نصوص أدبية

نصوص أدبية

هذي المدينةُ ليسَ تُؤتى كالمدنْ،

لا البَرُّ أوصلَني إليها لا السماءُ ولا السُّفُنْ،

لكنَّما إغماضُ عينيَّ التّلفُّظُ والتلذُّذُ باسمِها:

مَرَّاكُشُ المطرُ العتيقْ / مَرَّاكُشُ الشفقُ الغريقْ،

فإذا بها مثَلَتْ أمامي مثلَما امرأةٍ بها اختُصِرَ الزمنْ،

**

هذي المدينةُ لا تُقاسُ بوحدةٍ فوقَ الخريطةِ،

إنّما بقلوبِ أهليها التي اتّسعَتْ وفاضَتْ بالمحبّةِ والجمالْ،

فهنا الشوارعُ بُلّطَتْ بالوردِ لا الأسفلتِ،

والشرفاتُ كالعنقاءِ إذ تلدُ الغيومَ على الجبالْ،

**

لا ضَيرَ أنّي لم أزرْها بعدُ قد قالوا قديما:

إنّما أحلى القصائدِ شاعرٌ أعمى سيكتبُها عن البحرِ،

الذي أغوى المدينةَ عندما قد قالَ: كوني لي سديما،

**

وعصيّةٌ أبوابُها العُليا فكم صدِئَتْ مفاتيحُ الغزاةِ وغادروها خائبينْ،

فالرملُ فيها لم يزل يندى،

النجومُ مُبلَّلاتٌ من تباشيرِ الصباحِ على عيونِ الساهرينْ،

**

هذي المدينةُ قُبلةُ الشمسِ اللعوبِ على شفاهِ الغيمِ،

زنبقةُ المدائنِ والتُّوَيجاتُ التي منها الضياءُ يصيرُ أحمرَ،

عندَ وقتِ العصرِ حيثُ كآبةُ الأشياءِ تلبَسُ دمعةً،

نُسْغاً بنُسْغٍ سوفَ تُولَدُ ثُمَّ تعلو في فضاءِ حديقةٍ سِريّةٍ،

يا أيُّها الملقى على عشبِ الليالي الصامتاتْ،

فلتنتظرْ، مَرَّاكُشٌ تأتي إليكَ من الحقيقةِ من جذورِ الضوءِ تنثُرُ سِحرَها فوقَ الجهاتْ،

**

لمسُ الحجارةِ نبضُنا،

والماءُ يعرِفُ عن حكايا الأرضِ أكثرَ من رمالِ التيهِ،

يا زمناً بهِ الفَخّارُ يصبحُ وردةً كن لي هنا،

**

إنّا وُلِدْنا مرّتينِ،

فمرّةً في أرضِنا،

والثانيةْ،

مَرَّاكُشٌ كانت لنا أُمّاً رَؤُوماً حانيةْ،

**

هذي المدينةُ لا تَشيخُ معَ السنينْ،

جئنا إليها ضائعينْ،

منها خرجْنا عاشقينْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

الأنوالُ، ضلوعٌ مقلوبة على صبرٍ قديم،

كل خيطٍ يمتدّ من نبضٍ مهمل،

من حلمٍ لُفّ بعهن متشابك،

من صوتٍ لم يجد فمه بعد.

*

وهنّ لا يقلن شيئًا،

لكن السجادة تنطق،

بلغةٍ الوخز،

وبالانتظار الممتدِّ كشَعرٍهن الأبيض الذي تخلص من ألوانه...

*

اللون الأزرق؟

دمعةٌ وقفت على بابها ولم تطرق.

والأحمر؟

صرخةُ رحمٍ تكسّر داخله الحنين.

والأخضر؟

ظلُّ حقلٍ لم تزرعه سوى الخيبة.

*

كلّ غرزةٍ قبرٌ صغير،

دفنت فيها امرأة ضحكتها،

وكل طرفٍ، شرفة،

تطلّ منها على أحلامٍ تتكسر، كالأواني الطينية.

يا لَسِرِّ الأصابع،

كيف تخدعُ الخيط ليصبح زهرة،

تُسقطها في حاشيةٍ بلا اسم.

كيف تهندس الحزن في نمطٍ متكرر،

كأن الوجع قابِلٌ للقياس.

*

وهنّ لا ينتظرن أحدًا،

لكن العُقَد تذكّرهنّ،

أن العالم مرّ من هنا

ولم يسأل .

*

الصمت أكثر كثافة من الجدران،

تتقاطع العيون،

تغيب ملامحُهن في الزخارف،

ويصرن مجازًا لا يُفَكُّ شفْرته.

ويودِعن أسماءهنّ في نسيجٍ يتكوّر،

ولا يطالبهن أحدٌ بالتوقيع ...

*

في المساء،

حين يتثاءب الضوء من ثقوب الباب،

وتغفو الأرواح على أكتاف الغبار،

تُطوى السجادة كجسدٍ تعب،

ولا أحد يعلم

أن في طيّاتها صرخةً

لم تجد فجرا يُنصت.

*

الحائكةُ الأخيرة،

تشدّ خيطًا رماديًّا

كأنها تستخرج شيئًا من صدرها،

نَفَسًا،

أو اسمًا قديمًا نسيه النداء.

*

كل خيطٍ متعب،

سار آلاف الحكايات

دون أن يُروى.

وكل لونٍ مطحونٌ تحت أصابعها،

أراد أن يقول شيئًا

ثم سقط في الحلقِ

كحصاة.

*

في الصباح التالي،

تُعلّق السجادةُ على الحائط،

وتمرّ العيونُ عليها

كما تمرّ الريح على مقبرة.

ولا أحد يسمع النبض،

ولا أحد يشمّ الدمع المجفف بين الخيوط.

*

فقط النمل يعرف الطريق،

يزحف على الخطوط الدقيقة،

يحمل أسرار النساء

إلى عمق الأرض،

ويبتلعها ببطء،

كما تفعل الذاكرة....

***

مجيدة محمدي

ظل الأبد

أنا السراب الذي لا يشيخ، ظل يتراقص بين الحضور والغياب، وعد معلق بين الفناء والانبعاث.

كلما حسبت أنني تلاشيْت، وجدتني أتسلل من بين أصابع العدم، كوميض يتجدد كلما أطبقت الظلمة على الأفق.

أنفاسي شررات، وصمتي اشتعال مؤجل، يترصد لحظة الانفجار، كبُركان هادئ في ظاهره، لكنه في عمقه يخبئ صخب الخلود.

أيها الأفول المتكئ على عنق الضوء، لن تخمدني.

كم مرة سحبت النهار إلى جوفك، متوهماً أنه صار لك، وأنني ذبت في ظلالك؟

لكنك لم تدرك أنني أستفيق في اللحظة التي تعلن فيها انتصارك، أنبثق من حواف الهزيمة، كطيف من وهج لا يذوي.

كم ظننت أنك أطفأتني، وأنا الطعنة التي لا تموت، الجنون الذي يلد نفسه.

كلما احتضنني الفناء، أفلتُّ من قبضته، كأنني فجر يتوهج من لهيبه الأخير.

مثل "بروميثيوس" الذي سرق النار من الآلهة ليمنح البشر الحياة، أنا المتمرد الذي يتحدى الموت ليولد من رماد نفسه عاصفة جديدة.

لا شيء يطفئني، لا الغياب، ولا الامتداد، ولا الليل المتربص بي، الساكن في وهمه أنه يستطيع احتوائي.

فأنا النبض الذي ينسل من ضوء يحتضر، والموت الذي يخون حتميته ليولد مجددًا.

كلما ضاق بي الأفق، تمددت في الهوامش.

كلما ظنوا أنني انتهيت، وجدتني في البدء من جديد، أتشظى في الفراغ، ثم أتوحّد، أتناثر كذرات غبار، ثم أعود إعصارًا.

أهيم كوهج في مجرات الصمت، ثم أهبط كعاصفة على قلب الزمن.

أنا الاسم الذي لا يُمحى، والأثر الذي لا يتآكل، والصوت الذي يعود، ولو تخثّر في الصدى.

أنا اللحن العالق في أذن الأبد، والنقش الذي يأبى أن يتلاشى.

يفرّ مني النسيان مذعوراً، فأنا الحقيقة التي تتوارى بين السراب واليقين، والظل الذي يراوغ الضوء والظلمة معًا.

لا حد لي، لا قيد لي، لا انتهاء لي...

فأنا اللازوال

***

بقلم فاطمة عبد الله

 

لست ذو قوة أو نفوذ، فمنذ كان والدي يمتلك حق التنقيب في منجم متهالك كما هي سنين جدي التي قضاها يبحث عن عرق الذهب الذي أوهمه من باعة ذلك المنجم الخرف.. مات جدي دون أن يحقق غايته وأستلم النبؤة والدي الذي قبع بخيمة متهالكة قرب باب المنجم ليل نهار فارق بيتنا الصغير، أختبرت والدتي صبرها لمدة عشرون عاما جيئة وذهابا وهي تحمل ما تيسر من الطعام! هذا إذا كان يطلق عليه طعام.. صباي كان بطاقة الدخول الى عالم والدي وجدي قبله قدرتي على حمل معول يحطم وينقب، صرت عامل منجم أم تراكم تقولون سيكون مصيري أو مستقبلي رجلا ثريا أو صاحب شهادة بعد أن نجد الذهب، غير أن الحمار لا ينجب سوى جحش والحصان حينما يتزاوج مع الحمار لا ينجب سوى بغل والحقيقة أقول لا أعلم الى من أنتمي الى هذا السلالة أم تلك؟!! على أي حال خمس سنوات أخرى قضيتها مع والدي أبلينا فيها رؤوس معاول وعِصِيها دون أن يبلى الصخر أو نجد ما نصبو أو رمق من أمل حتى.. قضينا في مرة راحة لمدة يوم أو يومين كان ذلك بعد رجعت ليلا الى كوخنا الذي تهالك لأجد أن والدتي قد فارقت الحياة عند بابه وهي تمسك بصرة الطعام... الموت... الموت لم يسمح لها بإيصال فتات الطعام لنا، شعرت أنها رسالة مبطنة تهمس... الموت أقرب إليكم مما تطمحون إنه حليف الفقراء والحظ صنو الأغنياء هكذا هي المعادلة التي مرة سمعت من أحدهم عن رجل مر يسأل عن جهود والدي وهل توصل الى عرق ينبض من فضة حتى وليس ذهب قال تلك العبارة.. سارعت أخبر والدي الذي لم يسارع الى مواراة والدتي ربما حزن عليها ليس كثرا بل أغلب حزنه كان على من سيعد الأكل له... ضحكت في سرِ كثيرا، لقد تلبسته لعنة الحصول على الذهب وجعلت منه رجل بلا أحاسيس أو مشاعر، عاد بعد أن طلب مني أن أكون من يَعُد ما يتوفر من خبز وماء وبعض خضروات كانت والدتي تزرعها في باحة صغيرة أمام الكوخ هي كانت مورد الطعام الذي نقتاته من تربتها... في يوم كنت قد لبست حلة الإرهاق والتعب فتوسدت الأرض فراشا وثيرا بالغضب من والدي ونفسي محللا واقعي أني ميت لا محالة مادام والدي يقيس ثراءه بحلم ومنجم مظلم مخيف... ساعات طوال نقضيها نحطم الجدران طمعا في لمعان يشع من خلال ضوء شمعه أو سراج بزيت مهووس بالسخام... دخل والدي وهذه أول مرة يدخل يحفر دون أن يطلب مني أن أشاركه يبدو إنه شعر بمعاناةِ.. ساعة من صمت سوى تحطيم جدار عصي سمعته يصرخ ينادي بإسمي الذي نسيت... لقد ظهر لقد حصلت على لمعان ضياء عرق الذهب هيا يا بني تعال أعني.. ساعدني لقد إنهار الجدار على أقدامي... سارعت أفض الركام والصخور التي كان قد تراكمت على أغلب رجليه وهو يقول أنظر هناك أليس هذا هو بريق لمعان عرق الذهب لقد بتنا أغنياء هيا سارع على رفع هذه الصخور كنت شغفا أجاريه فرحته لكن خوفِ على خسارته وفقدانه إبتلعت فرحتي... ساعة من هلع وفزع كنت أحاول ترميم أقدام والدي التي تهشمت إحداها تماما... غير أنه لم يبالي كان قد طلب مني إكمال الحفر في نفس المنطقة... لم أرفض طلبه غير أني كنت خائفا أن ينهار علي ما تبقى من جدار.. فصرت أضرب الأرض أسمِعَهُ صوت المعول ظنا منه أني أحفر... دفعني الفضول الى ما كان يحفر فيه جوانبه كان فعلا هناك بريق لمعان .. حدثتني نفسي هل تعتقد أنه عرق ذهب أم وهم جائع بسنين حلم كاذب، سارعت في الحفر دون مبالِ بما سيحدث يبدو أن لعنة الذهب قد طالتني... ساعات قضيتها أحفر بضراوة حيوان جائع... نسيت والدي، نسيت نفسي، نسيت من أكون حتى وصلت غايتي كان الضياء جميلا دفع بي الى متابعته الى أن أوصلني غايته... لقد كان ثقب يؤدي الى مكان يفضي الى طريق يوصل الى الضفة الأخرى...تسعون عاما قضاها جدي ربعها أو أكثر أكملها والدي وو رثت بقاياها عنهما... رجعت كي أخبره حقيقة الأمر فوجدته قد فارق الحياة, لم أحزن كثير لقد مات فرحا بأن حلمه قد تحقق فليعش ما كان يرنو في عالمه الآخر.. أما أنا فانتهزت الفرصة بعد أن واريته الأرض بجانب والدتي خرجت من نفق المنجم من تلك الفجوة الى عالم يكسوه الضياء دون أن يكون تابعا لأي عالم.. تركت المنجم وحلم والدي إرث للشيطان فلابد أنه سيغري الباحثين عن عرق الذهب في نفق مظلم دون بقعة ضوء.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

أَقْبَـلَتْ

فِي رَفَائِـفَ خُضْرٍ

يَدَاهَا مَنَائِـحُ بُهْرٍ

وَ بَسْمَتُهَا خَيْـلُ نَارْ،

مِنْ أَعَالِي اُلْمَوَاجِيدِ ذَاتَ مَسَاءْ

أَقْبَـلَتْ دُرَّنَارْ

بَسَطَتْ فِي اُلْفُؤَادِ طَنَافِسَ أُبَّهَةٍ

وَ سَرِيرَ رُوَاءْ

قَالَتِ: اُلْآنَ سَمْعُكَ لِي

وَمَشَتْ فِي دَمِي نَغَمًا كَاُلْجَدَاوِلِ

حَتَّى اُخْضِرَارِ اُلْحَنَادِسِ،

كُنْتُ أُحَدِّقُ فِيهَا

وَأَدْنُو...اُلْبَصِيرَةُ كَفُّ نَدًى

أَنْحَنِي أَلْفَ ضَوْءٍ لِأُصْغِي إِلَيْهَا

اُلسُّكُونُ أَصَابِعُ تَفْتَحُ لِي عَرَصَاتِ اُلْمَدَارْ.

**

كَتَبَتْ يُتْمَهَا دُرَّنَارْ

وَ اُسْتَقَلَّتْ حِجَابَ اُلنَّهَارْ

أَيُّ بَرْقٍ يَقُودُ إِلَيْهَا

اُلسَّمَاوَاتُ أُحْبُولَـةٌ

وَ اُلْمَسَالِكُ أُخْبُولَةٌ؟

فِي اُلدَّوَاخِلِ دَقَّتْ دَسِيرَ اُشْتِهَاءٍ

تَحَسَّسْتُهُ حِينَ طَارَتْ،

سَأَرْفًعُ نَبْضِي إِلَيْهَا صَلاَةَ ضِيَاءْ.

2

وَرْطَـتِي دُرَّنَارْ

لِتَفَاصِيلِهَا مَاءُ حَدْسٍ

يَقُولُ تَخَارِيمَ عُمْرِي

أَقُولُ اُلزَّمَـانُ يَدٌ

يَتَقَفَّعُ مَشْـرِقُهَا

وَ اُلْفَرَاغُ خُـطًا

يَتَغَيْهَبُ سُنْـبُلُهَا،

لاَ شَبِيهِي يُلَمْلِمُ ظِلِّي

يَقُولُ رَذَاذَ غِـيَابِي

إِذَا وَجْهُهَا تَلَّنِي

فَوْقَ جُودِيِّ قَافٍ وبـاءْ.

3

كَمْ سَأَعْزِفُ مُزْنَ اُخْتِلاَفِي لَهَا

حِنْطَةُ اُلْحُلْمِ صَحْوِي

وَ بُسْتَانُ تَسْمِيَّتِي

كَاُلرَّغِيفِ اُلْإِلَهِيِّ،

جِذْرُ اُلْأَقَاصِي سُهَادِيَ

تَـتْبَـعُنِي

فَخْفَخَاتُ اُلْقَنَادِسِ

عُبِّيَةٌ مِنْ صُنُوجِ اُلْجَدَاجِدِ،

مِزْوَلَةُ اُلْهَتْكِ حِسِّي

اُلَّذِي لاَ تُرِيدُهُ يَنْبُتُ فِيَّ

بِأَيِّ اُلْمَنَاجِلِ أَحْصُدُهْ

كَيْ تَرَانِي ؟

لَهَا ضِفَّةُ اُلنِّكْرُوفِلْيَا

وَ لِي ضِفَّتَانْ

اُللَّيَــالِي

وَ غُرْبَةُ ذَاتِيَ عَنِّي

فَكَيْفَ أُرَاوِدُهَا عَنْ غَوَايَتِهَا ؟

لاَزَوَرْدُ تَرَائِبِهَا مُهْرَةٌ

تَتَطَوَّحُ بِي بَيْنَ أَحْرَاجِ هَذَا اُلْعَمَاءْ.

4

يَا اُنْثِيَالَ تَلاَوِينِهَا فِي اُلْعَنَاصِرِ؛

بَـابُ اُلظَّمَأْ

لِشُهُودِ فُيُوضَاتِهَا

جَـسَدِي

وَ اُلطُّـقُوسُ اُلْأَرَقْ

أَتَنَشَّـقُ أَنْفَاسَـهَا

مِثْلَ رُوحٍ مُبَلَّلَةٍ بِاُلْأَلَقْ

وَ أُسَمِّي اُلْكَوَائِنَ مِنْ نُقْطَةٍ

فَوْقَ كَـاهِلِهَا،

هِـيَ لاَ مُنْتَهًى

شَجَرُ اُلطَّبْعِ يَشْرَبُ مِنْهُ نَبِيذَ تَسَلْطُنِهِ

وَ بُذُورُ اُلتَّآوِيلِ قِنْدِيلَ لَذَّتِهَا

فِي مَتَاهِ اُسْمِهَا أَتَدَكْدَكُ

تَـسْـلَخُنِي

بِدِمَقْسِ اُللُّغَاتِ

وَ أَسْرَارِ سُرَّتِهَا

شَهْوَةً أَتَحَلَّلُ فِي مَائِهَا

مِثْلَمَا اُلْوَمْضُ تَشْفُطُنِي

كَرْكَرَاتُ أَنِينِي

وَهِيجُ اُنْتِسَابٍ إِلَيْهَا

وَ عُنْقُودُ سُكْرِي غَدَائِرُهَا،

لاَ فَضَاءَ سِوَاهَا يُمَسِّدُنِي

إنْ تَهَاوَتْ عَلَيَّ اُلْفَضَاءَاتُ

وَاُشْتَعَلَتْ فِي اُلْهَشَاشَةِ رِيحُ اُلدِّمَاءْ.

***

أحمد بلحاج آية وارهام

https://mail.google.com/mail/u/0/#inbox/FMfcgzQbfBtlFvHfqcBpLbNbLBxClrJJ?projector=1

أو الملمَّع المالطيّ

في ڤاليتّا،

مئةُ حكايةٍ وحكاية هجينة،

تقرؤها بإمالاتٍ وإضافاتٍ واتّجاهات مغاربيّة،

على لوحاتِ الأبواب، والسّور، والأزقّة، والطُّرق:

Sqaq il-Barrakka t'Isfel،

Triq il-Kavallier ta’ San Ġwann،

Is-Sur ta’ Santa Barbara

في حمرون، في المدينة،

في المرسى، في السواطر،

في Il-Blata l-Bajda،

في Għar id-Dud،

و غار الظلام،

وفي Daħlet Ġnien is-Sultan،

دخلة جنان السلطان.

*

كلُّ صعودٍ من Bieb il-Belt

عبر Triq ir-Repubblika،

إلى Marsamxett (مرسى المشتى)،

أو Marsaxlokk (مرسى شلوق)،

إلى Msida (المسيدة) وGżira (الجيرة)،

تُغازلك سليمة،

وتناديك السواقي وغرغور.

*

وجوهُ المالطيين، وأحاديثهم الملمّعة،

تحوم بخفّة حول Misraħ San Ġorġ

على أنغامِ عودٍ وقيثارة وصيحاتٍ عابرة:

Imxi, stenna!

كأنك لم تغادر الحومة قط.

قبل أن تُصادفها مكتوبةً:

Il-Barani lil barra

"البرّاني للبرّة"،

كأنّهم نسوا،

أنّ il-Malti،

وُلِدت من أفواه il-barani،

الذين تركوا وراءهم

أصواتًا لا تزال تنشد في ڤاليتّا

ملمّعا مالطيّا هجين.

***.

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

أجلس مع قهوتي على السّطح، أدخّن سيجارة وأسخر من تقديسك للتقاليد..

تحترق السيجارة بين شفتاي وأحترق أنا على أعتابك..كلانا سننطفئ في النهاية دون أن يلحظنا أحد..

أنا وسيجارتي يائستان، هي تعلم أنّها ستتلاشى لا محالة وأنا أعلم أنّك لن تعود..

أراقب المارّة بعين ساخطة وألومهم على ما فعلت..

أكره الجميع إلا أنت، أنت الّذي عليّ أن أمقت لكنّك أكثر من أحبّ..

أسحب نفسا عميقا من السّيجارة وأنا أتذكّر تعاليمك وخوفك أن تفسد القهوة قلبي لكنّك أنت من أفسدته في النّهاية، أو ربّما أنا من فعلت ذلك.

تكره القهوة وتخبرني إنّ السهر سيرهق عيناي

لكنّ اللّيل هو من يعانق قلبي الآن بينما تواسيني القهوة في غيابك..

أنا لا أصلح لك حبيبة يا عزيزي

لكنّني أحبّك رغم ذلك..

لا شأن لك برئتاي ولا بقلبي.

نسيت كم مضى من الوقت وأنا أراقب شجرة ضخمة على الجانب الآخر من الطّريق، كم أحبّ الأشجار لكنّك لا تعلم هذا..أنت لا تؤمن بقدرتي على الحبّ حتّى..

خلال محاولاتي لقتل آخر نجم يهمس بالأمل في سماء ليلتي الوحيدة، مرّت فتاة لا أظنّ أنّها كانت ستلفت انتباهي في المعتاد

لكنّها بدت من تلك العاديّات الّتي تفضّل..

ترتدي فستانا مزيّنا بالورود وحقيبة عصريّة، تبتسم بحياء وهي تبالغ في تسوية حجابها..

كانت ترتدي ساعة أنيقة في معصمها

أنا لا أحبّ ارتداء السّاعات فهي تذكّرني بالوقت

و لكن دعك منّي ولنعد الى فتاتك..

هي جميلة وكلّ تفاصيلها توحي بالنّظام والاستقامة.. تضع أحمر شفاه وردي وتبدو تفاصيلها متناسقة..

فكّرت لو أنّني كذلك ربّما كنت سأتقبّل حبّك،

لو كنت واثقة، مطمئنّة، لو كان لي عقل هادئ ،

لو أنّني أعرف كيف أحبّ وأعرف ما أريد..

لكنّني لست كما تعتقد

شخص مثلك لا يمكن أن يحتمل جنوني.

أنا فوضوية جدّا، أرتدي السّواد في معظم الأيّام وأزيّن عيناي بكحل أسود ثم أسطّرهما بالسّواد من جديد.. أضع أحمر شفاه صارخ في أغلب الأوقات وأجعل من ذلك الحلق الّذي تكره زينة لأنفي..

أنا هكذا يا عزيزي أقع في حبّ الأشياء المبعثرة وأحرق معابد الأسوياء. إلى أن أحببتك.

كلانا من عالم مختلف وكلانا عاد إلى عالمه الآن، أو ربّما منذ سنة

أنت نسيت فكرة وجودي ومضيت في سعادتك مع شخص رأى فكرة حبّك مغرية بدل أن يرتعد منها، شخص يجد في اهتمامك نشوة لذيذة ولا يختنق بين ذراعيك..

و أنا هنا أشتاق لشخصك الّذي أحبّني وأرفض كلّ فرصة متاحة..

لا أريد أحدا، ولا حتّى أنت.

أنا فتاة لن تسعد بحبّك رغم إنّه كلّ ما تريد..فتاة باتت تعلم أنّ لها قلبا خلقته أنت من رحم الذّنب ثمّ مضيت..

قلب بات الآن كلّ ما أملك.1438 marim

بقلم مريم عبد الجواد

في أحد الأحياء الهادئة في المدينة، كانت "رُبى" تسير بخطوات واثقة نحو الجامعة. امرأة في منتصف الثلاثينات، تتلفّح بكبرياء ناعم لا تصنعه الكلمات، بل تبنيه التجارب. خلف نظارتها الصغيرة عينان تلمعان بعزيمة من طراز نادر. لم تكن الحياة سهلة معها، لكنها لم تكن يومًا من أولئك الذين يطلبون الحياة سهلة.

"رُبى" كانت قد توقفت عن الدراسة بعد الماجستير بعام واحد فقط من نيلها الشهادة. في وقت كانت الفرص تفتح ذراعيها لها، جاءت العاصفة. والدها أصيب بعارض صحي خطير، والعبء المالي والعائلي وقع على عاتقها. أخواتها الثلاث كنّ لا يزلن في المدرسة، وأمها ضعيفة البنية، لا تملك سوى دعائها الدافئ وصبرها الطويل.

لم تكن الظروف سهلة، لكنها لم تسمح لنفسها بالاستسلام. عملت في أكثر من وظيفة، كانت تدرّس في النهار وتكتب مقالات علمية لطلبة الدراسات العليا ليلًا، تجمع دينار فوق دينار لتُعيل أهلها وتحافظ على بقايا حلمها. مرت السنوات. ومع كل سنة، كانت تسجل في مفكرتها: "لم أنسَ الدكتوراه، وسأعود." لم يكن ذلك مجرد وعد تكتبه بقلم، بل عهد بين قلبها وسماء كرامتها.

ذات مساء، وفي لحظة صفاء داخلي، نظرت إلى المرآة وقالت: "حان الوقت." في اليوم التالي، بدأت رحلتها في التقديم للمنحة التي لطالما حلمت بها. لم تكن سهلة، فالمنافسة شرسة، وهي امرأة تجاوزت الثلاثين، من دولة تتقلّب فيها الظروف، وبملفٍ دراسي توقف منذ سبع سنوات.

لكنها لم ترَ في ذلك عائقًا، بل حافزًا. كتبت خطاب الدافع بلغة صادقة، تحدثت فيه عن الشغف والعقبات والصلابة. قدمت ملفها، وانتظرت.

وفي تلك الفترة، كانت تنهض قبل الفجر، تقرأ أبحاثًا حديثة، تحضر ندوات افتراضية، وتتواصل مع أساتذة في الخارج. كانت تستعد ليس فقط لقبولها، بل لتميزها إن قُبلت.

وجاء اليوم المنتظر. بريد إلكتروني يحمل العنوان: "تهانينا!" فتحت الرسالة، ويدها ترتجف. لقد قُبلت في جامعة أوروبية مرموقة بمنحة كاملة.

في تلك اللحظة، لم تبكِ. فقط أغلقت الحاسوب، وخرجت إلى الشرفة. وقفت تحت السماء، رفعت رأسها عاليًا، كما اعتادت أن تفعل في كل سقوط. تمتمت: "عرفتُ أن السماء لا تخذل من لا ينحني." سافرت، وبدأت مرحلة الدكتوراه. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، لكنها اعتادت المضي في الطرق الصعبة. كانت تواجه تحديات اللغة، والاختلاف الثقافي، والحنين، لكن شيئًا في داخلها ظلّ صلبًا لا يتزحزح: "لن أعود دون الدكتوراه."

مرت سنوات. وفي قاعة كبيرة، ارتدت ثوب التخرّج، ووقفت لتلقي كلمتها أمام الحضور. كانت كلماتها بسيطة، لكنها قوية: "أنا لستُ هنا فقط بفضل علمي، بل بفضل كبريائي، الذي لم يسمح لي يومًا أن أنسى من أكون، وأين أريد أن أصل."

وحين نزلت من المنصة، صافحت أساتذتها، ثم نظرت في عيون والدتها التي حضرت الحفل، وقالت لها: "لقد وعدتُكِ، وها أنا أوفي."

***

قصة قصيرة

رنا خالد

في يَومٍ كانَ حَرُّهُ ناراً ولَهيبْ.

جاءَني حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ) المَهيبْ.

مُنْزَعِجٌ مَألومٌ أَمْرُهُ مُريبْ.

فاستَقبلتُهُ باحْتِرامٍ وبوَجْهٍ طَليْقٍ رَطيبْ.

وَ قُلتُ لهُ:-

أُحَييكَ يَا (أَبَا الحَيرانِ) يَا حِمارَنا الحَبيبْ.

يَا حَبيْبَ القَلّْبِ يَا خَفيْفَ الظِلِّ كالعَنْدَليبْ.

قَالَ لي (أَبو الحَيْرانِ) بصَوّتٍ حَزينٍ كَئْيبْ.

لا حَيَّاكُمْ اللهُ ولا بَياكُمْ.... قَوْمٌ ليْسَ فِيْكُمْ لَبْيبْ؟.

تَركُضُونَ وَراءَ الأَوهَامِ رِكْضاً عَجيبْ.

فَلا تَنالُونَ غَيْرَ العَنَاءِ والأَلَمِ العَصيبْ.

مِنْ خَجَلي عَرَقَ جَبيْني؛ وصِرتُ بوَضعٍ كَئيبْ.

قُلتُ لنَفسي:

هَذا حِمَارٌ وسَاءَهُ ما بنَا مِنْ أَمرٍ غَريبْ؟!.

فَكيفَ يَصبرُ النَّاسُ على الظُلمِ والحَميرُ مِنهُ تَستَريبْ؟!.

قُلتُ يا حَبيْبي يَا (أَبا الحَيرانِ):

هَوْناً... هَوْناً... فأَنْتَ الحَليمُ اللبْيبْ.

مَا أَغاضَكَ مِنّا أَيُّها الرَّفيقُ النَّجيبْ.

فَأَنْتَ يَا حِمَاريَ مَعَنا إِنّْ طابَتْ بِنَا الدُنْيَا أَنْتَ تَطيبْ.

وَإِنْ تَعَسَّرَتْ بِنَا الدُنْيَا فَأَنْتَ مَعَنَا شَاهِدٌ ورَقيبْ.

لَقَدّْ عَثَرَ الزَّمَانُ بِنَا فَصَارَ حَالُنَا مُعيبْ.

******

التَفَتَ إِليَّ  (أَبو الحَيْرانِ) بغَضَبٍ شَديدْ.

وَ قَالَ لي:-

بِصَوّتِ مَكْسُورٍ حَزينٍ؛ كَصَوّتِ (فَريدْ)* *.

يا (ابنَ سُنْبَه):-

لِمَ تُبَذِرونَ أَمْوالَ العراقِ بِلا عَقّْلٍ سَديدْ؟.

قُلتُ يَا نُورَ عَيني يَا (أَبَا الحَيْرانِ):-

لا عِلْمَ لي بمَا تَقْصِدُ ومَا تُريدْ؟.

قَالَ صَديْقي (أَبو الحَيرانِ) بنَبرَةِ الغَضِبِ العَنيدْ:-

صَهٍ يَا (ابنَ سُنْبَه)؛ أَمَا بِكُمْ عَاقِلٌ رَشيدْ؟.

هَلْ هَذا هُو عِراقُنَا الجَديدْ؟.

عِراقُ المُستَقْبَلِ والأَمَلِ... عِراقُنَا السَعيدْ!.

أَهْلُ الحَلِّ والعَقّدِ يَسرقونَ أَمْوالَ الشَّعبِ بِكُلِّ تَأْكيدْ.

قُلتُ لحِماريَ الحَبيْبِ (أَبَا الحَيرانِ):-

و الخَجَلُ تَغَشَاني وصَارَ جِسْمي كالجَليدْ!.

يَا حَبيْبي يَا (أَبَا الحَيرانِ):-

ماذا نَفْعَلُ وهُمّْ يَحسَبونَ الشَعّْبَ سَخيْفٌ وبَليدْ!.

المرتَشونَ والسُرّاقُ يَنهَبونَ أَمْوالَنا؛ ويَقولونَ هَلّْ مِنْ مَزيدْ؟.

استِثْمَاراتُهُمْ خَواءٌ بِخَواءٍ كَريْحٍ صَرصَرٍ حَصْيدْ!.

قَالَ عَزيزي (أَبو الحَيرانِ) ؛

بلَهْجَةِ الزَجّرِ والتَبْكيْتِ والتَنْديدْ:-

وَالآنْ تُحَضِّرونَ لقِمَّةِ قُمَمِ العُربِانِ بجُهْدٍ جَهيدْ؟.

مَاذَا سَيُقَدِّمُ لَنا هَؤلاءِ العَبيدْ؟.

سِوَى اجْتِماعَاتِهِم عَلى مَوائِدِ الثَّريدْ؟.

لقَدّْ تَلَطَخَتّْ أَيديهُمُ بِدِمَا الأَخيارِ وكُلِّ شَهيدْ.

عُروشُهُم قَامَتْ عَلى العَمَالَةِ والظُلْمِ العَنيدْ.

لِمَ لا تَحفَظُونَ أَمْوالَ العِراقِ مِنَ التَبْذيرِ والتَبْديدْ؟.

فَقَدّْ سَبَقَتْ هَذِهِ القُمَّةُ قُمَمٌ؛ فَمَا الجَديدْ؟.

كُلُ قُمَّةٍ تَنتَهي بزَيفِ الوعُودِ كَسَرابٍ بَعِيدْ!.

قُمَمٌ لا يُرتَجى الخَيرُ منها؛ فَلمْ تَأْتِ بقَرارٍ مُفيدْ!.

اكتَوى العِراقُ وغَزَّةَ ولُبْنَانَ، بنَارِ ظُلْمِهِمْ الشَّديدْ!.

فَهذهِ قُمَمٌ تَأْنَفُ مِنْها حَتّى القُمَامَةَ والأَوْسَاخَ بالتّأكيدْ!!.

***

محمد جواد سُنْبَه

كاتب واعلامي عراقي

...................

* القُمَّة من القُمَامَة وهي الكُناسة تُجمع من البيوت والطُّرق والجمع: قُمامٌ.

** المُطرب فريد الأَطرش.

"ابنةُ الدواميس"

أنا ابنةُ مدينةٍ لا تُذكرُ في خرائط الضوء،

مدينةٌ منجمية،

نقطةٌ بُنّية في كفِّ الوطن،

حيثُ الترابُ لا يُغسل، بل يسكنُ الشرايين.

هنا، يولدُ الصباحُ من بينِ شقوق الخوذة،

وتتثاءبُ الشمسُ على فُوهاتِ المناجم .

*

أنا ابنةُ الغبارِ حين يصبح وطناً،

وحفيدةُ الرئاتِ التي علّمتني

أن أتنفس ببطءٍ، كي لا أبتلع القهر دفعةً واحدة.

*

كان جدي …

يعود من الدواميسِ بنصفِ ظلّ،

مُحمّلاً بصوتِ الحجر،

برائحةِ الفوسفات،

بعينينِ لم تعتادا الضوء منذ عقود.

وكنتُ أسترقُ النظرَ إلى وجهه

فأراهُ متآكلاً… كأنّ الأرضَ تقتاتُ على ملامحه،

فهمتُ أن العُمّال ليسوا أشخاصاً،

بل نُسخاً صخريةً من الخسارة،

يعبرون الوقت… ولا يعبرهم أحد.

*

أنا ابنةُ السكونِ الذي يسكنُ المقابرَ السفلية،

أعرفُ لغةَ الآلاتِ الغليظة،

أفهمُ صراخَ الحبال حين تتدلّى بأجسادِ الأحلام،

تعلمتُ أن أكتبَ بالتراب،

أن أقرأَ التجاعيد كأنها نصوصٌ مقدسة،

أن أفرشَ الليلَ بأحذيةِ العمال…

وأنتظرَ الحكاياتِ التي لا تُقال.

*

كلما مشيتُ في طرقات المدينة،

تعثرتُ بظلّي الثقيل،

مزروعٌ هنا، في هذا المكان

حيث كل شيءٍ يهبط…

الوجوه، الأمنيات، والمجاذيب.

*

أنا التي وُلدتُ من رحمٍ طيني،

لا تشتهي الذهب،

بل تعرفُ أن بريقهُ يُزهق الأرواح.

من قال إن الزهد لا يُورث؟

أنا أحملهُ في مفاصلي،

في نظرتي الثابتة،

في انحرافي الفجائي عن كل شيءٍ لامع.

*

إن جئتَ تبحثُ عني،

فتش عني تحت العربات،

بين الأحلام المحروقة

والأسماء التي لم تُكتب على جدرانِ التاريخ.

*

أنا تلك التي تسيرُ في صمت،

لكنها تتركُ أثراً من معدنٍ

في قلبِ كل عابر،

أنا التي تعرفُ

أن الجمالَ لا يأتي من البقاء…

بل من النقاء .

*

أنا ابنةُ المدينةِ المنجمية،

أحملُ على ظهري طبقاتٍ من الأرض،

وأمشي…

كأنني صدًى قديم لحفرةٍ

لم يغلقها أحد.

***

مجيدة محمدي - تونس

كانت تطالع وجهها في المرآة، تتأمل خطوط الزمن وقد ارتسمت بوضوح على ملامحها. كل تجعيده، كل ظل تحت عينيها، يشهد على ما مرّ بها من ألم وذكريات ثقيلة. مدت يدها إلى صدرها، تتحسس الجهة اليسرى، حيث بقيت الندبة شاهدةً على قرار مصيري.

همست لنفسها:

"هل يُعقل أن كل هذا قد مرّ؟ وأنني ما زلت هنا، على قيد الحياة، كنت أظن أنني سأصمد أكثر من عام أو عامين؟، وأن من يضع الزهور على قبره.. هو أنا؟ أغلبنا يموت، لكن الموت لا يُعدّ انتصارًا، آه يا زوجي العزيز... لا تجوز على الأموات سوى الرحمة".

كان يحتضنني باكيًا يوم عِلم بمرضي، يقول: "لو حدث لكِ مكروه، لن أعيش من بعدك. أنتِ زوجتي التي أحب."

كان قرار استئصال أحد ثديي مؤلمًا، لكن الموت كان أقسى. اخترت الحياة، وسندت نفسي على وعوده وكلماته الحنونة.

يومها، كان صوته يداوي جراحي، وحبه يخفف من شعوري بالنقص.

حين سقطت آخر شعرة من رأسي، بعد أن تساقطت الواحدة تلو الأخرى، استعنت بشعر مستعار أخفي تحته رأسي الحليق. وأخبئ به اّلمي من نظرات الشفقة والعطف، التي كانت تلاحقني في كل مكان.

مرّت الشهور قاسية، لكنني قاومتها، وخرجت من التجربة بخسائر كبيرة، وشعور دائم بأني لم أعد كاملة... بل أصبحت نصف امرأة.

لكن الحقيقة لم تتوقف عند الجسد، تغيّر هو أيضًا... صار بعيدًا، غريبًا، لا يقترب، لا يهمس، ولا يضم.

لم يعد ذاك العاشق الذي يغفو على صدري كطفل صغير، بل صار جسدًا ساكنًا في فراش بارد. بدأ يتهرب من لمساتي، يلجأ إلى النوم مبكرًا بحجج واهية، ويتحاشى النظر في عيني، لكن فجأة، حدث ما لم يكن بالحسبان !؟

حين سمعته ذات ليلة يهمس في الهاتف، لامرأة غريبة، قائلاً لها: "لن أنسى فتحة الصدر" التي كشفت عن المرمر الخزفي المخبأ تحته، بلدانته ورقته، وجسدك الباذخ الذي انتشلني من شعوري بالقرف، ذاك القرف الذي لم أعد احتمله معها.

ثم خطّطا للقاءٍ حميميٍّ آخر معًا... لم أصرخ، لم أعترض. اكتفيت بالصمت، أصبحت كـ ورقة خريف بكفّ ريحٍ هوجاء. لن أمني النفس بالقول إنه يحبني، فكل شيء بات واضحًا أمامي. تجرعت كأس الخيانة، وأخفيت هزيمتي أمامه، أدمن الخمر والنساء، و استساغ طعم الخيانة وتلذذ بها.

لكن تلك النشوة لم تدم طويلا، بل سرعان ما تلاشت، مخلفة حطام رجل مهزوم. فجأة، أصابته حمى شديدة، وإعياء لم يجد له تفسيرًا... تهاوى جسده، كما تهاوت وعوده.

كان طريح الفراش لشهور عده، ضعيفًا، ينظر إليّ بعينين خائفتين، بعد أن ساءت حالته كثيرا، وتدهورت صحته بشكل ملحوظ، عكسها لون بشرته التي أصبحت أشبه بالموت .

فتح فمه الناشف، كفم وطواط يحتضر، أخذ نفسًا عميقًا على مهل، ثم قال: " لا تتخلي عني..."، وقفت عنده لكني، لم أقترب كثيرا، مددت يدي وعدّلت الغطاء فوق جسده،

 ثم همست بهدوء: " أشفق عليك... لا لأنك زوجي، بل لأنني بشر."

وخرجت من الغرفة بخطى ثابتة، كمن دفن خيبته الأخيرة.

***

 نضال البدري – قاصة عراقية

 

أعَزَّ الله (غزةَ) إذْ حَبَـــاها

رِجَالا مِنْ بَنيها ومِنْ دِمَـاها

*

أشاوِسَ أَمهروها مُستحيلاً

وأنذروا عُمْرَهُمْ حتى لِقَاها

*

يبيعُ النَّـــفْسَ مَنْ يَبتاعُ رَبًّا

ويقضي نَحْبَهُ شَرَفًا وجَاها

*

ويَطْفو فوق جَبْهَتِهِ رِيَـــاءً

ويَذهَبُ في جفاءٍ مُنتهاها

*

مَنْ اصْطَنَعوا لغزةَ ألف وَجْهٍ

ليَبْكُوها احتِفــاءً في عَزَاها

*

وقد عَقَروها منذ البدءِ حتى

تُـــلاقَي مَصيرها أبدًا لَظَاهَا

*

أَدِيـــن الله يأمُــرنا بِصَـــمْتٍ

ونَصْلُب في الشِفَاهِ أَسَاً..وآهَا

*

ونَعنـــو للبُغَاثِ ونحـــنُ نَسْرٌ

نُحَلِّقُ عــــاليًا...نحمي حِمَاها

*

ونُزجي بعضنا...وطــــنًا وعِــزًّا

ونُزجي للعِـــدا...كَفَــــنًا يَرَاها

*

ونَلْعَنَهُمْ بـ(فَرْط الصوتِ) لَعْــنًا

كبيــراً.. في البحـــارِ وماوراها

*

ونَقْلَعهُمْ جُــــذُورًا حيث كانوا

فلا يَدرونَ أرضًـا من سَمـــاها

*

إلى الأقصى سَتَسْبِقُنا حيــــاةٌ

ودُنيــــانا اخضرارًا في رُباها

*

يُعِـــــزُّ الله من يَرجوها صِدْقًا

فَيَصْـــــدُقهُ ويَمْنَحَـــــهُ لِواها

*

ومَنْ غَــامَتْ نواياهُمْ وغَـالَتْ

يَتِيـــــهُونَ  ضَـلالاً.. واشْتِباها

*

وشِرْذِمةٌ قليــــلٌ سوف تهوي

ويهوي كيانها سَحـقًا... وشَاها

*

وشَاهَتْ عُصْبَة (القِصَعِ) الرِّئاسي

وربَّهُمُـــو الذي يَقتَادُ فَــــاهَا

*

يَجُرُّ أنوفهــمْ بِزِمـــامِ جهلٍ

ويَجهلُ فوقهُمْ... ماشاء لَاهَى

*

أعَزَّ الله (غزةَ).. واصطفاكمْ

لِنُصْرتهـــا رِجَـــــالاً لا تُضاهى

*

فويــلٌ للعُلُوجِ ونحنُ أهـــلٌ

لها والنصْــــــرُ آتٍ قد تَبَاهَى!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

قطرةُ ملحٍ تسقُطُ منهم،

تجعلُ ماءَ الأرضِ فُراتا،

خرجوا قبلَ شروقِ الشمسِ،

افْترشوا أرصفةَ الطرقاتِ،

وقالوا: (اللهُ) الرزّاقُ،

فجاءَتْ حافلةٌ،

كلُّهُمُ قاموا،

قال السائقُ: لا أحتاجُ سوى خمسةِ أشخاصٍ،

صَعِدُوا في الحوضِ الخلفيِّ،

وعادَ الباقونَ بخيبَتِهم،

والحافلةُ ابتعدَتْ،

سيمرُّ الوقتُ ثقيلاً،

منهم من سيعودُ بكيسِ حليبٍ للأطفالِ،

ومنهم من سيعودُ بكيسٍ مملوءٍ بالحَسَراتِ،

ويغلي في القِدْرِ نباتا،

*

قطرةُ مِلْحٍ تسقطُ منهم،

تجعلُ ماءَ الأرضِ فراتا،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

سائرٌ والطموحُ عَزْمُ رِكابي

وأماني العَلياءِ تطرقُ بابي

*

وبَرِيقُ العيونِ يَحكي صُمودا

ونقاءُ الضمير حرفُ كتابي

*

عِزّةُ النفس والإباءُ سبيلٌ

صوْبَ نيلِ العُلا ونَهْج الصوابِ

*

صُنْتُ نفسي والصبرُ يَرفدُ دَربي

ولُبابُ الآدابِ ضوءُ رِحابي

*

والخُطى زانَها رَبيعُ التأني

ورفيفُ الآمالِ حَوْلَ قِبابي

*

والتمَنّي ان لم يكن في طموحٍ

صَرْحُ لَهْوٍ، في جيئةٍ وذهابِ

*

(مَن يهن يسهلُ الهوانُ عليه)

والصمودُ الأبِيُّ كشْفُ الضّبابِ

*

في اختيار الجُلْبابِ ذَوْقُ عُمومٍ

ونقاء الإبداعِ تبْرُ الخِطابِ

*

يرتدي الوصفُ في المضامين ثوبا

إن صَفا عُدَّ مِن حِسان الثيابِ

*

كلُّ عَزْمٍ يرى بلمسٍ وحسٍ

ما أعدَّ الفؤادُ خلْف النِقابِ

*

رُبّ هَمْسٍ طي الجفونِ خَجولٍ

يقرأ الرمْشُ حالَه في اضطِرابِ

*

عن بِعادٍ وعن غيابٍ وصدٍّ

وحديثٍ بدمعةٍ واكتئابِ

*

يَغْمرُ المَوْجُ مَن غزاه غرورٌ

أو أصابَتْه غَفْلةُ الأسْبابِ

*

قارِبُ العينِ في سَواقي المَآقي

رَمْزُ طِيبٍ في غُربَةٍ واقْتِرابِ

***

(على وزن الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

لا أملَ في العثور على مخرجٍ من النفق

لا أملَ في ومضة راكدةٍ من نهارٍ سابق

أطرقُ جثثَ الصمتِ المتحجّر

فأسمعُ الزمن الجريحَ يقول:

لا أحدَ هناك،

أنتَ وخوفكَ وحدُكُما

محبوسان داخلَ بعضِكما

**

أسمعُ جَلَبةً لأناسٍ خارجَ النفق

أنهم يستنفِرونَ عضلاتِهم بالصُراخ لفتحِ ثغرةٍ

وإدخال شُحنةٍ متفجّرةٍ من الحرية

كأنّ حُريّتَهم فاضت عن حاجتهم

وجاءوا يقتسمونها معي

أنهم يُدينون صمتَ الأحجار المريب

ويدعون لتفجير أنفاق العالم

وتحرير قاطرات السكك الحديد

أنهم يُطالبون بنُظمٍ سياسية تقودُها الجرّافاتُ

وثاقباتُ الصخورِ

وأصابعُ الديناميتِ

يركضون، ويقفزون ممزّقين الفراغ

أميّزُ في هتافاتهم النارَ التي طَبَخوا عليها حناجرهم

هتافاتُهم تبلغُني مُجعّدةً

إلا أنها غاضبةٌ ومحتقنة ومجنونة

هتافاتٌ تُفجّرُ ترساناتِ الأمل

لكنها ما إن تُلامسُ الحجارةَ الباردة

حتى تتجمّدَ

وتفقدَ القدرةَ على النطق

تلك هي ضالة الثورات الصوتية

أنها تُشعركَ بالشِبَع

لكنها لا تضعُ بين يديكَ رغيفاً

***

شعر: ليث الصندوق

 

أجمع السُهاد

العالق فوق أجفاني.

على ضفةِ حلمٍ

كنتُ أنتظرك

أمَنِي خيالي الخصب

بأقصى أمانِي الفرح

وعد بلقاء

ابتسامة

تبدد ما تركم من وجعِ السنين

تنفض غبار الايام

من أقاصي الالم..

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

(الأم)

رواية قصيرة

***

اليوم يقطع الجراح رجل أمي اليسرى..... وستغادر البيت الى منزل آخر من طابق أرضيّ.

ربما أثرت فيها النكبة التي حدثت قبل عام أكثر منا نحن أفراد عائلتها فوصلت إلى هذه الحال..

أعرفها قوية لذلك ستواجه الوضع الجديد بشجاعة

لكني قبل الدخول في تفصيلات مثيرة عليّ قبل كل شيءأن أستميح القارئ عذرا حين يجدني أتحذ موقفا فيه الكثير من الانحياز لأمّي مهما كانت أخطاؤها لأنّني وعيت الحياة معها وحدها.

كان أبي طالبا يدرس هندسة البترول في جامعة نوتنغهام، وكانت أمّي عاملة في سوبر ماركت (ساينس بري) الكبير ذائع الصيت، وكان أبي يتردد على المحل نفسه القريب من سكنه..

لا أبرئ أمي

ولا أبرئ نفسي

وإن كان لي موقف من أبي

لقد جاء السيد (زاهر الجلود) الذي لا أحمل اسمه في هويتي البريطانية بل اخترت الاسم العائلي الذي ورثته عن أمّي. لا يهمّ أن أحمل هويتين. وأعدّ نفسي بريطانية، أبي سمّاني (ليلى) ارتاحت أمي للاسم. قال لها إن معناه ليل (نايت) .. اعتادت أن تدلّلني بكلمة (لولة) وارتحت بعد أن وعيت للاسم ولم أرغب في أن أغيّره باسم انكليزي، مع ذلك أعدّ أبي أحد الأسباب الكثيرة التي أدّت إلى قطع رجل أمي التي من يرها يظنّ أنّها تعيش في سعادة غامرة:

تسافر

تعمل..

تتعاطى الكحول.

تمارس الجنس

 وتقدر أن تخفي همّها من دون أن يلحظ ذلك أحد على قسمات وجهها…

كان أبي يحدّثها عن الجنّة الموعودة، ولم تكن المناسبة لتحين

ليبيا البترول والخير

ليبيا جوهرة المملكة الرومانية القديمة

لا يتحدّث عن السياسة في بلده...

ولا عن القذافي وأقواله، ولا حادث قتل الشرطية أمام سفارة ليبيا أو حادثة لوكربي، ت. بل عن إمكانية أن يجد لها شغلا هناك... ممرّضة إذا كانت ترغب...

وفي أحد اللقاءات أهدى لها خاتما ضخما جلبه من ليبيا.

حكى لها عن الامتيازات التي وفّرتها الدولة له راتب فخم ومسكن، في ذلك الوقت كانت أمّي مطلقة ولها ولدان، أختلفت مع زوجها الأوّل وفضلت لشقيقيّ السكن مع أبيهما في إيرلندا.. هناك أحاديث ملوّنة عن الجنس والعلاقة مع الرجال كان لا بدّ أن تحدّثني عنها وأنا أخوض أوّل تجربة لي وإلا لكنت الآن في ليبيا وسط دوّامة من العنف والقلق.

الواقع الذي عليّ أن أقرّه أنّ لوثة من منطق الفكر اليساري كانت تخالط تفكير أمي في فترة شبابها. لا أدعي أنّها يسارية، لكنّها كانت تتعاطف مع الفوضويين وبعض المتحمسين والمغامرين الذين لايهمّهم أن يكسروا القوانين بلطف خفيّ ونعومة تجعلان الآخرين يتعاطفون معهم.

وقتها لم تفهم لِمَ خجل أبي من أن يصحبها معه وهي حامل بي إلى بلده فيعرفون أنّ (Aoife) كانت متزوجة قبله ولها ولدان من زوجها الأوّل.

لا أبالغ إذا قلت إن أمي جميلة لم تكن بحاجة إلى أن تلجأ إلى أبر البوتكس ونفخ الشَّفتين مثلما فعلت قبل أن يتقدّم بها العمر ويقطع الجرّاح رجلها اليمنى..

امرأة لا تستطيع أن تعيش من دون رجل.

وقد وجدت في أبي فحولة متناهية.

مهما يكن القلق الذي أعيشه الآن فهو أفضل من حالة أعيشها في دولة أخرى.

في قرية تدعى الطبول ساعة ونصف بالسيارة عن العصمة لدينا بستان زيتون ونزرع الخضار!

لكني لا أنكر أنه في بدء علاقته كان محروما من حرارة العاطفة والجنس، فقد ماتت أمّه أي جدتي وهو في السنة الأولى وتزوج والده من نفس العشيرة وبعد سنتين تزوج ثانية وجعل الإثنتين تعيشان في بيت واحد، ربما كان ذلك حافزا لوالدي الذي عاش بين زوجتي أب أن يجد في المدرسة حتّى، مع ذلك تبقى قضية الجنس تشكّل عقدة له.

عطش إلى الجنس

هكذا تروي أمّي بسخرية...

شاب محروم، لايقدر أن يتحدّث مع أيّة فتاة في الحارة والشارع والجامعة يأتي إلى بريطانيا فيبصر النساء في أوج حرّيتهن.. في الصف الملابس القصيرة.. والأجساد البيضاء.. الصداقات والقبلات في الشارع، في الوقت نفسه استلطف آنسة مثل أمي شقراء جميلة ذات شعر ناعمة ونظرة تشيع سرورا وبهجة..

سهلة

متسامحة

تحبّ النكتة أكثر منّي تكرع من زجاجة البيرة مباشرة وتغرق في الضحك، فأنتظرها تنهي ضحكتها:

- هل من شيء؟

ربما تبدو سهلة في التعامل مع الآخرين من غير عقد

حدّثتني في البداية عن أبي قالت إنّه كان يتردد على المحل الذي تعمل فيه، تعمّد أن يترصّدها وفي أحد الأيّام انتظرها إلى أن خرجت من السوبر ماركت فتبعها وقدّم لها نفسه..

طالب بعثة يدرس

التقى أبي أمي في الكافتيتريا أوّل مرّة.... بدا لطيفا معها

ودودا

وخجولا..

لم يكن خشنا غير حضاري كما عهدتْه عن الشرقيين من قبل.

أو ما تسمعه من عنف وجرائم متفرقة حدثت في بريطانيا لليبيا في أكثر من يد.

وتكرّرت دعوته لها في المقهى مرة أخرى. جلسا متقابلين ومد يده الناعمة إلى ظاهر يدها.. شعرت بحرارة يده على الرغم من أن الوقت كان في يناير، ورأت عرقا خفيفا يسيح من جبينه.

تردد... قال:

- هل لديك مانع أن نلتقي المرّة القادمة عندي في البيت.

- كما تحب.

يبدو أنها وثقت به ولا يريد أن يتعجّل. قالت له:

نحن الآن أصدقاء.. ماذا تعرف عني.

قال وهو يتحرر من تعثره :

- أنا ابن عائلة فلاحين حينما أنهي دراستي أجد لي مكانا في شركة النفط في العاصمة.

- منزلكم بعيد عن العاصمة.

تلك الخواطر جرت في ذهنها عن أبي يوم صارحتها وأنا في السنّة الدراسيّة التاسعة عن علاقتي بابن حارتنا الجامايكيّ الأصل (أبيتورو) .

أخبرتني أنّها قبلت دعوته على العشاء في بيته، طالعتها في الصالة صورة له أسفل صورة القذافي، هي تلك الليلة التي قدّم لها خاتما ذهبيا، ووعدها بخاتم آخر ينقش علبه اسمها.

- Aoife اسم رائع (قال ملاطفا وأردف) سأنقشه

تقول لم يسألني عن معناه في اليوم نفسه لكنه عرف أنّ الاسم إيرلندي ووعدها أن ينقش على الخاتم الجديد (Aoife) و (زاهر)

صراحتي مع أمّي حول صديقي الجديد ومحاولتي التخلص من عذريّتي جعلها تدخل في تفاصيل كثيرة عن أبي. أمور لم أكن أعرفها من قبل. كان بإمكانها أن تخفي عني اسم ابي ومن يكون. لا تنسبه لأحد. تمنحني اسمها العائليّ وحده. وجدته في أول لقاء ضمهما من غير مبالغة عرفت أنّه التجربة الأولى له مع المرأة. أوّل امرأة يضاجعها في أول لقاء ثلاث مرات، وفي المرّة الثالثة وضع رأسه على صدرها وأخذ ينشج طويلا طويلا..

اعترف لها أنّها هي الأولى

كان يصرخ

وجدته ملتهبا بشكل جنوني

لم يترك قطعة في جسدها لم يلمسها أويقبلها

وفي المرة الثالثة هدأ مثل طفل وديع

تقول إنّها أخطأت في قضيّة الحمل وحساب الحبوب. جرفتها أحاسيس أبي فظنّت أنّها يمكن أن تسافر معه، وعندما فوجئت بي في بطنها ارتأت أن تبحث عن الاستقرار وتهاجر.. تبحث، ولعلها الرغبة في الكشف. عن عالم جديد... الشرق نفسه مثير على الرغم من القتل والدمار.. معا حسب وصفها عنيفا جدا من غير قسوة ذلك العنف الذي تحبّه المرأة..

وقد شعرت أمي أنّه يتضايق إذا حدّثته عن ولديها نول و(جف) اللذين يعيشان بعيدا عنه في بلفاست، كان زوج أمي إيرلتديا من بلفاست. لم يتزوّجا وأخواي من معاشرة دامت خمس سنوات. كانت أمي وقتها في السابعة عشرة من عمرها حين عاشرت السيد (أوين) والد شقيقيّ، اعترفت لي أنّها خانته، مع رئيسها في العمل، مرة واحدة، نزوة طائشة مع بولندي مهاجر أعجبها، ولم تكرر المحاولة، أما أبي فقد التزمت معه، راعته مثل طفل وربما فكر بالزواج منها والهجرة إلى بلده، وهي متأكدة أنه كان سيفعل لولا أنها أم لولدين، وحين هاجر

هرب بخسة

حدث ذلك قبل أن يقطعوا رجل السيدة (Aoiefe) بأكثر من خمسة عشر عاما.

عاشت مع أبي وفق نظام المعاشرة ثلاث سنوات، ويبدو أنّها كما تدّعي أخطأت ذات يوم في حسابات حبوب منع الحمل، ولو أنّي أشكّ فيما تقول وهي في وعيها، فقد سكرت ذات ليلة، وادعت أنّ من حسن حظّها أنّها فكّرت أن تعلق بنطفة من أبي الذي شعرت معه في الفراش بأنوثتها أكثر من صديقها الذي هدر بكارتها وهي في السادسة عشرة _أي في نفس السنّ التي أحاول فيها أن أتحرّر منها- وأيضا من زوجها أبي ولديها، ذكّرتها في صبيحة اليوم التالي بما قالته بلمز واضح:

- أمّي أيتها الجميلة هل تعمدت ولادتي أم جئت كما لو كان هناك خطأ ما؟

فنظرت إليّ يلمزة ساخرة:

- وما الذي يفيدك هذا أو ذاك.

- كأنّي سمعتك تقولين أنّك تعمدت.

- انسي الأمر أفضل.

- طيب مادام الأمر كذلك الآن ليبيا تفور... مظاهرات هنا وهناك. إفرضي أنّ أبي جاء بطريقة ما إلى بريطانيا طالبا اللجوء هل تقبلينه؟

فعفطت قائلة:

- عندما تطير الخنازير، وأردفت ضاحكة: وددت أن أقابله لأسأله سؤالا واحدا: هل مازال الناس في قريته يسمون الفرج دبرا؟

- ماذا؟

- تبك حكاية طريفة في إحدى الليالي سكر كنا مسترخيين بعد أن مارسنا، شرب كثيرا من الويسكي وفجأة مدّ يده إلى ردفيّ فعصرهما وقال: تعرفين (أوفي) في قريتنا يسمون الكسّ طيزا؟ (Twat Ass)

ضحكت..

مع ذلك، أقول بصراحة، أتمنّى لو ألتقيه ولو يوما واحدا، ساعة واحدة، وربّما فكّرت أن أزور ليبيا فأسأل هناك عن السيد المهندس (زاهر الجلّود)، أتخيّل لقاءه..

أعانقه

أقبله

أرتمي في حضنه

كيف يأخذني

وإن كانت هناك رغبة تراودني لأن أن أبصق عليه..

وددت لو أمّي غالطت نفسها وأخفت عنّي الأمر.. لظننت أنّها حبلت بي من أيّ صديق التقته في المرقص أو أيّ مكان.. حالة طبيعية لزميلات لي في المدرسة وزملاء لا يعرفون آباءهم بل اعتادوا الوضع. لو سمتني باسمها، لكنها بدافع ما لا أعرف كنهه، أطلقت عليّ منذ يوم ولادتي اسم ليلى، وفهمت منها إنّها تعني بالعربية (ليلة) ولم تتجاهل اسم أبي الذي رافق لقبه اسمي (Lyla Zaher) أصدّق إلى حدٍّ ما أنّها أرادت أن تحتفظ بذكرى طيبة من أبي الذي وددت أن يكون هرب من ليبيا وجاء يطلب اللجوء.

قلت لأمي والعجب يتلاعب بذهني:

- سألتك عن ليلة العذراء الأولى مع رجل فحدّثني عن أبي أردت أن أعرف منك سرّ تلك الليلة مع الرجل الأوّل.

قالت بضحكة ساخرة:

- كم وددت أن يكون هو الرجل الأوّل في حياتي! (وواصلت) رأسا ومن دون مقدّمات قال لي أحبك.. I Love you فرددت عليه I like you ثمّ كانت أشبه بوخزة الدّبوس.. لا تخافي. ستكونين امرأة بعدها...

ووضعت أمامي علبة مانع الحمل، وراحت تشرح:

- حاذري أن تخطيئ، أكون سعيدة أن أصبح جدّة وحماة لكن لم يحن الوقت بعد.

راحت تشرح لي بصوت هادئ، وعيناي ترافقان علبة الحبوب، وتحذِّرني من الخدأ والنسيان.

2

لم يكن منزل صديقي الجامايكي (أبيتورو) ليبعد كثيرا عن منزلنا، كنت أحيانا أستيقظ قبله فأغادر إلى منزل والدتي بالبجاما. لقد مرّت ليلة شكّة الدبوس بكل ارتياح، وأصبحت سيدة تحلّصت من ذلك الشيءالزّائد الذي يذكّرها بأنّها مازالت صغيرة السنّ.

كنت قد أنهيت الصفّ التاسع ولم تكن لي رغبة في مواصلة الدراسة وفكّرت في العمل، فوجدت وظيفة بائعة في سوبر ماركت (ساينس بري) وسط المدينة، كان صديقي يعمل عند جدّته العجوز أمّ أمّه بتكليف من مكتب الرّعاية فلم يعدّ بحاجة إلى البحث عن عمل. كانت الجدة (مارتيشا) سيدة طيبة القلب عملت طوال حياتها في مصنع للملابس تُعنى بالأزار، أكثر من خمسة وثلاثين عاما، لطيفة معي وكثيرة الشكوى من قلّة ذوق الأقارب. ثلاث بنات عاقات لايزرنها إلا نادرا.. تستثني فقط ابنتها الكبرى أم صديقي (أبيتورو) كلهن ينتظرن موتها حتى يرثنها.. تثرثر.. تنسى وتعود تتحدّث عن حفيدها.

في الليلة الأولى استقبلتني بلطف..

وفي صباح اليوم التالي تركته نائما كان عليّ أن أصحو مبكرة فأعدّ نفسي للعمل، ذهبت إلى المطبخ وعملت الفطور، ثمّ انتبهت إلى سعالها. قصدت غرفتها.. فوجدت خيطا من المخاط ينزل على ثوبها، حشرجة تنبعث من صدرها. كانت تهذي.

- مازال نائما شأنه كلّ يوم.

- لا عليك سأذهب معك.

- أستطيع أن أمشي إلى الحمام.

راحت تلتمس طريقها، وهي تثرثر:إنّه يأخذ راتبا من الرعاية مقابل خدمتي وفي أغلب الأحيان يتكاسل.

وعدت من المطبخ بالفطور، فقدمت لها الشاي والمربى، فشكرتني، وهي تقول:

- أنت فتاة لطيفة عليّ ألّا أخفي عنك بعض الأمور.

- تستطيعين أن تطمئني إليّ

فقالت بصوت متهدّج:

آسفة حين أقول لك إنّي بدأت أشكّ أن حفيدي يدخّن الحشيش.

شككت كثيرا في كلامها.. فقد أخبرني أنّ جدّته تهذي أحيانا وتنسى، ويصعب عليها أن تميّز بعض أحفادها ولا تتذكّر أسماء معظمهم.. ولعلها تفتري من دون أن تقصد.. مرّ على علاقتنا أكثر من شهر، وتأكدت من أن (أبيتورو) طبيعي لا يسرح مثلما يسرح الحشاشون.. ولاينسى، أويهمل نفسه.

هكذا ظننت، فأكّدت لها:

- سأخبرك حين ألاحظ أيّ تصرّف غريب

قالت وهي تلوك اقطعة بسكويت:

- آمل ألا تتعودّي منه تلك العادة السيئة

- لا تقلقي

كأنها تتردّد في طلب ما:

- هل يُعقل لاهو ولا واحدة من بناتي تصحبني يوم الأحد إلى الكنيسة!

- أستطيع أن أرافقك! اطمئنّي.

نهضت، وتذكرت أني في البجاما، علي أن أمرّ ببيت أمي، وأغير ملابسي، لأذهب إلى السوبر ماركت، قلت:

سأترك كل شيءفي المطبخ، فالوقت يضايقني.

- لا عليك سينهض يتناول الفطور، ويغسل الصحون

كانت أمي قد استعدت للذهاب، وجدتها تأنقت كثيرا، بدت سعيدة جدا، . سألتني كيف سارت الأمور

فضحكت وقلت:

- كلّ شيءعلى مايرام.

لقد جرت حياتي مع صديقي هادئة إلى حدّ ما إذ اعتدت أن أذهب إلى بيتنا بعد أن أنتهي من دوامي في السوبر ماركت، أتناول الطعام، وأستريح قليلا ثمّ أتصل به فأكون عنده في بضع دقائق. أحيانا أصل البيت قبل أمي فأقوم بتسخين الطعام الذي تكون قد أعدّته منذ الليل.

وتوطّدت علاقتي أكثر بالسيدة (مارتيشا) التي ازدادت إعجابا بي حين وفيت لها بوعدي ء يوم الأحد، فذكّرتها بالكنيسة. قلت لها مادمت وعدتك فسأذهب معك هذا الأحد لكني لا أظمن لك الذهاب كل أسبوع. كانت تنظر إليّ وتبتسم ابتسامة شكر.

لا أنكر أنّي لم أذهب إلى الكنيسة منذ زمن بعيد. لا يهمني أن يكون الله موجودا أم لا.

لا أنكره أو أثبته

أعتز بجذور والدتي الإيرلندية. ولا أعرف عن الإسلام شيئا.

والدي مسلم عربي هناك دماء شرقيّة تجري في عروقي... بعض سمار أبي وبياض أمّي.... قبل سنوات كنت ألىتقط ألبوم العائلة. أتمعن في الصور التي تخص أبي وأمي.

صور كثيرة

بعضها ذات تاريخ

في البيت

في الشارع

في الغابة

حادثة الاضطرابات في ليبيا دفعتني إلى أن أذهب إلى الألبوم بعد أن كدت أنساه.

والدي طويل القامة ذو شعر جعد

نظرة ثاقبة

ملامح بدوية

قسمات خشنة مهابة

يده على كتف امّي

صورة أخرى تطوّق خصره

أمام السوبر ماركت الذي تعمل فيه

أشياء جميلة

أمّا عادة تصفّح الألبوم فقد تركتها منذ زمن.

أسأل نفسي:

ياترى لو اقترنا وصحبنا معه إلى ليبيا :هل أكون مسلمة

ربما ألبس الحجاب

ولا أشرب البيرة...

ربّما اقتنعت أمّي بدين أبي

كلّ شيءمحتمل

في بالي أن نتمشى إلى الكنيسة التي لا تبعد سوى بضع خطوات عن حارتنا من جهة المنتزه الكبير والتي كثيرا ما أسمع صوت جرسها في بيتنا عندما يجثم السكون خلال أيام الأحاد والأعياد.

أقدر أن أجعلها تستند إلى ذراعي غير أنّها انصرفت إلى الهاتف، وطلبت سيارة أجرة، وسمعتها تقول للسائق كنيسة (العهد) استدارت بنا السيارة عبر طرق (روبن) إلى خلف محطة (كوينز ولك) .. كنت البيضاء الوحيدة من بين الحاضرين فالجميع بما فيهم القس من مجموعة جزر الكاريبي...

لم يثر الأمر دهشتي ولا يضايقني لأن أسمع من يتخدّث الإنكليزيّة بلكنة واضحة بقدر ما شعرت وقتها بأنّي نغمة شاردة وسط سمفونيّة متناسقة !

كان رواد الكنيسة لطفاء معي

راحوا يبتسمون للسيدة (مارتيشا) ويلاطفونها. كانت أكبر الحاضرين سنا، وأظنّ أن الكنيسة هي المكان الوحيد الذي تتوقف فيه عن تذمّرها وشكواها فتتحرّر من هواجسها. قالت لي قبل أن نأتي سأذهب للصلاة وحدها ولا شيءآخر فلا يجب أن نطلب شيئا غير الرحمة في بيت الرب... في أثناء الحديث شرد ذهني عما يقوله القس، وبدت الساعات ثقيلة كئيبة، كيف نكون مع المسيح، ونتجرد من خطايانا، مازلت صغيرة يمكنني أن أقترف الخطايا ثمّ أتوب، التفت إليها فوجدتها ساهمة مع حديث القس وتترنّم شفتاها مع المنشدين، رحت أمسك بكتاب الصلاة وانشد مع الجميع....

مسيحية

مسلمة

ولدت من حالة عاشرة

أبي هرب

أغنيّ للمسيح

ولديّ أخوان من زواج شرعي.

بعض الخشوع راودني..

خشوع عابر

السيدة (مارتيشا) تقول للقس حين فرغ وتوقف عندها ملاطفا ونظراته تنتقل بيني وبينها:

- سأكون قريبا مع المسيح.. قريبا جدّا

وتلتفتُ إليّ:

- أنا من جيل الملكة

- طول العمر لك ولصاحبة الجلالة!

وخرجنا من الكنيسة لأصحبها إلى بيتنا حيث قضينا بضع ساعات. ارتاحت للحديث مع أمي، وكررت ذكرياتها عن عملها والقس (آديو) ي راعي الكنيسة الجامايكية. الحقّ قبل أن يصبح االحفيد (أبيتورو) صديقا لي كان بينها وأمي سلام عابر، وكأنها وجدت في اللقاء فرصة لتلمّ شتات فكرها والصور المتناثرة بذهنها. جاءت إلى هنا حسب روايتها وهي بعمر ستة سنوات، تفخر حينما تتحدث عن عمرها أنّها بعمر الملكة وتأمل أن تدعو جلالتها كبار السن ممن ولدوا في العام نفسه إلى حفلة خاصة، أمّا الأمر الذي يضايقها فهو أن الجميع تنكّروا لها، بناتها، أو أحفادها، كلهم ينتظرون موتها ليرثوها، بيتها ذو الأربع غرف سيكون في جيوبهم، ولو لم تدفع دار الرعاية راتبا ل (أبيتورو) لما قبل بخدمتها. هو طيب لكنه حرامي وحشاش.

جشع مثل أبيه

وطيب مثل أمّه..

راحت أمّي تنظر إليّ وتتساءل:

- كيف عرفت أنه حشاش؟

- ذات ليلة راودني أرق، لم أرغب أن أزعجه،، تحاملت على رجلي وخرجت إلى الحديقة، فشممت رائحة ما، مازلت أشكّ، فعدت بخلسة إلى عرفته.. (مسحت بقايا مخاط بظاهر يدها من على أنفها) وواصلت) وجدته نائما لكنّي بدأت أشكّ.

شككت بعض الشيءفي روايتها، فقلت :

- من المحتمل أن تكون الرائحة من بقايا سجارة لعابر مرّ قرب منزلك!

تناولنا شرائح من البورك، والصوصج الذي أعدته أمّي طازجا شأنها كل أحد، وغادرنا إلى منزلها، لم نجد (أبيتورو) في المنزل. اتصل بي يقول إنّه في المتنزه يمارس لعبة كرة السلة مع رفاقه. وفي الساعة الثامنة عاد، والعرق يتصبب منه. كان يبدو طبيعيا، متألّقا خفّة ونشاطا.. فدلف إلى الحمام، فازداد شكّي أن الجدّة تهذي، وتتخيّل أحداثا غير موجودة، اكنا نشاهد التلفار، ولم يكن هناك من شيءمثير سوى خبر عابر عن أحداث ليبيا. وبدء اشتراك التحالف في المعارك، واستأذنت الجدة تغادر إلى غرفتها...

وقد أقبلل إليّ بكل قوته..

سألني:كيف قضيتما وقتكما؟

- جدتك رائعة جلّ المصلين في الكنيسة يعرفونها القس نفسه يكن لنا احتراما خاصا.

- هي أكبر رواد الكنيسة عمرا.

قلت ببعض التأنيب أو العتاب:

- كان عليك أن تخصص لها بعض الأحاد أنت أو أمك ليصحبها أحدكما إلى الكنيسة.

- لا أحد فينا يرغب في ذلك هي الوحيدة التي تعنى بالدين والمسيح.

وضع يده على شعري، وغيّر الموضوع تماما، كان معي تلك الليلة في منتهى فحولته ورقّته، أخذني مرتين، شعرت أنه يلتهمني، ولا يرغب في أن يشبع منّي، ولم أدرك نفسي إذ غفوت بين يديه.

غفوت طويلا

ولم أشعر بنفسي تماما

حلمت أني معه في جدول، والطيور تلاحقنا.. بيد كلّ منّا سلّة فيهاحبوب ننثرها على الماء فتطلّ الأسماك برؤوسها تلتقط الحب، ومن فوق تهببط علينا طيور النورس، تمدّ مناقيرها إلى السّلّتين تنقر الحب، وعندما فرغت السلتان، وغادرتنا الطيور والأسماك ألقى (أبيتورو) المجداف بعيدا وقفز إلى الماء خلسة مني، فضحكت، وهمست: أنت تمزح، ومددت يدي إلى النهر اغترف منه لأروي عطشي.. فوجدت يدي ترتطم بعمود السرير. كان بعض جسدي خدرا..

فتحت عيني فلم أجده..

خمّنت أنّه في الحمّام وربّما ذهب إلى المطبخ يعالج عطشه، فنهضت من السرير، فلم يلح لي أي ضوء من زجاج الحمّام العلوي، أعرضت عن أن أشعل النور في الممر، أو نور المطبخ الذي تسللت إليه، كان هناك ظلام من جهة الشباّك المطلّ على الحديقة الخلفية، وجلّ النور الصادر عن عمود الكهرباء في المربع عند موقف السيارات ينير الساحة ويلقي ببعض الضوء الخافت على الزاوية اليمنى للحديقة الخلفية.

سمعت بعض الهمسات من المكان نفسه، فتحاشيت أن أفتح الشباك لئلا أثير الانتباه.

هو صوته...

همس يتداخل...

ولا مجال أمامي إلا أن أنتقل إلى غرفة الحمام، فأطلّ من أعلى لأبصر بعيني ماذا يجري هناك، أخذت معي الكرسي المعدني المدور، وضعته جنب الحائط، وارتقيته بحذر.

أصبح الأمر واضحا تماما

كان هناك شخص آخر مع صديقي وجمرة السجارة تلوح شاحبة وسط القتام الشاحب. ليست صدمة لي، ولا يعنيني، كأنّي لا أريد أن أعرف، فهبطت من الكرسي، وعدت إلى الغرفة، نسيت أني نهضت لأشرب الماء، فتجاهلت العطش قليلا، وتظاهرت بالنوم حتى سمعته يفتح الباب برفق، وينسل فيرقد جنبي.

3

أرى قلقا على وجه أمي

بعض الكآبة

حالة اعتدت عليها مرتين بالسنة.

كلّ ستة أشهر.

الحال التي أتحدث عنها تتعلق بحقن البوتكس، تلك التي تخفي التجاعيد تماما من على وجه تجعّد بفعل الزّمن، ثمّ تعود شابة من يرها يظنّ أنّها في العشرين من عمرها. تعيش مرحة طوال فترة ستة أشهر

نشطة

تدندن مع نفسها

تبتسم

تختار حسب مزاجها صديقا من أيّ مكان تدعوه إلى المنزل يبيت معها وبعض الليالي تذهب عنده، ربما تستمر علاقتها بأي صديق شهراً وإن طالت بضعة أشهر ثمّ تبحث عن آخر أو تترك المسألة للمصادفة، لا تخفي رأيها أن أجمل شيءفي الحياة هو الطعام والجنس، ولا علاقة لي بأصدقائها الذين عرفتهم سوى تحيات الصباح، كان أيّ منهم يأتي بعد العصر، أكون حينها قدمت من العمل والتزمت غرفتي، وإذا ما اضطررت للنزول إلى الصىالون فلا أبخل على ضيف أمّي بابتسامة لطيفة

ثمّ

مع مرور الأيام بنقلب الحال

فإذا ما بدأ مفعول البوتكس بالتلاشى وظهر الترهل والثنيات على جبينها اختفت الابتسامة وحلّ محلّ الفرح والمرح قتام هائل، ستة أشهر وأحيانا أقل.. قبلها تعود التجاعيد، وكنت ذهبت مرّة مع أمّي إلى عيادة الطبيب المختص، ورأيت المبلغ الذي تدفعه، والأبر التي تنغرز بوجهها..

في الجبين

أسفل العينين

بين الحاجبين

بعدها تضطجع على ظهرها أربع ساعات لئلا تنتشر سائل الحقنة على وجهها.

تعاني دقائق.

لتنعم بشباب نصف سنة إذ لا كآبة ولا حزن

تقاربني في السنّ

أراها رائعة جميلة تثير الرجال

ولعلها تحتاج بعض المال، فتتصل بأخي (نول) في بلفاست، لتستلف منه، كنت اسألها ماذا يعمل أخواى، فتجيبني إنّهما يمارسان التجارة الحرّة. وكنت قليلة الاتصال بهما. أكتفي بمكالمة والدتي وحديثها معهما مرة في الشهر وربّما كلّ شهرين.

خلال أيّة مكالمة أشعر أنّ أخي الأكبر (نول) هو الأقرب إليّ، لم أ ر زوج أمّي في حين لديّ إحساس فظيع أنَّ أخي) جفر) من دون مشاعر، يتجاهل ولا يزورنا إلّا نادرا، مرّة واحدة رأيته، فرحت به ثمّ أدركت خلال اليومين اللذين قضاهما معنا أنّه لا يطاق، يفكّر بنفسه، ويؤمن بقوته، ولا أبالغ إذا قلت إنّه يعدّ نفسه الأقوى، يمكن أن يغضب لأتفه الأسباب، انتقد أمّي على تبذيرها إذ عرف أنّها استلفت من أخي، قال عبارة لم أفهم معناها في ذلك الوقت :نحن نتعب من أجل النقود وأنت تنفقينها على تجميل وجهك.. هل تعاندين السنين. فانزوت في غرفتها وراحت تبكي.

لكن

لم أسكت

قلت بكلّ ثقة: إنّها تستلف من أخي (نول) ولا تطلب.

فردّ عليّ بغلظة:

- حين تشتغلين سلّفيها أنت أو اقترضي من ليبيا.. بترول... بتروك كثير.

قد يخلط غضبه وقسوته الظاهرة بمزحة وسخرية، لست ألومه ولا أحاول التودد له فأخي الأكبر أقرب إليّ منه، لا أريد أن أستبق الأحداث، فعليّ أن أجد تفسيرا لكلّ ما يجري حولي، وهناك أمور أكبر من قدراتي وعمري، تتطلّب منّي أن أواجهها، ذهبت أمي إلى الهاتف، واتصلت بأخي في بلفاست، طلبت منه أن يحوّل لها مبلغا على حسابها في البنك، ثمّ استغرقت في الضحك وهي تقول، لا تقلق، سأعود في العشرين وأجد صديقا جديدا.

اختفت مع ضحكتها كلّ علامات الكآبة من على وجهها، حالما ضمنت أنّها سترجع شابة بعد ساعات وعلى الرغم من أنّها تعود إلى سنّ قريبة من سنّي إلّا أنّها لا تختار صديقا في العشرين بل تختاره في عمرها الحقيقي..

تحارب الزمن

ولا شيء يدخلها في دوامة الكآبة سوى عودة التجاعيد إلى وجهها.

وعودتها مع صديق جديد.

تكره أن يتهدّل الجلد تحت شفتها السفلى.. ترى أن المرأة مع تجاعيد الشفتين تصبح بفم أفعى.. قلت مباشرة بعد أن أنهت مكالمتها:

- هل حجزت موعدا مع الطبيب؟

- نعم اليوم وكنت قلقة على النقود.

وبتردّد سألتها:

_أمّي قد أفكّر أن أترك (أبيتورو)

- التجربة الأولى نعم يمكنك ذلك، قد تكون أقصر فترة مع الصديق.. أنت حرّة.

قلت بسذاجة:

- عرفت أنه يتعاطى الحشيش.

اعترضت بطريقة أقرب للّوم:

- وماعليك منه؟ ذلك أمر يخصّه وحده!

يمكن أن تكون أمّي على حقّ، فهي مسألة تخصه وحده، وانصرفت إلى عملي، وحين عدت إلى البيت لم أجد أمّي، كانت عند طبيب التجميل تستقبل بوجهها الإبر. غدا إذا مشيت معها يظننا الناس أختين، وهناك هاجس يثير الخوف في نفسي. هل إذا كبرت أتصرّف تصرّف أمّي. أطلّ على وجهي في المرآة وأحلم عندئذ بثلاثين سنة إلى الأمام.. تتغيّر ملامح وجهي الطّفوليّ المدوّر، وتنتشر التجاعيد على جبيني، وترتخي شفتى السّفلى..

أكره أن أكون قبيحة

فأؤجل في هذه الساعة ما سوف يكون بعد ثلاثة عقود.

وأغادر المرآة

إلى المطبخ أسخّن طعام الغداء.

وما كدت أخطو حتّى سمعت جرس الهاتف الأرضيّ يرن.

كان على الطرف الآخر أخي (نويل):

- أمّي عند الطبيب ستصل متأخرة.

- أتصلت بها على هاتفها المحمول فوجدته مغلقا.

- هل هناك من شئ؟

- أمي تعرف أنّ أبي بدأ يخرفّ، لقد وصل إلى حالة لانقدر على تحملها، اليوم أكملت إجراءات إيداعه في دار الرعاية، وبدأت اصفّي عملي بعد يومين سنأتي لتسكن معكم.

- ألم تخبر والدتي من قبل.

- لديها مقدمات بالموضوع وسأتصل بها.

- أنا سعيدة جدا أنكم ستكونون معنا.

فهمت من حديث أخي الأكبر أنّ هناك أخبارا ومعلومات تجري بينها وبين أخويّ لا أعرفها. خصوصية العلاقة بين الثلاثة، ولعلها لا تخبر أخوي بخصوصيّتي معها، ماعرفته جعلني أبدو أكثر سعادة، فقدوم أخويّ يكسر حسب رأيي الرتابة التي نعاني منها نحن الاثنتين.

عادت أمّي بعد الساعة السادسة، ظهر جمالها وخفة روحها وأناقتها.. أنا نفسي أصبحت لا أتحمّل وجهها المترهّل كأنّني أنا التي بدأت أشيخ.

- هل اتصل بك أخي نويل؟

- نعم بعد غد ينتقلان للعيش معنا (وأكّدت) صفّى نويل عمله في بلفاست.

قلت بسذاجة:

- لم أعرف ماذا كان يعمل.

أجابت بلا مبالاة:

- ماذا غير العمل الحرّ

- قال لي إنّه وضع أباه في الملجأ.

هذه سنّة الحياة!

شيء ما يذكّرني بأبي الليبي

الحبّ والنفور

أحبّه بعلاقة الدم.. البايولوجي..

لا أكرهه.. محال سوى أنّي في بعض الحالات أنفر منه

كان يعرف أنّ أمّي حامل بي عندما هرب.

مع ذلك

في خضم الأحداث والحرب الأهليّة التي اشتعلت في ليبيا وددت ألّا يصيبه أيّ مكروه..

تمنيت أن يفرّ..

يهرب

يهرب فيأتي إلى بريطانيا كي ألتقيه.

أو أفترض أنّي بعد سنوات أستطيع السفر، فأسافر أسأل عنه.

لا ألوم أمّي كثيرا حين ذكرت الحقيقة فثبّتَتْ في شهادة ميلادي اسم أبي وإلّا لكنت مثل الآخرين الذين يولدون من علاقات عابرة فلا يعنون باسم آبائهم.

قلت بثقة:

- لو كان أبي معنا وكبر في السنّ لانصرفت لخدمته ولم أدعه يرحل.

فسخرت أمّي كأنّها لا تصدّق ما أقول:

- من يدري لعلّك تغيّرين رأيك!

5

بمجئ أخويّ تغيّر وضع البيت تماما...

دبّت فيّ الحركة والنشاط

والصّخب أيضا

ليس بيتنا وحده..

حارتنا اشتعلت حركة وصخبا والحارات القريبة منها.

هناك فوضى غير مريحة وبدأ الخوف يدبّ في نفسي. انكشفت أسرار كثيرة كانت أمّي حريصة على أن تخفيها عنّي.

لقد انقلب كلّ شيء رأسا على عقب فاكتشفت حقيقة أخويّ

 (نول) الهادئ المسالم الجرئ، و (جف) العنيف الذي يتباهى بقوته، ويزهو بقبضته. كانا يحترفان تجارة توزيع الحشيش في بلفاست، ويتناوبان على الجنس.

ضحكة مقيتة

نكتة جافّة ميتة.

عندما يخرج (نول) من التوقيف، يدخل (جف) السجن بعده ببضعة أعوام. أستطيع أن أقول إنّ نول هو المحرّك، لا يحكم عليه بسبب شجار بل حين يضبط بالجرم جرم التوزيع...

لا أرغب في أن أفهم بعض الأسرار بشكل عشوائي، فأخيرا أدركت أنّ أمّي كانت تتسترّ عليهما حيث ظهر أنّ قضية رعاية الأب حجّة لدى أخويّ، فإذا ما كسدت التجارة هناك، أرسلا أبهما إلى دار الرعاية، وجاءا إلينا.

وسرعان ما تعرّفا عل معظم سكان الحارة، أخي (نول) أقام علاقة خفيفة مع ساكن البيت ذي الرقم 9 الرجل الثلاثيني (ليوم) الذي لا يكلّم أحدا إلّا أخته التي تزوره على فترات، وممرضة من قسم الرعاية، فعُرِفَ في الحارة أنّه مصاب بمتلازمة الصّمت، وكم دهشت حين خرجت من بيت الجدة (مارتيشا) في وقت مبكّر حين رأيته على بعد مسافة من بيتنا مع أخي (نول)

تهامسا على عجل

وافترقا

وتيقنت من شكوكي حين عدت من العمل، فوجدت أخي (جف) يقصد منزل (ليم) فيلتفت قبل أن يطرق الباب ثمّ يدسّ في يده شيئا ما، .

سألته بضيق:

- هل كلّمك (ليوم) الصامت.

- وما شأنك أنت.. لا تكوني فضوليّة.

قلت بدهشة مفرطة:

- إنّي أعرفه لا يكلّم أحدا. شخص مصاب بمرض الصمت) بجدٍّ ظاهر وحماس) mutism أتدرك معنى ذلك.

قلتها لأنّني أفهم مايعنيه الصمت الانتقائي في صعوبة التواصل، وإقامة علاقة مع الأشخاص المصابين به، فردّ عليّ ردّا قاسيا:

- لا تتدخّلي في شؤوني (وأضاف) fuck mutism

كنت أنام في غرفتي في الطابق العلوي جنب غرفة أمّي، وهناك غرفة ثالثة احتلها أخي (جيف) أما نول ففضل أن ينام في الصالون حيث الطابق الأرضي على الأريكة الطويلة، قبل مجيئهما لم أكن أشعر بضجّة أو صخب أثناء الليل. أمي تعود متعبة من العمل فترقد بسلام، ماعدا بعض الليالي التي تصحب صديقا إلى البيت، فاسمع من باب المصادفة همسة منها أو حركة، وقد تطلق آهة لا تقوى على كتمانها فأحدس أنّهما يمارسان الجنس فأغرق مع نفسي بضحك صامت...

في منتصف الليل سمعت زعقة عنيفة جعلتني أهبّ من فراشي مذعورة..

من يتخيّل أنّي أهبط إلى الصالون فأجد منظرا مذهلا أمامي:أخواي في أوج الصراع، وعلى وجه (جف) أثر لكمة تبين مثل ندبة زرقاء، يظلّ يلهث.. يولوح على وجهه انكسار وإحباط..

 في عيني (نول) شرر يقدح.

وتوعّد بالعقاب

صمت

ولهات

ثمّ صرخ:

إذهب إلى فراشك وعند الصباح نتفاهم

مسكت (جف) من ذراعه لأرافقه إلى الطابق العلويّ، فأفلت من يدي وسبقني. وقال (نول) بنبرة حاول أن تكون هادئة لينة:

- إصعدي ونامي، لا تشغلي بالك.

واستوقفني على الدرجة الثانية:

متى تحين فترة استراحتك في العمل؟

قلت وأنا أتثاءب:

- الساعة الواحدة!

سيمرّ عليك (جف) غدا انتظريه خارج السوبر ماركت على الرّصيف.

ترى علام اختلفا.

منذ أن سكنا معنا و (نول) هو الآمر الناهي (جف) يصغي فيذعن ويطيع.... أحيانا يتململ، وفي بعض الحالات يتمرّد فيرفع صوته عاليا. ليس من شأني أن أتدخّل في عملهما.. ولا أظن أمّي حسب وجهة نظري البريئة إلى حدّ ما ضليعة معهما. هكذا كنت أظنّ، في الساعة الواحدة وقفت على الرصيف، فجاء (جف) يحمل كيسا. مغلقا. قال وهو يغادر على عجالة إنّه سيعود نهاية الدوام ليستردّه، راودني خوف وتلاعبت بي هواجس شتّى، خانتني شجاعتي، في أن أرفض ولم أجرؤ على أن أفتح الكيس. شككت أنّ فيه شيئا... فأسرعت إلى خزانتي الخاصة ودسست الكيس مع أشيائي الأخرى التي ألقيها في الصندوق قبل البدء بالعمل.

هو ثقل ما جثم على صدري

خوف أكثر مما هو تأنيب ضمير

قلق

شيء لا يوصف

وتنفست الصعداء حين دخل (نول) إلى المحل، ابتاع زجاجة بيرة، وغمز لي بعينيه غمزة نشوة وفرح. وجدته ينتظرني على الرصيف مع فتاة طويلة مدورة الوجه ذكية الملامح، ومعهما كلب ضخم ذو عينين شرستين وشدق غاضب. في صغري لم تستهوني الكلاب، اقتنيت سنجابا جميلا، بقي معنا عاما ثمّ قفز من شجرة التفاح في الحديقة الخلفيّة إلى السياج فالرصيف، وغادرنا ولم يعد، بعد ذلك عاشت في البيت قطة ذات فراء أبيض جميل، مسحت على رأس الكلب، وكانت صاحبته ترحّب بي بابتسامة عريضة:

- (أديلين) صديقتي (وأضاف) على فكرة سأقضي الليلة في الكريستيانيا، قبضت (أديلين) على الكيس وراح كلّ منهما في طريق مختلف، وعندما وصلت البيت وجدت أمي سبقتني. استقبلتني بنشوة كبيرة وابتسامة مشرقة عهدتها منها كلما حصلت على مكسب كبير.. كنتُ في غاية التعب، فدخلت المطبخ، وجاءت أمّي فأخذت قنينة بيرة من الثلاجة، وقصدت الصالة، أكلت على عجل، ولحقتها

راودني بعض الغضب مما جرى ليلة أمس واليوم، فالتقطت الرموت كنترول وتنقلت بين القنوات، لم أستقر على واحدة:

أخبار القصر الملكي

تقدم حزب العمال

أحراش شرق آسيا

مظاهرات ليبيا

عصابات أمريكا اللاتينية

أغلقت التلفاز، فقالت أمّي:

- shit

عاودني غضب وذهول:

- هل علمت بما حدث الليلة الماضية.

قالت بلا مبالاة:

- أخبرني نول عن الوضع.. أخوك (جف) طماع.. الآن _ماداما يسكنان معنا- فلتكن القسمة على ثلاثة.

- ماذا عنّي أنا لأستلم كيسا في أثناء عملي.

قالت بهدوء وثقة:

- ليكن.. أقسم لك أننا سنعيش عيشة الملوك.. نسكن قصورا فارهة ونحيا في المستقبل أفضل حياة مثل الكيس الذي تعنين يدر مبلغا لا يقل عن خمسين ألف باوند، لابأس لتكن الحصة على أربعة.

قلت باعتراض مشوب ببعض الرضا:

- ماذا عن المغامرة.

- يا صغيرتي الحياة كلّها مغامرة، لا أحد ينجو منها، أبوك تركك وهرب، وهو الآن يعيش وسط مغامرة.. كلنا نغامر من حيث لاندري.

ليس هو الذهول

ولا الصدمة

بل حديث أمّي عن المستقبل، عن الماضي، والحاضر، والمستقبل الناعم لوجرت الأمور كما أشتهي لكنا في ليبيا نعايش حربا نبصرها مِنْ على الشاشات مَنْ يدري... في كلامها شيءمن الحكمة أم التهوّر لينكشف لي بعدئذٍ عالم آخر جهلته تماما.. كانت أمّي تعرفه وتعيشه، لكنَّها أخفته عنّي.. لا أعرف كم معهما من نقود وأين يخفيانها أمّا أمّي فتقول إنّنا بعد أشهر أو على أقلّ تقدير سنة نصبح ملوكا.، ولا أعجب بعدما رأيت من أنّ أخي سيتخذ من بيت صديقته في الكريستيانيا _مملكة الحشيش في نوتنغهام- مقرا له وسيأتي إلى بيتنا على فترات، ليلفت أنظار البوليس إلى محلتنا حيث يظلّ ينشط في أماكن أخرى.

لقد سجلا أقامتهما معنا فلا أحد يعترض إذ هما في بيت أمّهما.. وقد صدقت هواجسي فحالما خرجت من بيتنا وجدت سيارة بوليس على بعد خطوات من الباب.. سائق ينتظر.. وفي الساحة التي تحيط بها حدائق البيوت الأماميّة، رجل بوليس يبحث في الحشائش عن شيءما ربّما قطعة أو قطع حشيش ألقاها (نول) بين الحشائش ليأتي فيما بعد زبائنه فيلتقطونها.

غادرت بيتنا إلى منزل صديقي وأنا في أشدّ الضيق.. أصدّق أم أكذّب.. مارست التهريب على الرغم منّي.. أردت أن أكون قريبة من أمّي أقرب من أخويّ إليها بحكم كوني الصغرى.. أنثى مثلها.. لأجد أنّ أخي نول يظلّ مثلها الأعلى، إذ حسب حلمها هو الذي يجلب السعادة لنا في المستقبل.

لم اشتم في بيت السيدة (مارتيشا) أيّة رائحة غريبة، كانت سعيدة بزيارتي وطلبت مني بلطف أن أصحبها مرّة أخرى إلى الكنيسة: تقول إنّ السيد المسيح يدعوها لتكون معها، وتلتفت إلى حفيدها:

- أنت تتعجلّ هو الذي يعرف متى يدعوني إليه هذه الليلة غدا.. بعد شهر أم سنوات، المهم ستستيقظ متأخرا ذات يوم فتجدني أنام نومتي الأبدية (كان صوتها يتهدج، وخيط مخابط يهبط على صدرها، فتناولت منديلا مسحت أنفها لتشكرني وتعود إلى الحديث) لكن يا صغيري حاذر إذا وجدتني أنام نومتي الأبديّة من أن تسرق النقود من خزانتي.

فنهضت، فصحبتها إلى غرفتها، وساعدتها على أن ترقد في فراشها، وعدت إلى الصالة، فوجدته يتابع التلفاز.. كأنّه مثلي ضجر من جميع القنوات، توقف عند محطة، لطيران يقصف موقفا، وهتف:

- يا للجحيم ليبيا ثانية!

فخامرني ضيق ما:

- أتعرف إنّ أبي هناك.

- ليبي؟

- للأسف لم أره تركني في بطن أمّي مع ذلك أخشى أن يتعرّض لسوء.

اقترب منّي وداعب شعري، وأطبق بشفتيه على شفتيّ. أغمضت عينيّ وطلبت منه أن نذهب إلى الفراش.

كنت أهرب إليه.

- خذني إلى الفراش.

مارسنا الحب. فعل مرّة

استرخيا فتحسس جسدي بيده

خدرت ثانية

واستعرض فحولته معي

 بعدها عدنا للتحقيق في السقف. قلت:

- (أبي) (خاطبته بصيغة التدليل) هل خالتاك قاسيات إلى هذا الحدّ.

فضحك ضحكة خفيفة:

جدّتي تحلم.. تهلوس.. تظنّ نفسها ميتة وهي حيّة.. عندي خالة تعيش في ليدز، وأخرى عاشت في لندن وماتت قبل عامين، خلال عيد ميلادها كلّ عام تأتي خالتي من ليدز مع كل العائلة، وأولاد خالتي من لندن، نقيم لها حفلا رائعا.. لاتريد أن تقتنع، بل تظنّ نفسها ميتة وخالتي الميتة مازالت على قيد الحياة.

داعب حلمة ثديي براحته، فسألته:

- قل بصراحة هل تدخّن الحشيش؟

فابتسم:

- في هذه المسألة جدّتي لا تكذب.

بعد صمت.. رفع إبهامه عن حلمتي:

- بودي لو اشتريت الحشيش من أخيك (نويل)، ذلك أسهل لي.

ترددت:

تدخّن؟ أم. ؟

- لا بأس في أن أدخّن وأوزّع ليكن business أنا بحاجة إلى التقود.

- كلّ ما عليّ أن أخبر أخي.

وحين خرجت في الصباح، وقد تركت العجوز ترقد بسلام، فلم أرد أن أزعجها، وجدت أمي مازالت في البيت، كانت في أرقى أناقتها وخفتها، ورشاقتها

سعادة غير متناهية تتوزعها إبر البوتكس ونشاط أخي التجاري في الممنوع..

لاح لي أنّ تعجلها المستقبل يمنحها حيوية لاتطاق

قلت ببعض الزّهو:

- صديقي (أندرو) يرغب في أن يبتاع منّا

فابتسمت وعلقت حقيبتها على كتفها:

- ألم أقل لك.. أنا شخصيا لا أدعو صديقي إلى البيت لئلا تعرفه الشرطة سيوزّع معنا، وصديقك؟، سأخبر (نول) ثقي لن يهضمك حقّك! باي!

خرجت

ولا قلق يراودني

سوى أن يعيد أخي تجربة السوبر ماركت غير أنّي أقنعت نفسي أنّه محترف فلن يفعلها مرّة أخرى.

6

من مفارقة المصادفات أنّ السيدة التي تظنّ المسيح ينتظرها لم تمت...

مازالت في أنفاسها بقيّة تدفعها لأن تعيش أكثر..

صديقي حفيدها انجرف مع أخي في العمل، وكان (نول) يعجب بنشاطه وسرعته.. ويتضايق من أنّه يدخن في بعض الأحيان. وهي المرّة الأولى التي يقبل فيها أن يكون لديه عامل يدخن.. فلسفته أنّ الذي يبيع الحشيش يبتعد عن تعاطيه.. هو شغل... وظيفة مثل السياسة.. مهنه.. أمّا البيرة والويسكي وعالم الكحول فيمكن أن تكون - حسب رأيه - هي الهواية التي نهرب إليها كان (أيتورو) يمارس الجنس وهو صاح، فأراد أن يجرّب معي وهو في حالة غيبوبة.. هذه المرّة لم يذهب إلى الحديقة، لم يتسلّل. أغلق باب الغرفة وفتح النافذة، بدأ يسخّن القطعة الصغيرة الخضراء، ثمّ يلفّها، بورقة شفّافة:

- هكذا.. رائع حقّا عالم رائع.

راودتني رغبة فقلت باندفاع غير محسوب:

- دعني أجرّب.

فقال معترضا:

- أترغبين في أن يقتلني (نول) لقد حذّرني من أن أعرض عليك التدخين!

- هل صدقّت؟ إنّه مسالم لا يقتل بعوضة.

سحب نفسا ثانيا طويلا، فرأيت عينيه تزوغان نحو النافذة:

- إذن إسحبي نفسا...

وخطا إلى النور فأطفأه، وأخذ يحدّق جهة الشباك الذي كان نور مصباح الشارع يتسلل منه عبر الستارة..

- ستشعرين بجسمك خفيفا.

سعلت

تهدج نفسي

بعض الغثيان

وشيء من الاختناق

كتمت السعال، بيدي، وحاولت أن أخطو إلى المغسلة ثمّ تراجعت شعرت برجليّ تتنمّلان، دوار خفيف يلاحقني، عيناي تجولان في الغرفة.

العالم يقترب من يدي

ألمسه

أراه ناعما.

أجد أخي (نول) محقَّا في أن يشيع النعومة المتناهية في هذا العالم القبيح.. قد يتغير وضع الدنيا بنَفَسٍ عميق، فهل أستطيع زيارة أبين فأرى شكله كما هو؟

ليبيا

لبنان

ما الفرق.

لو دخّن العالم.. العالم كلّه رجالا ونساء في وقت واحد لو دخَّنوا بساعة واحدة لأصبحوا أصدقاء، لايكره. أحدهم الآخر...

لا يتقاتلون... لا يهربون

أهتف بهمس:

- (أبي) خذني! لا تتردّد..

في الصباح وجدت نفسي عارية بعد نوم عميق..

شعرت أنّ جسدي خفيف جدا

أخف من ريشة

أرق من النسيم

وأنّي في الليل كنت أسبح مثل الغيمة في السماء.

لقد نمت نوما هادئا

مريحا

لامثيل له

فهل أعاود التدخين من جديد

وقبل أن أخرج إلى بيتنا، انتبهت إلى أنّ صداقي استيقظ مع حركتي، فمسك يدي برفق، وقال:

_أرجوكِ لا تخبري (نول) سوف يطردني !

- لاتقلق أعدك!.

كان يمكن أن يمرّ اليوم في حارتنا - حارة كوز وي ميوز - بأمان، فليس هناك من يطلبه الموت سوى السيدة (مارتيشا) التي تنتظر المسيح يأتي إليها لكنّي حين عدت من العمل وجدت وضعا آخر، وقع بصري على سيارتي شرطة، وحاجر من شريط ذهنبي أمام بيت الرجل الصامت ذي الرقم 9..

بلاشكّ خمّنت شيئا ما

أأشدّ من معركة بين اثنين

السيدة أخت الرجل الصامت تستغرق في حديث من أحد الشّرطيين.

اتصلت بأمي، فأخبرتني أنّها ستبيت عند صديقها. رحت أصف لها مارأيت عن بعد، فلم تكثرث، كنت مجبرة هذه الليلة على أن أظلّ في بيتنا، فقد فضّل أخواي أن يبيتا خارج البيت، (نول) عند صديقته، و (جف) عرف سيدة في آرنولد، وبدأ يتردّد عليها.

كانا يعدّان البيت مركز عمل يأويان إليه أيّ وقت يشاءان.

لا أدري أن يضعا النقود

أو في أيّ مكان يخزنان البضاعة.

كدت أتصل بصديقي لأدعوه أن يقضي الليلة معي في البيت، وتراجعت

الوضع اختلف بعد أن اشتغل مع أخي

كنت أهمّ بخلع ملابسي حين رنّ جرس الباب، فدخل عليّ شرطيان، في نبرة الشرطي الضخم بعض الغلظة:

- فتشي البيت.

بدأت الشرطيّة الرقيقة التي قابلتني بابتسامة جادّة تلقي نظرتها على الممر والمطبخ ودخلت الحمام فتحت بعض الأدراج ثمّ صعدت الطابق العلوي. قال الشرطي الغليظ:

- السيد (ليم) انتحر هل تعلمين.

- متأسفة ماذا بعد؟

- قتل نفسه وقد وجدنا في بيته بعض الحشيش.

أجبت باستنكار:

- ماعلاقتي بالموضوع؟

- أين أخواك؟

- لاأدري بعض الأحيان لايأتيان ولا علم لي أين يبيتان.

قلت ذلك وأنا أعرف أنّي كاذبة، فأخي الأكبر يقضي الليل عند صديقته في كريستيانيا، و (جف) في آرنولد.

- آخر مرّة رأيتهما.

أجبت بنرفزة ظاهرة:

- لِمَ كلّ هذه الأسئلة وكيف يحقّ لكما أن تعبثا بالبيت.

جاءني صوت الشرطيّة الرّقيقة وهي تهبط من السلّم:

- من حقنا، لدينا ملف أخويك الذي وصل من بلفاست. إنّهما يمارسان توزيع الحشيش، توقّعي في أيّ وقت يمكن أن نأتي.

وأكد الشّرطي الشرس:

- لا حدود ولا وقت لزيارتنا!

لذت بالصّمت، وحالما خرجا، تنفست الصعداء... تهاويت على الكنبة، وضعت قدميّ على الطاولة، كما لو كنت أتحرر من جسدي، ومع لحظات الاسترخاء لم أشعر بنفسي، رحت أغطّ بنوم عميق، قبل أن أتصل بأمّي لأخبرها بزيارة الشرطيين لبيتنا.

7

لاشكّ أنّ الأحداث كانت تجري أسرع مما يتصوّرها أيٌ منّا.

إذ

أنّ الفرح الذي غمر أخي (جف) خرج عن المألوف

رأيت وجهه يتهلل

والسعادة لا تسعه

لم أستغرب فأخي (نول) خرج من السجن اليوم

كان قد تشاجر مع شخص ما في كريستيانيا، أمّا ما أعرفه عنه فأضنّه رجل مسالما ولعلّ عقوبات السجن التي طالته في إيرلندا كانت تخصّ مادّة الحشيش أمّا الشجار مع الآخرين فاحتمال بعيد...

كنّا أنا وأمّي نعدّ الأمر عاديا، ولا أحد في الحارة يلتفت إلى مشاكلنا مع الشرطة فكلّ يهتمّ بعمله.

أخي في التوقيف أسبوعا ثمّ خرج، وفي يوم خروجه شعرنا بالسعادة، وكان أخي (جف) أكثرنا حيوية ونشاطا. احتضن نول وهتف راقصا.. خرج أخي من السجن.. أووه نول..

مع ذلك يمكن أن يحدث مالم يكن في الحسبان

خلال فترة الأسبوع، والسجن لم أذهب إلى بيت صديقي، ولم تبت أمي عند عشيقها.. ق=فضّلنا أن نبقى في المنزل، وعندما عادت الحريّة لأخي..

انتهى خوفنا

وبدأت أمي تبيت عند صديقها الذي قالت لي عنه إنّه أصبح موزّعا ممتازا لا يلفت النظر، معظم زبائنه من الطلّاب الجامعيين الأجانب، ولم أكرّر تجربة الحشيش مع صديقي. في أوّل تجربة وجدت أعضائي تهرب منّي وهي ملتصقة بي.

ولم أطق الغثيان...

أفضّل البيرة..

أشرب قنّينة لا أكثر

أتركه يدخّن الحشيش وحده

ثمّ

نمارس

لكنّ سلوك (جفّ) العنيف غيّر كلّ شيءفي حياتنا.

نلك الليلة المشؤومة جاء نول إلى المنزل.. شيءآخر أشاع البهجة في نفسه.

سرور غير مبالغ فيه

للمرّة الأولى أراه يفرح لوضع لايخصّ التجارة.

قال إنّ صديقته حامل، وسوف يصبح بعد أشهر أبا، ارتحنا للخبر.. وباركناه.. تحدّث عن الصفقة الأخيرة، ووضع رزمة من النقود ذات العشرين باوند على المنضدة. قال لي وهو يربت على كتفي بحنوّ:

لك في الرزمة حصة أنت تحمّلت بعض المسؤوليّة.. الكيس ولا أنسى جهدك في جلب موزّع جديد.

سألت أمّي:مارأيك فيه؟

- ممتاز عنده الجامايكيون والأفارقة ولو لم يكن يعمل مع جدته..

قالت أمّي:

سآخذ المبلغ إلى خالك لكي يديره لنا.

كان خالي يعيش في (بول ويل) يملك مزرعة لتربية الدجاج، ليس من المعقول أن نضع النقود في البيت لئلا نترك أيّ مستمسك يديننا عند الشرطة أو تقع فريسة للصوص.، لقد سألت (نول) :

- هل يعرف خالي بمهنتك.

فضحك ساخرا:

- ما المانع ألّا يعرف خالك ليس شرطيّاً.

وسألتني أمّي:

- مارأيك؟أضع حصّتك وإن كانت قليلة عند أخي.

فقال أخي:

- أتركيها لها مادامت قليلة ولا أظنّها تحب العمل سأعتمد على (أديلين) !

ورفع هاتفه النقال، تحدّث مع (جف) ووضع الهاتف النقال على المنضدة بعصبيّة:

سيأتي الليلة.. يجب أن يأتي هذا العنيد.. هناك حسابات يجلب أن نصفّيها..

فكّرت حين رقدت في سريري قبل أن يغلبني النوم بعرض أخي، فاقتنعت إلى حدٍّ ما أنّي لا أصلح.. علاقتي ليست بالواسعة، وليس لديّ صديقات أو أصدقاء.

بصراحة:لا أجرؤ

شيءمن الخف

في بالي صديقي

أستطيع العمل معه من غير أن ألفت النظر..

كان يمكن أن تمرّ الليلة هائة مليئة بالأمان مع شغفي بالنقود، وفرحة أمّي باستثمارها في مزرعة خالي.. لقد غفوت على هاجس جميل ناعم هادئ دافئ. لم أعرف متى دخل أخي (جف) إلى البيت.. بين اليقضة والنّوم سمعت أصواتا وهذرا كثيرا

لغطا بصدر عن الطابق السّفليّ، ظننت أنّ أحد أخويّ يتحدّث مع أصدقائه.. أو صديقته، وتبنيتُ بعد لحظات أنّها أصوات خشنة، فعدت إلى الاسترخاء ثانية.

توهّمت أنّهم ثلاثة رجال..

وحين ازداد الصّخب

وعلت ضجّة أعقبتها صرخة مكبوتة..

حادّة

وخافتة في الوقت نفسه

هرولت إلى غرفة أمّي التي تثاءبت وهي تقول دعيني أنم هما دائما هكذا يتعاركان بعدها يصطلحان في النهار.

تركتها وهبطت الدرج حيث صالة الاستقبال، فوجدت المشهد الفظيع يتجسّد لناظريّ بكل معالم القسوة والعنف..

أخي (جف) يقف مذهولا على بعد خطوة من باب المطبخ

كان في عينيه شرر

حدة

وقسوة

لكنهما لاتخلوان من ندم مخفيّ

أخي (نول) يمسك بطنه التي انخرزت فيها سكين تقطيع اللحم !

يصرخ..

ينحني إلى الأرض

ثمّ يستلقي على بطنه

ويركل برجليه

صرخت... نتفت شعري عن لا وعي

وهرعت إلى الإسعاف، وفي اللحظة التي هبطت أمّي الدرج.. اجتاز (جف) الممرّ، واندفع مهرولا خارج البيت...

هل هرب لأنّه لا يريد ألّا تلتقي عيناه بعيني أمّي

أم

لم يعدْ يتحملّ مشهد عذاب أخيه؟

شُلَّت أمي لحظتها فلزمت الصّمت، ثمّ انهارت على الأرض، فتحركت عن غير وعي إلى الهاتف

كان كلّ شيء يوحي بكارثة جديدة

هرعنا مع أخي الجريح إلى المشفى الملكي..

بملابس النوم..

لم نكن بوعينا حقّا

وإذ أتكلّم عن نفسي أجدني لم أر ساعة الحادث، قطرات دم على الأرض لكنّي حين عدت بعدئذٍ رأيت الدم على الفرشة وعند عتبة المطبخ.. خيط يوحي بأن نول مشى والسكينة في بطنه.. من المطبخ إلى الصالة... أمّي أصبحت مثل البلهاء.. لا تعي أيّ شئ..

ولا عزاء لنا سوى أن ننتظر أمام غرفة العمليات..

أين كنت.

كأنّني أمام ملحمة أشاهدها في التلفاز...

خبر عن ليبيا أرى فيه مصرع أبي..

كنت أرغب في أن يأتي أخي ليعيش معنا.. ربما وجدت فيه بدلا عن أبي الذي افترضت أنّه قتل هناك في الحرب الأهليّة..

كان حنونا معي

رقيقا

ناعما..

مدهشا..

لكن....

في الساعة العاشرة...

وخلال دقائق.. عرفت الحارة قصّة الأخوين، وضعت الشرطة شريطا برتقاليّ اللون أمام بابنا غطى فسحة الحديقة الأماميّة ووقف شرطيّ عند الحاجر ينبه أيّا من المارة ألّا يقترب، وكان هناك من يقف ويسأل من الجيران والمارة بدافع الفضول...

زوبعة صامتة حولنا

جريمة مذهلة

طعن

وكان لابدّ للشرطة أن تستجوبنا..

 بعد ساعات.. تغيّر كلّ شيء

مات أخي قبل الظهر!

وكان علينا أن نلبس الأسود ونستعدّ للجنازة

8

مرّ على مصرع (نول) أكثر من شهر..

حقّا انهارت أمّي في البداية

وسرعان ما تماسكت وتجاوزت الأزمة

ولم تعد تعير أهمية لشفتيها وتجعد وجهها. بل أعرضت تماما عن حقن الإبر.. والذي شجعها على التعايش مع الحالة الجديدة زيارة (أتيلين) لنا. أبت أن تتركنا وحدنا.. سعدت جدّا حين رأيت بطنها تكبر، وازدادت سعادتي بها حين وافقت على اقتراح أمّي لتتخلّى عن شقّتها وتسكن معنا.

وبقي علينا قبل كلّ شيء أن نفكّر بفكّ ارتباطات (نول) وعقوده الخاصّة مع الآخرين..

وافقنا بكلّ ارتياح على أن نعمل معا. أحيانا أنضمّ للسيدتين المتحمستين.. فبغير هذه الوسيلة لن نستطيع الإفلات من قبضة الآخرين.

قالت (أتيلين) تصفية الحسابات تحتاج إلى شهرين، نوزّع للزبائن وننهي التزامات نول عندئذٍ ننجو ونرتاح.

وأبدت أمّي حماسا شديدا:

لا بأس سأكون معك.

سألت: أريد أن أعرف دوري؟

ردت أمّي بحدّة: أنت لا أتركي الأمر لنا

راحت السيدتان تعملان بنشاط دؤوب. تخرجان إلى الشارع، تتحدثان بالهاتف مع جهات لا أعرفها

تغيبان عن البيت طويلا

تستغلان عطلتي السبت والأحد:

تتصلان من أماكن لاتثير الشبهات:

من أمام الكنيسة

داخل مركز نوتنغهام

تستغلان ازدحام السيرك فتتواعدان مع الآخرين

أو

داخل صالة السينما والتزلّج على الجليد

وإن اضطرتا

ففي المكتبة العامّة

من دون أن تثيرا الشّبهات... تجاوزتا الخلافات بينهما وبين الزبائن والمصدّرين وإذ مرّ الوقت بسلام، وخرجتا من دائرة (نول) الخطرة تنفستا الصعداء.

وخرجت أمّي بمال لا أصفه بالقليل

وابتعدت الشرطة عن مراقبتنا..

وعلى الرّغم من كلّ ماسبق

فقد انهارت امّي بعد النجاح الكبير الذي حققته.. فلم تلتفت لنفسها.. شكّت من تعب في قدميها وبرودة في أطرافها، في بعض الليالي كانت تهبّ من نومها تشكو من تشنج في قدمها اليمنى.. ألم يدوم دقائق تتجاوزه بكزّة على أسنانها.

تفسّر كل مرض بالتعب والإرهاق

تتطلّع فيّ طويلا وتطمئنني.

تلقي بسؤالها المفاجئ:

- الا تذهبين عند صديقك؟

أسكت لحظة:

- أبدا لا. لم يتصل أصبحنا بنظره ونظر الجيران مشبوهين!

- طظ.

لم تجرؤ على زيارة أخي خشية من أن تثير الشبهات، وكانت تردد ماذا ينتظر.... جريمة قتل، وتهريب ممنوعات، لا أستغرب قطّ فقدشعر جف بالمهانة والاضطهاد، فرغب في التمرّد على أخيه، فاستغلّ أكثر من شخص سذاجته، حرضوه بعد أن صوّروا له (نول) غولا مخيفا يروم التهامهم، ليغرروا به فتخلّصوا من الأخوين.

وشيئا فشيئا تجرّدت أمّي من موقفها الصارم، وخضعت لعاطفتها، فغامرت بزيارة أخي وعادت من السّجن منهارة، في ذلك المساء وجدتُ التجاعيد غزت وجهها كأنّي أنظر إلى امراة في الثمانين من عمرها، حاولت أن أداعبها:

- لينته الحزن يا أمي، ستىحلّ قريبا أعياد الميلاد ورأس السنة، هل ندعو خالي وأسرته ليحتفلا معنا أم نذهب إلى مزرعته. ؟

لزمت الصمت وظلّت تتطلّع بوجهي. رأيت ملامح التعب والصفرة على وجهها، فاستدركت:

يجب أن أصحبك إلى الطبيب فأعيدك إلى سنّ الثلاثين!

فجأة

صرخت

وتهاوت.. كانت تمسك برجلها اليمنى..

وتصرخ

تكزّ على أسنانها..

تتمرّغ على الأرض

أمر لم أحسب حسابه..

وضع جديد يفرض نفسه عليّ

كانت تعاني منذ الحادث، أجدها هادئة فأظنّها تجاوزت الأزمة عانت خلال فترة الشهرين ولم يبدُ عليها أيّ عارض للمرض حتّى ظنّت نفسها استراحت من مخلّفات الماضي فإذا بها تسقط فجأة فاقدة الوعي من الألم، ولا حلّ أمامها إلّا أن تعيش بساق واحد.

 كنت أعيش في بيتنا وحدي مدّة بقائها في المشفى، هجرت صديقي الذي خشي أن يُزجّ به بعد حادث القتل، كنت أسلي نفسي بمشاهدة التلفاز.. اتعمّد متابعة أخبار ليبيا والحرب الأهليّة ولا يهمّني أن يكون القذافي قُتِلَ قبل أن يقطع الجراح قدم أمي أو بعدها مباشرة.

بل

ما يهمّني هو رأس أبي الذي كان يخجل من أن يصحب أمّي معه إلى بلده كونها أم لولدين من غيره..

يخجل..

وهاهما الأخوان في ورطة القبر والسجن.

مع ذلك

أودّ ألا يحدث له مكروه. ربّما ألتقيه في يوم ما..

والآن

بعد كلّ ماسلف

لم يعد بيتنا يصلح للعيش. سوف نغادره لنعيش في بيت من طابق واحد.. ولا خيار أمامي سوى أن أترك عملي وأتفرّغ لأدفع كرسي أمّي وأعتني بها فالعيش في بيت أكبر وأكثر رفاهية مثلما كنا نفكّر من قبل أصبح لا جدوى منه.

***

د. قصي الشيخ عسكر

...........................

* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة اليوم 27\4\2025

 

حين وُلدتُ،

أخبرتني الملائكة أنها كانت تنتظرني ،

سمعت صوتَها فأقتعنت بالبقاء.

*

كنتُ أكتب الشعرَ

ولا أعرف أنني كنتُ أنسخُ صوتَها.

كلُّ استعارةٍ سرقتها من طريقةِ إبتسامتها الخجولة ، وهي تطرز الدفء.

وكلُّ تشبيهٍ من خطواتها وهي تقفل الباب

برفق، كي لا توقظ الليلَ.

*

أمي

تؤمنُ أن الغناءَ يمكن أن يُصلح كسورَ الروح،

وأن الوردَ يمكن أن ينبتَ

في قلبِ تربة مُتعَبة.

*

حين كنتُ أنظر إلى المرايا،

كنت أظن أنني أرى وجهي،

لكنني كنت أرى امتدادَها،

في عينيّ،

في ، رفعة أنفي،

في طريقةِ الوقوف ضد العدم.

*

أمي

هي الوحيدةُ التي يمكن أن تتحدّث

مع النباتات بلغةٍ لا نعرفها،

فتُزهِر.

تشرب القهوة،

فتُشفى المدينةُ من اكتئابِها.

*

كلما كبُرتُ،

صارت هي أصغر،

حتى صارت بذرة،

غرسَها الله في صدري،

وسقاني بها كلّما جفَّ النبضُ في عروقي.

*

لا تسألني عن الله،

فأنا لم أره،

لكنني رأيتُ أمي

وهي تدعو،

وكفى بذلك دليلاً.

***

مجيدة محمدي - تونس

أنتمي إلى أنفاسِكَ في غَفوة اليَقظة

إلى خطوطِ يديك...

إلى جَرَّتِكَ النّبيذيَّة وحبَّاتِ الكسْتناءِ

إلى اللوزِ المُرﱢ في شفتيك...

إلى جلجلةِ الرّعدِ

والياسمين وكوخِ البلوطِ

إلى فوضى عينيك...

**

إلى لوحاتِكَ الزُّمرّديةِ

وطائرِ الكَرَوانِ

يعبَثُ بخُصُلاتِ السماءِ

أنتمي إليك…

**

إلى اللحظةِ وحبّاتِ المطرِ

أنتَمي إلى روحي

إلى هوائي ومائي،

ناري وزَمهَريري

من أنا إذاً...؟

أنا القطبُ والكوخُ والقصيدةُ

أنا محورُ الكونِ،،،

المتمردةُ على ذاتِهَا

تخطُفُ المجدَ

من لوحاتِ الفردوسِ

إلى أكواخِ العاشقينْ

تأخُذُكَ إلى مَمْلكَةِ الروحِ

تُسقيكَ نبيذاً ساخناً من قدحِ الريحْ

لترسُمَ لوحَتَكَ الماسّيَّةَ

بالفيروزِ والكهرمانْ

**

أنا جنونُ زهرةٍ

تصنعُ لكَ فصلاً جديداً

لا ينتمي إلى تلك الفصولِ

**

يا شقيقَ البرقِ

اِرسمنيْ صدىْ أسطورةٍ قادمةٍ

اِصنعْ لي أجنحةً نحو الفضاءِ

إنّها حقاً عاصفةُ ثلجٍ ونارٍ

**

حانَ موعدُ الولادةِ بطقوسِ إيزيسْ

تكوَّرَ في فيافي جسدي

بطريقتِكَ الشِّتائيةْ

ما بين كوخي وكوخِكَ

نونٌ شاردةٌ...

إِذَنْ أنتَ أنا

إِذَنْ أنا أنتَ

***

سلوى فرح - كندا

كانت أوقاتها في المعهد تنتظم بانتظام الدقائق على عقارب الزمن؛ تحضر إلى محاضراتها حين تدق ساعتها وتغادر فور انتهائها، إلا ما استثنته الاجتماعات الإدارية الدورية والأنشطة التعليمية التي تفرض حضورًا كاملاً. وفي أول أيام العام الدراسي، بعد عطلة صيفية امتدت كفسحة تأمل بين ضفتي الروح، قررت أن تسبق محاضرتها بساعة كاملة؛ علّها تلملم أنفاسها قبل أن تواجه وجوه الطلبة الجدد.

توجهت نحو غرفة الإدارة لتوثيق حضورها حسب مقتضى النظام، لكن العميد استوقفها بلطف وأشار إليها أن تتبعه إلى مكتبه، مبديًا رغبته في مناقشة أمر يتعلق بأحد الطلبة. رغم استغرابها من هذا الاستدعاء المبكر، فإنها لم تبدِ اعتراضًا؛ فما يزال اليوم وليدًا، والطلاب وجوه جديدة لم تألفهم بعد. اكتفت بالقول:

– إن شاء الله خير.

ابتسم العميد، وكأن في ابتسامته عزاءً خفياً، وقال:

– نعم، كل الخير بإذن الله، وكما عهدناك دومًا: الصعب أمامك يسير، والمعقد بين يديك يلين.

ثم جلس مستندًا إلى ظهر كرسيه، وأخبرها ببساطته المعهودة

– أحد الطلاب يرفض حضور محاضرتك... لأنه يرى أنكِ غير محجبة.

رفعت حاجبيها بدهشة، وقالت بصوت حائر:

– ولكن... المعهد يضم العديد من الزميلات والعاملات غير المحجبات، وأضافت مبتسمة: بل إن نائبة العميد نفسها، وأشارت اليه، ليست محجبة

أجابها بهدوء:

– أعلم ذلك، وقد أوضحت له أننا لا نفرض زيًّا موحدًا، ولا نُخضع القوانين لأهواء الأفراد. ومع هذا، أصرّ على موقفه، وذكر اسمك تحديدًا. ربما لأنه لم يسبق له حضور محاضرة لك.

تنهّدت عميقًا، كأنها تحاول أن تلفظ معها كل ذلك العبث الذي يتسرّب إلى جدران المعرفة. تمتمت بمرارة:

– الحجاب... الحجاب... كل يوم أسمع صراخ شيوخ ومفتين، خطباء المسجد القريب من بيتي. لا يكفون عن الشتائم والوعيد ضد كل امرأة لم تخضع لمقاييس دينهم الخاص، يحرّضون الأزواج والشباب البسطاء ضد النساء، بأقسى العبارات وأقذرها سوقية، حتى يُخيّل للسامع أن العالم لا يتسع إلا لكلمتين: يا أبيض، يا أسود... يا حلال، يا حرام! وان المرأة هي اس المشاكل في عالمهم. سكتت لحظة، قبل أن تعود إلى رباطة جأشها قائلة:

– أشكرك على إحاطتي بالأمر. أرغب أن أجتمع بالطالب بعد انتهاء محاضرتي، في المكتب... لعلني أفهم مشكلته عن قرب.

خرجت من مكتب العميد، وحولها ظلال الأسئلة تتهامس؛ هل كان عليها أن تخوض معركة أخرى في سبيل حرية الفكر، أم يكفيها أنها واقفة هناك، بكرامتها، تقرع أبواب الوعي في زمن غلّفت فيه الأرواح بالخوف والجهل؟

بعد انتهاء المحاضرة، قصد الطالب مكتب الأستاذة، فتلقته بابتسامة دافئة رغم أنه لم يكلّف نفسه عناء إلقاء التحية. دعته إلى الجلوس... وسألته، بهدوئها الذي اعتادته روحها:

ــ بلغني أنك تمتنع عن حضور محاضراتي بدعوى أنني غير محجبة، أهذا صحيح؟

أجاب الطالب، مختصرًا كلماته:

ــ نعم.

تأملته لحظة، ثم تابعت بنبرة هادئة ولكنها تحمل عمق التساؤل:

ــ ولكنك تجلس في قاعة واحدة مع زميلات لسن جميعهن محجبات، أليس كذلك؟

أجابها بنفس الجمود:

ــ نعم، غير أنني سمعت أنك تتحدثين عن الحرية الفكرية والعقل، وأنك علمانية ملحدة.

ابتسمت ابتسامة خفيفة، لا سخرية فيها ولا مرارة، بل حكمة امرأة أدركت تناقضات الحياة، وقالت:

ــ إذن ليست المسألة مسألة حجاب فحسب، بل تتعلق بالحرية والعقل، او ربما هي موقف شخصي؟ ... يبدو أننا أمام عدة محاور للمشكلة، يتوجب علينا التوقف عند كل منها بتؤدة. ما رأيك؟

تردد الطالب، وارتبك؛ كان في عينيه شيء من الحيرة، وفي أطرافه ارتباك لم يحسن إخفاءه. وقبل أن يجيبها، التفتت الأستاذة وقد لمحَت الفراش يمر قرب باب القاعة، فنادته بنبرة دافئة:

ــ يا عم صالح، لو تكرمت... اثنين شاي باللبن، بارك الله فيك.

ثم التفتت إليه وقالت مبتسمة:

ــ يبدو أن حوارنا سيطول، فلنتهيأ له.

استأنفت بلطف:

ــ بالمناسبة، لم أتشرف بمعرفة اسمك.

ردّ الشاب، محاولًا ترتيب أنفاسه:

ــ عبد القادر اليافعي.

ابتسمت بتودد صادق وقالت:

ــ تشرفنا يا عبد القادر... فلنبدأ إذن بالحجاب، ما رأيك؟

هزّ رأسه موافقًا، فاسترسلت تسأله:

ــ هل أنت ضد كل النساء غير المحجبات؟

أجاب بتأنٍ:

ــ لا، ليس جميعهن، ففيهن المؤمنات.

رفعت حاجبيها قليلًا، مستفهمة:

ــ حسنًا، وكيف تميز إيمانهن؟

أجاب، مترددًا، وكأنما يستدعي صورة ذهنية رسمها في أعماقه:

ــ المؤمنة خجولة، هادئة، لا ترفع بصرها... وغالبًا ما تكون محجبة.

ابتسمت الأستاذة بحكمة العارف، وقالت بنبرة عميقة تحمل قدراً من العتاب الهادئ:

ــ لكن، يا عبد القادر، ما ذكرته كله لا يعدو كونه سلوكًا اجتماعيًا خالصًا، حتى الحجاب ذاته، سلوك اجتماعي مقصده الحشمة والحياء... سلوكٌ يتشكل في قلب التربية والموروث الاجتماعي للفرد، وليس عبادة مستقلة بذاتها، مَنْ ارادت ارتدائه فلها، ومَنْ لا، فلا يحق لنا ان نرميها في النار ونصفها بأقسى العبارات.

ساد بينهما صمت قصير، كأنما المكان يحتبس أنفاسه، فيما كانت الأفكار تتقاطر في ذهن عبد القادر، تطرق بحدة أسوار معتقداته.

قال بصوت يتهدّج بين اليقين والتحدي:

 ــ أليس الحجاب فرضًا قطعيًا؟ أولم يرد في القرآن: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)؟

رمقته بنظرة يختلط فيها الصبر بالحزم، وقالت:

ــ نعم، وردت الآية. لكن ألا تعلم أن الجيوب هي فتحة الصدر؟ وأن" ليضربن" تعني تعديل هيئة اللباس بما يصون، لا أن تُفرض طبقات من القماش دون وعي أو بصيرة؟ الدين ليس قيدًا يُصاغ على هوى من يشاء، ولا قالبًا جامدًا تتوارثه الألسن دون أن يمر بالقلب والعقل.

ابتسم ساخرًا:

ــ أهو الدين كما ترغبين؟ وفق الأهواء؟

ردّت بصوت متزن يحمل دفء الإيمان وصرامة الفكرة:

ــ لا، بل هو دين يُؤخذ بعقلٍ نيّر، لا بعاطفة مضللة. أولم يقل سبحانه "اقرأ"؟ لم يقل: اتبع وقلّد، بل اقرأ، افهم، تدبّر... الإيمان دعوة للعقل قبل أن يكون تقليدًا أعمى.

تململ في مقعده وقال بتوجس:

ــ ولكن بهذه الطريقة يضيع الدين...

نظرت إليه بعينٍ تتقد بثقة المعرفة:

ــ لا يضيع الدين بمن يسعى لفهمه، بل يضيع حين يُسلَّم للجهلاء، حين تُستقى أحكامه من أفواه كل من هبّ ودبّ. أما من يجتهد بمنهج وبصيرة، فإنه يقترب لا يبتعد. ألم تقرأ: "فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"؟ اقرأ القرآن الحي بقلبك كما تقرؤه بعينك، دع قلبك دليلك لا قلوب المتجمدين الذين يرون في الدين مظاهر، ويغفلون عن جوهر الرحمة والهداية.

سألته فجأة، بابتسامة مشاكسة تخبّئ شفقة:

ــ هل تحفظ من القرآن شيئًا؟ وأعني شيئًا يتجاوز السور القصيرة...

تلعثم، ثم استجمع ذاكرته المتواضعة وقال:

ــ نعم... آية الحجاب: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن..."

شجّعته:

ــ أحسنت، أكمل الآية...

نظر في الفراغ قليلًا، ثم قال باعتذار:

ــ لا أذكر...

فأكملت له، بصوت امتزج فيه الحنان باليقين:

ــ "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين..."، أتدري؟ الغاية من إدناء الجلباب لم تكن عبادة شكلية، بل حماية من أذى اجتماعي، ولذا لم يرد ذكره في أركان الإسلام الكبرى. فالعبادات لا تُقاس بظاهرها بل بمقاصدها.

قال بحدة خافتة:

ــ لكن الشرائع فرضته...

هزت رأسها وقالت بهدوء الواثق:

ــ الشرائع اجتهادات بشرية، قابلة للأخذ والرد، ولذا هم يختلفون، بل يكفّر بعضهم بعضًا. سمعت ذات مرة جدالاً محتدمًا بين رجلين حول هيئة لباس الرجل: أحدهم يرى أن يرتفع الثوب عن الكعب شبرًا، والآخر يصر على خمسة عشر سنتيمترًا! بالله عليك، هل اختُزل الدين في خمار وثوب؟ الإيمان عماده القلب، وأركانه الخلق، وثمرته العمل.

اعتدل في جلسته، كأنّ ما سمعه بعثر شيئًا بداخله وأعاد ترتيبه.

قال بنبرة متحدية:

ــ الدين جاء ليُطاع، لا لِيُفلسَف، والحجاب وجوبٌ لا مجال فيه لتلك التأويلات.

أجابته بثقة:

ــ ومن قال لكِ إن الحجاب مجرد قطعة قماش تغلّف الجسد؟ الحجاب ينمو في الروح قبل الجسد.

قال، بعد تردد:

ــ لكن... هذا ضياع وتحلل، والحرية قد تؤول إلى انفلات، والعقل يضل إن لم يُقيده الشرع.

ابتسمت، وفي عينيها ضوء يشبه الفجر:

ــ بل هو الجمود على ظاهر النصوص دون فهمها.

الحرية نورُ العقل حين يهتدي بالله وبكتابه.

قال تعالى: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"

والحرية الحقة أن نؤمن لأننا اخترنا، لا لأننا أُكرِهنا.

أما التكفير الذي يعتليه خطباء المنابر صباح مساء، فهو ما يُضل ويؤدي الى الفتنة، لا الحرية.

اقرأ إن شئت: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..."

سألها وقد بدأ فكره يتأرجح بين ما اعتاده وما يسمعه:

ــ يعني، هل العقل فوق النص المقدّس؟

أجابته بثبات:

ــ العقل خادم النص ومصباح فهمه، لا خصمه.

والله تعالى يأمر عباده بالتدبر والتفكر قبل الاتباع، لا العكس: (قل هذه سبيلي ادعوا الى الله على بصيرة)، (افلا تعقلون)، (فتدبروا يا اولي الالباب).

فيا عبد القادر، الإيمان بحاجة إلى التدبر والتبصر والحوار.

نظر إليها مستفهمًا:

ــ هل تخصصتِ في أصول الدين؟

ابتسمت قائلة:

ــ لا، وأنت تعرف تخصصي.

لكن فهم الدين ودراسته ليست حكرًا على جنسٍ أو جماعةٍ دون غيرها.

ساد بينهما صمت...

لكنه لم يكن صمت الختام، بل بداية تفكر.

قالت وهي تنهض:

ــ أنا دائمًا متوفرة إن رغبت بمواصلة الحوار، وأتمنى أن أراك في القاعة مع بقية الطلاب غدًا.

أجابها بهدوء:

ــ إن شاء الله، يا أستاذة

**

سعاد الراعي

 

ها أنا ذا أتخطى فيخطو العمر

أمامي وخلفي

يقتفي أثري

لم أعد أطيق السير الوئيد

وأنا أحمل أثقال الأعوام اليائسة

وأدور حول الممرات

لكي أتحاشى العثرات

أنا الذي صرت في الثمانين كهلا

أردد نزوات الصبا

وأعد تجاعيد وجهي

الذي أضحى

لا يشبهني أبدا

كنت في أعز الشباب

أدرب نفسي

على عقارب الساعة

التي لا تعود الى الخلف

عند الاعتدال الخريفي

*

لا أخاف من أنام

ولا أصحو

في الليل أتحدث مع نفسي

وفي النهار أتشاجر مع ظلي

ثم أتساءل:

من منا اختار الآخر

*

أمضي شيخوختي

في مطاردة أحلامي الهاربة

وأعيد ترتيبها

وتدوينها في آخر صفحة من حياتي

فالعمر كجسر متمايل

يدهمه المد والجسر

ولا يمكن عبوره

الابشق الانفس

*

عدت الى هذياني من جديد

وخلال غيابي الافتراضي

تعمدت ألا أكتب حرفا واحدا

عن مسار حياتي

لكن فكرت

أنه ليس لدي أفضل

من ايقاظ خربشاتي

من سباتها العميق

واذا كانت القوافي

لا تسمح بذلك

فسأضبط ميزان الحرارة

ولو درجة واحدة

من الزمن الضائع

الذي سقط سهوا

على مشارف أرذل العمر

أما الموعد المؤجل

لذلك اللقاء الأخير

على الضفة الأخرى

فسوف يتعذر علي

تجاوز تضاريسه الوعرة

بخطى واهنة

ورأس مثقل بهموم الدنيا

ومتاعب العمر الطويل

***

بن يونس ماجن

 

إهداء إلى:

 أبي ومعلمي وصديقي (رحمه الله)

***

كبيرا كنت هنا يا أبي

لا أحدا يعرفك!

وطني الهوى عاشق السلم والمعترك

تقارع (رجعية) الفكر

(ضباط أحرار) جئتم

لإجلاء وجه الحَلَك

و(صنعاء) يصنعها الجهلُ والداء

عاصمة للحصار

محطة نار

صهرتك معارك تلك الأراجيز

خيط أصابع شيخ القبيلة

حرب مطوَّلة بعقال الملِك!

جرحتك سهام الأخوة والقادة العملاء

فما فَتَّ غدر الصغار صدى ثورتك

***

غادرت مسرحهم

مشتعل الرأس قومية

تجاعيدُ وجهك تنشق من وجهتك

ومنجلُ حزنٍ يحصد شريان قلبك

وطنيٌّ ويطرحك الدَّين من أول الشهر

عند استلام المسمى مرتب

أيا أبتي

كنت الجميل الجميل برسم وحبْك الحكايا

وحفظ القريض وقول الطُرَف

ترمم هذا الخراب وأوجاعنا بالضحك

***

ألمح طيفك بين الزوايا وكل جهاتي

في غرفة النوم

في الحوش

نافذة البيت

فوق السطوح

على الشارع العام

بين الزحام

ووقت الطعام على ساعتك

***

حزن خفي تسرمد في خافقي

أحال صباحي مريرا

ما زلت أذكر كيف تهجيتُ حرف البداية في عالمي

كنتَ تقود خُطايا على سطر قلبك

تمسح كامل قبحي بأهداب عينك

وصرتُ كما قلتَ للناس: نسخة أصلك

غدوتُ الرفيق اللصيق على متكئك

أدرك قسوة دربك

أحفظ أحرف طِرسك

سِفر زمانك

وأفهم إيماء جرحك

أحن الآن إليك لتصفع طيشي

فأزهر من حكمتك

أحن لهيبة صوتك

شدة نهْرِك

***

آهٍ أبي

قضيتَ الحياة خفيفا

فوق بساط البساطة

ورحلت بصمت

مضيت عزيزا حتى بموتك!

ها أنا ذا

أقرأ مشهد صبح رحيلك

على ما تبقى من حقل عمري

لحظة جئتُ إليك بكل انكساري

أقسم أني رأيتك مبتسما لي هُنيهة

كأن يدَ الله ألقت بشارتها

كأنك من خلفها

تُضمد جرحي

تخبر لا شيء غير صفاء السماء

محتفيا بقدومك

***

نجيب القرن - اليمن (تعز)

نحنُ الذين يخشى الموجُ

سيرنا فوقهُ

العارفُ انا لا نجيدُ العومَ

ونحنُ الذين نعبدُ نواصيَ الجبالِ

خشيةً من اربابٍ تعشعشُ فوقَ

القممِ

لنا مهدٌ يدٌ من السماءِ تحرسهُ

تسيرهُ للنجومِ والملائكةُ ترضعهُ

نحنُ سلالةٌ ودوحةُ افلاكٍ

تنثرنا الزنابقُ جنةً وملاكاً

وانتَ يا عبدَ الله

اني اعرفُ سيروةَ مبايعتكَ

لشرقيتكَ المأزومةِ بالقدرِ

كم انجبتَ من عبيدٍ يا عبد الله

واكتويتَ بنيرانِ الفتنِ

تداعياتِ اوهامِ المجونِ

يا عبدَ الله اما آن لهذا الخرسِ

النطقُ والبوحُ

انتَ في الصدقِ الامينِ المبجلِ

مزقْ اغمادَ سيوفِ عشيركَ

احرقْ دروعاً لم تحمكَ قروناً

دعْ زيفَ فروسيتكَ

اصدحُ بصوتكَ خارجَ المآذنِ

ما عادَ الصدى ينقلها معَ الريحِ

يا عبدَ الله

ارضنا الجميلةُ غدتْ بوراً وجمراً

وعرجوناً نحتطبُ بهِ

وفجاجةَ رسائلٍ ارسلناها كذباً

وجوارَ سليبةٍ ما زالَ عارها يطاردنا

يا عبدَ الله

دعْ كتبكَ وازميلكَ وتلمودكَ

في تنانيرِ الاحتراقِ

خذْ غصناً وجديلةَ طفلةٍ

وحينَ ينادونكَ يا عبدَ الله

قلْ غيرتُ هويتي الى بايدن او ترامب

لقد رأيتُ اسماءَ عشيرتي

استبدلتُ بهذهِ الاسماءِ

يا عبدَ الله

تحتَ اسمائكَ المبجلةِ

تباعُ الاوطانُ باسواقِ النخاسةِ

يا عبدَ الله

اردعْ شعراءَ الزورِ والبهتانِ

الذينَ ينظمونَ القصائدَ

باسمكَ واسمِ الاولياءِ الصالحينَ

هاتفونَ معَ مَنْ يهتفُ

عاشَ البلاطُ عاشَ الطغاةُ

يا عبدَ الله

اني رفضتُ هويتي المسماةَ باسمكَ

لقد انشدتُ أني عبداً للحريةِ

وحاديَ قوافلِ الاحرارِ

ومسيرتي تحتَ نصبِ الحريةِ انبثاقٌ

***

عبد الامير العبادي

ليلة أمس...

زارني في المنام

كان يرتدي بياض النقاء

وبعضا من نثار ألق

يهزُّ راسهُ باسماً

يومئُ للوقتِ أن يعود

فوجئتُ بهِ في مكتبي يَلمُّ ثنايا الفراق يمسحُ على صدرِ القصيدة

بنواحِ (الخنساء)

لم أرَهُ منذُ ذلكَ الرحيل الذي قارَبَ عَقدهُ الرابع

افتقدتهُ هناك في سواتر المحنة وندّاهات الأرق

حيث كان الأُفق دخاناً وناراً وصواعقَ موت

ها أنا أراهُ عائداً للتَوِّ

مبتور الساقَين

لم أخبرْهُ عن ساقَيهِ اللتَين دفنتا في الأرض الحرام

هٌوَ لم يسأل عنهما

نَضبت الحروف

تَلعثمَ المَدى

لم أسألْهُ عن نزفِ الرحيل

فقد رأيتُ جنون الحرب بأمِّ عَيني

وذاكً الحصاد

بكيتُ حينما سألني عن مَصير (مُفكّرتهِ) كان يدوّن فيها التواريخَ المُشوّهة وذاك الوجع

أجبتُهُ مُضطربا:

سرقوها أبناء ...

أشاح بوجهة

رمقَ السماء بنظرةٍ حًيرى

وغاب

صرختُ وراءَهُ بأعلى صوتي

لا تبتئس

ما زلتُ أحفظها

عن ظهرِ قلب

***

نص/ شلال عنوز

النجف ٢٣ نيسان ٢٠٢٥

أرى صحبةَ الأطفالِ والنهرَ والنخلا

فأعدو، وظلُّ النخلِ يحسبُني طفلا

*

هنا كنتُ يوماً حالِماً بِصبيةٍ

واِشراقُها: بَدرُ البدورِ اذا طلّا

*

أتتْ في ذرى الأياِمِ تُشعلُ شمعةً

لِيحملَها لوحٌ الى النهرِ مُبتلّا

*

فتجمعُ بينَ الماءِ والنارِ لوحةٌ

وتشتبكُ الجَنّاتُ في جِنَّةٍ أحلى

*

أنا ابنُ ذيّاكَ الجنونِ: زوارقٌ

يُغنّي بها الملّاحُ في طورِهِ الأعلى

*

يُغنّي وينسى الناسَ، جمهورُهُ السما !!

فيهرعُ خِلٌّ كي يلاقي بها خِلّا

*

وتنبتُ للعشاقِ أجنحةُ الهوى

فتعقدُ ما بينَ النجومِ لها وصلا

*

يقولونَ: أصلُ الماءِ نارٌ وقد ذَوَت

وجاءَ ضرامُ الحُبِّ يوقدُها شَعْلا

*

يقولونَ: أصلُ النارِ ماءٌ وقد هوى

فعادَ، وعادَ الوجدُ كي يُصبحَ الأصلا

***

شعر: كريم الأسدي

لملمتُ صبري حين أطفأكِ القدرْ

وسرى الحدادُ، وكادَ ينفطر الحجرْ

*

ما كنتُ أرجو أن أراكِ فقيدةً

فالحزنُ – حين يمر ذكرك – يستعر

*

يا من زرعتِ الطهرَ في خطواتِنا

وسقيتِنا خلقًا كما يُسقى الزهرْ

*

أعطيتِنا نور الوفاء وإن مضت

أيامكِ كالعطر داهمها القدر

*

لا لن أصدق أن يومك قد أتى

فالصمت يذهلني وحزني كالمطر

*

يا زهرةً مرّتْ كطيفٍ ناعمٍ

وغفتْ وظل وراءها الذكر العطر

*

إياكَ يوما أن تنادي صغيرَنا

تأبى جراحُ القلبَ أن تُبدي الضجرْ

*

واليوم تبكيكِ القلوب بصمتها

في حضرة الوجدان إن حضر الخبرْ

*

وعمود بيتك في الملمّة صابرٌ

لكنه في النفس جرحٌ يستمرْ

*

يبدو عليه الصبر دون تذمرٍ

وعلى المحيا لوعة لا تنحسرْ

*

رحلتِ وذكراها تبقّت روضةً

ما مات من جعل المحبة تنتشرْ

*

قدرٌ وما أقساه جاءك غفلةً

قدرٌ وإن صاحبته بك قد غدرْ

*

خطفتكِ لحظة غربةٍ لم تمهلي

حتى وداع العابرين على الأثرْ

*

باتت مودةُ والبراءةُ حولها

تبكي، فلو حجرٌ رآها لانكسرْ

*

وتطل من عيني حسين دموعه

دمع كأيام التباعد ينحدرْ

*

حسن إذا ناديته، لم يستجب

إلا بكاء الصمت في قلبٍ فطرْ

*

قد كنتِ نبع الحب فاض حنانه

فعجبت من نبع تباعد وانحسرْ

*

كم من طموح كنت تبنين الرؤى

فيه، ويزهر كل فجرٍ إن ظهرْ

*

لكن ما اختار الإله لنا قدر

نرضى به والعين بالدمع انحدرْ

*

كانت تعد فصول حلم ناضر

فإذا به حلم يباغته القدرْ

*

وتعد عدتها ليوم قد أتى

كالعيد لكن لا هلال ولا قمرْ

*

سحقًا لعهد قد تقضى مسرعًا

هذي هي الأيام تركض كالسفرْ

*

لبت نداء الغيب قبل سؤاله

شوقًا إلى رب كريم قد غفرْ

*

فارحم إلهي من أرادت رفعة

في العلم لكن كان باغتها القدرْ

*

واجعل جنان الخلد مسكنها فقد

زرعت ثمار الخير زرعًا فأزهرْ

*

واجعل لزوجٍ عاش يحفظ ودها

صبرًا، وفي أبنائها كل الظفرْ

*

واحفظ "مودة" من شتات بعدها

واجعل "حسينًا" جابرًا ما قد كسرْ

*

وامدد إلى "حسن" عناية خالقٍ

إن سار يومًا أو أقام أو استقرْ

***

د. جاسم الخالدي

حَلَّ الفِرَاقُ وهَلْ أُفَارِقُ كَوثَرَا

وَعَلَيَّ بَعدَ الصَّبرِ أنْ أَتَصَبَّرَا

*

وَ حَبِيبَتِي يَا أهلَ كِنْدَةَ عِندَكُمْ

مِنْ نَأيِهَا قَد بَاتَ مَوتِي أيسَرَا

*

لَيتَ الدِّيَارُ بِجَنبِ دَارِكِ شُيِّدَتْ

مَا شَاءَتِ الأَقدَارُ أَنْ نَتَجَاوَرَا

*

وَ لَقَد أَتَيتُكِ واللَّيَالِي أَثقَلَتْ

هَمِّي فَعُودِيْ واِسأَلِينِي مَا جَرَى

*

اليومَ طَيفُكِ فِي المَنَامِ أَحَبَّنِي

فَشُدِهتُ مِنْ قَولٍ أَجَنَّ وأبهَرَا

*

وَ جَلَستِ قُربِيْ ثُمَّ حَاذَى ثَوبُكِ

ثَوبِي ومِنْ عِطرِ الثِّيَابِ تَعطَّرَا

*

وَ جَلَستِ قُربِيْ والعُيُونُ تَهَلَّلَتْ

وَ سَمِعتُ هَمسَكِ يَا حَبِيبِي هَل تَرَى

*

فأفَقتُ مِنْ حُلُمٍ يُبَايِنُ صَحوَتِي

أبدَيتِ فِيهَا أنْ أُحِبَّ فَأُنفَرَا

*

إنْ كانَ طَيفُكِ فِي المَنَامِ يُحِبُّنِي

لَيتَ المَنَامَ يَطُولُ عَنكِ تَأَخُّرَا

*

خُيِّرتِ فِي حُبِّي فَغَيرُ مُحِبَّةٍ

أمَّا لِحُبِّكِ بِتُّ فِيهِ مُسَيَّرَا

*

فَتَرَكتِ حُبًّا تَاهَ عِندَ رَحِيلِكِ

وَ قَتَلتِ قَلبًا فِي هَوَاكِ تَأَسَّرَا

*

وَ قَتَلتِ قَلبًا لَيسَ يَرجوْ غَيرَكِ

فِي غُربَةٍ أَضحَى وَحِيدًا عَابِرَا

*

وَ إذَا سُئِلتُمْ لَا تَقولِي إنَّنِي

قَد كُنتُ فِي سَعيِيْ إلَيكِ مُقَصِّرَا

*

و إذَا شَجَانِيْ مَنْ أُحِبُّ لَبِعتُهُ

لَكنَّ مُثلَكِ لَا يُبَاعُ ويُشتَرَى

*

حَتَّى إذَا نِلتُ الأَذَى مِـن حُبِّكِ

سأُحِبُّكِ وأُحِبُّكِ لَنْ أَضجَرَا

***

عباس القسام

في مساءٍ رماديٍّ خنقه صمت المدن المنكوبة، وقف الشاب (سلمان) على عتبة ساحة صغيرة، وسط زحام العابرين، وقلبه ينبض بكلماتٍ ثقيلةٍ كالحديد. لم يكن في نيّته النجاة، ولا أن يكون بطلاً أو شهيداً في معارك خاسرة، بل أراد أن يقول الحقيقة .. أن يُسمعها مرةً واحدةً، بوضوحٍ، قبل أن تُطمر تحت الركام.

رفع سلمان صوته عالياً، متحدياً الجدران التي تسمع ولا تُجيب:

كفى… كفى ظلماً. لقد ذبحتم الحريّة على مذابح الخوف، توّجتم الرعبَ ملكاً، وزرعتم في صدورنا صمتاً يشبه القبور .

في لحظة خاطفة انقضّت عليه أذرعُ الظلام. رجال بملابس سود وأقنعة أكثر سواداً حتى كلمة (فدائي) على الجباه كانت كالحة. وجوه تحيط به من عتمة الليل، العيون هي الوحيدة المكشوفة كأنها جمرات تتطاير شرراً، لم يقاوم الكتل التي أحاطت به، كانت تحمل قلوباً من حجر، ليس لها صدى سوى أنفاسها الثقيلة، يقفون بثبات عجيب، كأن الهواء ينحني لهم، والجدران ترتعد من رهبة حضورهم… المشهد كله مشدود كوتر قوس، يوحي أن العنف قادم، لا كغضبة عابرة، بل كقصاص مكتوب من عهد سومر..   يعلم سلمان أن الكلمة الحرة ثمنها غالٍ في ممالك القهر .

سكاكين حادة تلمع، ربما تلهث متعطشة لسفك الدماء، للانقضاض على الكلمات قبل أن تولد، تتكاثف العتمة حول الرجال السود، كأنها جزء منهم، أو كأنهم خلقوا من نسيجها، خطواتهم بطيئة، محسوبة، كأن الأرض نفسها كانت تخشى أن تنطق، فرضت عليها طقوس الصمت .

شرارات متتالية كانت تتطاير من جحيم داخلي، تراقب أية حركة، السكاكين في قبضات هؤلاء ليست مجد أدوات معدنية، بل امتداد لطبيعتهم، نصالها حادة، يشعّ من حوافها وهج نار .

قبل أن يساق للقصاص بدقائق، لم يسأل عن محامٍ، لم يتوسّل، ولم يلعن. جلس كمن يقبّل جراحه صامتاً، وفي عينيه سؤال واحد: “هل سمعوني؟”

رائحة عطنة تنتشر في الجو، مزيج من الخوف مع صليل السكاكين يوحي أن اللحظة التالية ستنفجر عنفاً، لكن أحد الجزّارين، ضخم الجثة، تقدم نحو سلمان ببرودة متناهية، كان جاثياً مكبلاً كذبيحة تنتظر النحر، مدّ الملثم يده، خشنة كلحاء شجرة عجوز، أمسك بفك سلمان بقوة، غاصت أصابعه في اللحم كأنها خطاطيف .

أدخل السكين في حلقه، ثم، بخبرة الجزار المتمرس، استخدم طرف النصل لرفع اللسان من قاعدته الأقرب إلى اللهاة، كمن يقلّب زهرة مذبوحة في مهب ريح، سحب اللسان بأطراف أصابعه، امتد نحو الله !!! إلى السماء، مستغيثاً، لكن السكين كان قد بدأ طريقه، تقطّع الهواء بثقل مرعب ثم ترنح اللسان على التراب. والدم خطّ على الأرض سيرة ما لاينسى.

صراخ سلمان، كان أقرب إلى العواء، تقوّس عنقه إلى الوراء بلا إرادة، الصراخ تحوّل إلى خرير مكتوم، كما لو أن الحياة كانت تنزف .

في مدينة سلمان، صار الناس يشيرون بأصابعهم إلى أفواههم المغلقة، ثم إلى قلوبهم، هذه الحركة تحولت إلى عادة تميز أبناء المدينة، وإشارة إلى الفهم الأعمق من الكلام. يتداولون وصيته الأخيرة كمنشور سري:

- انتم تقطعون اللحم، أما الحقيقة فهي تسكن في العظام.

- لا وطن حين يقطع اللسان، بل قبر واسع اسمه (صمت).

- الحقيقة تتناسل بين الشفاه المغلقة، تكبر في صمت المهمشين، وتنفجر يوماً كالنار.

- غداً ستحتاجون ألف سكين لقطع أصواتكم جميعاً.

***

جمال العتّابي

أَرجعُ من مقبرتي المساءْ.

أَدخلُ بيتي صامتا ً.

يَسمعُني الأطفالُ، يَفرحونَ بيْ؛

ملءُ يدي حلوَى،

وفي الأخرَى التي أخفيتـُها الوطنْ.

أنتـزع ُالكـَفـَنْ،

وزوجتي صفْـصافَة ٌواقفة ٌ في الريحْ.

تـُعِدُّ ليْ العشاءْ:

(تمتدُّ لي مائدة ٌ،

وفوقها عباءة ٌ سوداءْ.

أرفعُها عن جثـَّـةٍ مسلوبةٍ.

يـَختلط ُالطعامُ بالأشلاءْ،

والماءُ بالدماءْ).

يَصعدُ ليْ، من نخلةٍ نائيةٍ، صداعْ.

-:"لاتقلقي، عزيزتيْ!"

أحملُ للسريرِ، وحدي، غربتيْ.

لكي أنامْ،

أو لاأنامْ.

مُقابلاً حصانَ حربٍ صافنا ً،(١)

وراية ً مكسورة ً،

وخوذَة ً،

وسيْـفْ.

أيُّ عتابٍ بيننا!

والثلجُ في الطريقْ.

وصفوة ُالفرسانِ يَلبسونَ معطفَ الشتاءْ.

سيَّارة ُالإطفاءْ

ذاهبة ٌ.

آيبـــة ٌ.

وليس من حريقْ.

يُوقـِظـُني الضجيجْ.

وليس من أصواتْ.

أذهبُ للمقبرة ِالصباحْ.

***

شعر: عبد الإله الياسري

.......................

* الوزن الشعري على تفعيلة الرجز

عِنْدَمَا أَبْعَدْتِ أَلْوَانَ اَلْفَرَحْ

عَنْ عُيونِي

وَعَلَى ضِفَّةِ أَحْلَامِي اِنْسَفَحْ

نَهْرُ حُزْنٍ وَ ظُنُونِ

صَارَ  قُدَّامِيَ يَمْتَدُّ سَرَابْ

وَ غَدَا يَشْرَبُ أَوْقَاتِي ضَبَابْ

فَلِمَاذَا،

كُلُّ هَذَا؟

لَمْ تَقُولِي لِيَ شَيْئًا

وَأَنَا مَا قُلْتُ إِلَّا

لِمَ؟

كَيْفْ؟

هَلْ سَأَبْقَى أَشْحَذُ اَلْأَمْطَارَ

مِنْ غَيْمَةِ صَيْفْ؟!

*

ذَاتَ صُبْحٍ، وَدُمُوعِي تَتَرَقْرَقْ

لَوْنُ أَيَّامِكِ أَشْرَقْ

فِي دُرُوبِي وَتَأَلَّقْ

رَاسِمًا قَوْسَ قُزَحْ

صَارَتْ اَلْبَهْجَةُ حَوْلِي تَتَدَفَّقْ

وَأَنَا فِي عِطْرِ أَنْفَاسِكِ أَغْرَقَ

*

مَا اَلَّذِي يَحْصُلُ

إِنْ أَنْتِ ذَهَبَتِ

كُنْتُ أَسْأَلْ

لَمْ تُجِيبِي

فَسَأَلَتُ

مَرَّةُ ثَانِيَةً، ثُمَّ سَكَتْتُ

فَبَكَيْتِ

وَبَكَيْتُ

وَافْتَرَقْنَا

دونَ أَنْ نَنْبِسَ حَرْفًا

دُونَ أَنْ نَعْرِفَ إِنَّا

قَدْ خَذَلَنَا

وَخُذِلْنَا

***

شعر: خالد الحلّي

للطلاء ...

لكل ألوان الأحذية والمقاسات

وترقيع ما تفتق منها ارتأيت أن أمشي حافيا ليل العودة متاخراً جدا

ألا أنبه كلاب ليل الشارع

تنبح الذنب والخوف تضجر هي الاخرى من عواجل الحرب والدم

تشتبه  العائد منتصف السكرة

عواجل سكافي نيوز

مجاناً لكل القياسات

حتى قد كلفني الاختيار من  بين كل الأحذية

حتى ساعة أرق

سكران حين أرتشف خمرة نعسي

وحتى احضار فطور الصباح

قليل من الحليب فى

(دلة) فوار الحليب

سمعت عواجل من سكافي نيوز:

إن العراق تعرض لقصف شديد من الجاره؟

عدت للحليب كان قد فاض وخرب المتبقي

وإذا بعاجل آخر شديد لهجة

نتيجة القصف

أسفرت عن خسائر

أزرار فميص أحد الأصدقاء

كان قبل سويعات معي يحدثني عن قميص جديد .......

بعد الكاس الأخيرة

في البار الفلاني...

***

فلاح الشابندر

 

أبَتْ حروفُكِ

إلّا أنْ تَحفِرَ بنصلِ بَوحِها

وجهَ الحجرْ.

وفاقتْ في نُواحِها كلَّ البواكِي،

والنّادِباتِ،

حتى حفيفِ الشّجرْ.

دموعُكِ هذه؟

أم بحيراتُ شوقٍ

فاضتْ تسبقُ المطرْ؟

أيُّ لحنٍ

ينطقُهُ ناي حزنكِ

حتى يُدمي محاجرَ البصرْ؟

وداعٌ هذا؟

أم نزفُ قوافٍ

عند أعتابِ عشقٍ يحتضرْ؟

أم طبولُ حربٍ

علتْ أصواتُها

تنذرُ بالبلوى لمن هجرْ؟

فارسُ أحلامِكِ

ضلَّ طريقَ هداهُ،

أو لعلَّهُ في حيرةِ الخوفِ عثرْ.

لا تذرفي الدمعَ على ليالٍ

عانقتْ حلمًا باللقاءْ،

فلعلَّ صباحاتٍ مشرقةً

تلوحُ بفجرٍ مزهرٍ بالأماني

رغم فوضى الغياب ، وقسوة القدر .

***

جواد المدني

 

هؤلاء الذين يقفون عند الحافة،

لا إلى الضوء ولا إلى الظل،

لا يزرعون، ولا يحصدون،

يرتدون قميص "ربما"،

ويعلّقون أعمارهم على شماعة "لاحقاً".

*

يمشون بخطى مترددة.

خشية أن يوقظوا رغباتهم،

يشربون الماء قطرة قطرة كمن يخشى أن يُبلّل ذاته.

يتنفسون بنفس متقطع ،

كأن الحياة لا ينبغي أن تلاحظ وجودهم.

*

في رؤوسهم مدينة قديمة،

أسوارها من أسئلة دون أجوبة،

وفي قلوبهم سلال من “لو”،

وأحلام ملفوفة في مناديل الاعتذار.

*

يعرفون الطريق،

و يخافون أن يكونوا نسوراً،

و يفضلون أن يكونوا طيورا مدجنة .

يكتبون أسماءهم على الرمل،

ثم يمحونها بأنفسهم.

*

ينامون قرب نواياهم المؤجلة،

يحضنون رغباتهم المهجورة،

ويربتون على أحلامهم الباهتة

كأنها قطط شاردة لا تستحق الدفء.

*

يعيشون في تلك الفجوة اللزجة،

حيث لا شيء يُثمر،

ولا شيء يموت تماماً.

*

هم الذين لا يكونون،

ولا يختفون.

أطياف في مرايا الآخرين،

صدى لأصوات لم يطلقوها يوماً.

*

ينظرون الى الأبواب،

لكنهم يخافون المفاتيح.

ينبهرون بالطيران،

لكن أجنحتهم مصنوعة من "ماذا لو؟".

*

إنهم لا يخسرون،

ولا ينتصرون،

لا يبكون،

ولا يضحكون بصوتٍ عال،

كأن مشاعرهم مزوّدة بكاتم صوت.

*

ليسوا شجعاناً بما يكفي

ليكونوا أنفسهم،

يلبسون أقنعة حسب المناسبة،

وينسلّون من الحياة

كما ينفلت المعنى من جملة مهجورة.

*

أراهم في المرايا المغبّشة،

وجوه بلا ملامح،

يمضون في الازدحام

كأنهم لا يريدون أن يُلاحظوا،

كأن الضوء عدوّ،

والصوت جريمة،

*

أحلامهم بلا صوت ،

كأنها نُطقت في زمنٍ آخر،

بفمٍ ليس لهم.

وكلما اقتربوا من أنفسهم،

تراجعوا،

خشية أن يروا الحقيقة عارية

*

يجلسون عند نوافذ الآخرين،

يتنصّتون على الحياة

من خلف الزجاج،

ينتظرون أن يدعوهم أحدٌ للدخول،

ولا يدركون أن الأبواب

لا تُفتح إلا لمن يطرقها بشغف.

*

يلبسون الأسماء كمعاطف مستعارة،

يضحكون بنصف وجه،

ويحبّون بنصف قلب،

كأن اكتمالهم جرم

والنقص فضيلة.

*

تراهم يصفّقون لكل العابرين،

يهلّلون للخيارات التي لم يختاروها،

ويشعلون الشموع للطرق التي لم يسلكوها،

كهنة الاحتمال،

وعبّاد التأجيل،

وملوك الـ"ربما".

لكن الحياة لا تُعطى

لمن ينتظرها

كهدية مجهولة.

ولا تُمنح لمن لم يجرؤ

أن يُخيف نفسه قليلاً

ليعرف ما فيها.

***

مجيدة محمدي - تونس

 

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

ابنُ "أَزَمُّورَ"، مدينةِ الزَّيتونِ البرِّيِّ.

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

اُنتُزِعتُ من جُدرانِ مدينتي العتيقةِ،

كُتلةَ طينٍ مَغربيٍّ مُمَزَّقةٍ،

من ضِفافِ نهرِها البارِشِ،

الذّي لم أُودِّعهُ يومَ خُطِفتُ صبيًّا،

غَنيمةً من غَنائمِ الغُزاةِ،

مُكَبَّلاً إلى مَصيري البَعيدِ.

*

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

لقُرونٍ، دُفِنَ اسمي،

سَمَّوني "اِستيفانيكو"،

نادوني "إستيبان"

ونَعَتوني بالأسود العربيَّ،

لَقَّبوني بابنِ الشَّمسِ و"عبدِ الدُّورانتسيِّ".

*

في الأَسرِ البَعيدِ،

تاهَت قدمايَ فوقَ رِمالٍ غَريبةٍ،

عَبَرتُ خُلجانًا بعيدةً،

عايَشتُ أعتى العَواصِفِ،

تَسَلَّلتُ بين التَّاريخِ،

ظِلاًّ هائِمًا يَبحثُ عن وطنٍ.

مَشَيتُ بين الغاباتِ،

روحًا ضائِعةً تَئِنُّ في الرِّياحِ.

*

رَحَّبَ بي أصحاب الدّار الذينَ لَفَظوا الغُزاةَ،

رَأوا في وَجهي مرأة،

وفي كَلماتي جِسرًا،

و يومَ دُوِّنَتِ الحِكاياتُ،

أُهمِلَت حِكاياتي،

هُمّشت بُطولاتي،

لكنَّني أعتى من تحريفاتِ الأقوياء،

و أمتنَ من هامشٍ في أرشيفاتِ "نارفييز".

*

فها أنا اليوم،

قَصيدةٌ تَتَرَدَّدُ مِن جديدٍ على شِفاهِ الرِّياحِ الصّادقة،

رِوايةٌ تَنسُجُها الأَمواجُ المُعاكِسَة،

تَنثُرُها على شَواطِئِ "أَزَمُّورَ"،

التي خُطِفتُ منها صغيرًا،

تُعيدُني إلى أَحراشِ الزَّبُّوجِ،

وإلى اسمي الذي حُرِمتُ منه في سجلّات المحو.

فسجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

ابنُ "أَزَمُّورَ"، مدينةِ الزَّيتونِ البرِّيِّ.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

مازلتِ في أعماقي!!

تتَوسدِين الشغاف

كل ما لاح لي طيفك

تبزغ تراتيل الوحدة

أنَّات فراق  في الروحِ

مازلت في أعماقي!!

تمسحين ببحة صوتك الخجول

أنَّات أحزاني المتراكمة ..

ونبرة الحياء فيه

تسكب الألوان في كل الأشياء التي

أضحت باهتتة

ولازالت خطاي تتعثر

كطفل اخذ منه الجوع مأخذ

على أعتاب مسجد

كل ما جال في خاطري

ذالك الممر الذي قادني إليك..

تاسرني الوحدة

أصرخ لآنس بالصدى

أتراني لازلت أبحث عبثاً عن ظلي ...

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

وَأَنَــــا بِــإِدْلِـبَ أَشْـــرَبُ الـنَّـرْجِـيلَةْ

خَــطَــرَتْ بِـبَـالِـي دَمْــنَـةٌ وَكَـلِـيـلَةْ

*

فَـشَـطَحْتُ حَـتَّـى جِـئْـتُكُمْ بِـرِوَايَـةٍ

أَحْــدَاثُــهَــا مَــحْــبُـوكَـةٌ كَـفَـتِـيـلَـةْ

*

(هَــبَـةٌ) أَنَـــا يَـــا صَـاحِـبِـيَّ تَـرَيَّـثَـا

مَــــا أَعْـجَـزَتْـنِـي فِــكْـرَةٌ أَوْ حِـيـلَـةْ

*

شَاهَدْتُ شَخْصًا لَمْ يَرُقْ لِي شَكْلُهُ

لَـــــهُ لِــحْــيَـةٌ مُــغَــبَّـرَةٌ وَطَــوِيـلَـةْ

*

فَـظَـنَـنْـتُهُ مِـــنْ قُـنْـدُهَـارَ وَخَـلْـفَـهُ

تَـمْـشِـي فَــتَـاةٌ كَـالـخـيال هـزيـلةْ

*

وَأَظُـنُّـهَا إِحْــدَى الـسَّـبَايَا عِـنْـدَهُمْ

قَــــدْ صَــيَّـرُوهَـا عَــبْــدَةً وَخَـلِـيـلَـةْ

*

كَــمْ يَــا تُــرَى فِـي مِـثْلِهَا مَـنْسِيَّةٌ

مِــنْ مُــدَّةٍ غــرف الـسُّـجُونِ نَـزِيلَةْ

*

(هَــبَـةٌ) أَنَـــا أَوْ شَــهْـرَزَادُ جَـدِيـدَةٌ

قَـصَـصِي وَلَـوْ شَـطَّ الـخَيَالُ جَـمِيلَةْ

*

أَيْــنَ الـحُـكُومَةُ يَــا تُــرَى مَـوْجُـودَةٌ

تِــلْـكَ الـظَّـوَاهِرُ لَــمْ تَـعُـدْ مَـقْـبُولَةْ

*

تُـرْخِـي الـعِنَانَ لِـكُلِّ طَـالِبِ شُـهْرَةٍ

وَالــكَـذِبُ بَـــاتَ طَـرِيـقَـةً وَوَسِـيـلَةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

كانت ليلة مسهدة، تكتنفها غلالة من الغموض الكثيف. شوارع المدينة خاوية تمامًا، يكاد الصمت يندفع في أرجائها، كأنه صرخة مكبوتة تحاول التحرر دون جدوى. أضواء أعمدة الشوارع المتراصة توشك أن تذوب في وشاح السواد، تاركة بريقًا باهتًا فوق الأرصفة المغطاة بزينة حزينة من صقيع الشتاء.

وفي السواد تلألأت النجوم كمصابيح ساهرة، فيما ارتقى القمر في وسط السماء كأمير متوّج، يشهد برودة الليل دون أن يبث دفئًا، ومع ذلك، كان يبدو أن هذا الصفاء يشي بشيء قادم؛ كأنه مسرحٌ لا يزال الستار مسدولًا عليه، بانتظار مشهد جديد.

وفي الأفق، بدأت سحب سوداء كثيفة بالتمدد شيئًا فشيئًا، وكأنها تزحف لتلف قمم الجبال برداء مأتمي قاتم، وفي سماء مترامية الأطراف، تتكاثر الغيوم باطراد، وإذا بهزيم الرعد يدوي في سماء الليل، كما لو كانت الأرض تقاوم بصراخها شرارة البرق الساخنة التي بدأت تختفي آثارها. ولم يلبث الأمل المتوهج في البداية إلا أن انكسر كزجاج هش، ليتحول إلى رماد متناثر فوق موجات اليأس المتلاطمة.

إن انهمار الأفكار المتشابكة في طقس تغمره غلالة من الضباب الكثيف، يحجب أفق الأمل وكأنه يفرض جدارًا بين الروح وبين بصيص النجاة، يجعل استيعاب ملامحها أشبه بمحاولة التقاط ظلال تتراقص في العتمة.

وبينما تتداخل المشاعر الحزينة، التي تتدفق ببطء إلى زوايا الحياة التي كان يُفترض أن تكون ملاذًا للهدوء والجمال، يتحول إلى طوق ثقيل حول عنق الطاقات، يدفعها بلا هوادة إلى غياهب العبثية، حيث تفقد اتجاهها وتغرق في تيه بلا نهاية.

بين أهداب العيون التي خفت بريقها بفعل الزمن، تنهمر دموع الحزن والألم، تنساب معها ذكريات الماضي المثقلة بجروح لا تلتئم. على الوجه المحتقن تبدو علامات القلق والريبة، وتحت أجفان متورمة، يحل سواد داكن كحلكة الليل في يوم عاصف، حين تصطخب الرياح، مضطربة أعواد القصب في موسم نضوجها.

الأرض الرمادية، التي جففت أنفاسها رياح القسوة، تتخبط في دياجير البؤس العميق. انعكست أوزار هذا الجفاف القاتل على قلوب البشر، فتفشت فيهم آفة الإحباط، وانطفأت شرارات الإرادة في أعماقهم المظلمة، حيث ارتفعت أسوار اليأس وسُلبت القدرة على المواجهة، كأن الجفاف لم يمتص ماء الأرض فحسب، بل أطفأ معها نور الأمل.

وعلى الرغم من هذا الصمت المرعب الذي يخيم على الفضاء، فإن ضجيج الذكريات العائم على بحر من الألم يرتفع بين أمواج متكسرة كأنها ترقص رقصة حزن لا تنتهي، تتسارع تلك الإيقاعات بشكل مطرد ما تنفك تنتشر كصدى يتردد في واحة الصمت المقفرة، وكأنها تحاول كسره، لكنها تعجز عن إيقاظه من سباته العميق.

***

كفاح الزهاوي

أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي

واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً

موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ

*

خاصمْ سَماديرَ الرؤى

واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي

فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما

يكوي النُهى جمرُ السؤال

*

أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي

حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟

*

ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً

لِطيفِ الغامضِ المخفيّ

سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ

*

قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً

ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى

وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ

في قلبِ الرِمالْ

*

سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ

المَنايا والرؤى

وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى

للغيبِ والمجهولِ

والسِرِّ المُحالْ

*

أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا

مابينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ

وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ

عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ

*

أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ

أطْلقتْ أسمائَهُ

مُتَجَلّياً وَ مُعانِقاً

أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ

*

ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها

وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ

*

لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً

تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ

*

هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ

ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً

ذو الجَلالْ

*

لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ

وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ

وكم نَفَرَ الغزالْ

*

وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى

كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي

في تلابيبِ الجمالْ

*

فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ

البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ

فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ

ماءاً زُلالْ

*

لاتحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا

ما صارَ يُنْبوعاً

تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ

*

فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها

للعارِفينَ بِسرِّها

هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا

أثَراً تراءى كالظِلالْ

*

ياأيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً والمورياتِ على يقينِ الروحِ قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ

*

سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ

أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى

فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ

*

هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي

هيهاتَ لو عرفت إذن

ما كانَ أدركها الهُزالْ ؟

*

هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ

أشواقُها كَدموعها لا تنتهي

حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ

***

د.  مصطفى علي

 

بعد أن تنام الطيور،

تفردُ الكوابيسُ أجنحتَها

وتحلّق...

هي وحدها

تظلُّ سميري

في ليلةِ الوحشة.

*

أما أحلامي،

فتحلّقُ عالياً...

وحين تلتفتُ إليَّ،

تطبعُ قبلةً حانيةً

على رأسِ تلك الكوابيس،

عرفاناً بعنائها الطويل.

*

في عمقِ الظلمةِ،

تُبصرُ الأحلامُ ما لا نراهُ؛

تُدركُ أن وخزَ الكابوسِ

هو ما يمنحُ الطمأنينةَ معناها.

أو ربما هي، أحلامي،

تخشى على الكوابيسِ من البردِ،

فتمنحُها دفءَ القُبلاتِ،

كي لا تتجمّدَ وحيدةً

في صقيعِ الذاكرةِ والليل.

*

وهكذا تمضي ساعاتي،

بين سُمّارٍ من رعبٍ وأمل،

أراقبُ عناقَ الضدّينِ،

وأتساءلُ:

أيُّهما أنا... وأيُّهما خيالي؟

*

وقبلَ أن يغزلَ الفجرُ خيطَهُ الأول،

تنسحبُ الأشباحُ خجلى،

تاركةً خلفَها وشماً خفيّاً

على جدارِ الروحِ..

*

أستيقظُ... لا أدري،

هل كانت قُبلةُ الحلمِ عزاءً،

أم أن عناقَ الكابوسِ كان أصدق؟

*

ففي صحراءِ الوحشةِ، يا قلبي،

قد يصبحُ الوهمُ مؤنساً،

وقد يكونُ الألمُ نفسهُ...

دليلاً على أننا ما زلنا نحيا.

*

ولعلّ في هذه الندوبِ الخفية،

على جدارِ الروحِ،

ما ليسَ مجردَ آثارٍ للعذاب،

بل إشاراتٌ، خريطةٌ سرية،

ترشدُني إن تهتُ،

في الليالي التي لا قمرَ فيها.

*

فالكابوسُ، يا قلبي،

ليسَ دائماً عدوّاً،

بل قد يكونُ ظلَّ الحلمِ

حين يخشى أن يواجهَ الضوءَ وحده.

*

وبين الحلمِ والكابوس،

ينبضُ هذا القلبُ

كطفلٍ لا يعرفُ النوم،

لكنه يعرفُ كيفَ يصادقُ الخوفَ

ويغفو على كتفِه...

*

هكذا،

يمضي الليلُ بي

لا مستيقظٌ،

ولا نائمٌ،

أحيا في البرزخِ

بينَ يقينٍ يُوجِع،

وخيالٍ يُضمِّد.

***

د. جاسم الخالدي - بغداد

١٠/ ٤/ ٢٠٢٥م

 

كانت شعلة من نورٍ دافئ، لا تحترق لتُنير، بل تتوهّج حبًا وإيمانًا برسالة التعليم. حضورها لم يكن يستدعي الهيبة بسطوة، بل يغرس الاحترام في القلوب كما يُغرس الحب في الأرض العطشى. لم تكن أستاذة تقف على منصة لتلقّن، بل كانت تنزل إلى أعماق أرواح طلابها، تحادث عقولهم كما تحادث القلوب المرهفة، وتبني معهم جسور ثقة راسخة من ايمانها بان العلم حين يُزرع بالحب، يُثمر وعيًا لا يذبل.

وفي ختام إحدى محاضراتها، وبينما كانت تهمّ بمغادرة القاعة، استوقفتها صورة لا تُنسى: حشد من الطالبات التفّ حول طاولة يتوسّطها صمت ثقيل، في قلبه جلست فاطمة... تلك الطالبة الغامضة، التي لا يُرى منها سوى عيون تغزل الغموض من سواد حجابها الكثيف. كانت تبكي، بصمتٍ يكسّر وقار اللحظة.

تريثت الأستاذة بالمغادرة سعيا منها لمعرفة ما يحدث وانتظرت حتى غادر جميع الطلاب الذكور، راحت تراقب الهمس الذي دار بين الطالبات كأنه لغة لا تُفهم... إشارات مشحونة بعواطف عميقة، لكنها عصية على الإدراك بالنسبة لها. اقتربت برويّة، سحبت كرسياً، وجلست قبالة فاطمة، تنظر إليها بعين أمٍّ رؤوم. مدت يدها بلطف نحو يد فاطمة، علّها تواسيها أو تخفف عما يعصف بروحها، إلا أن فاطمة انتفضت، وانسحبت بجسدها إلى الخلف، وأدارت وجهها نحو الحائط، في رفضٍ صارخٍ لم تَعتَدْه الاستاذة من أيّ من طالباتها. وكأنها تقول بصمتٍ موجع: "ابتعدي... لا تقتربي الآن".

بُهتت الاستاذة من ردّ الفعل الغريب، فطالما أحاطتها طالباتها بالمودة والتقدير والاحترام. لم يكن ذلك مألوفًا لديها. اعتراها قلق خفيّ بأنّها ربّما أساءت دون أن تدري. رفعت رأسها، ونظرت إليهن نظرة استفسار وحيرة، وقالت بصوت امتزج فيه الهدوء بالرجاء:

ــ هل يمكن لاحدكن ان تخبرني ما الذي يحدث هنا؟

لم يجب أحد...

أعادت السؤال، بنبرة أقرب إلى الاستغراب:

ــ هل أنا سبب ما تعانيه؟ هل أخطأت بشيء؟

ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف للحظة، ثم خرج صوت خافت، متردد، لكنه واضح، من إحدى الطالبات:

ــ نعم، يا ست.

اتسعت عينا الاستاذة دهشة، وتقدمت نحوها بثبات:

ــ إذن... أخبريني، كيف ولماذا؟

ردت الطالبة بهمسة تشبه شهقة قلب:

ــ لأنها ببساطة تحبك، يا ست.

تعجّبت الأستاذة من وقع الكلمات، وابتسمت ابتسامة امتزج فيها الذهول بشيء من الحنوّ، وقالت:

ـ وما الغرابة في ذلك؟ أنا أيضاً أحبها، وأحبكم جميعًا، وأحسب أنكم تبادلونني هذا الحب... أليس كذلك؟

لكن صوت النحيب ارتفع، كأنّ تلك العبارة لم تُسكِّن الروح، بل زادت وجعها اشتعالاً. شعرت أن البقاء في مثل هذا الحال سيزيد الموقف حرجًا. آثرت الانسحاب بهدوء. خطت نحو الباب بخطى متثاقلة، وما إن اجتازت عتبة القاعة، حتى تبعتها إحداهن على استحياء، وهمست لها بصوت خافت، كأنه تسلّل خجل من جدار الصمت

ـ فاطمة... فاطمة تعشقك، يا ست

ـ ماذا؟؟!

توقفت الاستاذة في مكانها، كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، وأصابها ذهول مباغت اقشعر له كامل بدنها. راح عقلها يوزن هذا الاعتراف المفاجئ لإحدى طالباتها. كانت الكلمات قليلة، لم تكن في الحسبان، لكنها حملت وراءها عالماً كاملاً من الارتباك والتيه. لم يكن الأمر مجرد بوح عابر من طالبة، بل مسؤولية كبيرة امامها تتطلب المجابهة والحسم..

في تلك اللحظة، بدا كل شيء حولها ساكنًا، الزمن توقف، الأصوات انكمشت. ما سمعته هزّها من الأعماق، هزّ صورة العالم المنظّم داخلها، ذاك الذي لم يحسب يوماً أن يواجه مشهداً كهذا.. شعرت كأنها أُسقطت فجأة في دوامة من الحيرة، تفتّش عن معنى، عن حلّ، عن حدودٍ لهذا الذي لا حدود له.

تجولت في ردهات المعهد كمن يسير داخل كابوس غير مكتمل، حتى حطّت بها الخواطر أمام قاعة المحاضرات من جديد. أغمضت عينيها لبرهة، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت. كان في القاعة بقايا من الدموع معلقة في الهواء، فأشارت بلطف إلى الطالبات بالانصراف، راغبة أن تبقى مع فاطمة وحدها.

جلست أمامها، وبلغة دافئة، قالت:

ـ فاطمة، هل نستطيع أن نتحدث كصديقتين؟

لا جواب! سوى شهقات متقطعة، وأنفاس تتصاعد من صدرٍ مثقل. كانت فاطمة تئنّ بصمتٍ لا ينقصه الوضوح، فتابعت الأستاذة،

بصوت هادئ، يختلط فيه الحنان بالحزم، وقد أومأت برأسها بخفة كأنها تنسج من الكلمات أمانًا خفيف الظل:

ــ نعم، يا فاطمة، أنا أيضاً اودك، وأعتز بكِ كثيرًا... أنتِ طالبة مجتهدة، تتركين أثركِ في النفوس. ولكنك، تدركين تمامًا ما الذي يعنيه ذلك. اليس كذلك؟؟

ثم صمتت قليلًا، قبل أن تتابع بنبرة يغلفها الحذر المشوب بالشفقة:

ــ أظنّك الآن تحت وطأة ضغط كبير، ربّما تجاوز قدرتك على الاحتمال، ولهذا أراكِ واقفة وسط دوامة من مشاعر مضطربة، غائمة، لا شكل لها ولا ملامح. تشوّشٌ عاطفيّ كبير، نعم، لكنه مؤقّت... وأنا على يقين أنّك قادرة على تجاوزه، إن أنتِ أمهلتِ نفسك قليلاً، وأعطيتِ لعقلك مساحةً ليبصر الأشياء كما هي، لا كما تُملِيها العاطفة.

ثم ابتسمت، ابتسامة دافئة فيها من الأمومة ما يسكب الطمأنينة في القلب، وقالت:

ــ ما رأيك أن تزورينا في نهاية هذا الأسبوع؟

تعرفين زوجي، الأستاذ طه، وتعرفين أولادي أيضاً... كلّنا سنكون بانتظارك. ستجدين عندنا فسحة من السكينة والهدوء بعيدًا عن صخبك الداخلي، وبعيدًا عن كل هذا الضجيج.

رفّت عينا فاطمة بتردد، كأنها لم تصدق أن الحديث لم يكن لومًا قاسيًا او عتابًا مؤلما، بل رحمة. نظرت إلى طالبتها، وقد بدأ شيء من الأمان يعود إلى ملامحها. ابتسمت الاستاذة في صمت، وقد شعرت بأن شيئاً ثقيلاً بدأ بالانزياح عن كاهلها..

انقطعت فاطمة عن الحضور، كأنها اختارت أن تختبئ عن كل العيون التي ألفتها.

مرّت الأيام الأولى على غيابها، مشوبة بالقلق والتساؤلات. سألت عنها الأستاذة، بعفويتها المعهودة واهتمامها الصادق، فجاءها الجواب خافتًا من بعض الطالبات: "إنها مريضة، يا ست."

تمنّت لها الشفاء، ودعت طالباتها الى زيارتها والاطمئنان عليها، علّ في الزيارة دفئًا يُعيد لفاطمة شيئًا من العافية:

انقضى الأسبوع الثاني ثم الثالث... ولم يظهر لطيف فاطمة أثرٌ في ركن القاعة، ولا سُمِع وقع خطواتها بين الصفوف. ظلّ الباب موصدًا، وكرسيّها خاليًا، ينعى الغياب بصمته الثقيل. أما زميلاتها، فكانت قلوبهن تترقّب عودتها بصمتٍ مشوبٍ بالرجاء... لكنها لم تعد أبدًا. وكان هذا، دون أن يدرك أحد، درسها الأخير..

***

سعاد الراعي

 

في نصوص اليوم