلُّ احتلالُ؟

*

يُناديني الهوى صوتًا شجيًّا

فأصغي ثمَّ يخذلني المآلُ

*

أحنُّ إليكَ رغم البعدِ شوقًا

كأنَّ الوصلَ يعشقُهُ الزوالُ

*

فهلْ يبقى على الأملِ انتظاري

وهلْ يُجدي من الصمتِ انفعالُ؟

*

كأنّي فيكَ لم أُخلقْ ولكنْ

لأحيا فيكَ يُرشدني الضلالُ

*

كأنّي فيكَ لم أعشقْ ولكنْ

تصيَّرني المنى وَهْماً يُقالُ

*

أجوبُ الليلَ، أستجدي رؤاهُ

فلا حلمٌ.. ولا طيفٌ يُطالُ

*

تمرُّ الريحُ، تُلقيني جريحًا

وتَسلبني المواسمُ والظلالُ

*

إذا جفَّتْ عروقُ الأرضِ يومًا

فإنَّ الحُبَّ أنهُرُهُ سِجالُ

*

وإنْ ضاقتْ على العشّاقِ دنيا

فعشقُ الروحِ لا يُبليهِ حالُ

*

أحبُّكَ كيفما جُرِحَتْ يدانا

وكيفَ تَبدّدَ الوصلُ المِثالُ

*

فإنْ طالَ الرحيلُ، فذاكَ دربي

وإنْ عُدنا، فيغمرني الوصالُ!

***

د. جاسم الخالدي

ها أنا أستريح على أريكة حزني

ولا أنام،

مثلي مثل جرح قديم،

أتركني بلا همهمات،

أعاند رعشة الصلصال

في زفرته الأولى،

ثم أجمع خرسي

في حنجرة غزالة

حبيسة نبوءاتي.

هذا الذي في الصدر

ما عاد يهدأ،

غريب هذا الطرْق،

غريب هذا التعب،

هذه الصورة الموحشة،

وهذا الدمع الذي

يخط رائتحه بين أضلعي.

صوتي مازال في النايات منكسرا،

عزلتي التي اختارت الصلاة

في شهقة الريح،

ووجهي الذي اختلط

بضجيج الغناء،

فهل أصحو مني

وأحجيات النداء مفاتيحي؟

هل أثور على منامات الثلج

أم أبني خياما من شمس

تخفي ندوبي الغارقة؟.

هاربة أنا...

منفلتة من أهداب النشيد،

لا شيء يشدني إلى أقنعة الماء،

لا شيء يعيدني إلى النهر المجفف

غير ظلي المعكوس،

بي مس العارفين،

وكل الزوايا لي،

لي طيف يرتب إشراقتي،

ثم يسندني إلى ظله المعتق.

بغيمة واحدة

أبلل قلب النجمات،

ثم اوي إلى سوسنة الروح،

تلك التي وعدتني بسلال ياسمين،

تلك التي نادتني باسمي الاخر

نسرين،

تلك التي لمت شتاتي،

وعطرت خارطة همسي،

وحملتني روحا

إلى خطو الذاكرين.

***

اجليد وفاء ام حمزة - المغرب

 

ماذا أقولُ ولمْ يَعُدْ

إلا الكلامُ يعيدنا بتأفُّفٍ

ويد الزمان بِصَدْرِها

غَدْرٌ يُفَتِّشُ عَنْ شَذَا إِنسانِ

*

ماذا أقولُ.. وبَسْمَتي ضَمُرَتْ

وفمي الطليقُ مُعَطَّلٌ

في مُقْلَتَيهُ أَسًا..أَسًا

والصَّمْتُ يُضْرَبُ حَوْلَهُ صَمْتاً

فَيُطْبِقهُ بأمريكانِ!

*

ماذا أقولُ .. وكل شيءٍ فاتِرٍ

ودم الصحافةِ باردٍ

لا يَسْري إلا

في نَدَى الإعلانِ!

وهيئةٍ مُعْتَلَّةٍ

في هيئةٍ عليلةٍ

في هيئةٍ مَطويةٍ

بعمامةِ البُطلانِ

ومجالسٍ تبيعُ فينا وتَشتري

ومنظماتِ لغوثِ أوربا

من النقصانِ!

*

ماذا أقول .. لتنتهي

حِقَبُ الظلامِ وتنطوي

صفحاتِ هذا القهرِ والحرمانِ

وتضئُ وَجْهَ الأَرضِ أنوارُ السَّلامِ

ويُولَدُ الزمنُ البريءُ مُبجَّلًا

ليعيشَ إنسان التقى بعفافِهِ مُتَرَفِّعًا

عن كل ذي سُلطانِ.

عن كل ما يدعوهُ خَدْشَ حياتِهِ

فيحيقهُ بمرارةِ الخُسرانِ

ويظل يحشو رأسهُ - مُتباهيًا -

بقذارةِ الحُكَّامِ...والإخوانِ !

*

هو هكذا الإنسان يَصْنَعُ نَفْسَهُ

يَمحو ظلام الكفرِ بالإيمانِ

يَسمو بأُمَّتِهِ السماء

وأرضهُ حريةً

برحابةٍ...وتَفَانِ

*

آااهٍ من الآلامِ طالتنا

وباركها العِدا:

صُهْبُ السِّبالِ

وأشعلوا .. بأمانِ

قتلى هنا...

جرحى هناك...

هنا ضحايا عِصابةٍ...

وضحايا كل جبانِ

وهنا .. هناك

اسْتَنْزَفَ الفُقْدانُ قَرْنًا

نازح الأوطانِ !

وتَداعَت الأعذارُ تَشْرِبُ نَحْْبنا

أعذارنا

فاقتْ حدود المُمكِناتِ

وجاوزَتْ...

بِتَصَنُّعٍ..ودِهَانِ !

*

أنَظلُّ لامعنى لنا أبدًا

وفي مَقْدُورِنا :

تحقيقُ حُلْمِ ضَمَانِ

إشعال شمعةِ في ظلامِ المُعْسرينْ

مَدّ أُسطولاً

من الأيدي المباركِ بَسْطُها

تحديدَ نَسْلِ حُروبنا

تبديدَ خوفِ عُرُوبةٍ

بتَلاحُمٍ.. وحنانِ.

*

ماذا...وماذا لغُرْبةٍ كَلَّاحَةٍ

وفهاهَةٍ

ورصيفِ أُسْرَةِ فَاقةٍ...

ولِعاكفِ الأحزانِ.

*

آااهٍ..من الآلام طالتنا

وإنَّهُ لمْ  يَعُدْ

إلا الكلامُ يعيدنا بتأفُّفٍ

ويكيدنا بهوانِ

ويكيدنا بهوانِ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

لو أتاني المنون لا تدفنوني

في قبور اليهود كي يحرقوني

*

اتركوني أكون طعماً لطيرٍ

فوق شطآن وارفات الحزونِ

*

اتركوني أذوب جسماً وروحاً

في تراب العراق.. نحوه احملوني

*

اتركوني أريق فيه دمائي

وعلى الرمل اسجموا لي عيوني

*

ودعوا الوجه ناظراً بالتملّي

وافتحوا كلّما تستريح جفوني

*

لست أرتاح أنْ أموتَ بأرضٍ

غيرِ ذا الأرض* .. لو تناهت سنوني

*

فأنا الطفلُ .. ما أزال فطيماً

ثديُ نهريَّ منيتي؛ فارضعوني

*

اذهبوا الآن كلّكم حيث شئتمْ

وعلى القبر في العراق دعوني

*

لست أختار أن أموت غريباً

بالمتاهات في بطاح الظنونِ

*

موطني كان .. ما يزال ملاذي

ومآلي يظل حتى المنونِ!

***

رعد الدخيلي

 

لا زالت آنْيَا تسحق روحها بلا رأفة، هي تعلم أن لا حياة لها بعد أن استعادت ذاكرة غيبوبتها، واستحضرت فجأة ذاك الماضي الأليم الوافد أمامها بالتشتيت. حين استفاقت آنْيَا من غفوة فراغ تفكيرها، صُدمت بتلك التحولات الواقعة على حاضرها والذي بات مكهربا. لم تتمكن من معانقة كل الوجوه التي حضرت لبشرى عودتها من سكة الموت، ولكنها استفاقت حزنا على جُلِّ الأحداث الصغرى في حياتها، حتى أنها تخلتْ عن الكلام المباح مع كل من يحيطها لحظة فرحتهم باستعادتها لروحها و ذاكرتها. من حكمة التأني الذاتي أنها تاهت في مُفترق رُكام من الأسئلة الاستنكارية (متى/ كيف/ لماذا/ أين...). 

كل من بالغرفة شربوا ابتساماتهم بالخوف المزدوج على آنْيَا من العود نحو فقدان الذاكرة والسقوط في الغيبوبة المستدينة. آنْيَا لازالت في غرفة الإنعاش تستعيد أجزاء من طاقة استفاقتها، لكنها بذات الوقت تعيش لحظات من تجربة الجمع بين تأمل وضعيات الحاضر، واستحضار ما حدث لهم بعد الحادثة المميتة والتي أبقتها بالحياة مغيبة لما يزيد عن السنة ونيف. في القاعة المجاورة التي تم نقلها إليها، تم قطع بهرجة حلقات الحضور حول سريرها بعد عودتها من اللانهاية.

في ذات الغرفة بالمستشفى اعتبرت آنْيَا أن زمنا من ذاكرتها بات يحمل رمزية للمنسيين وبلا تاريخ ميلاد، وبأحداث تتفحم أطرافها كلما خاصت في عمقها. لحد الساعة لم تقدر آنْيَا على توضيب حاضرها عبر بناء تفكيرسلاسل زمنية متعاقدة البنيات، فهي فزعة ولم تكتشف عمَّا حدث لها ما بعد الحادثة المميتة. بات الصمت في القاعة بعد إفراغها من زوار العودة أُغنية حزينة للخوف من حالة نكسة العود للاوعي والغيبوبة الغائرة. فقد كانت  آنْيَا تكره التناسي، وتقول: الإنسان يتم تناسيه كليا، حين لا يُدون تاريخه حتى ولو في أرشيف مخزون الذاكرة السالبة.

كانت آنْيَا تتأمل وجوه من حضر بغرفة استفاقتها وجها تلو الآخر، كانت كل الروابط تتحرك من خلال استدراك عبء التاريخ المنسي بالضرورة والواقع، حيث استفاقت ورأت ملمح وجهها الشاحب على المرآة. الكل لاحظ أن آنْيَا تُقاوم الوجع والألم، وفي مشهد مؤثر قد يوحي ببكاء من حضر، ولم تقدر لحد ساعتها أن تنتصر على ضبابة الخوف والذنب فيما حدث لها ولأسرتها الصغيرة في طريق المنعرج الغائر بالهاوية المفتوحة.

استولى القلق على آنْيَا بتعب الحمى، حتى أن الدكتور قرر تطعيمها بجرعة من حقنة مهدئة، حتى لا يداوم عقلها المفكر في طرح أسئلة مربكة عن سبب فراغات جزء من زمنها العمري، وحتى لا تعيد فتح الجراح بعد أن فقدت ابنها في تلك الحادثة المروعة بالموتى والجرحى. كان الجميع يَعلم بالحقيقة المدفونة مع جنازة الابن بلا حضورها، وهي الحقيقة التي تؤلم ولم تقدر على استدراكها آنْيَا حينها، لكنها في تفحصها لكل الوجوه كانت تبحث عن ابنها بالتمام وكمال الروح، وتعمل على هزم مُسودات ذاكرتها الخفية.

كانت آنْيَا لا ترى ابنها بين الحضور يفرح باسترجاعها من موت أكيد، لكنها كانت تسمع أنينه، ولحظات لفظ أنفاسه الأخيرة وهم في الهاوية السحيقة لوادي الموت. أصبحت آنْيَا مُشوشة الذهن بعد الاستيقاظ الفجائي، والوعي التام لم يكتمل عندها بالتعبئة المستدامة على مستوى مخيلتها المنتوفة بالألم والعمليات الطبية المتكررة بالوجع. من صلابتها كانت تقاوم الجرعة المسكنة المرتبطة بمصل لاصق على مستوى ذراعها الأيمن. كانت تعمل بدا وبالإمعان والإصرار على محاولات تغيير أحداث الماضي، وعدم دفنه في مقابر الحاضر بعد عودتها من حدود النهاية الحتمية للموت.

كان الطبيب يتابع كل التغيرات الجسدية والنفسية لتلك المريضة التي تضامن مع جراحاتها المتفاقمة حين أنزلتها سيارة الإسعاف. هو يعلم بالتتبع وتجربة الخبرة أن ذاكرتها قد تُفحم بالنسيان القسري، وهي المشكلة التي لا تطمئن على سلاسة عودتها لمداومة حياة الواقع بأمان المساندة. كل الأسئلة التي باتت تنام الليلة مع آنْيَا لا تمنحها أجوبة حقيقية دالة، بل ستبقيها تعيش مع السؤال الماكر بالحزن، ولا ملاذ للهروب من أجوبة صريحة في مستقبل استفاقتها، إن آنْيَا تمكنت من تجاوز عقبة الواقع والمتخيل في ذاكرة عودتها المخرومة.

***

محسن الأكرمين

....................

* فصل من رواية (صانعة الأحلام)

 

البيوتُ لا تموتُ حين تُقصف، بل حين تغادرها القلوبُ خائفة، وحين تُغلقُ الأبوابُ من الداخل، إلى الأبد.

*

في المدنِ التي هربَ منها الضوء، وفي الأزقةِ التي اختنقتْ بدخانِ البنادق، تجلسُ البيوتُ كأراملَ قديمات، تنتظرُ من لا يعود. الجدرانُ، كانت تعرفُ أسماءَ الأطفال، وكانت تحفظُ ضحكاتِهم مثل آياتٍ مقدّسة في كتاب الطين.

*

لكن الحربَ، لا تقرأ، ولا تسمع، ولا تؤمنُ بشيءٍ سوى الصدى.

*

تمرُّ القذائفُ كأنها لا ترى الستائرَ المطرّزة بيد الجدة، ولا تعرفُ أن تلك الزاوية شهدتْ أول قبلةٍ بين عاشقين وآخر دمعةٍ سقطتْ في فنجان القهوة.

*

تذبلُ الأزهارُ في الحدائقِ الصغيرة، تجفُّ الأشجارُ كأنها فقدتْ لغتها، لكن… يبقى العطر. نعم، يبقى العطرُ عالِقاً على الجدرانِ المتآكلة، كأن الأرواحَ رفضتْ أن ترحل.

*

في كلّ بيتٍ مهجور، يعيشُ شبحُ أمٍ كانت تعدّ العشاء حين انطفأت الكهرباء، وروحُ أبٍ خبّأ أطفاله تحت الطاولة وخبّأ قلبه في صدره المرتجف.

*

وفي الزاويةِ حيث اعتاد الضوءُ أن يلعب، يسكن الآنَ ظلامٌ يتكلمُ لغةَ الدمار.

*

الحربُ ليست بطولة، ولا انتصار، إنها لعنةٌ يكتبها تجّارُ الدم بمدادِ الأطفال.

*

أيتها الحروب، أنتِ لا تعرفين الحب، ولا تنصتينَ للأغاني، ولا تفهمين لماذا تضع الأمهاتُ الوردَ على النوافذ.

*

هذه البيوتُ لم تُبْنَ لتكون أهدافاً، بُنيت لتُحِب، لتطبخَ الأمل، وتربّي الأحلامَ على أكتافِ الوسائد.

*

من سيزرع الورد الآن؟ من سيعرف أن تحت هذا الركام كان يعيشُ طفلٌ يؤمن بأن الله يشبه وجه أمه؟

*

يجب أن تُدان الحرب، يجب أن يُحاكم القتلة، ليس فقط لأنهم قتلوا الناس، بل لأنهم قتلوا الذاكرة، وأحرقوا العطر، وسرقوا الضوء من عيون النوافذ.

*

كل بيتٍ مهجور صرخةٌ في ضمير العالم. وكلّ جدارٍ مهدوم وصيّةٌ تقول:

لا تتركوا الجمال يموت.

***

كريم عبد الله - العراق

 

لم يعد النوم ممكناً

فيروسات الجنون لا تطرق الأبواب

بل تأكلها

أسكبوا أحداقكم في أكواب  واشربوها

فهي لم تعد نوافذ للأحلام

أبتلعوا عكازاتكم لتناموا واقفين

ألمجانين يتكاثرون باللمس وباللعق

يتسللون إلى بيوتكم عبر مجاري المراحيض

ليسرقوا لفائف المناديل الورقية

لكن ثمة مجنون واحد في العالم

لا يكتفي بسرقة أغطية المراحيض

بل يسرق كامل منظومات الصرف الصحي

يسرقها ليبيعها في السوق السوداء

محولاً العطن إلى دولارات

والدولارات إلى علفٍ

للبشر المستعدين لزراعة قرون في رؤوسهم1812 laith

في نوبة جنونه الثانية

وقف على مسرح نوبل

لتمثيل دور العاقل والحكيم

لكنّ شياطينه لم تُحسن تمثيل الدور

وخرجت للعالم من أذنيه

لتُفجّرَ البراكين الخامدة

ولتنضمّ إلى شياطين العنصرية في إبادة الفلسطينيين

لا تستغربوا من الجدب في الأمزون

فالمجنون جرّد الفصول من زينتها

لا تستغربوا من انتحار الدلافين

فهو يتخذ من أمواج المحيط مرايا حلاقة

لا تستغربوا من رسومه الكمركية

فطموحه أن يجعل من أقراص الخبز

أقراطاً للشعوب الفقيرة

عندما استيقظ من سباته داخل مجمّدة اللحم

أمر بنقل أيسلاندا إلى أريزونا

وربما في يقظة سباته المقبلة

سينقل القدس إلى صالة علاجه بالصدمة الكهربائية

هو الآن يجلس على كرسيّ بارتفاع ناطحة سحاب

ليعقد مؤتمراً صحفياً

لكنّ الكاميرات معطّلة بفعل البصاق

ألصحفيون   والمايكرفونات   والعناكب التي تغطي منضدته

يسألونه أن يرفع قدميه عن الخارطة

لكنه يصرّ أن يتبع نداء قدميه

فيجعل كل الدول بلون واحد

وكلّ أعلامها علماً واحداً

وكلّ بوابات العالم تفتحُ على غرفة منامه

**

ألمجنون الذي يحكم العالم

والذي يُلمّع المجانين حذاءَه بأربطة أعناقهم

هو مُلمّع أحذية لمجنونٍ آخر

لا يحكم من العالم سوى شارعٍ

لا يتجاوز طوله شريطَ حذاء

***

شعر: ليث الصندوق

أنا ابن أنيسة، اسمي المدون في بطاقتي الشخصية الآن، وفى شهادة ميلادي هو محمود صبري الشيال، غير أنني لا أذكر أن أحدا دعاني بهذا الاسم، في اليوم الأول لدخولي المدرسة بعد سبع سنوات في شوارع القرية، نادى المعلم على أسماء الطلاب في الصف وقال محمود صبري الشيال، لم أرد ولم ينبهني أحد من رفاقي إلى اسمي لأنهم لا يعرفون محمودا هذا، وعندما قال المعلم:

- أمال مين ابن صبري الشيال؟

قلت:

- أنا

قال:

- لماذا لا ترد يا بجم؟

قلت على الفور

- أنا ابن أنيسة

ضحك الفصل كله، وضحك المعلم بالطبع بعد أن كان قد عزم على ضربي، وقال في هدوء وحنو معا:

- هنا في المدرسة اسمك محمود، محمود صبري الشيال

سكت ولم أنطق بحرف، لم أكن لأجد أية غضاضة في كنيتي ابن أنيسة، التي بدأت تذاع في المدرسة تماما مثل شوارع القرية ، لذلك قلما التفت إلى من يناديني باسم محمود، فلم أنتبه أو أستجب إلا لمن قال: ابن أنيسة.

-2-

أنجبتني أمي على كبر، ربما كانت في الخامسة والأربعين من عمرها أو أكثر من ذلك، أنجبت قبلي عددا من البنين والبنات وماتوا جميعا، وعندما من الله عليها بى، أخذتني بعيدا عن البلدة لمدة شهرين، إلى ساحة الشيخ المجلي في مدينة (فاقوس)، تأكل وتشرب ويخدمها النساء، ثم عادت بي إلى البلدة بعد أن باركني الشيخ، وأسماني محمودا، قيل لي أيضا أن أبي لم يعترض على فعلها، بل كان موافقا تماما على ذلك، ليس لأن أبي ليس في حاجة لي أو إلى أمي، صحيح أنه في هذين الشهرين تزوج امرأة جميلة، أجمل من أمي على الأقل، ولكن لأن أبي كان يريد بالفعل ولدا يحمل اسمه، العجيب أن أبي لم ينجب من زوجته الثانية وقد ماتت قبل وصول أمي، وقيل أن أمي سحرت لها، فجعلتها تسير عارية في شوارع القرية حتى نزلت الترعة في ليلة معتمة ولم تخرج منها إلا جثة هامدة، كل هذا ولم تكن أمي قد عادت بعد من فاقوس.

-3 -

عندما عادت بي أمي من فاقوس، استقبلت في القرية استقبالا فاترا من أبي ومن أهل القرية على السواء، فقد كان الناس يميلون إلى تصديق أنها السبب في موت زوجة أبي الجميلة، أما أبي فلم يهتم وعاش حياته الرتيبة مع أمي، في البداية فرح بإنجاب ولد يحمل اسمه ولكن فرحته لم تتم كما قيل لي، إذ بدأ ينتشر اللغط في القرية وكثر الزن في أذن أبي، قيل له أنني لست ابنه، وأن أمي أنيسة أنجبتني من جني، وأني نزلت من بطنها يكسو الشعر جميع أجزاء جسدي و قالت الداية التي أولدت أمي أنني لم أبك مثل الأطفال عندما نزلت، وأن الشعر كان يكسو جميع أجزاء جسدي، وأن أظفاري كانت طويلة جدا وأنه كان لي ذيل قصير يكسوه الشعر أيضا، وباختصار شديد كنت مثل القرد، ربما كان هذا الذي جعل الناس يدعونني مرة بابن أنيسة و مرات كثيرة بقرد أنيسة، لم يدعني أحد باسم أبي، فانتسبت منذ ولادتي إلى أمي أنيسة.

كانت أمي تحملني معها أينما ذهبت؟ أما أبي فلم يكن يهتم بي، ولم أكن أهتم به أيضا، وأعجب ما سمعته بعد ذلك أنني لم أناد أبي أبدا بلفظ أبي، وقد تأملت السنوات القريبة منذ وعيت وأدركت، فتيقنت أنني لم أدعه بلفظ أبي أبدا، كنت عندما أطلب منه شيئا أزوم أمامه مثل الكلب، فيدفع لي ما أريد،الآن مات أبي، وتركني لأمي أنيسة، التي رفضت الزواج من بعده، صحيح لم تكن أمي جميلة،ولكنها لم تكن قبيحة أيضا، و كانت تقول:" أن عين الرجالة على النصف فدان الملك اللى حيلتى " مع أنها كانت قد كتبت لي هذا النصف فدان قبل أن يموت أبي.

-4 -

عدت من المدرسة في ذلك اليوم، وجدت رجالا كثيرين يجلسون في صمت في ظل حائط بيتنا الطيني والبيوت المجاورة، أما النساء فقد تجمعن في مدخل البيت في جلابيب سوداء تجلس أمي وسطهم صامتة دون دمعة أو صوت وعندما رأتني أصدرت صوتا عاليا صمتت بعده على الفور، وارتمت على الأرض فى إغماءة طويلة ولم تفق منها على الرغم من محاولات النساء حولها برش الكولونيا وكسر البصل فوق أنفها إلا عندما جاء نعش أبي وحط أمام البيت، لم أبك على أبي، أحسست أن العيون حولي تنتظر أن أبكي، وفي الحقيقة حاولت أن أبكي فلم أستطع، كنت في الصف الأول الثانوي التجاري، لم أكن صغيرا، جلست بجوار الحائط وسط الرجال، ومع ذلك لم يهتم أحد بي، ولم يعزني أحد، جاءت أخوات أبي من بلدة بعيدة، كنت أراهن لأول مرة، نساء جميلات معهن أزواجهن، ولم يكن لأبي أخوة من الرجال أو أولاد عم في القرية أو حتى في البلدة البعيدة، ومع ذلك وجدت جميع رجال القرية وشبابها يسيرون في جنازته، سرت بينهم لا أكاد أشعر بشيء من حولي، وقفت على مقربة من القبر، أدخلوه القبر، وعاد الجميع إلى القرية لإقامة العزاء في المضيفة، بينما ظللت أنا في الجبانة بجوار قبر أبي حتى أظلمت السماء، لم أكن أخاف، قيل لي أنني عدت بعد انتهاء العزاء وأن أمي وكثيرا من رجال القرية أخذوا يبحثون عني ولم يتوقع أحد أنني جالس بجوار قبر أبي، وكان آخر ما فكروا فيه أن أكون هناك، كنت أضع رأسي بين يدي، وربما كنت نائما، عندما سمعت لغطا بالقرب مني، مجموعة من رجال يقتربون مني، تقدم أشجعهم قليلا ورماني بحصاة صغيرة فانتبهت، ورماني بالثانية فصرخت، قيل لي أنه كان يريد أن يتأكد إذا كنت من الإنس أم من الجن، جرى الرجل أمامي، فقلت فى صوت كسول:

- فيه إيه يا عم مغاوري بتضرب بالطوبة ليه؟

فعاد الرجال ومعهم أمي التي تقدمت في شجاعة ولهفة وأخذتني بين ذراعيها وهى تكاد تحملنى من فوق الأرض، تخلصت من ذراعيها القويتين فى خجل، وسرت بجوارها مطأطأ الرأس، ولكنها كانت كل عدة خطوات تقف وتقبلني وعندما اقتربنا من المنزل حملتني بين يديها القويتين، وأغلقت الباب في وجه الجميع دونما كلمة شكر.

(تمت)

***

قصة: محمد عبد الحليم غنيم

يتوهَ في فلك المعجبين

فما أبهى

السراب

حين يشبه الماء

في عيون الهالكين

ومن يغترّ بنعومة الطين

ظلّ يداهن

كي يسمح للوقتَ

أن يمضغ الاعمار كما تمضغ النار الهشيم

لا تخامر

من بقائه مثل أوراق الخريف

وفي تطايرها الفناء والردى

ولا تعاشر

الأعمى فالسكين في يده

جرح مؤجل

أحط نفسك

بالعقلاء أولئك الذين

إذا نطقوا

صمت فيك الغرور

واذا

مشيت معهم

شعرت بثقل الحكمة

يسند ثقلك

وإن طالت الاعوام السراء

تذكر

إن الطين وطن الذين سئموا الانتظار

وموعدنا يوم الحساب

سر في درب

الحق والجم غرورك

واعلم أنك للفناء

***

باقر طه الموسوي

 

لم يَبْقَ مِنها لنا إلا السّما سَكنا

فلْنَدْعُها الآنَ كي تستعجلَ السُّفُنا

*

ألأرضُ؟ ما ظلّ فوقَ الأرضِ من بلدٍ

إلّا وأمسىْ لتُلمودٍ فشَا وطَنا

*

ألنّاسُ؟ ما ظلّ فوق الأرضِ من بشرٍ

إلّا وعنْ نُصْرةِ الإنسانِ قدْ جَبُنا

*

ألخيرُ؟ ما ظلّ فوقَ الأرضِ من بدَنٍ

لهُ، تراهُ غدًا نجْمًا سما مَعَنا

*

ألشرُّ؟ ألشرُّ همْ لولاهُمُ لفنا

طفلًا وليدًا وما سادَ الدّنى زمَنا

*

ولا تسلْني عن المأمولِ من أمَلٍ

إلى السّما سبَقَ الإنسانَ إذْ يقِنا

*

أنْ لا بقاءَ لهُ والياسُ غالبُهُ

في كلّ قلبٍ لهُ من يأسٍ امْتُحِنا

*

و يعْلمُ الأملُ المسلوبُ موطنُهُ

بأنّنا لم نكُن من شدَّ أو طعَنا

*

لكنَّهُ لم يزلْ بالطّعنِ في مُهجٍ

ما سلّمَتْ بانتصارِ اليأسِ يظلمُنا

*

لو يعلمُ الأملُ المجروحُ في شمَمٍ

بأنّنا لم نُغلِّبْ ندَّ صاحبِنا

*

وإنّما غلَّب الياسَ الذي كمَنا

فينا هَوَانُ أخٍ في دارِهِ امْتُهِنا

*

وخشيةُ السّيفِ من روسٍ تساقُطُها

لم يمْنَعِ السّيفَ من إهدائها الهُدَنا

*

وخشيةُ الأمسِ من آتٍ تبسُّمُهُ

لم يمْنعِ الأمسَ من بيعِ العِدا غدَنا

*

وخشيةُ الإنسِ "جدعونًا" تقزّمُهُ

لم يمنعِ الإنسَ من تسليمِهِ المدُنا

*

وخشيةُ الجنِّ شيطانًا تراجُعُه

لم يمنعِ الجنَّ من إعطائهِ الثّمَنا

*

بعدُ السّما؟ لا أرى أنّ السّما بعُدتْ

لكنّنا خلَفٌ في دينِه فُتِنا

*

أهلُ السّما؟ أهلُنا، خيرُ النُّفوسِ همُ

وليسَ للخيرِ عنْ خيرِ النُّفوسِ غِنى

*

والشرُّ في علْمِهِمْ بالأرضِ قد عُجِنا

مولودُها هوْ وفيها عاشَ وانْدَفَنا

*

قد أسْكنوا في السّما أمالَهم ودنَوا

بالذّكر من خالقٍ أدناهُمُ وَدَنا

*

كيلا يزاحمَها يأسٌ ويغلبَها

بما لدَيهِ  كيأْسٍ قد أطاحَ بِنا

*

إذا أحاطَ بهِمْ شرٌّ تُناصرُهُ

أرضٌ بأوجُهِ خلْقٍ سَوَّدوا الوثَنا

*

فأينما تجدِ الأوثانُ صانعَها

تجِدْ شرورًا ويأسًا من أخٍ وَهَنا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أُمالِسُ شَفَتَيَّ في صَدَى الرِّيحِ

كَأَنَّ الطُّفُولَةَ تَسْتَعِيرُ أَنفاسي

لا أَنَا مَن بَقِيَ

وَلَا السُّؤَالُ يَعرِفُنِي

حِينَ أَمُرُّ عَلَى فَجْوَةِ اللَّيْلِ

كَيفَ أُسْقِطُنِي

وَمَا مِنْ وَجَعٍ يَخُونُنِي

إلَّا إِذَا أَحْبَبْتُهُ؟

كُنْتُ أَكْتُبُنِي فِي تَجاعِيدِ غَرِيبٍ

يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَقْرَأُنِي

وَأَنَا لَا أَكُونُ إِلَّا فِي تَلَاشِيهِ

هَلْ كُنْتُ وَهْمَكَ؟

أَمْ نَبْضَ تَناصٍّ قَدِيمٍ

تَتَعَثَّرُ فِيهِ الأَقْلَامُ

وَتَسْقُطُ مِنْهُ اللُّغَةُ كَسِرَابٍ

فِي حُجْرَةِ الظِّلِّ

كُنْتُ أُرَتِّبُ وُجُوهَ النِّهَايَةِ

تُقَلِّبُنِي هَزِيمَةٌ غَامِضَةٌ

وَأَنْظُرُ إِلَيَّ

كَأَنِّي أَرَاهُ فِي وَجْهِي

أَيُّ نِدَاءِ رَسَمْتَنِي فِيهِ؟

أَنَا الَّتِي اتَّسَعَتْ لِلرِّيحِ

حَتَّى جَفَّتِ الخُطَى

أَنَا الفَضَاءُ الَّذِي ابْتَلَعَ لُجَجَهُ

وَحِينَ تَوَارَى النُّورُ صَارَ الصَّمْتُ مِرْآةَ السَّرَابِ

كُنْ لِي عَدَماً

أَوْ لا تَكُنْ

فَمَا عَادَ فِي الوُجُودِ مَكَانٌ

يَسْتَطِيعُ أَنْ يُشْبِهَنِي

أَنَا الحَدُّ الَّذِي لَا يُعْبَرُ

وَمَكْمَنُ صَمْتٍ لِلْخَدِيعَةِ

***

مرشدة جاويش

 

لا أحبّ اللهب العالي

أنا نارٌ هادئة

تمرّ على القلب مثل نسمة،

تشعل فيه دفئًا

لا حريقًا.

*

أتزيّن بأقراطي

اقراطي

رمانٌ ناضجٌ مثل قلبي

أهدهد الحزنَ على كتفي

ولا أقول شيئًا…

فالصمتُ في بعض النساء

أبلغ من القصائد.

*

جدتي علّقت في أذني حبةَ حب

وقالت:

لا ترفعي صوتك…

شمسُكِ تكفي."

*

أنا لا أحبّ الانصاف

لا نصف قلب

ولا نصف رجل

ولا نصف فرح.

أنا كاملةٌ كالرمانة

ممتلئة

من الخارج شغف

ومن الداخل سرٌ لا يُقال

*

حين أمشي

تتبعني العيون كأنني وعدٌ قديم

عاد في لحظةٍ بلا ميعاد.

*

حين أتكلم

ينام الليل على كفي،

وحين أصمت،

ينكمش ضجيج المدن

*

أنوثتي ليست سيفا

ولا زينةً من ذهب،

هي ظلُّ نخلةٍ

ورائحةُ مطر

جذورها عراق

*

اقترب

لكن لا تسألني الطريق،

فأنا لا أعدك بشيء،

ولا أخشى الغرق

*

أنا جلنار

وفي اسمي نار

لكنها تُضيء،

ولا تُحرق

***

رائدة جرجيس

 

الى الأديب العربي الذي كان..

مثنويّاتٌ ورباعيّاتٌ عربية ..

***

كيفَ أغواكَ في المساءِ بَريقُ

وزعافٌ مالى بِهِ الابريقُ

**

كيفَ أخفوكَ في بطونِ الخوابي

وهيَ نفطٌ، وأنتَ درٌ وجوهرْ

كيفَ أمسيتَ حجمَ قزمٍ وأصغرْ

بعدما كنتَ عالَماً في كتابِ؟

**

كيفَ أصبحتَ تائهاً في الفنادقْ

بينما يملأُ الغاصبونَ الخنادقْ؟

**

كيفَ رافقتَ جندَهمْ للجنائزْ

وتصورتَ انَّ تلكَ الموائدْ

جعلتْ منكَ في الفصاحةِ رائدْ

فتقبلتَ جودَهم في الجوائزْ؟

**

كيفَ بعتَ الذكرى ومجدَ العواصمْ

وتنكرتَ طامعاً بالدراهمْ؟

**

كيفَ طابتْ لكَ الخدائعُ حتّى

صرتَ أنتَ المخدوعَ قَبلَ المُخادِعْ

حينَ أدمنتَ لذةً في المَخادِعْ

وصنوفُ التعذيبِ في الناسِ شتّى؟

***

شعر: كريم الأسدي

.......................

ملاحظتان:

1 ـ مثنويات ورباعيات عربية هو مشروع شعري يشتغل عليه الشاعر منذ أعوام، وقد نشر الشاعر منه فصولاً كثيرة مع ملاحظات توضيحية عن المشروع.

2 ـ زمان ومكان كتابة هذا النص: الرابع من آب 2025، في العراق.

1 - هُنَا الْحَضَارَةُ وَالتَّارِيخُ وَالْعَجَبُ

يَا سَائِلًا مَنْ أَنَا؟ مَهْلًا أَنَا حَلَبُ

*

2 - أَنَا الَّتِي شَابَ فِي تَكْوِينِهَا بَشَرٌ

وَمِنْ جَبِينِي تُضِيءُ الشَّمْسُ وَالشُّهُبُ

*

3 - صَاغَ الْإِلَهُ جَمَالِي آيَةً ،. عَلَمًا

مَدَى الزَّمَانِ تُرَاثًا لَيْسَ يَحْتَجِبُ

*

4 - فَفِي ثَرَايَ مُلُوكٌ قَدْ ثَوَوْا وَبَنَوْا

صُرُوحَ عِزٍّ،. حِمَى الْجَوْزَاءِ تَغْتَصِبُ

*

5 - خُيُولُ آشُورَ وَالْحِثِّيِّ عَابِرَةٌ

وَكُلُّ مَنْ مَرَّ مِنِّي الْفَخْرَ يَكْتَسِبُ

*

6 - وَقَلْعَتِي شَاهِدٌ لَمْ يَمْحِهِ زَمَنٌ

صَوْتُ الْأَذَانِ بِهَا مَا مَرَّتِ الْحِقَبُ

*

7 - أَبْرَاجُهَا فَوْقَ هَامِ الْمَجْدِ رَاسِخَةٌ

لَهَا انْحَنَى الدَّهْرُ حَتَّى كَادَ يَنْحَدِبُ

*

8 - هُنَا ابْنُ حَمْدَانَ قَدْ أَغْنَى مَجَالِسَهَا

بِهِ تَبَاهَى الْقَرِيضُ الْفَذُّ وَالنُّخَبُ

*

9 - أَنَا الَّتِي أَطْرَبَ الدُّنْيَا مُوَشَّحُهَا

وَبِالْقُدُودِ الَّتِي يُشْفَى بِهَا التَّعَبُ

*

10 - صَبَاحُ فَخْرِيْ عَلَى الدُّنْيَا يُرَدِّدُهَا

فَيَنْتَشِي السَّمْعُ وَالْوِجْدَانُ وَالطَّرَبُ

*

11 - لِمَطْبَخِي نَكْهَةٌ مُثْلَى إِذَا ذُكِرَتْ

فِيهِ الْأَطَايِبُ وَالتَّنْوِيعُ وَالْكُبَبُ

*

12 - أَبْوَابِيَ السَّبْعَةُ الْغَرَّاءُ شَامِخَةٌ

فَكُلُّ بَابٍ لَهُ، تَارِيخُهُ الْخَضِبُ

*

13 - لِلنَّصْرِ بَابٌ، يَدُ الْأَحْرَارِ تَفْتَحُهُ

حَتَّى يَعُودَ لَهَا أَبْنَاؤُهَا النُّجُبُ

*

14 - بَابُ الْحَدِيدِ وَقِنَّسْرِينَ قَدْ شَهِدَا

كَيْفَ الْفُلُولُ بِجُنْحِ اللَّيْلِ قَدْ هَرَبُوا

*

15 - سُوقُ الْمَدِينَةِ إِعْجَازٌ بِهَنْدَسَةٍ

كَيْفَ اسْتَقَرَّتْ بِهِ الْأَقْوَاسُ وَالْقُبَبُ

*

16 - فِيهِ الصَّنَائِعُ وَالْإِبْدَاعُ فِي حِرَفٍ

فِيهِ الْبَضَائِعُ وَالْأَلْمَاسُ وَالذَّهَبُ

*

17 - هُنَا الْجَمَالُ لَهُ فِي أَهْلِهَا نَسَبُ

وَفِي الْخُدُورِ بِهَا يُسْتَوْطَنُ الْحَسَبُ

*

18 - إِذَا مَشَتْ، خِلْتَ غُصْنَ الْبَانِ مُنْعَطِفًا

وَالشَّمْسُ مِنْ وَجْهِهَا الْوَضَّاءِ تَنْتَقِبُ

*

19 - بِكُلِّ خَطْوٍ يَسِيرُ الْحُسْنُ مُحْتَشِمًا

فَلَا جُنُوحٌ.. وَلَا مَيْلٌ.. وَلَا صَخَبُ

*

20 - وَرِقَّةٌ فِي حَدِيثٍ إِنْ هَمَسْنَ بِهِ

تَكَادُ مِنْ لُطْفِهِ الْأَحْجَارُ تَنْتَحِبُ

*

21 - إِنْ قُلْتَ شَهْبَاءَ.. قَالَ الْحُسْنُ فِي ثِقَةٍ

نِسَاؤُهَا الْحُسْنُ.. وَالْأَخْلَاقُ.. وَالْأَدَبُ

*

22 - وَفِي الرِّجَالِ شُمُوخُ الطَّوْدِ إِنْ وَقَفُوا

وَهِمَّةٌ دُونَهَا الْأَفْلَاكُ تَضْطَرِبُ

*

23 - هُمْ أَهْلُ جُودٍ.. فَبَابُ الْبَيْتِ مُنْفَتِحٌ

وَلِلضُّيُوفِ مَسَاءً تُفْرَشُ الْهُدُبُ

*

24 - بِكَفِّهِمْ كَرَمٌ، كَالْغَيْثِ إِنْ هَطَلَتْ

فَيَنْضَجُ التِّينُ وَالتُّفَّاحُ وَالْعِنَبُ

*

25 - وَفِي الشَّهَامَةِ لَا تَسْأَلْ.. فَهُمْ أَبَدًا

أَهْلٌ لَهَا وَبِهَا قَدْ خَصَّهُمْ لَقَبُ

*

26 - إِذَا اسْتَغَاثَ بِهِمْ مَنْ مَسَّهُ، ضَرَرٌ

قَامُوا لِنُصْرَتِهِ.. فِي الْحَالِ وَاحْتَسَبُوا

*

27 - ثَقَافَةُ الْفِكْرِ فِي أَعْمَاقِهِمْ نُقِشَتْ

لِمَجْلِسٍ مِنْهُمُ لِلْعِلْمِ تَنْجَذِبُ

*

28 - أَبْنَاءُ عِزٍّ.. وَأَهْلُ الرَّأْيِ إِنْ عَظُمت

خُطُوبُ دَهْرٍ.. فَهُمْ لِلْحَلِّ قَدْ غَلَبُوا

*

29 - إِنِّي الْعَقِيدَةُ.. وَالْإِصْرَارُ فِي بَلَدِي

شَعْبِي عَظِيمٌ.. أَبِيٌّ.. صَابِرٌ.. حَزِبُ

30 - كَمْ قَاتَلَتْنِي جُيُوشُ الظُّلْمِ قَاطِبَةً

وَكَمْ تَكَسَّرَ فِي أَعْتَابِيَ اللَّهَبُ

*

31 - لَقَدْ تَكَالَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَاجْتَمَعُوا

الْفُرْسُ وَالزُّطُّ وَالرُّومَانُ وَالذَّنَبُ

*

32 - لَكِنْ سُيُوفُ بَنِي الْأَحْرَارِ تَحْرُسُنِي

فَالشَّمْسُ تَخْشَعُ إِنْ يَوْمًا هُمُ غَضِبُوا

*

33 - كَمْ نَكْبَةٍ عَبَرَتْ.. كَمْ مِحْنَةٍ كَسَرَتْ

ظَهْرَ الْجِبَالِ وَلَمْ تُلْوَ لِيَ الرُّكَبُ

*

34 - أَظَلُّ شَامِخَةً.. وَالنُّورُ يَعْمُرُنِي

يَأْتِي الصَّبَاحُ.. وَلَيْلُ الْحُزْنِ يَنْسَحِبُ

*

35 - أَنَا دِمَشْقُ.. وَبَغْدَادُ الشُّمُوخِ أَنَا

إِنْ فَرَّقُونَا.. فَفِي الْأَرْوَاحِ نَقْتَرِبُ

*

36 - سَأَرْجِعُ الْفَجْرَ مَهْمَا طَالَ بِي ظُلَمٌ

وَتُشْرِقُ الشَّمْسُ.. وَالْأَحْزَانُ تُسْتَلَبُ

*

37 - فَاكْتُبْ. مِنَ الشِّعْرِ مَا تَرْضَاهُ يَا قَلَمِي

عَنِ الَّتِي حُبُّهَا فِي الْقَلْبِ يَنْتَصِبُ

*

38 - فَكُلُّ حَرْفٍ بِغَيْرِ الْحَاءِ مُنْتَقَصٌ

وَكُلُّ شِعْرٍ بِغَيْرِ الْبَاءِ مُجْتَنَبُ

*

39 - أَنَا ابْنَةُ الْمَجْدِ،. وَالْعَلْيَاءُ مِنْ نَسَبِي

فَمَنْ كَمِثْلِي لِهَذَا الْمَجْدِ يَنْتَسِبُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

امرأةٌ

تُحدّث نفسها،

وصوتُ أفكارِها

يعلو في صمتها.

*

ورجلٌ

في آخرِ المقعد،

يُحدّث نفسه عن امرأةٍ

ربما تُشبه تلك التي

تجلسُ في المقعدِ الأول.

*

من الشَّبَه

قد يولد حلمٌ،

أو وهمٌ،

أو قدر.

*

ضحكَ،

ونهضَ من مقعده

كأنَّه ينهضُ

من ماضٍ طويل.

*

جلسَ بجوارها،

لم تلتفتْ إليه،

لكنّ ظلَّها

تمايلَ قليلاً

كأنَّه رحّبَ به.

*

قال في نفسه:

ربما نبدأ من هنا،

حيث يلتقي الكلامُ بالصمت،

والأولُ بالأخير،

والأنا بالمرآة.

*

أخرجَ كتابًا،

قرأَ لها بصوتٍ منخفض:

في البدء كانت امرأةٌ

تُحدّث نفسها...

*

ابتسمت،

وأعادت النظر في نفسها،

كأنَّها تكتشف للمرة الأولى

أنها ليست وحدها.

*

ساد بينهما هدوءٌ

يشبه ارتباكَ الموسيقى

حين تنقطع فجأة.

*

لا يعرفان إن كان ما بينهما

حديثًا مؤجلاً

أم ذكرى

تُصاغ الآن.

*

نظر إليها،

فرأى في عينيها نافذةً

تطلّ على غيابٍ يشبهه.

*

وقالت،

من غير أن تنطق:

هل جئتَ لتبحث عني

أم عنك فيّ؟

*

أراد أن يجيب،

لكنّ الكلمات

لم تسعفه.

*

ترك إصبعه

يمرّ بخفة

على حافة المقعد،

كمن يخطّ بدايةَ سطرٍ

لا يعرف كيف ينتهي.

***

د. جاسم الخالدي

 

كم حملت عني دم البلاد المسفوك يا أبي

كم قلت أنك لن تخبرني عمن قتل الصبح في العصافير

ومن أمر الضحية أن تعترف

كي أكبر في حيني حالما وفارغا منهم أنام

*

لن تنجو إن أقبلت على حلم قبل موعد حلمك

فكن بك معك،

سآوي إلى قلب أمي يا أبي، وهناك أحفظ الحقيقة،

أبقى بجوار الله صلاة إلى أن ينتهي المحفل

من ليله السكري فينا، فهنا يضيق بنا هناك

وهناك يبدأ من كواليس مدننا الحديثة

تحت شهوة الخيام

*

لا حب،

ينمو الإسمنت حول قلوبنا مدنا/

لا أرض،

الحدائق تحتلها الصحراء/

لا رؤى،

ويل لنا من المشهد القادم/

لا وضوح،

والموت من قتلانى غامض/

لا خلف، لا أمام،

والخطو موعد لنزيف الحمام/

*

المدينة تَسَعُ ألف نهاية وتفتح للموتى خريفها

واسم الحياة سقط عن أبجديتنا الأولى

واستسلام الضاد منذ التتار،

هل جئنا بعدنا؟ أم جاؤوا قبلنا؟

أم دخلنا خلسة من بوابة التاريخ الخلفية؟،

والحدثيون يُبعثون من معاجم القدمى

كي يخرجوا عن سياق الأمس،

وينفَضُوا عن جراحنا كما ينفض الغمام

***

فؤاد ناجيمي

من القصيدة الديوان/ ديوان أبي

 

خدُّكِ ضوءٌ يتوهَّجُ بالحب،

وجناحاكِ يرتعشانِ من خجلِ السّماء،

كأنَّ المساءَ يعكسُ على ريشِكِ

شفافيَّةَ اللّيلِ الرَّطيب.

في وحدتِكِ، يتدفَّقُ ضوءُكِ كنبعٍ مسحور،

تقتاتُه الحشراتُ الجائعة، تحاولُ كسرَ جدارِكِ الصَّامت،

لكنَّكِ، كريحٍ تائهة، تعودينَ إلى عزلتِكِ، تنحنينَ للوحدةِ

كأنَّها وطنٌ يؤويكِ من ضجيجِ الغياب.

أيتها العصفورة،

كيف تتسعُ لصلابتِكِ هذه الرّوحُ الطريَّة؟

وكيفَ ينحني الضّوءُ في عينيكِ

دونَ أن ينطفئَ في زوايا الذاكرة؟

لماذا تخافينَ اتّساعَ الأفق؟

لماذا تُغمضينَ جناحيكِ كلَّما نادتكِ الرّيحُ

بصوتٍ يشبهُ حنينَ المطر.

أيّتها العصفورة،

ارمِ بقلبِكِ إلى الأعالي،

ودعي السَّماءَ تعيدُ ترتيبَ ضوءِكِ،

فلا أحدَ يفهمُ لغةَ الطّيرانِ

مثلَ من خُلِقَ للحريّة.

أيتها العصفورة،

من ذا الذي سرقَ منكِ صوتَ الفجر؟

من ذا الذي أغلقَ عليكِ الأفقَ

حتى صارتِ السماءُ جدارًا صامتًا

لا يردُّ النداء؟

أيتها العصفورة،

ريشُكِ يختزنُ أحلامَ الطيران،

لكنَّ قدميكِ مغروستانِ في رمادِ المسافات،

وكأنَّ الأرضَ تشدُّكِ إليها

كما يشدُّ الحنينُ قلبًا متعبًا.

أيتها العصفورة،

لماذا تقتاتُ الوحدةَ، وتحملينَ في عينيكِ

حزنَ العابرينَ بلا مأوى؟ أما آنَ لقلبِكِ أن يجرِّبَ الدفءَ

خارجَ حدودِ العزلة!

افتحي جناحيكِ، فالعالمُ ليسَ قفصًا، والريحُ ليست عدوًّا،

هي فقطُ تنتظرُ من يفهمُ لغتَها، من يُلقي بجسدهِ إلى الهواءِ

دونَ أن يخشى السقوط.

أيتها العصفورة،

إذا ما نادتكِ السماءُ

فلا تلتفتي إلى الوراءِ، لا تسألي عن أرضٍ

لم تمنحكِ إلا الخوف، ولا عن غصنٍ كانَ يومًا مأوى

ثم صارَ قيدًا شفافًا لا يُرى.. ولا يُكسر! حلّقي…

فالأجنحةُ لا تصلحُ للانتظار.

***

هند حاتم

 

صافلو...

طيفي المجازي

بعيونه لا زوردية،

كان سيد الضوء،

كان يخبرني عن مولد القِبلات

و عن رتبتي

في صفوف الباحثين

عن شهيق البسملات.

كنت قِبلة خرساء

في غيب العبث،

وكان صافلو...حصتي من عزلتي

بوصلةً في دمي،

يربي الشموس حينا،

وحينا يطهرني

من وشايات العراء،

لحظات أخيرة،

تأمل في صمت الفراغ،

في نبؤة دمائي النافذة،

وفي تفاصيل الرحيل .

اختفى صافلو،

منذ ذاك الوقت...

صارت الكنايات حزينة،

دمياتي الطينية أيضا صارت حزينة،

لا شيء يسمعني،

غرق...أشلاء،

ليل ممدد،

ووجوه تتوارى في نزيف الصدى.

مكتظة أنا بالذكريات،

وقلبي شيخ

في رحلته الأخيرة،

أنا وصافلو

تشاركنا نفس العزف،

نفس الشامة الملونة

وحتى نفس الأنفاس.

صافلو...

أقام معي في بيت الريح،

اختصرني في كفه الكبيرة،

وكنت ألمع حذاءه الأبيض

كلما هبت الكلمات من غد،

لم يعد صافلو يصلي صلوات الندى

على خدي المتورمة،

لم يعد يهش على أسراب النحل

كلما تلعثم الصلصال في وجعي،

صافلو...كان نبضي الآخر،

كان نبتة وقتي.

قبل زمن عاهدني

ان لا يغادر تلك النافذة المهترئة

قال لي يومها...

يا شقيقة الغيم

أينهض هذا التراب من سكرته!

ويعود الطواف لأركان المصادفة،

قلت...ما أدراني

إذا ما صمتت القديسة عن الغناء،

وفتن الوتر والقمر .

مات صافلو...

اغتالوه بداخلي

مازالت دماءه على وجهي

على جبهتي

وخصلات شعري

وعلى نرد القصائد.

هكذا ...

أنا ...وصافلو إلتقينا ذات صباح

على كف وحجر،

ومسك شهادة،

يزفنا في ساحات النصر.

***

وفاء اجليد

 

يَنحرُ القرابينَ

يَسِفكُ الدمَ

يَحرقُ البخورَ

يَمسحُ الصنمَ

يَسجدُ..  يَبتهلُ

**

شاعرُ القصرِ

فارسُ القوافي

لا يُشقَ له غبَار

في حلبة الشعراء

**

شاعرُ القصرِ

مُهرِجُ الملكِ

طبالٌ في الجوقةِ

يُقبِلُ يدَ سيدهِ

لا يَرفع أبداً عينيهِ

لنصفِ قامتهِ

يَنظرُ اليهِ

مِن تحتِ حزامهِ

لأسفلِ قدميهِ

يَمسحُ نظراتهِ

بسوادِ نعليهِ

فيرى فيهما صورتَه

مقلوبة شوهاء

**

يومٌ سيأتي

لا يتوقعهُ

كالصدمةِ

يصبحُ فيهِ

مخصي َ الصوتِ

بين حريمِ

السلطانِ

***

صالح البياتي

لا زلت أتقن فنون الصمت

حتى الوجع المفرط

وبحة صوت

*

أمثلُ دور التوراي

خلف خطوط الورع

واشحذ نصل خاصرتي

بصبر قديس

*

نحن الموبوئون بحب الأرض

ما أكثرنا عند الهتاف للوطن

وما أسوءنا ونحن نتنكر

لرعاف دمائنا على خطا الثائرين

*

اتقبلنا يا الله

ونحن المتواطئين مع كل فكرة

لذبح نبي

او ذم ولي

*

نحن الجياع

ما اكثر الجياع والرعاع

على خارطة الوطن

أترانا نحترف بيع موانئه

لترسو بيها يخوت الدعارة

*

ام لازلنا نيام نغفو على بركة دم

ونشحذ نصل اوجاعنا

بإرادة لاتلين .

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

قصص قصيرة

1ـ شهرزاد تحكي

نضب معين الحكاية يا مولاي وجف مني الخيال..

قالت شهرزاد..

وما العمل إذن؟

رد بغضب شهريار..

تحرك في ركنه البارد «مسرور» الذي أكلته الشيخوخة وصدئ سيفه. نظر بعينين دامعتين من الرمد، وقال بصوت مبحوح ممزوج برعشة واضحة:

رأس من هذه المرة يا مولاي؟

ابتسم شهريار حين سحبت شهرزاد نسخة من كتاب «ألف ليلة وليلة» من تحت وسادتها وشرعت تحكي حكاية الليلة الأولى بعد الألف وواحد..

بلغني أيها الأمير السعيد ...

**

2 ـ الباب الكبير

كان الباب الكبير مواربا..

كنت أتلذذ وأنا أسمع صريره كلما انفتح أو انغلق..

كنت أعلم، ولست الوحيد في القرية، أن هذا الصرير يعني أنها دخلت البيت الكبير أو خرجت منه..

صريره اللذيذ يجبرني على الالتفات.. أقصد يجبرنا على الالتفات..

هي تتلذذ بتعذيبنا بصرير الباب الكبير انفتاحا وانغلاقا..

ونحن نتعذب لأننا كُثر ننتظر مرورها كالحلم الهادئ..

كنت أتجنب تجمعاتهم.. وأكتفي بالاستماع إلى الصرير وأتخيلها بين ذراعي أخيط على مقاسنا، هي وأنا، حلما يجمعنا بعيدا عن الأنظار..

**

3 ـ سأخرج إلى الشوارع عاريا

«سأخرج إلى الشوارع عاريا.. سأتبول في الطرقات.. سأترك شعر جسمي ينمو ويكبر»

أفرغ ما تبقى من كأسه في جوفه دفعة واحدة ومسح القاعة بعينين حمراوين ناعستين..

بالكاد وقف مسنودا على طاولة، نظر إلى العيون التي ترمقه ذاهلة متسائلة بفضول..

«نعم سأخرج إلى الشوارع عاريا.. سأتبول في طرقاتكم سأعلق على صدري كل التمائم.. سأكفر بالحب والصداقة.. سأكفر بالإنسان»

ضحك حتى سقط أرضا..

حمله زبانية الحانة ورموه خارجا..

الوقت ليل يزيد عن منتصفه.. أحسَّ بنسمة برد تداعب جسمه المنهك والمخمور، فتح عينين ثقيلتين ورأى الناس عرايا يتبولون في الطرقات والشوارع وقد نما على أجسادهم شعر كثيف،

بعضهم يحمل قرونا والبعض الآخر تدلت ألسنتهم يلهثون كأنهم لتوهم قطعوا مسافة كبيرة عدوا، وآخرون يعوون ويصيحون بأصوات منكرة مخيفة يخدشون الأبواب والحيطان بأظافرهم.

تملكه الخوف من هول ما رأى، تحسس جسمه فتأكد أنه بكامل ملابسه، عاد إلى الحانة وطلب فنجان قهوة مُرة لعله يستفيق من كابوسه.

**

4 ـ الغراب

لم يصدقه أحد رغم أنه أقسم بأغلظ الأيمان أنه رآه، كما وصفته الكتب المقدسة.

اتهموه بالخرف والجنون والخروج عن الدين.

أقْسم أنه رآه في الحلم في اليقظة، لا يهم، رآه ويقسم على ذلك، أسود كالليل المظلم لا نجم في سمائه، ينبش القبر القديم، يُخرج رفات القتيل.

نفس الغراب، وقف أمام رفات الرجل المؤمن الهادئ، بمنقاره جمع العظام، وقف حائرا لأنه لم يجد عظام اليد.

***

عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

الدار البيضاء في 01 غشت/أغسطس 2025

........................

⃰  من المجموعة القصصية. مذكرات جسد آيل للسقوط. عبد الهادي عبد المطلب. الناشر سوماكرام 2016

 

عَصِيّةٌ، على الترجُّلِ عن ظلها،

على الانحناءِ لفكرةٍ مشروخةٍ تُعيدُ تدويرَ النخاسة بلغةٍ حداثيّة،

على القوالبِ التي تنحتُ النسوةَ من طينِ الطاعة،

والتكيّفِ مع سقفٍ مُنخفضٍ للحلم .

على السيرِ في مواكبِ التصفيقِ

لأصنامٍ تُطْعِمُ الفقراءَ بالوهمِ وتغسلُ يدَيْها بالمسكِ المُهرّبِ من دمهم.

*

عصيّة،

على البكاءِ أمامَ جمهورٍ يطلبُ الدمع كمشهد ترفيهي،

على الصمتِ حينَ يُغتَصَبُ المعنى، وتُغتالُ النبوءاتُ في مهدِ حروفِها،

على أن تكون مجازًا حينَ يُطلَبُ منها أن تفررِغَ ذاتها في استعارةٍ عقيمة.

*

عَصِيّةٌ،

على قَولِ ما لا تؤمنُ به،

على كتابةِ قصيدةٍ تبرّرُ نُدوبَ التاريخِ أو تُعقّمُ الذاكرة،

وعلى تلميعِ الظلالِ المُتَعبةِ بطلاءِ النسيان.

*

عَصِيّةٌ،

كحرفٍ نافرٍ في قصيدةٍ مَرَجِيّة،

كأنثى ترفضُ أن تكونَ فاصلةً في جملةٍ ذكوريّة،

كنخلةٍ تنبتُ في أرضٍ مالحةٍ وتُصِرّ أن تثمر.

على مصافحةِ الوقتِ الذي يَسلُبُها اسمها

ويُهدي إليّها رقمًا في ملفِّ الإحصاء.

*

عَصِيّةٌ،

وتملكُ شجاعةَ النهوض كلّما ماتت قليلاً،

وتكتب ذاتها، كما تريد،

بلا وصاية،

بلا مُلقِّن،

بلا عذرٍ يجعلُ من الخنوعِ سردًا مقبولاً.

***

مجيدة محمدي

 

مَنْ يَمْنَعُني

أنْ أخطفَ مِنْ عَينيكِ النَّظْرَةْ

أن تُبْحِرَ في عينيكِ

زُرْقة بحري

فَتَلْمَعُ شُهْرَةْ.

أنْ أمتصَّ رحيقَ الزهرةِ

من شفتيكِ

وأصْنَعُ خَمْرَةْ.

أن أغسِلَ وجهَ العَالَمِ

بين يَديكِ

بِسَبْعِ لُغاتٍ

قبل صباحِ الفيس

وبعد مساءِ الواتس

وأقبلُ عُذْرَه !

*

إنِّيْ أَزْرَعُ في رِئتيكِ هَوَايَ

كي يَتَنَفَّسَ

صُبْح الآتي إلى دُنياهُ

حياةً أنقى...

حيث اللابارودَ...

ولا أشلاءَ على الطُرُقَاتِ

ولا نَعَرَاتٍ تُوْرِدنا

في أسوأِ بُوْرَةْ!

فأزيحي وشاحكِ وانْتَصِري

لا تنتظري

فالدربُ إلى الأسمى

صَخْرَةْ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

في نصوص اليوم