نصوص أدبية

نصوص أدبية

كالخُزامى دَنا يَرُشُّ عَبيرا

وَتَنائى كما الهلالُ مُنيرا

*

في مَرايا ضميرِهِ قد تَجَلّى

فَتَسامى سَريرَةً وَضَميرا

*

النَوادي تَنوّرتْ بِرُؤاهُ

والمُنادى أصغى لَهُ مُسْتَنيرا

*

كُوزُ ماءٍ في كوخِهِ وَدَواةٌ

حيثُ خوصُ النخيلِ قُدَّ حَصيرا

*

مَوْقِدُ الكوخِ مُوقِدٌ كَلِماتٍ

ذوَّبتْ ثلجاً في القلوبِ وَفيرا

*

خَشَبُ الخيزرانِ شَبَّ جِماراً

يَتَهجّى أسرارَهُنَّ كَثيرا

*

والشبابيكُ سَوْسَنٌ وسُنونو

حَسِبَتْ كوزَ الحالِمينَ غَديرا

*

ناسِجاً سُنْدُسَ القوافي غِطاءً

شَفَّ، واسْتبْرَقاً يَشِفُّ سَريرا

*

سَوْسَنيُّ مَياسِماً ، فوْضَويٌّ

خضّبَ الكَشْفُ ريشَهُ لِيَطيرا

*

رَوّضَ السْيْرُ والسلوكُ فُؤاداً

طالما غاصَ بالجِدالِ أسيرا

*

فَتَرَقّى على الطَريقِ مَقاماً

فَمَقاماً ، وكادَ يَزْهو أميرا

*

دونَ تاجٍ وَدونَما صَوْلَجانٍ

فَأميرُ الطريقِ ظَلَّ فَقيرا

*

طَيْلَسانُ أميرِنا زيْزَفونٌ

وَأكاليلُ لا تُبيحُ حَريرا

*

راوَدتْهُ شَقائقٌ في حِماها

فَتَناسى خَوَرْنَقاً وسَديرا

*

عُرْوَةُ الوَرْدِ كانَ أوفى نَديمٍ

لم ينادمْ فَرَزْدَقاً وَجَريرا

*

كلّما دارَ حَوْلَ سورِ سُليْمى

وَتَقَرّى خُطى الغواةِ ضريرا

*

وَأطَلّتْ هُنيْهَةً ثمّ غابتْ

نادَمَ الليلَ عاشقاً وحَسيرا

*

بِنْتُ ماءِ السماءِ حينَ أهلّتْ

شمّ نِعْناعَها فَعادَ بَصيرا

*

زنجبيلٌ مَزاجُها كوثَريٌّ

فاسْقِنيها سُلافَةً وَنَميرا

*

رَبِّ رُحماكَ بالحَيارى فَمهْما

قيلَ تاهوا لمْ يَبْرَحوكَ سَميرا

*

لو أُعِدّتْ جَهنّمٌ للحيارى

أصبحتْ نارُها غَداً زَمْهريرا

*

حَيْرَةُ النفسِ بينَ مَعنىً ومعنى

مَحْضُ تَقوى تَسُحُّ دمعاً غزيرا

*

لا يُبالي بِجَنّةٍ مُنْذُ لاحتْ

في شِفاهِ المُطَفّفينَ سَعيرا

*

لا يَهابُ الجَحيمَ إنَّ لَظاها

قدْ تَراءى للعارفينَ يَسيرا

*

يا ندامى ويا أُسارى القوافي

لا تخافوا يوماً بها قَمْطَريرا

*

لا تَهابوا غرامَها إن تَلَظّى

رُبَّما يَستحيلُ غيماً مَطيرا

*

فَإذا ما مَسَّ العَذابَ مَجازٌ

راحَ يزهو عُذوبَةً وخريرا

*

فَسُكارى وما هُمو بِسُكارى

إنّما مُنْكرٌ يُساقي نَكيرا

*

أسُكارى وَلمْ يَذوقوا نَبيذاً

بينما أنهُرٌ تّدُرُّ وفيرا

*

نادلي نادِلي تَرَنّمْ مَقاماً

لِمَقاماتِ السالكينَ نظيرا

*

حَبّذا لو كَمَنجةٌ تتهادى

وَتَراً هامساً صدىً وَهَديرا

*

قابَ قوسينِ رُبّما بل وأدنى

قد تَدَلّى فَنامَ نامَ قَريرا

*

فَرُويداً إذا أغاني فُؤادي

دغدغتْ خافِقَ السرابِ هجيرا

***

د. مصطفى علي

 

مِنْ أيِّ طَريقٍ جِئْتَ؟

وَلِماذا أَتيتَ؟

الوَجْهُ قِنَاعٌ،

وَالوجهةُ تِيَهٌ وَضِياعٌ.

هجرتَ الغابَةَ وَالخُضرَةَ وَاليَنبُوعَ،

واليومَ ها أَنتَ وَحيدٌ،

تَتسكَّعُ فَوقَ رَصِيفِ خَريفِ،

مُدنِ المَنفَى،

لِتموتَ فِي الزَّمَنِ القادِمِ

بِالرُّعبِ القاتِلِ وَالجوعِ.

مِنْ أيِّ الأبوابِ المشرعَةِ

تُراكَ دَخلتَ؟

كَيْفَ وَجَدتَ خُطاكَ؟

كَيْفَ تَسلَّلتَ ما بَينَ الطُّرُقِ وَالأَشواكِ؟

شَوارِعٌ،

عَرباتٌ،

بَناياتٌ شاهِقَةٌ،

شُرفاتٌ،

فَوانيسُ شاحِبَةٌ،

مَحلاّتُ نَزواتٍ.

هذِهِ مُدنٌ لَم تَرَها أَبَداً فِي الحُلمِ،

فِيهَا ما لا عَينٌ رَأت،

وَلا أُذُنٌ سَمِعَت،

وَلا خَطرَ عَلَى قَلبِ كِيَان.

فِيهَا حِيطانٌ وَدُخان،

أَشلاءٌ فِيهَا، وَأََشجَان.

فَلِماذا خَلَعتَ لِباسَ الأَرضِ؟

وَرَضِيتَ بِالإسفلتِ البَارِد؟

ماذا دَهاكَ؟

ماذا سَتَحصُدُ مِن مَسعَاكَ؟

كُنتَ طَليقاً،

تَرتَعُ مِثلَ خُيولِ الأَرض،

تُؤنِسُكَ الشُّهبُ اللَّيلِيَّة،

تَغْمُركَ الأَحلام.

واليومَ ها أَنتَ شَريدٌ،

فِي مُدنِ الغُربة،

تَصفَعُكَ الرِّيحُ،

يَكنِسُكَ التِّيهُ،

تَسكُنُكَ سُدَفُ الأَوهام.

تَنكَّرتَ لِلأَرضِ الخَصبةِ،

لِصفاءِ المَاء،

لُذتَ بِالمُدُنِ الجَدبَة.

سَيَنالُكَ فِيهَا الإِِعيَاء،

لا ظِلَّ لِظِلِّكَ،

لا وَجهَ لِضَمِّكَ،

كُلُّ المُهجِ المَطلِيَّةِ رَمادٌ،

حَصادُكَ بِيدٌ وَسَراب.

الطِفلُ الَّذي كُنتَ بِالأَمس،

ما عادَ يُداعِبُ لُعبَتَهُ بِاللَمس،

صارَ فِي حُكمِ النِّسيان،

وَلِوَجهِكَ صارَ وَجهانِ،

وَجهٌ لِلمِرآة،

وآخَرُ لِقِناعٍ تَنهَشُهُ الأَحزان.

هَل تُبصِرُ مِثلي

هَذا الدَّربُ يُشتِّتُنا؟

هذِهِ الخُطوات،

مَلامِحُنا ما عادَت تَعكِسُ صُورتَنا،

تاهَت فِي حُمّى الشُّبُهات.

فَاخلَعْ نَعلَيكَ،

جَدِّفْ نَحوَ طَريقِ العَودَة.

مِشوارُكَ فِي الغُربةِ صَعبٌ،

وَحَياتُكَ فِي الوَاحَةِ عَذبَة.

***

سُلَيْمان بن تملّيست

جربة – 1996/02/26

الجمهوريّة التونسيّة

 

هوّن عليك، فما تضنَّ بعُشْرهِ

الأيّامُ تهدِكَ جُلَّهُ الأحلامُ

*

ألحلْمُ حُلمُكَ إنّما الأيامُ

في شَغْلِها يتنافسُ الآنامُ

*

فاسموْ بحُلْمِكَ مَنْكِبًا مُتلَألأً

في لبّهِ تتَناسلُ الأنجامُ

*

حتّى تطيعَ الأرضُ فيكَ سماءَها

بمدىً تكذّبُ حدَّه الأوهامُ

*

فإذا أطاعتْ تلكَ صارَ لحُلْمكَ

المنظورِ فوْقَ تُرابِها أقدامُ

*

فإذا مَشىْ ونما فغِثْ بأخٍ فبالـ

أخِ  تُخرسُ الأعيانُ و الأفْمامُ

*

واللهُ مُغْنٍ عن حسودٍ مُبغضٍ

يرتاحُ لو فَتَكَتْ بكَ الآلامُ

*

واللهُ مُغْنٍ عن أيادٍ تستويْ

بأَكُفِّها الخيْراتُ و الآثامُ

*

واللهُ مُكرِمُ من أُعِزَّ بحُلْمه

الفقراءُ والأيتامُ والأرحامُ

*

واللهُ مُكرِمُ من يَقَرُّ بحُلْمهِ

إصلاحُ ما قدْ أفسدَ الظُلّامُ

*

فامضيْ وعُدْ واحلَمْ وطِرْ فرِحًا بما

أنّجَزْتَهُ تركعْ لكَ الأيّامُ

*

لترىْ قوادِمَها إليكَ سخِيّةً

بالأمنياتِ وحولَها الخُدّامُ

*

خدّامُها الآهالُ والأموالُ والـ

أعيانُ والسّاداتُ والأعْلامُ

*

والعِلمُ والعُلَماءُ والآدابُ والـ

أوتارُ والصّفَحاتُ والأقلامُ

*

فاخترْ لنفسِكَ أهلَها ممّن دعَوا

لله حتّى تعْمُرَ الأحلامُ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

البحرُ يَقْرَعُ بكفَّيْهِ صدري

واللّيلُ يتخَطَّفُني.

تسري بَراغِيهِ في خاصِرَتي،

ويتسَلَّقُنِي.

يلْتَفُّ في كفّي… يسامِرُهُ…

على رصيفِهِ،

أُرصِّفُ مجازاتِ العَبَاءاتِ

وحِلْيَتَها.

أزرعُ فيه الأبجَدِيّاتِ

وماءَها،

لِأُعْرُجَ إلى ظِلِّكَ والْحُجُبِ،

يا أَبَتِي.

وأَتَشَرَّبُ وَمِيضَ الظّلُماتِ،

عَلَّنِي أُخْمِدُ جوعا

يَتَكَتَّلُ على جدران أَقْمِصَتِي.

وهذه الغيْماتُ الثِّقالُ

نيرانٌ تعتكفُ في جسَدِي.

تَسُحُّ في وجهي

سعيرَ نَفَثَاتِها

وتجْلِدُني.

ومنْ حناجرِ الحُروفِ،

تَتَفَلَّتُ الْأَقَاحي

وتُحَرِّقُنِي.

أَتُوهُ في مِحْرابِها،

وأَتَطَوَّفُ بلا وَتَدٍ.

**

إلى الطُّفُولاتِ الْبعيدَةِ،

يُطَوِّحُ بِأَنْفاسي الْغيابُ،

وإلى العنبِ.

فلا الْمَجَازَاتُ تُعَرِّشُ

على تِلالِ أَوْجاعي،

ولا الْحِلْيَةُ تُسْعِفُنِي.

ولا نُتُوءاتُ الرَّصِيفِ

بالْمجازِ تَتَجَمَّلُ،

وتَعّتِقُنِي…

طَيْفُ الْمَدَافِنِ

صَخُوبًا يَتَمَدَّدُ

على كَفِّ الْخَرَائِطِ

وأسْقُفِها.

" بْرُومِيثِيُوسُ "

تَتَهَدَّمُ مَعَابِدُ لَهُ

على ضِفافِ الْمُدُنِ الرَّخْوَةِ

في كَبِدِي.

ووَجْهُكَ النَّدِيُّ،

قدْ يَمَّمْتُهُ، يا أَبَتِي،

كَيْما يَبْعَثَنِي.

فهلْ لِوَجْهِي، في كَفِّكَ،

رذاذٌ يَتَرَقَّبُهُ!؟

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي، تونس

نحنُ الذينَ إذا الزمانُ جفانا

سرتِ القصيدةُ في خطاهُ بيانا.

*

نأتي من التعب القديم وحزننا

كنبوءةٍ لم تعرف الكتمانا

*

نحنُ الذينَ إذا انثنى تاريخُهمْ،

ساروا عليهِ، وما انثنَى عصيانا

*

جاؤوا من التعبِ العتيقِ كأنّهم،

أثرُ البلادِ إذا تنكَّرَ آنَا.

*

نطوي البلادَ إذا تخفَّفَ أهلُها،

وجعًا، ونمشي فوقَها إيمانا

*

ما راعنا الجوعُ القديمُ لأنّنا،

عمرا قضينا نكتم الأحزانا

*

لم نرتضِ الطرقَ الكفيلة بالرضا،

بلْ جرّبَ الشكُّ الجميلُ خُطانا.

*

ما بايعَ الصوتُ السلاطينَ التي،

لبسَتْ من التاريخِ ثوبَ هوانَا.

*

لم يُغْرِهِمْ بابُ السلاطينِ الذي،

فُتِحَتْ مفاتحُهُ لهمْ مجّانَا.

*

غنّيتَ فارتدَّ الخرابُ محطَّمًا،

وتكسّرَ الصمتُ الثقيلُ وهانَا.

*

ولقد كتبنا لا لمجدٍ عابرٍ،

بلْ كي نعيدَ إلى الحروف كيانَا.

*

إنْ قيلَ: هذا العصرُ أغلقَ بابَهُ،

قلنا: سنفتحُ بالقصيدِ مكانَا.

*

كم مرَّ سيفٌ فوقَ أعناقِ المدى،

ثم انحنى، وبقى الكلامُ سنَانَا.

*

نحنُ الذينَ إذا أُريقَ دمٌ هنا،

صانوهُ حرفًا، وارتقوا قربانَا.

*

لا السيفُ أقنعَنا، ولا أوهامُهمْ،

لمّا تزيَّنَ بالوعودِ دُخانَا.

*

لسنا نُجيدُ الوقف فوق طلولها،

كانتْ تُجيدُ لغيرِنا نسيانَا.

*

والريحُ إنْ عصفتْ بنا لم ننحنِ،

أنَّ الثباتَ لم تفت بنيانا

*

سلكوا دروبَ العزِّ دونَ تراجعٍ،

وسقَوا الترابَ دماً ليُزهرَ شَانَا.

*

كتبوا ليبقَى في الحناجرِ نبضُهم،

إنْ خانَ صوتُ الأرضِ معنىً كانَا.

*

نحنُ البقيةُ حينَ يُحصي عدُّهمْ،

أسماءَهُمْ، ونفيضُ نحنُ بيانَا.

*

إنْ أُغلِقَتْ أبوابُ صوتِ قصيدِنا،

لم يُطفَأِ الأثرُ الذي أعطانَا.

*

نحنُ احتمالُ الأرضِ حينَ تضيقُها،

لغةٌ، وحينَ تُضَعضِعُ الميزانا

*

لا الليلُ يملكُ آخرَ الأسرارِ في،

أصواتِنا، إذ ينجلي إعلانا.

*

سنظلُّ نكتبُ: هذه أرضٌ إذا،

نطقتْ، تُعيدُ الخلقَ والإنسانَا.

***

د. جاسم الخالدي

في هذا النص، لا تُروى الحكاية من فم راوٍ، بل من فم الجدران، من صمت الأشياء، من ذاكرةٍ لم تُشفَ. زنزانة الذاكرة ليست مكانًا، بل حالة وعي، حيث يتداخل الماضي بالحاضر، ويُصبح الألم هو اللغة الوحيدة التي لا تنسى.

"صدى لا يموت"

ــ أنت تعرف لماذا أنت هنا؟

لم يكن الصوت صادرًا من الخارج، بل من داخل الجدران، من رطوبةٍ قديمةٍ لم تجف.

انزوى في الزاوية المعتمة من الغرفة، حيث الستائر الداكنة لا تسمح إلا بشقّ ضوءٍ خجول، كأنه يُستأذن قبل الدخول.

جلس كما كان يجلس هناك، في زنزانةٍ قديمة، يحدّق في الطاولة البالية أمامه. خشبها مشروخ، كأنها تحمل آثار ضرباتٍ قديمة، تشبه تلك التي جلس خلفها المحقق ذات مساء جنوبي، يلوّح بملفٍ ثقيل، ويكرّر السؤال ذاته، بنبرةٍ لا تنتظر إجابة.

كل شيء في الغرفة الآن يتآمر على ذاكرته. الكوب الزجاجي، الحليب الفاسد، الأوراق المبعثرة… كلها ليست أشياء، بل شهود. حتى القلم الرصاص، الذي يحتضر بصمت، يشبهه حين خرج من السجن: نصفه مكسور، ونصفه لا يزال يكتب.

كيف له أن ينسى غرفة الاستجواب؟ وجه الضابط البشع وهو ينهال عليه بوابلٍ من الشتائم، يبصق لعابًا مهينًا غمر وجهه، كأنما يُغرقه في مستنقع من القذارة. رفع يده ليمسح ما علق به من إذلال، فما إن تحرّكت حتى انقضّت عصا سوداء، انزلقت على معصمه كنيزكٍ أعمى، فحطّمت عظامه.

عندها فقط، تراجعت الإهانة إلى الظل، كأن الألم الأشدّ قد انتزع منها حقّ الصدارة، وفرض سطوته على الذاكرة. لم تكن الإهانة لتُنسى، بل دُفنت حيّة تحت أنقاض الألم، تصرخ بصمتٍ لا يُسمع.

وكانت تلك الأشياء، التي تراقبه بصمت، كأنها تنتظر لحظة الانفجار… لحظة الصرخة.

صرخةٌ مدوّية، ويدٌ ثقيلة ترتطم برقبته الواهية، كجدارٍ هشٍّ متروك، دمرته ضربات الأعاصير وزخّات المطر. لم يعد قادرًا على تحمّل الصدمات، وتلقائيًا امتدت يداه ليضمّ مداخل أذنيه، جاعلًا منهما عازلًا يصدّ ذبذبات الألم.

شعورٌ داخليٌّ هائم على بحرٍ من تراكماتٍ قديمة، وجراحاتٍ ثخينة، امتدّت في دروبٍ ضيقة، تتصاعد بإيقاعاتٍ متذبذبة، وتصدّعاتِ الزمنِ المعطّل؛ قد ساهمت في إحداثِ انفجارٍ بركاني، يفتح أخاديدَ جديدة، ويُزيل ماكينةَ الذكرياتِ الجميلة… فيما الشعورُ يبقى راكدًا، في جحيمِ الزمنِ المعطّل.

شعاع صارخ من أضواء السيارة يخترق شقوق الستائر، لينسكب في عينه كطعنة من زمن آخر، يوقظ لحظات الاستجواب العنيفة. تلك اللحظات المرعبة في دهاليز غير مرئية تختفي فيها الروح. لم يعرف سبيلًا إلى هذا، ولم يجد شفيعًا ينقذه من زنزانة ذاكرة لا فكاك منها.

يدفن وجهه بين راحتيه، كأنما يهرب من رؤية معاناةٍ باتت كسرابٍ يتشكّل أمامه، ببشاعة الوحش الجائع. ثم، من عمق الصمت، عاد الصوت ذاته، لا من الجدران هذه المرة، بل من داخله تمامًا:

ــ أنت تعرف لماذا أنت هنا؟

لم يجب.

لم يكن هناك من يجيب.

فقط زنزانة، بلا قضبان، بلا أبواب،

لكنها محكمة الإغلاق… في الذاكرة.

***

كفاح الزهاوي

 

القصيدة تصور لقاء عفويا مع فنانة مكسيكية

في مطعم أثناء تواجدي في جمهورية الدومينيكان

***

في الليل كان َ لقاؤنا في مطعمٍ

صَدَحتْ من المكسيكِ فيهِ قياثرُ

*

قد أسكرتني بغتة ً نظراتُها

فلخمرةِ النظراتِ طعْمٌ آخرُ

*

في وجهها القمحيّ عرْسُ سنابلٍ

نضجتْ فباركها الربيعُ الزاهرُ

*

ويطلُّ مِنْ أعماقِ عينيها الضحى

ورموشُها السوداءُ سِحْرٌ آسِرُ

*

تتألقُ البسماتُ فوقَ شفاهِها

وكأنّها روضُ بديعٌ عاطرُ

*

من أنتَ؟ تسألني وتُبدي دهشة ً

أمنجمٌ أمْ ساحرٌ أم شاعرُ

*

فصمتُّ ثمّ أجبتُها مُتبسّما ً

سأقولُ ما قالوا ولا أتفاخرُ

*

عُذرا ً فلستُ منجّما ً أو ساحرا ً

لكنّ شعري قِيلَ عنهُ ساحرُ

*

أنا لستُ من هذي البلادِ وإنّما

أنا مُبحرٌ كالموجِ بلْ أنا طائرُ

*

ضاقتْ بيَ الدنيا وضقتُ بها لذا

أنا هكذا طولَ الحياةِ مُسافرُ

*

ما عادَ لِيْ ماضٍ ولا مُستقبلٌ

زمني الذي أحياهُ .. هذا الحاضرُ

*

فارقتُ ذاكرتي وعشتُ بدونها

مَنْ يصحبِ النسيانَ فهوَ الظافرُ

*

قدْ كانَ لي وطنٌ جميلٌ آمنٌ

غدرتْ بهِ الأحقادُ فهْوَ مقابرُ

*

فيهِ رضعتُ الحبّ منذ طفولتي

لولاهُ مُتّ وماتَ فيّ الشاعرُ

*

ما مِنْ عزاءٍ غيرِهِ أو سلوة ٍ

هوَ زاديَ المخبوءُ حينَ أحاصرُ

*

فلتصغي يا حسناءُ لي فأنا هنا

اليوم َ لكنّي غدا ً سأغادرُ

*

القوّةُ الرعناءُ في جبروتها ً

لنْ تقهر َ الحبّ الذي هوَ قاهرُ

*

الظافرونَ بحقدهم وبمكرهم

هُمْ خاسرونَ وكلّ شئ ٍ عابرُ

*

بالحبّ تنبعث الحياةُ وترتقي

مهما أشاع َ الموت َ وحشٌ كاسرُ

*

أنا رابحٌ في الحبّ رغْم َ خسائري

فمشاعري دُهشتْ لقولي خاسرُ

***

جميل حسين الساعدي

 

أَتَظُنُّ مَنْ حَمَلَ الأَسَى أَعْوَامًا؟

وَتَحَمَّلَ الطُّغْيَانَ وَالإِجْرَامَا

*

نَسِيَ الْمَآسِيَ كُلَّهَا فِي لَحْظَة

وَغَفَا عَلَى حَدِّ الْجِرَاحِ وَنَامَا

*

فَلَقَدْ سَقَطْتَ مِنَ الْعُيُونِ بِلَحْظَةٍ

مَا عُدْتَ حَقًّا فِي الصِّفَاتِ هُمَامًا

*

فِي أَحْسَنِ الأَحْوَالِ كُنْتَ مُهَرِّجًا

فَحَمَلْتَ إِصْرًا، وَارْتَكَبْتَ حَرَامَا

*

هَلْ جِئْتَ تَغْرِسُ فِي الرَّمَادِ حَدِيقَةً

كَيْ تَحْصُدَ الْخَشْخَاشَ وَالأَوْهَامَا

*

أَمْ جِئْتَ تَلْبَسُ وَجْهَ فَجْرٍ كَاذِبٍ

لِتُزِيحَ عَنْ وَجْهِ الْبِلَادِ غَتَامًا

*

هَلْ جِئْتَ حَقًّا كَيْ تُعَالِجَ أَزْمَةً

قَدْ أَجْحَفَتْ بِأَرَامِلٍ وَيَتَامَى

*

تَبْنِي بُيُوتًا لِلَّذِينَ تَشَرَّدُوا

وَتُزِيلُ مِنْ أَرْضِ النُّزُوحِ خِيَامَا

*

أَمْ جِئْتَ تَرْفُلُ فِي عَبَاءَةِ طَامِعٍ

يَسْتَجْدِيَ الأُمَرَاءَ وَالْحُكَّامَا

*

فَالشَّعْبُ ضَحَّى كَيْ يَعِيشَ بِعِزَّةٍ

وَاسْتَحْمَلَ التَّعْذِيبَ وَالإِعْدَامَا

*

فَهُنَاكَ آلَافُ الضَّحَايَا غُيِّبُوا

وَتَحَوَّلَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أَرْقَامَا

*

كَيْ يُصْبِحَ الإِنْسَانُ حُرًّا مِثْلَمَا

بَاقِي الشُّعُوبِ يُحَقِّقُ الأَحلَامَا

*

لَا كَيْ يَرَى مُتَسَلِّقًا مُتَمَلِّفًا

فِي سَقْطَةِ التَّارِيخِ صَارَ إِمَامَا

*

أَوْ أَنْ يُصَفِّقَ لِلَّذِينَ تَمَتْرَسُوا

خَلْفَ النِّظَامِ وَخَلَّفُوا الآلَامَا

*

بَلْ أَنْ تُجَّارَ الْحَشِيشِ تَكَرَّمُوا

وَتَقَلَّدُوا بَدَلَ الْحِسَابِ وِسَامَا

*

يَا قَائِدَ الزَّحْفِ الْعَظِيمِ أَلَا تَرَى

قَطْعَ الذُّيُولِ عَلَيْكَ بَاتَ لِزَامَا

*

أَنَسِيتَ شَعْبًا ثَائِرًا مُتَمَرِّدًا

مِنْ قَبْلِ عَامٍ حَطَّمَ الأَصْنَامَا؟

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

عائدٌ..

والنوى مؤلِمٌ

والمدى غائمٌ

ورمال الحروبِ

بوجهِ الرجوعِ تُثيرُ القلقْ!

*

عائدٌ ..

والعبورُ يُقَيِّدهُ بـ(اشتِباهٍ)

ويسأل رجليهِ أين الدروبْ؟

ومن أي ثوبٍ أتاهُ

بحجمِ قياس الوطنْ؟!

وهل قد نوى

أن يُخَبِّئ في جيبِهِ للشمالِ جنوبْ؟!

وأي الجهاتِ دَعَتْهُ ..

إلى مَن نَطَقْ؟!

*

عائدٌ ..

لا يَرى في البلادِ ألقْ

سوى حُلُمٍ

يتراءى لهُ

في سَرابِ الحَدَقْ!

*

عائدٌ .. عائدٌ

والنوى مؤلمٌ

والمدى غائمٌ

ورمال الحروبِ

بوجه الرجوعِ

تثير القلقْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

كانت عائدة الى بيتها تحمل بين يديها رغيفا وتضمه الى صدرها، كأنها تحضن طفلا صغيرا، وتغطيه بالشال الذي كانت تلف به رأسها. وتضغط عليه بقوة، خوفا عليه من الضياع. فقد انتظرت في طابور طويل، حتى استطاعت أن تحصل عليه. منذ ارتفعت الأسعار وانتشر لهيبها كما تنتشر النار في الهشيم، لم تعد "فاطمة" قادرة على تلبية حاجياتها ولا حاجيات زوجها المقعد. الذي كان يشتغل بإحدى مصانع الاسمنت. وأفنى عمره دون المطالبة بتحسين وضعه المادي. كان يخاف كثيرا من بطش مدير المصنع، الذي كان يهدد كل من ارتفع صوته احتجاجا على الساعات الإضافية أو على قلة اليد العاملة. كان انسانا مسالما، لا يسمع له صوت.  في يوم، تأخر في العودة الى بيته، حل الليل وصمت الشارع الا من نباح الكلاب. ظلت "فاطمة"، جالسة تراقب الباب. "لم يتأخر يوما. أتمنى أن يكون خيرا" همست لروحها الخائفة. نامت على الكرسي، حتى استيقظت في الصباح الباكر على دقات عنيفة. سمعت صوت زوجها، انتفضت كجريح يتلوى من الألم. فتحت الباب، كان هناك، غارقا في دمائه ويحمله اثنان من زملائه. لم يتكلما كأن لهما تعليمات. كان هناك صمت مريب. تاهت فاطمة بين دماء زوجها وأنينه وصمت الرجلين. فهمت فيما بعد، أنه وقع له حادث في المصنع، على إثره سقط أرضا على ظهره ولم يعد يستطيع الحركة. وانفتحت رجله أثناء سقوطه وسال منه دم كثير. بدأ يصف لها الحادث، وظلت مذهولة، غير قادرة على استيعاب اللحظة. استيقظت برهة من سباتها المؤقت وسألته: "هل أخذوك الى المستشفى؟"  صمت زوجها كأنه ارتكب جريمة. وحكى لها أن السيد المدير، اقترح عليه العلاج في مستوصف المصنع، وأنه سيحصل فيما بعد على تعويض كبير.

منذ حادثة المصنع وزوجها لا يستطيع الحركة، ولم يحصل الا على مبلغ زهيد مقابل خدمته الطويلة ولم يتحمل المصنع أية مصاريف أخرى لعلاجه. واكتوت "فاطمة" بسذاجة زوجها الذي سامح في حقه وبجبروت مدير المصنع واستغلاله لطيبته وجهله بحقوقه.

ومن يومها وهي تحاول أن توفر من مصروف البيت الزهيد كلما استطاعت. فهي تشتغل عاملة نظافة في احدى المؤسسات البنكية، عند عودتها الى البيت، تقوم بإخراجه للنزهة وأحيانا، تتركه مع بعض أصدقائه القدامى حتى يحين وقت العودة. ظلت "فاطمة" على هذا المنوال لسنوات، تحاول أن تخلق البسمة والفرحة في بيتها. تحمل طاقة من النشاط رغم الأزمات التي تعترض طريقها.

لكن هذا الغلاء الفاحش الذي أتى على الأخضر واليابس، انتزع تلك البسمة الصغيرة وتركها تائهة بين طلبات زوجها المقعد وطلبات البيت. فما تحصل عليه لم يعد يكفي.

خرجت في ذلك اليوم الذي لم يكن عاديا، لتشتري رغيفا. قالت لزوجها:

- أتمنى ألا يرتفع سعر الرغيف هو أيضا.

ابتسم زوجها والحزن يكاد ينط من عينيه:

-ستكون هذه هي الضربة القاضية. المسكين لم يبق له سوى الرغيف والشاي.

في طريقها الى البيت، كانت تحضن الرغيف بشدة وتمشي بخطوات صارمة. وتد ك الأرض برجليها دكا، كأنها ترغب في الانعتاق من الوضع الذي تعيش فيه. لا أثر للفرح على ملامحها. مرت من أمام محل لبيع الحلويات. توقفت قليلا، حاولت أن تذكر آخر مرة اشترت فيها قطعة حلوى. لم تستطع. ظلت تتأملها من وراء الزجاج. دفعت يدها في جيب جلبابها وأخرجت منه بعض الدراهم. كانت قليلة، لا تكفي لشراء حلوتين. لكنها تشجعت وقررت أن تلج المحل لاقتناء واحدة فقط. همست لنفسها "لا اظن أن ثمن الحلويات سيرتفع أيضا. " اشترت قطعة الحلوى، وبدت لها صغيرة جدا ربما لا تكفي لشخص واحد. ترددت وكانت تعيش تحت تأثير اللحظة قررت في لحظة سريعة، ودون تفكير أن تطلب قطعة أخرى دون أن تدفع ثمنها. حيث كان المحل غارقا بالزبائن واستغلت الفرصة وخرجت بسرعة شديدة، ودفعت جسمها خارجا وأسرعت دون الالتفات الى الوراء.  تحمل الرغيف في يد والحلوتين في اليد الأخرى وتحاول أن تداري عليهما من نظرات المارة. لم تسرق يوما. كان أجر زوجها يكفيهما رغم ضآلته. يوم أصيب زوجها وحرم من عمله، لم ترغب أن تمد يدها لاحد، قررت ساعتها البحث عن عمل. العيش بكرامة أفضل من التسول. "أفضل النوم جائعة ولا أمد يدي". هكذا كانت دائما تقول لزوجها. لكن أن تسرق، سلوك لم تتوقعه أبدا. كانت نبضات قلبها ترتفع وتتزاحم داخل صدرها من شدة الخوف. ارتباك في حركات يديها وعرق ينط من جبهتها. مشت طويلا حتى تأكدت أنها ابتعدت عن المحل وجلست تسترجع أنفاسها الهاربة. ظلت جالسة والرغيف في يد والحلوتين في اليد الأخرى. كأنها تعيد شريط ما حصل وظهرت علامات الخوف والندم على ملامح استوطنها التعب والصبر. قالت تخاطب نفسها" ما قمت به سرقة. وسأذهب الى السجن وسيظل زوجي وحيدا وسيموت وحيدا بالبيت".  ثم تابعت:" سيعذبني الله وسأصاب بمرض خبيث، وسأموت وأترك زوجي وحيدا " وأحدثت هذه الأفكار ثورة بداخلها وقامت بشكل آلي وغيرت وجهتها واتجهت عائدة الى المحل، مصممة على ارجاع الحلوى. في طريقها الذي بدا لها طويلا، تابعت حوارها الداخلي. ما ان اقتربت من المحل، حتى استولت عليها أفكار أخرى وقالت بصوت عال، كأنها تخاطب أحدا: "من حقي هذه الحلوى. ان الغلاء هو السبب. أنا لم أسرق." ورجعت دون تردد، وعزمت على ألا تفكر في الأمر وتعتبره منتهيا. كان زوجها ينتظرها كالعادة، سألها عن ثمن الرغيف. ابتسمت بسخرية وقالت له:

-لم يتغير، كانت المخبزة غاصة بالناس. بصعوبة شديدة حصلت عليه.

تنهد زوجها وقال لها:

- هذا الوضع أصبح صعبا جدا.

ثم قامت وابتسمت كطفل حصل على هدية وقالت له:

- لقد أحضرت لك مفاجأة.

وضحكت بكل حواسها. ضحك واستغرب، منذ زمن لم يرها فرحة ومبتسمة بهذا الشكل. فقذ أصبحت الشكوى والآهات تستولي على كل جلساتهما.

ابتسم بدوره وقال لها:

- ما هي هذه المفاجأة التي أعادت اليك البسمة؟

أحضرت الحلوتين ووضعتهما أمامه على المائدة الصغيرة والوحيدة بالبيت.

ساد صمت بينهما وكانت تنتظر ردة فعله. نظر اليها مليا وقال لها:

-من أين لك بالمال لشراء الحلوى؟

أجابت بشكل حاد، كأنها ترفض أن تشوش عليها تلك الأفكار التي جعلتها تروح وتجيء عند المحل:

- ثمنها رخيص، واستطعت الحصول على حلوتين. وتابعت:

-منذ متى لم ندق طعم الحلويات؟ هل تتذكر؟ أنا لا أتذكر..

وتاهت بنظرات متسائلة وغاضبة كأنها تبحث عن إجابة.

ذهل زوجها من اجابتها الغريبة، وأعاد السؤال لأنه لم يصدقها:

-كيف حصلت على الحلوى يا فاطمة؟

- اشتريتها. ترددت قليلا. ثم تابعت بصوت حزين:

-لقد اشتريت واحدة وأخذت الثانية ولم أدفع ثمنها.

رفع صوته وكاد أن ينط من كرسيه وقال لها:

-السرقة يا فاطمة؟ حاول ضبط نفسه. اقترب منها وقال لها:

-منذ متى تحولت الى سارقة؟

وضعت الحلوتين بكل هدوء في طبق ونظرت اليه بنفس صرامة اجابتها:

- لقد سرقوا عمرك في المصنع ورموك، لقد سرقوا حقي في العيش الكريم بسبب هذا الغلاء، أنا لم أسرق، أنا استرجعت الشيء القليل مما سرقوه.

-لا يمكن يا فاطمة أن نحل المشاكل بسرقة الآخرين.

لم تستسلم لكلامه. جلست بكل هدوء وأجابته:

-قلت لك أنا لم أسرق أحدا.

رفع صوته بحدة، حتى يعيد اليها صوابها وقال لها:

-لقد أصبحت مثل مدير المصنع، تسرقين ولا تبالين. ما الفرق بينكما الآن؟

نظرت اليه مليا وتأملته كأنها تراه لأول مرة ونامت في محراب الصمت.

***

أمينة شرادي

 

لي عادةٌ تشبهُ صلاةً سرّيةً

أؤدّيها حين يثقلُ الليلُ على نوافذِ الروح.

أجمعُ بقايا الشموع،

التي بكتْ حتى القاع،

أصابعَها المبتورة،

أعمارَها القصيرةَ التي انطفأتْ

قبل أن تُكملَ معنى الضوء

*

أضعُها في إناءٍ زجاجي  ساخن،

أتركُها تذوبُ

كما تذوبُ القناعاتُ القديمة

حين نكفّ عن الدفاعِ عنها.

*

أصبُّ الشمعَ المنصهرَ

في قالبٍ جديد،

كمن يسكبُ قلبَه

في هيئةٍ أخرى

أكثرَ احتمالًا للحياة.

*

حين تتصلّبُ الشمعةُ

أدركُ أنني

نجوتُ مرّةً أخرى

من تعريفٍ جاهزٍ لليأس.

*

شمعةٌ جديدة

تنهضُ من رمادِ أخواتِها،

متعدّدةُ الألوان

كمدينةٍ نجتْ من الحصار،

لا تسألُ عن ماضيها،

ولا تعتذرُ عن اشتعالها.

*

أشعلُها

فتتراجعُ الجدرانُ خطوةً،

ويستعيدُ الهواءُ ذاكرته،

وتصيرُ الظلمةُ مجرّدَ

سوءِ تفاهمٍ عابر.

*

أصوّبُ نظري في قلبِ السواد،

أثقبه بإبرةِ المعنى،

وأتركُ للضوءِ أن يتعلّم

كيف يولدُ من حطامه.

***

مجيدة محمدي

باردةً.. بعيدةً.. كقريةٍ أُطفِئَت مصابيحُها

لا أحد يعبرُ بي

لا طريقَ يقودني إلى أحد

أُنصِتُ بسكينةٍ لحنينِ الأجنحة

وهمسِ المزاريب

وأتركُ للريح أن تمرَّ بكلِّ بابٍ وتُطفِئَ صريرَه

*

تكفيني هذه الرائحة،

التي غمرتِ الأمكنةَ بشذاها…

ككَفَّي أمي

*

يكفيني

غصنٌ أعلِّقُ عليه طيرًا لا يطير

آخرَ تذكرةٍ

من محطتنا الأخيرة

*

يكفيني

كوبٌ قهوةٍ قد يكشفُ لي

أيَّ حوتٍ

سيبتلع هذا القمرَ الذي يسبح على وجهِ الماء

*

وحيدةً…

انتحرتْ مع الألحان،

العصافيرُ السجينةُ خلف زجاجِ الوقت

*

وحدَها الصورُ

أَلِفتِ العتمةَ

وخبَّأتْ لنا ضحكاتٍ لا تشيخ

*

تبدّل كلُّ شيءٍ حولي، وبقي الصمتُ واقفًا عند بابي

*

دعوني في هذا الخواء

أُطلقُ عواءي

فالطرقاتُ بلا ظلّ

وآخرُ ما لَسَعَها

كان وجهي.

***

أنجيلا درويش

 

وفي ختام رحلتي الموحِشَةِ المُثيرةْ

تظل يا فاتنتي أسئلةٌ صغيرةْ

تَسكُنُني

تثير في ذاكرتي

عواصفًا من دهشةٍ وحيرةْ

عن العباد والبلادِ، دِيرةً فَدِيرةْ

عن الرحيل والعويلِ

والقلوب مذ غدت حسيرةً كسيرةْ

وأين حطَّت رحلها شراذمُ العشيرة

*

أسئلتي يا حلوتي كثيرةٌ كثيرةْ

لكنها نازفة مؤلمةٌ مريرةْ

أسئلةٌ عصيةٌ، وليس من أجوبةٍ

إلا التي تصيبُ صاحبَ السؤالِ بالدُوارْ

تقذفه في لُجَّةِ التيّار

ترمي به في مُقلة الإعصارْ

تزيده بلبلةً وعجبًا وحيرةْ

*

أسئلتي الصغيرةْ

تُرنِّم النشيدْ

كأنه منبثقٌ من حَمأة الوريدْ

تعيد ما يُشجي من الغناء والقصيدْ

في شَدوِها المُرخَّمِ الترديدْ

لكنها تعيدُ ما تعيدْ

في زمنٍ بليدْ

تضيع مثل صرخةٍ هائمةٍ في البيدْ

*

أسئلتي الصغيرة

تظل يا أميرتي حبيسةً أسيرةْ

ما نَبَسَتْ بها الشِفاهُ

إنما تدافعتْ من عينيَ البصيرةْ

على مَدارجِ المدى

هاتفةً مُثيرةْ

فما أثارتْ نخوةً يومًا

ولا حَزَّتْ لها أبيّةٌ ضفيرةْ

وخذلتها يديَ القصيرةْ

فبقيت صغيرةً صغيرة

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

غيوم وطيف ربيع يسربله وجع

وأجنحة ورؤى في المطاحن تضطجع

وأرجوحة تخبز الريح ضيما وأرغفة

ووجهٌ لهند يطالعني في مقاهي الدجى

فيوقظ فيّ شجون الغياب وشوق الندى

ويتـّقد الموج في قدحي وفتيل الضنى

فما بقي في الديار بيوت ولا شجر

وما بقيت في الديار سوى دهشة القمر

وما بقيت غير آنية وسط الحجر

تنادي طويلا : أ ما من سنابل يا عمر؟؟؟

وكلّ الّذي في الديار هسيس ونرجيلة

وأرصفة تغزل الجوع ظلاّ وأوسمة

وفيها وجيف وبعض سلال وأقنعة

**

ويغمسني في الأسى صوت هند ويغرسني

ويبرق فيّ بروقا ورعدا وزمجرة

أزيز عيونك يرهقني _ قلتُ _ يا جزعي

كأنّ حبال السماء تفرّ وتتركني

كأنّ الجدار الّذي أرتدي، ما به أحتمي

فهل من مسار إلى سهم هند فينجدني؟

وهل من سراج يعرّي الصريم ويجمعني؟

ترى أين "معتصم"؟ - تصرخ الأمّ والولد-

تحرّق ضلعي - يقول الخواء - وما لي يد

ولستُ أُدانُ على ما أرى وأنا الوهن ...

**

ويرتجّ في قدحي منبت السَّرْوِ والقصب ...

يحدّثني السَّرْوُ عن أقحوان ويقطينة...

وعن وجه "هامان" يغرق في الطين والعوسج

فلا بيديه استكفّ السماء وابتهج

ولا ملّكته يد "الجثّة" الرمل والسكن!

زهرة الجثّة: من أكبر الزهور في العالم ورائحتها تشبه رائحة اللحم المتعفن.

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

سَامِحِينِي.. إِنَّ هٰذَا الْقَلْب لَنْ يَصْبِرَ أَكْثَرْ

كيف يصبرْ، وهو يشكو من حبيبٍ قد تجبَّرْ

باسمِ هذا الحبِّ يلهو، يتسلّى، ليس أكثرْ

كلما ذاقَ رحيقَ العشقِ كأسًا

يمزجُ الأحلامَ أوهامًا ويأسًا.. ثم ينفرْ

**

عَجَبًا إِذْ تَشْتَكِي مِنْ سُوءِ حَظٍّ مُتَعَثِّرْ

كُلَّمَا حَثَّتْ خُطَاهَا نَحْوَ ذنْبٍ.. كُنْتُ أَصْبِرْ

وَأُسَامِحُ ثُمَّ أَغْفِرُ.. رُبَّمَا قَدْ تَتَغَيَّرْ

فَاضَ صَبْرِي ثُمَّ وَلَّيْتُ فِرَارًا..

وَكَأَنِّي مِنْ هَوَى عَيْنَيْكِ أَنْجُو.. أَتَحَرَّرْ

***

أَتَظُنِّينَ بِأَنَّ العِشْقَ قَيْدٌ فِيهِ نُقْهَرْ

أَمْ تَظُنِّينَ بِأَنَّ الغَدْرَ ذَنْبٌ سَوْفَ يُغْفَرْ

كَيْفَ يُغْفَرُ.. وَهُوَ أَقْسَى أَلَمًا مِنْ طَعْنِ خِنْجَرْ

حَيْثُ إِنَّ الغَدْرَ فِيهِ الرُّوحُ تَبْلَى

كَيْفَ أَعْفُو عَنْكِ يَا سَيِّدَتِي، بَلْ.. كَيْفَ أَصْبِرْ

***

سَامِحِينِي.. إِنَّ هٰذَا الْقَلْبَ لَنْ يَصْبِرَ أَكْثَرْ

حَيْثُ كَانَ الْحُبُّ أَعْمَى وَتَعَافَى حِينَ أَبْصَرْ

بَيْدَ أَنِّي قُلْتُ مَهْلًا إِنَّ قَلْبِي لَيْسَ مَعْبَرْ

فَمَتَى مَا شِئْتُ أَنْ أَرْحَلَ يَوْمًا

وَمَتَى مَا شِئْتُ أَنْ أَهْجُرَ يَوْمًا.. سَوْفَ أَهْجُرْ

***

جليل إبراهيم المندلاوي

"في داخلي شُرْفَةٌ

لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة"

" محمود درويش"

***

[1] [أَنْفاسُ ما بَعْدَ المطرِ]

الأَرْضُ تَفْتحُ كَفَّيْها، لا تَسْأَلُ: مِمَّنْ جِئْتَ؟

تَحْمِلُ خُطانا كالوَهْجِ... حتَّى مَنْ حَملُوا تُرابَ غُروبٍ

تَهْمِسُ: امْضُوا... فَالْأَسْماءُ يوْمًا سَتنْبُتُ في ظِلِّ الرِّيحِ

أَمُدُّ صَوْتي: هلْ تَأْتينَ؟ هَلْ يَقْرَعُ النُّورُ أَعْماقي؟

فَيرُدُّ صَمْتٌ يَمْتدُّ وَراءَ المَطرِ كَحدِسٍ يَبْحثُ عَنْ يَدٍ

[2] [شَمْعةُ القَلْبِ]

شَمْعتي لا تَحْترِقُ مِنْ أَعْلَى، بَلْ مِنْ قَلْبٍ يَتعبَّدُ في سِرِّهِ

كُلَّما دَعوْتُ بِاسْمِكِ... هَدأَ النُّورُ، وَصارَ أَقْربَ لِصوْتِكِ

فَإِذَا انْطَفأَتْ، بَقِيَتِ الكَلِمةُ تُشْعِلُ في العَتْمَةِ وَهْجًا،

كَأَنَّ نَجْمًا أُطْفئَ قَديمًا... يَتذكَّرُ لَحْظةَ مِيلادِ الضَّوْءِ

[3] [بَابٌ لِنِصْفِ ظِلّ]

لَمْ يَبْقَ في الدَّارِ سِوى رَائِحةِ الغِيابِ،

وَبَابٌ لا يُفْتحُ إِلَّا لِنِصْفِ ظِلٍّ مُتْعبٍ

أَكْتُبُ اسْمَكِ عَلَى الزُّجَاجِ، فَتغْسِلُهُ الحَيْرَةُ،

كَأَنَّ حُبِّنَا بَهَارٌ تَناثرَ في قَهْوةٍ بَارِدةٍ

وفي الحَديقةِ وَرْدَةٌ مَاتَتْ مِنْ وَحْدتِها،

لَمْ يَبْلُغْها خَبرُ أَنَّ العالمَ أَجَّلَ الإِزْهارَ،

فَنادتْ: هلْ مِنْ زَائِرٍ؟ فَلَمْ يُجِبْها إِلَّا المَطرُ

[4] [الحَرْفُ يُولَدُ مِنْ عَدمِهِ]

يَسْقُطُ الحَرْفُ قَبْلَ وِلادَتِهِ،

وتَنْظُرُ الوَرقَةُ البَيْضاءُ إِليَّ كَشاهِدٍ عَالِقٍ بَيْنَ جُرْحٍ وَلُغةٍ

أَبْحثُ عَنْ كَلِمةٍ تُوقِظُ مَنْ رَحلُوا...

فَلا أَجِدُ إِلَّا صدًى في مَتاهةِ الصَّوْتِ

الزَّمانُ يَنْهمِرُ رَمادًا فَوْقَ الكِتابةِ،

والنَّجْمةُ الأَخيرَةُ تُطْفئُ نَفْسَها دُونَ ودَاعٍ

أَقُولُ: هَلْ تَأْتينَ؟ فَيُجِيبُني السُّكُونُ:

كُلُّ مَنْ كَانَ يُحِبُّكَ... ذَهبَ

فَأَبْتَسِمُ: إِذَنْ... أَنَا حُرٌّ

[5] [عَتْمَةُ ما بَعْدَ المَطرِ]

أَمْسحُ عَنِ الزُّجاجِ آخِرَ قَطْرةٍ،

فَتَنْهمِرُ في يَدِي كَوَداعٍ يَخْتبِرُ قَلْبي

أَرْفَعُ العَتْمَةَ مِنْ زَوايا الغِيابِ،

فَيَتصاعَدُ مِنْها عِطْرُكِ كَنَبْضٍ يَتَعَثَّرُ بِاسْمي

أُعِدُّ فِنْجانَ قَهْوَتي... أَضَعُ سُكَّرًا لَا يَذُوبُ،

كَأَنَّهُ كَلِمةٌ بَارِدةٌ لَا تَقْبلُ العَوْدةَ

أَشْرَبُها... أَشْرَبُ صَمْتًا... أَشْرَبُ وَجْعًا... أَشْربُكِ

وأَعْلمُ أَنَّ المَطرَ لَمْ يَنْتهِ،

بَلْ يَسْقُطُ في دَاخِلي قَطْرَةً... فَقَطْرَةً... فَقَطْرَةً

[6] [وَرْدَةٌ لَا تَنَامُ]

الوَرْدَةُ الَّتي غَرسْتُهَا في قَاعِ القَلْبِ لا تَنامُ،

تُنادي اللَّيْلَ: هَلْ مِنْ زَائِرٍ؟

فلا يُجِيبُ إِلَّا صدَى العَطشِ

أَرْوِيهَا بِالدُّمُوعِ، فَتَنْبُتُ شَوْكًا،

فَأَعْلَمُ أَنَّكِ أَنْتِ الوَرْدَةُ... وَأَنَّ الشَّوْكَ لَيْسَ عَدُوًّا،

بَلْ دِفَاعًا عَنْ عِطْرٍ ضَاعَ مِنْني، وَعادَ جَرِيحًا

وأَضُمُّها لصَدْرِي... فَأَنْزِفُ... فَأَنْزِفُ...

حَتَّى يَصِيرَ الشَّوْكُ دَمًا... وَيَصِيرَ الدَّمُ وَرْدَةً

[7] [كَلِمَةٌ تُولَدُ مِنْ رَمادٍ]

أُوقِدُ الرَّمادَ... أُنَفِّخُ فِيهِ،

فَيَنْبُثِقُ حَرْفٌ صَغيرٌ يَرْتجِفُ كَنَبْضٍ أَوَّلٍ

أَضَعُهُ عَلى الوَرقَةِ البَيْضاءِ، فَتَبْكي... ثُمَّ تَبْتَسِمُ...

وتَحْتَضِنُهُ كَأُمٍّ عَثرَتْ على مَوْلُودٍ بَعْدَ فَقْدٍ

أُحَاوِلُ أَنْ أَكْتُبَ اسْمَكِ...

فَأَجِدُ أَنَّ الِاسْمَ لَيْسَ اسْمًا... بَلْ نَبْضةً تَنْطِقُ

فَأَكْتُبُ النَّبْضَةَ... فَتَكْبُرُ...

فَتَصِيرُ قَصِيدةً... فَتَصيرُكِ

وأَعْلَمُ أَنَّ الكَلِمةَ لَمْ تَمُتْ،

بَلْ كَانتْ نَائِمةً تَنْتظِرُ مَنْ يُوقِظُها،

فَتَصْحُو وَتَهْمِسُ: أَنَا... هُنَا

[8] كُودَا

[نُقْطَةُ الضَّوْءِ الَّتي تَبْقَى]

في آخِرِ المَطرِ... يَرْتفِعُ الصَّمْتُ نُقْطةَ ضَوْءٍ،

تَكْتُبُني لحْنًا يَتجدَّدُ كُلَّما انْكَسرْتُ.

وكُلَّما سَقَطْتُ... نَهضَتْ في الدَّاخِلِ كَلِمةٌ

تَعْرِفُ طَرِيقَها نَحْوَ يَدِكِ

وحينَ أُغْمِضُ نَفْسي عَلَى اسْمِكِ،

أَرَى أَنَّ المَطرَ لَمْ يَغِبْ،

بَلْ تَخَفَّى في نَبْضٍ يَتَجَدَّدُ في صَدْرِي،

وَيَهْمِسُ آخِرَ الضَّوْءِ:

-مَا زِلْتِ هُنا...

***

د. سعد غلام

 

أبدأ سأَعلنها على الأشهادِ

إني أذوب صبابةً في الضادِ

*

مذ كانتِ الدنيا تشعّ بلاغةً

لغةَ الهوى والشعرِ والإنشادِ

*

لغةَ العذوبةِ حين يُسمَعُ جرسُها

تتماوجُ الألوانُ في إسعادِ

*

لغةَ القصيدةِ وهي تُظهرُ حسنَها

فكأنها بغدادُ في أعيادِ

*

هي للقلوبِ ملاذُ كلِّ مُتيَّمٍ

وسبيلُ أهلِ الفكرِ والإرشادِ

*

فيها الحضارةُ تستفيقُ بنورِها

ويطيبُ فيها العيشُ بعدَ سهادِ

*

قد سافرَ التاريخُ في أعماقِها

وتوضّأتْ بالعلمِ والأمجادِ

*

فيها الخلودُ لكلِّ حرفٍ صاغَهُ

قلمٌ رفيعُ الحرفِ والأبعادِ

*

أبقى أحبُّكِ ما حييتُ وإنني

أفنى بحبِّكِ صادقَ الميعادِ

*

لغتي أحبُّكِ كيفَ لا وأنا الذي

بِهواكِ قد أشرقتُ في الآمادِ

*

في كلِّ شبرٍ منكِ نبضٌ عاشقٌ

يحكي حديثَ المجدِ والأمجادِ

*

لغتي، إليكِ القلبُ يخفقُ هائمًا

يرنو إلى سِفرِ الضياءِ ينادِي

*

في ظلكِ الأحرارُ قد نطقوا بهِ

بلسانَ صدقٍ باهرِ الإيقادِ

*

فالضاد مجدٌ خالدٌ لا يُطفئُه

دهرٌ ولا كيدٌ من الحسّادِ

*

وتطوفُ في الآفاقِ ترفعُ رأسَها

لغتي وتمسكُ نبضَ كلِّ بلادِ

*

هي أمُّنا، في حضنِها نبضت لنا

روحٌ تفيضُ بنخوةِ الأجيادِ

*

وبها تسامى الشعرُ حتى صارَ في

ترتيلهِ كالضوءِ في الإسهادِ

*

تُزْهِو حروفُكِ في ربيعِ قصيدةٍ

فتُعيدُ خلقَ الدهرِ من أجدادِ

*

فلها أرتِّلُ نبضَ قلبي كوكبًا

يهوى على وترِ الضياءِ ينادِي

*

أنتِ المنارُ، وكلُّ أفقٍ مُقفِرٍ

يُفضي إليكِ بنبضِه المرتادِ

*

ما زلتِ - بعدَ اللهِ - صوتَ كرامةٍ

تسري كمسكٍ في مدى الآمادِ

*

أنتِ العروبةُ في سناءٍ خالدٍ

وهويةٌ لا تنثني لعوادِ

***

د. جاسم الخالدي

 

صَدى الرفيفِ، له مَـعـنىً تُـفسِّــرُه

في الأفـق أجنحةٌ، أضواؤها القمـرُ

*

يُخَلَّدُ الوصفُ، في أجواءَ يحرُسُها

صِــدْقٌ ونُـبْـلٌ، وإيمــانٌ بــه عِـبَـرُ

*

إذا النـوايا، نَقـاءُ الحَرفِ صِيغَـتُها

وماؤها الطُهْرُ، يزهو وَجهُه الثمَرُ

*

عينُ الضَميرِ، هُدوءٌ في وِسادَتِها

إنْ كان للحَـقِ صـوتٌ فيه يَـنتَـصِـرُ

*

الطِّـيبُ في عِطْـرِهِ أنفـاسُ خاطِـرَةٍ

قد اسْتَـقَتْ مِن نقاءٍ، نَـبْـعُه عَطِـرُ

*

المـجـدُ ليـس كلامـاً بيـن أحْـرُفِــهِ

تِلاوةٌ، عَـزْفُهـا التفـخيـمُ والكِـبَـرُ

*

سَرِيرَةُ المرءِ، لا تخفى على أحَدٍ

إنَّ التـجـارِبَ مِـفـتــاحٌ ومُـخْـتَـبــرُ

*

حُـبُّ الـظـهـور بـأثْــوابٍ وأُبَّـهَــةٍ

إذا تَـلَـعْـثَـمَ بـان الـنـقصُ والهـذَرُ

*

تـاجٌ بلا سَبَـبٍ، وَهْـمٌ وغطرَسةٌ

ومُقْلَةُ العين تخطو ما خطا الخَبَرُ

*

إنّ الـظـنـونَ إذا غابَـت دلائِـلُـهـا

فـكـــلُّ ظـنٍ بلا فَـهْــمٍ بــه خَــوَرُ

*

الحِـلْـمُ إنْ رافـقَ الأخْـلاقَ مرتبـةً

كالتِبْرِ في مَوْضعٍ، أهلٌ له، سُرَرُ

*

شَتّـانَ بين انْسيابِ اللفظِ في ألَقٍ

وبيـن لفـظٍ بِـرُوْحٍ فيــهِ تُحتَـضَـرُ

*

(ما كلُّ ما يَـتَـمنى المرءُ يـدركُهُ)

المجَدُ يُـدْرَكُ، إنْ جَـدَّتْ بـه الفِكَـرُ

*

فقـوّمِ النفـسَ بالأخـلاقِ، أنّ لهــا

طودا من العِز يَهْوى أفـــقَه النَظَرُ

*

(لا تحـمـدَنَّ امـرءً حتى تُـجَرِبَهُ)

وعـكـسُ ذلك إيـهــامٌ بـــه ضَــرَرُ

*

تغريدةُ الطيرِ فوق الغُـصْـنِ قافيـةٌ

كالعـزفِ يلـزمُـهُ الإنشـادُ والوَتَــرُ

*

في حـكمـةِ القـولِ تنـويـرٌ وتوعيةٌ

وفي التَبَـصُّـرِ أُنـسٌ ضوؤهُ البَصَـرُ

*

(يا مـن يعـزُ علينـا أنْ نفـارِقَـهُـم)

في ذِكرِكُم سلوةٌ، في شعركم سَهَرُ

*

طِـبُ الجُـســومِ دواءٌ فـي تنـوّعِــهِ

ولِلـنُـفـوسِ قـوافٍ طِبُـهـا السَـمَــرُ

*

(ما بيـن غفلةِ عينٍ وانتبـاهَتِـها)

ذكـرى الأحِـبَـةِ تجسيـدٌ لـه صُــورُ

*

جُنْحُ الظلامِ، قوافي الودِّ تُشْرِقُهُ

والضوءُ أقْسَمَ صَوْبَ الحُبِّ يَنْتَشِرُ

*

تبقى السواعِدُ رمزاً في تماسُكِها

مادام للعِــزِّ صَــرحٌ، تاجُــهُ دُرَرُ

*

صُورُ التحدي إذا كانت مُشَوَّشةً

فحكمةُ الصْمتِ في التأويلِ تسْتَتِرُ

*

مُذ  قيل: للشيبِ في نُزْرِ العطاءِ يَدٌ

هبَّ القريـضُ وصـاحَ القلبُ: أقـتَـدِرُ

*

(أنامُ ملءَ جـفوني عــن شوارِدهــا)

الحرف فيهــا، بــليغٌ واثــقٌ نَــضِرُ

***

(من البسيط)

شعر: عدنان عبد النبي البلداوي

كُلُّ اَللَّوَاتِي كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ قَبْلَكِ

لِشَاطِئِ اَلْأَلْغَازِ، كُنَّ قَدْ رَأَيْنَكِ

حِينَ غَطَسْتِ فِي اَلْمِيَاهِ تَحْمِلِينْ

دَفْتَرَ عُمْرِكَ اَلَّذِي،

تَبْكِي عَلَى أَوْرَاقِهِ اَلسِّنِينْ

غَطَسْتِ مَرَّتَيْنْ

طَفَوْتِ تَحْمِلِينَ دَفْتَرَيْنْ

بِالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ مُثْقَلَيْنْ

وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دَفْتَرُ عُمْرِكِ

اِلْتَفَفْنَ حَوْلَكِ

وَكُنَّ قَدْ غَطَسْنَ فِي اَلْمِيَاهِ مِثْلَكِ

لَكِنَّهُنَّ عَدَنُ خَاسِرَاتْ

يَسْأَلْنَ حَائِرَاتْ

هَلْ هَكَذَا تَمْشِي بِنَا اَلْحَيَاةْ

مَسْلُوبَةً بَاهِتَةَ اَلسِّمَاتْ

**

فِي شَاطِئِ اَلْأَلْغَازْ

يَشْتَبِكُ اَلْوَاقِعُ بِالْمَجَازْ

يُدَوِّخُ كُلُّ اَلنَّاسْ

وَيَهْرُبُ اَلْحُرَّاسْ

وَنَحْنُ نَبْقَى وَحْدنَا

يَغْمُرُنَا صُرَاخُنَا

مَتَى...؟ مَتَى...؟

نَجْمَعُ مَا تَشَتَّتا

مَتَى...؟ مَتَى...؟

تُنْصِفُنَا اَلْأَيَّامْ

وَيُسْعِفُ اَلزَّمَنْ

وَتَسْتَوِي حَيَاتُنَا

مِنْ دُونَمَا مِحَن؟

مَتَى...؟ مَتَى...؟

***

شعر: خالد الحلّي

في لحظةٍ مُتخمةٍ بالسكون، تبعثرت على جدران الغرفةِ تلكَ اللوحاتُ التي كانت تُراقبُ مُهندَ ذلكَ الفنان الذي تورطَ برأسِهِ المكتظ بألوانٍ لا يعرفُها من قبل، بل عشقت تربةَ الرأسِ وراحت تتنزهُ فيها كي تُحققَ لها وجودًا من خلال أصابع ذلكَ المرهفُ العنيد.

في هذه الليلةِ بالذات، وقبلَ أن يدخلَ السوادُ إلى عالمهِ انتفضت تلكَ اللوحاتُ من رمادِ ألونِها وراحت تُحدقُ بعيونٍ جامدةٍ إلى  الفنان الذي خلقَ لها وجودًا لن يدخلَ الهواءُ إلى أسرارهِ ليكونَ كما يكون.

اللوحاتُ مصرةً أن تُحدقَ إليهِ، والليلُ على أبوابِ الدخولِ ليتجلى بالسواد اليتيم.

جلسَ مهندُ على كرسيهِ الهرم، لقد أخذَ التعبُ من جسدهِ مسافةً جعلَهُ يغفو أمامَ ذلكَ المصباح المشبع بالغبار. الليلُ أطبقَ حاملًا حُلمًا دخلَ رأسَ مهند تساقطت بهِ الأُطرُ الخشبيةِ من تلك اللوحاتِ كما تتساقطُ المدن القديمة أمامَ عواصف غزاةٍ أشداء، وخرجت من تلكَ اللوحاتِ وجوهٌ غريبةٌ لها عيونُ الألوانِ الميتةِ.

رجالٌ مدججونَ بمعاطفَ صُنعت من جلود الدببة، تقودُهم رياحُ الشمال إلى أهدافٍ ربما تُحققَ لهم بقية الحياة والعيش في سلامٍ مُطمئن.

نساءٌ يتوهجنَ بملامح الفجر حين ينهضُ من نومٍ هادئ.

أطفالٌ حُفاةٌ يحملونَ أحجارًا لها ألوانٌ تلهثُ في انعكاسها الشمسُ.

طيورٌ، حيواناتٌ، أشجارٌ، رياحٌ..

لم تمضِ لحظات حتى امتلأ المرسمُ بالضجيج.

هناكَ أصواتٌ في نبراتٍ مختلفةٍ تتشظى من بين أفواه فارغةٍ، جدالٌ ليس لَهُ من خيطٍ تستدلُ عليهِ، سبابٌ تمطرُ بهِ الأيدي قبل الألسن.

تطورُ إلى نزاعٍ تناطحت بهِ سيوفٌ وأسلحةٌ جميعُها منحوتات من حروفٍ تأريخيةٍ ولدت من عوالمٍ في بئرٍ سحيق.

تساقطت ألوانٌ قتيلةٌ، وأخرى جريحةٌ.

في منتصفِ تلكَ المجزرة وقفَ مهندُ ذلك الفنانُ المرهف، والصراخُ تتشققُ منهُ الجدرانُ، حاولَ أن يمدَ يديهِ ليوقفهم جميعًا، لكنّهُ عجزَ عن ذلك أمام قساوة المعركة.

دماءٌ في كل مكان، تداخلت الألوانُ فيما بينها ناسيةٌ ذلك الخالقُ الذي صنعَ منها جمالًا تتوهجُ بهِ أمامَ الآخرين.

ثم فجأة، هدأَ كلُ شيء، حتى تلكَ العيونُ المتحجرةُ اختفى صليلُها، ثم انسحبوا جميعًا، كلٌ إلى لوحتهِ تاركينَ خطوطًا بمساميرَ مدببة في قمةِ الرأس، تاركينَ خلفَهم رغباتٍ مُبهمة ليس لها صورةً غيرَ تلك الكارثة.

في الصباح استيقظَ مهندُ من هذا الحلمِ العقيم.

نهضَ ببطء ثم أقتربَ إلى أولِ لوحةٍ وراحَ ينظرُ إلى ملامحِها، فشعرَ بعيونٍ غريبةٍ تُمزقُ ما بقي لهُ من قوةٍ بعدَ ما حدثَ في ذلك الحلم.

وبلا تردد حمل مطرقةً وراحَ يُحطمُ تلك اللوحةَ ثم هرولَ إلى الأخرى وحطمَها، ثم إلى الأخرى، والأخرى حتى لم يبقَ على الجدارِ ما يفتخرُ بهِ جسدُهُ الأصم.

حينها أفترشَ الأرضَ وسطَ حطامٍ مُبعثر.

لم تكن النهاياتُ لها ضجيجٌ أو صراخٌ يلعبُ في المكان، بل كانت هناكَ صورة حلمٍ أعمقُ من المعنى سرقَ ذاكرةَ مهند تاركًا ظلًا ثقيلًا تربعَ بينَ عينهِ.

ظلٌ لهُ عباءةُ الليل وأنفاسُ صبحٍ كسير.

***

حسن رحيم الخرساني

Trelleborg 2025/8

ها نحنُ قد صِرنا كهولًا والذي

بالأمسِ أغفلْناهُ يُمسي واقِعا

*

ما عادَ خوفُ الرّوحِ من شيخوخةٍ

نَمشي إليها مُكرهينَ رواكِعا

*

قد لا نكابِدُها إذا اتَّخذَتْ من

الأسقامِ فينا للنّكوصِ ذرائِعا

*

وهيَ الّتي ما أبْغَضتْ شيئًا كما

قدْ أبغَضتْ عندَ الشيوخِ مواجِعا

*

ولربّما قتلَ القنوطُ بنا دوا

فِعَنا فلا نلقىْ لِنحْيا دافِعا

*

ولقد علِمنا أنّها ليستْ تجيـ

ــدُ سوى تذكّرِها الشبابَ الضائِعا

*

بل من ردىً لمّا نُعدَّ ليومِه

ولقدِ أعدَّ ولن نراهُ راجِعا

*

ولسانُ حالٍ ردُّهُ رهنٌ بما

ختمَ الفؤادُ به الحياةَ مُوادِعا

*

تربو الموانعُ بين ذي الدُّنيا وبيـ

ـنَ ميولِنا واليأسُ أضْحى شائِعا

*

وموانعٌ من وهمِنا في أوجهِ الـ

آجالِ منها لا نصادفُ مانِعا

*

هل بيننا والحالُ ذي من مبدعٍ

وهمًا أخيرًا للمنيّةِ رادِعا؟!

*

فبقيّةٌ منّا أوتْ أحلامَنا

ترجو المزيدَ لكيْ تصيرَ وقائِعا

*

فعسى إنِ استبطاهُ وهمٌ نحيِ أنـ

ـفُسًا اسْتحالتْ للذّنوبِ مصانِعا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

لا تستهويني حكايات الجواري

في القصص القديمة...

وروائح الحبّ في القصور المغلقة.. تصيبني ..

بالغثيان...

خارج الاسوار..

تبدو الصّعلكة فكرة مدهشة في البِيد..

يمنحني الرّمل السّاخن بهجة .. الصّهيل المقدّس ..

ويكون السّراب في الصّحراء فكرة مبتذلة حين... ينكرني

الظّمأ ...

هنا .. حين نكون ..

اضعه التاج على قلبي...

(انا في قصيدتك الاخيرة)...

***

حياة بن تمنصورت - تونس

 

الصيادون المتعبون العائدون من ليلة صيد لا أعلم ما فيها غير اني رأيت زوارقهم وقد صفت وحمولاتها وقد وضبت ألوانها وتقاربت، ونظامها وقد تراصفت، تعلو أصواتهم، وتتوزع ارزاقهم، وتتسع ضحكاتهم، الصيد لهذا اليوم وفير، هذا ما ظنت، ولذلك سعيت نحوهم، لمحتهم من بعيد، يشربون الشاي وهم جلوس علي مساطب المقهى المتهالك، المطل المشرع الابواب على سطح الماء القريب المناسب، رأيتهم جلوسا، ومنهم من فضل الوقوف حتى يبدو من بين الصفوف، فيما كان صاحب المقهى صموت لا يستطيع  ان يقول أكثر مما قاله منذ الصباح،  فقد استنفذ مخزونه الكلامي والعاطفي مع بائعات الجبن والحليب، وكعادته يقدم لهم الشاي وربما ابتاع منهم صيدا  وقد يهبون له بعضا مما اصطادوا وذلك مقرون بمزاجهم الذي تعكره الرياح حين يقل صيدهم. غير أن ما يسعدهم أكثر ليس الجلوس على مساطب المقهى واحتساء الشاي، فتلك عادة مستهلكة، فهم ينتظرون قدوم الشاعر بقوامه المنحني من ثقل السنين وثيابه الرثة التي اعتاد ارتداءها، فلا جديد في حياته غير الصباحات وما بها وما لها، كانوا يتحلقون حوله، فيهدأ عندها ضجيجهم، وتفتح اسماعهم،، فتراهم  وقد علتهم السكينة  وغمرتهم الدهشة، فهل امتلك هذا الشاعر قدرة الادهاش، وفجر في أنفسهم الاحساس، كنت أشك في ذلك حتى وقفت في دائرتهم غير مبال برائحتم، فادركت عندها أن للشاعر المجيد سحرا!!

***

عبد الهادي الشاوي

 

"هل انتهيتَ من قهوتِكَ؟

أعطني فنجانَكَ…"

*

قالتها الغجريّةُ التي بزغتْ من العدم،

كأنّها طيفٌ هبطَ من صدى ليلٍ قديمِ السُّدُم...

*

عيونُها موشّاةٌ بكحلٍ أسودَ

كجناحِ غرابٍ إذا خفقَ في هواءِ الليل،

وعلى عنقِها حُليٌّ تُطنّ كالنواقيس،

وفي لسانِها مكرُ نساءِ الوبرِ ممزوجًا بالسمِّ ..

*

وفي قسماتِها طقوسُ غموضٍ

تُثيرُ رهبةً تشبهُ رجفةَ قلبٍ

لامستْه يدُ الظُّلَمِ...

*

رفعتْ اليه سبّابتَها قالت:

"هاتِ بعضَ الدنانير… وأقرَأْ لكَ الطالعَ."

*

"يا سيد القوم …

أرى السَّقَمَ يسري في جسدِك

سريانَ السهمِ إذا لامسَ العظم..

وأرى ظلمًا طوّقكَ حتى ضاقَ عليك الهواء

وقهرًا يوقدُ صدركَ

إيقادَ الجمرِ في هشيمِ الليل،

وآهةً تُخفيها عن قومِكَ

مخافةَ الشماتةِ واللَّوم."

*

فردّ عليها بصوتٍ يشبه صليلَ سيفٍ

طُعنَ في صميمِه:

"كُفّي يا امرأة…

هذا داؤكِ الذي تسقينهِ للناسِ سُقياً مُرًّا،

تروّعينَ القلوبَ بما تدّعينه.

لو علمتِ الغيبَ لملكْتِ خزائنَ الأرض،

أمّا الغيب

فلا يعلمُهُ إلا اللهُ وحده،

فتوبي لربّكِ قبل أن يُصيبَكِ سوطُ الندم."

***

بقلمي ياسمين عبد السلام هرموش

كما تنفُضُ الأشجارُ أوراقَها الصُّفْرا

نفَضْتُ سنيني ثُمَّ عُدتُ بلا ذِكرى

*

كبُرْعُمِ ضوءٍ سوفَ ألمِسُ عشبةً

وأنظرُ للأشياءِ نظرتيَ البِكْرا

*

وحيداً بهذي الأرضِ ما ثَمَّ مؤنسٌ

سوى صوتِ حوّاءَ الذي فجَّرَ النهرا

*

تَنازَعَني أمرانِ: زوجٌ، قصيدةٌ

وكلٌّ ترى أنّي بِرِفْقتِها أحرى

*

ويسألُني طفلي: أما لِيَ جَدَّةٌ ؟

فأُلهيهِ حتّى ما يُعيدَ لي الأمرا

*

وأزعُمُ أني ما سمِعتُ سؤالَهُ

كمن وَقِرَتْ أُذْناهُ من لُجَّةٍ وَقْرا

*

خُلِقتُ بلا أُمٍّ فتحنو ولا أبٍ

يُلاعبُني كالخيلِ لاعبَتِ المُهْرا

*

وما حيلةُ الغصنِ اليتيمِ إذا جرَتْ

عليهِ رياحٌ وهْوَ قد سُلِبَ الجذرا

*

سلامٌ على شمسِ الأصيلِ فإنّها

شجَتْني وخمرُ الحزنِ أنسَتْنِيَ الخَمرا

*

تَعِنُّ طُيُوفُ الأمسِ كالحَدَقِ التي

تُخاتِلُ عندَ الليلِ صيّادَها مَكْرا

*

سلامٌ على حوّاءَ في جنةٍ إذا

أردتُ لها وصفاً سأستغرِقُ العُمْرا

*

بها كلُّ نهْرٍ فَرْطَ صَفْوِ مياهِهِ

تكادُ بهِ العينانِ أن تُبصِرا القَعْرا

*

وزهرٌ بلا شوكٍ إذا ما لمَستُهُ

يَطيرُ فراشاتٍ تَنُثُّ ليَ العِطرا

*

تُوَيجاتُهُ مثلُ الدِّمَقْسِ وإبرةٌ

سترفو منَ الأنسامِ أثوابَهُ الحُمْرا

*

وما كانَ مغروساً بطينٍ وإنَّما

بحقلٍ من الأضواءِ قد شَعْشَعَتْ شَذْرا

*

ورَوحٌ ورَيحانٌ وعَينُ مُدامةٍ

ونخلٌ بلا هَزٍّ سيَستنزِلُ التَّمْرا

*

يُسبِّحُ باسمِ (اللهِ) طَودٌ ونملةٌ

ألَا إنِّ في الإنسانِ آيتَهُ الكبرى

*

نَدِمتُ وفي التفاحِ كانت خطيئتي

ورُوحي برغمِ الخَصْفِ لمّا تزلْ تَعرى

*

بكيتُكَ يا هابيلُ حتّى وَدِدْتُ أنْ

بقلبي ولا بالأرضِ قد حفروا القبرا

*

إلى الآنَ ما جفّتْ دِماكَ وقَطرةٌ

أُرِيقَتْ وفُجَّتْ ثُمَّ أضحتْ هنا بحرا

*

فقدتُ جِناناً ثُمَّ كنتُ مُصبَّراً

وفَقْدُكَ يا هابيلُ قد جاوزَ الصَّبرا

*

وما بينَ فُقدانَينِ أكملتُ رحلتي

ونِعْمَ رفيقُ الدربِ حوّاءُ في المَسرى

*

وأوصيتُ أبنائي: المحبّةُ دِينُكم

وفي أغصُنِ الزيتونِ تتَّضِحُ البُشرى

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

هناكَ عند ضفةِ الغروبْ

في وسَطِ الميدان، عند نبع أنهر الدروبْ

وحيث قاصدُ الشمال يعطي ظهره لقاصدِ الجنوب

وحيث غصة النوى تقطّعُ القلوب

في رهبة المكان والزمانْ

وعند نقطةٍ تفرق الحبيب والحبيبْ

وتُرفع الأكف للوداع في توجعٍ رهيب

رأيته من حسرةٍ وألم يلوب

ووجهه ممتقعٌ لا لون فيهِ

لفَّعَتهُ غيمةٌ من الدوار والشحوب ْ

يجثو على قارعة الطريقْ

لقيته وقد خبا من عينه البريق

مسافرًا قد ضيع الأنيس والصديق

وغاب في ذهوله يغفو ولا يفيق

يا قسوةَ المسير دونما رفيق .

*

على رصيف شارع كئيبْ

يعج بالمشاة والحفاه

وربما العُراه

وتحت ظل غيمةٍ من التراب والذبابْ

أمام مقهىً موحش عجيبْ

مُجوفٍ كأنه مغارةٌ

قد نُسيت من ألف ِألفِ عامْ

تضجُّ بالصراخ والسباب والهوام

وأهلها ما عرفوا الكلام

والناس فوق بعضهم تحسبهم رُكام

في مقلة الإعصار والزحام

تثاءب الغريبْ

وأسند الظهر إلى زاوية الجدارْ

تأمل الوجوه في وجومها، يلفها انكسار

ضئيلةً، هزيلة، ناتئة عظامها

نافرةً عروقها كأنما دُقت على صليب

ومدّ ذيل كُمِّه يمسح عن جبينه ما خلَّف الغبارْ

وسرّح العينين تقتفي سحابة النهار

*

كم مُّر من نهار

ما عدًّها لكنها عمرٌ من احتضار

في هيئة انتظار

مذ أدمن الرحيل والتسيار

وصحبة الرياح إذ تئن في القفار

مذ ألِفَ الدُوار فوق زَبَدِ البحار

واستطاب شهقة القطار

كم مَرَّ في محطةٍ

أو لاذ صوب مرفأٍ

أو حَطّ في مطار

ما لوَّحت له يدٌ في صالة انتظار

أو شيَّعته دمعتان حين يَزفرُ الحديدُ والبخار

*

من كل مقهىً بائس في صدره تذكار

عن النّعيِّ والبغيِّ وانتكاسة الرفاق والبوار

في قلبه مواجعٌ وحرقةٌ ونار

وتحت إبطِه الهزيل يستكين دفتر الأشعار

وجَعبةً بها ربابة قد هربت من صدرها الأوتار

ينتظر الآتي ولا يجيءُ

منذ ألف ألف ليلةٍ

يَبيت مُهملاً على ناصية الطوار

ويرهف السمع لما يقذفه المذياع من أخبار

مؤملاً أن يصدر القرار

يحمل في طيّاته خاتمة الأسفار

منتظراً ما ملَّ الانتظار

يَنقضُ كل ليلةٍ ما غزلت يداه في النهار

ويدمن الشوق إلى البحار

منتظراً عودة "يوليسيز" من متاهة التيار

مُحملاً بالدُرِّ والأصداف والمحار

أو موجةً تهوي به إلى غيابة القرار

وبعدها يكف عن أنينه وعزفه قيثار

وينتهي بذلك المشوار

ويُسدل الستار

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

غادرتُ عيادة طبيب الأسنان متأخرة، وكان الوقت قد تجاوز العاشرة مساءً. الشوارع بدت شبه خالية، والبرد يتسلل من بين أزرار معطفي ليذكّرني أنني وحدي، وأن الوقت ليس في صالحي.

ترددتُ في استئجار سيارة أجرة، خفتُ، لا لشيء محدد، لكن امرأة وحيدة في هذا الوقت المتأخر تصبح هدفًا سائغًا للهواجس قبل أن تلتهمها النظرات.

لمحته من بعيد، آخر باص يستعد للمغادرة، كأنما ينتظرني. ركضت نحوه بخطوات متثاقلة، وصعدتُ، بالكاد وجدت مقعدًا أخيرًا شاغرًا بجانب رجل يعتمر قبعة، بالكاد تُرى ملامحه تحت ظلال إنارة المصابيح الخافتة. جلستُ بصمت، وما إن سارت الحافلة حتى شعرت برائحة نفّاذة كريهة تكاد تُسقطني من شدّتها. حاولت أن أتنفّس من فمي، لكن الألم في ضرسي كان لا يزال حيًّا، ينبض، يذكّرني بما فعلت بي آلة الطبيب، تلك اللولبية المعدنية التي حفرت فيَّ خنادق بلا رحمة، كأنها تبحث عن شيء ضائع في العصب. خرجتُ من عنده شبه فاقدة لتوازني، لا أملك إلا صبري.

عندما بدأ السائق بجمع الأجرة، ناولتُ الرجل الجالس إلى جواري نقودي بكل هدوء وثقة. لكن بعد دقائق، دوّى صوت في الحافلة:

"أحدكم لم يدفع الأجرة! من فضلكم، دون إحراج..."

ساد الصمت. التفتت الرؤوس ببطء، كلٌّ يشكّ في الآخر. نظرات خاطفة، مرتبكة. ثم استدار الرجل الجالس أمامي، نظر إليّ مباشرة، وقال بصوت خافت كأنما يهمس لي وحدي:

"ما هذا المساء المزعج..."

ثم أعاد رأسه إلى مكانه واعتدل في جلسته، كأن شيئًا لم يكن.

ضحكتُ بصوتٍ خافت، لكنه كان كافيًا ليستفزّ الرجل الجالس بجواري، ذي الرائحة الكريهة. هبّ واقفًا، ولوّح بيده نحو السائق وقال بعصبية:

"وقفني هنا! الله يعافينا من بنات الليل!"

ثم نظر إليّ نظرة ممتعضة، كأن ضحكتي جرحت رجولته أو أيقظت داخله ذاكرة مشوّهة. نزل وهو يتمتم ويزمجر، واختفى في عتمة الرصيف.

أما أنا، فعدتُ إلى صمتي. وددتُ لو أضحك من جديد، لكن ضحكتي هذه المرة كانت ثقيلة، عالقة بين أسناني التي لم تعد تحتمل حتى طعم الألم.

***

نضال البدري

 

اليومَ، سأمارس حقي في الكسل،

كاستعادةٍ بطيئةٍ لملكيّة الروح،

سأجلسُ حيثُ لا ساعةَ تُحدِّق في معصمي،

ولا قائمةَ واجباتٍ

تجرّني من ياقة الصباح.

سأدعُ الوقتَ يتثاءبُ مثلي،

ويُسقِطُ عن كتفيه

معطفَ الاستعجال.

*

سأمارسُ الكسلَ كمن يُصلّي بلا كلمات،

كمن يُصغي لنبضه،

وهو يتراقص من جديد.

سأتركُ الأفكارَ غيرَ مكتملة،

الجُملَ مفتوحةً على هواءٍ طريّ،

والقلقَ معلّقًا

على مسمارِ الأمس.

*

اليومَ

لن أُقنِعَ العالمَ بأنني جديرٌة بالضوء.

سأكونُ فقط

كائنًا يتنفّس

دون شهادةِ حضور.

*

سأمارسُ حقي في التباطؤ،

في النظرِ طويلًا إلى فنجانِ القهوة

كأنه مجرّةٌ صغيرة،

وفي الإصغاءِ إلى الصمت

حين يتكلّم أخيرًا

بصوتٍ يشبهني.

*

سأُهملُ الركض،

وأُتقنُ الجلوسَ داخل نفسي،

وأمنحُ الجسدَ فرصةَ أن ينسى

أنه كان آلة،

وأن هذا الكسل

فسحة عدلٍ مؤجّل،

أستردّ بها اسمي

من بين أسنانِ الأيام.

***

مجيدة  محمدي

 

أتأمل كل مساء من شرفتي

صوت الريح وهو يعبث بكل شيء

أغصان الأشجار التي تطل على الوادي

أسراب الطيور المهاجرة

موج البحر وهو يعانق السماء

المراكب الهائمة تحت الأمطار الثائرة

النوافذ الزرقاء للشرفات المفتوحة

في انتظار المطر وعودة العصافير

الحدائق الفارغة الموحشة

وهي تحلم بفصل الشتاء

ومياه الأنهار ودفء النار

وحكايات الذاكرة وهي تعيد للمساء

طعمه ولونه وظلاله

ولليلى سيرتها الأولى

وللشعر ملحه وروحه

المسافرون الهائمون

وهم يسترجعون متعة الطفولة

كأنهم يرونها في المرآة

قبل أن يسرقهم قطار العمر

أوراق الأشجار المتناثرة

على الأرصفة والطرقات

وحيدة تمضي بلا بوصلة

تتلهى بها الريح

فتصيبها بالجنون

***

عبد الرزاق اسطيطو

أَمْوُاجٌ فِينِيقِيَّة ٌ

تَلِدُ رَذَاذاً..

يَنْهَالُ زَهْرُ اللَّوْزِ

عَلَى عُنقِ اللَّيْلِ

**

الفَرَاشَاتُ عَشِقَتْ قَمَراً

صَرْخَةٌ حُلُمٌ

تَوَرَّدَ في نَبْضِي

**

نَسِيمٌ ثَمِلٌ

يُشْعِلُ الرَّمَادَ

زِلْزَالٌ يَخْتَالُ بِوَقْتِي

رِيحٌ تغزلُ شِرْيَانِي قِيثَارَةً

**

اِسْتَوْقَفَنِي لَحْظُكَ

اِغْتَالَنِي وَمْضُكَ

يـاااااااغَيثاً يَرِقُّ لهُ الصَّخْرُ

أَعْشَقُكَ حُراً

اِنْهَمِرْ وَطَنَاً

**

مَا بَيْنَ شَغَافِي وَالحَنِينِ

بَيْنَ القَطْرَةِ والقَطْرَةِ

رَفْرِفْ مُسْتَحِيلاً

***

سلوى فرح – كندا

 

كانت مها تقف عند العتبة الأخيرة قبل مناقشة موضوع بحثها للماجستير، لحظة هادئة كنبضة تتريّث قبل الاندفاع، حين انسدل في عالمها ظلّ ذاك الشاب الذي أخذ يلاحق خطواتها منذ أيام، كطيفٍ لا يفرض نفسه، لكنه لا يغيب. لم تُعره اهتماماً يُذكر، فقد اعتادت أن تمرّ على الوجوه مرور العابر على تفاصيل الشارع:

ترى ولا تتوقّف...

تسمع ولا تنشغل...

ثم تمضي.

ومع

ذلك،

كانت تمتلك حدساً صقلته التجارب، حدساً لا يخطئ التدبر حين يتوارى شيء خلف التفاصيل الصغيرة. رصدت نظراته التي تطول أكثر مما ينبغي، أسئلته المكرّرة بلبوس جديد، محاولات تقرّبه التي يحاول أن يمنحها معنى أكبر ممّا تسمح هي به.

لم تكن راغبة في أي علاقة جديدة.

تركت خلفها تجربة مضت كجرحٍ مفتوح ثم رُدم بالحجارة السوداء. تجربة حملت ما يكفي من الانكسارات لتجعل القلب يشبه حجراً ثقيلاً لا يريد أن يُمسّ مرة أخرى. وعندما غادرت إلى تلك البلاد الأوروبية البعيدة، حدّثت نفسها بأنها تهاجر من ذاكرة لا من وطن، ومن تجربة لا من ذات... وأن عليها هناك، بين برودة الشمال وحياد المدن الجديدة، أن تقيم مصالحة صامتة بينها وبين ذاتها، وأن تتعهّد قلبها بالترميم، وبعهدٍ صارم:

لا مغامرة،

لا جرح،

لا استسلام لنبضٍ خاطف.

كان عادل قد التحق حديثاً بالبرنامج الدراسي الجديد. بدأ حضوره في حياتها بأسئلة تبدو بريئة كأوراق الخريف:

كيف يتجاوز الطالب الجديد صعوبات الدراسة؟

ما أفضل طريقة للتأقلم مع متطلبات البحث؟

كانت تجيب بثقة لا تتصنّعها، فالكفاءة بالنسبة لها ليست ترفاً، بل قناعاً يحميها من ضعف كشفته الأيام يومًا ما.

كان عادل وسيماً بوسامةٍ هادئة لا تتعالى، مهذباً بقدر يجعله قريباً دون أن يكون متطفلاً، ولذلك لم تجد حرجاً في أن تمدّه بما يحتاج إليه من مساعدة.

وعندما كان يدعوها لفنجان قهوة في مقهى الجامعة، كانت ترى الأمر مساحة استراحة، لا أكثر، نافذة صغيرة تتنفّس منها قبل أن تعود إلى خريطة يومها الدقيقة.

مع مرور الشهور، توّلد بينهما شيء يشبه الصداقة، صداقة هادئة الملامح، ينمو ظلّها بلا ضجيج. بات يسألها عن ذوقها في اختيار ملابسه، يعرض عليها لون قميص أو ربطة عنق، فتبدي رأيها بابتسامة خفيفة مقرونة بتلك المسافة التي ترسمها حول قلبها كما يرسم الرسام خطًا أوليًا حول لوحة يريد أن يحميها من عبث الفرشاة.

لم يكن عادل أول من حاول الاقتراب منها. كثيرون كانوا يرون فيها جمالاً يصعب تجاهله، جمالاً ممزوجاً بصلابة تجعلها تقول دون أن تنطق:

"أنا لست فريسة، ولا أسمح لأحد أن يتجاوز حدودي".

امتلكت بصيرة شفيفة تميّز بها من اللحظة الأولى: بين العابث والجاد، بين من يجيد اللغة ومن يعبث بها، ولذلك اتقنت المضي دون أن تلتفت، واكتسبت القدرة على صدّ محاولات الآخرين دون أن تبدو جارحة ولا مستسلمة.

عادل، على خلاف ذلك، كان يقترب ببطء محسوب، كمن يخشى أن يوقظ جرحاً نائماً.

 دعاها إلى متحف في المدينة، ثم إلى افتتاح معرض فني، وكانت في كل مرة تكتشف صدفة جديدة تربط اهتماماته باهتماماتها، حتى خيّل إليها أحياناً أنه يقرأ العالم من الزاوية ذاتها التي تقف فيها، مع ذلك، ظلت واضحة وصريحة، قالت له بنبرة صادقة، جليّة إنّها لا ترغب في علاقة عاطفية، وإنه بالنسبة لها زميل وصديق، وإنها، وهذا ما لم تخفِه، تعتقد أنه جدير بالثقة.

لكنه لم يتراجع. ظلّ يتقدّم نحوها بخطوات متأنية لكنها واثقة... يحكي لها عن طفولته وعن مدينته الصغيرة في بلده البعيد، عن ذكرياته الأولى وجرحه العائلي القديم، ويصغي بحميمية لأي كلمة تقولها. كان أصدقاؤهما المشتركين يشهدون على نقاء سريرته، يطمئنونها بأنه صادق النية، كأن العالم من حولها يتواطأ، من غير قصد، على دفع قلبها خطوة نحو منطقة لم تشأ دخولها.

ومع الأيام صار حضورُه جزءاً من يوميّاتها، كظلّ يصاحبها دون أن يفرض نفسه، حتى أصبحت مشاعرها أكثر ارتباكاً، حذرة كالطائر الذي يخاف أن يضع قدميه على غصن قد ينكسر.

حلّ اليوم الذي انكسرت فيه تلك الاحتمالات جميعها، اليوم الذي انهار فيه كل شيء بعبارة واحدة.

كانوا يجلسون في مقهى صغير داخل الجامعة، يعجّ بالأحاديث والضحكات. راحت مها تصغي إلى حديث الأصدقاء بينما ذهنها شارد نحو بحثها، حين التفت إليها عادل، وكمن يعلن قراراً مصيرياً أمام الملأ، قال بصوت يسمعه الجميع:

"سأتزوجك يا مها.. رغماً عنك."

لم تكن الجملة كالصاعقة؛ كانت كإهانة تتسلل فجأة فتضرب الكرامة في الصميم. ارتجّ قلبها كوتر قُطع، وتحجّرت ملامحها بقسوة، واتّسع صمتها كأنه يستوعب المدى، بينما تلاشت في داخلها كل ذرة ثقة منحته إياها.

نظرت إليه نظرة تُشبه حدّ السيف حين يلمع قبل القطع. قالت بصوت هادئ، لكنه جارح بترو مخيف:

"ماذا قلت؟

ومن تكون أنت لتَهِب لنفسك حقّ تقرير حياتي؟

هل ظننتَ أن مشاعري تُنتزع كما تُنتزع الأشياء؟

احذر يا عادل..

فأنت لا تعرف أي امرأة تُخاطب."

نهضتَ!

خطوتها ثابتة،

وخرجت قبل أن يرى أحد تلك الدمعة التي أخفقت في منعها من أن تُفلت، دمعة غضب، لا ضعف.

لحق بها صديق مشترك لهما، محاولًا تبرير ما لا يُبرَّر. قال وهو يلهث:

" لم يقصد سوءاً يا مها.. خانه التعبير"..

لكنها قاطعته ببرودة مؤلمة:

"لن أراه مجدداً.

بلّغه ذلك."

مضت كمن يدفن علاقة لم تولد، لكنها أثقلت صدرها بما يكفي لتعرف أنّ هذا الباب قد أُغلق إلى الأبد.

مرّ أسبوع ثقيل...

صارت الجامعة واسعة كفراغٍ لا حدود له. كانت تمشي في الممرات نفسها، تتناول قهوتها من المكان نفسه، لكن غيابه كان يترك في داخلها رجفة خفية لا تعترف بها. لم تكن تريد أن تعترف بأن الألم الذي تشعر به ليس غضباً فقط، بل كسراً صغيراً لم تفهمه بعد.

ظهر صديقهما المشترك يوماً، جلس بقربها في المقهى، وقال بصوت متوتر:

"إنه مريض يا مها.. مكتئب بشدة. يندم بلا توقف. يقول إنه هدم كل شيء بلحظة طيش."

ظلت تأكل ببطء، كأنها تمنع نفسها من الاستسلام لما تسمعه، فقال:

"لقد ترك الدراسة.. يفكر بالرحيل."

رفعت رأسها. سألت بصوت هادئ يخفي اضطراباً لا يُرى:

"ولماذا؟"

قال: "لا يحتمل البقاء بعد ما حدث."

ابتسمت ابتسامة باهتة، وقالت:

"لا شيء يستحق أن يترك مستقبله لأجله. الأيام ترمّم كل شيء.. أو تتركه يختفي."

واصلت تناول وجبتها...

لم تضف شيئًا..

وحين انتهت...

غادرت بهدوء رخيّ.

بعد أسبوع آخر عاد للظهور. أولاً من بعيد، ثم من قريب. كان يأتي مع صديقه، كجسر أمان بينهما.

 شيئاً فشيئاً تلاشى الجليد، وبدأت تتبادل معه أحاديث خفيفة، ثم دعوات قصيرة. وحين اجتازت أصعب امتحاناتها وحققت نجاحاً مشرفًا، لاحظت ان قلبها بدأ يتفتّح من جديد.

قالت في سرّها:

"أخطأ.. لكنه لم يقصد. والرجل الذي يجرؤ على مواجهة خطئه إلى حد الانهيار ربما يستحق فرصة أخرى."

ومع ازدياد تقاربهما عادت الهمسات بين الزملاء، لكنها لم تعبأ، فقد تعلّمت ألا تحيا بتفسير الآخرين.

وفي يوم عيد العمال، قررا أن يقضيا نهاراً هادئاً عند البحيرة. كان المطر ينثر قطراته الخفيفة على السطح الهادئ، وحين وضع عادل يده على كتفها برفق يشبه اعترافاً بلا كلام، التقت نظراتهما، وفهم كل منهما الآخر. شعرت مها بأن جدار خوفها يلين، وأن هشاشتها ليست ضعفاً بل جزءاً من إنسانيتها المكبوتة.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت العلاقة تنمو كشتلة صغيرة تُروى بالصفاء، علاقة فيها مودة خجولة ورغبة محتشمة ونظرات لا تريد أن تقول أكثر مما يجب.

مرت الشهور، لكن شيئاً غريباً بدأ ينساب كخيط بارد في قلبها. عادل لم يعد يتحدث عن مستقبل العلاقة، لمّح إليها مرة واحدة ثم صمت، حتى بدا وكأن رغبة الارتباط قد انطفأت فيه. وعلى العكس، كانت مها تشعر باحتياج يتنامى، بتوقٍ يتشكّل في صدرها كغيمة ثقيلة تبحث عن غواية اهراقها. كانت تنتظر منه كلمة،

إشارة،

وعداً بسيطاً.

لكن صمته كان يوجعها أكثر من أي جرح سابق.

وفي مساء هادئ، بينما كانت المدينة تخفت أضواؤها كشموع تُطوى، جمعَت شجاعتها، وقلبها يرتجف خلف هدوء صوتها، وقالت له:

"لقد حان وقت الارتباط يا عادل. أكملتُ ما يجب أن أُكمله، وأعرف أن متابعة الدكتوراه قد تواجه عقبات كثيرة. الآن هو الوقت الأنسب..

الوقت الأبلغ الذي أحتاج فيه إلى وضوحك."

صمتت، تراقب إرتجافة شفتيه،

تنصت إلى الثواني وهي تهوي بينهما كحجارة في هاوية.

رفع رأسه ببطء، كمن يخرج من غفلة طويلة، وفي عينيه لمعة غريبة لم تألفها من قبل، لمعة باردة لا تُشبه ذلك الحنان الذي اعتادته منه. ثم أطلق عبارته.. تلك العبارة التي لم تكن صدمة بقدر ما كانت نصل سيف انغرس في عمق روحها:

"أنا لا أنوي الزواج.. أفضّل أن تبقى علاقتنا بلا ارتباط، بلا قيود."

تجمّدت الكلمات في حلقها، كأنها اصطدمت بحجرة صماء داخل صدرها.

"ماذا تعني؟!"

خرج السؤال منها متكسّراً، لكنه لا يزال يحمل بقايا كبريائها.

أجاب ببرودٍ صادم:

"أقصد.. أن نبقي العلاقة حرّة."

عندها شعرت بأن الأرض قد تشققت تحت قدميها، وان ضفتا الأرض قد انطبقتا... لم يكن وقع الجملة مجرد خذلان، بل كصفعة مزّقت كل ما بنتْه من أحلام مؤجلة، وأوهام آمنت بها حين ظنت أن قلبها قد وجد أخيراً من يعرف قدره.

نهضت بغريزة من يبحث عن النجاة من حريق شبّ فجأة في صدره، واستدارت مبتعدة عنه...

خطواتها

طويلة

كأنها

تهرول

هرباً من نفسها

قبل أن تهرب منه.

كانت تعرف، وهي تمشي في الممر الفارغ، أن شيئاً ما، في أعماقها، هذه المرّة، قد انكسر.. انكساراً لا يجبره الوقت ولا تلملمه الأعذار. لم تكن لتبالي بما قد يقوله الآخرون عن تشظيها المفاجئ، ولا ما قد يتداوله الزملاء من همسات، الألم كان أكبر من كل ذلك، أعمق من سخرية الناس ومن شماتة من ينتظر سقوطها. كانت تبحث عن ذاتها التي خانتها.. حين ارتضت أن تمنح قلبها فرصة جديدة، فإذا بهذه الفرصة تنقلب عليها خنجراً لا تعرف كيف انغرز بينها وبين أضلاعها.

تلك الليلة، جلست ساعات طويلة على حافة سريرها، كمن يسهر فوق جرح مفتوح ينزف بكيد وقور. كانت تُحصي نبضاتها، وكل نبضة كأنها جلدٌ جديد تُنزله على نفسها عقاباً. همست في أعماقها:

"أنا السبب.. نعم، أنا الملامة. تركتُ له مساحة أكبر مما يستحق، فاجترأ حتى على قلبي."

لم يغمض لها جفن. ومع بزوغ الفجر، كانت قد اتخذت قراراً لم تتخيّله يوماً. وقفت أمام المرآة طويلاً. لم ترَ امرأة محطمة كما توقعت، بل رأتها.. رأت نفسها تطالبها باستعادة كرامتها من بين أنقاض هذا الألم.

قبل الظهيرة بقليل، قصدت غرفته. كان غارقاً في نوم ثقيل لا يشي بأن قلباً آخر غير قلبها قد نزف ليلة كاملة. هزّته بقوة حتى فتح عينيه مذعوراً، ثم قال وهو يحاول التخفّي خلف حنانٍ مفتعل:

"ماذا هناك يا حبيبتي؟!"

ردّت بصوت حاد وحاسم، لا يشبه نبرتها المعتادة:

"انهض. سنذهب الآن لعقد زواجنا. بعد ساعة سيكون كل شيء جاهزاً، وبعض الأصدقاء سيكونون شهوداً."

لم يبدِ اعتراضاً. بدا وكأنه يسلّم للأمر لا عن قناعة، بل عن لا مبالاة. تمتم بكلمات فاترة:

"كنت أريد زفافاً حقيقياً.. مثل أي عريس... كـ..."

لكنها لم تعطه فرصة لإكمال حديثه. قالت بحزم:

"نلتقي بعد ساعة!"

القت اليه بالعنوان...

وغادرت.

مضى كل شيء كما أرادت.. أو كما ظنت أنها تريد.

بقي الشرخ في داخلها عميقاً، غائراً، كصدع في جدار لا يجدي معه الطلاء مهما بدا متماسكاً.

في المساء، ازدانت القاعة بالأضواء، وتعالت الضحكات، وارتفعت الكؤوس احتفاءً بما ظنّه الجميع ليلة بهيجة.

كان «العريس» منتشيًا، يوزع ابتساماته يميناً ويساراً، كأن الكون قد وُضع بين يديه. أما هي فجلست صامتة، كأنها معزولة داخل قبة زجاجية لا يصلها من العالم سوى صدى جرحها الداخلي.

نهضت ببطء وهي ترفع كأسها كمن يحمل حملاً ثقيلاً. طلب منها أن تسمح له بمرافقتها حين همّت بالمغادرة، لكنها اكتفت بابتسامة باهتة وقالت:

"أنا بخير.. عدْ إليهم، إنهم ينتظرونك."

تركت يده...

انسحبت بخطى سريعة، تسبقها دموعها قبل أن تصل إلى باب الغرفة. كانت قد رتّبت كل شيء مسبقاً. جلست إلى الطاولة، وكتبت رسالة قصيرة بخط ثابت.. إلا أن ارتجاف قلبها كان يَفضَح بين السطور:

عزيزي عادل،

ورقة الزواج لم تُصدّق بعد، فهي لم تصبح رسمية،

أي في حكم الباطلة.

وعليه، فأنت في حِلّ من أي ارتباط.

أتمنى لك كل الخير.

"مها"

*

وضعت الرسالة على المكتب، حملت حقيبتها، ثم سحبت حقيبة السفر الصغيرة التي أعدّتها بصمت.

تركت باب الغرفة مواربًا، كأنها تُخرج أخيراً كل ما أثقل روحها.

وقفت أمام المصعد لحظة...

سحبت نفساً عميقاً بدا كأنه يطرد آخر ذرة وجع.

دخلت..

انغلق الباب خلفها.

وبانغلاقه، كانت حياةٌ كاملة تُطوى،

لتولد أخرى..

ولو من رماد قلبٍ مكسور.

***

سعاد الراعي

هذا ما كنت انوي عمله

في صباي التحديق

في النجوم ورسم

زهرة بنفسج

على جدار الامل

2-

بين لحظة واخرى

تمر بخاطري

فكرة سريعة سريعة

ومضيئة كوميض البرق

ومن ثم تختفي تختفي

محترقة بزحمة الحياة

3-

مكالمة اتتني

من اين

من عندليب حزين

ومن غزالة مطاردة

ومن نورس حزين

مقصوص الجناحين

على شاطئ بحر

منجمد سمعته

يصرخ يصرخ

يبغي المساعدة

4 –

احب زهرة بنفسج

وغزالة لؤلؤيتي العينين

تاتيني دائما في حلمي

لتزيح عني

ثقل رغباتي

5 –

في اللحظة المناسبة

سارسم على جدار طاحونة قلبي

زهرة وهدهد واغني

اغنية الشروق

المزدهرة

6 –

من يفك عني

حرير النعاس

ويعرض على نبضاتي

بهجة الينابيع

7-

جنود يلقون

في النهر الحجارة

وصوت اطلاقات نار كثيف

وانا في صومعة قلبي

ارسم على جدار الامل

. بنفسجة واقحوانة

***

سالم الياس مدالو

لم يكن الصباح مختلفاً عن سابقيه حين خرج حسن من بيته في الحي الشعبي، إلا أنه شعر، وهو يغلق الباب الخشبي خلفه، بأن شيئاً غير مرئي يتحرك في الهواء. كان البرد يلسع أطراف أصابعه، لكنه لم يعره اهتماماً. شدّ ياقة معطفه البني المهترئ، وسار ببطء نحو المدرسة. خطواته على الإسفلت كانت كأنها لا تخصّه، كأنها خطوات شخص آخر، رجلٍ يشبهه ولكنه ليس هو تماماً.

السماء كانت رمادية، غائمة، لكنها ليست غيوم المطر. كانت غيوماً ثقيلة، تشبه صفحة كتاب قديم امتلأت بهامشها خربشات لا يستطيع أحد قراءتها. شعر فجأة بأن تلك الغيوم تتبعه، كأن بينها وبينه وعداً لم يُكشف بعد.

اقترب من باب المدرسة، فهبت رائحة الطباشير القديمة، رائحة يعرفها منذ عشرات السنين. تمنّى لو يضمّ أنفه بيديه كي لا يستنشقها، لكن العادة أقوى من الإرادة.

دخل الفصل. كان التلاميذ يتحركون كأسراب عصافير صغيرة، لا تهدأ. وما إن رأوه حتى هدأوا جزئياً، إذ لم يكن حسن معلماً صارماً، بل معلماً مرهقاً، يمرّ بينهم كنسمة ثقيلة.

كتب التاريخ على السبورة، فلاحظ أن أصابعه ترتجف قليلاً. حاول أن يخفي ذلك، لكن الطفل الجالس في الصف الأمامي لاحظ الارتجاف.

– أستاذ.. واش يدّك مريضة؟

– لا.. غير البرد، غير البرد.

كان يقول دائماً إن البرد هو السبب.

لكن الحقيقة أعمق. الارتجاف يأتي من شيء داخلي، شيء لا يعرفه أحد، ولا يستطيع هو نفسه إعطاءه اسماً.

بدأ الدرس. وبدأ صوته يتردد داخل الفصل بشكل غريب، كأن صدى خفيفاً كان يرافق كلماته، وكان الصدى يأتي متأخراً بنصف ثانية. لم يستغرب حسن كثيراً، فقد صار يسمع أشياء منذ مدة، يظنها أحياناً تعباً أو وسواساً. لكن هذا الصدى بالذات جعله ينظر إلى التلاميذ ويتأكد أنهم لا يسمعونه. كانوا يتابعون الدرس بشكل عادي، لكن الصدى كان حاضراً.. فقط في رأسه.

اقترب من السبورة ورسم دائرة.

فجأة، تحركت الدائرة بشكل طفيف، كأنها نبضت.

لم يتأكد إن كان الأمر حقيقياً أم وهماً.

مرّ الإصبع عليها فوجد الطباشير عادياً، خاملاً.. كما يجب أن يكون.

أدار ظهره للتلاميذ، وأحسّ بثقل كبير على كتفيه.

لم يكن هذا الثقل جسدياً فقط، بل كان ثقل السنوات، ثقل العمر الذي مضى دون أن يترك وراءه سوى إرهاق لا نهاية له.

عند نهاية الدرس، خرج دون أن يتكلم كثيراً.

لم يودّع أحداً.

كان يعرف جيداً أين ستقوده قدماه: الدكان.

الدكان يقع في زقاق ضيق يتسلل إليه الضوء بصعوبة.

على بابه يقف الحاج عبد المولى، رجل كبير السن، بطيء الحركة، لكنه يملك عينين لا يمكن خداعهما.

حين رآه قال:

– مرحبا حسن.. داكشي المعتاد؟

– المعتاد.. آه.

كانت بينهما لغة صامتة.

لا أسئلة، لا نصائح، لا عتاب.

كلّ منهما يعرف أن الآخر يحمل حملاً لا طائل من الكلام فيه.

دخل حسن إلى الزاوية الخلفية حيث الكرسي المعدني.

جلس.

كان المكان مظلماً قليلاً، لكن الظلام كان يناسبه.

رفع الكأس، قربه إلى شفتيه، وشعر بأن السائل ينزل كما لو كان يسقط في بئر بلا قاع.

في تلك اللحظات، كانت الواقعية السحرية تتسلل دون أن ينتبه.

رأى في الزجاجة ظلّ شخص يشبهه، يجلس قبالته داخلها، يحرك شفتيه دون صوت.

فرك عينيه.

اختفى الظلّ.

ابتسم بسخرية من نفسه:

"بدأت أرى أشياء لم تعد موجودة إلا في رأسي."

مرت الأيام، وكل يوم بعد المدرسة يتكرر المشهد نفسه:

الفصل.. الطباشير.. الصدى.. الزاوية.. الكأس.. الصمت.

لكن الليلة التي تغيّر فيها كل شيء كانت باردة بشكل غريب.

الهواء كان ثقيلاً، والضوء الأصفر للدكان بدا أكثر اهتزازاً من المعتاد، كأن المصابيح تتنفس ببطء.

سمع حسن صوتاً خفيفاً، كأن أحداً يناديه باسمه من بعيد.

لم يكن الحاج في الدكان، فقد خرج لشراء شيء ما.

وقف حسن بقلق.

الصوت تكرر، هذه المرة أوضح:

"حسن.."

التفت.

لم يجد أحداً.

ثم رأى شيئاً جعله يحدق:

قطعة الطباشير البيضاء التي حملها معه دون أن ينتبه، كانت في جيبه.

أخرجها.

كانت تشعّ بخفوت، كأن داخلها ضوءاً صغيراً.

ثم انطفأ الضوء.

لم يعرف ما يقول.

عاد إلى كرسيه بسرعة، كأن الحركة ستجعله ينسى ما رأى.

لكن لم يُتح له الوقت.

فجأة سمع ضجة في الخارج.

خرج مسرعاً.

وجد الحاج عبد المولى ملقى على الأرض، يتنفس بصعوبة.

حاول أن يرفع رأسه، وصاح في الناس أن يتصلوا بالإسعاف.

حين حمل الحاج رأسه، رآه يفتح عينيه بصعوبة ويقول:

– حسن.. مفتاح الدكان.. خلي بالك منه..

– الله يرضي عليك حاج، غير تهوّن.

– الدنيا ما كتسوا والو.. ما تبقاش تهرب..

وتوقف الكلام.

أغمض الحاج عينيه.

لم يعرف حسن ما إذا كانت غفوة أم شيئاً آخر، لأن وجه الحاج صار شاحباً بطريقة غريبة، تكاد تكون شفافة.

في تلك اللحظة، ظنّ أن جسد الحاج أصبح خفيفاً لدرجة أنه يكاد يطفو.

حضر الإسعاف متأخراً.

وحسن بقي واقفاً في الزقاق، يده تمسك المفتاح الذي وضعه الحاج في يده قبل أن يغيب.

كان المفتاح ساخناً كأنه خرج لتوّه من النار.

مدّ يده ورأى أن حرارته تُكوّن ضوءاً خفيفاً، يشبه ذلك الضوء الذي رآه في الطباشير.

أغمض عينيه.

وحين فتحهما.. اختفى الضوء.

عاد إلى الدكان تلك الليلة، لكنه لم يستطع الجلوس.

جال ببصره بين الرفوف.

كان كل شيء هادئاً.. أكثر من اللازم.

ثم رأى شيئاً غريباً:

قطعة الطباشير التي كانت في جيبه، ظهرت فجأة على الطاولة، رغم أنه لم يضعها هناك.

اقترب منها ببطء.

كانت تتحرك قليلاً، كأنها تتنفس.

ابتعد، مذهولاً.

ثم ضحك على نفسه مرة أخرى.

"أصبحت أعيش في أوهام.. أو ربما تعب.. أو ربما شيء آخر."

في اليوم التالي، ذهب إلى المدرسة بوجه مختلف.

كان هادئاً بشكل غير مألوف.

وقف أمام التلاميذ، كتب كلمة واحدة على السبورة:

"البداية"

لكن لحظة كتابتها، انكسرت قطعة الطباشير نصفين.

وسمع الصوت بوضوح:

صدى جديد.. لكن هذه المرة كان الصدى يسبقه، لا يتأخر عنه.

لم يفهم.

نظر إلى السبورة.

الكلمة التي كتبها لم تعد "البداية".

صارت كلمة أخرى:

"البقية"

تراجع خطوة للخلف.

التلاميذ لم يلاحظوا شيئاً.

فقط حسن رأى الكلمة تتغير ببطء، كأن يداً غير مرئية تكمل ما بدأه.

خرج من الفصل مرتبكاً.

لم يعد يستطيع التمييز بين ما يراه وما يتخيله.

عند المساء، عاد إلى الدكان.

جلس في المكان نفسه.

كانت الزجاجة على الطاولة كما تركها.

لكنه لم يلمسها.

نظر إليها طويلاً، فرآها تتحول تدريجياً..

ظلّه داخلها صار واضحاً هذه المرة.

يحرك شفتين لا يسمع صوتهما.

مدّ يده نحو الزجاجة.. ثم سحبها.

كان يشعر أن حياته كلها تختصر في تلك اللحظة:

أن يلمس.. أو لا يلمس..

أن يختار.. أو يترك غيره يختار عنه.

في الخارج، سمع صوت الأطفال يلعبون.

ثم صوتاً آخر..

صوت الحاج عبد المولى.

لم يكن متأكداً إن كان الصوت يأتي من الخارج.. أم من داخله.. أم من مكان ثالث بينهما.

"حسن.. ما تبقاش تهرب."

أغلق عينيه.

لما فتحهما، وجد الكرسي أمامه فارغاً، والزجاجة فارغة..

أو ربما لم تكن هناك زجاجة أصلاً.

لم يكن متأكداً.

خرج من الدكان، والمفتاح في جيبه.

مشى في الزقاق ببطء، والهواء صار أثقل من العادة.

اختفت الأصوات تدريجياً، كأن المدينة تنام ببطء.

حين وصل إلى تقاطع الزقاق، توقف.

سمع خطوات خلفه.

التفت..

لكن لم يكن هناك أحد.

رفع عينيه إلى السماء.

الغيوم نفسها التي رآها صباحاً كانت ما تزال معلّقة، لكن بينها فتحة صغيرة، يظهر منها ضوء غامض، ضوء يشبه..

ضوء الطباشير.

وضوء المفتاح.

وضوء الحاج.

مدّ يده كأنه يريد لمس الفتحة.

لكن الهواء نفسه صار كثيفاً.

لم يعرف هل هو يحلم.. أم يستيقظ..

هل هو يبدأ.. أم ينتهي..

هل يسير إلى الأمام.. أم يعود إلى الوراء..

ولم يعرف أحد بعد ذلك إلى أين مضى حسن تلك الليلة.

هل عاد إلى الدكان؟

هل ذهب إلى المدرسة؟

هل تبع الصوت الذي يناديه؟

أم مشى نحو الضوء الذي فتح ثغرة صغيرة بين الغيوم؟

لا أحد يعرف.

فقط شيء واحد بقي مؤكداً:

الزقاق في تلك الليلة كان يقول اسمه بصوت خافت..

وحسن كان يجيب دون أن يفتح فمه.

***

حسن لمين -  كاتب مغربي

تزامن يوم العطلة بيوم الأحد بداية، في تلك المدينة الوضاءة. مدينة كانت تستند على قوة التاريخ الوسيط، وهي لا تزال غارقة في صمت مطبق تبحث عن خلاصها التام وبلا مناوشات سلبية في الفوضى. في تحد مباشر لكل الهدوء والصمت، كان أنير يتجول في تلك الفراغات الناجية من لغو كلام الفراشة وأصحاب الكراريس (عَنْدَاكْ... عَنْدَاكْ...). حينها كانت المدينة طيعة في غياب أنفاس المارة الحانقة، وتزيد فيضا من الجمال والصدق.

 تلاشى الظلام بخفة سريعة في فصل الخريف، حين سطعت شمس فجر جديد بتلك المدينة المنهوكة من كثرة عقوق قومها. لحظتها بدأت الحياة تزيد متسعا من الأرجل المتأنية عند تشعبات الأزقة الضيقة والملتوية والفرعية. مرة كانت الأصوات هادرة عاصفة بحركة الغدو، ومرات هادئة بسكينة خروج المصلين من المساجد بعد قراءة الحزب.

رجل مسن ذو لحية بيضاء أنيقة، كان يمشي مسنودا على عكاز، حين تفقده أنير وجها لوجه وعينا بعين، توقف الاثنين عن الخطى، وكأن الزمن هو الذي توقف بالاسترجاع لذكريات المكان. كانت ذلك اللقاء الفجائي تسوده لحظة من صمت ثقيل، وكأنهما في تمرين صعب لفك شفرات سؤال امتحان أخير في كشف التاريخ المسكوت عنه بالفطرة، ومن أنشأ تلك المدينة العصية؟

بحق الله، العظمة التي لا تموت ولا تندثر بالانتهاء في تلك الساحة التاريخية. كانت المدينة رغم صمتها المطبق عنوة روحا حية لن تموت أبدا بأثرها العمراني فهي سيد الامتداد. قد تسقط في لحظة غير مرئية من القمة نحو الحضيض الأسفل، ولكن التحدي يبقى مجنونا بالعودة نحو الأبهة و تسلق القمة بلا معاودة السقطة.

حين وقف الرجل المسن أمام أنير كانت القلوب تتحدث بطلاقة (ويفي) خفي، والإحساسات الكامنة في القلب حبا لذات المدينة، ثم قال الشيخ وبلا مقدمات: أنا مجرد رجل فَقَدَ وأضاع كل شيء، ما عدا قدرته أنفته على استعادة تاريخ تلك المدينة المنسية في أحلام القوم وصناع القرار !!! قلب أنير يخفق كقرع طبول حرب آتية من أبواب تلك المدينة المغلقة والموصدة أمام قيادة التغيير. أحس كأن الأرض تَميدُ به غثيانا ودوارا في تلك الساحة، وتهتز بدون حركة عصيان، ولا بأحداث ثورة وادي بوفكران الباقية في المخيلة الشعبية. كانت كل أفكار أنير تستجلب البحث عن تلك الخيوط الرابط بينه وبين هذا الرجل المسن في بياض اللحية والثوب، والذي خرج من حلم فجر دافئ وبلا منبهات دالة على وجوده الحقيقي. كان أنير يفكر في أنه وقع في فخ سميك والذي قد نصنعه بأيدينا وتفكيرنا وسياساتنا غير المتزنة في غياب أفق التخطيط لأحلام وحياة سعادة تلك المدينة.

كان المشهد غير عادي بالمرة، بل فيه نوع من توابل أسطورة مدينة تصنع الأحلام الوردية في الكلام المباح، وتعتز بالذكريات التاريخية، وتفقد بريقها في حاضرها ومستقبلها. كانت بِضع من دمعات أنير تنهمر دون أن يشعر بحرارتها، ولم تقدر على الانزلاق على خدود تلك المدينة التي تدعى بالتاريخية. إنه تحد حي وحقيقي لتمثله الشعوري بتلك المدينة، فقد كان يبحث عن ملمح الصوفي سلطان الأولياء مولاي عبد القادر الجيلالي بلا سند روحاني. كانت عيناه تتقد نورا داخل فضاء وجهه الوضاء وبتلك اللحية البيضاء والمنسقة، ومما زاد المشهد وضوحا تلك الأنوار الساطعة من شمس صُبح بارد ومستملح الإشرافات.

من أمام معبد الموسيقى وآلياته التاريخية المليحة بمتحف رياض الجامعي، كان وقوف سقاية سبع عنابب أنيقا والتي ترتبط بالإرث التاريخي بذات المدينة، وتزيد ساحة الهديم روعة وبهاء، وتنعم على قبلة باب منصور برودة وبدون تكييف اصطناعي يعمل بأقصى حدته. كان المكان يتلألأ مثل المجوهرات التي لا تفتقد بريقها الذهبي حتى وإن تزينت بها عجوز شمطاء.

في تلاشي ثواني الخوف عند أنير، قبَّلَ رأس الرجل المسن تيمنا بعرف أهل تلك المدينة الطيبة. لحظة طلق الصمت طلاقا بائنا والذي كان قد عمر رأس منذ زمن البدايات، ومن عهد زمن الجمر والرصاص الذي خلف تأخر تلك المدينة المنسية من قاموس العدالة المجالية . وقف أمامه بأنفة الرجل غير المستهلك لفراغات و بياضات تلك المدينة في تنمية العز والكرامة. بحق كانت كلمات أنير آخر نغمة تسمع في أبواب قاعة متحف رياض الجامعي، وهي آتية من كل تلك الآليات الموسيقية المعروضة باختلاف الزمن والجنسيات، ومن كل الأمكنة التي سكنت ذات المدينة النَّاغمة (نغمة) في الفن والثقافة، ومن كل أنواع الإثنيات والقوميات بتنوع الألبسة واللغات واللهجات. فرح أنير والشيخ المسن كذلك، من تلك الأنغام الوافدة من قرب المكان للقلب والسمع بعدما كانت تلك المدينة غارقة في صمت سائد ومطبق.

أنير لم يُلق باللوم على أحد من سوء خطى تلك المدينة المتأخرة في تمييز الخير والتمكين، بل وثق للحظات صادقة مع التاريخ المنسي بتلك المدينة المنهوكة من شدة الترامي على المسؤوليات وبلا أثر ناضج. في هذا التحدي المادي من التاريخ غير الصامت رمى الشيخ بعكازه أرضا، بينما كان أنير يرتشف سبع رشفات متأنية من صنابير لا تنضب في سقاية سبع عنانب العالمية. حين استدار أنير بالحمد والتهليل من السقوى، كان عكاز الشيخ مرميا على باب متحف رياض الجامعي بتك المدينة النائمة في صبح عطلتها ونهاية أسبوعها. رفع أنير عكاز الشيخ المسن وجعل واقفا عليا حتى لا تزيد تلك المدينة اندحارا من الأسوأ نحو الأدنى منه. وقف ونظر إلى المكان ورفع كاميرا هاتف ليس للتسلية بل لتوثيق لحظة صادقة في العودة نحو حلم ذات المدينة مع شيخ المسنين.

***

محسن الأكرمين

كانت الشمس تميل نحو الأفق، وخيوطها الذهبية تزحف على جدران المحلة البغدادية العريقة، التي تتلاصق بيوتها، وتنبعث من أبوابها الخشبية رائحة ممزوجة بآثار أعوام مضت، فمع أول ضوء يتسلل عبر النوافذ الصغيرة، تتصاعد أصوات الملاعق وهي تصطدم بأقداح الشاي، وتعلو ثرثرة النسوة وهن يتبادلن الأحاديث من فوق الأسطح، فيما يتردد في الأجواء نداء الباعة المتجولين الذين يملؤون الأزقة صخباً وهم ينادون على بضاعتهم بلهجتهم البغدادية العتيقة.

في ذلك المكان الذي تكبر فيه الطفولة ببطء وجمال لا يدركه من لم يعش تلك الأزقة الضيقة التي كان الأطفال يجعلون منها ملعباً واسعاً لأحلامهم الصغيرة، يركضون بلا قيود بين بيوت يعرف أهلها بعضهم، ورغم فقرها وبساطتها، فقد كانت المحلّة غنية بأهلها، بعاداتهم، بصلوات المساء التي توقظ المآذن، وبالأضواء الصفراء الخافتة التي تلمع على الحجارة القديمة كلما اقترب الليل.

في قلب تلك الأزقة، ارتفعت صيحات الصبية وهم يلعبون الكرة، كعادتهم كل عصر، بينما تتعالى ضحكاتهم وتلهث أنفاسهم، كان هو الأسرع بينهم، صبي يضجّ وجهه ببراءة السنوات العشر المحمولة على جسد نحيل، وعينيه تلتمع بالمنافسة كلما اقتربت الكرة منه، فيركلها بكل حماسة، وتعلو ضحكته مع كل مراوغة ناجحة، فيما يتعالى صوته مع كل هدف يُسجّل.

في تلك اللحظة، داهمتهم شاحنات كالحة، فانقطعت الضحكات، وحلّ صمت ثقيل مفاجئ، انفتحت أبواب الشاحنات وانسكب منها رجال بوجوه متجهمة وأوامر صارمة، لم يترددوا حين أمسكوا بالصبي من ذراعه الصغيرة ورفعوه عن الأرض بلا سؤال، بلا تفسير.. اختنقت صرخته وسط دهشة الصبية الآخرين، صرخ أصدقاؤه وتجمّد بعضهم في أماكنهم، فيما تفرّق الآخرين في الأزقة، أما هو، فلم يفهم ما يجري، وكيف يفهم صبي في مثل عمره لماذا يُساق كأنه مذنب، ولماذا تُصادر طفولته دون ذنب اقترفه سوى أنه وُلد في جلد لم يختره؟

لم يشعر الصبي إلا ببرودة الحديد تلامس جلده حين أُلقي في مؤخرة الشاحنة بين أجساد صغيرة أخرى اختُطفت كما اختُطف هو، بعضها يبكي بصوت مخنوق، وبعضها صامت.. كانت الشاحنة تهتزّ بهم على الطريق لتقتلع جزءا جديدا من طفولتهم، حتى بدا لهم أن العالم خارج تلك الجدران الحديدية قد صار بعيدا، بلا لون ولا صوت، حاول الصبي أن يسأل أحد الرجال الذين يقفون عند الباب، لكن نظرة قاسية صامتة أخرست فضوله الطفولي، ليتراجع، ويضمّ ركبتيه إلى صدره، ثم حاول أن يبحث في بين طيات ذاكرتَه القصيرة عن خطأ ارتكبه، أو فعل يستحق هذا العقاب، فلم يجد سوى صور لعب وابتسامات وضحكات..

لم يكن يدري أن في تلك اللحظة نفسها كانت الأبواب تُقتلع في بيته، حيث يُساق أبوه وأخواه إلى غياب لا اسم له، ولم يتبقَّ سوى البنات، وأمّ يتمزق قلبها بين جدران بيت بات أشد صمتا مما تُطيقه الروح، كنّ ينتظرن مصير الغائبين الذين لم يكن لهم ذنب له سوى أنهم كورد فيليون في زمن جعل من الهوية جريمة، ومن الانتماء لعنة.

كان الليل قد بدأ يهبط حين توقفت الشاحنة في مكان بدا كأنه خارج الزمن، تُفتح الأبواب دفعة واحدة، فيُساق الصبية إلى مبنى شاهق الجدران، حيث أُدخلوا في غرفة واسعة، أرضها من إسمنت بارد، وجدرانها بلا ملامح، بلا نوافذ، ولم يكن هناك شيء يشي بما سيحدث، سوى شعور داخلي بأنهم لن يعودوا قريبا أو ربما لن يعودوا أبدا.. جلس الصبي في زاوية الغرفة، يحاول أن يبتلع خوفه كما يبتلع ريقه، تذكّر وجه أمه، وعيونها التي كانت تتبع خطواته في الأزقة، وكيف كانت تقبّل جبينه قبل النوم، وكيف كانت يدها تربّت على كتفه كلما عاد من اللعب مثخنا بالغبار، فجأة، أحسّ أن تلك اللحظات كانت ثمينة ولم يكن يعرف قيمتها، وأن المسافة بينه وبينها صارت أبعد مما يتحمّله قلب صغير.

في الجهة الأخرى من المدينة، كانت أمه تجلس وسط بناتها، تنظر إلى الباب المخلوع، كأنها تنتظر أن يعود منه الغائبون متعبين من رحلة طويلة، لكن الليل طال، والباب بقي مفتوحا على فراغ يزداد قسوة، فالأم كانت تعرف في أعماقها، أن الزمن الذي خُطف منهم لن يعيده أي فجر، وأن الصوت الوحيد الذي سيطرق الباب بعد اليوم هو الريح الباردة التي تحمل ما تبقّى من رائحة الغائبين ثم تمضي.

بعد ليالٍ طويلة خرجت الأم من صمتها لتبدأ رحلة أخرى، حيث كانت كل صباح ترتدي عباءتها السوداء وتخرج إلى الأزقة، تسأل هذا وذاك، تقف عند أبواب الجيران، تتلمس في وجوههم أملا صغيرا، لعلّ أحدهم رأى، أو سمع، أو حتى حلم بخبر يحمل بعض الضوء، تمشي بخطوات مثقلة نحو مراكز الشرطة، ومقرّات الحزب الملعون، وأبواب الدوائر الأمنية، فكانت كلما وصلت، يُقابلها حارس بوجه جامد أو موظف بملل ثقيل، يلوّح بيده كمن يطرد شخصا لا أهميّة له، لكنّها لم تركن الى اليأس، وفي الأيام التي لا تقوى فيها على الخروج، كانت تجلس قرب الباب المخلوع، ترقّب المارّة، فتمرّ نسوة المحلة عليها، تضع إحداهن يدها على كتفها، تقول كلمة مواساة، ثم تمضي، وبعضهن يجلسن معها، يقسمن أنّ الليل لا يدوم، لكنّ عيونهن المرتعشة كانت تقول شيئا آخر.

كانت الأم تتسول الأخبار دون كلل، فتبحث في العيون قبل الكلمات، تفتّش في نبرة الصوت، في ارتجافة اليد، في تنهيدة امرأة رأت أو سمعت ما لا يُقال، تجمع حكايات الناس وتحاول أن تنسج منها صورة واحدة لزوجها وولديها.. صورة تقول إنهم ما زالوا أحياء، أو على الأقل ما زالوا موجودين في مكان ما.. ومع مرور الأيام، صار السؤال نفسه عبئا على المحلة، فالجواب كان دائما هو ذاته.. هزّة رأس، وصمت.. لكن الأم لم تتوقف، فالأم التي يُخطف منها أولادها لا تبحث بالعقل، بل بالقلب، والقلب لا يعرف الاستسلام.

مرّ عام كامل منذ اختُطف الصبي، كانت فيه الأم تتنقّل بين الأبواب حتى حلَّ ذلك الصباح الشاحب، حيث حملت معها آخر ما تبقّى في يدها من ميراث صغير، وطرقت باب ضابط أمن لا يفتح فمه إلا إذا شَبِعَت يداه مالا.. دفعت الأم المبلغ دون تردد، فالأم التي يضيع منها أولادها لا تفكّر بالأرقام، بل بالأنفاس التي تود أن تراها تعود، وبعد لحظات صامتة، لم يكن فيها صوت سوى خفقان قلبها، هزّ الضابط رأسه بتثاقل، وقال بصوت خشن: "سآخذك قريبا الى المعتقل.. لعلّنا نسمح لكِ برؤيته"، لم تسمع الأم كلمة "لعلّ"، فقد تشبّثت أذنها بآخر جملة "سنسمح لكِ برؤيته".

مع حلول فجر اليوم الموعود وقفت الأم أمام بوابة مبنى المعتقل الخرسانية العالية، كانت عباءتها السوداء أثقل من قبل حين دخلت من الممرّ الطويل الذي تنبعث منه رائحة رطوبة ممزوجة بالخوف، يرافقها حارس بوجه جامد لا يلتفت إليها، حيث قادها إلى غرفة ضيقة، نافذتها محجوبة بقضبان سميكة، وفي منتصفها مقعد خشبي خشن، قال لها الحارس: "انتظري هنا لدقائق".. لكن الدقائق صارت سنوات، ثم فُتح الباب بقوة، ودخل صبي نحيل، أطول قليلا مما كان عليه قبل عام وأشدُّ هزالًا، ارتجّ قلبها حين رأته، فتلك العينان، رغم انطفاء بريقهما، هما العينان ذاتهما التي كانت تلمع حين يركل الكرة في الأزقة.

اقترب الصبي بخطوات مترددة، وحين بلغها لم يتفوّه بأي كلمة، بل ارتمى في حضنها كأنها آخر ملجأ له، فاحتضنته بقوة، ثم سقط رأسه في حضنها لتشمّ رائحة شعره وتمسح عليه وهي تبحث في ملامحه عن بقايا الطفل الذي غاب، لتهمس له بصوتٍ خافت، ينكسر بين كلمة وأخرى: "يا بُني.. ما الذي فعلوه بك؟ أين أباك؟ أين أخواك؟ هل هم بخير؟"

لم يتكلم، بل كان يبكي بصمت لأنه لم يعد ذاك الصبي الذي تعرفه، انخفضت عيناه، وارتجفت شفتاه وتقلّص صدره، ثم هزّ رأسه ببطء، هزّة صغيرة واحدة كانت كافية لأن تزرع في قلب الأم يقينا هائلا بقدر ما هو موجع، بأن الغائبون لن يعودوا، ثم همس بصوت متهدّج، يصف ما فعلوه به، كيف عُذّب، وكيف كان كل يوم يمزق جزءا من جسده.

مرّت الأم بأصابع مرتجفة على آثار الجَلْد، وعلى الندوب التي لم يكن ينبغي لطفل أن يحملها، قبّلت جبينه وجفنيه ثم جراحه، واحدة تلو الأخرى، وراحت تدعو بلغتها الكوردية حيث لم تجد في العربية ما يترجم وجعها: "يا إلهي، خُذِ الألم من عظامه وانقله لعظامي، وانزع الوجع من جسده وضعه في جسدي".

كانت كلماتها تخرج محمّلة بحيرة لا جواب لها، بغضب مكتوم وحزن عميق لا قرار له، فلم تكن تلوم الخالق حقا، لكنها كانت تسأل، تصرخ، تبحث عن معنى لكل هذا العذاب الذي عليهم أن يتحملوه، لترفع رأسها مجددا إلى السماء وتهمس بلغة عربية مكسورة، حيث لا تعرف من هذه اللغة سوى قدر قليل: "لماذا؟ لماذا كل هذا الألم؟ لأنك منحتنا هذه الوجوه؟ هذه الأسماء؟ هل لأننا كورد؟ هل لأنك خلقتنا هكذا؟".

كان نحيبها يخرج من قلب يشبه أرضا أُحرقت ثم صارت تئن تحت الرماد، وقبل أن تكتمل لحظات المواجهة، طرق الحارس الباب بعنف، ثم قال بصوتٍ آمر: "انتهى الوقت".

تعلّق الصبي بعباءتها، يضغط أصابعه النحيلة على القماش والأم تحاول أن تتمسك به كأن يديها وحدهما قادرتان على تغيير مصير كُتب بيد الجلادين، ترجّت الحراس بكلمات عربية متعثرة، خليط من الرجاء والأمّومة، تطلب منهم أن يتركوا طفلها الصغير وشأنه.. أن يعتقلوها بدلا عنه، أو أن يسمحوا لها بأن تبقى معه، لكن القسوة لم تعرف لغة الأم ولا دمعتها، لينتزعه أحد الحراس من بين ذراعيها بقسوة جعلت قلبها ينخلع كما تُنتزع باب مخلوع للمرة الثانية، وسحبها حارس آخر من ذراعها، بينما أطراف أصابعها ما تزال مُعلّقة بكتف صغيرها.. صرخت، وبكت، دون جدوى، وكانت تعرف في أعماقها أن هذه اللحظة هي الوداع الأخير، فيما دفعه الحارس خارج الغرفة وأغلق الباب الحديدي خلفه لتخرج الأم من المعتقل وقد اختلطت دموعها بخطواتها المضطربة، وهي تحمل في صدرها وجعا كبيرا، لكنها خرجت أيضا بشيء واحد لم يكن لديها من قبل، وهو صورة وجهه، ذلك الوجه الذي رغم الشحوب والخوف وآثار السجن، كان هو الخيط الوحيد الذي أبقى الروح في جسدها، وهو الدافع الذي سيجعلها تقف أمام كل بابٍ وفي وجه كل جدار، لعلّها تستعيد ابنها، أو تستردّ ما تبقّى من عمرها الممزّق، لكنها لم تر بعدها لا زوجها ولا أولادها، فقد غابوا في الظلام كما غاب كثيرون غيرهم، لكنها سمعت، بعد وقت طويل من الانتظار، نبأ النهاية التي خُتِم بها قدر صغيرها، حيث إن الجلاد الذي نفّذ الحكم كان رجلا قاسيا، يعرف أن جسد الطفل خفيف إلى حدّ لا يسمح لعنقه أن ينكسر عند الإعدام، فربطوا قدميه بأسطوانة ثقيلة للغاز، حتى يضمنوا أن الموت ينزل على جسده الصغير بلا تردّد.. ثبّتوه بالحبل، فتحوا باب الآخرة، ودفعوه إلى النهاية.

رحل الصبي الذي لم يعرف من الحياة سوى ملعب ترابي وجَرْي خلف كرة، رحل وترك وراءه أما محطمة تحمل في جسدها كلّ الأوجاع التي دعَت الله أن ينقلها إليها من جسد ولدها، فلم تعد تبكي، فقد جفّت الدموع، ولم يبق لها سوى ذكرى حضن، وقبلة على جبين، ودعاء لم يستجب، كما بقيت طوال عمرها تردد سؤالا واحدا، تتوجه فيه إلى السماء لا إلى الأرض: لماذا يُقتَل طفل فقط لأنه وُلد كورديا؟

ليظلّ السؤال معلقا في الهواء، يمرّ فوق البيوت، فوق الساحات التي خلت من ضحكاته، ويمرّ فوق أمّ لم يلتئم قلبها ما دام فيه نبض يذكّرها به.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

.........................

الإهداء: إلى روح الصبي البريء عطا، الذي لم يمنحه جلادوه فرصة ليحلم أو يعرف طعم الحياة، وإلى قلب والدته، التي فارقته ولم تفارق وجعه أبدا.

 

رأيتُكِ حُلمًا بلْ رأيتُكِ واقعا

وكُنتِ وأيمُ الله نورًا مشعشعا

*

وكيفَ يكونُ الحُلمُ تفديكِ مهجتي

وأنتِ إزائي حين عاينتُ بُرقعا

*

يلوحُ على وجهٍ تلألأ نورُهُ

ونوركِ نورُ اللهِ يا خير مَنْ سعى

*

ويا خيرَ أُنثى بالنجابةِ أعرقتْ

أبوكِ رسولُ اللهِ أشرفُ مَنْ رعى

*

وكُنتِ مِن النورِ الالهيِّ قبسةً

تجلّتْ وفيضُ النورِ منكِ تفرّعا

*

وكنتِ كما سُمّيتِ زهراءَ أمّةٍ

مكانُكِ في الدارينِ للناسِ مَفزعا

*

فيا رحمةَ الله ويا باب حِطّةٍ

أتيتُ بأوزارٍ وحالٍ تصدّعا

*

الى باب أهلِ البيتِ أرجو شفاعةً

وما خاب مَنْ يرجو الشفيعَ المُشفّعا

*

فألقيتُ رحلي عند بابكِ سائلًا

بجاهكِ أرجو الله فوزًا وموضعا

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور - الدنمارك / فارا

في 2 حزيران 2010

........................

* القصيدة في ذكرى ولادة الزهراء عليها السلام

ا. [سُؤَالُ الأَرْضِ]

الأَرْضُ لَا تَفْرِقُ بَيْنَ الزَّائِرِ وَالجُثَّةِ،

تَفْتحُ صَدْرًا لِمَنْ يَسْقُطُ في حَافَاتِها

لَكِنَّهَا-قَبْلَ الإِغْلَاقِ-تَهْمِسُ سِرًّا:

"هَلْ عِشْتَ؟ هَلْ كَتَبْتَ؟ هَلْ نَبَضْتَ؟"

فَإِنْ قُلْتَ "نَعَمْ" قَبِلَتْكَ وَلَدًا مِنْ تُرَابِها،

وَإِنْ صَمَتَّ دَفَنَتْكَ غَرِيبًا فِي دَارِ الغُرَباءِ

أَجْري عَلى ظَهْرِها بِأَثَرِ قَلمٍ مُتَّقِدٍ،

وأَكْتُبُ: "عِشْتُ... كَتَبْتُ... نَبَضْتُ..." ثَلاثاً،

حَتَّى يَنْشقَّ التُّرَابُ وَيُقَبِّلَ جَبْهَتي،

وَيَقُولَ: "اِرْقُدْ... فَقَدْ صِرْتَ حُلْمًا في حُلْمي"

وَأَعْلَمُ أَنَّ الأَرْضَ لَيْستْ تُرَابًا فَقَطْ،

بَلْ صَدْرٌ يَحْمِلُ أَسْمَاءً تَنْبُضُ: اسْمِي... وَاسْمَكِ... وَاسْمَ مَنْ أَحَبَّ

**

ب-[تُرَابي]

أَحْمِلُ تُرَابي عَلَى كَتِفي... كَأَنَّني أَحْمِلُ وَجْهي

أَمْشي عَلى الأَرْضِ، فَأَتْرُكُ أَثَرًا... وَاسْمًا... وَرَعْشَةً

وَكُلَّمَا لَامَسَتْ قَدَمي تُرَابًا فَاحَ مِنْهُ عُودُ الرُّوحِ،

فَأَعْلَمُ أَنَّني لَمْ أَرْحَلْ: بَلْ رَجَعْتُ إِلَى أَصْلي

أَرْسُمُ عَلى التُّرَابِ وَجْهًا بِلَا وَجْهٍ،

وَاسْمًا بِلَا اسْمٍ،

وَقَلْبًا بِلَا قَلْبٍ-

فَيَنْبُضُ التُّرَابُ... وَيَنْطِقُ التُّرَابُ... وَيَصِيرُ التُّرَابُ أَنَا

**

ج- [عَوْدَةٌ دُونَ جَوَاز]

أَعُودُ إِلَى الأَرْضِ... لَا جَوَازَ فِي جَيْبي،

وَلَا اسْمَ فِي كَشْفِ الْعَدَدِ

أَقِفُ أَمَامَها... أُقَبِّلُها... أُعَانِقُها... أُبْكِيها،

وَأَقُولُ: "أَنَا لَسْتُ عَابِرًا... أَنَا مِنْكِ... مِنْكِ"

فَتَنْشَقُّ الأَرْضُ... وَأَمْضي،

وَأَعْلَمُ أَنَّني لَمْ أَعْبُرْهَا-بَلْ عَبَرْتُ خَوْفي

وَأَصِيرُ أَنَا الأَرْضَ... وَأَصِيرُ التُّرَابَ... وَأَصِيرُ الكَلِمةَ

**

د- [الأَرْضُ تَكْتُبُني]

الأَرْضُ تَكْتُبُني عَلَى صَدْرِهَا:

بِدَمِي... بِدُمُوعي... بِكَلِمَاتي

تَكْتُبُني ثُمَّ تَمْحُوني...

تَكْتُبُني ثُمَّ تَمْحُوني...

كَأَنَّني حَرْفٌ لَا يُرْضِيها،

فَأُغَيِّرُ مِنْ هَيْئَتي...

فَأُصْبِحُ حَرْفًا آخَرَ... فَتُرَابًا آخَرَ

وَأَدْري أَنَّني لَسْتُ أَنَا-

بَلْ أَنَا الأَرْضُ الَّتي تَكْتُبُني،

فَإِذَا كَتَبْتُ-صِرْتُ أَنَا،

وَإِذَا صِرْتُ أَنَا-اِنْطَفَأَتِ الأَرْضُ

**

هـ - [الكَلِمةُ تُولَدُ مِنْ تُرَابٍ]

أُوقِدُ تُرَابًا، أُنَفِّخُ فِيهِ،

فَيَنْبُثِقُ حَرْفٌ يَرْتَجِفُ كَنَبْضٍ بَاكِرٍ

أَضَعُهُ عَلَى الوَرَقَةِ البَيْضَاءِ-

فَتَبْكِي... ثُمَّ تَبْتَسِمُ... ثُمَّ تَحْتَضِنُهُ

أُحَاوِلُ أَنْ أَكْتُبَ اسْمَكِ،

فَأَجِدُ أَنَّهُ نَبْضٌ لَيْسَ يُسَمَّى

فَأَكْتُبُ النَّبْضَةَ... فَتَكْبُرُ...

فَتَصِيرُ قَصِيدَةً... فَتَصِيرُكِ

وَأَدْرِي أَنَّ التُّرَابَ لَمْ يَمُتْ،

بَلْ كَانَ يَنامُ فِي جَنْبي،

فَأَسْتَيْقِظُ لَهُ... فَيَهْمِسُ:

"أَنَا هُنَا... أَنَا هُنَا... أَنَا هُنَا"

فَأُصْبِحُ أَنَا التُّرابَ.. وَأُصْبِحُ النَّبْضَةَ.. وَأُصْبِحُ أَنْتِ

**

و- كُودَا

[حُلْمُ التُّرَابِ الأَخير]

فِي آخِرِ التُّرَابِ.. تَنْبُتُ كَلِمةٌ تُشْبِهُني،

تُصَعِّدُني فِي هَوَاءِ الأَرْضِ كَأَنَّني حُلْمٌ يَسْتَيْقِظُ

وَكُلَّمَا سَقَطْتُ-رَفَعَتْني نَبْضَةٌ تَعْرِفُ طَرِيقَها،

وَكُلَّمَا انْطَفأْتُ-أَضَاءَ في التُّرَابِ اسْمي

حَتَّى أَرَى:

أَنَّ التُّرَابَ لَمْ يَكُنْ تُرَابًا،

بَلْ رُوحًا تُشَارِكُني اسْمي،

وَتَحْمِلُني-في آخِرِ الحُلْمِ-إِلَى أَوَّلِ الأَرْضِ

***

د. سعد غلام

 

أغنيةٌ من الحبِّ القديم

عطَّرت الصباح،

حيثُ النادلُ ينفضُ معطفَ رجلٍ

أطلَّ برأسه من فمِ المقهى،

ورأى كيف الرياحُ

تسوقُ الأزهارَ إلى شارعه

*

كانت الشمسُ تفكُّ ضفائرَها

فوقَ المرايا،

فراشاتٌ من نورٍ

تبحثُ عن غصونٍ

علَّقت عليها ضحكاتٍ

من وردٍ وسكّر،

كشفتاه امرأةٌ

في ظلِّ ياسمينةٍ بعيدة

*

أطفالٌ

يركضون بطائرتهم الخفيفة،

كأنهم يجرّون خلفهم

سطرًا

يريدون إرساله إلى الله

*

أيُّ قدرةٍ تلك

دغدغ صوتُها النائم،

*

فاستفاق العالم.

***

أنجيلا درويش

 

بمداد الغرابة أكتب لون الدم

في سبيل حلمي المهدور

أمشي خطوتين وأنظر متوجسا

بكل النعاس من حولي

ثم أمشي خطوتين وأقلب حلمي

يمنة ويسرى...أفحص نبض قلبه

لأثير الليل فوق وسادة العدم

نم يا أمسي نم يا طفلي الصغير

على حافة كأسي

قد فرشت لك رغبتي لحافا

وكل فوقعات النبيذ حصير

نم يا ولدي ليكتمل الكلام في فم الأغنيات

وأنا سأنتظرك ها هنا أشاهد رقصة النسيم الأخيرة

ليل الحلم في بلدي طويل

ويد السياف أطول

لون الحلم في بلدي مستحيل

وصبر الحالمين أثقل

لا عذراء تصعد إلى أرض السماء

لتوقظ القمر من إغفاءة نهديها

لا عذراء تضع ركبتها في الحلم ليصير الليل أبيض

حلمنا بلا لون... والحلم من حلمنا أبعد

كم نحتاج من ليل ليغدو حلمنا قمرا

كم نحتاج من نجم لتصبح السماء في قبضة اليد

فجرنا هذا القادم من سرة النعاس

مشرد بين الليل والنهار

لا دار له غير هذا الموت والولادة

عبثا يحاول أن يوقد سجارته شمسا

بأعقاب نجوم باردة

سنسبح في الحلم ضد التيار

ومن موت الظلام يولد الضوء بلا قابلة

يا شعب حلمي لنا البداية والنهاية

لنا إيقاع الليل ومتن الحكاية

لنغني معا للحلم لنغني يا شعب حلمي...

في وجه الحياة القاحلة

ربيع جديد يطل من فم الحلم

ووردة تتفتح في قلب الصحراء

يتم الحلم تفرده

فلا تخشوا وداع الكلام في الكمنجات

***

مراد الحسناوي

 

تُبينُ لكَ الأشياء عمدًا وتختفي

وتلك َسماتُ الكونِ لست مثيرها

*

فكم نسمةٍ للريح عذبٌ أريجُها

توارت وخلت للقتير ِ مصيرها

*

تهادت وضجت بعد حينٍ وأرعدت

وكنت َ بها ريشا، وضاعَ ضفيرُها

*

فأيقنتَ بعد المغريات ِولهوها

واقحامها في الأمر وهو يعيرها

*

بأن الذي قد شدَ عزمكَ مرةً

وأبدى فضولا في تفاصيل غيرها

*

لآت ٍ بما لم تستطع أن تبينهُ

ويكشفُ ما أخفى الزمانُ كثيرها!

***

عبد الهادي الشاوي

 

في نصوص اليوم