نصوص أدبية

نصوص أدبية

لا النّصرُ آتٍ ولا الديّانُ ناصرُنا

وتلك أُخرى لمِن هادوا على العرَبِ

*

واللّيلُ في نصفِنا يرتاحُ مُنتَصِفًا

وما اكْتفىْ الفجرُ من راجيهِ بالطّلبِ

*

والنّصرُ في أصلهِ فجرٌ وإن طلعَ الـ

أصلُ تلا النّصرُ شمسًا دونما حُجُبِ

*

ونحنُ في كثرةٍ لكنْ متى رُبحَ ال

وَغَى بمَفْخرةِ الأموالِ والعَقِبِ

*

ونحنُ من يعربٍ أكرمْ بهِ نسبًا

لكنْ متى اعْترفَ الميدانُ بالنَّسَبِ

*

ونحنُ من صفوةِ الأخلاقِ جَبْلَتُنا

لكنْ متى كفَتِ الأخلاقُ للغَلَبِ

*

وعندنا الذّكرُ نتلوهُ وإن غلبَتْ

عليه فينا بناتُ اللّهوِ والطّربِ

*

وعندنا أحمدٌ -صلّوا عليه- وإنْ

عزا له الحُمْقُ ما فينا من التّعَبِ

*

والمجْدُ كاتبُنا حتّى وإن هجَر ال

الحيَّ ولم يبقَ منهُ غيرُ ذي الكُتبِ

*

والدّهرُ صاحبُنا حتّى وإنْ سبَق ال

أكوانَ فيما علينا انْصبَّ من غضبِ

*

واللهُ في صفّنا حتّى وإن حكمَ الْ

بلادَ من سوّرَ الإيمانَ بالذّهبِ

*

وكلُّ هذا ويأبى النّصرُ مدَّ يدٍ

لنا ونأبىْ جدالَ النّصرِ في السّببِ

*

لكنّنا نَقبَلُ الإصغاءَ إنْ شرحَ الْ

خُسرانُ أسبابَهُ في حلّةِ الكذِبِ

*

فإنْ يقُلْ غيرَ ما تهوىْ مسامِعُنا

قلنا أصابَ أعادينا منَ العرَبِ

*

فوحدةُ العُرْبِ قيدُ كلّ منهزمٍ

في كسرِهِ عتقُه من تهمةِ الهَرَبِ

*

ووصفةُ الحقّ آه كلّ مرتجفٍ

في حرقِها العذْرُ للموصوفِ بالذّنَبِ

*

ويُبهجُ اللّيلَ ما نُبديه من حججٍ

ويُعجزُ الفجرَ ما نُلقيهِ من خُطبِ

*

فيمكثُ النّصرُ في صَفْحاتِ هازِمنا

ويتبعُ الخُسْرَ أسرابٌ من الكُربِ

*

أينَ زمانُك يا بن العاصِ ها رجعَ الْ

روميُّ في يدِهِ رُمحٌ من اللّهَبِ

*

والصّفرُ من زحمةِ الأصفارِ في وطني

الكبير يشكو فيُحصى الموتُ بالنّسبِ

*

هادوا ولمّا نهُدْ والهَودُ يصحبُهُ

ما يفتنُ الفجرَ من علْمٍ ومن أدَبِ

*

والنّصرُ في جسمهِ يجريْ دمٌ وهوا

بنكهةِ التّينِ والزّيتونِ والعِنَبِ

*

أنفاسُهُ من هوا قُدسٍ ومَطْعَمُهُ

من طُهرٍ امتدّ من سينا الى حَلَبِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

على النافذة

آثر بارز لشفتين.

لا المطر الغزير

ولا الغبار الكثيف

تمحوه

- صورة لشفتين

صادقتين

- لمقاتل

لم يرجع أبدا.

- لشاعر

لم يدرك بأن الحب

سراب غريزة الوجود.

- من أم

تودّع ابنها،

مستيقنة

انها لن تراه ثانية

إذا رجع.

- لعامل

إلى منزل

بناه بساعديه

قبل أن يدمر،

وقد ظل

جدار الشباك واقفا..

كلما تبقى

خلف أثر الشفتين:

طلقات طائشة،

ديوان محروق،

زوج من النعال،

واطار صورة مكسورة-

للذكريات

***

سوران محمد

........................

A kiss

On the window

The traces of lips

visible

neither the heavy rain

nor the thick dust

wiped it away

a  shape of honest lips

-of a soldier

never to return.

-of a poet

who did not realize that love

a mirage of existential instinct.

-of a mother

In her last meeting with her son,

convinced

that she would never see him

when he returned.

of a worker

to the home he built

before it was destroyed

but the window still unbroken...

all that remained

behind the traces of lips:

unfeeling bullets

a burnt collection,

a pair of slippers,

a broken image of memories

............................

ماچ

پەنجەرەکە

شوێنی  دوو لێوی

 لەسەر بوو

نە لێزمەی باران،

نە تۆزی ڕۆژگار

نەیسڕیبووەوە..

وێنەی

 دوو لێوی ڕاستگۆ:

- هی خەباتکارێ

کە هەرگیز نەگەڕایەوە.

- هی شاعیرێ

کە نەیزانی

عيشق سەرابێکە

غەریزەی بوون

دەینەخشێنێ.

- هی دایکێ

لە  خواحافیزیی کوڕەکەی،

کە دەیزانی

ئەو دێتەوەو

چیتر ئەم نابینێتەوە.

- هی کرێکارێ

بۆ مەنزڵێ

دوای خاپوور بوون

تەنیا دیواری پەنجەرەی

 دوو لێوەکە

وەك خۆی مابوو..

لەمدیوی پەنجەرەشەوە:

قەوانێکی بەتاڵ،

 دیوانێکی سووتاو،

جووتێ نەعل،

چوارچێوەی وێنەی-

یادگارییەکان...

بەجێما مابوو

*

 كلُّ ليلهْ

 

الحبيباتُ يرجعنَ ليْ

وأنا أتسامرُ والموجَ عندَ الفراتْ

كلُّهنَّ أتينَ الى ضفتي

طالعاتٍ مِن القاعِ نحويَ

أوْ هابطاتٍ مِن النجمِ وهو يحدِّقُ في سرِّ نهرِ الفراتْ

منازلُهنَّ ضياءْ

منازلُهنَ مآلاتُ ماءْ:

مرَّةً في الغيومْ

مرَّةً في النجومْ

مرَّة في قلوبِ النباتْ

مرَّة في شغافِ البناتْ

وأقربُهنَّ الى الروحِ روحي الجميلةُ والناطقهْ

فبِهنَّ الحياةُ حياةْ

وبِهنَّ الضفافُ بِكلِّ اريجِ ضفافِ الفراتِ مشتْ

لِتُقبِّلَ هذا الفتى

وايّانَ راحَ وأنّى أتى

ستأتيهِ أرواحُهنَّ بأجسادِهنْ

وتأتيهِ أجسادُهن بأرواحهنْ

تميسُ ـ وقد وقّعَ الماءُ والنورُ فيها ـ ترانيمَ ممسوسةً عابقهْ..

***

شعر كريم الأسدي

...........................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في الثاني والعشرين من آيار 2025، في العراق

 

في أواسط خمسينيات الزمن الجميل، كان للسينما سحر لا يُقاوم في عيون الصبية، أولئك الفتية الذين لم تُرهقهم بعدُ هموم الحياة، لكنها كانت تعني لهم أكثر من مجرد شاشة تتحرك عليها الاحداث، كانت نافذتهم إلى عوالم لا تُحصى، ومتنفسًا رحبًا يهربون إليه بعد عناء يوم دراسي طويل أو خلال عطلة تكاد لا تسع أحلامهم الصغيرة.

مع انحدار الشمس نحو المغيب، كانوا يتقاطرون نحو ساحة "السعدي" كما لو أنهم مدفوعون بنداء خفي، يحملون كتبهم ودفاترهم، جادون في مراجعة دروسهم استعدادا للامتحان، لكن ما يختلج في صدورهم شيء آخر؛ السينما، حلم المساء، ورجاء الطفولة. يناقشون خطتهم اليومية: من سيذهب؟ كيف؟ وبأي نقود؟

ولأن جيوبهم وياقات دشاديشهم التي يخبئون فيها نقودهم خوفًا من ضياعها، كانت خاوية في الغالب، أو لا تحمل إلا الفتات، كانوا يفرغون ما لديهم من قطع معدنية على الأرض، يحصونها بأعين يملؤها الرجاء. فإن استوفت ثمن تذكرة واحدة، حينها يبدأ الطقس المعتاد/ القرعة. من سيكون سعيد الحظ الذي تُفتح له أبواب الفردوس المظلم؟ من سيجلس وحده في مقعد متآكل، يحدّق في الشاشة بانبهار، ليعود إليهم راويًا ما رأى؟ غير مكتف بالسرد، بل عليه ان يمثل، يصرخ، يبكي، يضحك، يُقلّد البطل والشرير، وكأنهم جميعًا كانوا هناك.

ولكن، إذا حضر عادل، صاحب الدهاء والعيون اللامعة، انقلبت المعادلة؛ فما من مأزق إلا وخرج منه بفكرة ماكرة، تُدخلهم جميعًا إلى السينما.

كانت السينما، بجدرانها العالية التي تعانق السماء، أشبه بقلعة حصينة يحرسها الزمن، ويصعب اقتحامها على من لا يملك الثمن. يحيطها سور مرتفع يتجاوز الثلاثة أمتار، كجدارٍ امام الفقراء بين الحلم ومرآه. غير أن القدر، كما لو أنه يهوى مداعبة الصغار، حيث زرع نخلة معمّرة بجانب السور، باسقة، يمتد جذعها كذراع أمّ حنون تحتضن مغامرة. كانوا يلقّبونها بـ „العمة"؛ تلك العجوز الطيبة التي لا تخذلهم حين يشتد الحنين إلى الشاشة الكبيرة.

عادل، الفتى الذي خُلق وفي يديه موهبة التسلق، نظر إلى أصدقائه بعينين تشعّان مكرًا وضوءًا، وقال مبتسمًا بثقة لا تعرف التردد:

"سأدخلكم جميعًا... وبتذكرة واحدة."

دخل أولًا من الباب الرئيسي، قطع الحارس تذكرته وسمح له بالعبور. وما إن خفتت الأضواء وبدأت الإعلانات، حتى غادر القاعة بذريعة شراء مشروب او شيء آخر. اعطاه البواب بطاقة خروج مؤقتة، بطاقة صغيرة، لكنها مفتاح الخطة الجريئة.

استغل عادل تبدّل البواب وزحام الداخلين، خرج حيث ينتظره أصحابه خلف السور. ناول أحدهم البطاقة، بينما هو تسلّق النخلة بخفة من اعتاد معانقتها، قفز إلى سطح الحمامات، ثم انزلق إلى داخلها، وخرج بهدوء وكأنه كان يقضي حاجته، عاد إلى القاعة وجلس عند صديقه بعض الوقت، ثم كرر الدور نفسه من جديد.

بهذه الحيلة البديعة، دخلوا واحدًا تلو الآخر، وكلٌّ منهم يختزن دهشة الطفولة في قلبه. لم يكن الفيلم وحده ما يستحق المشاهدة... بل الرحلة إليه كانت، بحد ذاتها، عرضًا لا يُنسى.

في إحدى مغامراته هذه، والتي أبهرت الصبية وعلّمتهم أن الفقر لا يقف في وجه الذكاء، خرج عادل، كعادته، يحمل بطاقة الخروج الصغيرة بين أصابعه كمن يحمل مفاتيح كنز، عازمًا على تكرار خطته في إدخال أصدقائه إلى السينما الواحد تلو الآخر. غير أن الحظ هذه المرّة لم يبتسم كما عهدوه، فقد تنبّه أحد الحراس لشيء ما. لاحظ بعين متشككة أن عدد المقاعد المشغولة في القاعة لا يتطابق مع عدد التذاكر المقطوعة، وما إن لمح عادل يغادر مجددًا بحجته المعتادة لشراء طعام، حتى أوقفه، وجرّه إلى مكتب الحرس.

في المكتب، تعالت الأصوات، توالت عليه التهديدات كالصفعات، وانهالت عليه الأسئلة كالسياط، أحدهم هدّده بالشرطة، وآخر لوّح بيده وكأنه يهمّ بضربه، لكن عادل، بعينيه الذكيتين وصدره المرفوع، على صغر سنه، لم يزده الخوف إلا صلابة. وقف أمامهم منتصبًا كفرسان الحكايات، بعينين تشعّان كبرياءً، وقال بثقة:

الواثق

"اشتريت تذكرتي وهذه بطاقة خروجي، لم أخالف قانونكم، وإن كنتم ترون غير ذلك، فهاتوا شرطتكم... سأشتكي عليكم!"

ثم رمى البطاقة في وجوههم وقال باحتقار العظماء:

"خذوا بطاقتكم، لا أريد مشاهدة فيلمكم، ولن أدخل "سينماكم" بعد اليوم

خرج بخطى ثابتة، لا يلتفت، كأنما خرج من معركة لا من السينما. لم تكن الهزيمة في نظره أن يُطرد، بل أن يَخذِل أصدقاءه، وهو الذي لطالما كان رسول أحلامهم إلى الشاشة. لقد أنجز مهمته، أدخلهم جميعًا، وخرج وحده، منتصرًا بروحه، وفخورًا بأنه جازف من أجل لحظة فرح تقاسمها معهم.

ومنذ ذلك اليوم، ظلّت صورته محفورة في ذاكرتهم، لا تمحوها الأيام ولا يغشاها النسيان. يتناقلون حكايته كلما اجتمعوا، يروونها لأبنائهم وأحفادهم بفخر وحنين لتلك الأيام الجميلة، وسط ضحكات ناعمة وإعجاب لا يخبو بذكائه، كما تُروى بطولات الأساطير الخالدة.

وهكذا ظلّ عادل حيًا في ذاكرتهم، قلبًا لا يعرف الهزيمة، وعقلًا يفتح الأبواب المغلقة.

***

سعاد الراعي

الى روح الانسان والشاعر الحقيقي

موفق محمد

***

قبلَ أَنْ أُغادرَ البلادَ

كنتَ قدْ بكيتَ عليَّ

وأَنا الآخرُ

كنتُ بكيتُ عليكْ

وفي تلكَ اللحظاتِ الفاجعةِ

ومن خللِ غيوم الدمعِ

ونشيجِ القلبِ الراعفِ

قُلتَ لي:

- كيفَ تستطيعُ إحتمالَ

بردَ المنافي

ومخالبِ الغربة القاسية؟

لحظتها اجبتك

غاضباً ومشتعلاً:

- بردُ الغربةِ

وثلوجُ المنافي

ولا ذلُّ الطغاةِ القساة

وتهديداتِ القتلة

ومخاوفِ المخبرين

الذينَ يتجسسون

حتى على انفاسِنا

وكرياتِ دمِنا

وأَصابعِنا وقلوبِنا الواجفةْ

ولاتنسَ وشاياتِ العسسِ

والدركِ والجندرمةِ الواقفةِ

فوقَ خلايانا ومساماتِنا

واكبادِنا النازفةْ،

وإِياكَ تنسى نهيقَ

ونباحَ الشعراءِ المداحينْ

وسمومَ الكَتَبةِ المأجورينْ

وطعناتِ الظلاميينَ والطائفيينْ

والغزاةِ المتوحشينْ

وكتّابَ التقاريرِ من الذؤبان

والغلمان والخصيان

وابناء الزنا والخنا

والمتعة الـمُقْرِفَةْ

وأَرجوكَ صديقي لاتنسَ

خياناتِ الأَعدقاءْ

والتافهينَ والسُفهاءْ

وذوي القلوبِ المريضة

والضمائرِ الواقفة

قابَ قتلينِ

وقاب موتينِ

وقابَ قبرينِ

من الظنون والشكوك العاصفة

ولا تنسَ الجناةَ والزناةَ والرواةَ

وافاعيلَ البغايا والخطايا والمطايا

والنوايا الزائفةْ

**

ها أنا أرتجفُ الآنْ

في مجاهيلِ الزمانْ

وثلوجِ الغربةِ المُلتهبةْ

وأَرى أَولاديَ

وأصدقائي النبلاءْ

وأَرى وطني الأوَّلَ

في التلفازِ محروقاً

ومخنوقاً بين نارينِ

وأَرى شعبي شريداً

ووحيدا وشهيداً

في مهبِّ العاصفةْ -

وحتى بلدي الآخرُ

من الشًبّاكِ أَراهُ

وكم يحُزنُني

أَنَّهم كلُّهم عاجزون

أَنْ يمنحوني لحظةَ دفءٍ

وحنانٍ ولمسةَ عاطفةْ

ولذا أَشعرُ

أَنَّكَ تتعمد أن توهمني

بانَّكَ قد عشت َ كلَّ شيءْ

وشفتَ كلَّ شيْ

في الوطنِ العليلْ

وفي غيابةِ الحبِّ

وفي هاويةِ الجُبِّ

والفرح القليلْ

وفي الظلامِ الطويلِ

وأَعني: ظلامَ العراقِ

الطويييييييييييييييلْ

حيث الخراب والجحيم

والخسائر النازفة

وبعدها الكثيرالكثييير

والمُذلُّ والأَقلّ ُمن القليلْ

وها نحنُ الآنَ

والعالمُ والوجودُ

والناسُ والكائناتُ

والطبيعةُ والخليقةُ

والحقيقةُ والحياةْ

نعيشُ بآخرِ الأنفاس

ونمضي الى قيامةِ العدمِ

الثقيلِ الثقيييييييييييييييييلْ

وياأَيَّها الرجلُ الأًصيلْ:

وياأَيُّها الشاعرُ النبيلْ

ماأَروعكَ وماأَبهاكَ

لأَنَّكَ كنتَ قادراً

على تَخيّلِ وتَحَمّلِ

قسوةِ وكذْبَةِ

وغربةَ العيش

في مكانٍ اسمه:

الوطن الجميل

ولازلتَ مُخْلصاً للشعرِ

ومازلتَ مُهَيّئاً للحُلْمِ

بأَشياءَ هائلةٍ

كالعودةِ للبيت في أَيِّ وقتٍ

وإمتلاكِ فسحةٍ من الأمل

وعشقِ امرأةٍ كانتْ تنتظرُكَ

على أحرٍّ من العطرِ

والزهرِ والجمرِ والحبِّ

والشغفِ المستحيلْ

تُرى يا صاحبي

وحبيبي وخِلّي

ويا صديقي البابليُّ

العتيدُ والعنيدُ

والعاشقُ الحلّي

مَنْ فينا السعيد؟

ومَنْ فينا الوحيد؟

مادامَ كلانا الآن

هُنا ...أَو هُناااكَ

حيثُ الغربةُ السوداءُ

تسكنُنا وتقهرُنا وتذبحُنا

منذُ النطفةِ الأُولى

ومنذُ الصرخةِ الأُولى

ومنذُ الدمعةِ الأُولى

ومنذُ الرحلةِ الأُولى

ومنذُ الوحشةِ الأُولى

ومنذُ الميتةِ الأُولى

وحتى قيامتِنا الأَخيرة.

***

سعد جاسم

 

ماذا لو انسكبت الذاكرة من رؤوسنا مثل ماءٍ في إناءٍ مثقوب؟

ماذا لو صرنا نَصحو فجأةً، غرباء عن أنفسنا،

ننظر في المرآة كما لو كانت نافذةً لشخصٍ آخر؟

ليس لنا ماضٍ نستند إليه،

ولا جرحٌ قديم نتحسّسه كلّما مرّت ريح.

*

كأم تغمض عينيها عن طفلها

لن نعرف اسم أول حبّ،

ولن نميّز ملامح من رحلوا،

ولن نفهم لماذا نبكي حين نسمع لحنًا معينًا،

أو لماذا نخاف من غرفٍ بعينها.

*

سننسى كيف كانت الأم تضع يدها على جبيننا إذا اشتعلت الحمى،

وسننسى أن ضحكة الاب كانت موسيقى خفيّة،

نُطفئ بها الليل.

*

سنفقد طريق العودة إلى الأماكن الصغيرة،

زقاق المدرسة،

بائع الكعك،

شجرة التين التي كانت تؤمن بأسرارنا أكثر من أهلنا ،

*

سنفقد أصدقاءنا القدامى ،

لأنّ الذاكرة لن تجد لهم عنوانًا.

سنراهم في الشوارع، فنبتسم كمن يرى وجهًا مألوفًا في حلم،

ثم نُكمل المسير دون أن نعرف لماذا اقشعرّ الجلد.

*

سننسى كيف كنّا نضحك حين نركض تحت المطر،

وكيف كنّا نرتبك أمام من نُحب،

سننسى الأخطاء الجميلة التي علمتنا الحياة،

والكلمات الغبية التي قالتها قلوبنا بصدق.

*

ولكن، هل سنجني شيئًا؟

ربما،

*

ربما سنحبّ الناس بلا ذاكرة سابقة،

سننظر إلى الوجوه كأنها لوحات بلا توقيع،

جميلة، دون أن نعرف لماذا.

سنصافح العالم بأيدٍ بيضاء،

لا تذكر من طعنها،

ولا من ضمّها.

*

سنبدأ القصّة من سطرها الأول،

بدون ندم،

بدون توقّعات.

*

لكن، ماذا عن الحنين؟

من أين يولد حين تُخرس ذاكرته؟

أين يسكن من لا ماضٍ له؟

وأين يذهب مَن لا أحد يتذكّره؟

*

ستسقط أسماءنا،

ويسقط وجه الايمان كما تعلّمناه،

فنبحث عنه في كل تفصيلة،

في قوس قزح،

وفي صراخ المواليد،

وفي يدٍ لا نعرفها، تمسك بنا حين نتعثّر.

*

أيّ ألمٍ هو ألّا نعرف لماذا نحزن؟

أن نستيقظ بانقباضٍ في القلب،

ولا نجد لصاحبه صورةً أو اسمًا أو سببًا.

*

كحبيبةٍ غضوب، نتمنى ان تعود،

وتدخل علينا بنظراتٍ ساكنة،

وتفرش على الطاولة كل الصور،

كل اللحظات،

كل الخسارات،

كل الضحكات.

لنعود، نحن، بكلّنا،

تمامًا كما نحن.

***

مجيدة محمدي

في اليوم الأول للحرب،

تعرّت نخلتنا من خضرتها،

طعنةٌ في الجذع،

وسقوطٌ مبكر.

*

في اليوم الثاني،

تحوّل موقدُنا إلى كومة رماد،

تتناثر حوله بقايا ريشٍ،

وعظام، وأحشاء.

*

في اليوم الثالث،

صار بابُنا مدخلاً لموضعٍ ناءٍ

في أول القرية.

*

في اليوم الرابع،

التقيتُ صدفةً بجنديٍّ

يحمل على كتفه جذع نخلة.

تأملتُه جيدًا، فعرفتُه:

كان جذع غرفتنا التي تُركت دون سقف.

*

في اليوم الخامس،

وجدتُ غرباء

يتربعون على سجادة

كانت أمي قد علّقتها على السياج

لتطهّرها من بقايا خوفي.

*

في اليوم السادس،

سلّمتُ على نخلتنا،

فردّت عليّ ببقايا حشفها اليابس.

*

في اليوم السابع،

لم أجد البيت، ولا النخلة.

وجدتُ أطلالًا كانوا يسمّونها "الوالدة".

*

في اليوم الثامن،

عدتُ طفلاً لأحمل الحطب،

فصفعني ظلّي،

وقال: تأخّرتَ كثيرًا على موتك.

***

د. جاسم الخالدي

يرتادُ الوهمُ سلاسلَ أصداءِ التجوالِ

ويُنادي فيحارُ بأيِّ قناعةِ ترتيلٍ ينثالُ

مُهَجٌ تفترشُ الوصلَ سبيلا

شَبَحٌ يرفضُ أنْ يُرخي حبلا

أسفٌ يتفتّلُ أسمالا

سَئمتْ أجرتْ شَرْخاً في الرأسِ المعصوبِ

جَرَحتْ في وصلٍ خدّا

صاحتْ مَنْ يغمُسُ في جُرْحٍ نابا

مَنْ يُجري خلفَ بحورِ الهمِّ شِراعا

آهٍ لو ماجَ اليمُّ وأقلعَ طودا

أوقدَ في الكوّةَ نبراسَ المشكاةِ

غضبٌ يجري في أصلِ الويلِ

من ضَجَرِ العبءِ المُزري

حيثُ الريحُ مراوحُ موجاتِ القهرِ الفِطري

وحمولةُ أثقالِ الوصلِ

مِرسالاً ورسولا

يدخلُ في طقسِ النَفَسِ البحري

عِرْقاً من شجرِ الدرِّ المختومِ رحيقا

يتدلّى مشدوداً قنديلاً بحريّا

ثُعباناً أسودَ ذبّاحَ الأجراسِ

حالَ الراهبِ مقطوعِ الرأسِ

يتقلّبُ في آهاتِ البحر صعوداً ونزولا

سهماً لعبورِ مصدّاتِ الرملِ

معصوبَ العينِ كليلا

ويموتُ عليلا.

***

د. عدنان الظاهر

نيسان 2025

(مادمتَ قد خربتَ حياتكَ هنا.. في هذا الركنِ الصغيِر،

فهي خرابٌ أينما كنتَ في الوجودِ)... كافافيس

***

العلامةُ الفارقَة

فرشتُ علاماتي الفارقةِ

وألقيتُ أسميَّ

رفعتُ رنينَ حروفهِ كطيٍر محتدمٍ من لونِ ترابهِ

العالقُ على الطلعةِ

في نقطةِ حدودِ

أتيتُ من تاجِ النخلةِ من أصغرِ جنياتِ السواقي الغافيةِ بين الأضلعِ

فرشتُ كلَّ الخرائطِ ، بحرائقِها النائمةِ بين إيقاعاتِ النسيانِ

هي الحدودُ وأنا الطيُر

تعكزتُ على لسانِ العربِ الطويلِ

الشاهقُ على كلِّ شفةٍ

الحائمُ فوقَ قلوبِنا من محيطِ الماءِ

إلى تخومِ البراري

الراسيَ كوهج الشمسِ فوقَ خرائبِ المدنِ

**

2- أغلال

تدحرج

لسانيَّ المقطوعَ هائجاً على كلِّ رصيفٍ بلا كلماتِ

يلوحُ بكابوسِ النهارِ

ثمةَ بحرٍ بزرقةٍ متعاليةٍ

ٍوثمةَ أطلالٍ بعيدة

الشمسُ ساطعةُ تتوهُج فوقَ بندقيةٍ بلا ساترٍ

ما العلاقةُ بين سطوعِ الشمسِ وفوهةِ بندقيةٍ باردةٍ ؟

تلكَ التي تتلعثمُ بها جدرانِ المنازلِ

التي اندستْ كحليبٍ يشربَهُ الطفلُ بقنينةٍ مِنْ أسمالِ الحروبِ

بينما أيامُنا عناوينٌ بارزةٌ تشبهُ زاويةَ السائلِ والمجيبْ

على شاشةِ أعمارِنا

بين وابلٍ من عتمةٍ المساءِ

**

3 - ممرّ

للنارِ ممرٌ يخرمُ في الأفقِ

للصورةِ تتكللُ بالجدارِ

كهفٌ في الجدارِ

حجرٌ ملقى مِنْ زمنٍ سحيقْ

تفاجئُني نتبعُ دهراً

منهكاً بما فاتَ

مثقلاً بما يأتي في الطريقِ

**

4- حاجزٌ

عصافيٌر ترفرفُ

أم لغطُ العيونُ يعتلي سرجَ الهواءِ

ينشرُ من عصبِ الخوفِ رفيفَ الوداعِ

والهواءُ ثملٌ على وسائدِ الموتِ يصقلُ دروعَ الوغى

ُمدى تتبخترُ بيننا وقاماتٌ قلاع

**

5- هواءٌ لا يتذكرْ

يداكَ العاريتانِ من ملامحِي

ِالناصعتانِ من غبارِ الهزائم

يداكَ التي فتحتَ فوهةَ الألمَ وجلستَ تراقبَه

يداك َتلكَ المترعتانِ بكلِّ ما لا يذكر

يداكَ التي كلما نفضتُهما بعنايةِ

تطايرَ الشرر

تركتَني على مفرقِ الطريقِ

والهواءُ يدخلُ بتأشيرةِ العدمِ

***

رضا كريم

 

حصار

محض اختيار

خوفا

على طهر أنفاسها

قصيدتي المكنونة

بأخاديد خطوة

بإحكام

سُبِكت عثراتها

ففطرتها

لا تروق لصانعي العثرات

**

ولأنها استعصت

وأبت إلّا انحيازا لحروفها

ها هي

تحلّق بطهر أنفاسها

لئلّا تطالها

نتانة أنفاس مسخ

**

أليس من هدوء؟!

وكأنها

فتحت أبوابا تنثُّ روائح سامّة

تأتي

على السائل

وتلتهم السؤال

**

إلّاها عباءتي

تلملم

ولتغدو

بوصلة لخطوة حيية

لكنها عصّية

على الاحتواء

***

إبتسام الحاج زكي

شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.

قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.

يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.

رن هاتفه إشعارا باستلام رسالة. ألقى نظرة على الخلطة المروعة من حروف وأرقام، فإذا هو رجاء من رفيق السكن بأن يدبر له مبلغا لسداد فاتورة علاج. تظاهر بالفهم وهو يجيب بخلطة مماثلة. حروف وأرقام بدأت كمزحة على الهاتف، واستقرت لغة لإنسان التيه. أعجبته مفردة التيه، فتخيل نفسه جرذا يحفر متاهته الخاصة بسعادة بالغة. لعلها الحياة في إحدى معانيها التي تأبى السير باستقامة.

اضطرب نور الشمعة فانكفأ مجددا على خياله، يعتصر حبكة لقصته الجديدة. فجأة شق السكونَ هدير محرك يقترب. فتح باب القسم بحذر فإذا بسيارة تتوقف وينزل منها بضعة شبان. حيوه بلطف زائد ودعوه لوليمة.

 لكني مشغول قليلا. هل يمكن التأجيل لليلة أخرى؟ -

- في الحقيقة نود استشارتك في أمر مهم. لن نأخذ من وقتك الكثير.

تأرجحت بهم سيارة رونو عدة مرات وهي تلتهم الطريق الترابي. مازح السائق قائلا أنه أفضل من شوماخار، ولو شارك في سباقات الفورمولا لكان له شأن آخر. طمأنه أحدهم بأنه قادر على السير فيها ليلا وهو مغمض العينين.

-طمأنك الله بالخير!

أثارت الفرملة سحابة غبار، فتريث قليلا قبل أن ينزل. لاحت من البوابة مائدة بالبهو عليها صنوف الحلوى والشاي. تظاهر بالاحتشام كعادته، فأقسموا أن يدخل أولا، إذ لا أحد غيرهم بالدار. حاول أن يفك رباط حذائه فمنعوه. مد يده إلى طبق حلوى وارتشف من كأس الشاي قبل أن يسأل عن سر هذه الدعوة المستعجلة:

- نريد أن تعلم الإسبانية.

-جميل، وأنا أيضا!

تبادلوا نظرات استغراب قبل أن يسأل أحدهم:

- ولكنك أستاذ!

-صحيح، غير أن الأستاذ لا يُدرس كل لغات العالم. أنا على سبيل المثال أدرّس العربية والفرنسية. بإمكانكم تعلم الفرنسية إن شئتم.

-  لكننا نرغب في تعلم الإسبانية.

-ولماذا الإسبانية تحديدا؟

- لأننا..

تبادلوا مرة أخرى نظرات تشي بالتردد في كشف سر خطير، لكن سرعان ما رد أكبرهم سنا:

- في الحقيقة يا أستاذ نحن عازمون على الحريك*. دبّرنا كل شيء، إلا أن الوسيط أخبرنا بضرورة تعلم شيء من الإسبانية للإفلات من قبضة خفر السواحل.

مد أحدهم يده خلف وسادة، وأخرج دليل تعليم الإسبانية للمبتدئين، ومجموعة قصص للأطفال.

- هل يكفيك هذا؟

- سألقي نظرة وأحسم موقفي غدا..

- لن تُخيب رجاءنا بالتأكيد، فأنت ترى أن البلدة لا تصلح إلا مقبرة للموتى. مُجبرون على ركوب الخطر في سبيل طرف د الخبز**.

- والبحر هو الآخر مقبرة.

- لكن ميتة واحدة خير من مرارة العيش بالتقسيط!

ملأوا جيوبه بالفستق، وربتوا على كتفه ليكون لهم سندا في هذا الهروب الأليم.

فتح باب الحجرة، ثم استأذن العفاريت لإضاءة شمعة يحذوها أمل!

***

حميد بن خيبش

......................

(*): لفظ دارج يحيل على الهجرة السرية.

(**): لقمة العيش في الاصطلاح الدارج بالمغرب.

حِين دَعَوْهُ لِيَقْرَأَ شِعْرًا

فِي أُمْسِيَةٍ شِعْرِيَّةْ

اِحْتَارَ اَلشَّاعِرُ مَاذَا يَخْتَارْ

مِمَّا كَتَبَهُ مِنْ أَشْعَارْ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدَ عَنْ شُهَدَاءٍ رَحَلُوا

دُونَ خِيَارْ

أَوْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِمَّا دَوَّنَهُ

عَنْ تَخْرِيبِ دِيَارٍ،

وَسُيُولِ دَمَارْ

عَنْ عَالَمِنَا اَلْغَارِقِ

بِالدَّمْعِ وَبِالنَّارْ

مَاذَا يَقْرَأُ؟

هَلْ تُجْدِي اَلْأَشْعَارْ؟

هَلْ تَكْبَحُ كُلَّ نَوَايَا اَلْأَشْرَارْ؟

هَلْ تَحْمِينَا

مِنْ كَارِثَةٍ تَأْتِي

أَوْ إِعْصَارْ؟

**

كَانَ اَلشَّاعِرُ مُنْغَمِسًا فِي اَلْأَفْكَارْ

وَهْوَ يُتَمْتِمُ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدِ حُبٍّ لَاتَفَهَمُهَا

مَعْشُوقَتُهِ

فَتَغَارْ

كَانَتْ فِي وَلَهٍ تَرَقَبُهُ

وَهِيَ تُتَمْتِمُ خَلْفَ اَلْأَشْجَارْ

أَتَمَنَّى أَنْ يُجْدِي اَلشِّعْرُ،

وَأَنْ تُجْدِيَ اَلْأَشْعَارْ

***

شعر: خالد الحلّي

أقولها بوضوح

من دون أن أغلقَ عيناً

وأفتحَ عيناً

أني أكره الأيادي الضاغطة على القامات

لتجعلَ الجميعَ أقزاماً

ليس لوطنٍ كرامة

ما دام ساسته

يتّخذون من شعبه أحصنة لعرباتهم

أيها الوطن الغافل

أنا أكره متعجرفيكَ

بأنوفهم التي يمخطون بها

على مَن هم دونهم في الطول

حتى في نومهم لا يكفّون عن المخاط

لذلك يلتصقون بمن يلمسونهم

**

أيها الوطن القاسي القلب

على مدى تاريخك المثقّبِ بالطعنات

أمّرتَ علينا نحن أبناءَكَ البررة

مَنْ ألبَستُهم أحذية أكبرَ من أجسادهم

ليقنعونا بأنّ رحلة المجد تبدأ من القدمين

ومنحتُهم خبزنا

فاتخذوا منه دواليبَ لعرباتهم

ليجعلونا نركض وراءَهم لاهثين

ومنحتهم أيادينا

لينسجوا من أصابعها شباكاً لاصطيادنا

فما الذي أبقيته لنا

حتى جباهنا صاروا يُطالبوننا بالتنازل عنها

مدّعين أنها أرضٌ زراعية

ورثوها عن أجدادهم

**

لم تتوقف بعدُ ساعة الزمن

ثمة مفاجآت مخبّأة للغد

أيها المنتفخون كالبالونات بالغاز الفاسد

أسلحة المعركة المقبلة هي الدبابيس

والإبر

***

شعر: ليث الصندوق

كان يتوارى خلف قناع خفي، يعبر محيطات الكون دون أن يلامس طعم الحياة. كاد اليأس أن يطبق على عنقه، ليختنق الليل في أنفاسه الأخيرة، ككلب يلهث تحت لهيب الصيف، يبحث عبثًا عن نسمة نقية.

كان يعيش في صراع دائم بين واقعه الملموس ومكنونه النفسي العميق، فالكشف عن ذلك المكنون يعني التخلي عن القناع الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصيته، بل ربما كان السبب في عزلته وانطوائه.

ترددٌ يضطرب في أعماقه كموج البحر، يرتفع عاليًا مهددًا بابتلاع سفينةٍ عمره تتخبط وسط العاصفة، لتلقي بها في دوامةٍ من الغرق. هكذا يبدو الصراع خلف القناع، متغيرًا وفق الظروف والمواقف، ومحمّلًا بمزيج من المخاوف ــالخوف من الحكم، والرغبة في الانتماء، والسعي للحماية العاطفية، والبحث عن السلطة والتأثير، في بيئات العمل والعلاقات الاجتماعية.

يجد نفسه في عتمة الحياة، هائمًا فوق غيمة معزولة في فضاء مترامٍ، كأنه يطفو بلا وجهة. يجلس متوترًا، ظهره مستند إلى كرسيه، يرفع رأسه ببطء، مختلجًا بين التردد والانكسار، وعيناه تتسلل من خلف قناع قاسٍ، تتأمل الأفق المتواري وسط الضباب الكثيف. ذلك القناع الذي أذاقه مرارة الوهم، وغلفه بعزلة مصطنعة، يقيد روحه كما يقيد صمتُ الليل العابر أسرار النفس.

يحاول أن يلتقط شظايا الذكريات المبعثرة ـــأيام المراهقة، الأمسيات الهادئة، ضحكات الأصدقاء التي كانت يومًا قريبة، لكن شيئًا ما يعبث بكيانه، شكوك وتوقعات تتناسل في ذهنه، تذكّره بأنه مختبئ خلف عالم غامض، عالم شيده بنفسه من أفكاره المتأصلة.

تتلاطم داخله الصدمات المتكررة، تغرس في وعيه فكرة البقاء داخل ذلك السجن المظلم، حيث الفوضى تضجُّ في زواياه، وحيث القناع الذي ارتداه للاحتماء، أصبح هو ذاته القضبان التي تعيقه عن كشف الأبعاد الحقيقية لوجوده.

كان ضجيج الدماغ يحيط به كموج متلاطم ينهال عليه من كل صوب، وأغنية حزن قديمة من زمن مضى تهمس في الفراغ، تتسلل بين الجدران كأصداء زمن مضطرب، تمتزج مع الفوضى الساكنة داخله.

في زاوية بعيدة، مطرقةٌ تهوي على الخرسانة، تبعث رجفةً في الأرض كأنها تعيد تشكيل وعيه وفق إيقاع جديد. حملت الرياح هذا الصخب المتداخل، لم يعد مجرد أصوات، بل كيانًا حيًا يتغلغل في المسافات، ينساب من السماء، يصعد من الأعماق، يخنق الفراغ، يحتل نبضه ويتمدد في صمته المتلاشي.

وهنا جاءت لحظة المواجهة الحاسمة، لحظة انكشاف الحقيقة وتبدد ذلك الوهم الراسخ. تجمّعت كل أسباب الشقاء منذ أن اخترق شعورٌ مجهولٌ روحه واستوطنها كماردٍ يحرك هواجسه عكس التيار، يعبث بيقينه ويدفعه لرؤية الأشياء بمنظور جديد، رغم وضوحها الذي لم يتغير.

لم يكن يعلم ما الذي يخفيه له ذلك العالم الغامض، ولا ما تحمله همسات الليل الطويل من أسرار. سار بلا هدى نحو الضباب، كأنه يخطو داخل فم حوت جائع ينتظر فريسته. كان الضباب يحيط به كوشاح رمادي، يسرق ملامحه، يحتضنه ببرودة خفيفة تخترق روحه. تأمل كفيه المفتوحتين، كأنما يبحث عن حقيقة ضائعة بين خطوطهما. وحين لامس وجهه بعد هنيهة، لم يعد يميز بين بشرته والقناع الذي التصق بها، حتى كاد يصرخ من الألم—ترى، هل بات القناع جزءًا لا ينفصل عن شخصيته؟.

ثم، دون أن يدرك كيف، بدأ الضباب يبتلعه، أو ربما كان هو من يذوب فيه. هل كان يتحرر، أم كان يختفي؟ لم يعرف، ولم يكن هناك من يخبره بذلك.

***

كفاح الزهاوي

أهبط في ماء أسمائها عاريا

من تواريخ ما كنت أو كان

***

1. فَائِرُ اُلتَّجَلِّي

مِنْ رِوَاقِ اُلْبُرُوقِ تَدَلَّتْ

ضَفَائِرُهَا مَلَكُوتُ اُشْتِعَالِي

اُرْتَدَيْتُ لَهَا بُرْنُسًا

نَسَجَتْهُ أَنَامِلُ سُهْدِي

وَ قُلْتُ:

(لَكِ اُلذَّاتُ صَلَّتْ عَلَى وَتَرِ اُلصَّحْوِ

مُنْذُ عُرُوقي اُرْتَوَتْ مِنْ ثُدِيِّ اُللُّغَهْ

وَ رَمَتْنِي بِأَنْفَاسِهَا رَقَصَاتُكِ

لَسْتُ أُجِيدُ اُلتَّشَكُّلَ فِي غَيْر كَأْسِ اُلزَّمَانِ

وَ فِي كَرْمَةٍ مِنْ وَهِيجِكِ

تَرْفَعُ مَكْرَ اُلْمَكَانِ،

تُسَبِّحُ بِاُسْمِكِ فِيَّ اُلْكَوَائِنُ؛

كَيْفَ أَرَاهَا إِذَا لَمْ تَكُونِي بِهَا؟.)

**

2. أَزِقَّةُ بَحْرِ اُلتَّشَابُه

خَدَرًا أَتَصَبَّبُ

خَطْوَتُهَا شَجَرٌ فِي دَمِي

مُثْمِرٌ بِيَوَاقِيتَ

بَاسِمَةٍ كَاُلْغَرَانِيقِ،

أَيَّ بِحَارٍ أُعَانِقُ

كُلُّ اُلْمِيَاهِ بلَوْنِ اُلْغَرَقْ؟

نَغْمَةً

مَوْجَةً

شُعْلَةً

أَتَلَوَّبُ

عَنْ تُرْبَةِ اُلنَّفْسِ هَجْسِي اُفْتَرَقْ

وَ اُلزَّمَانُ قَرَاطِيسُ

تَنْزِفُ فِيهَا اُللُّغَاتُ،

بَخُورُ اُلتَّآوِيلِ يَغْمِزُنِي بِاُلسَّنَابِلِ

هَلْ أَمْتَطِي اُلْبَقَرَاتِ اُلَّتِي اُنْدَلَعَتْ

فِي أَزِقَّةِ بَحْرِ اُلتَّشَابُهِ؟

أَمْ أُرْضِعُ اُلْوَقْتَ نَأْيًا؟

تَدَلَّتْ عَلَيَّ

اُنْبَلَسْتُ

فَوَاكِهُهَا جَنَّةٌ مِنْ عَبِيقِ اُلرُّؤَى

كُلَّمَا قَطَفتْنِيَ وَاحِدَةٌ

هَدَلَتْ أُخْتُهَا

بِسِلاَلِ اُلْغَوَايَةِ

حَتَّى اُشْتِبَاك اُلْفَضَاءاتِ فِي نُقْطَةِ اُلْمُنْتَهَى.

**

3. طَلاَسِمٌ تَتَفَيَّأُ اُلْجَسَدَ

وَرْدَةٌ صَوْتُهَا

تَتَقَطَّرُ فِي أُذُنِي

مِثْلَمَا لُؤْلُؤُ اُلْغَيْبِ

لاَ مُنْتَهَاهَا عُرُوجِي،

فَأَيُّ فَمٍ يَلْقُطُ اُلتَّسْمِيَّهْ

مِنْ لَهِيبِ اُنْفِتَالاَتِهَا

حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهَا اُلزَّبَدْ؟

أَوْ تَلُفُّ غَيُومَ اُلصَّدَى؟

نَبْضُهَا لاَزَوَرْدُ اُمِّحَائِي

لَهَا اُلْحَدْسُ يَنْقُشُ أُخْيُولَةً

وَ أَسَاوِرَ مَجْلُوبَةً

مِنْ كُنُوزِ اُلْغَرَابَةِ.

أَعْرِفُ أَنَّ طَلاَسِمَهَا تَتَفَيَّأُنِي

مِثْلَمَا يَتَفَيَّأُ ظِلُّ اُلرَّدَى جَسَدِي

كُلَّمَا اُقْتَرَبَتْ شُلَّ حِسِّي

مَحَاسِنُهَا طَعْنَةٌ مِنْ عَقِيقٍ

وَ إِيقَاعُهَا طَلْعَةٌ مِنْ عُذُوقٍ

هِيَ اُلْأَرْضُ؛

فُسْحَتُهَا اُلْيُتْمُ

كَيْفَ إِلَى سِرِّ سُرَّتِهَا أَهْتَدِي؟!

**

4. تَبَرُّؤٌ مِنَ اُلدَّمِ

كمْ تَرَدَّى بُرُودَ اُلْخَسَارَةِ فِي دَرْبِهَا عَاشِقٌ

كَمْ لِجُوعِي رَمَتْ كِسَرَ اُلسُّهْدِ

حِينَ تَغَذَّتْ بِرُوحِي،

لِبَسْمَتِهَا جَمْرَةُ اُلظَّنِّ

وَاُلْعَبَقُ اُلْقُدُسِيُّ

تُسَرِّبُ فِي اُلدَّمِ خَيْلاً مِنَ اُلْحَيْرَةِ اُلْأَزَلِيَّةِ

إِنْ صَادَهُ وَرَلُ اُلْإِغْتِبَاطْ

هَلْ أُسَمِّي أَحَابِيلَهَا قُبْلَةً

وَ مَرَاوِدَهَا وَقْفَةً

ببَيْنَ أَعْرَافِ نَزْفِي؟!

إِذَا دَاهَمَتْنِي بِلَيْلِ اُلسِّيَاطْ؟!

فِي شِغَافِي شُمُوسُ شَذَاهَا مُعَرْبِدَةٌ

وَ عَلَى كَفِّهَا

أَتَقَرَّى اُنْشِطَارِي

وَ أَهْبِطُ فِي مَاءِ أَسْمَائِهَا

عَارِيًا مِنْ تَوَارِيخِ مَا كُنْتُ أَوْ كَانَ،

إِنِّي اُنْخِطَافٌ تَبَرَّأَ مِنْ دَمِهِ.

(دَمُهُ

كَاُلتَّوَاطُؤِ

يَصْعَدُ هُوِّيَّةً مِنْ عَمَاءْ

وَ اُلْفَضَاءَاتُ كِبْرِيتُ فَجْعٍ

يُلَوِّحُ مِنْدِيلُهَا لِلْخوَاءْ)

لاَ سُلاَلَةَ تَرْبِطُنِي بِجُذُورِ اُلدَّياجِي

اُشْتِهَائِي مَحْوٌ

وَ خَطْوِي مَغَازِلُ

(مَنْ يَكْسُ سَوْءَةَ هَذَا اُلْوُجُودْ

اُلْوُجُودُ اُلَّذِي يَتَلَأْلَأُ بُؤْسا

عَلَى حَافَةِ اُلْوَقْتِ؟

جُمْجُمَةُ اُلرُّعْبِ تَضْحَكُ

مِلْءَ اُغْتِبَاقِ اُلْمَدَى)

كَيْفَ مِنْهَا أَفُكُّ مِنْهَا عُرُوقِي

إِذَا نَاوَشَتْنِي؟

وَ أَلْقَتْ عَلَيَّ بِأَسْبَابِهَا؟

سِحْرُ سُلْطَانِهَا نَفَسِي

بِهِ أَدْرَأُ غَائِلةَ اُلْكَوْنِ عَنِّي

وَ أَمْضِي

إِلَى سُبُلٍ

أَوْرَقَتْ فِي اُلْبَصِيرَةِ

لاَ مُنْتَهَاهَا بَهَاءٌ وَلُودْ.

**

5. مِسْمَارُ ضَوْءٍ

خَرَقَتْنِي كَمِسْمَارِ ضَوْءٍ

عَلَى شَفَتِي طَائِرٌ مِنْ تَلاَوِينِهَا

يَنْقُرُ اُلْكَلِمَاتِ اُلَّتِي أَنْبَتَتْهَا جِرَاحِي

اُلْأَصَابِعُ تَشْرَبُ مِنْ صَدْرِهَا وَهْوَهَاتٍ

كَمَا نَارُهَا تَشْرَبُ اُلْعُمْرَ مِنِّي

اُمْتَزَجْنَا كَقَطْرَةِ نُورٍ

عَلَى حَافَةِ اُلْمُشْتَهَى.

**

6. جُؤَارُ اُلسَّرِيرِ

فِي اُلضُّحَى

اُسْتَيْقَظَتْ خَلَجَاتُ سَرِيرِي

رَأَتْ فِيهِ بَعْضِي

وَ بَعْضِي اُخْتَفَى

جأَرَتْ

(يَا اُلَّتِي مِنْ رِوَاقِ اُلْبُرُوقْ؛

هَلْ تُسَمِّينَ هَذَا سَنَاءْ؟.)

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

قَيَّدَتْني غُربتي بِحَبلِ الأسئِلَةِ،

تُذَكِّرُني أَنَّ البحرَ خَيْرُ رَفيقٍ عندَ خوفي،

وهَواجِسِ المَجهولِ، وفي كُلِّ مُعضِلَةٍ،

أَهرُبُ إليهِ كُلَّما يَصفَعُني لَيْلٌ طَويلٌ…

يَستَقبِلُني…

يُفَتِّشُ ما بَيْنَ قَلبي والضُّلوعِ،

وحينَما لا يَجِدُ “مَمنوعاتٍ”،

يُصادِرُ قَلبي، ويَترُكني مُقَيَّدًا،

أُبْحِرُ وَحيدًا مِنْ غيرِ أَنْ أَسأَلَهُ…

*

بَعدَ “بَرَاءتي” عانَقَني، وأَجْلَسَني بَيْنَ أَمْواجِهِ،

يُطْعِمُني أَسْماكًا، وطَحالِبَ مِنْ سُكَّرْ…

أَسْمَعُ ثَرثَرَةَ نُجومِهِ وهيَ تُراقِبُني،

وحِيتانٌ تَسخَرُ مِنِّي،

وتَنثُرُ فَوْقَ جُنوني عَنبَرًا…

خارِطَةُ العُمرِ وُشِمَتْ على جيدِ سَحابَةٍ،

أَفْواهُها فاغِرَةٌ… وضَفادِعُ مِنْ خَوفٍ تُمطِرْ،

تَرجُمُ رَأسي، فَتَعودُ إِلَيَّ ذاكِرَتي،

تَحتَضِنُ وُجوهًا عادَتْ في أَجمَلِ مَنظَرْ…

*

مَهْلًا أَيُّها الصَّبْرُ، تَوَقَّفْ عن جَلدي…

فَلَم أَعُدْ أَقوَى على الإِبْحارِ وَحدي،

فَشِراعي مَزَّقَتْهُ مَخالِبُ الرِّيحِ،

وَهُمومٌ تَلتَفُّ حَوْلَ خاصِرَتي، تُحاوِلُ صَدِّي،

فَلا المَجاذيفُ أَلِفَتْ أَنامِلي،

ولا الأَمواجُ تُقَاوِمُ شَراسَةَ مَدِّي…

*

الأَسْماكُ مِنْ حَوْلي تَفِرُّ بَعيدًا،

وكَأَنِّي بَيْنَ أَسْرابِها قِرْشٌ تَنمَّرْ،

وشِباكُ صَحْبٍ تَقَطَّعَ خُيوطُها،

تَجَمَّلوا بالزَّيْفِ خَلْفَ الكِمّاماتِ،

كَذِئبِ اللَّيْلِ عن نابِ الوَقيعَةِ كشَّرْ…

والجَسَدُ المُتَهالِكُ يَخافُ مِنْ جائِحَةٍ تُرْديهِ،

وحُلمُهُ باتَ رَمادًا، ثُمَّ تَبَعْثَرْ…

لا يَدري:

هَل بَيْنَ شَهِيقٍ وزَفيرٍ يَكْمُنُ؟

أَمْ تَحتَ أَظافِرِ المَجْهولِ عَمَّرْ؟

*

ها أَنَذا… أَضَعْتُ بوصَلَةَ الأُمْنِياتِ،

عَواصِفُ الحِيرَةِ تَتَقاذَفُني،

وأَمواجُ التِّيْهِ تَسْحَبُني إِلى المَجْهولِ،

أَرَقٌ يُشاكِسُني، ويُقَلِّبُ دَفاتِري، ولَيْلٌ تَجَبَّرْ،

وأَنا ما بَيْنَ لَسَعاتِ قَنادِيلِ اليَأْسِ،

وإِرْهابِ الظُّلْمَةِ، وبَطْشِ الغُرْبَةِ،

أَتَلَمَّسُ خُيوطَ الفَجْرِ، وأَظَلُّ أُناجي:

رَبًّا تَعَهَّدَني في مَهْدي وتَلَطَّفَ بي يافِعًا،

وبِرَحْمَتِهِ، لا يَتْرُكْني وَحيدًا،

فِي دَوّامَةِ الزَّمَنِ،

كَزَورقٍ بلا دِفَّةٍ، ولا سارِيَةٍ… أَتَقَهقَرُ

***

جواد المدني

 

أبناء الطين المجفف بالحب الغازي…

لا يعرف شيئًا عن النتوءات التي ترقد في خاصرة الجبال،

ولا يفهم لِمَ تُغني الصخور العتيقة في البلاد حين تشرق الشمس على شقوقها.

و كيف تتحسس يد العجوز التراب كتحسسها رأس الحفيد.

*

أيها الغازي…

نحن حين نعجن خبزنا، لا نكتفي بالدقيق،

نمدّ أيادينا إلى الذاكرة،

نذرّ فيها زعتر الأمهات،

وريحان النوافذ الذي شهد صيف الحصاد،

نخبز الرغيف في تنورٍ من الحنين،

ونرسم على وجهه تجاعيد جدٍّ مات واقفًا في أرضه،

كشجرة زيتون تعلّمت الصمت من كثرة ما مرّت عليها الريح.

*

لا تأكل معنا،

فأنت لا تعرف كيف يُغمس الخبز في الزيت والملح والدعاء.

أنت لا تسمع نشيد الأرض بعد المطر،

حين تتلو الغيومُ أسماءنا…

وحين يُنبت الوادي وجوه أسلافنا،

زاحفين من الطين،

بعيونٍ شديدةِ القدم،

وأحذيةٍ من سُخام المعارك القديمة.

*

أيها الغازي…

نحن لسنا من تراب عابر،

نحن من طينٍ يُجفف بالحبّ،

نُغمس في الشمس،

ونُترك على حوافّ الأيام حتى يزداد الجلدَ صلابة.

*

نحن الذين وُلِدوا من رحم التراب، والرماد،

جئتنا متوهّمًا أن التاريخ حجر يمكن قذفه،

لكنّك لم ترَ الأظافر التي حفرت الحكاية على صدر الكهف،

ولم تسمع غناء المزامير حين نكبد الضباع فصول الخسارات الكبرى.

*

أيها الغازي…

هل جرّبت أن تُقَبِّل أرضًا فتبتلعك؟

هل سمعت عن قرى تنام وهي تلد أبناءها من الحجارة؟

فنحن نُولد من رحم الصخر، المبلّل بالصبر،

*

أيّها الغازي…

أيّها العابر بين الحُجب،

أيّها المطمئن إلى خوذةٍ تلمعُ تحت شمسٍ ليست لك،

قفْ حيث لا ينبت ظلك،

فالأرضُ التي دنوتَ منها ليست أرضًا… بل ذاكرة.

*

أيّها الطامع،

لم يعلّمك أحد كيف تقرأ الأرض بعد المطر،

كيف تُدمي الأقدامُ الترابَ

فتُكتب أسماءُ الأجداد بحروفٍ مبلّلة بالعرق،

وكيف تُنبت الزهور من صُراخ الولادة الأولى،

من رعشة الخوف الأولى،

من شهوة الأرض الأولى.

*

نحن أبناء الطين،

الذي جُفف بالشوق،

بدموع الحصّادين،

بضحكات العشاق في البساتين،

نحن الذين نُغني للعشب،

حين ينبت في باحة الدار.

نُكلم الينابيع بصوت الجدات،

ونربط أبوابنا بخيوط المطر.

*

نحن أبناء التراب الذي لا يُشترى،

ولا يُمْحى!!

*

أيّها الغريب،

أصابعك لا تعرف ترتيبَ الحصى في الطريق،

ولا كيف يُخبَّأ مفتاح الدار تحت أصيص الزهر،

ولا ماذا يعني أن تقف تحت شجرةِ تينٍ

في تموز،

وتُقسم بشفاهٍ يابسة  ، أنك تنتمي....!

*

لك خوذتك،

ولنا أغنية الجدّة حين تهبُّ الريح،

لك سلاحك،

ولنا الدفء المتسرّب من فُرن الطين،

لك الخرائط المزيفة،

ولنا خطوطُ الكفِّ،

حين تُفتح في وجه الشمس وتقرأ الأرضَ كما تُقرأ القصائد.

*

نحن أبناء الطين المجفف بالحب،

ولدنا من ظلال الشهداء،

ومن حكاياتٍ عتيقة،

ومن صمتٍ ينام بين ضلوع الأرض،

لكنّه إذا استيقظ…

زلزل الجبل.

***

مجيدة محمدي

استشرى الخوف في النفوس

الشجاعة والصدق في النضال نشاز ......

الصمت مصدر نجاة في حياة تحتضر ....

***

لم يكن "سلام" يومًا رجلاً عادياً. كان يشبه شجرة نمت في صخر، جذورها لا تخترق الأرض بل تفتتها. حين التحق شابًا بجهاز أمني في إمارة سيكا، لم يكن يبحث عن جاه ولا سلطة، بل كان يفتّش عن موقع يستطيع فيه الدفاع عن وطنه من الداخل، من عمق الجحيم ذاته.

تقلّب في مهامه كمن يتقلّب على الجمر. وظيفيًا كان تحت سلطة والٍ فاسد، أما وجدانه، فكان مسكونًا بقبيلة نضالية آمن بأنها صوت الحق في أرض تكاد تنسى معنى العدل. انتمى لها بكل جوارحه. قرأ صحفها، تظاهر تحت راياتها، وأحيا في شوارع الإمارة صدى شعاراتها. لكنه، كغيره، لم يكن يعلم أن الزعيم الترابي الذي تتغنّى به المقالات وتقدّسه الصور، كان يمضي ليله في موائد الحاكم، يفاوض على حصته من صمت القبيلة. استغل هذا الزعيم منذ شبابه إلى شيخوخته موقعه كمقرب من رئاسة الإمارة وحاشيتها. ربما كان يلعب دور الوساطة بين الزعماء المركزيين ومصادر القرار. استمر مستغلا كتمانه أسرار الإمارة إلى أن وافته المنية.

في البدء، صُعق سلام تذمرا. ثم أنكر. ثم برّر. لكنه في النهاية، كبُر داخله اليقين بأن بعض الأصوات ترتفع فقط لتُخفِي صوت الخيانة.

مرّت السنوات. لم تكن الأيام في سيكا تمرّ، بل كانت تُجلد. كل يوم كان جلدة جديدة على ظهور الشجعان. شيئا فشيئا، بدأت الشجاعة تتراجع. ليس هربًا، بل إنهاكًا. وبدأ الخوف يتسلل كضباب خفيف، لا يُرى لكن يُشعر به.

أدرك سلام أن ما يسري في دمه لم يعد شجاعة صافية، بل مزيجاً ساماً من الرجولة والوجل، من الصمود والرغبة في الفرار. تحول ذلك المزاج إلى مرضٍ لا علاج له، كأن روحه أصبحت رئة مصابة بتليّف لا يُشفى.

لكنه لم يصمت. لم يعرف للسكوت طريقاً. وقف في ساحات الصراخ حتى حين خلت من الحناجر. خاطب شباب القبيلة:

"يا أبناء الأرض... لا تصدّقوا أن الصمت حكمة. الحكمة التي لا تُنطق تذبل. والشجاعة التي تُدفن بالخوف تخرج من قبورها على شكل استسلام."

كانوا ينظرون إليه بدهشة. رجل في نهاية الخمسين، بهيئة شيخ أنهكه المرض، وعينان لا تزالان تلمعان بشرارة لا تنطفئ. لم يطلب منهم أن يحملوا الرايات، بل أن يحملوا نفوسهم بلا خوف.

أحدهم، شاب يُدعى فهد، سأله ذات مساء:

"سلام، ما نفع شجاعتك اليوم؟ ما الذي تغير؟"

ابتسم سلام، وأشار إلى صدره:

"ما تغير؟ قلبي. لم يمت."

ثم همس:

"ربما أموت غدًا، لكني أريد أن أموت واقفًا، شاهقًا، لا نادمًا ولا ناسيًا من أكون."

***

الحسين بوخرطة

فصل من رواية سيرة سلام "مرثية كفاءة نضالية"

أرانيْ كُلّما واعدْتُ أمْسي

وجدتُكِ فيه زائرةً لأمِّي

*

كأنّكِ قد علِمتِ بأنَّ أمسًا

أوَى أُمّي غدا لي كلَّ همِّي

*

أُقيمُ بهِ وأولِجُ فيهِ يومي

فيومٌ دونَ أُمٍّ محضُ شُؤْمِ

*

ألا أنعِمْ بها أمًّا تُسوّي

الزّمانَ فلا يعودُ أبًا لغَمِّ

*

فآثرْتِ النّزوحَ إليهِ روحًا

ليَلْقىْ وهمُكِ الموْلودُ وهْمِي

*

بعينيِّ الأسى دونَ العيونِ الـ

لتي في صفوِها صادفْتُ رسْمِي

*

وجفْنيهِ وراءَهُما الجفونُ الـ

لتي من سحرِها اسْتوحيتُ نظْمِي

*

ونارٌ دونَها الشّفَتانِ فيما

مضَى لم تنطفيْ إلّا بلَثْمِي

*

وسرْدُ الصّمتِ مُكْتَتِمًا جديثًا

خلا اسْمي فهْو في كيفِي وكمِّي

*

أتيتِ لتُعْتِقي في نورِ أمّي

صِبًا سجّنتِهِ من غيرِ إثْمِ

*

وأنتِ بموطنٍ يُفنَىْ صباهُ

بسِجنِ عدوّهِ من غيرِ حُكْمِ

*

فهلْ سكن العدوُّ بنا فصِرنا

نُطاوعُهُ علينا دون علْمِ؟

*

أمِ اجْتازَتْهُ قسْوَتُنا تُجازي

الصِّبا فينا أيادينا بلجْمِ

*

وأنتِ بموْطنٍ تفديهِ أمٌّ

ربا فيْ حِضْنِها في دارِ يُتْمِ

*

وإذْ خرْتِ النّزوحَ لدارِ أمْسي

فأنتِ حقيقةٌ بنعيمِ أمِّي

*

وأَمسي حاضري وغَدِي وأمّي

لأَمْسِي حظُّهُ المودي بخِصْمي

*

أُحبّكُ ما حييتُ؟! بلىْ فأُمّي

فلسطيني الّتي تجْري بدَمِّي

*

ويبقى للنُّهى والقلبِ منّي

سؤالٌ في دميْ يسريْ كسُمِّ

*

لماذا حينَ واعدْنا غدًا غا

بَ حُلْمُكِ تاركًا للرّيحِ حُلْمِي

***

أسامة محمد صالح زامل

في قريةٍ صغيرة محاطة بأشجار الصنوبر والضباب، كانت هناك عادة قديمة: حين يُعقد وعد بين اثنين، يُقدَّم أحدهما للآخر سوارًا مصنوعًا من خيوط ملونة تنسج تحت ضوء القمر.

يُقال إن تلك الأساور لا تنكسر إلا إن خُذل الوعد. وكل من يفقد سوارًا، يُقال إنه يفقد بعض ظلَّه.

في إحدى زوايا القرية، عاشت ليل كانت ترتدي خمسة أساور في معصمها الأيسر، لكل واحد منها قصة، وكل قصة بقايا حلم. قالوا لها: "أنتِ محظوظة، كم من الوعود تحيط بك. كانت تبتسم في صمت ثقيل. كانت تعرف جيدا أن من يحمل الوعود لا يعود حرًا.

في إحدى الليالي، وبينما كانت تسير قرب النهر، شعرت بسوار يشدّ على يدها كالقيد.  نظرت إلى الماء، وهمست:

 "لم أعد أُريد أن أحمل ما لا يُحمَل."

فكّت الأساور واحدًا تلو الآخر، ورمتها في النهر، دون دمعة، دون وداع. كل سوار سقط بهدوء ضاع في الطين كأنه نهاية جملة نُطقت منذ زمن بعيد في النهار كانت الشمس ساطعة وظل ليل طويل. تغني أساور الوعود وهم واساور الكبرياء ذهب

***

رائدة جرجيس

مترددا أمام الصراف الآلي سحب بطاقته قبل معرفة الرصيد. خفقة قلب تؤذن بأن ما تبقى من راتبه لا يكفي لتجهيز وليمة لأخيه العائد من غربة في ربوع كندا الساحرة.

غربة! وابتسم بسخرية حين نطت إلى ذاكرته عشرات الصور التي يغص بها حساب الأخ الأصغر في انستغرام: مسكن بالعاصمة تسيجه حديقة ومسبح ومرآب للسيارة. وزوجة من بغداد هرّبت ملامحها الأشورية إلى أوروبا قبيل الزحف الأمريكي على كبرياء صدام حسين وآبار نفطه. ومقاولة تحلب وزارات العالم الثالث مقابل استشارات ودراسات تذهب أدراج النسيان.

- أنا الغريب المغترب في وطني. ثلاثون عاما أحمل فوق رأسي خبزا تأكل منه طيور الوزارة وغربانها. يرحل وزير وحاشيته، ويأتي وزير آخر وحاشيته. وبين هذا وذاك تتدلى كروش، وتتضخم أرصدة، ويتخرج أبناء مترفون من جامعات أوروبا ليستكملوا الرضاعة من ثدي الوطن الأم، بينما راتبي كنقش صخري، لا يتبدل ولا يتغير.

هبت ريح خفيفة كنست وريقات الخريف المتعبة. دس يديه في جيوب معطفه ثم انطلق كسهم إلى بيت الوالدة. تلك عادتنا حين تبعثر الدنيا ما في القلب من طمأنينة. قبّل جبهتها ويدها ثم اضطجع في فناء الدار. رن الهاتف بعد لحظات ليستعجل الرئيس حضوره لاجتماع طارئ:

- زميلكم الذي كان راقدا بالمستشفى وافته المنية. والإدارة كما تعلمون لم تحظ بعد بمخصصات لإظهار التكافل مع موظفيها، لذا أقترح التبرع بمبلغ محترم لتأدية واجب العزاء.

خفقة قلب تؤذن بأن ما في محفظته ليس محترما بما يكفي، لذا سارع لإبداء مقترح بتثبيت حصالة تودع فيها المساهمات بكل أريحية. ضربة معلم تنفس زملاؤه على إثرها الصعداء. ليس وحده من يئن تحت وطأة الإفلاس إذن! أما المدير الذي لم يجد بُدا من الموافقة فقد سدد واجب العزاء مقدما، على أن يسترده من الحصالة متى سنحت الفرصة. شهامة!

على الجمر كان إبريق الشاي يغلي بحماس، بينما صوت الوالدة يردد للمرة الألف ما علق بذهنها من أبيات ملحون قديمة:

الصلاة من الله عليك يا العدناني

يا عين الوجود سلطاني

يا روحي وراحتي طه المحبوب

 ألا مَثلُه احْبيب محبوب..

بضع رشفات من شايها حلت عقدة لسانه، فشكا إليها الغلاء ومصاريف الأولاد بعد انتسابهم للجامعة. ثياب جديدة وهواتف، وأتوبيس تزحف تذاكره اليومية على خمس راتبه. يخجل الأولاد من طلبهم المتكرر فتكون الأم رسولهم إلى جيبه الموقر. هيت لك !

مسدت بيدها ما تبقى من شعر رأسه، وهي تلهج ببساطة العيش التي اكتنفت أربعين سنة من حياتها مع المرحوم:

- كانت البَركة تحُف كل شيء حتى الوجع، أما أيامكم هذه فلا الولد يشبع، ولا الروح تقنع. الله يستر!

قبّل يدها ثم انسحب بخفة. لا يدري لم يُتعبه حديث النهايات المفعم برائحة الموت. أين البركة في طفولة جائعة وحافية؟ عاشت أمه كغيرها من آلاف الأمهات، لا تأبه لتفاصيل الحياة. يد تدور مع الرحى، وأخرى تجمع الحسنات بسبحة من الخرز. رضا وتسليم لم يذقهما منذ زمن، كأن الهموم خُلقت لجيله الذي يمضي حائرا بين الرحم والقبر.

طرق الباب ففتحته وهي تبدي قلقا لتأخره على غير العادة. أومأت برأسها إلى وجود ضيوف بالداخل فأظهر اشمئزازه. لا شك أن خلف الزيارة ما سيرفع ضغط دمه. مد يده مصافحا فسارع الجار لاحتضانه وتقبيله، أما الزوجة فأكثرت من دعاء الستر والحفظ، والنجاة من أي مخطط يحيكه الشيطان وأعوانه من الإنس والجن. تذكّر مخطط الحصالة فانفرجت أساريره لأنها لن تحلم بدرهم واحد قبل سنة. لِيحكّ الرئيس صلعته ندما على وثوقه بكتيبة من المفلسين!

التمس الجار إجراء حفل خطوبة ابنته هنا. الصالون رحب وردهة الدار تستوعب أقارب العريس المنتظر. حك جبينه ثم لم يجد بُدا من الموافقة. الجار للجار سترة. باشرت زوجته على الفور ترتيب المخدات فأقسمت الجارة أنه واجب عليها.

رن هاتفه قُبيل الفجر بلحظات فهب من سريره كقط مذعور. جلبة وأصوات نداء كأن المتصل في مخيم للكشافة. بدا الأخ المهاجر غير مكترث وهو يطلب أن يُقله من المطار.

- صندوق التاكسي صغير ولا يتسع لجلب الأمتعة. عجّل بإحضار سيارة نقل!

غير متردد أمام الصراف الآلي وضع بطاقة السحب، ثم ضغط بسبابته قبل أن يشعر بخدر في يسراه، وهوة تحضنه بلا استئذان!

***

حميد بن خيبش

 

سُمّيتِ قاهرةً! هل تقهرينَ عَدا؟

قلوبَ مَنْ وهبوا ما يملكونَ فِدا

*

أُنْبيكِ لم تقهري ذبّاحَ غَزّتِنا

لكنْ قهرتِ الذي صوْبَ السماءِ عَدا

*

صدقاً ولم تقْهَري في عَهْدِ مُنْقَلِبٍ

إلا بَني شعبَكِ الأحرارَ والسَنَدا

*

أرثيكِ قاهرةَ الناجينَ من شَرَرٍ

لُؤماً وناهِرَةَ الراجينَ منكِ نَدى

*

نادوا عليكِ وراءَ السورِ وا أسفي

نادوا ولم تسمعي للراحلينَ نِدا

*

نادوا عليكِ حُماةُ الأرضِ كي تَلِدي

جيلَ العُبورِ الذي أوفى بما وَعَدا

*

الشاذِليُّ بذاكَ اليومِ رَدّدَها

اللهُ أكبرُ قبلَ الفجرِ واتَّقَدا

*

ياعابرينَ شواطي النارِ بي عَتَبٌ

هل غابَ عنكمْ لظى تشرينَ وابتعدا

*

وعينُ جالوتَ في التاريخِ هل سُمِلتْ

أمْ عُهْرِ سامِلِها للعالمينَ بَدا

*

ضنَّ الغيارى غداةَ الحُلْمِ أسكرهم

تأتي الشقيقةُ (بالنُعمى) تَمُدُّ يَدا

*

تلكَ التي سكنتْ في خاطري زمناً

ضاعتْ فتاهتْ خطى العُشّاقِ محضُ سُدى

*

كُبرى الشقائقِ إذْ تعمى بصيرتها

تمشي لِهاويةٍ ظلماءَ دونَ هُدى

*

شقيقةٌ أنكرتْ قُرْبَ العَريشِ أخاً

قد ذبّحوا أمّهُ والبنتَ والولدا

*

تنمو شقيقتهُ الكبرى ورُبّتَما

فاقتْ بلا حَسَدٍ جيرانَها عَددا

*

وكلّما كَبُرتْ وَلَّتْ حكومتها

للثائرينَ تشدُّ الحَبْلَ والمَسَدا

*

لاكتْ بسكّينها أكبادَ صبيتِهِ

وغرّزت في قلوبِ النازفينَ مُدى

*

شيخٌ بغزّةَ يرجو الغوثَ من عطشٍ

لكنّهُ لم يذقْ من نهركِ المَددا

*

النيلُ يكفي عطاشى الكونِ قاطبةً

وتسكُبينَ له الزقّومَ والزَبَدا

*

نادى ونادى وراءَ السورِ جارتَهُ

مُسْتصْرِخاً إنّما لم تلْتَفتْ أبَدا

*

أوتارُ حنجرةِ الظامي تَسحُّ دَماً

كعازفٍ للورى لحْناً بدونِ صَدى

*

صُمّاً ينادي، سماواتٍ بها صَمَمٌ

زخّتْ هنا حِمَماً، سَحّتْ هناكَ ردى

*

أوْما لِسُكّانِ واديها العَريقِ فَما

هَبّوا لِنجدَتِه بل لم يَجِدْ أحَدا

*

أتتبعينَ دُويْلاتٍ مصنّعةٍ

وتجهلينَ ضفافَ النيلِ والبَلدا

*

وتلجمينَ ضميرَ الشعبِ لو غضبا

وتنكرينَ دَمَ الأحرارِ والشُهدا

*

شَمّ الرياحينَ ليلاً حولَ خيمتها

فجاءها راجياً يستعطفُ الوتَدا

*

فَهالَهُ إذ رأى الأوتادَ خاويةً

لم تشتعلْ نخوةً أو تتقدْ رَشَدا

*

جنودُ هامانَ قد صاروا لها حَرَساً

يقتصُّ من لائذٍ لو حَجَّ أو قَصَدا

*

فهبّتْ الريحُ من سيناءَ عاصفةً

وهدّمتْ خيمةَ الأعرابِ والعَمَدا

*

يا طالباً من لئيمِ الدهرِ مكرمةً

هلْ فاقدُ الشيء يعطيك الذي فَقدا؟

*

فَعمدةُ الخيمةِ الصفراء مُتّخِذٌ

تابوتَ مَنْ ذبّحوا الأطفالَ مُلْتَحَدا

*

يا أرْمَدَ القلبِ والعينينِ كُنْ حَذِراً

إنَّ العَمى آفَةٌ قد تتبعُ الرَمَدا

*

يَحِثُّ فِرْعونُها هامانَ يأمُرُهُ

رَدْمَ السبيلَ إذا ما ضامئٌ وَرَدا

*

كأنّهُ سادِرٌ في غيّهِ ثَمِلٌ

بَلْ سامريٌّ لغيرِ العِجْلِ ماسَجَدا

*

إخشيدُها أودعَ التلمودَ مُهْجَتَهُ

لِيرضعَ اللؤمَ من أسفارها أمَدا

*

أبواقُ كافورِها المجذومِ نابحةٌ

ليلاً وناهشةٌ من طِفْلَةٍ كَبِدا

*

نامتْ نواطيرها عن غدرِ ثعلَبِها

فعاثَ في حقلِها الميمونِ مُنفردا

*

ساقَ الحُداةُ لوادي النيلِ قافلةً

وكم فقيراً الى أمِّ الجياعِ حَدا

*

لكنّها لم تَرَ الصدّيقَ يوسفَها

حتى يكيلَ لها كُرمى لِمَنْ وَفَدا

*

فالنيلُ جافى فراتَ اللهِ مبتعداً

عن شطِّ دجلةَ والخابورِ أو بردى

*

ما أكثرُ الجندَ في سيناء يا أبَتي

وحينما أزِفتْ تاهوا بها بَددا

*

الغوثُ يا والدي قد جَاءَ من يَمَنٍ

من صَعْدَةَ العزِّ صوْتُ الحقِّ قد صَعَدا

***

د. مصطفى علي

 

من كل ناحية ينخرْن في جسدي

يا منبع الحزن والآهات والكمدِ

*

قد كنت أحسب أن السانحاتِ مضتْ

يا هذه النفس بِينِي عن هنا ابْتعــدي

*

قد تُهْتُ فيكِ سنينًا لا حنين لها

وكنتُ فيها هباءً دونما سنـــــــدِ

*

لكنني، وأنا المغبونُ في خَلَـــــدي

أكتـِّم الآهَ، والأحوالُ طوعُ يدي

*

يا نفسُ هذا خيالٌ جامحٌ وهوى

يا هذه النفحة البيضاء، فاتَّقدي

*

أطارد الفرحة العرجاء منفــــــــردا

هذا السراب، وذاك الظامئ الأبدي

*

كل المحامد ضاعت في الزمان سدى

الآن تُوقِعُني في غمرة الحســـــــــد

*

تلك المعارك سادت في الحياة لنــــــا

أورتْ زناد الجوى، أوهتْ به جَلَدِي

*

لا أستطيع فكاكًا ما حللت بها

ولا أريد بقاءً ضلّ بالجسد

*

هذا قصيديَ لا أرضَى له بـــدلا

هذا أنيسيَ في نومي وفي سهدي

*

يصوِّر النفس، والأحزانُ صامدةٌ

يجسِّد البوح، لم يُنقِص ولم يزدِ

*

يطير فيَّ هُمامًا لا يخاف نــوى

لا ينحني لهبوب الريح كالوتد

***

طارق يسن الطاهر - السودان

 

احتسى قهوته في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، بعدها اخذ يرد تحية الصباح لأصدقائه الذين لا يتعدون عدد اصابع اليد الواحده. تطلع نحو السقف، ودار دورة كاملة في زوايا الغرفة ثم استقر نظره صوب النافذة التي اخذت من تفكيره الكثير من الجهد والوقت بدون معنى.. وهو يعلم ان لا جدوى ترجى من ذلك ما دامت النافذة هي الحد الفاصل بين وهم الحقيقة وحقيقة الوهم، طالما تساءل، هل للواقع وجههه النهائي ؟

سمع صراخ صبية في الشارع يتحلقون حول عربه يبيع صاحبها المثلجات وكان احدهم منزوياً، ربما ليس في جيبه نقودا أو إن عائلته تعيش الكفاف ومصاريف العيش باهظة قد لا تكفي حتى لتسد فم صاحب الايجار الجشع..

فكر، ماذا عساه ان يفعل لهذا الصبي؟ اطل من النافذه ونادى على بائع المثلجات ان يقدم لذلك الصبي شيئا منها، ورمى له بقطعة نقود.. والغريب في الأمر رفض الصبي تقبل المثلج وقال له لا اخذ شيئاً من أحد.

ولكن أنا اخذت المقابل من ذلك الوجه المطل من النافذة.

اجابه : ولكني لم ادفع شيئاً ولا اخذ من احد.

تراجع نحو عربته ونظر بإستغراب الى الوجه الذي يطل من النافذه.

من هو هذا الصبي الذي يرفض ان يأخذ شيئاً من أحد.

اجاب بائع المثلجات إنه احد ابناء حارتنا..

ولكن لماذا يرفض ؟

سأخبرك عنه حين افرغ عربتي والتقيك في باحة الموتيل عند العمة هند.

ترك النافذة وجال بنظره في أنحاء الغرفة ثانية واخذ قصة كانت مركونة عند حافة المكتبة للقاص الأمريكي (إدغار آلن بو) التي تتحدث عن فنائه الخارجي الذي تزينه أصص واشجار باسقة وزهور، وكان كعادته لا يكف عن تقديم الحبوب للطيور الجائعه عند الصباح وهي تتزاحم عند نافذته وكأنها تعرفه حين تراه يسقي الأصص اليانعة.

غاص في هذا الكتيب الذي قرأء قصته عدة مرات وفي كل مرة يكتشف شيئاً جديداً في معانيه.. وحين انتهى من قراءة القصة وضعها جانبا وعاود التحديق في تلك الفتحة التي تفضي إلى الضوء حيث الفوضى العارمة.

وهكذا كان النور الذي لا يكف عن التسلل مع فوضى الخارج عبر نافذته حتى بات هو والشارع نقيضان في متلازمة لا فكاك منها، رغم أنه كان يتقصد إغماض عينية طويلا ولكن الضوء والنافذة لا يفترقان في ذاكرته حتى خارج وعيه.

شعر بأنه سجين داخل جسده وعليه أن يحرر نفسه، فأغمض عينيه ونام، ولم يكن وحده في قيلولته، فقد نام جسده معه ايضا.. غاب عن الوعي وجسده ظل يقضاً ودقات قلبه كان لها إيقاع لم يتوقف من أجل أن يبقى على قيد الحياة، وحين حلق بعيداً شعر بأنه كان سجيناً في جسده المسجي على السرير، لقد انسلخ الآن تماما عن ذلك الكائن الذي يسمونه الجسد، وأخذ ينظر إليه من أعلى وهو في حركة دائبة بين النافذة وزوايا السقف والباب المقفلة دون أن يتورط في النظر الى الضوء المشبع بضوضاء الخارج، بينما جسده كان راكداً دونما حراك عدى إيقاع ضربات القلب في صدره الضامر.. كان يراه كتلة من اللحم مسجية على السرير لا أحد يستطيع تحريكها، وليس بمقدوره أن  يتحكم بها ولكنها لا تستطيع ان تتحكم كلياً في تصرفاتها بفعل التوازن الغريب في نظام النوم واليقظة والحركة والإشتهاء.. عاد يسأل نفسه : أين هي اشكالية الأسبقيات؟ هل تكمن  في مخيلته أم في الخارج؟

قال ذات مرة مع نفسه اللجوجة، لولا تفكيري، لما كان هناك ضوء ولا خارج ولا نافذة، ولكن الحقيقة، هو موجود وكذلك الخارج والضوء والنافذة قبل أن يفكر.. فمن يسبق من؟ الفكر أم المادة؟

يبدو ان الاشكالية تكمن في مخيلته التي لا تكف عن التساؤلات، ولكن التغاضي عن الفكر وهو إنعكاس للواقع بإعتباره جزءا منه في متلازمة وجودية صارخة، يعد أحد أهم هذه الاشكاليات.

بعد هذه المداخلات الفكرية العبثية التي لا جدوى منها قرر الذهاب الى باحة الموتيل ليلتقي ببائع المثلجات وليريح تفكيره العبثي الذي يدعو الى الرثاء.. وغالبا ما يردد مع نفسه، " متى أكف عن هذا الهراء، لقد تعبت فعلا رغم أني حاولت أن أضع نهاية لهذا السجال العبثي ولكن دون جدوى ".

مرت ثلاثة أرباع الساعة حتى دخل الى البهو بائع المثلجات بملابسه الملطخة بالالوان الأحمر والأصفر وغيرهما تفوح منها رائحة عطرة، وقال : لا أطيل عليك إنه يتيم فقد أباه في حادث مأساوي وأمه قد تزوجت لحاجتها إلى معيل والزوج رفض الإنفاق على إبنها والإبن يتكفله جده من أبيه وهو ليس ميسور الحال، الأمر الذي يجد نفسه بين عالمين فقدانه لوالده وفقدانه لوالدته بحكم الضغط والإكراه وبين حنان الجد غير الميسور وقسوته أحياناً.

فهمت، ولكن كيف نساعده وهو لا يأخذ شيئا من أحد؟

أجابه : لم لا نمد جده ببعض المال لكي يعين الولد؟

ولكن، هل يقبل الجد ذلك؟ وكيف نقنعه ورأسه صلد؟

يا إللهي، كم أنت صعب ويابس اخشى عليك ان تنكسر في يوم ما، تسد كل المنافذ ولا تفتح طريقا للعبور.. دعنا نجرب.

نجرب ماذا؟

نجرب الإستثناء من قاعدة المنطق العقلي.

ولكن، كيف؟

نذهب إلى مختار الحي ونتشاور معه في هذا الشأن، وربما يقتنع بإيصال المال بطريقته إلى الجد.

أتمنى أن يكون ذلك سهلاً وبدون أستفزاز.. ربما أن الولد قد ورث عن جده العناد في أن لا يأخذ من أحد.!

إنك، على ما يبدو تضع العصي في دولاب العجله، ولا تريدها تدور.

لا،  ما أقوله هو الإحتراس.

الإفراط في الإحتراس يعيق الحركة.. نتمنى أن لا يكون قد ورث ذلك:

لا مختار ولا هم يحزنون، سنضع النقود في يد الجد من اجل الخير وبطريقة لا إستفزاز فيها.

نقول يا عم، هذا مبلغ حاولنا تقديمه الى إبن إبنك الوحيد ورفض استلامه وقال لا آخذ شيئا من أحد وكان مصراً على رأيه بعناد، ولكن جده قد لا يأخذ منك هذا المال ويسأل، لماذا تقدمون المال الى حفيدي اريد فقط أن أعرف.؟

اجابه: رأيناه جالساً وحيداً والآولاد يشترون من بائع المثلجات ويمرحون ويلعبون إلا هو وحده كان منزوياً، وقلنا إنه قد لا يملك نقوداً، وعندما قدم بائع المثلجات له شيئا منها رفض وقال لا آخذ من أحد.. لذلك جئنا اليك بهذا المال لتعطيه إياه ليشتري ما يشاء.

اجاب الجد.. يمتلك المال ولكنه يرفض قبول المال من أحد، ليس لآنه عنود، ولكن لا يريد فحسب.. دعوه وشأنه.

عادا خائبين من لغة الجد القاسية وحين وصلا رأس الحي وبالقرب من بائع المثلجات لم يجدا الطفل ولا حتى الاطفال عدا البائع الذي قال إنهم ذهبو يسبحون في النهر القريب خلف بيوتهم في ظهيرة ذلك اليوم.

عاد الاطفال جميعهم من الشاطئ عدا هذا الصبي.. قال احدهم انه رآه يسبح والآخر رأه يخلع ملابسه ويكورها ويضع عليها حجارة، وقال آخر إنه سمعه يريد أن يعبر النهر إلى الضفة الأخرى.. وغالبا ما كان يفعل ذلك ويراه الجميع واقف فوق صخرة كبيرة في الضفة الأخرى من النهر يقفز منها ويعاود الكره ثم يعبر النهر إلى حيث اصدقائه وحارته.. لم يعد هذه المره، قفز من الصخرة وغاب.. عاد الاطفال الى بيوتهم ولم يعد.. انتفض الحي يبحث عنه دون جدوى.. أين اختفى.. يوم يومان ولم يظهر.. حتى ان البعض بدأ يتسائل : ما قصة هذه القفزة التي لم يخرج منها.. ثلاثة ايام مضت لم يره احد واستنفرت طوارئ النهر فعاليتها بحثاً عن جثة.. والنتيجة لم يظهر له من أثر. قال احدهم لم لا نسأل عن الصخرة، وسخر اخرون منه عدا واحد اشار الى ان في الصخرة لغز، لم لا نفتش عن هذا اللغز؟

قرر ثلاثة منهم العبور الى الضفة الاخرى من النهر بقارب، وسألوا بعض البيوت وكانت إجابة أحد كبار السن كانت شافية.. ماذا قال هذا المسن؟

قال: الجميع علموا أولادهم السباحة وحذروهم القفز الى الماء من الصخرة عدى الجهة اليسرى وحذروهم دون أن يفصحوا عن مخاطر الجهة اليمنى وقالو لهم القفز من اليمنى ستبتلعكم (جنية) النهر.. اقفزوا من اليسرى ولم يقولوا لهم الحقيقة إلا ذلك المسن الذي اجاب بأن في الجهة اليمنى للصخرة هناك تحت الماء فتحة لبيت قديم جداً مغمور بالماء فمن يقفز من اليمين يجد نفسه بين حيطان وسقف وظلام دامس ولن يخرج منها حياً، واضاف المسن لقد خرجت من تلك الغرفة المغمورة بإعجوبة بعد أن دخلتها من فتحة وسرعان ما اصطدم رأسي بالجدار والجدار الآخر ثم السقف وكدت ألفظ أنفاسي ولكن حين فتحت عيني لم ارى سوى فتحة مضيئة بنور الشمس فاندفعت إليها وخرجت منها طلبا للهواء.. وعرفت حينها إنها كانت غرفة في بيت قديم غارق منذ عقود.. فربما ستجدون جثته عالقة في سقف الغرفة المطمورة.

سمع الغواص القصة من الرجل المسن قبل أن يباشر الغوص وقال : هل تعتقدون بأني جاهل أو مجنون.. لا اريد أن يكون مصيري مجهولا بين (الجنية) والحيطان المغمورة بالماء..!!

***

د. جودت صالح

21/ مايس 2025

.......................

رواية: في فصول

عجلاتٍ صغيرة لعربة تصفّرُ تدفعُها أمٌّ

وجهٌ غضٌّ ينامُ على وسادة الأحلام،

الشارعُ واسع كصدرِ الكونِ،

يمتدُّ بلا نهاية،

مبلّلٌ بمطرِ الضحكاتِ الأولى.

**

أيُّ لعنةٍ تقودُ العجلاتِ إلى دوّامةٍ أخرى؟

كيف تُصبحُ ذاتُ العربةِ قيدًا؟

مقعدا للتيبُّس؟

**

يا لها من حيلةٍ،

أن يسرقَ الزمنُ نَفَسَ البداية،

ويُعيدهُا وقد تقيَّحتْ الرئتان،

أن تُصبحَ الأصابعُ التي قبضتِ الهواءَ أول مرة،

عاجزةً عن الإمساكِ بمنديلِ وداع.

**

عربةُ الطفولةِ،

عادت،

مرتدية الحداد،

أُخضِعت لقوانين الفيزياء المُهينة،

ثقلٌ، ودفعٌ، واحتكاك.

الزمنُ لم يتوقّفْ

لمّا خُطَّ أولُ اسمٍ على الشهادة،

ولا لمّا سقطَ أوّلُ سنٍّ،

ولا حينَ نطق الطفل اول كلمة،

بل ابتسمَ،

وأكملَ سِحرَه الملتفَّ كالحيّة،

وحوّلَ الضحكَ إلى تنهيدةٍ،

والركضَ إلى ارتجافٍ.

**

من العجزِ…

إلى العجز،

من حاجتِكِ للصدرِ

إلى حاجتِكِ للكتف،

من أولِ صرخةٍ

إلى آخرِ تنهيدةٍ ...

**

ها هو الزمنُ،

ينقشُ اسمه على الحديد،

ويُعيدُ الحكاية،

كأنَّنا لم نكنْ سوى فاصلةٍ

في جملةٍ طويلةٍ

**

العربةُ لم تتغيّر،

الراكبُ فقط،

هو الذي تراجعَ…

إلى نقطةِ البدءِ....

***

مجيدة محمدي

 

أمس،

دخلتُ البيتَ

دون أن يشعر بي أحدٌ.

*

زوجتي

في المطبخ،

تقطعُ أوراقَ العنبِ

لتُعدّ لنا طبقَ الدولمة.

*

وأولادي،

كلٌّ في غرفته،

مستلقٍ على سريره،

يشاهد لعبته المفضلة

وهدافه المفضل.

*

أما أنا،

فقد كنتُ حريصًا

ألا يشعروا بي،

فلديّ ما يشغلني عنهم.

*

مررتُ بهدوء

إلى غرفة الجلوس،

وضعتُ مفاتيحي

على الطاولة الصغيرة،

وجلستُ

كما أفعل كلَّ يوم،

لكن شيئًا ما

في هذا اليوم

كان مختلفًا.

*

صوتٌ في رأسي

يعدّ الخطوات

من الباب

إلى المجهول.

*

ظلي

أثقل من جسدي،

وأنفاسي

تجرُّ معها

خوفًا لا اسم له.

*

لم أكن أبحث عن شيء،

كنت فقط

أهرب من كل شيء.

*

الساعة

تتحرك ببطء،

والأصوات

تبدو بعيدة،

كأنني

في بيتٍ لا أعرفه

إلا من الذكريات.

*

لم يأتِ أحدٌ ليسألني:

هل عدت؟

هل أنت بخير؟

كأن عودتي

تفصيل لا يهم.

*

تمنيتُ

أن أعود شخصًا آخر،

أقلّ صمتًا،

أكثر وضوحًا،

لكنّي

كنت أنا.

*

والبيت،

كما هو،

ساكنٌ،

يمتلئ بما لا يُقال.

*

جئتُ محمّلًا

بأسئلةٍ لا تُطرح،

وبصمتٍ

أخشى أن ينفجر

في وجه الطمأنينة.

*

هل أقول لهم؟

أم أكتفي

بمراقبة الحياة

تمرّ أمامي،

كأنني ظلُّ أبٍ

عاد من زمنٍ آخر

لا يعرف

كيف يُحضنُ من جديد؟

***

د. جاسم الخالدي

 

في لحظةٍ استثنائية، لحظةٍ كانت مسكونة بكلِّ ما في الكون من رعب ويأس، حملت الأم ابنتها البكر كما يُحمل الخروف إلى الذبح، ووضعتها في وسط باحة الدار، باتجاه القبلة. كان جسد الطفلة الغض يرتجف من الخوف والذهول، فيما دوّى صوت الأم كالرعد، يخترق صمت المكان، وهي تقسم بصوتٍ متهدّج، مخنوق بالحسرة والرجاء مخاطبة الله والجميع، وفي مقدمتهم زوجها: 

"أقسمتُ بالله العلي العظيم، إن نجا حسين من الإعدام، لأجعلنّ أبنتي هذه قربانًا له... نذرًا لا رجعة فيه، وليشهد الجميع على قسمي!"

كانت تلك اللحظة واحدة من أشد اللحظات ألمًا في حياة الطفلة، رغم أن وعيها بالحياة والموت لم يكن قد اكتمل بعد. لكنها، بقلبها الصغير، أدركت أن هناك كارثة تتفجر في قلب أمها، أن شيئًا فادحًا يوشك أن يسلب من البيت دفأه، ومن القلب نبضه.

في ذلك اليوم المشؤوم من شباط عام 1963، سقط الخبر كالصاعقة على البيت: اعتقال حسين/ سلام عادل*، ابن عمة والديها "مكية"، على يد سلطات البعث، وتعذيبه في أقبية "قصر النهاية"، بعد الانقلاب الدموي. عندها ارتجّ البيت كله، ولكن من تهشّم حقًا كانت الأم. كأن قلبها انفلق على عتبة الباب، وراحت تتلوّى تحت وطأة الألم، وكأن السنين كلها اجتمعت ليسلبها اخًا لم يكن يشبه أي اخ، بل كان امتدادًا لروحها.

حسين، ابن عمتها لم يكن مجرد قريب. كان الأخ والسند، بل كان الوطن الصغير الذي احتمت به من قسوة الأيام. هناك، نشأت مع حسين وإخوته، ووجدت في بيتهم حنانًا غُيّب عنها في بيت والدها، ودفئًا لم تعرف له مثيلًا. كان يناديها منذ طفولتها باسمٍ خاص، دلّلها به: "اُولي"، ذلك الاسم الذي ظلّ محفورًا في قلبها حتى الرمق الأخير. كان يحملها عاليًا في الفضاء، يرميها صوب الحلم ويلتقطها بحنوّ من يخشى على حلمه من السقوط.

ولهذا، لم يكن مستغربًا أن تصرخ الأم بتلك الطريقة الجنونية. لم تكن صرخة نذر فقط، بل كانت صرخة من يفقد روحه، من يرى الموت يقترب من عينيه على هيئة غياب. كانت صرخة الأمومة، والخذلان، ووشائج القرابة الذي يستحيل على اللغة وصفه.

الطفلة، المستلقية هناك في الباحة، لم تكن تفهم آنذاك معنى النذر، ولا ما يعني أن تكون قربانًا. لكنها أحسّت بكل شيء. أحسّت أن أمها تتألم بطريقة لا يمكن لعينٍ أن تراها، ولا لقلبٍ صغيرٍ أن يتحملها. رأت صورة والدتها ببشرتها البيضاء الجميلة قد تحولت في تلك اللحظات إلى زرقة قاتمة مخيفة... رأت في عينيها لونًا غريبًا، مزيجًا من الرماد والزرقة، كأن الحزن انتزع منها الدماء وأطفأ شعاع الحياة في محياها.

لم تنسَ الطفلة هذا المشهد يومًا. ظلّ راسخًا في ذاكرتها كشاهدٍ لا يموت، يرافقها في يقظتها ومنامها. في كل لحظةٍ من حياتها، كلما رأت وجه أمها أو سمعت اسم „سلام عادل ".

 كان ذلك القسم يعود صداه كأنّه يُتلى الآن. لم تعد ترى نفسها كما كانت، بل شعرت دومًا أنها القربان، شاهدًا حيًّا على حكايةٍ تفيض بالإخاء، وتختلط فيها مشاعر الفقد بالفداء.

أن تهب أمٌّ ابنتها قربانًا، هو وجعٌ لا تقوى اللغة على احتوائه. لكنه أيضًا صورة من أعمق صور العطاء... ذلك العطاء الذي لا يُقاس بالكلمات، بل يُقاس بما يُنزع من القلب، وبما يُراق من الروح.

لقد كان ذلك القسم لحظة انفجار داخلي، حيث تصادمت مشاعر الحب والخوف، الأمل واليأس، الحياة والموت. ولم يكن قسمها موجَّهًا لله فقط، بل كان تحدّيًا للموت نفسه، صرخة أمّ في وجه السلطة والقدر، في وجه الظلم الذي يغيب الأعزة في المعتقلات.

سنوات مضت، والمشهد ما زال حيًّا في الذاكرة، نابضًا بوهج الحزن ودفء الانتماء. الطفلة كبرت، وأصبحت إمرأة تحمل بين أضلاعها قلبًا مشبعًا بأسطورة تلك الليلة، وتلك الأم، وتلك الصرخة.

لم تندمل تلك الندبة أبدًا، بل ظلت تؤرّقها، وتعلّمها أن هناك فداء لا يشبه الأقدار، وتضحية لا تُقال بل تُنزف.

وإن كانت الطفلة قد نجت من النذر، فإنها لم تنجُ من أن تكون شاهدة عليه، ممهورةً به، تحمل ثقله كحكاية، ودمعته كذاكرة، وعظمته كإرث لا يموت.

***

سعاد الراعي

......................

* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديها ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. 

اذا كنتَ تطفئُ بالحقدِ شمسَكْ

فكيفَ ستعرفُ بالحُبِّ نفسَكْ

**

اذا كانَ حقدُكَ يملأُ كلَّ الجهاتْ:

شمالاً، جنوباً، وشرقاً، وغربْ

فأينَ ستحكمُ حتى تكونَ الحياةْ

حياةً، فلا يَهلكُ الحُبُّ في نارِ حربْ

**

اذا كنتَ أصبحتَ شيخاً على الظالمينْ

فهل ستصدِّقُ انَّكَ تصبحُ شيخاً على العالمينْ

**

اذا كنتَ مُسترئياً في غيابِ الشموسْ

سترى الظلَّ أكبرْ

اذا كنت مُستغرِساً في بَهاء النفوسْ

سترى الحقَّ أزهرْ

**

ربَّما يخدعونَكْ

هؤلاءِ الذينَ تمادوا لنيلِ رضاكَ وهمْ يتبعونكْ

**

أعرفُ اللاهثينَ وراءَ الذَهَبْ

و كيفَ يبيعونَ اُمّاً وبيتْ

رأيتُ لَهمْ في الدجى ما رأيتْ

اذا عثرَ الخِلُّ قالوا: ذَهَبْ

***

شعر: كريم الأسدي

..................

ملاحظة: هذه المثنويات والرباعيات جزء من مشروع شعري لي يتألف من ألف وواحد من المثنويات والرباعيات حيث كل مثنوي أو رباعي يصلح ان يكون قصيدة قصيرة مستقلة، ولكنه يرجع ليتكامل مع الوحدة الكلية للنص والمشروع كلّه..

من مواضيع هذا المشروع:

الحياة، الممات، الوجود، الكون، العالم، الزمان، المكان، الانسان، الحُب، الصداقة، الحقد، السلام، الحرب، الحق، العدالة، الظلم، الخير، الشر، الجمال، القبح، الأحداث، الذكريات، الوطن، الاغتراب، الحنين، الطفولة، المحيط المكاني والطبيعة..

وسبق لي ان نشرت العديد من أجزاء هذا المشروع في صحف ومجلات ودوريات ورقية منها: مجلة ابداع، مجلة المدى، جريدة القدس العربي، جريدة النهار، أو في منابر أدبية وثقافية الكترونية مثل: الناقد العراقي، صحيفة المثقف، مركز النور.. كما تُرجمت منه أجزاء الى الألمانية والانجليزية..

يمَّمتُ شَطْرَ (دُهُوكٍ) بعدَ أنْ نضَبَتْ

عينُ القصيدِ لأَروي القلبَ والحَدَقا

*

وكنتُ أنوي بها يوماً ورُبَّتما

يومينِ لكنْ قضيتُ العُمْرَ مُغتَبِقا

*

كم قاصدٍ بلدةً أخرى ومرَّ بها

أغوَتْهُ حتّى نسى الأيامَ والطرُقا

*

مدينةٌ فوقَ جُنْحِ الطيرِ من نسَمٍ

قد شيّدَتْها غيومٌ تنسِجُ الشفقا

*

فكلُّ من شبَّ فيها يستوي جبلاً

وكلُّ من ماتَ فيها يستوي ودَقا

*

حدودُها ليس جدراناً وأسيجةً

لكنّها خُضرةٌ تستقطِرُ الأُفُقا

*

عابوا عليها غيابَ النهرِ قلتُ لهم:

بل أرضعتْ كلَّ نهرٍ ساربٍ شبَقا

*

لو مرَّ دجلةُ فيها صارَ بحرَ لظىً

لأنَّ فتنتَها تستعذبُ الغرَقا

*

مليكةٌ فوقَ عرشِ الرافدينِ وَنَتْ

عنها الصقورُ وحادَ المرتقى فَرَقا

*

عجِبتُ للمَوصِل الحدباءِ تبعُدُ عن

دُهُوكَ وقتاً قصيراً غيَّر الخُلقا

*

وغيَّرَ الأرضَ من سهلٍ ومن جبلٍ

إلى خريفٍ من الأحزانِ مُصطَفِقا

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

لَا تَلُومُونَا جَمِيعًا

أَوْ تَلُومُوا جُلَّنَا

لَا تَلُومُوا

لَوْمُكُمْ يُؤْلِمُنَا

وَيُزِيدُ اَلنَّزْفَ فِي أَعْمَاقِنَا

لَا تَلُومُوا أَبْرِيَاءً مِثْلَنَا

إِنّنَا

سَوْفَ نَبْقَى كُلّنَا

هَمُّنَا مِنْ هَمِّكُمْ

فَكَمَا أَنْتُمْ ضَحَايَا كُلُّكُمْ

نَحْنُ مَا زِلْنَا نُعَانِي مِثَلَكُمْ

**

إِنَّ مَا يُؤْلِمَكُمْ

يُؤْلِمُنَا

لَا تَلُومُوا

حَوَّلُوا اَللَّوْمَ إِلَى

مَوْجِ سُخْطٍ وَغَضَبْ

فَلَقَدْ طَالَ بِكُمْ

نَوْمُكُمْ

وَلَقَدْ طَالَ بِنَا

نَوْمُنَا

**

هَلْ سَنَبْقَى نَحْنُ ظَمْأَى لِلْعَتَبِ؟

هَلْ سَنَبْقَى نَحْنُ عَطْشَى لِلتَّعَبِ؟

هَلْ سَتَبْقَى اَلْأَسْئِلَةْ

طِيلَةَ اَلْأَيَّامِ حَيْرَى مُهْمَلَةْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

بعد أن يُلقيكَ الليلُ في زنزانتهِ الموحشة،

ويقفُ بعيدًا، يُراقبُ كيفَ تحترقُ

ويغلي صدرُكَ من الجَوى

يأتي الصباحُ

فتطيرُ في سديمِ التيهِ،

تنظرُ إلى الحياةِ بعينِ اللاشيءِ،

متدثرًا بالزيفِ، مُثقَلًا بالحزنِ،

خائفًا من غروبِ الشمسِ،

كأنَّ الشمسَ تمسكُ بأصفادٍ من نارٍ،

تُلوِّحُ بها عند الأصيلِ،

وكأنَّكَ لم تعرفْ سعادةً قطُّ،

ولا عشتَ طفولةً غمرَها الفرحُ.

يأتي الصباحُ

فيطيرُ الحمامُ

وتُزقزقُ العصافيرُ

وتخرجُ جارتُك الوقورةُ،

تلقي عليكَ التحيةَ،

وتتمنى لكَ يومًا سعيدًا،

وأنتَ تتكئُ على زيفِ الفرحِ،

تُخفي ملامحَكَ

كيلا يُدركَ العابرونَ

أنَّ خلفَ وجهِكَ قمرًا مخدوشًا،

وعينَيكَ بحرًا من أرقٍ لا يهدأُ،

وصوتَكَ رجعُ حزنٍ يُناجي الغائبينَ…

يأتي الصباحُ،

لكنَّه لا يوقظُ النائمينَ في أحزانِهم،

ولا يبعثُ الدفءَ في قلوبِ الميِّتينَ وهم أحياء،

يأتي، ويمضي، وتظلُّ الأرواحُ عالقةً

بينَ قيدِ الليلِ وخديعةِ النورِ..

يأتي الصباحُ

لينفضَ عن المدينةِ سُتورها،

فتُشرقُ النوافذُ على ضجيجِ العابرينَ،

وتُفتحُ الأبوابُ على أملٍ مُستعارٍ،

ولكنَّ الزوايا المظلمةَ

تُخبِّئُ أسرارًا لا تمحوها الشمسُ،

وأحزانًا لا يبدِّدها الضوءُ.

يأتي الصباحُ

فتنهضُ الطرقاتُ على وقعِ أقدامٍ مُرهقةٍ،

وأرصفةٍ تحملُ في صمتِها

أنينَ العابرينَ بلا وجهة،

وبقايا أحلامٍ سقطتْ في ليلٍ لم يُمهلْها،

ورجاءً مصلوبًا على جدرانِ الانتظارِ.

يأتي الصباحُ،

ويشربُ الناسُ قهوتَهم

كأنَّها تُمحي عن أرواحِهم تعبَ الأمس،

ويبتسمونَ للمارَّةِ

كأنَّ لا وجعَ يسكنُهم،

ويحملونَ فوقَ أكتافِهم يومًا آخرَ

يمضي إلى الليلِ كأنه لم يكن.

لكنَّك وحدَكَ،

تمضي في دربٍ لا نهايةَ له،

تحملُ على كتفيكَ ظلَّكَ المُنطفئ،

وتسيرُ كأنَّ الأرضَ لا تعرفُ خُطاك،

ولا السماءُ تذكُرُ دعاءَكَ المؤجَّلَ…

يأتي الصباحُ،

لكنَّه لا يُعيدُ الذينَ مضَوا،

ولا يملأُ الفراغَ الذي خلَّفوه،

ولا يطفئُ في القلبِ شموعَ الذكرى،

يأتي فقط…

ليمنحَك يومًا جديدًا من الترقُّبِ والانتظارِ

يأتي الصباحُ،

فيضيءُ الكونَ،

لكنَّ عتمةً تسكنُ عينيكَ.

يأتي الصباحُ،

فتغنِّي العصافيرُ،

لكنَّ صوتَكَ يظلُّ مكسورًا لا يُغنِّي.

يأتي الصباحُ،

فتنبضُ الطرقاتُ بالحياة،

لكنَّ خُطاكَ تمضي إلى المجهولِ،

كأنَّ الأرضَ لا تعرفُكَ،

وكأنَّ الدربَ ليسَ لك.

يأتي الصباحُ،

فيضحكُ الأطفالُ،

ويبيعُ الباعةُ وجوهًا باسمةً،

ويملأُ النورُ أركانَ المدينة،

لكنَّ عينيكَ لا تُبصرانِ إلا ظلالَ المساء.

يأتي الصباحُ،

ويحملُ معه وعودًا جديدة،

لكنَّك تعرفُ أنَّها ستسقطُ مع أوَّلِ غروبٍ،

فكيفَ تطمئنُّ لشمسٍ لا تمكثُ طويلًا؟

يأتي الصباحُ،

كأنَّه خلاصُك، لكنَّه أيضًا قيدُكَ،

يمنحُكَ الأملَ بيدٍ،

ويأخذُهُ بالأخرى.

***

هند حاتم الطائي

 

كان الوقت يتلاشى مثل رذاذ الماء على صفحة ساخنة، والساعات تتحوّل إلى غبار يتراقص في ضوء الشمس المائل، هناك، على رصيفٍ صدئ من زمنٍ مهجور، التقى ظلان، كأن الكون تعمّد أن يجمع بين روحين متناقضتين، لا يجمعهما نورٌ ولا وضوح، بل انجذاب غامض، كما تنجذب النجوم المتناثرة في الفضاء البعيد إلى بعضها، قبل أن تتحوّل إلى مجرّة من الحب والوعود.. كانا ظلَّيْ رجلٍ وامرأة يتشاركان خيوط القدر المتشابكة، بحب يشبه المتاهة: معقّد، غامض، وبلا نهاية واضحة، ولم تكن علاقتهما كما يُصوّرها الشعراء في دواوينهم، بل كانت أشبه بلوحة سريالية تتقاطع فيها خطوط الواقع مع تعرّجات الخيال.. هو بقلبه المُتخم بالأمل، وهي بروحها المتمرّدة على كل قيد، وبشممٍ يشبه جمر الروح، كانا يصنعان عالماً هشّاً من الوعود المعلّقة على حبال الغد.

كانا يعرفان الكثير عن الحياة، عن كيفية تذوّق نبيذ فاخر دون كسر الطقوس، وكيفية التحليق فوق الواقع المرير بأجنحة من الكلمات المنتقاة والضحكات المدروسة، أرادا أن يبنيا شيئا يشبه القصيدة، يشبه البيت، الحلم، المستقبل.. قصرا من الاحتمالات والممكنات، ورسما خططا لا تشيخ ولا تموت، حيث كانا يلتقيان هناك، في ذلك الركن المهجور من مدينة منسية، حيث لا صوت يعلو فوق صمت الحوائط الصدئة التي شهدت على أجيال من الوداع واللقاء، في عينيه، كانت تتراقص شظايا الأمل والخوف معاً، كأنها معركة داخلية لا تنتهي بين ما يرغب به وما يخاف أن يخسره. هو، الذي اعتاد أن يكون صلبا كالصخرة، يجد في حضورها لغزا يذيب كل جبروته، وينسج من ضعفها قصيدة لا تشبهه.. أما هي، فكانت ترتدي تمردها كدرع، وتخفي خلفه شمم الروح، كما تخفي وراء ضحكتها المدروسة آلاما عميقة وأحلاما محطمة، كانت تعرف أن حبها له ليس فقط رحلة إلى الفرح، بل نزيف يتلوه شفاء مؤلم، وأحيانا خوف من أن ينكسر العالم الذي بنياه معا إذا ما سقطت قطعة واحدة منه، رغم ذلك، كانت الكلمات التي تتبادلانها بين الحين والآخر تحمل في طياتها وعودا لا يمكن نطقها صراحة، واعترافات مبطنة بأن هذا الحب المتاهة لا يخلو من أبواب مغلقة ونوافذ تطل على هواجس المستقبل المجهول.

- "سأبني لكِ قصراً من الكلمات." همس لها ذات ليلة، وعيناه تعكسان نجوم سماء لم تُخلق بعد.

ضحكت بنعومة: "وماذا سأفعل بقصر لا أستطيع أن أسكنه؟"

كانت تلك أول مرة تُخطئ بحقه، حين شككت في قدرة حلمهما على التحول إلى حقيقة ملموسة، فهي، ولسببٍ لا يفهمه إلا من خاض غمار الحب وأدرك أن الخوف منه أقوى من الخوف من العدم، كانت تخطئ، لم تكن أخطاؤها كبيرة، بل صغيرة وناعمة، كندوبٍ خفيّة على بشرة مرآة، لا تُرى إلا حين يسطع الضوء عليها، كانت تختفي فجأة، تقفل هاتفها، تتجاهل رسائله، ثم تعود بلا تفسير، كطائر مهاجر يعود إلى عشه حين يحلو له، دون اعتذار أو تبرير، وهو، كان يسامح، كان يتجاوز في كل مرة، لا حبا في الغفران، بل لأنه كان يؤمن أن من نحبهم لا نُدينهم، بل ننتظرهم.. ننتظر أن يدركوا أن الحب ليس رفاهية، بل ضرورة، كالهواء تماما.

- "سنتجاوز هذه المرة أيضا." كان يهمس لنفسه في كل مرة، وهو يراقب ترميم جدران قلبه المتصدعة، حيث كانت هناك معركة صامتة، بين الإصرار على الأمل والرغبة المتزايدة في الهروب، كان يشعر بثقل المسؤولية التي فرضها على نفسه، ذلك العبء الخفي الذي جعله يتردد في التعبير عن ضعفه، كل كلمة تنطق بها، وكل صمت يطول بينهما، كان يشكل له جرحا جديدا، لكنه يخفيه خلف ابتساماته المدروسة، كما لو أن العالم لن يرى سقوطه إذا لم يظهر ضعفه، فكان يعاني من الخوف المموه، خوف أن يكون هذا الحب الذي طالما حلم به، مجرد وهم جميل قد يتحطم بمجرد أن يحاول الإمساك به، كان يخشى أن تبتعد روحه عنه، أن تختفي تلك اللحظات النادرة من السكينة التي يجدها فقط في حضورها.

أما هي، فكانت تغوص في عوالمها الخاصة، مليئة بالتناقضات، كانت تسير بين الأمل واليأس كراقصة على حافة هاوية، في أعماقها، كانت تدرك أن تمردها ليس مجرد رفض للقيود، بل صرخة أخيرة لمحاولة البقاء على قيد الحياة في عالم لا يرحم، كل مرة تضحك، كانت تضغط على جزء من ألمها، تحاول أن تخفي الضعف خلف الجدران التي بنتها بحذر، فكانت تخشى أن يفهمها حقا، أن يقترب من زوايا روحها المظلمة، حيث تكمن الحكايات التي لم تجرؤ على سردها لأحد، لكن في الوقت ذاته، كانت تتوق لأن يُرى ذلك الجانب منها، أن يكون هو الملاذ الذي لا يُخاف فيه من أن تُفقد السيطرة.

في تلك اللحظات، بين الحضور والغياب، بين الكلمات التي لم تُقال والاحتياجات المكبوتة، كانا يعيشان حوارا صامتا يتخطى الزمان والمكان، كانا يتشاركان الخوف ذاته: هل هذا الحب قادر على تجاوز الجدران التي بنياها حول أنفسهما؟ أم أن الصمت هو الحاجز الأخير الذي لن يتمكن أحد من كسره؟

مرّت الأيام، وتحولت إلى شهور، وأصبحت الأخطاء تتسلل بينهما مثل قطرات المطر في ليلة عاصفة، بطيئة في البداية، ثم متسارعة، حتى غدت سيلا جارفا، لكنهما كانا يتجاوزان كل عاصفة، يُلملمان ما تبقّى من أحلامهما، ويعيدان بناء ما هدمته الكلمات الحادة والصمت الثقيل.

في عوالمهما الموازية، كانت القطط تحلم بالطيران، والعصافير تخشى السقوط، وفي عالمهما، كانا يتعثّران، ينهضان، ويستمران كما لو أن الألم مجرّد وهم عابر، وكانت أخطاؤها تتراكم كأوراق الخريف: مرة حين أغلقت الهاتف بوجهه، ومرة حين قرأت رسائله دون أن ترد، ومرة حين شككت بوفائه، كان يغفر، لا لأنه ضعيف، بل لأن روحها كانت تسكن في تفاصيله.

- "الحُب يشبه الموت." قالت له ذات مرة وهي تتأمل انعكاس وجهها في فنجان قهوة بارد: "كلاهما يأتي دون استئذان، ويترك خلفه فراغاً لا تملؤه الكلمات."

نظر إليها وقال بصوت هادئ: "بل الحُب يشبه الحياة، مليء بالتناقضات والألغاز والأسئلة التي لا تنتهي."

وهذه المرة، كان الخطأ من نصيبه، حين ظن أن الحب يمكن تفسيره بالمنطق، وفي كل مرة، كان القدر يراقبهما بابتسامة ساخرة، ويهمس لنفسه: "سأمنحهما فرصة أخرى، فقط لأرى كيف سيفسدانها."

لكن في المرة الأخيرة، لم تكن هناك عاصفة، بل صمت مطبق، حين تكسّرت اللغة، واختنق الصمت والكلام معا، خلاف بسيط تحوّل إلى جدار سميك من الصمت، حاول أن يصل إليها، ليكتشف أن رقمه قد أُدرج رسميا على "قائمة المحظورين"، وكأنها تضع قلبها في صندوق مغلق وتُلقي به في أعماق المحيط، ليس لأنها أرادت ذلك، بل لأن عنادها كان أقوى من حكمتها، والقدر، بسخريته السوداء، قرر أن يلعب لعبة أخرى.

مرّت الساعة الأولى كصفعة على وجهه، الثانية كطعنة في كبريائه، وفي السابعة، شعر أنه بدأ يتحوّل إلى تمثال ملقى في متحف مهجور لا يزوره أحد، ثم مرت بقية الساعات، واحدة تلو الأخرى، بطيئة كقطرات المطر المتسلّلة من سقفٍ متهالك، الرجل الذي طالما كان يبحث عن طرقٍ للوصول إليها، وجد نفسه هذه المرة يتأمل هاتفا صامتا، وقلبا يتشقّق ببطء، أما هي، فكانت تنظر إلى هاتفها كل دقيقة، تتوقع أن يجد طريقة للاتصال بها، ألم يكن دائما يجد طريقا إليها، مهما وضعت من حواجز؟.. لكن الهاتف بقي صامتا، كقلبها الذي بدأ يفقد إيقاعه المعتاد، وفي تمام الساعة الرابعة والعشرين، كانت الأرض قد أكملت دورة كاملة حول نفسها، دورة من التجاهل والنسيان، ليجلس أمام نافذته يتأمل السماء التي بدت أكثر اتساعا من أي وقت مضى، فكّر في طريقة للاتصال بها، ثم تذكّر أن كرامته، وشمم روحه، أغلى من أن تُهان مرة أخرى: "الحبيبة التي تستطيع أن تترك حبيبها أربعا وعشرين ساعة، لا تستحق أن تكون حبيبة"، همس لنفسه، والسماء تتنهّد موافقة.

أربع وعشرون ساعة، يوم كامل، ألف وأربعمائة وأربعون دقيقة من الانتظار، وفي كل دقيقة، كانت الحقيقة تتضح أمامه، كما تتضح الصورة في غرفة مظلمة: الحبيبة التي تستطيع أن تترك حبيبها يغرق في بحر الصمت ليومٍ كامل، لا يمكنها أن تكون حبيبة حقيقية، الحبيبة التي تستطيع أن تنام بهدوء، تأكل بشهية، تضع أحمر شفاهها بدقة، وتمارس حياتها اليومية دون أن يقلقها قلبك المنتظر، ليست حبيبة، بل مُشاهدة عابرة في مسرحية حياته، قررت الانسحاب قبل الفصل الأخير.

في تلك اللحظة، قرر ألا يتصالح معها، لا انتقاما ولا كبرياءً، بل لأنه أدرك أخيرا أن بعض أنواع الحب تشبه الأشجار الميتة: تظل واقفة، لكنها في الحقيقة فقدت روحها منذ زمن، فلم يغضب، ولم يبكِ، ولم يكتب رسالة وداع مليئة بالعتاب، بل فقط، أغلق الباب بينه وبين الفكرة، بعد أن أدرك أن الحب، ذلك الكائن الهش، لا يموت حين نصرخ، بل حين نصمت طويلا، وننتظر اتصالاً لا يأتي.. في قلبه، بقي شمم الروح صامدا، كصخرة تواجه المد، لا عنادا، بل وفاءً لما تبقّى فيه من ذاته التي رفضت أن تُختزل في لحظة خذلان.. تذكّر كم مرة قيل له إن الصمت أبلغ من الكلام، لكنه لم يتذكّر أن أحدا قال له من قبل إن صمت أربعٍ وعشرين ساعة كفيلٌ بقتل قصة حب كاملة، كما يقتل الصقيع وردة متفتحة، لتتجلى سخرية القدر، حين نمتلك كل شيء، ونمتلك القدرة على بناء مستقبل مشترك، لكننا نفتقر أحيانا لأبسط الأشياء: القدرة على الغفران في الوقت المناسب.

فكّر مع نفسه: "ماذا لو كتبت له: اشتقت؟".. كلمة واحدة، قصيرة، لكنها تأخرت، فالاشتياق بعد أربعٍ وعشرين ساعة من الخذلان، يشبه إشعال شمعة على قبرٍ لم يعد يتذكرك، فكم هو ساخر هذا القدر، في تلك اللحظة، فهم أن بعض الأشياء، حتى لو عادت، لا تعود كما كانت، فالماء المسكوب لا يعود إلى الكأس، والوقت الضائع لا يعود إلى الساعة، والقلب المخذول لا يعود إلى النبض، فالذي ينتظر أربعا وعشرين ساعة ليتذكر أنه يحب.. لا يعرف معنى الحب.

في مكانٍ ما، في متاهات الزمن، كان هناك كونٌ موازٍ يعيش فيه ذات الرجل وذات المرأة، لكن هناك، كان أحدهما قد أرسل رسالة، والآخر قد رد، وفي ذلك الكون، كانت قصتهما مختلفة تماما، لكن في هذا الكون، كان الصمت أبلغ من الكلام، القدر، بحسّه الساخر المرير، يمنحنا أشخاصا نحلم أن نكبر معهم، ثم يضعهم على قوائم الحظر، بحجّة أن التوقيت ليس مناسبا، أما الحب؟ فهو لا يموت حين نصرخ، بل حين نصمت طويلا، وننتظر اتصالاً لا يأتي، وتلك هي المفارقة السوداء: أن أكثر ما نخشاه ليس الموت، بل أن نعيش في عالمٍ موازٍ مليء بالـ "ماذا لو"، وأن نكتشف أن أرواحنا المتعبة قد أضاعت فرصتها في اللقاء مع نصفها الآخر، لمجرد خطأ في التوقيت، أو لحظة غضبٍ عابرة.

وهكذا، انفصلا.. لا بصخبٍ أو ضجيج، بل بصمتٍ عميق يشبه ثقوب الفضاء السوداء، يبتلع كل شيء، حتى الضوء، وفي غرابة الأقدار، ظلّا يتقاطعان في الأمكنة، وفي قلب كل منهما سؤال مؤجَّل إلى الأبد: هل كان يمكن أن تكون النهاية مختلفة، لو أن أحدنا تجاوز كبرياءه وأرسل رسالة واحدة؟

لكن القدر، بحسّه الفكاهي القاتم، لا يترك مجالا للتساؤلات، فهو يعلم أن البشر يعيشون على أمل "غدٍ"، بينما الحقيقة هي أن "اليوم" هو كل ما نملك، وأن الانتظار هو أكثر أشكال الموت قسوة ووحشية.

لحظة واحدة كانت كفيلة بإنقاذ كل شيء، لكن لا بأس، فالحب ليس معادلة رياضية، ولا قانونا فيزيائيا، إنه نكتة سوداء من الكون، يضحك فيها عليك.. ثم يمضي، دون أن يعتذر، وربما.. كان الخطأ خطأه منذ البداية، حين ظن أن الظلال يمكن أن تلتقي دون ضوءٍ بينهما، أو ربما.. كان الحياة تعلمه درسا: أن القدر، رغم سخريته، يمنح فرصا ثانية للذين يجرؤون على تجاوز كبريائهم، والاعتراف بأن الحب، في النهاية، أقوى من كل الحواجز، وأن البناء مع الآخرين لا يحتاج إلى كلماتٍ عظيمة، بل إلى حضور، ووجود، واستمرارية.. ففي النهاية، كانت قصتهما مجرد سطرٍ في رواية الحياة الطويلة: "كانا يمكن أن يكونا كل شيء، لكنهما اختارا أن يكونا.. لا شيء."

***

جليل إبراهيم المندلاوي

يعاتِبُني حبيبي أنّني لا

أعودُ إليهِ إلّا حينَ خُسْرِ

وينسى أنّني من بعدِهِ لمْ

أذُقْ طعمًا لفوزٍ أو لنصْرِ

وكيف أذوقُه والنّصرُ من دو

نهِ والفوزُ في عوْزِ لسِرِّ

وينسىْ أنّهُ كان انتصاريْ

الذي لولاهُ لم أعبأْ بظفْرِ

وينسىْ أنَّ أنفاسي بقايا

لأنفاسٍ لهُ في عمْقِ صدْري

وأنّ دمًا بشريانيْ وقلبيْ

برجفةِ قلبِه ما انفكّ يجْري

أيذْكرُ أنّني لولا دعاهُ

لكان انبتَّ مُذ أنْ غابَ عُمري؟

ويسألُ ما جرىْ للقلبِ يبدوْ

كقصرٍ دونَهُ عُمْري كقفْرِ

وأمّا القصْرُ فالمحبوبُ حتمًا

بمن سوّاهُ دونَ النّاسِ يدْري

وإنْ ظفِرَ الرّدىْ وطنًا عزيزًا

ليُسكِنَهُ كما الموتىْ بقبْرِ

فقدْ غلبَ الهَوى ذاكَ الرّدى كيْ

تظلَّ الروح في جسَدي بقصرِ

ويسألُني: ألا يكفيْ انتصارًا

هواهُ في ثنايا الرّوحِ يسْري؟!

وينسىْ أنّهُ وطني وقُدْسي

بأبوابٍ على بحرٍ ونهْرِ

وأنّ القلبَ لنْ يهنا بقُدْسِ

ولو قنِعَ الرّدى منها بشِبْرِ

وأمّا العمرُ هلْ ينسىْ حبيبي

سنينًا قبلَه وُلِدَتْ لقهْرِ

وهل ينسىْ سنينًا معْهُ جاءتْ

وحقّا أنّها وُلِدَتْ لنَصْرِ

أينسى أنّه الزيتونُ والتّيـ

نُ فيها بعد أشواكٍ وصبْرِ

فلمّا خيّروا الزيتونَ والتيـ

نَ يومَ البيْنِ عُدْتُ أنا بقفْرِ

وإذ أيقنت بعدكَ أنّ عُمْري

خوى أحصيتُهُ عُمرًا لغيْري

***

أسامة محمد صالح

 

يُرافقُني

في حَقيبَتي المدرسيَّة

وجهُ أُمِّي

وابتِسامَتها

وصَوتها في أحاديثِ الآخرين

كَرهتُ المدارسَ

وحقدتُ عليها

لأنَّها أخَذَتني

من حضنِ أمِّي

لأنَّها توقظني

من دفءِ الحنو

إلى جَداولِ الضَّربِ

باتتْ أقدارنا مُعَلَّقةً

بهذا الجدولِ

حفظهُ الجميعُ عن ظهرِ قلبٍ

ضَرَبنا أعداداً بأعدادٍ

أشياءً بأشياء

وشعوباً بشعوبٍ

وعلى رصيفِ العدالةِ

نسينا جداولَ القسمَةِ ..

***

سلام البهية السماوي

 

حين فتح الباب

كان شاحبا

كنت غارقا بالوهم

لم يكن كما كنت أتمنّاه

كان ثلجا يحترق ووجعا

يسع المدن السكرى

تمددت قليلا على سفح جبل ثلجيّ

علّني أريح متاهات جسدي

أغراني البياض لكنّه كان ملحاً

ابتلعني

غرقت في بحيرة الملح يا ناس!!!

قاومت عطشي بالنفور

صرخت ظمأً

قال لي وهو يوصد الباب:

لا تصرخ، سيقتلك الظمأ

ثم استدار قليلا وقال:

سَلهُم

هل هي نهاية التاريخ

أم بدايته؟

تعسا لِمَن لا يجيد اللعب ويقتحم الميدان

بدأ الطريق يبتلع الخطى

وذاك الذي في الأفق

كان هراء

***

شلال عنوز

النجف ١٤- ٥ - ٢٠٢٥

 

عَلَّمتَني......

كيف أحْبوَ على

شفتيكَ كلمةً ... كلمةً

كيف أراقصُ النورَ

وأغزو جَنائِنَ

البَيلسان بِعِطرِكْ

من صُلِبِك أسُلُّ الماءَ

وعندما اِحمَرَّ كرزي

وأَزهرَ إكليلي

غادرتْ نَوارسُك حُنجَرتي

صُلبَت أحلامي

وما عادَ ليلي يتنفَّس

**

لن أُبعث بعد مَوتِكَ!

ذاكرةُ السَّماءِ فقدتُها

ونسيتُ الطريقَ إلى

مِحرابِ القَمر

**

الخالدُ في روحِي ...

الماطرُ بقلبي...

أَغرقُ في دموعي

وزورقي يُحتَضر

أيا أسطورةَ الشَّرقِ

يا ضفَّةً لروحِي

أنا رسالةٌ أزليَّة

سأُّحلِّقُ إليكَ على أجْنحة اللَّهبِ

لتُتوِّجَني مَليكَتكَ الأبدَّية

***

سلوى فرح - كندا

 

حسناء تأتزر العَرَاء

مسكونة الآهات

حافية المَسارْ

وأولي الرواغِ

أولي التقوقعِ

والتضعضعِ

والتقطعِ .. والشنارْ

يَنفونَ

يَحتفلون

يَعتنقون أفخاذ السيادة دِينَهُمْ

دون انکسارْ

*

ويُرَقِّقونَ

يُفخِّمونَ

وخوفهم أن (يُقْلَبُونْ)!

ويُلججونَ

يلججون

يلججونْ

ويمارسون شهية التوريثِ

يَنْتظِمون حاشيةَ القطارْ

ويُلحِّسُونَ أصابعاً

غُمِسَتْ بمائدةِ الكِبارْ

*

ويُلججون.. إذا الرغيف أحبَّنا

في يوم مَولدهِ وقاسمنا الشحوبْ

وإذا ضَبَطْناهُمْ بـ(جَيْبٍ)

أو بأيديهم جُيوبْ؟!

وإذا اغتربنا

أو تَصَبَّبنا افتقاراً

أو أضاءتْ كهرباء همومنا

وإذا انتفضنا

واعتصمنا

أو قرأناهم طبولاً

خلف طاولة الحوارْ!

*

ويُلجِّجُون

يلججون

يلججون..

ويُسجِّلونَ حضورهم

في كل مُزْريةٍ

وشائنةٍ

بلا أدنى اعتبارْ

*

هُم أفلسوا

حتى اكتسوا ثوب الفِرارْ

هاهُمْ غباءٌ

باقتدارٍ

واقتدارٍ

واقتدارْ

هاهم يبيعون الجَمالَ

ليمنحوا القُبْحَ الضَّمَارْ!

هاهُم بلا رأسٍ

بلا جِذعٍ

بلا أطرافِ

يَنهزِمون بـ (الكرسي) الضِّرَارْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

*من كتاب ( رِمال القلق)

 

أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟!

(بدر)

***

* هطل المطر عند الظهيرة بغزارة..

كان الرجل في كرسي العجلات في ممر البيت ذي الأقواس الخشبية والزجاج المعشق الذي يطل مباشرة على النهر المتلاشي جوار دغل الحشائش خلف المدرسة ذات الطراز القديم. إحدى يديه على حافة المنضدة أمامه حيث باقة أزهار في مزهرية زجاجية، أما اليد الأخرى فكانت لصق جرس التنبيه.

اخذ هواء بارد بالهبوب حاملا معه موجة من الرذاذ أيقظت الرجل من بعض ذهوله. مضى في استغراقه غير منتبه الى الفتى القادم من جهة الشناشيل عبر النهر ولا إلى وقع أقدامه على ارض الجسر الخشب ولم ينتبه كذلك الى وقفته اللاهثة أمامه بعد ان دفع باب الممر ودخل. أخذ الولد الأليف الوجه ذو الشاربين الخفيفين يراقب عروق الرجل قرب الباقة. أوشك على التحدث اليه باسطا جذعه الى الأمام في شبه انحناءة؛ ثم توقف عن ذلك كله لعدم تأكده من اكتمال يقظة الرجل فرغم انتفاضة الوجه الطيني الذي لم يزلْ يحمل آثار إغفاءة، مضت العينان في التحديق في الفراغ.  قال الفتى وهو يسحب كرسيا ويقعد عليه:

ــ ستأتي اليوم.. في الأغلب..

ــ كان يجب ان يتم ذلك في المحطة..

ــ لم استطع ْ ان اسألهم عنها.. ثم أنهم تفرقوا بسرعة. ضجرت من البحث بين الوجوه. لا يمكن أن تكونَ قد بقيت في البيت..

ــ لا يعقل انْ ينسى الوجه العاشق وبمثل هذه الطريقة..

ــ متى كان آخر لقاء بينكما؟

ــ في المحطة.. قبل الرحيل بكينا على جذع شجرة.. اذكر عينيها لحظة تحرك القطار.. كانتا مشدودتين الى الشباك حيث لم أكن ألوّح او افعل شيئا سوى النفاذ فيهما. فقدت شيئا فشيئا تركيزي على العينين وبقي الوجه.. هل كنت أنا الذي ارحل في لحظات ام جمال قسمات ذلك الوجه؟ أخذني القطار بعيدا.. رأيت جسمها الضئيل نقطة في نهاية المحطة. كانت تلوح بمنديل وكانت الأشياء فوق حدود طاقتنا.. لقد انتهى املي لحظة الرحيل تلك. ولكنني رأيت السكين مرارا بعد موتي. لم أتوقف طيلة السنين الماضية عن السؤال: متى؟ متى؟ وضجت الأرض بالدويّ، لم يكن المطر بهذه الهيئة التي تراها الآن. كان اسود مشبعا بروائح اللحم والقذائف والنوم في الخنادق.. حتى انفجرت قنبلة ورأيت شاشة سوداء..

ــ لو كنتما تتراسلان على الأقل.. هل كان الخيط سينقطع؟

ــ كنا في آخر الدنيا.. وصارت الملابس الخاكية اللون جلودا لأجسادنا وعظاما. لم اكنْ أحب النزول ابان الإجازات. كان بعضنا حين يداهمه اليأس يعدّ القذائف والبعوض وشاهدات القبور.. هذا إذا كانت الأخيرة موجودة حقا ّ!

اخرج الرجل من جيب قميصه نيشانا ألقى به على المنضدة. كان متعبا يحمل وجهه فيضا من الإصرار المرير. رفع النيشان المعلق الى السلسلة وادلاه من طرف أصبعه. قرّب الفتى كرسيه واخذ يدور حول النيشان بعينيه. أدناه الرجل منه. تناوله الفتى في حذر ممسكا به من طرف السلسلة قريبا من عينيه منتظرا ان تتناقص حركته كي يقرأ الكتابة عليه. بذل أقصى ما في وسعه كي لا يحرك كفه بينما النيشان يتأرجح كالبندول. أخيرا توقف تماما. أتيح للفتى انْ يقرأ الكتابة. فغر فاه مشيرا الى الرجل الذي هزّ رأسه بالإيجاب مبتسما في صمت. قال الفتى:

ــ النياشين.. ليس من السهل الحصول عليها..

ــ أسهل من العثور على الألفة.. أو فقدانها..

ــ بعد عام او عامين سأذهب الى الجبهة مثلك..

ــ اعتدت فقدان وجوه الأحبة.. أنت..

صمت الرجل بحيث افقد انقطاعه المفاجئ الفتى أية رغبة في الكلام. ترك الفتى النيشان على المنضدة. هبط الرجل بكفه عليه دافعا إياه نحو الفتى. لوّح بأصابعه مشيرا اليه انْ يبعده عنه داعيا إياه في الوقت نفسه الى أخذه. هزّ الفتى رأسه بشدة. قال الرجل:

ــ أبعده عني أرجوك. لم يعد يعني بالنسبة لي بقدر ما تعنيه هذه الباقة..

انصاع الفتى لرغبة الرجل وتناوله.

ــ سأعلقه على صدري..

ابتسم بعد فترة صمت دامت للحظات:

ــ كي لا أنساك!

غادر الفتى المكان حينما توقف المطر عن الهطول. أخذت غيوم رمادية بالتراكض صوب الأفق المنغلق حيث حدود الشناشيل في نهاية الزقاق المواجه للجسر، وحطّ طائر على غصن الصفصاف البري المطلّ على النهر. رفرف بجناحية ماضيا نحو شقوق الجدران في قوس الممر الخشبي. دفع بعود صغير الى عشّ في احد الشقوق وقد بان من العش بعضه , تصاعدت رائحة المطر ممتزجة بريّا الأزهار. كانت الباقة آنذاك مرمية في حضن الرجل الذي اخذ يستنشقها وهو يتلمسها بيده كما لو انه يربت على عنق قطة.

هدوء غريب.. الممر فارغ والجسر فارغ والشوارع صامتة فأسند الرجل رأسه الى راحة يده اليمنى مستغرقا في ذهوله المعتاد. خفتت الأصوات المسموعة: أصوات المحركات ونحيب المزاريب على صفحة النهر او على الكونكريت والأصوات البشرية. وكانت عينا الرجل مسلطتين على نهاية الزقاق حيث شبابيك عائمة على نحو شبحي بسبب البعد لبيت قديم.

قرعت أقدام أرض الجسر!

رفع الرجل رأسه. كانت صبية ذات ثوب اصفر تعبر الجسر نحوه وهي تستحث يدها المتقافزة على سياج الجسر. انحرفت صوب باب الممر ثم دلفت الى الداخل. أخرجت من جيبها رسالة وضعتها على المنضدة في صمت وانفلتت عائدة. رفع الرجل يده محاولا انْ يناديها ولكن ظلها ذاب خلف البيوت. ارتعش الرجل وهو يفض مظروف الرسالة.

أخرج ورقة بيضاء تماما!

جمدتْ يده على الورقة لدقائق فكوّرها براحة يده ودحرجها الى النهر.

هطل المطر من جديد.

التقط الباقة وحول كرسيه المدولب باتجاه الجسر. توقف تحت المطر عند منتصف الجسر. راح ينظر الى جسور بعيدة أخرى على نفس هذا النهر. وأحنى رأسه مطلّا على فقاعات المطر وهي تقبل مرايا النهر بدون توقف.

قذف بالباقة الى النهر. انحدر بكرسيه الى الشارع الممتد باتجاه الغرب تحت المطر الذي عاد الى الهطول في عنف..

***

محمد سهيل احمد

كان الضوء يتسلّل شاحبا بخجلٍ رمادي من نافذة الغرفة الصغيرة، كما لو أنّ الصباح نفسه يخجل من الدخول، ضوءٌ باهت كذكرى فقدت لونها، يغمر زاويةً مظلمة جلس فيها متأمّلا ورقةً بيضاء كأنها صفحة منسية من حياته، بل كأنها مرآة لفراغه، يتأملها بعينين مرهقتين لا تطلبان شيئا سوى الصمت.. لقد مضى وقتٌ طويل... لا يدري كم، ولم يعد يُهمّه الحساب، كل ما يعرفه أن الظلال انسحبت من حياته كما انسحب الآخرون، تركة من الخيبات تكدّست في صدره دون عزاء.. ورغم محاولاته المستميتة لتمزيق خيوط الذاكرة، لتطهير روحه من طيف تلك الخيانة، إلا أن رائحتها ما زالت عالقة في أنفاسه كرائحة عطر قديم يُصرّ على البقاء حتى بعد أن يتلاشى صاحبه، فلم تكن فقط ذكرى امرأة خذلته، بل ذكرى نفسه حين كان يؤمن بشيء.. كان قد أقسم على قطيعةٍ لا رجعة فيها، حتى صار الوفاء للعزلة هو المبدأ الوحيد الذي يحكم حياته..

- "لن أسمح لنفسي بأن أغوص في بحر الوهم مجددا"، هكذا كان يهمس لنفسه كل صباح، وكأنه يوقّع كل يوم على اتفاقية هدنة جديدة معها، يعرف أنها هشّة، مؤقتة، لكنها تمنحه سببا للاستمرار، فيما تمرّ الشهور وهو يشحذ قلبه ليغدو صخرة، تتحطّم عليها أمواج المشاعر دون أن تترك خدشا، دون أن تترك أثراً.

كان الصمت في تلك الغرفة لا يُشبه الصمت العادي، بل أقرب إلى هديرٍ داخلي، يهمس له بما لا يُقال، بما دُفنَ منذ سنين تحت طبقات من النسيان المتعمد، فلم يكن وحده في وحدته، كانت هناك أصوات خافتة تتسلّل من جدران ذاكرته، تعود إليه من أماكن لم يزرها منذ زمن، من شوارع تنكر له أهلها، ومن وجوهٍ كان يظنها الوطن.. مرّت صورة والده أمامه، كما تمرّ طيف ابتسامة في حلمٍ مكسور، رجلٌ لم يكن حنونه ظاهراً، لكنه كان حاضراً كظل شجرة قديمة، لا تتكلم كثيراً، لكنها تحميك من الشمس في أيامٍ لم يكن فيها سقفٌ للنجاة. تذكّره وهو يمدّ له كوب الشاي في مساءٍ شتويّ، دون أن ينبس بكلمة، كأن المحبة كانت تُصبّ في الكؤوس لا في العبارات.. ثم جاءت صورة أخرى... صبيٌ نحيل في ساحة المدرسة، يحمل دفتراً ملطّخ الحواف، يكتب فيه جملاً لا يفهمها أحد، ولا حتى هو، لكنّه كان يؤمن أنها نافذته إلى عالمٍ آخر، كم ضحكوا عليه حين قرأ أحدها بصوتٍ عالٍ في الصف، وكم سخر المعلم من "أحلامه البلاغية". كانت تلك اللحظة أول طعنة يتلقاها الحلم وهو يرتدي زيه المدرسي.

لم يكن الليل قد حلّ بعد، لكن الغرفة بدت كأنها دخلت مساءها مبكرا، كعادتها، تنسحب من النهار كما انسحب هو من كل ما يشبه الضوء، جلس ثابتا في مكانه، لا يتحرك، كأنه يخاف أن يُحدث صوتا يُربك هدوءه المتشظي، غير أن شيئا خافتا بدأ يطرق باب ذاكرته... لم تكن صورةً، بل صوتا... ضحكة قصيرة، مألوفة، كأنها خيط من زمنٍ مائل، يعود رغماً عنه.. ارتجف قلبه فجأة، كما لو أنّ تلك الطعنات القديمة ما زالت تملك حق الدخول دون استئذان، عاد إلى الورقة البيضاء أمامه، كانت ما تزال تنتظره، صامتةً كسابق عهدها، لكنه الآن بدأ يشعر أنها لا تشبه المرآة فقط... بل تشبه الكفن.. لم يكتب، لم يحرّك القلم، لكنه كان يكتب في داخله، كأن الماضي نفسه بدأ يُملي عليه، جملةً بعد جملة، لا بالحبر، بل بما تبقّى من صدق.

"هل تذكرين؟".. همس في نفسه دون وعي وبشيء من الرجفة، وفجأة، شعَر أن الورقة أمامه لم تعد بيضاء تماما، بل بدأت تتلوّن من الداخل، كما لو أن الكلمات التي لم تُكتب قد قررت أن تكتب نفسها.. "ليست الخيانة هي ما يؤلم"، فكّر، "بل أنّني صدّقت أنني لا زلت أستحق أن يُحَبّ مثلي".. وسكت، كأنه سمع نفسه لأول مرة.

في مساء بارد لم تكن الرياح سوى شهقة مؤجلة من قلب مثقوب، كأن الأرض تنفست بعد طول حبسٍ، ولفظت حكاية كانت مختبئة في جوف الليل، تنحت ملامحها فوق ضلوع من لا يُراد له أن يُروى، حيث رن هاتفه بمكالمة من رقم مجهول، تردد قليلاً قبل أن يجيب، وعندما فعل، سمع صوتاً يشبه ترنيمة ناعمة خرجت من صندوق موسيقي قديم، كان صوتها يحمل نبرة خاصة، مزيجاً من القوة والرقة، كنسمة هواء لطيفة تحمل عبقاً غريباً، في البدء كان الصمت.. لا أحد، لا شيء، سوى صوتٌ عبر هاتفه، جاء كنسمة من غيمٍ لم يمطر بعد، لم يكن يبحث، بل كان قد أقسم، بملح الجراح، أن لا يعود، أن لا يمنح قلبه لظل امرأة بعد اليوم، أن يُطفئ كل الشموع التي أحرقت يديه في ماضٍ ذاب فيه حتى العظم.. للحظة، شعر بشيء يتحرك في تلك الصخرة الصلبة التي صارت قلبه..

- "آسفة للإزعاج.. هل يمكنني التحدث معك."

- "لا بأس.. بالتأكيد.."

لم تكن الكلمات بحد ذاتها ما أربكه، بل الطريقة التي قيلت بها، تلك اللهجة التي تشبه الذاكرة حين تتنكر في صوت غريب، لا تعرفه... لكنك تشتاقه، كان يريد أن يسألها: "من أنتِ؟"، لكنّ لسانه خانه، أو لعلّ عقله تريّث، كأن شيئا في داخله خاف من الإجابة، من كسر الطقس الذي اعتاده... الطقس المملوء بالوحدة والصمت والورق الأبيض، فساد صمت غريب، كأن صوتها تسلل من زمنٍ آخر، من حياةٍ لم تكتمل أو حلمٍ تعثّر عند مشارف الصباح، لم يسألها من تكون، ولم تسأله إن كان يعرفها، بينهما، كان الزمن يُصلّي بصوت خافت لا يسمعه سوى أولئك الذين خسروا أكثر مما اعترفوا به.

- "أعرف أني أتحدث في ساعة غريبة..." قالت، وكأنها تمشي على حافة الاعتراف.

- "كل الساعات أصبحت غريبة منذ زمن..." ردّ بصوت متعب لم يُفلت من عتبة الحنين، ثم سعل بصمت، كمن يختبر حقيقة كونه ما يزال حيّا، ثم جلس، وضع الهاتف على طاولة قريبة، لكنه لم يغلق المكالمة، بقي يستمع، لا لأنه مهتم، بل لأنه خائف من أن يكون مهتمّا.

- "لم أطلب شيئا، فقط أردت أن أسألك شيئا ما.". همست بذلك، وكأنها تكتب رسالة في زجاجة وترميها في بحر لا تعرف ماؤه، ثم ضحكت بخفة، ضحكة لم تكن مستفزة، بل أشبه برائحة قهوة تُصادفها في شارعٍ لم تمرّ به من قبل، فتذكّرك بشيءٍ لا تملك اسمه.

أحسّ بشيءٍ يتحرك مجدداً في صدره، ليس حنينا، ولا حباً، ولا رغبةً حتى، بل ذلك الشعور الغريب الذي يُولد حين يُفاجئك صوت في العتمة، ويذكّرك أنك ما زلت حياً، وما زال أحدهم... يستمع.. تردد، كان عليه أن ينهي المكالمة، أن يعود إلى جدار صمته، أن يُغلق هذا الباب الذي بدأت نسائم الغيم تتسرّب منه، لكنه قال: "هل أخطأتِ الرقم؟".. قالها بنبرة تشكك أكثر مما تسأل.

ضحكت، ضحكة صغيرة، رقيقة، كأنها لم تُستخدم منذ سنين: "ربما... وربما لا. أحيانا نحتاج أن نُخطئ كي نصل إلى الطريق."

كان يعرف تلك النبرة، ليس الصوت بالضرورة، لكن المعنى، كأنها تكلّمه من زاوية نسيها في نفسه، زاوية لا تُضاء إلا حين يكون القلب نصف ميت ونصف نادم: "أنا لا أُجيد الحديث مع الغرباء.". قالها وكأنه يُنذرها لا يُخبرها، فقد كانت الخيانة قد حفرت اسمه تحت رمادها، حتى بات كل حنينٍ رجفة ألم، وكل أنثى احتمالاً للفقد، وكل صوتٍ أنثويّ، فخا أخيرا، تخلص من ذلك الحب كما يتخلص الجسد من شوكة دخلت عظمه؛ ببطء، بألم، بعرقٍ ودمعٍ وجرحٍ يشفى دون أن يُنسى، لكنه سمعها.. لا وجه، لا هيئة، لا تفاصيل.. فقط صوتٌ كأنما ولد في فجر غامض من دهشة ناعمة، مبحوح برفق، شفيف كوشوشة وردة في ليلٍ ساكن، لم يكن الصوت دعوة، بل كان شغفا خفيا، شمم الروح حين تستنشق أول نسمة بعد أن تغادرها الحياة، فكانت تلك اللحظة التي تغيرت فيها حياته، كمن وجد نبعاً في صحراء، تشبث بالمحادثة، وبدأت قصة جديدة من حيث لم يتوقع أبداً، مكالمة تلو الأخرى، صارت الأحاديث أكثر عمقاً، وأصبح الهاتف جسراً يربط بين عالمين، فبينما كان الليل يواصل تنفّسه خارج النافذة، جلس هو قبالة الهاتف، يسمع صوتها يتردد الأثير، لا يحمل طلبا، لا يحمل ماضيا واضحا، لكنه يحمل شيئا يشبه الباب... لا يُفتح، ولا يُغلق... فقط يُترك مواربا، كقلب لم يعد يريد أن يُحب..

– "أنا لا أطلب حديثا... لدي سؤال واحد فقط.".. قالت ذلك بشيء من الخجل.. وانتهت المكالمة.. بقي الهاتف في يده، لا يصدق ما حدث تماماً، كأنّ الحياة لمست باب وحدته بخفة، ثم تراجعت.. لكنه هذه المرة لم يغلق الباب.

في الليلة التالية، جلس أمام النافذة، دون أن يشعل الضوء، ترك الغرفة كما هي، نصف ظلامٍ، نصف انتظار.. لم يكن يترقّب شيئاً محدداً، لكنه أحس أن الصمت هذه المرة ليس كالسابق.. كأن الهاتف نفسه صار ثقيلا، يزِن في حضوره أكثر من المعتاد، مرّت الساعات، ولم تتكرر المكالمة.. "كما توقعت"، قال في داخله، محاولاً أن يُقنع نفسه بأن الأمر انتهى، أنه كان محض صدفة لا أكثر… لكن قلبه لم يصدق، فمنذ فترة طويلة، لم يحدّث امرأة، لم يفتح باب الحديث إلا على سبيل المجاملة أو التملّص، لم يعد يرى في الأصوات إلا احتمالات للخذلان، للرجوع إلى الهاوية التي بالكاد نجا منها.. لكن هذا الصوت كان مختلفاً، لا لأنّه أنثوي، بل لأنه لم يطلب شيئاً، لم يحاول الدخول، فقط مرّ، كما يمرّ طيف حلمٍ جميل في نومٍ مضطرب.

في اليوم الثالث، وبينما كان يرتشف الشاي على مهل، رنّ الهاتف مجددا.. الرقم ذاته، لم يتحرّك على الفور حيث توقف قلبه للحظة، ثم رفع الهاتف أخيرا وأجاب دون كلمة، الصمت كان هناك أولاً، مثل المرة السابقة، لكنه هذه المرة كان يعرف أن في الطرف الآخر روحا تتنفس.. لم تكن المكالمة عادية، لم تكن صوتا فقط، بل حضورا رماديّا يتسلل في المسافة بين الوحدة والنسيان، لم يكن الحديث هو ما شدّه، بل تلك الطريقة التي يسري فيها الصمت بين الكلمات، كما لو أن الآخر لا يريد شيئا سوى أن يوجد.. فقط أن يوجد، بصوتٍ لا يطلب، لا يشرح، لا يقتحم.. في داخله، تحرك شيء، لم يكن دفئا، ولا حنينا، بل تلك الرعشة الخفيفة التي تسبق المطر، أو الذكرى، أو الحنين الذي لا يريد الاعتراف باسمه، لم يفهم تماما، لكنه لم يرفضه، تركه يمر، كما يمر الهواء في غرفة أُغلقت طويلا، فقد اعتاد أن تكون وحدته محكمة، كقلعة مهجورة لا تزورها سوى الأشباح، لكن الآن، ثمة طيف غريب يمشي على أطراف الحروف، يشارك الصمت، لا يفرض نفسه، ولا ينسحب، كأنه ظلّ بعيد، لا يريد الاقتراب، لكنه لا يستطيع الرحيل.. وعلى غير عادته، لم يغلق الهاتف فور انتهاء المكالمة، بقي يحدّق فيه، كمن يلمس أثرا لا يُرى، وفي صدره، كانت الصخرة القديمة تبدي تشقّقا صغيرا، لا يُلاحظ.. إلا لمن عاش فيها طويلا.

مرت ليالٍ عدة، صار صوتها خلالها طقسا يوميّا، كأن روحه اعتادت الانتظار دون أن تعترف، وكأن الزمن، المتوقف في غرفته منذ سنين، بدأ يتحرك على وقع كلماتها البسيطة... لا تسأل كثيرا، لا تبوح بما يفوق حاجتها، لكنها تترك في حديثها فراغات ذكية، كأنها تدعوه لاكتشافها دون أن تعطيه خريطة.

- "أخشى الاقتراب كثيراً." اعترفت له بعد أيام قليلة من المحادثات الطويلة، "فالقرب يكشف العيوب، والكشف يجلب الخذلان."

- "وأنا أخشى أن أمنح ثقتي مرة أخرى،" أجاب بصدق، "لكنني أجد نفسي أتجاوز هذا الخوف معك".

في لحظة لم يستطع تفسيرها، استنشق عبير أملٍ دفين، شمم روحه تنبعث من جديد، كانت لحظة انفجار داخلي، حين استشعر أن روحه تأخذ نفساً عميقاً بعد خنق طويل، لم يكن هذا الاستنشاق مجرّد شعور عابر، بل كانت ثورة صامتة في داخله، تخرج روحه من ظلال السكون لتعلن انتصارها على كل ما كبلها، شمم الروح لم يكن مجرد شعور، بل تحول إلى قوة تمنحه القدرة على الوقوف مجدداً في وجه الألم، لينسجا معاً حلماً، رسما تفاصيله بكلمات متبادلة في منتصف الليل، وخططا لمستقبل كأنه قصيدة من خيال، كان يحكي لها عن نفسه وكأنه يكتشفها للمرة الأولى، ويستمع إليها كما يستمع الظمآن لصوت الماء، فتسللا إلى الحلم كطفلين يكتشفان مدينة مهجورة، بنيا عالما لا تُطال خرائطه، تحدّثا كما لو أنهما أرواح تلاقت قبل أن تُخلق الأجساد، استحضرا ماضيهما كمن يُحرق آخر رسائل الأسى على ضوء شمعة، حكى لها كيف خانته تلك المرأة ذات الذاكرة الحادة، وكيف أمسك خيط العشق فقط ليخنقه لاحقا بيده، وأقسمت هي، ببراءة ترتعش، أن لا شيء سيعكر صوتيهما، لا غيرة، لا ظنون، لا أشباح..

في ليلة موشومة بالثقة، فتح لها صندوق ذكرياته المؤلمة، وأفرغ فيه الخيانة التي غيّرت مسار قلبه، لا حياته فقط، حكى كل التفاصيل، كيف وثق بلا حدود، وكيف سقط من علوِّ ثقته تلك ليرتطم بأرض الواقع القاسي:

- "لقد تخلصت منها تماماً،" أكد لها، "ولم يعد لها أي وجود في حياتي."

- "أفهم، ولن أتأثر بهذا." أجابت بثقة، "الماضي ماضٍ."

لكن ما لم يدركه أن قصته أشعلت شيئاً في داخلها كان يبحث عن ذريعة، وأيقظت في داخلها جرحاً لم يُسمّه أحد، أو لعله شكٌ خفيّ، فخلال الأسابيع التالية، بدأت الأسئلة تزداد، وصارت التلميحات أكثر وضوحاً:

- "هل ما زلت تفكر فيها أحياناً؟" سألته ذات مرة بنبرة تحاول إخفاء ما وراءها.

- "لا، كيف أفكر فيها وأنت ملء روحي وخيالي؟"

لكن الغيرة من شبح امرأة لم تعرفها قط بدأت تستولي عليها، مرة بعد أخرى، كانت تعود للحديث عن تلك المرأة، حتى صارت وكأنها حاضرة معهما في كل مكالمة، تسللت كلماتها للومه، وأحياناً تجرحه:

- "يبدو أنك لم تتخلص منها كما تدعي، ربما ما زلت تقارن."

- "كيف يمكنني أن أثق بأنك لن تعود إليها؟"

حاول أن يشرح، أن يبرهن، أن يؤكد، لكن الشك كان يزداد مع كل محاولة للإثبات، تحمل الكثير، واستمر يغذي الحلم المشترك رغم التصدعات التي بدأت تظهر فيه، كالغيرة، تلك الندبة الأنثوية التي لا تعترف بالمنطق، وتُراكم الألم على صمتٍ قديم، حيث بدأت تزحف، ببطء، كأنها لعنة لا صوت لها، أسئلتها لم تعد حنونة، كانت تنقب في رمادٍ برد منذ زمن، وتصرخ: “ألم تُطفئه بعد؟”

- "كيف يُطفئ ما لم يعد له لهب؟ كيف يُبرر للريح أنه لم يعد يملك جناحين؟"

تحملها.. كمن يتحمل موجا يُقبّل صخره ثم يعود، تحملها وهو يظن أن الحب يُغفر، أن الخوف الأنثوي يمكن أن يُحتوى، أن الألم قد يُعاد تشكيله أغنية، حتى حلت تلك الليلة العاصفة، حيث انفجر كل شيء، اتهمته بصراحة: "أنت ما زلت على اتصال بها، أليس كذلك؟"

حين سمع منها التهمة الأخيرة، تلك الطعنة التي لا يسبقها إنذار، عرف أن شيئا ما انكسر، ليس في قلبه، بل في ذلك العالم الورقيّ الذي بنياه معا:

- "هذا محض خيال." أجاب بإرهاق، "لقد انتهى كل شيء منذ زمن بعيد."

- "أرى في كلماتك ظلها، وأسمع في صوتك نبرة مختلفة عندما تنفي."

استمر الجدال حتى ساعات طويلة، وعندما وضع الهاتف أخيراً، أدرك أنه كان يعيش وهماً جديداً، ببطء، بدأت الحقيقة تتكشف أمامه، حلقة تلو الأخرى، حيث لم تكن تغار، لم تكن تتألم من امرأة لم تعد تسكنه… كانت تهدم، فقط، تهدم لسبب لم يبلغه، لم يعرفه، وربما لن يعرفه أبدا.. كانت تبحث عن مخرج، عن سبب للانسحاب، وكانت قصة الماضي فرصتها المثالية.. في صباح اليوم التالي، أرسلت رسالة قصيرة: "أظن أنك تحتاج للوقت لتنسى الماضي تماماً."

رحلت، أو تلاشت، أو انحلّت في الفراغ كأنها نوتة أخيرة في سمفونية لا جمهور لها، ولم يبكِ، بل وقف على حافة ذاته، ينظر إلى اللاشيء، ويهمس لصوته الداخلي: "كم مرة يجب أن أُولد من رمادي؟ وكم شمما للروح يحتمل القلب قبل أن يصبح حجراً؟"

أدرك حينها أن الشبح الحقيقي لم يكن في ماضيه بل في الصورة التي رسمتها هي لذلك الماضي، صورة استخدمتها كسلاح وكذريعة، ليقف الآن أمام النافذة، يراقب المطر يغسل الشوارع، في يده ورقة صغيرة عليها كلمات كان قد كتبها لها ولم يرسلها أبداً، يبتسم بسخرية هادئة من سذاجته، ثم يمزق الورقة إلى قطع صغيرة ويتركها تتطاير مع الريح، فهذه المرة، لم يقسم على شيء، فقط أغلق النافذة بهدوء، وترك للصمت أن يملأ المكان، ربما لم يكن الدرس الحقيقي في اجتناب الحب، بل في توقيت الانسحاب، أن تعرف متى تُطفئ الشمعة، ومتى تعترف أن النسمة كانت وهما.. في معرفة متى تكون رائحة الروح حقيقية، ومتى تكون مجرد سراب، ففي المكان الذي انتهت فيه الحكاية، لم يبقَ شيء سوى صدى صوتٍ يشبه نسمة، عبر هاتفٍ لم يعد يرن.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

استيقظ الفنان فائق حسن في صباح باكر، ثمة أشعة شمس خجولة تتسلل إلى مرسمه المطلّ على حديقة فسيحة تحيط بها أشجار النارنج، كان صباحاً بارداً، مدّ يده كعادته نحو فرشاة الرسم، لكن شيئاً غريباً حدث، تجمّدت أصابعه، لا بل ارتجفت أولاً، ثم انثنت للوراء كأنها تأبى الطاعة. حاول أن يرسم لكن أصابعه تتوقف عند الحافة، كأنها تقول: كفى، لقد رسمت ما يكفي من الأحلام لدهر بأكمله، أما آن لك أن ترتاح؟

فائق بدهشة:

ـ ما بكنّ؟ هيا، أمامنا لوحة تنتظر الحياة.

ـ كفاك يا فائق .. منذ الساعة نعلن احتجاجنا، نتوقف عن الرسم، جفّ الجلد، وتخشبت الأصابع لفرط ما نالها من تعب وجفاف وأمراض جلدية بسبب المواد الكيمياوية التي تدخل في صناعة الألوان، لم تعد الفرشاة أداتك الوحيدة في الرسم، أرفق بنا قليلاً، دعنا نستريح!

ـ نعم ! أعرف ذلك، لكنني أذهب إلى يدي حين أشعر بتهديد يهاجم الفكرة، أخشى عليها من الضياع، فألجأ إلى اليد التي تنطق الألوان صمتاً وبسرعة، لأسكب الروح على (الكانفاس). امهليني أيتها اليد ريثما أنجز أعمالي قبل أن أشيخ..

هاهو رغم الألم يشرع في تحضير اللوحة.. قد لا تكتمل، لكنها ستظل تشهد على يدٍ أرهقها الجمال. كانت يده معجزة صغيرة، تبدع حين يشيح العالم وجهه عن الجمال، أصبحت ثقيلة، متعبة، كأنها تشيخ قبله، ليس الألم فقط ما يربكها بل تعب السنوات المتراكم في طي المعجزات على القماش، يشدّها الشغف، لكن الجسد يأبى، واليد ترتجف. تهمس له في صمت:

ـ أرهقتني يا فائق! ما زلت تعيش في الحاضر بكل أمجادك ومسراتك، حاضرك المفعم بصهيل الخيول والتداعيات، تضخّ مشاعرك في اللون بقوة مثل عازف سمفونية بالفرشاة، تتنقل أصابعك على أوتار خفية، تجلس أمام لوحتك غارقاً في لحظة صمت، الغليون " البايب" هوجزء من طقوسك الإبداعية، ومن كيانك، لا تتخلى عنه للحظة، لكنه يخنق أنفاسنا. لم يكن مجرد عادة، بل أصبح رمزاً لشخصيتك، كان رفيقك الدائم.

يرتجف قلب فائق، بصمت يحاوره:

ـ هل انتهى كل شيء؟ أم أن الفن مثل الحياة، يولد من العجز أحياناً؟ ينظر إلى يده بحزن العاشق الذي خانته محبوبته:

ـ حتى لو خذلتني يدي، فلن تخذلني روحي، سأرسم بك يا ذاكرة الضوء، يا ظل الفرشاة. الفن.. لا تصنعه اليد وحدها، الفن رؤى وأفكار وخيال وموهبة. وبطبعه لا يستأّذن، بل يسكن الجسد رغماً عنه. الفن في الفكرة التي تضيء قبل أن تولد، في الخيال الذي لا يموت، في بقعة ضوء على جدار مهجور، فليتوقف الجسد، وليصمت الألم، لكن اللوحة باقية.

يقف أمام لوحته، يحدّق في بياضها الفارغ، لا يعرف إن كان هو أنهك يده، أم أن اليد أنهكت روحه؟ لقد تخلّت اليد عن سطوتها على الفرشاة، كأنها تخاطب الرسام:

ـ لقد منحتك كل ما أملك.. والباقي عليك!

مات فائق حسن، توقف قلبه عن الخفق، لكن قلبه ظلّ نابضاً فوق القماش، لوحته الأخيرة لم تكتمل، لكنها تنبض بظله، بصمته، أبت فرشاته أن تجفّ، ما زالت طرية، لم تغلق باب الحلم، كأنها تبكي في صمت نبيل، تتلمس الهواء، تبحث عن كتفه، عن دخان غليونه، ودفء أنفاسه.

أما اللوحة، فوقفت وحيدة في الضوء، تقول للعابرين: هنا مرّ.. هنا رسم عمراً من المعنى. لم يمت فائق، بل عبر إلى الضفة الأخرى من الخلق، حيث يرسم من دون ألم، ويخلد من دون نهاية.

***

د. جمال عتابي

 

في نصوص اليوم