نصوص أدبية

نصوص أدبية

إهداء الى رفيقة عمري

منى "أمّ محمد"

***

تعَبُ الحياةِ حبيبتي لو لمْ تكُنْ

عيناكِ مبْلغَ رحلتي قتّالُ

*

لولاهُما ما رمتُ شيئًا من دنىً

عنْها الهَوا لوْلا الهوىْ رحّالُ

*

لولاهُما لم أنجُ من موتٍ لهُ

تعَبُ الخطى فوقَ الثّرى ميّالُ

*

عيناكِ وجهةُ جائلٍ لولاهُما

اسْتَبْقاهُ عُمْرَ الرّحلةِ التّرحالُ

*

كانَ انْطوى عُمرًا بغُربتهِ وما

كانت لِتشْحذَ صبرَها الآمالُ

*

وهيَ التي في صبرِهِ طلعَتْ ومِن

عينيكِ يُسقى عُمرُها الطُّوّالُ

*

كانَ انْقضى حُلُمًا بعُزلتِهِ وما

كانتْ لتُبطلَ حُكمَها الأغلالُ

*

تلكَ التي لما التقَتْ عينيكِ في

حلُمي ارْتأَتْ أن تُكسَرَ الأقفالُ

*

ما يبتغي منْ رحلةٍ لا تبتغي

عينينِ مُهْجَتُهُ هُما الصّلصالُ

*

وهُما الهوى فمُهُ الدّوا لفمٍ بلثـ

مكِ تسْترِدُّ به النُّهَىْ الأقوالُ

*

وهما الرّجا يدُهُ النّجاةُ لمن به

تتزاحمُ الأنفاسُ و الأحمالُ

*

وهما الهُدى يُهدي الطّريقَ لعاثرٍ

شغلَتْ جميعَ دروبهِ الأهوالُ

*

أهٍ لوِ اسْتكشفْتِ قلبيْ كُلّما

قَرُبَ اللّقا وتوازتِ الأميالُ

*

كنت التقيتِ به عيونَكِ حولَها

عِشقُ العيونِ كأنّه طبّالُ

*

كنت التقيتِ بمُهجتي ميّالةً

قد هزّها في وصفكِ الموّالُ

*

كنت التقيتِ بلهفةٍ أمسى بها

الدمُ بي كما لوْ هاجَهُ شلّالُ

*

عيناكِ رجفةُ راجفٍ لولاهُما

ماانفكّ من صِفَةٍ لهُ التمثالُ

*

لقّنتهِ درسَ الهوى فهَوى ومما

اسْتوقفَ المُتَعلّمَ الزّلزالُ

*

زلزالهُ حينَ اللّقا جراءَه

تبْدو الدُّنى وكأنّها أطلالُ

*** 

أسامة محمد صالح زامل

نَـصْـرُ الـعَـدالَةِ لَـمْ يَـكُنْ مَـجَّانَا

قَـطَـرُ الـعُـروبَةِ تَـدْفَـعُ الأَثْـمَـانَا

*

يــا عُــرْبُ هُـبّـوا لِـلـلِّقاءِ كَـأُمَّةٍ

كَـيْ تَـرْدَعُوا الـعُدْوَانَ وَالطُّغْيانَا

*

الـنَّصْرُ فـي ذي قارَ باتَ حَقيقَةً

حِـيـنَ الـقَبائِلُ نـاصَرَتْ شَـيْبَانَا

*

لَـبّـى الـمُثَنّى وَالـقَبائِلُ حَـوْلَهُ

وَسُـيُـوفُ بَـكْـرٍ تَـمْـلَأُ الـمَـيْدانَا

*

فـــازُوا بِـنَـصْـرٍ كــامـلٍ ومُـــؤَزَّرٍ

وَلجَيْشِ كِسْرَى أَطْفَأُوا النِّيرانَا

*

يـا عُـرْبُ عودُوا فَالمَصيرُ مُعَلَّقٌ

كَــيْ نَـصْـنَعَ الـتَّـارِيخَ وَالأَزْمَـانَا

*

يـا أَيُّـهَا الـعَرَبِيُّ قُـمْ نَـحْوَ العُلا

إِنَّ الـــعَــدُوَّ يُــهَــدِّدُ الأَوْطَــانَــا

*

فَانْهَضْ، بِلَادُ العُرْبِ تَنْتَظِرُ الفِدا

وَاصْرَخْ: كَفى ذُلًّا، كَفى خُذْلانَا

*

قَـدْ آنَ وَقْـتُ الـعِزِّ يُكْتَبُ صَادِقًا

وَنَــذُبُّ كُــلَّ مُـنـافِقٍ قَــدْ خَـانَا

*

إِنَّ الـعُروبَةَ لَنْ تَموتَ وَإِنْ غَفَتْ

فَـالْـفَـجْـرُ آتٍ يَــمْــلَأُ الأَكْــوانَــا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

تُطلُّ الكَلِماتْ

مِن نافِذَةِ المَعْنَى...

مَحْفوفَةً بِغُرْبَتِها!!!

في واقِعٍ...

يَحْتَفِي باغْتِيالِها!!!

*

تَتَعثَّرُ في أفواهِنا...

متَوارية في صَدى القَولِ،

مبتلّة بالحِبْرِ،

لكنْ لا تُفَسِّرُها العُيونُ،

وتكتمُ بوحها الجُدْرانْ!!!

*

تَصِيحُ،

ولا صَدى...

تَنزِفُ،

ولا شَفَقٌ يُضَمِّدُ نُطقَها!!!

*

فَمَنْ يُعيدُ لِحُرُوفِها المعنَى؟

ومَنْ يَفُكُّ قُيودَها...

ويُهديها الزَّمانَ... كما تَشاءْ؟!

***

بقلمك سليمان بن تملّيست

جربة - الجمهورية التونسية

 

للغربِ أُعاكسُ مسرى شمس النبراسِ

لأُلاقي حبّاتِ الماسِ بقلبِ عروقِ تضاريسِ القِرطاسِ

في الغربِ الوجدُ المدُّ حنينُ

ونداءُ الضربِ على نقشِ الأوتارِ الخرساءِ

لا أملٌ لا ضوءٌ لا ماءُ

لا رمشةَ لا غمزةَ وصلٍ تُطفئُ وجدَ الخسرانِ

ناديتُ فلا ردَّ الماسُ ولا نبراسُ الردِّ القاسي

سأعودُ بخفقِ خفوفِ الطينةِ أدراجي

لأوالي رسمَ حروفِ الخيبةِ في لوحِ زمانِ النسيانِ

إني لا ذاكَ ولا أسعى فالوعدُ جبالٌ من خرقِ الأوهامِ

واللقيا حبّةُ قمحِ عِجافِ سنيِّ الطوُفانِ

أعرفُ موعودي وزمانَ الدقِّ على ساعاتِ الجُدرانِ

النوءُ الغضبانُ مصابي

لا شرقَ بدينِ الحقِّ الراقي لا غربُ

الخطُّ الواصلُ حدُّ البرزخِ نحو التوكيدِ

الحانةُ أرقى من قلبِ الصبِّ زمانا

لا تغربُ شمسٌ فيها إلاّ والنجمةُ في المشرقِ تجتاحُ البلدانا

صوتٌ أزليٌّ يسعى ليُبشّرَ بالنغمةِ في قانونِ الأوتارِ

ونداءٌ إنْ أنصفنا لا يُخفى

يحدونا أنْ نبلغَ بالشكوى أطرافَ الجدوى

هذي الرُقعةُ عنوانُ رموزِ الإيماءِ

أطبقتُ الأسنانَ على جذرِ الحُمّى

فانطلقَ الكوكبُ في أرجاءِ الكينونةِ مُشتقّاً ضوءا

يحلمُ أنَّ الآتي يأتي ليُغطي باقي الأشواطِ

أين الصرخةُ والنادي والمَندى؟

لا شئَ سوى ما يبقى من توقِ الهاري للعاري

ونِداءِ الصيرورةِ نحوَ قطوفِ الأعناقِ

فهَلُمَّ نُصَعّدُ ما في الخيبةِ من أنداءِ الأصداءِ

حُكمُ النادي قبضةُ ما يندى في سوقِ الأغيارِ

الناجي لا يندى .. يستحلبُ لُبَّ فقاعاتِ الضوضاءِ

غربٌ؟ تغريبٌ أمْ جُهدُ الفاتحِ للفوضى آفاقا

عَبثُ أوقفَ إقلاعا

مُهَجٌ تترصّدُ أخبارَ سخيِّ الأنواءِ

نادتْ فتصدّتْ ...

الصوتُ العالي نِدُّ الودِّ

صنوُ الرِحلةِ صوبَ أمازيغِ طروقِ مضيقِ زيادِ.

***

د. عدنان الظاهر

آب (أغسطس) 2025

لا شيء في العراق

يفرحنا بيوم

حتى الجسور قد غدت

ترعبنا بنوم

الناس في قلق

جسورنا ورق

و الف روحٍ تحتها بلحظة زهق!

لا شيء في العراق

سوى الذي نفاق

تزاحم الجميع للكراسي

و أشعلوا الأماسي

و حشّدوا الأصوات باللسان

لكي يكون واحدٌ

عضواً من البرلمان!!!

***

رعد الدخيلي

روحها في كل ليلة،

كانت تشتعل كشجرة ميلاد تحوَّلت غضاً ..

وأبصركما معا ً...

أنت والطيار الأمريكيّ الذي أحرقها ذات ظلم:

هو مبتهج بألسنة اللهب،

بينما تذبلُ كفاك منكفئةً بإشعال الحريق.

**

أظلّها بغيمةٍ ورديةٍ،

وأدار حولها الأنهارْ

فرشَ لها الأضواء والألوانَ

فضاءَ رقصةٍ مجنونةْ

لكنه هرب قبل اكتشافها أنه بلا ساعدين

**

وعدها بثوبٍ أخضرَ، ونزهةٍ نهرية

لكنه جرّها من يدها

وقذفها بحلة بيضاءَ في رابية.

**

كان منهمكاً بتصفية البلابل في غصون أشجاره،

وكانت الطلقةُ الأخيرةُ من نصيبها ..

كانت وهي تحتضر،

يعذبها حزنٌ غامضٌ في عينيهْ

**

قال لها .. إنهما في هدنة

ابتسمت في داخلها .

فهو لا يعرفُ أنها لم تخضْ حرباً قط

ولذلك تقوّس قلبُها في رحلة الرمان .

**

هو لا يعرفُ أمكنة نشوزها

إنها منهمكةٌ بهديل الينابيعِ

وشجى الرند والميسِ والعرارْ

ومأخوذة ٌبخطوط " ماتيس "

وأحصنة " كندانسكي"

بأجنحتها الهائمة في أروقة السماءْ

مهووسة بتباريح " تشايكوفسكي " وشمسه الهاربة

بغُصةٍ مجهولة

ونازفة في تنقيطات حزن "جورج سيرا"

ومرابع "جواد سليم "

وأجنة براعته التي انتُزعت في ظلِّ شجرٍ عاقر

وهم يشعلون ليلها باشتباك الوجد والوجع والحمى

حيث تدخل الحدائقُ صالة أساها

كي تضمدها بجروح القداحِ، وحنوِّ الملاذات.

ميلودي، ميلودي، ميلودي

في غفوة الرمان بظل نخلةٍ على ساعد شط العرب

هل بقي للعرب من شطٍّ يا سيدتي ...!

في اندغام الفرات بدجلةَ في لحظة كونية

على خاصرة الجرح

لحظةٍ تفتحُ ذراعيها لمطلع خلاصٍ لا يخلّص

ورسلٍ تخونْ

وأروقةٍ معتمةْ

**

دجلة يتطيَّر من غروبٍ يحتويها

يضمُّ شجراً دامياً يلوبُ في ضوء عينيها

يتفقّد عوزَها المسائيَّ لنشوةٍ ترتدي رقصة نجومها

وهي تتساقط عطشى

حول غزلانٍ عارمةٍ بفوضى المتاهاتْ

وأجنحةِ فراشاتٍ تبحث عن جحيم ينتشلُ عريها

من حفرِ الجليدِ ووديانِ المنافي

وأجنحة راقصاتِ " دوجا "

الصاعداتِ للسماء في شهقة باليه

من رحلة السواد في غسق " المعري وتيسان "

المخضبِ بدم "السهرورديِّ" المغدورِ بضربة حبْ

مرٌّ وجعُ الغيوم الهائمةِ في لؤلؤة روحها

دجلة خيمةٌ

دجلة قنديلْ

دجلة جمرةْ

دجلةُ نخيلْ

وتلاوينُ ربيع الموصلْ

دجلة شهقة أبي الخصيبْ

ولواعجُ ابنِ الفارضِ وإشاراتُ التوحيدي

وزنارٌ بغداديْ

**

تتسعُ ثقوبُ الروح أكبرَ فأكبر

تبتعدُ السماءُ، أكثرَ فأكثر

تبتعدُ عن مسلة الجروح نائيةً بأجنحة العطش

ومنتشلة سفن الحلم من أكفِّ الرياح

تمتدُّ الفضاءاتُ أبعدَ فأبعدْ

وتنثالُ التراتيل ..

دجلة مشهدُ حبٍّ خجولْ

دجلة أرجوانْ

دجلة انفتاحُ التفاح على بهاء السماءْ

دجلة حيرة المرايا

ولوعة الصدورِ

لاقتحام المحظورْ

دجلة ينتزعها من شِباك الوحشةِ

ليخبئها في زهرة رمانْ

وزهرةُ الرمان ملاذي

فنائي هي وقبري وحشري

وضالتي،

إن قبلتني فحسبي

مذهولةٌ شجرةُ الرمانِ عن عطرها بوجدها

وعن فتنتها بحزنها

ومنهمكةٌ بتغييباتِ " سيزانْ "

وإشراقاتِ "الجنيد " ولواعج " الحلاج ".

كان يشبك ساعديه فجراً على صدره ليصلي

لكنهم قطعوها.

سألتني أمي وخضرة عينيها مخضبةٌ بالدموعِ.

لماذا ..؟

بكيتُ، ولم أجد من يمسحُ الدموع.

ملتاعةٌ أنا بتأويلية " غني حكمت

ورافع الناصري وراكان دبدوب "

وموجعة بفضاءات " الرحّال "

وهو يختار فردوسَهُ تحت قبعةِ مجهولٍ

يوجعني وجعهُ

لكنه ظلَّ هائماً في أروقة السماءْ

لأن النجومَ طوقتْ قامته بنايات ماسها الأبديةْ

**

متأرجحةً على سلالم الحلم في رحلة سيزيفيةْ

بين " منيف وجبرا ".

ومقتولةً بلواعج "هايدن" وأنين "عمر خيرت"

وهما يحولانِ الحزنَ لسلالمَ .

وأجنحةٍ من عبيرْ

**

دجلة شجرةُ لوز تختبئ في ظلها الشقائقْ

تُسقى بكؤوسٍ مترعةٍ

من أوراد "ابن عربيٍّ وأبي يزيدْ"

لكنها تظلُّ تلوبُ بنايات حزنٍ يغورُ في ليلَك أساها

دجلة هديلُ سنبلةٍ عطشى

ووجعُ الهديلْ

دجلة ليلةُ سفرجلْ

شُرَفٌ وأروقةٌ وشناشيلْ

وإشاراتٌ ترقى،

تطلب الكلّ، وترفض شتات الأجزاء

تطالبُ،

وتأبى الوقوفَ على باب الرجاءْ

دجلة بيتُ الوجود

قال لها. مرفأٌ أنا، ومطلعٌ ومُرادْ

ووقفةٌ إن وقفتِها نجوتِ

سألته، كيف، وسلطةُ " الكاف " طاغوتٌ يجتاح الملكوت

قال .. لأني زيتُ السراجِ

وعسلُ سورةِ المائدةْ.

وغربة التين وجمرُ زيتونة

لم تبخل بنورها

صدقيني

شهامةُ المنفى أنا . قال لها،

ولوعة الأسئلة ولهفة الصيادينْ.

والتهلكة نجاةٌ معي

إن دخلتِها فتَحَتِ الحصونُ أبوابها

واشتعلت الأنهارُ وفار التنور

لكنه كان مذعورا بلبلاب يلفُّ عنقه،

ولذلك لم تصدق.

سألها بأسى الأطفال: لماذا ...؟؟

(في الطفولة يرتدي حلة ياسمينٍ

ويفوح بشذاها

في الطفولة تأخذه لصدرها ويتسعُ الكون

وهو في الطفولة ... تصمت،

كي تظلَّ محفوفةً بملائكة العرشْ)

**

لم تقل له: إنه لم يكن وطنا لأمنه،

ولا صديقا لحلمه،

و لا حميما لأسئلة الصيد والمنافي ...

ولذلك لم تصدق.

وكان السكون للحركةُ بالمرصادْ.

وكان العطبُ حليفَ صحاريه

ولأنه يحبُّ رملاً بلا أثرٍ ولا ذاكرة

ولا خطوطٍ تؤسس رهافة المعنى

رفض أن يشكل مروقَ لحظتها

حيث يشتبك الموتُ بالحبِّ بالميلادِ،

بزهرة رمانْ آبقة

وكانت الزهرة تمتلك قرارها

كانت تدرك أن التهلكة معه هلاكٌ طافحٌ بالهلاك.

رملاً متحركا يأخذها لهاوية غاربةْ

وموتاً بلا موت ...

**

دجلة يأخذها إليه من تهافت الحافاتْ

من صراخ الورد المشتعل في عينيها

من وجع الملائكة التي تشهقُ في بروقِ ماسها

من ذئابٍ تستيقظُ مبكرةً في جذوع شجرها.

من غزلانٍ تعدو في سرابٍ

يفصل بين التفاح والصحارى

في متاهات عبيرها.

من عبوةٍ ناسفة تندسُّ في يواقيت روحها

من سلالم الوجد وأروقة العذابِ التي

تلوب في مياه محنتها

كانت تصرخ وهي على حبال البرزخ

إلهي، من لي بأحذيةٍ لكل هؤلاء الحفاةْ..!!

**

تتساءلُ كيف انهمر الثلجُ من عيون شمس آب

ليستقرَّ زمهريراً في دمها.

مُحرقاً حقولَ القمح

وشجى النرجس وهمس الياسمينْ

باحثة عن جيمات الوجد في:

جور، جود، ووجعٍ وجوى،

وفي موجٍ،

وحتى مواجد الجحيمْ

تصمتْ ...

يقول دجلةُ .. أكملي.

وتقول جاء دورك كي تعتنقَ عقيدة

زهرِ الرمانْ.

خالصة من عناد الدم ومكابرة الوجدْ

وفاتحةً ذراعيها لأفقٍ يصلُ الأرضَ

بسماءٍ عاشرة

كي تُسلم في حومة الشهادة المفاتيحْ

فاليقينُ يَهديكَ إلى الحق،

والحقُّ هو الحب

والحبُّ هو المنتهى ...

فأيَّ قلاع الأرض تتسلقُ بصركَ

وهو في الجب

معلقٌ على حبال المكيدة

تقول له الناياتُ .. حاذرْ.!

لكنه لا يصدقْ.

يصمتُ دجلة الضائعُ بينَ

المنابع الغريبة والخلجان

دجلة موجعٌ بالصمت

مرهَقٌ بوَجَل الكلام

ترعبه البلابلُ المفتونة بالتحليق فيهربْ

دجلة لا يرفع أعلاما زائفةَ الهوية.

دجلة يقول لها .. تعبتُ من الأقنعة

لا تدرسوني في محاضرة النقدِ بها

بل من تلك المنابع القصية المرهونة لدى الطغاة

تتساءل في داخلها.

أليست الهويةُ من الهوى ...أم هي في القصدْ...!

تنصرفُ عن حوار الجذور لتقعَ في المحذور

يهوي رأسها في عصف ريحٍ تبعثرُ أوزارهْ

إقرأي له سورة النخيلِ كي يهدأ. قال لها.

لكنها قرأت سورة الرملْ،

سكتت السورة، ثم قالت: لا مفر

ما تزال العاصفة دائرةً في التيه .

والحقولُ شتاتْ.

ولزهرة الرمان أرقامٌ وآجالْ

الأولى تعبتْ بما عرفتْ

الثانية تهربُ مما تعرفْ

الثالثة ما تزالُ تشتبك في عدْوها خطوطُ السرابِ

بأقواس قزحْ

خذني لتموجاتِ قوسِ قزحٍ بعيدٍ

يلوب بمواجدكْ

قوسٍ ما زال يجمع شتاتَ ما تريد أن تعرفَ

لتتعلمَ من شيخها النفريِّ ..

كيف تحرقُ المعرفةُ المحبةْ،

ومن البسطاميِّ كيف تحييها ..

و" الجنة جنتان:

جنةُ النعيم وجنةُ المعرفةْ،

أما جنةُ النعيم فزائلة،

وخالدةٌ جنانُ المعرفة " يا مُريدْ.

ولذلك ظلت تسكنُ معرفةً لا تعطي الريحَ أعنتها

حين هربت من الساكن وصادقت الرياحْ.

كي يظل " تموزُ " العظيمُ راعيها

**

قالت له ذاتَ عذاب:

سأذهبُ إلى الجنة بدونكْ .

وعادت أصابعُ اللبلاب .

لكن المشهد لن ينتهيَ عند عروجه الكتوم

فألسنةُ اللهب ظلت تراود أصابعَ حزنه النحيلْ

المتخفي في نبيذ محنتها

والعارم بعطر ليلٍ يرتديها

لا وصية تهديها إليه غير الدخول في زهرة رمانْ ..

وأن يتلفتَ دوما

ليوقنَ أنَّ ثمة شيئاً يتوهجُ

ولذلك تعلمتْ ألا تصدقَ من قال لها: غادري

لم يعد في الوردة رحيق.

**

دجلة الهادي إلى صراط الحب

دجلة الزلالُ كحريره الموصلي

دجلة المشتعلةُ أمواجُه بزنابق الرحمة

دجلة يتحولُ على حين غرة لزوبعة من نارْ

تتصاعد أمواجه مراجلَ من لهبْ

تتضورُ أسماكه، وتضيع بالأضدادْ

دجلة شوكُ البراري

صهيلُ الجحيم في ليل اخرس

دجلة بشراسةٍ يبتلع قرصَ الشمس

يكسِّرُ قناديلَ الزوارق المرتمية في أحضانهْ

يغتصب بدر نيسان من جلال بهائهْ

يضحكُ من الكلمات المعجزات

يطلقها ملونةً كعصافير الجنة

ثم يرميها بالحجارة ..

ينتزع النجوم من أفلاكها

يشظيها بأصابع "جاك دريدا"،

حيث تندحر الينابيع

يبحث عن الثغرات ليفجرها،

ساخرا من حوارية "باختين" ونوافذ "جادامير"

ومن عنفوان "هيدجر"

وهو يتوّج الكلمة تاريخاً للوجود

الكلمة: تاريخ كن

الكلمة: شجرةُ الكينونة

بكلمة وكلمة وأخرى

مزخرفة على ورقة... "ابن نوفل"

و"القديس أوغسطين"

ومفتونة بماسة هولدرلين

" مايبقى يؤسسه الشعراء"

لا زمنَ يحتوي عريَ الجوع والعطش

لا زمنَ يحتويني

والجوعُ والعطشُ قدسُ الأقداس

إذ نحتويهما تسقط المحنُ في كفّيْ خلاص.

لا زمنَ يحتوي امرأةً ماردة ً تشتعلُ وتنهضْ

يصطادها دجلةُ ويرميها في القاع وتنهضْ ..

لا زمنَ يحتويني

أنا من يحتوي الزمن وعنجهية جبروته... أنا

أنا من تلفُّهُ بأنامل القلم وسطوة الظلالِ

الظلالُ التي ظل رقصها الليليُّ يغريني وأتبعه

بشهقةِ الروح ولوعة الملاذاتْ

وبجبروت كلمةٍ واحدة هي ... كنْ.

حيث تنهضُ لغتي

باذخةً من جذور الصحارى

ومعرشةً في مشاتل الكلام

باذخة تداري بحنوها ارتباك أصابع اللبلابْ

والكلمةُ وحدها غلالةُ الزمن،

مطرقتهُ التي تلعب به إذ تشاء

الكلمة التي تعرف حدود الفصلِ

بين المغامرة والمقامرةْ

والوصل بين الجرح والسكين

وتأبى الانصياعَ لحوارٍ مقطوع

يُكسّرها "دريدا" بالاختلاف،

يُرديها قتيلة الإرجاء

ورهينة نسيان لا يؤمن برِهانِ المهادنة

بلا أثرٍ هذه المرة ...

كأنها ما كانت أولَ الضياء فوق عتامة الغمر

قبل أن نبتكر حزن الشقائق وجرحَ الشيحِ

وخيانةَ البنفسج،

وقبيلَ حلول يأس الياسمين.

الكلمة التي يشرق بنورها شجرُ الكونِ

ويهفو بها الموج شاهقا من ساحلٍ لآخرْ

تسكرُ بها رقصة الظلالِ وتقفل عليها الروح شغافها

تلوبُ المراكبُ

وترتبك الشاراتْ:

أ،

حاء،

باء،

كِ

حروفٌ لا تأتلفُ.

ليس في شُرفة الاختلاف حسبْ،

بل في صليل التناقض.

تصطرعُ بين فتح الكاف وكسرها،

والكسرُ أقوى فقد كسر الطغاة والجبابرةَ

وأنزلهم عن عروش المنى..!

وجرّ الأملَ والألمَ وما حولهما،

وجرَّنا في الغاوين.

كسَرتنا الكسرةُ في مخاض التشكيل

حيث لا ضمةَ تؤوينا.

وتلك الحروفُ .... قدسُ الأقداس.

صارت كرةً تتدحرج على سُلمٍ

يصلُ عذابنا باردان الحقيقة

وحيث لا حقيقة إلا معكْ.

**

يلوي عنقَ الغزلان، دجلة

يرميها في غياهب جحيمه

يطوي الضفافْ

يجزُّ ضفائرَ الأرض التي أرهقها الطوفان،

يهدم منائرها

يقذفها في مراجلَ زئبقيةْ

يقتلعُ شجرَ الحلم، يُشعلُ حدائقَ الحكمةِ

يسحقُ بالزوبعة براءة الورد الناعم

على الضفتين

**

سورة " القارعة " تلاحقني

لا ضوءَ فوق زندي

لا غلائلَ وردٍ تلفّ نداء روحي

لا نشيدَ في الأعالي

قلائدُ الليل تنفرط ْ

أهي النجومُ قلائد الليلِ أم أقراطه

أم غصونُ الحكمة المصلوبة على الشناشيلْ

لا قمحَ في خوابي الشتاءْ

والبحرُ وحيدٌ في الليل ومنكفئٌ بين الخلجان

لكنَّ الصخرة بجلالٍ تغادرُ مرساها

باذخةً،

وعصيةً على السكوتْ

ولذلك ظلتْ تروي لليالي الشتاءِ

أسرارَ شجر الرمان.

آهِ .... أموتُ، لكن لا غرابَ يواريني.

لا أحدَ، لا أحدْ.

**

وأسألكَ، ما للخيانات مولعةٌ بالهجاء.

ومالي معرضةٌ عن هجائها

مادامت تمنحنا كلَّ هذا الوعيَ الفادح بالخساراتْ.

علليني إذنْ،

أيتها الرؤى الطالعة من صميم الخطيئةِ،

علليني

وكوني رؤوفة بخيباتهم.

ما دام الخلدُ لكِ، وليَ المجدْ

ودعيني أقتسم معك العذابَ وكواهلَ الاصطبارِ

ودقةَ الأسباب.

علليني ...

فمجدُ الميلاد لي ... أنا مريمُ السرِّ

ولهم الخطيئةْ.

لا احتاجُ من يواسيني

مادامت المعجزةُ ملءَ دمي

وبين ذراعيْ.

وفي دمه وعلى شفتيه بلابلُ تحتضر.

قلتُ له:

لم أمتْ لأنه رحلْ،

فرحيلهُ عقوبة شراسة الرمان في ليلةٍ موحشة

بل لأنَّ الألوان والأضواء غابتْ

ومال غيمٌ لعوبٌ وعدَ بعنبٍ وأفلاكٍ جديدة.

وبقمرٍ يلوّح بمناديلَ خضرٍ

في ليلٍ داكنْ ...

**

رحيله كان عقوبة انتظار لوز المنى

في شرفة مساءٍ جامح.

قلتُ له: ابتكرني،

كن غصوناً لمهارة وحشتي

فقال: رتبيني

لكنَّ الرعبَ ابتكره قبل شروق المياه.

ولم أعجبْ لان الغابة كانت تتسعُ للأضداد

فخرج ولم يَعُدْ.

**

ودجلةُ، دجلة ..

**

دجلةُ ليس ساعداً حريرياً يخاصر وجد البساتينْ

دجلة هاويةٌ تعتلي زبَدَ العذاب

وتتفرّجُ على خراب المدن

في الأصيل يعاود الاختناق بأصابع اللبلاب.

يذوي، ويهبط لقاعه الموجْ.

تنطفئ نيرانهُ.

ويغيبْ.

يترك على الضفة أرديةً تفوح بعطر دمي

**

" شانيل " ..

يا أجنحةً تطلقُ رسائلَ وغلائل ومناديل

لماذا يرحل هو وترتضين المساءلة

ذكريهِ إذن ...فما بين شهقة ورقصة

تنهض المدنُ مرة أخرى

مكللةً بأقواس قزحِ ما بعدَ الطوفان

تنتظرُ في ظل رمانةٍ جديدة

أغصانَ زلالٍ طالع ٍ من عروق دجلة الجديد ...

***

ا. د. بشرى البستاني

قصيدة قديمة

نوارِسٌ قَبْلَها طاروا بأجْنِحةٍ

وَخَلّفوني جَريحَ القلبِ والرِئةِ

*

نصبْتُ قلبي لهم بل مهجتي شَرَكاً

فرّوا وقد سرقوا ريشي وأجنحتي

*

حَطّوا على سِدْرَةِ الفِرْدوسِ وانتبذوا

خَفّاقَ ناطورهم في جَمْرِ موقِدَةِ

*

شدّوا شراعَ النوى للغيبِ إذ تركوا

سفائني بعدهم من دونِ أشرعةِ

*

رُويْدَكُمْ قالها دمعي مُناشَدةً

فقد بنيتُ لكم عُشّاً بموْجدتي

*

لكنهم غادروا الناطورَ وارتحلوا

كأنهم بِرُبى الأخرى على صِلَةِ

*

مهْلاً رسولَ الردى واعتقْ نوارِسَنا

عَلّي أرى نورساً يرسو على ضفتي

*

ياكاسرينَ مَرايا الروحِ لا تَسَلوا

وخْزَ الشضايا بها من أيّما جِهَةِ ؟

*

ودّعْتموني مجازاً قَبْلَ رؤيتكم

وطيفُ أمّي أتى فجراً لِتعزيتي

*

وَ بُرْعُمٌ بعدها لاحتْ ملامحُهُ

فأعلنتْ صَوْمها للهِ مُؤْنِستي

*

قالت : عَصاكَ التي ترجو مَآرِبَها

لكنَّ حادي الردى أودى بِمِنْسَأتي

*

فاحْتجَّ قلبي على المنّانِ مُعترضاً

وَشَكَّ في حِكْمَةٍ ضيزى وفلسفةِ

*

لولا بَقايا يَقينٍ راسِخٍ بِدَمي

لارْتابَ عقلي بهِ واستنْفَدتْ ثقتي

*

رَبّاهُ عَفواً إذا ما إشتطَّ بي وَجَعي

وَرُحْتُ أرمي كما المكلوم أسئلتي

*

أنتَ الكريمُ الذي أهْديتَني هِبَةً

مِنْ بَعْدِ لأْيٍ فلا تَمْنُنْ على هِبَةِ

*

هل ذا سؤالٌ الى باريكَ أم عَتَبٌ؟

صاحتْ جروحي وشلَّ الرَيْبُ معرفتي

*

يا مُسْتَرِدّاً بِلا إذْنٍ أمانَتَهُ

وَمُستعيداً ذُرى جودٍ ومَكْرُمَةِ

*

سامحْ جريحاً أصابَ الفقْدُ مُهْجَتَهُ

لكنّهُ طامِعٌ في بعضِ مغفرةِ

*

أكرمْ فؤادي الذي يصبو إلى حُلُمٍ

يقتاتُ من دمعتي الحَرّى وأوردتي

*

لا تجزعي من قضاء الله سيدتي

قومي وَلَبّي على رَحْبٍ على سِعَةِ

*

صُبّي دموعاً على المدفونِ في كَبِدي

عَلّي أرى طيْفَهُ في النومِ والسِنَةِ

*

هبّتْ نُلَبّي بِلا سُخْطٍ مَشيئَتَهُ

وأثلجت صدرها في دمعِ تَلْبِيَةِ

*

وَحَسْبُنا أنّنا فُزْنا بقافِيَةٍ

وحيدةٍ إنّما في ألفِ أغْنِيَةِ

***

د. مصطفى علي

 

سومريٌّ انا

إبنُ الطينِ وصديقُ السمكِ النهريّ

نسبح سويّاً

في أعماق

جزائر المدينة المدينة المنفية

جنة الله في الأرض القصية

أهوار بصرياثا المدهشة

هناك فقط

تزهو سومرُ بسحر البساتين

وتتعالى خيراتها في اعالي الفلك

أنفاس الحوريات تصير نجوما وشهباً

بسمة حبيبتي

تضيء الطبيعة فتصير فجراً ترفرف بأجنحتها

لتنثر الضياء في الأنحاء

فتسكر العنادلُ

وترسلُ ألحاناً

عِذاباً

في الفضاء

اه منكِ

ومن أخضرار عينيكِ

ومن بلورة خدَّيكِ

أنيقة أنت ايتها الطالبةُ

الطالعة من وسط القصب والبردي

تراودني نشوةُ

عِناقٍ لاهبة..

عاشقٌ يحتضن حبيبته بين الاحراش

ولمَ لا أحبكِ

وانتِ الحورية المجهولة

أحلمُ في اليقظة والمنام

انْ ألمسَ تفاحتيكِ

بلهفةِ

طفلٍ يلتهمُ

حلمات الكروم

وأصيح من هناك

من اعلى نخلة عيطاء

-يا أنكيدو

صلِّ معي بجوار

الفرات

ياجلجامش

مازلنا نحلم مثلك بالخلود

ونحمدُ نعيمَ

العراق

أيها الطائرَ

أن ضللتَ السَبيلَ

فالنخيلُ

والتمرُ

والزوارق

والمجدافُ

دليلُ التائهين

***

باقر طه الموسوي / العراق

بعد كل هذه القصائد

يخونني قلبي

ويتركني

أبتاع الهواء

لعلّي أكمل القصيدة.

*

يتركني في منتصف النفس،

يجعلني أجمع بقايا شهيقٍ

كي أرمم بيتاً مكسوراً،

ويضحك مثل طفلٍ عابث

يرفض أن يكون وفيا

*

قلبي قصيدة ناقصة،

كلّ نبضة بيت،

كلّ شريان سطر.

إذا تلعثم،

انكسرت تفعيلة،

وإذا توقف،

بقيت على الكيبورد

علامة حمراء

تفضحني.

*

يقولون:

ستصلُ أنابيبهم إلى دهاليز الصدر،

وسيعرف المبضعُ كيف يفتح الطريق.

لكنني أعرف

أن الطريق إليكِ

لا يفتحه إلا دفء يديك.

*

بين برودة الأجهزة

وحرارة حضورك،

بين يد الجراح

ونظرتك،

يختار قلبي الرجاء.

*

ينزف قلبي

كما ينزف قلمٌ جريح،

دم على الورق،

حروف حمراء

تسأل عنك.

*

كل محاولة للبقاء

قصيدة جديدة،

وكل سقوطٍ

بيت ناقص

أبحث له عن قافية

في عينيك.

*

فلا تتركي قلبي

على مائدة الأطبّاء،

ولا على برودة الأجهزة.

*

أمسكيه كما لو كان بيتَ شعر،

قصيدةً لا تكتمل إلّا بك،

أو كطفلٍ يرتجف

يطلب حضناً.

*

إن عاد،

سيكتبكِ بيتاً جديدا

وإن رحل،

ستكون يدك

آخر قافية.

***

د. جاسم الخالدي

قالوا: غزا الجبال

ألّهٌ نفسه في آخر العتمة

لكن أحداً لم يقٌل…

إنه حين جاءني، كان غريباً

تاجهُ رماد

سيفهُ نائم عند عتبة الغواية

والحروب التي حملها على كتفيه،

سقطت،

بمجرد أن نظر.

صوته… طبول أكدية بعيدة

ايتها التي لا تُحاصر،

فتحتُ الممالك

لكنني لا أعرف باب صمتك!

ضحكتُ.

قلت: "لستُ مدينة.

أنا المعبد.

ومن يدخل… لا يعود.

خلع درعهُ

أقام حولي حصارا… من أنفاس

قلبه ألف جيش في قسوة

وعاشقٌ يرى ظلّ محبوبته… فوق الماء

نارام سين،

الذي كتبوا اسمهُ على الحجر

كتبَ اسمي في دمهِ

منذ ذلك الحين…

انهارت أوثانه

وصار يقول..

الخلود…

ليس أن تُعبد،

بل أن تُحب.

***

رائدة جرجيس

وأنا على مشارف الشيخوخة والهرم

كم من مرة همست لنفسي

كأنني أحاور مجهولا:

الماضي يا شيخنا لا يمكن تكراره

وأن كل الايام لها نفس النكهة

الا ايام عمري التاعسة

*

بابرة الزمن

ينزف عمري البطيء

وبأظافري

أحفر في ذاكرة الروح

وأبحث عن آخر أنفاسي

في جسد الاغتراب

*

سأحاول اصلاح شرخ الذاكرة

وأرتق ثقوبها

ثم أشطبها من سيرة ذاتي

*

أنا الآن تحت شجرة

مصابة باكتئاب

كانت تنعي أغصانها الذابلة

لم تعد تحمي أعشاش الطيور المبعثرة

*

أرفض أن أغمض عيني

سقطت آخر شعرة من رأسي

أنتظر اكتمال القمر

لأرى وجهي الآخر في المرآة

*

كلما رميت حجارة

في بحيرة راكدة

يرغب التمساح في تقبيلي

*

شتلة واحدة في قبضة يدي

أجدى من سبع سنبلات

في حقل ملغم

*

في حفل تأبيني

وضعت الزهور على قبري

أقف صامتا

احمل المهجر على يميني

والمنفى على شمالي

ثم أدب على عكازي

صراخي مكبوت

ودموعي جافة متحجرة

أمشي برفقة سراب

فيغمرني برذاذ دافىء

*

ساعتي البيولوجية معطلة

لا أمل في اصلاحها

قطاري انفصل عن مقطوراته

فصار يدوس كل المحطات دون توقف

ورغم ذلك لم يهزم المسافات

*

أنا أيضا مصاب بالهرم

ماذا لو أطلقت النار على شيخوختي

هل يثير حقد الشيب

فيبرق ويرعد

ثم يعيد تدوير تجاعيدي؟

*

منذ عقود وأنا أراوغ العتمة

في نفق مهجور

بلا أعواد ثقاب

ولا شموع

لا أعرف أين أمضي

أشعر أنني محاصر

بين الوجود والعدم

فقط أنتظر نحبي

وأمضي وحيدا

أعد السنين العجاف

فأرى جثثا أخرى تموت وتحيا

وأنا أبتعد عن صخب القبور

***

بن يونس ماجن

 

الفصل الثالث من رواية خلع خاتم الطائفية

كانت خلفيّة السيارة كأنها صندوق مُعدّ لهذا الغرض؛ صناديق مُحكَمة الإغلاق مصطفّة كجدارٍ صامت، وأرضية مفروشة ببطانياتٍ قذرة تفوح منها رائحةٌ قديمةٌ تشبه مزيج الغبار والرطوبة والسنين. لا نوافذ في هذا القفص المعدني، سوى فجوة صغيرة في الجدار الفاصل بينهم والسائق ونافذة سقفٍ صغيرة تسمح لشظيّة من ضوءٍ باهت أن تخطّ على الجدران خطاً رفيعاً يميّز بين ليلٍ كثيف ونهارٍ أقلَّ عتمة. هناك، في هذا الحيّز الضيّق، أحسّت عفراء أنّها في كهف يشبه سفينة النجاة؛ فُلك نوحٍ الذي قد ينتشلها من طوفان الجحيم الذي أغرقها، أو يبتلعها إن خانها موجُ القدر.

"تجاوزنا بغداد"،

هكذا قال السائق وهو يهمس من خلف المقعد: "الآن أنتم في أمان". ابتسمت بمرارةٍ لا يراها أحد، فالأمان في وطنها صار كلمةً منزوعة النبض، قشرةً هشةً تنكسر تحت أصغر ذبذبة خوف. عفراء لا تدري إن كانت قد وضعت قدمها على طريق النجاة حقّاً أم أنّها انحدرت إلى دهليزٍ أشدّ عتمةً، لكنّها تعرف يقيناً أن الرجوع مستحيل، وأن اختبارات السماء لا تُعاد.

ضمّت صغيرتيها إلى صدرها كمن يضمّ قلبه الأخير، تُحصي أنفاسهما كي لا يخذلها الإيقاع، وتسدّ بأكفّها شقوق الارتجاف عن وجهيهما. لم يكن الخوف وحده جاثماً على صدرها؛ كان معه قطيعٌ من الأسئلة والغصّات والرجاء. إلى أين تقود هذه الطرق المتعرّجة؟ ماذا ينتظرها عند أوّل مفترق؟ وهل ستنجح في محو أثرها عن أهل زوجٍ يرون مطاردتها ثأراً مقدّساً لا يهدأ إلا بدمٍ أو خضوع؟

الهروب خطوةٌ، أمّا النجاة فحربٌ تُخاض مع الزمان والمكان والناس والقدر.

لم تعد قصّتها شخصيّة فحسب؛ صارت مرآةً لمأساة امرأة تُعاقَب مرّتين:

مرّةً لأنّها تجرّأت على كسر القيد، ومرّةً لأنّ قوانين الطائفة والأعراف المتربّصة تحرس أبواب الهواء.

في دفاتر الدمّ، الأنثى ظلٌّ يمرّ ولا يُرى، ورقمٌ يُستدعى للتسويات، فإذا رفعت صوتها سُمّي ذلك فجوراً، وإذا صمتت عُدّ صمتُها اعترافاً.

كانت الرائحة الثقيلة للديزل تتسلّل إلى رئتيها، تُذكّرها بأنّها ليست سوى حمولةٍ إضافيّة على مركبةٍ تمضي. يهتزّ الصفيح عند المطّبات كأنّه يتنهّد، وتتكاثر الشقوق في الصمت: خشخشةُ صندوق، صريرُ برغيّ، نقرةُ حجرٍ على البدن القديم. ومن النافذة الضيّقة في السقف، تقرأ الزمن: عتمةٌ تتخلخل شيئاً فشيئاً، ثمّ خيط رماديٌّ يزحف على وجه العالم. خارج هذا الصندوق، تُفتَحُ محالّ وتُخبَز أرغفة وتُذاع نشرات، أمّا داخلَه فالساعاتُ تُعدّ بحركة محورٍ ومقياس وقود.

"إمّا الموت… أو الهرب إلى المجهول" هكذا تضع عفراء المعادلة على ميزان أمومتها، وتعرف أنّ الكفّة لا تحتمل الحياد. الحرّيّة ليست ترفاً حين يكون القيدُ سكيناً على عُنق البنات. كانت تتذكّر طفولتها المصادَرة، طفلةً أُلبست الحجاب قبل أن تفهم معنى الستر، ومنعت من اللعب قبل أن تتقن الهجاء. الآن، وهي تَحمل ابنتيها، تشعر أنّها تُهرّب مستقبلَهما من حفرةٍ حُفرت لهما باسم الشرف والسمعة والعشيرة، وأنّ عليها أن تدفع فديةً من قلبها في كلّ خطوة.

مدّت يدها المرتجفة إلى الهاتف، تُقلّب الشاشة كمن ينقّب عن نبعٍ في أرضٍ عطشى. ظهرت رسائل كثيرة، لا تدري متى وصلت، فالهاجسُ حين يعلو يصير حجاباً على الحواس. كلماتٌ من أهلها الذين تركوها، مثل قلوبٍ دامية وراء حدودٍ لا تُرى. ما إن قرأت السطور الأولى حتى انفجرت الدموع؛ دموعٌ حرّة كجيادٍ أُطلقت من عقال.

"نحن في عمّان… كيف أنتِ؟" أحسّت أنّ صدرها يتنفّس للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل، وأنّ حبلاً من نورٍ امتدّ إليها عبر الصحاري والحدود ونقاط التفتيش.

يا ابنتي، يا حبيبتي… كيف حالك وحدك هناك؟ غيابك يثقل أيامي، كأن الليل جثم على صدري."

ثم أتبعتها بأخرى: "كل لحظةٍ تمرّ من دونك، أشعر أنني اسير في عالم فارغ. سامحيني إن قصّرت، سامحيني إن تركتك في مواجهة المصائب وحدك."

واخرى، أشبه باعترافٍ دامع: "كنتُ أظن أنني قوية، لكنني بدونك أضعف من ظلّ يتلاشى مع غروب الشمس. أشتاق أن ألمسك، أن أضمّك، أن أسمع حتى تنفّسك."

وأردفت: "نامي يا ابنتي بطمأنينة… فأنا أسهر لك بالدعاء. ليت يدي تطال جبينك، فأمسح عنك كل هذا العناء."

أسرعت تكتب لهم: كلماتٌ قصيرة، لكنّها مكتوبة باتقادٍ داخليّ لا يُرى. تطلب منهم ألّا يذكروا اسمها لأحد، وأن يُبقوا على الدعاء مشتعلاً، وأن يهيّئوا لها ظلاً تدخل فيه حين تصل.

في تلك اللحظات الخاطفة، أدركت ما لم تكن تنتبه إليه من قبل: أنّ النجاة شبكةُ تفاصيل صغيرة تصنع المعجزة؛ شال يخفي ارتجاف كتف، زجاجة ماء محشورة عند الزاوية، شريحة هاتفٍ احتياطيّة في بطانة حقيبة، شهادات ميلاد مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، مشبكُ شعرٍ يمكن أن يفتح قفلاً صغيراً إن أُغلِق عليها الباب.

وأكثر من التفاصيل، كانت هناك شيفرةٌ بشريّة تُفكّك المصيدة: كلمةُ مرورٍ اتفقوا عليها مع السائق، نظرةٌ يرسلها من مرايا السيارة عبر فجوة بينهما تعني "اصمتي الآن"، وأخرى تعني "تنفّسي". كانت تحسب المسافات بنبض قلب، وتستمع إلى حدسها لتميّز بين يدٍ تُسعف ويدٍ تتاجر بالبؤس. فالهاربون، كما تعلّمت في قسوة التجربة، يصيرون سوقاً، وأسماؤهم بضائع. لكنّها آثرت أن تصدّق هذا الرجل الذي عرّفه لها القدر، لأنّ الشكّ إن زاد حوّل الحياة إلى سجنٍ بلا قضبان.

"أنا ضعيفةٌ"، تقولها في سرّها دون جلدٍ للذات، بل باعترافٍ صادقٍ بحقيقةٍ تفرضها الجغرافيا والقوانين. ضعفُها ليس اختياراً، بل نتيجةُ منظومةٍ تُسقِط النساء خارج إنسانيّتهنّ. ومع ذلك، كانت في هذا الضعف قوّةٌ من معدنٍ آخر؛ قوّةُ من يعرف أنّ عليه أن ينجو لا لأنّه الأقوى، بل لأنّ خلفه من هم أضعف. كانت تتعلّم بسرعة: كيف تُسكت رعبها كي لا يفزع الصغيرتان، كيف تقسم لقمتها إلى ثلاثٍ متساوياتٍ ولو جاعت، وكيف تجعل من الصمت معبراً حين يصير الكلام فخّاً.

مرّت السيارة بمحاذاة أولى نقاط التفتيش خارج العاصمة. هدأت السرعة، ولاذت الأصواتُ بحذرٍ جليّ. كان قلبها يطرق كما لو أنّه يوشك أن يُسمَع. تشبّثت بثوب الصامت، ودفنت وجهي الطفلتين في حضنها كي لا تُغريهما همسات الأسئلة. سمعت تحيةً غليظة، ثمّ تبادلَ هويةٍ ونظرةٍ وخشخشة أوراق نقدية. انطلقت السيارة بعد دقائق، دقائق لم تقيسها عقاربُ ساعةٍ بل ساقيةُ عرقٍ سالت من صدغها إلى فكّها دون أن تجرؤ على مسحها.

في فسحةٍ قصيرةٍ من الطريق، مالت عفراء برأسها نحو النافذة الصغيرة فوقها تُصغي إلى السماء. كان المساء يضع أولى خرزاته على عنق الأفق. فكّرت: "المجهول ليس أرحم من الماضي، لكنّه على الأقل مساحةٌ يمكن أن يُكتب فيها نصّ جديد". تذكّرت أحلامها اليتيمة التي تُركت عند بوابات المدرسة: أن تدرس، أن تصير ممرّضةً تمسك يدَ مريضٍ بلا خوف، أن تعمل مربّيةً تعلم الأطفال أن العالم أوسع من حدود الطائفة وأدفأ من جدار العشيرة. تلك الأحلام لم تعد قصاصاتٍ في دفتر؛ صارت أسباباً للنجاة.

كتبت لأهلها مجدّداً: "إذا وصلنا إلى الحدود سأخبركم… لا تُقلقوا، واستمروا بالدعاء، فالدعاء حبلٌ وأنا أتسلّق". شعرت بأنّ عمّان لم تعد اسماً بعيداً على لافتة، بل حضناً يتشكّل في الخيال.

ليس أمامها وأمام طفلتيها إلا خياران: الموتُ في ماضيها الذي يعرف سبلَها كلُّ متربّصٍ، أو الهربُ إلى المجهول حيث يمكن للأقدار أن تُعيد ترتيب الأوراق. اختارت المجهول، لا لأنّها تُحبّ المغامرة، بل لأنّ الحياة أحياناً تُختصر في منعطفٍ واحدٍ: أن تمنح أبناءك غداً أفضل أو تسلّمهم لذئاب الأمس. في هذا الاختيار، قد تبدو عفراء ضعيفةً في عيون القانون العاثِر، لكنّها في ميزان المعنى أقوى ممّن صاغوا لها السلاسل.

واصلت السيارة ابتلاع الطريق، وحين غلب النورُ غبشَ العتمة، أحسّت أنّ قلبها بدأ ينسجم مع إيقاعٍ جديدٍ للكون. همست لنفسها وهي تطبّق جفنيها: "لن أعود إلى القيد، ولو كان الطريق إلى الحرّيّة مفروشاً بالخوف. سأحمل المجهول كصحيفةٍ بيضاء، وأكتب عليه أسماءنا بثبات". ثمّ شبكت أصابعها بأصابع طفلتيها، كأنّها توقّع مع الغد معاهدةً لا تملك سواها: أن تبقى على قيد الأمل، مهما تكسّر في الطريق من جسور.

الفصل الرابع: ليلةٌ على حافّة المجهول

سألت عفراء، وصوتها يزاحم رجفةَ العجلات:

ــ "أين نحن؟"

أجاب السائق وهو يثبت عينيه على الطريق:

ــ "باتجاه الشمال… إلى السليمانية. سنرتاح هناك، ثم نُكمل غداً، على الأغلب، نحو تركيا".

شهقت، كأنّ الهواء انكسر في صدرها:

ــ "تركيا؟"

قال ببرودٍ ناعم:

ــ "ومن تركيا ستتدبّرين أمركِ إلى أوروبا… هكذا كان الاتفاق".

همستُها خرجت كاستغاثة:

ــ " لكنّي أريد الذهاب حيث أهلي… إلى عمّان".

التفت قليلاً، ضاق صوته:

ــ "ولماذا لم تُخبِريني من قبل"

ــ "أنا آسفة… لم أعلم إلّا قبل قليل أن أهلي في الأردن".

هزّ كتفيه كمن يزيح عن نفسه عبئاً:

ــ "هذا صعب عليّ… عندي مشاغل والتزامات".

توقّفت السيارة عند باحةٍ إسمنتيةٍ واسعة تحدّها حيطانٌ عالية، كراج نصف مظلم، تتدلّى على مدخله مصابيح نيون ترتعش كنبضٍ مُجهَد. أطفأ المحرّك، نزل، وقال وهو يغلق الباب:

ــ " لقد وصلنا. الليل طويل، ولا أقود في الظلام. والسيارة تحتاج وقوداً. سنرتاح حتى الفجر".

همّت بالنزول وراءه، وابنتاها لا تزالان في غفوةٍ معلّقة بين تعبٍ وخوف، فتعلّقت بصوت رجاءٍ يُبلّل الحصى:

ــ "أرجوك… أنا وحيدة. ليس لي ولأطفالي في هذه العتمة غير ضميرك ورحمتك".

رفع حاجبيه، ثم تمتم:

ــ "أديتُ ما عليّ… سنرى غداً. ربما أجد من يوصلكِ إلى حدود الأردن. الآن أريد النوم… هل تريدين المجيء معي؟

اسوَدّت الدنيا في عينيها. فهمت الإشارة التي لا تُقال. غصّت الدموع في حلقها ثم قالت بثباتٍ هشّ:

ــ "لا… سأبقى مع طفلتيّ في السيارة. رجاءً… فكّر في هؤلاء الصغار… إن كان لك أولاد".

تنهّد السائق بمللٍ، ومال برأسه:

ــ "سأحاول غداً".

ثمّ استدركت بهمسٍ متخاذل:

ــ "إذا أمكن… اشترِ لهم شيئاً من الطعام والماء".

لم يُجِب. أغلق الأبواب بإحكام، وابتلعته العتمة مع وقع خطواتٍ تتباعد.

عاد الصمتُ يزحف بثقلِ زيتٍ مسكوب. خلفيّة السيارة، تلك الحُجرة المعدنية التي ظنّتها «كهف سفينة نوح» ساعة هروبها، بدت الآن كقبوٍ يتهامس فيه الظلام. بطانياتٌ قذرة تفوح منها رائحةُ العتق والرطوبة، صناديقُ مغلقة مرصوصة كجدرانٍ صمّاء، نافذة سقفٍ صغيرة لا تُري إلا خيطاً شاحباً من الضوء.

في الخارج، نباحُ كلابٍ ضالة، صفيرُ ريحٍ يجرّ غبار الساحة، وضحكاتٌ متقطّعة لرجلين مرّا ثم ابتعدا. مدينةٌ غريبة، طالما سمعَت أنّها تشتهر بسماسرةِ الدعارة والاتجار بالبشر وبالأعضاء؛ اسمها وحده صار فزّاعةً بالنسبة لها. تساءلت وهي ترتجف: "هل يمكن أن يبيعني السائق؟ هل أنا سلعة على قائمة الأسعار؟"

جلست تُحاذي الباب من الداخل، تسند ظهرها إلى لوح الصفيح، وتضمّ ابنتيها إلى صدرها كمن يحرس نبضه بمفتاح. كانت طفلتها الكبرى تهمهم بنومٍ مضطرب، فمرّرت كفّها على جبينها وتنفّست بعمقٍ كي تُسكت رعشة القلب. في تلك اللحظة انفتح في رأسها ميزانٌ لا يعرف الإنصاف: خياران لا ثالث لهما؛ موتٌ معلومٌ في حضن الطائفة وقوانينها التي تخلط الشرف بالدم، أو هروبٌ إلى مجهولٍ قد يبتلعها ويعيدها أشلاءً في خبرٍ صغير. اختارت المجهول. ليس لأنّ فيه بطولةً، بل لأنّ فيه احتمالَ نجاةٍ لطفلتين لا تفهمان من العالم سوى رائحة أمّهما.

راحت تُجرد ما تملك: حقيبةٌ صغيرة في الزاوية، فيها نسخٌ لشهادات الميلاد وجواز سفر مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، بعض النقود في جيبٍ خفيّ، شريحة هاتفٍ احتياطية، قطعةُ خبزٍ يابسة، زجاجة ماءٍ نصف ممتلئة، ومشبكُ شعرٍ معدنيّ. «هذه ليست مقتنيات،» قالت لنفسها، «هذه أدواتُ حياة.» سحبت هاتفها. البطارية تُعلن تمردها على الصبر. فتحت الرسائل: حروفٌ من أهلها في عمّان، محمّلة بحرارةٍ لم تكن تملك وقتاً لذرفها حين وصلتها. كتبت بسرعةٍ متمايلة على إيقاع الرجفة: "أنا في كراجٍ على أطراف السليمانية… لا أعرف المكان تماماً. الرجل يقول نتحرّك فجراً. أحتاج طريقاً إلى الأردن. لا تُجيبوا كثيراً… سأبعثُ الموقع إذا استطعت"

وبينما أصابعها تتلمّس الأزرار، لاح وجهٌ عزيز يطفو في خاطرها: "أم أحمد". ذلك الصوت الذي شقّ صمتاً ثقيلاً في ليلةٍ سابقة وقال: "لن أترككِ وحدكِ". فتحت محادثاتها، كتبت:

"أنا هنا… المدينة التي حذّرتِني منها. اشك ان الرجل يساوم ظلي. إن عرفتِ أحداً أميناً يوصلني إلى حدود الأردن حيث اهلي، فافعلي… الليلة طويلة، وأنا لستُ إلّا أمّاً تخشى على طفلتيها". أرسلت الرسالة، ثم نزعت الشريحة وأخفتها في بطانة الحقيبة. "إن عاد السائق وفي عينيه سؤالٌ لا أستطيع دفعه،" همست، "فلن يجد لديّ وسيلةً للابتزاز"

الوقتُ يمشي ببطءِ قطرةٍ على جدار. تعلّم الهاربون، في مدارس الظلام، أنّ الساعة لا تُقاس بالدقائق بل بتناوب الأصوات: سيارةٌ دخلت ثم خرجت، بوّابةٌ صريرُها يتلو ركودها، أقدامٌ مرت من جوار الباب ثم ضاعت. في الداخل، كان البردُ يتسلّل مثل قطّةٍ لا تُصدر صوتاً. خلعت معطفها وغطّت الصغيرتين، ثم ضمّت كتفيها تحت حجابها كي تحفظ حرارةً تكفي لفجرٍ بعيد. تذكّرت بيتها الأوّل، وجدارَ الطفولة حين كان اللعبُ مباحاً قبل أن يتكلّس. تذكّرت صوت أمّها يناديها من شرفةٍ تشبه صدر الوطن قبل أن يحتله القتلة. ثم عادت إلى حيث هي الان… إلى هذه العلبة المعدنية التي تكوّر فيها الزمن، وإلى قلبٍ يحفر بأظافره نافذةً نحو الصبر.

في غمرة الصمت، انفتح بابُ الذاكرة على وجه الزوج وأهله، وهم يسوقون اسمَ الشرف كالمطرقة: «الشرفُ لا يُفاصل، والدمُ يُغسل بالدم.» كانت ترتعش من تذكّر تلك الجلسات التي تُدار فيها حياتها كصفقةٍ فوق طاولةٍ ملوّثة بالحجج؛ يدٌ تمسك دفترَ العشيرة، وأخرى تلوّح بآياتٍ تُنتزع من سياقها، وفمٌ يقرع على طبلةِ الفتاوى القديمة. كلّ ذلك صار وراءها الآن، لكنّ صوتَ المطاردين لا يزال يركض في أذنيها. وضعت يدها على فمها كي لا تسمع بكاءها. الأمهات حين يبكين وحيداتٍ، يخجلن من دموعهنّ أمام أطفالهنّ، فيحوّلنها إلى حكايات.

همست للصغيرتين بحكايةٍ مبتكَرة كي تناما: "هناك طائرٌ صغير، كان له بيتٌ في شجرةٍ عالية. جاء ريحٌ شرّير، كسّر الأغصان. فطار الطائرُ ومعه فرخان… ظلّ يطير حتى وجد شجرةً أخرى. الطائر لا يخاف حين يحمل صغاره… الصغار هم جناحاه". وهي تحكي، كانت تُقنع نفسها معهما بأنّ لها جناحين.

كلّما ارتعشت، ضغطت على كفّها مشبكَ الشعر المعدنيّ. تذكّرت أنّه يفتح قُفلاً صغيراً إن احتاجت ويمكنها استخدامه كأداة للدفاع. التفاصيل الصغيرة لا تصنع البطولة، لكنها تمنع الهزيمةَ من أن تكتمل.

مرّت ساعةٌ أو أكثر، لا فرق. طرقاتٌ خفيفةٌ على المعدن أفزعتها. انتصبت كمن يتهيّأ للذبح. ثمّ هدأت الطرقات وتلاشت. وضعت أذنها على الجدار، سمعت حفيفَ أكياس، وحواراً مقطّعاً بلهجةٍ غير مألوفة. "يا ربّ…" قالت وهي تشدّ الطفلتين إلى صدرها. كتبت رسالةً مقتضبة لأهلها: "إن لم أكتب عند الفجر… اتصلي بأم أحمد. قولي لها: "الميزان، ستفهم." كانت كلمة السرّ التي اتفقت عليها مع الجارة قبل أن تغادر بغداد؛ تفصيلٌ مشفّرٌ لم تنتبه من قبل إلى أهميّة وجوده.

في غفلةٍ من الخوف، غفَتْ دقائق. حين فتحت عينيها كان الضوء يزحف من نافذة السقف كخيطِ لبنٍ على وجه الليل. بردُ الفجر له طعمُ ماءٍ قديم، يعضّ العظامَ ببطء. عادت لتفقد الهاتف. رسالةٌ من أم أحمد: "اعطي السائقَ هذا الرقم، سيهاتفه رجلٌ في محطةٍ قريبة. لا تخرجي معه وحدكِ. ابقي حيث أنتِ حتى اكتب لكِ. الأردن أولى من أوروبا… والأمانُ أوّل الطريق." ابتسمت ابتسامةً صغيرة لا يشبهها سوى دعاءٍ تحقق. كتبت: "حسنٌ. أنا أنتظر".

وقبل أن تُعيد الهاتف إلى الحقيبة، أبلغت أهلها: "ثمة بصيص. ابقوا على الدعاء." ثمّ أسندت جبينها إلى الجدار تستجلب ما تبقى من سكينة. الخوف لم يخرج من السيارة، لكنه تراجع خطوةً إلى الخلف، كذئبٍ يعرف أن في اليد حجراً. نظرت إلى ابنتيها، ورأت في وجهيهما سبباً يتقدّم على كلّ التبريرات: الحرّيّة ليست شعاراً في لافتةٍ سياسية، الحرّيّة هذا الصباحُ الذي يمكن أن يُفتح بلا خوف، وهذا الحليبُ الذي يُشرب بلا كراهة، وهذه المدرسةُ التي تدخلها البنات بلا وصمةٍ معلّقة على جباههنّ.

حين ارتجّ القفلُ أخيراً، انقبض قلب عفراء كما لو كان يتهيّأ لاستقبال قدرٍ جديد. شدّت على معطفها، تتوسّل منه دفئاً واطمئناناً، واستعدّت لكلّ الاحتمالات التي قد تخبّئها خشبةُ الباب الحديدي. وحين انفتح، ظهر السائق أمامها، ملامحه مرهقة، لكن عينيه تخلو من الندم، كأنما اعتاد أن يرى الخوف في وجوه الآخرين فلا يحرّك فيه شيئاً. رمقها نظرةً سريعة، ثم قال بخشونةٍ تخالطها نبرةٌ عملية باردة:

ـ "هيا… سنملأ الوقود. بعد ذلك… سنواصل إلى الأردن، ولكن ستدفعين ثلاثة أضعاف المبلغ."

سقطت الكلمات على صدرها كصخرةٍ هوت من جبل، لكنها تماسكت، كأنها تعلّمت أن الحياة في المنفى تبدأ من لحظةٍ كهذه: لحظة ابتزازٍ لا مهرب منه. ردّت بصوتٍ هادئٍ خالٍ من الجدال، فيه من الشكر ما يشبه الخوف:

ـ "كما تريد… فقط خذنا إلى هناك."

لم تعد تثق به، ولا بغيره من الرجال الذين يبدّلون وجوههم بين قناعٍ وقناع، لكنها بدأت تثق بأسبابها الخاصة: رقم هاتفٍ تحفظه في ذاكرتها كآية نجاة، صورة لطريقٍ مرسومة في ذهنها تتجه غرباً، وقلبٍ يتعلّم أن القوة ليست صرخة، بل أن تمضي خطوةً أخرى رغم الارتجاف.

في اللحظة نفسها، وصلتها رسالة قصيرة على هاتفها المخبّأ بين يديها المرتجفتين: "ستصلين بالسلامة. اكتبي لي حال وصولك." كان التوقيع باسم "أم أحمد"، جارتها الطيبة، المرأة التي كانت تطرق بابها أيام المحن بقدرٍ من الحنان يضاهي الأمومة. أدركت عفراء أن هذه الروح النقية لا تزال تحرسها من بعيد، وأنها على الأرجح هي من تواصلت مع السائق ليعيد النظر في وجهته. دمعت عيناها، لكنّها أخفت الهاتف في صدرها، كما لو كان تعويذة نجاة لا تريد للقدر أن ينتزعها منها.

تنفّست بعمق، حاولت أن تزرع في رئتيها شيئاً من الشجاعة كي لا تنهار أمام طفلتيها. فتحت باب السيارة، خرجت للحظةٍ قصيرة، أصلحت وضع البطانية فوق جسديهما الصغيرين، ثم أعادت أطرافها بعنايةٍ أمّ تعاند القسوة. نظرت إليهما، تغطيان وجهيهما ببراءةٍ حالمة، وتساءلت في سرّها: كيف لطفلتين صغيرتين أن تدفعا ثمن خطايا وطنٍ يطارد أمهما كأنها مجرمة؟

كانت الشوارع خارج الكراج مظلمة، يتسلل إليها ضوءٌ باهت من مصابيح متعبة، والهواء يختلط فيه برد الليل برائحة الزيت المحترق. بدت المدينة غريبة، كأنها فمٌ مفتوح يتهيأ لابتلاعها. وكل خطوة كانت تحسّها كسيرٍ فوق جمر المجهول، لكنها مضت، بحذر، تتشبّث بالحلم البعيد: أن تصل، فقط أن تصل، ثم تفكّر بعدها كيف ستبني حياة جديدة من رماد قديم.

وفي أعماقها، كانت تعلم أنها لم تهرب وحدها من سطوة الطائفية، بل هربت من تاريخٍ أراد أن يجعل منها ظلاً لا يملك جسداً. كل خطوة على هذا الطريق كانت إعلاناً صغيراً ضدّ القيد، وصلاةً خفيّة بأن تكون حريتها ثمناً يليق بتضحياتها.

هكذا، في تلك اللحظة التي بدت صغيرة في ظاهرها، كانت عفراء تعبر من كونها ضحية مطاردة إلى امرأة تصنع قدرها بقدميها المرتجفتين، تكتب قصتها بالحذر والخوف، ولكن أيضاً ببصيصٍ لا ينطفئ من الرجاء.

كان الفجر قد استوى، والكراجُ يكشف ملامحه... بقعُ زيتٍ كخرائط سوداء، قطّتان تتشمّسان بحذر، عاملٌ يتثاءب، ومئذنةٌ بعيدةٌ تُخرج من حنجرتها الأذان الأوّل. ابتسمت. قالت في سرّها: «كان الموتُ يعرف عنواني في الأمس، أمّا المجهول… فليس له عنوان. هذا حسن.» ثمّ أعادت ابنتيها إلى الصندوق، جلست بينهما، وكتبت في قلبها معاهدةً جديدة: "لن أبيع نفسي ولا بناتي للخوف، ولن أسمح لاسم الطائفة أن يكون صكَّ ملكيةٍ لأجسادنا. إن كان المجهولُ هو الثمن… فليكن. لكنّي سأدفعه وأنا ممسكةٌ بأيديهما، لا مُساقَةٌ وحدي كنعجةٍ إلى الذبح".

***

سعاد الراعي

2025.09.09.

 

في الهزيع الأخير من الليل، وردته برقية مستعجلة عبر الأثير، تتماوج بين ذرات الهواء كأنها نداءٌ خفيٌّ يتسلل من عوالم غير مرئية. حاول جاهدًا التقاط معانيها، إذ بدت كنوتات موسيقية تتمايل بإيقاع غامض، جعلته يرتعش كمن تسرب إليه البرد في شتاءٍ قارس.

سارع إلى تفكيك كلماتها المشفّرة، فلم تكن واضحة المعالم، بل كعتمةٍ تتكاثف في ليلٍ بلا نجوم. كلما مدّ يده، تلاشت الرؤية، وكأن ثمة من ينازعه في الطرف الآخر. ساوره شعورٌ متأرجح بين البقاء والضياع، كمشيٍ على خيطٍ رفيعٍ فوق هاويةٍ لا قرار لها.

فجأة، انزلق مخلوق غريب من الأفق البعيد، لا يشبه أي كائن في الكون، وانقضّ بقوة على عالمه البسيط كريحٍ لا تُرى، لكنها تقتلع جذور الطمأنينة. أطلق همساتٍ مرعبة تنفث الشكوك في الأرجاء، تقطع أنفاس الليل، وتختزل الزمن في قارورةٍ من الأسر. لا جدوى من الصراخ في جوٍ خانق، فقد شُلّت أوتار الصوت في لحظة انهار فيها جدار الأمل.

كانت التجربة أوسع من كل تصور، إذ اجتاحت ذاكرته كالسيل، تستحضر الماضي والحاضر، وتغلق باب المستقبل قبل أن يُفتح. وعندما حانت اللحظة الحاسمة، وقف كالمسمار، جامدًا أمام الهول، أخرسته الدهشة، ولم تمنحه حتى رفاهية البكاء.

راح يتساءل، والحيرة تكسو وجهه الشاحب باستسلامٍ صامت:

ــ نعم، إنها النهاية… لكنني لم أرَ المستقبل بعد. لماذا كل هذه العجلة؟ ما زلت في طريقي نحو تحقيق ما تبقى من أحلامي المؤجلة.

بدأت الصورة تتضح، تأخذ منحى أكثر اتساقًا، حين أدرك أن الصوت الذي يطارده لم يكن غريبًا، بل كان صدى صوته الداخلي، يهمس له بما لم يجرؤ على الاعتراف به:

ــ أنا ملك الموت… لا لأنني جئت من الخارج، بل لأنك أنت من خنقت أحلامك، وأرجأت الحياة حتى تلاشت.

وما إن بزغ الفجر، كأنما يفتح بابًا نحو حياةٍ جديدة، حتى ارتجّت الغرفة بصوتٍ داخلي، لا يُسمع إلا لمن يتهيب النور. اهتزّ جسده، لا من صرخةٍ خارجية، بل من إدراكٍ مفاجئ: أنه هو ذاته من حكم على نفسه بالموت، حين خاف من الحياة. سقط ساكنًا، كمن قرر أن ينام إلى الأبد، لأن الصباح كان أكبر من قدرته على النهوض.

***

كفاح الزهاوي

ضربه على خدّه الأيسر، وصرخ في وجهه:

- ارفع رأسك "يا بّا"*، فأنت إنسان حرّ.

وتمنى عبد الله أن يدير له سعيد خدّه الأيمن ليلطمه ثانية. لكنّ سعيد رمق صاحبه باستغراب، وحكّ اللطمة الأولى دون أنين، ولم يفكر في ردّها له. وابتسم ابتسامة عريضة.. ثم طبع على وجنته قبلة...

و الذين حضروا الواقعة، ورأوا بأم أعينهم ما جرى بين عبد الله وسعيد، اسغربوا، وأصابتهم الدهشة.. واجتاحتهم الأسئلة الغريبة.. لماذا لطم عبد الله صديقه سعيد ؟ ولماذا لم يغضب سعيد، ويرد اللطمة باللطمة أو أكثر ؟ لماذا خيّم الهدوء على سعيد، وكأنّ اللطمة لم تقع على خدّه ولم تعنه ؟ لماذا ابتسم سعيد بعدما لطمه صديقه عبد الله ؟ أم أنّه عجز عن الدفاع عن نفسه، وردّ حق من حقوقه ؟

و الحقيقة أن عبد الله، قد لاحظ منذ أشهر عدة، أن رقبة سعيد قد بدأت تميل إلى الأمام، ومعها ظهره الذي استمر في أخذ شكل المنجل. وصارت هامته أقرب إلى الأرض، على هيئة الركوع. أمّا نظراته، فقد تقلصت مسافاتها.. بدت قزمة كالطحالب التي قهرها البحر .. لا تتعدى ظلّ جسده النحيف عند الظهيرة..

لاحظ عبد الله أنّ صديقه سعيد على وشك العودة إلى سيرة الحبو على أربع.. ليست مرحلة الصبا، فذاك حلم مستحيل.. ولكن حبو في مرحلة الكهولة.. فالعودة إلى الوراء، لن يكون فعلا بيولوجيا وفيزيولوجيا أبدا.. لأنّ ذلك يعني حدوث معجزة ربانيّة، لا اعتراض عليها.. ولاحظ أنّ سعيد، قد قلّ كلامه، وذبل صوته، وتحول نقاشه إلى مجرد هزّ للرأس.. كما صار لا يبرح بيته إلا قليلا.. يميل إلى المشي وحيدا ملتصقا بالجدران المهترئة كالحلزون.. وهو الذي عرفه، قبل سنوات، رجلا، ممشوق القوام.. مرفوع الهامة.. رأسه في السماء، وعيناه كوكبان دريّان.. وصوته يُسمِع الصم..

لم يدر سبب هذا التغيّر المفاجيء.. أهو مرض جسديّ أم نفسيّ ؟ أم أنّ الهرم قد داهمه قبل الآوان ؟ رغم انّه مازال في عقده الرابع. عقد الحكمة والتعقّل والنبوّة..

*** 

قال عبد الله، والحيرة تنوش قلبه:

- سعيد انخطف عقله يا ناس. صار كتلة لحم وعظم بلا روح. ضربته على خده، وقلت له:

- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ.

ظنّ عبد الله في تلك اللحظة، حين لطم سعيد على خدّه الأيسر، أن ينتفض سعيد كالأسد الهارب من قفص مروضه. ويردّ له الصاع صاعين.. لكنّ ظنّه ذهب أدراج الرياح.. كأنّ اللطمة أيقظته من غيبوبة استمرت عقدين من الزمن الحجريّ الأسود.. والحاصول، أنّ سعيد كان ضحية ما سميّ بحملة الأيدي النظيفة، ولم تكن نظيفة البتة، بل وسخة، نتنة، مقرفة، كرائحة الذئاب والخنازير البريّة.. كان سعيد جمركيّا نابها في مصلحة الاستيراد والتصدير بميناء الجزائر العاصمة... مجدا، صادقا في عمله، حريصا على المال العام، الذي هو مال الشعوب.. رجلا شهما، يحارب علل الرشوة والمحاباة والمحسوبية والغش والتزوير وكل مشتقاتها.. وحدث أن اكتشف عملية غش في الجمركة والفواتير.. لقد رأى بأم عينه، كيف كانت تغادر بعض الحاويات المشبوهة أرصفة الميناء دون تفتيش دقيق.. كل ما كان يحدث لها، عبارة عن مراقبة شكلية.. وتمنح لها تراخيص المغادرة.. لمّا تدخل سعيد لوضع الأمور في نصابها القانوني، قيل له:

- هذه الحاويات المملوءة هي ملك " للتماسيح ".. ولا واحد يقدر أن يمسّها. فهمت، يا سعيد.

- لكنّي، يجب أن أطبّق القانون على الجميع.

- "طز" على القانون. هؤلاء فوق القانون، يا صاحبي، يا مغفّل.

و حاول أن يخضعها للتفتيش والجمركة القانونيين، لكن جوبه برد قويّ من مسؤوله المباشر. فما كان من سعيد إلا أن كتب تقريرا مفصلا إلى السيد وزير المالية، يخبره فيه عن كل شيء.. وممّا جاء فيه:

- سيدي الوزير... إنّ بعض حاويات المعاليم الكبار، والحيتان الضخمة، لا يُسمح لنا، نحن كجمركيين، بمراقبتها وتفتيش محتوياتها، والأدهي من ذلك أنّها تغادر الميناء دون جمركة حقيقية. ممّا يكبّد الخزينة العمومية خسائر لا حصر لها....

و لمّا اُستدعيّ سعيد، ذات أمسية ماطرة، إلى مكتب المدير العام للميناء، ارتعش فرحا وتسارعت نبضات قلبه.. واعتقد أن رسالته تلك أثمرت، وأتت أكلها.. وستمنح له المديرية وسام صون الأمانة، وسيشكره المدير العام على حرصه الشديد على مال الشعب..و ربّما سيرقيه لمنصب أعلى.. حدس أنّه سيكون البطل المبجل، الذي سيؤدي له مسؤوله تحية التقدير والاحترام على صدق تفانيه في أداء الواجب الوطني..

***

وكانت المفاجأة، التي قصمت ظهره.. أحيل على المجلس التأديبي بعد أيام، بتهمة القذف.. وفُصل من وظيفته.. وبعد شهر، أُلقي به في غياهب السجن، بتهمة التبليغ الكاذب، وإزعاج السلطات الأمنية.. بل اُتهم بطلب رشاوي، ولمّا لم ينل مرغوبه. كتب تلك الرسالة لقذف غيره من الأبرياء..و كانت تلك التهمة ملفّقة بإحكام، ومدعمة بشهود الزور..

لمّا غادر سعيد السجن، بعد سبع سنين عجاف، كان ظهره، قد بدأ يأخذ شكل المنجل..أمّا هامته فقد أذبلت رطوبة جدران السجن أوراقها.. لقد حاولوا كسر رقبته، لكنّه صمد أمام أنيابهم ومخالبهم...

***

قال عبد الله، بعد لطمه لسعيد على خدّه الأيسر:

- يجب أن يرفع سعيد رأسه من جديد. يا إخوتي.. زمان الزور راح وولّى.. يا إخوتي...

وقاده إلى البريد المركزي، لا ليسحب مبلغا من رصيد زهيد، بل ليشهد شعلة الحراك.. وليقطف من مروج الحياة أزهار الحريّة.. وليرفع رأسه وهامته، ويستقيم ظهره المنجليّ.. وهنا أدرك شهود الواقعة؛ واقعة لطم عبد الله لسعيد على خدّه الأيسر، وقوله له:

- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ..

تمنى الشهود، لو يلطم عبد الله كل الخدود النائمة، لعلها تستيقظ من سباتها.. وتدوي تلك العبارة؛ ارفع راسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ، مثل صوت المدفع، في أسماع النائمين على رصيف الاستسلام والهوان...

(تمت)

***

بقلم القاص: علي فضيل العربي – الجزائر

.....................

هامش:

بّا أو بابا: أبي بلهجة مغاربيّة.

في طريق ذهابي للعمل اليوم وقفت بالإشارة وإلتفت على يميني ورأيت باص من شركة النقل التي كانت تقلني للجامعة قبل خمسة عشر عاما تفاجأت من صموده في وجه كل هذا التغيير العاصف في الزمن، في الناس وفي الذاكرة، أعادني ذلك إلى حادثة غريبة:

في ذلك اليوم، بدا المشهد عادياً جداً: باص الجامعة المتأخر كعادته، الطالبات المتكدسات في المقاعد، والوجوه المتعبة من المحاضرات التي استنزفت كل ذرة من الطاقة. لم أكن أتوقع أن يتحول سائق الباص — ذاك الرجل الهامشي الذي بالكاد يعلق بالذاكرة — إلى مركز الحكاية.

في نهاية كل شهر كنا نصرف رسوم النقل ونسلمها لسائق الباص صباحاً وبالعادة يسجل المدفوعات بورقة، استمر الوضع على ماهو عليه لسنوات، وكجميع البنات من جيلي لم يكن الحذر حاضراً في تعاملاتنا الإنسانية لا أعلم كيف نجونا من مصائب محتملة "بالبركة وبدعاء الوالدين" لم نشعر بالخطر، لم تراودنا اي فكرة أن هنالك شيئا ما لايبدو صحيحاً، جمع النقود من أربع مئة طالبة. أربعون ألف ريال في كيسٍ واحد، ثم تبخر كما لو أن الباص ابتلعه في جوفه. لم يختفِ فقط، بل اتصل بي أنا بالذات قبل هروبه. صوته المرتجف كان يبكي:

“لمى.. سامحيني. أنا مضطر.. بس سامحيني.”

كنت خارجة لتوي من معمل الكيمياء العضوية، الأبخرة الثقيلة تلف رأسي، والواقع من حولي ضبابي. لم أفهم لماذا يكلمني أنا؟ ما الذي يريد اعتذاره مني؟ ولماذا من بين كل البنات اختار أن يخاطبني؟ أغلقت الهاتف ونسيت الأمر للحظة، لكن دوامة الشبهات لاحقاً عصفت بي حين استدعَتني الشركة:

“أنتِ آخر من اتصل بها، هل لك علم بسرقته؟”

في الحقيقة لم تكن تلك المرة الأولى التي تصدر منه تصرفات غريبة كانت نذير شر لكنا لم نعر لتلك الإشارات الواضحة بشكل فاضح أي إهتمام، بدا هذا الرجل وكأنه يصارع في داخله وحش ومنذ مدة طويلة.

فقبيل صفقة النصب والسرقة الكبرى التي قام بها كانت هناك حادثة أخرى، زميلتي طلبت منه أن يوصلها إلى مواقف سوق تجاري خلال ساعات الدوام الرسمي وبينما كانت منشغله بالرسائل الرومنسية ووضع المكياج غير مدركة أن موعدها الغرامي سوف يتحول بعد دقائق قليلة إلى موعد مع القدر. كان الباص والسائق قد انحرفا إلى الهاوية، فجأة غاب صوت المدينة، وحلّت عزلة المكان النائي، فراحت تترجاه بكل ما أوتيت من قوة أن يتركها وشأنها وبعد صراع عنيف بالفعل أطلق سراحها.

ولم يجد سوى دموعه، اتصل بي من جديد، يبكي ويقول:

“أنا آسف.. سامحيني.” لم أعلم وقتها أسامحه على ماذا حتى اليوم التالي عندما إلتقيت بصديقاتي وأخبروني عن الصباح المروّع، لكني لسبب ما أجهله أخفيت عنهن إتصاله

كنت مجرد طالبة مثلهن، لا أكثر ولا أقل. ولا أدري لمَ كان يربط اعتذاره بي؟ هل كان يرى في وجهي مرآة لصراعه؟ أم كان يطلب غفراناً يعرف أنه لن يجده في أي مكان آخر؟

أحياناً أتساءل: هل كان الرجل يحارب شياطينه الداخلية أم يحاول أن يلقي بذنوبه على كتفي لأحملها عنه؟ كأنه يبحث عن شاهد يصدّق أن الشر لم يكن خالصاً، وأن داخله بقايا ندم.. أو ربما كان يهيئ نفسه ليسقط في هاوية أكبر.

***

بقلم/ لمى أبو النجا

في دُجى الليلِ العميقْ:

"سألني الليلْ:

بتسهرْ لِيهْ؟"

قلْتُ:

أنتَ نديمي الَّذي يُوفِّى ويُكفِّى،

ويصفِّي..

منَ الشَّوائبِ العالقة..

بقفصِ صدري المليءِ بالذِّكرياتِ الَّتي

تعبرُ أفْقَ خيالي..

بارقاتٍ

لامعاتٍ

تَخرجُ مِنْ قُمْقُمِها،

ففيكَ، أيُّها الليلُ الَّذي لا تنجلي،

أُلقي صَخرةَ النَّهارِ عنْ كاهلي،

وأرفعُ صخرةَ الأيامِ والكتبِ والأقلامِ

والأحلامِ،

والكلامِ غيرِ المُباح،

وفي الحالتين أشهقُ..

وأتحسرُ

وأزفرُ..

زفراتٍ حرَّى،

تسمعُها أنتَ، وتعي،

فما فاتَ لمْ يفُتْ،

وما هو آتٍ آتٍ لا ريبَ فيهِ!

وأشتكي لكَ ولصمتِكَ المهيبِ؛

فأنتَ الشِّفاءُ،

وأنتَ الدَّواءُ..

(المؤقت)،

وانتَ شرَّاحُ الجراحِ،

وحمَّالُ الأسيَّةِ،

والمستمعُ المُصغي باهتمامٍ، والَّذي..

لا يُضاهيههِ مستمِعٌ،

وأنتَ الصَّامِتُ الخجولُ الَّذي..

لا يُشبهُهُ صامتٌ،

صامتٌ لا يصدِّعُ الرَّأسَ

بالقيلِ والقالِ

وكثرةِ السُّؤالِ،

والسُّعالِ،

مع أنَّ الأسئلةَ الكبرى والصُّغرى

تُكتَبُ على لوحتِكَ السَّوداء،

بطباشيرِ القلبِ والرَّأسِ والأحلام،

لا بتباشيرِ الصَّباحِ الأسودِ..

مِنْ ظلامِكَ المُدلَهِمِّ،

والأصمتِ منْ صمتِكِ الرَّاسخِ،

وسرِّكَ الأمين،

وحُلُمِكَ الأسير،

الأسيرِ الغارقِ في لُجِّ الأمنياتِ

خلفَ ضبابِ الرُّؤيةِ

في عينِ القصيدةِ الهاربةِ

في وَضَحِ النَّهارِ الدَّايرِ

على حلِّ شَعْرِهِ

في ضجيجِ عرباتِ الخيلِ المُطْهَمَةِ

في اسطبلاتِ التَّواريخِ المُنهَزِمَةِ

أمامَ الرِّياحِ العاتيةِ

الشرقيةِ والغربيةِ،

وأقدامِ الرَّايِح والجاي، والرَّاكضِ

في أعقابِ الرُّؤوسِ الخاويةِ

على عروشِها،

فأنتَ الوحيدُ الَّذي

يستمعُ إلينا بانتباهٍ وجلالٍ،

ونحنُ نغرقُ..

في أعماقِ طينِ الكلماتِ المُتقاطِعَةِ

والمُتشابِكةِ

والمُتشاكلةِ

والصَّامتةِ

حتى يرى اللهُ فيها أمرًا كانَ مفعولا،*

فالمفعولُ بهِ يعرفُ الفاعلَ جيداً

لكنَّهُ..

يستمرئُ الفعلَ مع الظَّرفِ المنصوبِ

على طبَّاخِ الطَّباخينَ..

في مطابخِ التَّنانينِ الْبِيْضِ والصُّفْرِ

ليقتاتَ الواقعونَ..

في الكمائنِ المنصوبةِ

منذ التَّاريخِ الأولِ لقابيلَ وهابيلَ

والإخوةِ الأعداء،

والعشاقِ السُّكارى الغارقين

في أحلامِ العصافيرِ:

قيس وليلى

روميو وجولييت

حسن ونعيمة..

الذَّائبينَ

في تيزابِ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة،

لذا أسهرُ معكَ، أيُّها الليلُ الطَّويلُ؛

لأعانَي وجعَ القلبِ والرَّأسِ،

والجذعِ والأطرافِ،

كي أكتبَ قصيدةَ حبٍّ..

أُمَمِيّةٍ،

وإنْ كانتْ كلمةُ (أممية) تُصيبُ البعضَ

بالهستيريا،

والهذيانِ،

وعَمَى الألوانِ،

والشِّيزوفرينيا،

والفوبيا الصَّفراء،

مع أنَّها تعني الإنسانيةَ جمعاءْ:

(وإنّما الأُمَم الأخلاقُ...)**

ودونَ استثناءْ،

فما الفرقُ إذنْ،

أيُّها الليلُ الطَّويلُ..

"كموجِ البحرِ الَّذي..

أرخى سدولَهُ..

بأنواع الهموم" !!!

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الثاني/أوكتوبر 2025

.....................

* تناصّ مع الآيةِ الكريمة (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) الأنفال 44

** تضمين لقول أحمد شوقي: وإنَّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقِيَتْ...

 

تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.

ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!

لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.

أقبل العريس ببذلته السوداء متفرسا في تقاسيم وجوههم. يعلم جيدا أن خلف كل ابتسامة قصة عاش بعض تفاصيلها قبل دعوتهم للحضور. الرفاق هم الرفاق. يريدونك أعزبا لتظل سيرة الزواج مؤجلة. تماما كالديون التي سيطالِب بها فور استلام الرواتب!

احتضنوه ثم قبلوا وجنتيه. منهم من بارك له الزيجة، ومنهم من شد على يديه مؤملا له النصر على الأعداء. أما أعراب فبدا مبتهجا كصبي عائد من حديقة الألعاب. كيف لا والعريس سينضم إلى طابور زبائنه! مضت شهور لم يقتن فيها غير السجائر والعصائر بين فينة وأخرى. عانقه مجددا قبل أن يهديه قارورة العطر، تصحبها نظرات خزي ومهانة من المفلسين.

دارت كؤوس الشاي ثلاث جولات، بينما فرغت صحون الحلوى المجلوبة بعناية من مخبزة الحي المجاور. أصرت أخت العروس على أن تتولى شأن الحلويات والفطائر. أثنى ثالثهم على الحلوى فهمس العريس في أذنيه بأنها من أصابع تترقب خاتم النجاة. غمغم مستعيذا من حبائل الشيطان. في الشهر التالي تحديدا سيكون للشيطان رأي آخر!

أنهى مؤذن الحي تلاواته وابتهالاته، ثم مازح العريس بأنه لا يحتمل السهر شأنَ الذين ينتظرهم ليل طويل. ابتسم العريس خجلا، ثم أسرع إلى المطبخ لتُقبل على الفور صحون الدجاج المحمر.

غمغم رابعهم وهو يسحب فخذ دجاجة: ليت لي أمه! تطويني تحت جناحها كفرخ مبلول. لو كانت لزوجة أبيه ربع طيبتها لما سمح لابن حلّومة المهاجر أن يركن سيارته في الحي، ويطرق باب رقية.

رقية! من لم يُجرب الحب فلا داعي لأن يكتب عنه. وحدها آهات عبد الحليم حافظ، حين يرمي الورد ويطفئ الشمع، تحول ثورة جنونه إلى دمع ينساب في هدوء الحيّات كل ليلة. بكى بحرقة لأسبوع قبل أن ينجح أعراب في لملمة جرحه:

-    دُنياك تلك، فإما أن تتغافل لتحيا وإما أن تتحطم ضلوعك تحت وطأتها! في كل حي رُقَية أخرى، وعلى قلبك أن يتمرن ليحتمل أسباب العيش. اِنسَ !

غالبَ زفرة تحتدم في صدره كي لا يلحظ أعراب شيئا، ثم مد أصابعه وانتزع من صدر الدجاجة لقمة. تناهى إلى الأسماع لغط من الغرفة المجاورة حول إلحاح أهل العروس على إتمام مراسيم الزفاف قبل العودة فجرا إلى القرية. فهم الجميع ما يقتضيه المقام، فتلا المؤذن آيتين ثم دعا بالبركة وحمل بلغته خارجا. أما خامسهم "أعراب" فأقبل على العريس يحتضنه، ثم أشار إلى البقية بالانصراف قبل أن يستأنفوا الغمغمة!

***

حميد بن خيبش

........................

(*) الوليمة في التعبير المغربي الدارج

 

حور الصبا فيه الجمال الأغيد

أن الجمال سره متخلد

*

سبحان من صاغ الجمال كوردة

جورية ألوانها تتعدد

*

يا من بنى تلك الكؤوس منازلا

أو ترتجي تلك الكؤوس وتغمد

*

من طالها قد كان فيها سيدا

أعجازه من شوق قلب يعقد

*

يا شاكي الأحباب أية شكوة

أو ما ترى أن الملامة موقد

*

ما لي أرى الأحباب غاب جميعهم

أومآ رؤا شوق الحبيبة ينجد

*

لا أشتكي مهما الهوى قد طالني

أني به طول المدى أتعمد

*

قاربتها والليل أخفى بدره

فتوسمت أسناؤها تتوقد

*

فحسبته وجه الضياء كلجة

محبوبتي وجه الضياء السرمد

*

خوف على عيني يراها ضوؤه

شمس لها فيها الليالي تخمد

*

قد زارني والنور يكسو وجهه

وجديلة نحو الثريا ترشد

*

ناديتها قلبي أناخ لشوقها

حورية أي المسافة أقصد

*

قالت وما سر الجمال لعاشق

أو تبتغي سر الجمال وتوعد

*

قلت أحرصي تقديم أشهى قبلة

سحرية فيها شفاهي تصمد

*

قالت وما تروي الزهور لعطرها

شوك لها أنى الجروح ستضمد

*

كوني أذن نفسي ونفسك واحد

غيداء  ناهد صدرها يتمرد

*

قالت وهل هذي المحبة لعبة

كأس اللمى منه التواصل يجهد

*

وتيقنت نفسي أفاقت حلمها

من بعدما أرجو اللقاء وأوعد

*

واستذكرت نفسي بأني حالم

واستعذبت ليل الشتاء سيبرد

*

وتسارعت تطوي مفاتن ثوبها

حتى بدا صبح البلابل ينشد

***

علي جبار الاسدي

 

لا حزاماً لديك فأرتديهِ

حيثما أنت ما أزالُ كسيرا

*

لا حناناً لديك عندما أتشكّى

من ونى العمر إذ شكوتُ حسيرا

*

كلُّ ما فيك أنت أنت إذاما

مسّني الضّرُّ أو أكون فقيرا

*

ليس يؤسيك مرةً ما أعاني

عشت في العمر كالجمال صبورا

*

بينما أنت كلَّ يومٍ تراءي

تدّعي الحنو.. تدعيه شعورا

*

أحمد ﷲ ؛ أنني في حياتي

أطحن الصّخر في رحاي شكورا

*

فلذا القلب لم يعد مستطيعاً

ينبض اليوم في الكيان كثيرا

*

ألمح الموت .. ها أرى يتعالى

يمنع الشّمس أنْ تزور القبورا

*

كي يموت الأنام من غير ضوءٍ

و يكون الظّلام هاهناك سديرا

*

عندها النّاس يرحلون منايا

بالجثامين حين ضلّوا المسيرا

*

كلُّ من كان لا ملاذَ لديهِ

مثل من كان يملك دورا

*

يدري من عاش في الحياة بأنّا

ندري بالموت.. إذ جهلنا المصيرا

*

هكذا الحال .. كلنا نتذاوى

و تذوب الشّموع فينا أخيرا

*

نترك العطر و البخور .. نسجّى

و نشمُّ التّراب عطراً بخورا

*

فتنام الرفات فيها طويلاً

إذ يطول المنام فيها دهورا

*

عندما الحشر يستفزُّ البرايا

يوقظ الناس حين يُطلِقُ صُورا

***

رعد الدخيلي

 

رحلة أيوب بين حلم حالم وحلم يقظه

في أشهر مقهى أدبي وسياسي يقع في جانب المصرف العربي في وسط العاصمة الأردنية، جلس أيوب وحيدًا في زاوية تعلوها مصابيح، على شكل فوانيس ذهبية مزخرفة، تُلقي بضوء خافت على وجهه الشاحب. كان رجلاً في منتصف العمر، ذا شعر أسود قصير ولحية رمادية، يرتدي بدلة سوداء وقميصًا أبيض، وكان وجهه يحمل تعبيرًا عن الحزن العميق، كرجل محاصر في متاهة أفكاره. بينما كانت طائفة من الأدباء تتجاذب أطراف الحديث بحماس في المقاعد المجاورة له، منغمسين في سيمفونية من الأفكار التي تختلط بالحنين إلى الماضي وواقع الحاضر. كانت رائحة القهوة تفوح في الهواء، وتتخلل الأجواء أصوات السعال الجاف أو الضحك المتزايد، مما يوحي بأن المحادثات التي تجري في المقهى مثيرة وممتعة في ظل سحابة من الشك والحزن.

انسابت أنظاره بعيدًا نحو النافذة وما وراءها، كمن يراقب مشهدًا يتبلور أمام عينيه ثم ينحل. راح يتأمل حقيقة الأشياء، ويتأمل الأسئلة الكُبرى حول معنى الحياة والغرض منها. إلّا أنّ أفكارًا غيرَ منتهيةٍ كانت تتلاطم بعنف في ذهنه، بعضها يسبح في فلك الحيرة والتساؤل والألم، والبعض الآخر يتفكر في ماهية الحب والجمال، وما تبقى يدور حول الاغتراب والانتماء والمعنى والفناء والحرية. بعد دقائق قليلة، وجد نفسه محاصرًا بين جدران الشك والحقيقة والتشتت، كسفينة تائهة في بحر من القلق والحزن، مثقلا بشتى صنوف المعاناة.

مرَّت ساعة دون أن يعكِّر صفوَ أيوب شيءٌ، حتى لمح هيئة صديقه علي، المفكر الذي يكن له جل الاحترام والتقدير. عرف أيوب علي منذ أيام الدراسة في المدارس الحكومية، وكلاهما لم يعرفا اليأس بعد. أصبح علي كاتبًا وشاعرًا بارعًا ومؤرخًا ثنائي اللغة، في حين تحول أيوب إلى مترجم يستند في أسلوبه إلى أُسس الفلسفة والأخلاق والثقافة الكامنة وراء النص الأدبي. لم يكد أيوب يراه مقبلًا عليه وابتسامته البشوشة المعهودة تملأ وجهه المستدير، حتى استوى قائمًا، وقال باحترام بالغ: "أهلاً بالرجل النقي، باهر الحضور في حركة الثقافة العربية." مد علي إليه بكفِّ يده يُحيِّيه تحية المساء، ثم همس بصدق حقيقي: "اترك كل شيء وتابع كتابة الرواية." وأردف علي وهو يلاحظ ذبول روح أيوب وبداية انكسارها، قائلًا بنبرة رزينة: "أنا على يقين أنك الآن قادر على تحويل فكرة الرواية إلى حبكة عذبة فهي تُظهِر تماسكًا داخليًّا قويًّا ولا يمكن إلا أن تُعتبَر إرثَ مفكِّرٍ عظيمٍ بحق."

وجد أيوب نفسه مشتتًا بين الأحلام القديمة والتساؤلات الجديدة حول مكانته في العالم، واستمر في الإصرار على قراره بالابتعاد عن تطوير الرواية. فقد باتت الرواية خارج نطاق اهتماماته، بينما رأى علي في الرواية التي أطلعه أيوب عليها قبل أشهر قليلة إمكانية خلق عمل أدبي يتسم بالعمق والجاذبية، مشجعًا إياه بكلمات خارجة من القلب.

لم يكتف علي، المفكر الذي لا يحظى بالشهرة، وبادر أيوب بالقول: "لا تستعجل الحكم على الأمور، فأحيانًا لا تظهر الحقيقة إلا بعد انقضاء الزمن واستكمال دمج أدقّ ديناميكيات القصة تباعًا." ثم ألقى أيوب نظرة حزينة نحو الأفق عبر النافذة، وكأنه يحلق في فضاء الظلام الطاغي وخاطب صديقه علي بكلمات مستمدة من عقله اللاواعي: "أتذكر تمامًا ما قلته لي وأنا لا أزال يافعًا، مجتهدًا في الثانوية العامة... إن قوتنا الفطرية تدعونا لاستكشاف أعماقنا والبحث عن قيم الروح الإنسانية، مثل الأخلاق السامية وروح المغامرة والنزاهة والصبر والتضحية والشجاعة." ثم نهض يهم بمغادرة المقهى.

رفع علي يده بتأثر واضح وقال: "إلى أين؟"

رد أيوب كما لو كان رجلاً آليًا: "المعذرة... أشعر بالإعياء ويجب أن أغادر." ثم تابع وفكره غارق بتأمل عميق: "الحياة، يا صديقي، لا قيمة لها إلا إذا كنا قادرين على رؤية الجمال في الأشياء البسيطة."

بابتسامة تحمل تفهما كبيرا قال علي: "أحيانًا الأشياء البسيطة هي الأكثر قيمة. لكن، ماذا حدث؟ لماذا تبدو الآن بهذا الحزن؟ كلنا نخوض تلك التجارب المقدرة علينا في الحياة. لكن هل فكرت في قوتك الداخلية؟ يا صديقي، القوة ليست دائما في الفوز، بل في القدرة على الوقوف مجددًا بعد كل هزيمة. قلبك يبحث عن شيء خالد وغير محدود، أليس كذلك؟"

تراجع أيوب نحو مقعده بتأني، إلا أنه لم يجلس بل تسمر في مكانه، ثم قال: "قوتي؟! أنا ضائع بين أحلام قديمة وتساؤلات جديدة. لم يعد لدي القوة للتمييز بين هزائمي وانتصاراتي. لا أشعر بالاتحاد مع أي شيء في هذا العالم. ستقول انهارت أحلامي، أليس كذلك؟ وتعود لتحدثني عن قوتي؟! ولكن أين يمكنني العثور عليها؟"

بتأمل يكسوه التفاؤل، قال علي بحنان: "الجواب قد يكون في البحث داخلك، في اكتشاف قيم الروح الإنسانية." ثم استطرد بانفعال شديد وملحوظ، قائلاً: "لا تستعجل الحكم على الأمور، الحقيقة تظهر بعد مرور الوقت. دع الحياة تكمل تجميع دينامياتها وفقًا لخطاها."

قال أيوب بنبرة لا تخلو من النحيب الهامس: "ربما، ولكن الحياة تشعرني بالحيرة والشك." ثم نظر إلى النافذة باندهاش وأردف قائلاً: "كيف يمكن للأمل البقاء في ظل هذا الظلام؟"

رد علي بثقة حانية: "الأمل يولد من تحملنا للألم وقدرتنا على استكشاف أعماقنا. ابحث عن القوة في دواخلك، أيوب."

ابتعد أيوب عن الطاولة بخطوات ثقيلة، كأنه يحمل على كاهله وزر الحياة. ظلّ يتلوى في متاهات الظلمة، وعيناه تحملان عبء الألم الذي لا يمكن إخفاؤه. بينما علي، صديقه الوفي، بقي جالسًا يراقبه بعيون ممتلئة بالتفهم والقلق، يعلم أن أيوب يحمل على كتفيه ليس فقط وزر الحياة، بل وثقل الذكريات والهموم العميقة.

تأوه أيوب وهو يدفع بأقدامه نحو الشارع، وبعدما قطع مسافة بضع خطوات، اختار الجلوس على قارعة الطريق، كأنه أصيب بنوبة قوية من الحزن والألم بسبب فقدانه الفتاة التي لم يتسن له خطبتها، ورحلت عن عالمنا بحادث سير مؤلم.

مرت ساعة وهو جالس على رصيف الشارع، وفي عقله تتلاطم أفكار لا يمكن له أن يحللها وهو يحاول ويحاول. تزايدت معاناة أيوب وتفاقمت وهو جالس على الرصيف، واستفحل ألمه كمن يفاجأ بضربة قاسية على رأسه كالصاعقة. ولكنه يرى عصفورًا يحلق في السماء، فلا يملك إلا أن يرفع يده تحيةً واحترامًا لذاك الزائر المحلق وهو يتلاشى في أفق السماء.

بعد عودته بكل صمت إلى منزله، وهو تقريبا في حالة عدم وعي، بدأ ينزع ثيابه بحركاتٍ بطيئة، ثم اتجه إلى سريره وألقى رأسه على الوسادة ككائن يعاني من الإرهاق منذ سنين.

مرت عليه برهة وهو مشغول ومستغرق في مخيلته المشحونة المكتظَّة، التي تَفُوق سعة الجحيم الشاسع، حتى أُصِيب بنوبة من الهوس الخفيف أطاحت بصفاء ذهنه، ترافقها سرعة توارد الأفكار مع خيال خصب مفرط الحساسية. اسرع وتناول حبة مهدئ ثم أرخى رأسه على الوسادة.

خيل إليه أنه يشهد حلمًا يتَمثَّل أمام عينيه، وتحجر كالتمثال مكانه عندما لاح طيف خطيبته بظهوره السار أمامه. سمع صوتها الرخيم وهي تقول بنبرة أنعشت قلبه وأحيت روحه: "أنا فرحة للقائنا في الغد." اعتقد أيوب أنه فقد صوابه وضاعت آماله، وتردد بين الاستسلام للطبيعة المتناهية والزائلة والتمسك بالطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة.

لكن خطيبته الغارقة في البعد عادت وظهرت له في نومه وقالت أخيرًا بنبرة مطمئنة: "لا تسعى كي تجدني... لن تعثر عليَّ إلا إذا استكشفت ذاتك في غمرة الألم." ثم تابعت بثقة: "البحث عن الذات يكمن في خضم الألم، وكل تحدٍّ يمثل فُرصة جديدة لاكتساب المعرفة والنضوج مع تقدم الزمن. أيوب، لا تخشَ الألم، بل استثمره وتجاوزه، فسيكون هو الدافع الحقيقي لتحقيق إشراقةٍ جديدة في حياتك. ففي خضم الألم، ستجدني، وستجد نفسك."

أفاق أيوب في الصباح وأدرك أن رحلته للعثور على ذاته ستكون صعبة ومؤلمة. لكنه كان مصممًا على مواجهة تحدياته. لم يعد خائفًا من الألم، بل أصبح يراه الآن كفرصة للنمو والتغيير. وقرر أيوب العمل على استكمال كتابة روايته. كان يعرف أن الكتابة ستكون طريقة له لاستكشاف ذاته والتعبير عن حزنه.

***

عبد الله محمد الزعبي – كاتب ومترجم / الاردن

 

أتَوني بأشجـارٍ ظَليلٍ ضَلالُهُـا

يسيرُ بِمَهْواةٍ بعيدٍ خَيـالُهـا

*

وما كانتِ الأشجارُ إلّا كمِثلِ ما

تَظُنُّ بـأمواهٍ ويَأْتِيكَ آلُـهـا

*

فَتَحتُ شَبابيكي وكانتْ رئاتُهم

عَناكِبُ تستقوي رويدًا حِبالُها

*

كتبتُ بحبرٍ مِنْ دِمائي حروفَهم

وآوَيتُهُم روحي وغَنَّتْ دِلالُهـا

*

وآنَستُ نارًا أصطلي بعضَ دِفْئِها

فألفَيتُني يَـنمو بِقَلْبي اشتِعالُهـا

*

فلا تأمَنِ الأفعى يَخُنْكَ انْسِلالُها

فَمهما نَضَتْ جِلْدًا سَتبقى خِصالُها

*

عراقَكَ لا تغفَلْ ففي كُلِّ ضِحكةٍ

فِجـاجٌ تَلَوَّى شَرُّهـا وَوَبالُهـا

*

فَكُنْ صَخرةً تأبى ويَختالُ سِرُّهـا

وَتَضْحَكُ لو مَرّوا وفيهِمْ سُؤالُهـا

*

تَدورُ بِكَ الدُّنيا رَحًى مُستَديرَةً

يُشَتِّتُ نَجمَ الأمنياتِ اخْتِلالُها

*

كحَسنـاءِ قَصرٍ لفتَةً ثُمَّ تَنثَني

ويَعبَثُ في غَيمِ المَسَرّاتِ شالُها

*

وتُوشِكَ أن تَدنو ولكنَّ أمرَها

عَجيبٌ فأشباهُ الرِّجـالِ تَنالُهـا

*

غَريبًا تَرى نَفسًا بِنَفسٍ غزيرةً

أصَبْتَ، سِوى أنَّ الرّزايا عِيالُها

*

لذلكَ لا إلّاكَ فالذاتُ نَجوَةٌ

فأَثِّثْ بِكَ النَّجوى يَزِنْكَ اخْتِزالُها

*

حَنانَيكَ لا بَلواكَ بَلْوًى تَرُدُّها

ولكنَّهـا بَلوًى يَضيقُ احتِمالُها

*

ولَو كنتَ لا مَعنًى يُطَرِّيكَ بينَهم

لَما هُنْتَ لَو ضَرَّ السَّوَامَ  ابْتِلالُها

*

ولكنَّكَ الفردُ الذي فوقَ رأسِهِ

تَشُبُّ نجومٌ بالسَّمـاء اتِّصالُهـا

*

ولَو كنتَ ذا خَصْمٍ شريفٍ عَذَرتَهُ

وخاصَمتَ لكنْ لا وإذْ ما يَزالُهـا

*

عراقَكَ هل في الأرضِ نِدٌّ تَرُدُّهُ

وأنتَ لَهـا تـاجٌ وأنتَ عِقالُهـا

*

ولكِنَّهـا الدُّنيـا عَجيبٌ سِجالُهـا

أصيلٌ بهـا تَكبو وتَسمو بِغالُهـا

*

وتَزعُمُ فيهـا الخُنفُسـاءُ فُرُوسَةً

وتُوهِنُ عَزْمَ الأُسْدِ فيها جِعالُها

*

ولكنْ سأَلْتُ الروحَ واشْتَدَّ حالُها

وأَرعَدَ فيهـا سَهْلُهـا وجِبالُهـا

*

أُبُوَّةُ هذا الأرضِ مَنذا يَطالُهـا

مَسَلَّتُهـا مِـنّي وصَوتـي بِلالُهـا

*

فإنْ خانَ دَهرٌ أو تَهاوَتْ رِجالُهُ

فَإنَّ بِلادي حُـرَّةٌ ورِجالُهـا

***

إبراهيم مصطفى الحمد/ آب 2025

 

في غرفة الإنعاش،

كلّ شيءٍ يتنفّس بصوتٍ ليس له،

الآلات تهمس كأنّها تصوغُ تراتيل من حديد،

والأكسجين ينزلُ من سقفٍ غريب

كأنه وحيٌ موقّت.

*

هناك، حيث الحدُّ دقيقٌ كالسكين

بين الوجود والغياب،

كنتُ أُحاور مجهولاً لا ملامح له، يجلس عند طرف السرير،

قال لي،

هل الحياة سوى إستعارة متعبة؟

وهل الموت سوى إستراحة من المعنى؟

*

أجبته، وأنا أستمع لقلبي في شاشةٍ زرقاء،

الحياة قصيدةٌ لم تُكتمل،

والموت فاصلةٌ

تظنّ أنّها النقطة الأخيرة.

*

تسقط أنفاسي مثل أوراقٍ مبتلّة،

لكنّها تعود لتنهض،

كجنديّ يرفض توقيع الاستسلام.

أحسّ أنّ جسدي ليس لي،

إنّه مخطوطٌ مفتوحٌ

تكتبه يدٌ مجهولة .

*

في العتمة التي تحاول إغواء الضوء،

يتدلّى السؤال،

هل أعودُ لأكتبَ نفسي مرّةً أخرى،

أم أترك السطر فارغاً

وأمضي مع المجهول

إلى حيث لا تحتاج القصائد

إلى رئةٍ أو صوت؟

***

مجيدة محمدي

هذا الدمُ لي

وبقايا خمار امي

لي

وعكّاز أبي

لي

وحدي أتجشم عناء البقاء حيّاً

فلا ضلٍّ قريبٍ

لأحتمي

أو حتى صديقٍ لأرتمي .

هذا الدثارُ

ليس لي

وبقايا الخيمة

ليس لي

ولابقايا المكرفون

الملقى على قارعة الموتى

ولاسترة ذلك الصحافي الشهيد،

كان شاب مغموراً

كثير ما كان يتررد اسمه في أروقة الإعلام

وهل من يبحث عن الحقيقة اليوم؟!

وحدي أدافع عن أمتّهِ من الموتى

وحدي أدافع عن الثكالى

عن الأرامل عن الجياع

وحدي بين ركام المدينة واقفٌ

وأسأل عروبتي هل مات آخركم ؟!

أأرعنْ أم ديوثٌ من يحكمكم ...؟!

ولازلت وحدي أروّض نفسي الثكلى

فتأبى أن تطاوعني ..

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

في ظلال الذئاب

ضاع يوسف وإخوته

في الصحراء

كما في بلدي الجريح

على يد ساسته

الحمقى

اه يا وطني .

مهد الحضارات

ضاع الحلم فيك والأماني

بغداد ......

هذه الروح تحفة

الوجع والقداسة

لا زال الميتون

يقرعون طبول

إباحة الدماء

والنهر بقميصه يصرخ

يجمع الخلق من الرمال

وفيض السعادة

يسكن الليل بأرتياب

والنخل الباسق في الحزن

يشكو من فؤوس الطغاة

هي تلك السنين العجاف

وبلادي يا إطلالة الانبياء

في مقلتيك الشعر يزهو والكلمات

في مقاهيك ينبض الشعر والشعراء

والقهوة العربية والمطر المدرار

يروي قصة

الف ليلة وليلة

دموع العاشقين

في الأسماء

السعف يهمس في الرباب

والرحالة في قوافل المسافرين والطرقات

وطني أيها الحضن الكبير

رايتك مرة بلا جبابرة

تحوم من حولك

الأطياف والألوان

وهذا المحراث يجمعنا

في ضحكة الأماسي والحمامات

***

باقر طه الموسوي / العراق

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)

***

ما لهذي الذّنوبِ يا نفسُ قد سُدَّ

بها مِنكِ أبهرٌ ووريدُ

*

شَغَلَتْ منكِ كلَّ فعلٍ وقولٍ

فاشْتكاها قبلَ القريبِ البعيدُ

*

واشْتكاها لِمَنْ قرا بعدَ شكواكِ

لهُ منها والبكاءِ القصيدُ

*

واشْتكى مِنها من قرا وبكى حيْنَ

رأىْ ما يشيبُ منهُ الوليدُ

*

ما كفاكِ ما شابَ منها فأمسيْتِ

يُرى منكِ كلَّ يومٍ جديدُ

*

تسألينَ الرّحمنَ غفرانَهُ لَيلًاْ

ويأتيْ غدٌ ومعْهُ المزيدُ

*

فيكِ شرٌ لا يعرفُ ال "لا" لذنبٍ

مُستجدٍّ يلقاهُ وهْوَ سعيدُ

*

فيكِ خيرٌ ألزمتِهِ الدّارَ عمرًا

فخَلا عندَ اللهِ منهُ الرّصيدُ

*

شأنهُ شأنُ كلِّ خيرٍ أغاظ الـــ

شرَّ فعلًا بهمسِ ما لا يُريدُ

*

ولو الخيرُ آثرَ الصّمتَ فالشرُّ

لِمَن خارَ صمتَهُ لا يكيدُ

*

عجَبًا للنّفوسِ إذْ تؤثرُ الشرَّ

اتّقاءَ الحروبِ وهْوَ الوقودُ

*

تحتكِ النّارُ لمْ تُحسّي بها بعْدُ

وعنها غدًا يذوبُ الجليدُ

*

تنظرينَ المرآةَ صُبحًا فيبدو

الشرُّ والخيرُ من وراهُ بعيدُ

*

إنْ تعدَّى صفعتِهِ صفعةً من

بعدِها أمضىْ اليومَ وهْوَ فقيدُ

فإذا نلتِ أختَها لُمْتِ منْ

أوجَعْتهِ زعمًا أنّه لا يفيدُ

*

فيلامُ من لا تراهُ الشّهودُ

ويُزكّى منْ أنْكَرَتْهُ الوُعودُ

*

لا يردُّ الّذي افترى مِن شرورٍ

غيرُ خيرٍ بهِ الأمانُ يعُودُ

*

فمتى الخيرُ فيكِ يغلبُ شرًّا

طِبْتِ بيتًا لهُ وعنكِ يذودُ

*

يرفضُ السّلمَ والحلولَ مع الخيرِ

وعمّا بنىْ رُؤىً لا يَحيدُ

*

أم رضيتِ السّلامَ في ظلّ شرٍّ

ذاكَ سلمٌ قدِ ارْتضاهُ العبيدُ

*

سلمٌ اليومَ من وراهُ هلاكٌ

يرتضيهِ لكِ اللعينُ المَريدُ

*

أفلا تنصرينَ من نَصْرُه يو

مَ التّناديْ لكِ انتصارٌ أكيدُ!

*

فإذا عاصَ نصرُك الخيرَ عوْصًا

فصراعٌ معْهُ يذوبُ الحديدُ

*

كيْ يقرَّ الرّجاءُ بي إنْ رأى في

نفسهِ أنّ ذا لذاكَ نديدُ

*

كيْ أرانيْ يومًا أقولُ لذنبٍ

دقَّ بابيْ: أليومَ لا ..فهْوَ عيدُ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

في المساء،

تتثاءب المصابيح مثل قطط جائعة،

وتسأل الورقة البيضاء:

من سيكتب أسماء الغائبين؟

الحِبر يذوب في كأس الماء،

يتحوّل إلى دمعةٍ بلا ملامح،

تجري على الطاولة

وتترك أثراً من الملح.

*

في الممرّ،

الأحذية تصطف مثل شهداء صغار،

تنتظر أن ينهض أصحابها

ليذهبوا إلى المدرسة،

لكن الساعة معلقة على الجدار

تصرّ على تكرار لحظةٍ لا أحد فيها.

*

الريح التي مرّت على غزة

لم تترك سوى كومة من المفاتيح

تلمع في العتمة،

كما لو أن البيوت

انكمشت فجأة إلى جيوب غريبة.

المفاتيح تتناوب في الهمس:

"أين الأبواب؟"

لكن الجدران ذابت مثل خبزٍ في ماء.

*

أنا لا أرى موتاً،

بل غياباً يتكاثر مثل الظل،

يغطي الكراسي،

الأطباق،

الصور.

حتى السرير صار شجرة يابسة

تخفي جذورها في تراب بارد،

وتترك للريح

أن تعلّق الغطاء على غصنها الوحيد.

*

الخبر في الصحيفة

يشبه سكيناً بلا قبضة،

يطير فوق الطاولة

ويقطع صمت المطبخ إلى نصفين.

الخبز لا يُؤكل،

يُترك ليشيخ في السلة،

كما لو أنه يعرف أن الأفواه

لن تعود.

*

العائلة برمتها

لم تُمحَ من السجل المدني فحسب،

بل من المِرآة أيضاً،

من رائحة القهوة،

من الزيت  ،

من الزعتر ،

من صدى الخطوات في الفجر.

كأنهم لم يولدوا أبداً،

كأن اللغة نفسَها

تراجعت خطوةً إلى الوراء،

وتخلّت عن أسمائهم.

*

أنا أكتب

لأُبقي ظلهم حيّاً على الجدار.

أكتب لأمنح الكرسي دماً جديداً،

وللأرض قلباً ينبض تحت الركام.

لكن الكلمات تتناثر،

تبحث عن أجسادٍ تسكنها،

فتنام على السطر

كما تنام الطيور المهاجرة

على أسلاك كهرباء ميتة.

2

في زاوية الغرفة

ما زالت حقيبة المدرسة مفتوحة،

تخرج منها رائحة طباشير،

وممحاة صغيرة

تتذكر أصابع الطفلة التي كانت تمسح

الخطأ بحذرٍ،

كما لو أنها تمحو الغبار عن قمرٍ هشّ.

*

الملاعق في المطبخ

تحاور الصمت.

كل واحدةٍ تنعكس فيها صورة وجهٍ غائب،

وجوهٌ تتقاطع ثم تختفي،

كأن الملاعق مرايا صغيرة

ابتلعتها النار.

*

في الخارج،

الأشجار لم تعد تهتز بالريح،

بل بأسماء مجهولة

تتدلّى من أغصانها مثل ثمار يابسة.

الطيور تحاول نطقها،

لكن أصواتها تتكسر

وتسقط مثل زجاجٍ قديم.

*

الليل يقترب

وفي جيبه خريطةٌ سوداء،

كل خطٍّ عليها نهرٌ بلا ماء،

كل نقطةٍ مدينةٌ مطفأة.

حتى النجوم لا تضيء،

بل تحترق ببطء

كما لو أنها تكتب وصيةً أخيرة

على جلد السماء.

*

الخبر الذي عبر شاشة التلفاز

كان يمشي على قدمين،

يدخل البيوت

ويجلس على الكراسي الخالية.

صوته يشبه حذاءً عسكرياً

يدوس زهرةً نائمة.

وكلما أعاد المذيع الجملة،

كان الجدار يتشقّق أكثر،

حتى صار جداراً بلا بيت.

*

أحاول أن أضع اسماً على الصفحة،

لكن القلم يرفض.

أحاول أن أكتب "أمي"،

فتنطفئ الحروف.

أكتب "أخي"،

فتتحول الكلمة إلى غبار.

كأن اللغة نفسها

أدركت أن ما انمحى من السجل المدني

انمحى من حروفها أيضاً.

*

في النهاية،

يبقى فقط كرسيٌ مكسور،

مزهرية بلا ماء،

وبابٌ مغلق

يُفتح ويُغلق وحده،

كما لو أن العائلة برمتها عادت في هيئة هواء،

تطرق المكان ولا تدخل.

3

الزمن يجلس على الكرسي الوحيد

ويعدّ الساعات بأصابع من غبار.

يضع أمامه ساعةً ميتة،

ويبتسم وهو يراقب عقربها

يُصرّان على الدوران في الفراغ.

في دفاتر الأحوال المدنية

الأسماء ليست إلا ظلالاً،

تتحرك مثل سمكٍ بلا ماء،

تفتح أفواهها بصمت

كأنها تطلب هواءً آخر

غير هذا الهواء المشبع بالحديد.

*

أسمع المدينة تتنفس لكنها تتنفس بصعوبة،

كأن رئتيها مليئتان بالرماد.

كل حجرٍ فيها ينادي بحرفٍ ناقص،

وكل شارعٍ يردد سؤالاً لا جواب له:

من يكتب العائلة من جديد؟ .

*

أمسكت بمرآة صغيرة،

رأيت وجهاً لا أعرفه.

ربما هو وجهي،

وربما وجه رجلٍ آخر فقد اسمه.

*

في الحروب،

تصبح الملامح مرايا متشظية،

وكل عابرٍ يحمل أكثر من وجه،

أو لا يحمل وجهاً أبداً.

*

الغياب ليس موتاً،

إنه سماء بلا نجوم،

بيتٌ بلا جدارٍ يقيه من الريح.

الغياب يضع يده على كتفي

ويقول:

"أنا أخوك الجديد،لن تفلت مني."

*

أصغي إلى خطواتٍ لم تعد موجودة.

ربما هي خطوات الذاكرة،

تعود إلى البيت كل مساء لتشعل المصباح

ثم تختفي.

وربما هي فقط أوهام تتجول في الممرات،

تطرق الباب ولا تنتظر جواباً.

*

في النهاية،

أكتشف أن العائلة تسكنني الآن،

كصوتٍ يتردّد بين أضلعي،

كرائحة خبزٍ قديمٍ لا تزال معلقة في الهواء.

السجل المدني أوراقٌ يمكن تمزيقها،

لكن الذاكرة

مدينة لا تسقط أبداً،

مهما اشتد القصف.

4

السماء تميل برأسها كما تفعل أمّ متعبة،

تبحث في الغيوم عن أسماءٍ ضاعت،

لكن المطر ينزل بلا حروف،

مجرّد ماءٍ يطرق الأرض كأنه يكتب بالسرّ

رسالةً لا أحد يفكّ شفرتها.

*

الأرض تستيقظ من نومها الثقيل،

تفتح عينيها على حفرٍ سوداء،

وتسأل:

أين أبنائي؟

ثم تصمت،

تسمح للأشجار أن تتحدث مكانها،

لكن الأشجار مشغولة بحمل جثثٍ من الضوء

على أغصانها اليابسة.

*

القمر فوق غزة لا يضيء،

بل يتدلّى مثل مصباحٍ مكسور

في سقف غرفةٍ خالية.

*

العائلة في غيابها،

تحوّلت إلى مجرّةٍ صغيرة تسبح في داخلي.

كل نجمٍ فيها اسم،

كل مدارٍ خطوة،

كل شهابٍ ذكرى.

أرفع يدي

فأشعر أنني ألمَسُهُمْ،

لكن أصابعي تعود فارغة،

كما لو أن الكون نفسه

يرفض أن يعيد ما أخذه.

*

الحرب ليست سوى حيوانٍ جائع،

يفتح فمه على مدنٍ كاملة ويبتلعها دفعةً واحدة.

ثم يجلس لاهثاً،

يمضغ الأسماء ببطء،

ويترك عظامها تتناثر في نشرات الأخبار.

*

أغمض عينيّ،

أرى القافلة تمشي في الصحراء،

كل جملٍ يحمل بيتاً،

كل خيمةٍ تحمل قلباً.

لكن الريح تغيّر الطريق،

فتتحول القافلة إلى غبارٍ

يتوزع على الجهات الأربع.

أفتح عينيّ،

فلا أجد سوى شاشةٍ صغيرة

تكرر العبارة ذاتها:

"العائلة برمتها مسحت من السجل المدني."

*

أعرف الآن أن الغياب لغةٌ أخرى للوجود.

الأرض تكتب بها رسائلها،

السماء تعيد صياغتها،

والإنسان يقرأها بصمتٍ في قلبه المرتجف.

كل عائلةٍ تُمحى من السجل

تصبح قصيدةً مخفية في كتابٍ كوني،

لا يقرؤه أحد

إلا الأرواح التي لم تعد تحتاج إلى أوراق رسمية.

5

الزمن لا يقف، بل يتعثر مثل شيخٍ ضرير،

يمد عصاه على الطرقات ولا يجد مَن يعيده إلى بيته.

كل ثانيةٍ تمرّ تترك وراءها حجراً بارداً

على قبرٍ لم يُكتب عليه اسم.

*

الذاكرة،

هي الأخرى،

تتحوّل إلى طائرٍ بلا عش،

تحطّ على غصنٍ مكسور،

ثم تطير فجأة

لتختفي في فضاءٍ لا يملك حدوداً.

أحياناً تعود

في صورة رائحة خبز،

أو ضحكة طفلٍ لم يكتمل،

لكنها سرعان ما تتبخر،

كأنها لم تكن سوى خدعةٍ صغيرة

من يد الغياب.

*

أفتح السجل القديم،

لا أجد إلا فراغاً منظّماً،

سطوراً مرتبة بعناية لكن بلا أسماء.

أكاد أسمع الورق يتنهّد،

يقول لي:

"أنا أيضاً يتيم، أحتاج إلى حروفٍ تعانقني."

*

أجلس أمام النافذة،

أراقب الغروب يذوب في البحر.

الشمس تبدو مثل جرحٍ ذهبي يحاول أن يلتئم ببطء.

أفكر:

هل للغياب لون؟

ربما هو هذا اللون البرتقالي

الذي يتردد بين الاحتراق والانطفاء.

*

الليل يقترب،

وفي جيبه مفاتيح بلا أبواب.

الليل يعرف أنني وحيد،

فيترك لي واحدة منها،

كإشارةٍ غامضة

أن الأبواب التي سقطت

يمكن أن تُفتح من جديد،

لكن ليس هنا،

ولا الآن.

*

في الصمت،

أسمع همساً عميقاً،

ليس من الأرض ولا من السماء،

بل من قلب الزمن نفسه.

يقول:

"كل ما يُمحى من دفاتركم

ينقش على جدارٍ آخر،

جدارٍ لا تراه العيون،

لكن الأرواح تحفظه."

*

هكذا،

أدرك أن العائلة لم تُمحَ،

بل عادت إلى صيغةٍ أخرى:

موجة تمشي في البحر،

ريح تمرّ بين النوافذ،

ظلّ يرافقني وأنا أعبر الشارع.

العائلة لا تُسجَّل في الأوراق،

بل في هذا الارتجاف العميق

الذي يسكن صدري

كلما تذكرت.

***

مروان ياسين الدليمي

القسم الأول: مدن الشمال

هكذا كان الأمر حسبما نشرته إحدى الصحف الأجنبية

شخص ما

في مكان ما

يبني عنكبوت في إحدى أذنيه بيتا

والحق إني عشت حالة رعب قبل أن يجذبني النوم إليه. في يقظتي رأيت خرابا:

بيوتا تحترق

أشلاء

ركام

وفي أحد مشاهد اليوتوب وقع بصري على جنديّ إسرائيليّ يطرق بوابة عريضة لبيت متهدم من جراء غارة في غزة. أظنه كان مرتبكا أو فقد أعصابه.. كان هناك ركام خلف البوابة والجندي يدقّ بقبضته. دفعني الخوف والملل وكثير من الحنق إلى أن أعرض عن المشاهد المتحركة أمامي وأنصرف إلى الصحف الأجنبية، والمذياع، وربما أنساني خبر العنكبوت في تلك الصحيفة هول الحرب المتحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.

لكنني مع ذلك تمتعت بنوم مذهل بعد كل ما شاهدت وقرأت:

ليست هناك من كوابيس اجتاحت نومي سوى بعض حركة في أذني..

الأذن اليمنى بالضبط....

قيل إن الأنبياء يأتيهم الوحي من الأذن اليمنى والشياطين تنفث هلوستها للسحرة والساحرات باليسرى.. أعرف نفسي لست شيطانا ولا نبيا. أذني الآن ثقيلة خَدرة.. نعومة غير معهودة وهناك شئ ما.

نهضت من فراشي متثاقلا، ووقفت وقفة جانبية أمام مرآة خزانة الملابس الطويلة:

دهشة

تأمل

صدمة

شبكة على بوابة أذني وسطها عنكبوت يتربص بعينيه الجاحظتين

إذن كانت الصحيفة تكتب عني.

لا أحد سواي

لفت نظري قبل النوم مشهدان أحدهما منظر الجندي الذي يقرع بوابة بيت أصبح أنقاضا، وخبر قرأته.. رؤيا ثابتة وأخرى متحرّكة.. ما أبصرت من عنف وماقرأت نصفه تحقق.. فأين أدرك النّصف الآخر؟

كنت أخشى أن يكون العنكبوت ساما، يلدغني إذا ما أهجته بيدي. كل شئ أصبح الآن واضحا: عليّ أن أضع سماعة الهاتف عند الأذن اليسرى لأرد على أية مكالمة وأتعامل بالطريقة ذاتها مع الهاتف النقال…

لكن عليّ أن أطمئن... عرفت أنه قد يبقى يوما أو يومين. رحت أراقب أذني عبر المرآة بيت جميل.. نت متقن الصنع يربض وسطه عنكبوت يظلّ يطل من موقعه على العالم بعينين مذهلتين. خلت أن نصفه عينان، وقد اتعبني الوقوف الجانبي أمام المرآة والنظر إلى أذني فيما يشبه حالة الشزر، فلجأت إلى المرآة الصغيرة التي أمسكها أمام أذني وأحركها نحو زاوية أقرب إلى عيني. فأتقين أن هتاك بقايا بعوضة أو جناج ذبابة اصطادها ضيف أذني الطفولي.

صيق سيغادر

لن أزعجه

كنت أتحاشى النوم على جانبي الأيمن، لو كانت أمي حية لقدمت لي تفسيرا أرتاح له. كانت تقول إن العنكبوت خير فهو الذي بنى بيته على باب الغار ليوهم المشركين ألا أحد فيه في حين كان النبيّ ورفيقه داخله.. أووه معان كثيرة كان يمكن أن أستوحيها من ضيف لم أتوقعه فيما لو أردت.

إذهب إلى الشارع

أتبضع

أقابل أصدقاء

حياة عادية

ولا أظنّ أحدا التفت إلى أذني. ولم تعد قنوات التواصل الاجتماعي تظهر مشهد الجندي الإسرائيلي الذي دق عدة دقات على بوابة بيت فلسطينيّ تهاوى تحت القصف. لم يغادر العنكبوت ومن خلال المرايا رأيت بقايا ضحاياه. زرت الطبيبة مرة أخرى فطمأنتني أنه سيغادر، ولا ضرر مادمت أمارس عملي وأعيش حياة طبيعية. ولكي أتجاهل أروح أتابع القنوات.

أرى جيدا

أسمع بكل وضوح وهو اليوم الرابع أو الخامس والثمانون للحرب

بين حين وآخر ألجأ للمرآة فأرى ضيفي القبيح في مكانه. أحيانا أشعر بهزات بيته فأعرف أنه اصطاد حشرة ما

ومرآتي اليدويّة التي أزوغ ببصري معها تساعدني على أن أجد في بيت هش مشادٍ في أذني بعض بقايا الحشرات.

هل أصبحت منفى للحشرات الميتة؟

أم

مزبلة ؟

مرّ أكثر من شهرين مع ذلك مازلت أواصل مشاهدة الأخبار.. ثم انام على جنبي الأيسر في انتظار أيهما يغادر قبل الآخر الحرب أم العنكبوت؟

2

لم أشعر بقيح في أذني

ولا خدوش...

والحرب التي ربطتني بالعنكبوت أوّل يوم للجؤه في صيوان أذني لمّا تنته بعد.

قد تكون هي المصادفة.

من قبل لم أكن أراجع الطبيب

لا أتذكّر ماعدا بعض اللقاحات التي عملها لي أبواي بعد ولادتي وبقيت محفوظة في ورقة قديمة..

ويبدو أنني لا أشكو من علّة ما.

حتّى طبيب التلاميذ الذي يزور مدرستنا أبدى إعجابه بصحّتي، أمّي وضعت الملح في جيبي خوفا من الحسد، والعين الحارقة، طبيب الأسنان تحايلت عليه، كانت الطبابة الحكومية جنب المدرسة، بين فترة وأخرى يأتي المدير يسأل إن كان هنا من يشكو من وجع في أسنانه، ثلاثة تلاميذ من صفنا رفعوا أيديهم، فجاء الفراش وصحبنا إلى العيادة، لا أدري. اغتنمناها فرصة لنزوغ من المدرسة بعض الوقت، وحين جاء دوري وضع الطبيب الآلة الكاشفة أمام فمي، وهتف بلهجة حادة: كذّاب إذا فعلتها مرّة أخرى سأقلع جميع أسنانك.. الحكمة نفسها ألقاها على مسمع الجميع.. دخلنا الصف وتنفسنا الصعداء حين علمنا أنّ المدير غادر إلى مديرية التربية في شغل.

نجونا من عقاب آخر...

منذ جلوسي على المقعد عند طبيب الأسنان لم أراجع طبيبا

لكن

هذه المرة

تختلف تماما، قالت لي الطبيبة: من الأفضل أن تدعه وشأنه فهو لا يقدر إن يتوغل داخل الأذن وإلا ستقتله مادة الصمغ المرة، وعليك أن تضع في الحسبان على الأقلّ أن يكون من النوع السام فلا تحرك يدك نحوه (ذكرّني تحذيرها بشريط قديم لممثل لم أعد أذكر اسمه انتبه وهو مستلق على ظهره لعنكبوت حطّ على إحدى يديه.. ظلّ في حالة صنمية وكان يلصق إصبعه الأوسط بإبهابه لينقر بحركة مفاجئة سريعة العنكبوا فيبعده)

وقد تجرّأت على أن أمد يدي إلى أذني فلم يتحرّك العنكبوت ولم تتمزق الشبكة بل تساقطت على راحة يدي بقايا بعض الحشرات من كسر أجنحة وأرجل..

أتغاضى عن أن أكون حوضا للنفايات.

بإمكاني أن أرفع يدي وأهشّم الشبكة، سيضطر العنكبوت إمّا للولوج في أذني فيموت من مرارة الصمغ، أو يقفز إلى الخارج، فأسكت عنه مؤقتا لأنّني أرغب في أن أعيش هذه التجربة الجديدة.

أعاشرها

أحياها من دون ملل.

في الوقت نفسه أشعر أنّ عليّ أن أتجاوز الماضي فأراجع الطبيب..

أتابع وضع أذني

فأتأكّد...

مرّة أخرى.. زرت طبيبا جراحا ذا خبرة بالأورام والتشوّهات. لا أظنّ الوضع الجديد أثّر في سمعي، فمازلت أميّز الأصوات وأسمع أخبار الحرب بشكل يوميّ، هناك جنود يقتلون وضحايا يسقطون، ومثلما بنى العنكبوت بيته في أذني بداية الحرب أظنّه سيغادرها إذا توقفت الحرب.

أعود أتساءل أيّة حرب؟

غزة

أم حرب إيران وإسرائيل.

لو كانت الحرب هي الواعز افذي حرّك العنكبوت نحوي لكان يمكن أن يفعل ذلك خلال أيّة حرب سابقة.. في الحرب العراقية الإيرانيّة.. كنت شابا.. وقبلها في عِزِّ ّصباي خلال حرب الايام الستة بين العرب وإسرائيل أو الحرب الأهليّة السورية.. لابدّ أن يكون هناك شئ ما أكبر من الحروب، ولكي أتأكّد من شكوكي، وقفت أمام المرآة الطويلة التي تزين خزانة ملابسي، لففت رأسي باتجاه الشمال وزغت بعينيّ نحو أذني.. حشرة ما تقترب من رأسي.. العنكبوت يقبع في الجهة البعيدة من الشبكة.

أراقب بحذر

يراقب ويتأهّب

المرآة تقول إنّ حشرة ما ذبابة أو دبّور تقترب من أذني تدور حول الصّيوان

تلفّ

أسمع بعض الأزيز

لا أستطيع أن أمدّ طرف عيني طويلا باتجاه أذني

أحس بحركة قوية

خرخشة

قد أظنّها حربا

دقيقة

لخظات

ويعود السكون من جديد

أريد أن أعرف شيئا ما عن الحالة الغريبة فالعنكبوت يجعلني أزور الطبيب للمرّة الثانية،

لا أدري

أحس ببعض الذبذبات والحركة في أذني

قد تكون هناك بعض الهزات الخفيفة أعرف منها أن المعارك كانت بين ضيفي وحشرات صغيرة مثل الذباب والبعوض والبرغش بعكس المعركة الأخيرة التي سمعت هزاتها بوضوح.

مع كل التوقعات أردت أن أحوز على بعض المعلومات قبل زيارتي الثانية للطبيب الجراح.

كتبت في الشبكة العنكبوتيّة العنكبوت في الأذن:

جاءني الجواب:

لبضعة أيّام لكن ليس أكثر من أسبوع، قناة السمع ليست بيئة مثاليّة، فهي دافئة ورطبة، تفتقر إلى الغذاء والمساحة الكافية، أضف إلى ذلك أن نقص الأوكسجين والحركات الطبيعية للجسم يجعلان من الصعب البقاء، في معظم الحالات تدخل العنكبوت عن طريق الخطأ، أثناء نومنا، بحثا عن مأوى مؤقت، إذا لم تخرج من تلقاء نفسهافقد تسبب إزعاجا أو ضوضاء أو حكة أو بعض الألم).

أظنّ أنّ هناك بعض المبالغة في الجواب على سؤالي، نعم بعض الإزعاج لكنني بعد مرور أسبوع أستطعت التكيّف مع الوضع الجديد.

والأغرب أن العنكبوت لم يمت في المساحة الضيقة.

3

قبل أن أذهب إلى الطبيب سبقني أمر آخر.

كنت صممت أن أزور الجراح الشهير كي أزيح وساوس راودتني حول إذني زادتها شهرتي التي لفتت الانتباه. في البدء ازداد فضول الناس وأخذ يزداد، أصبحت ظاهرة غريبة في البلد.، وفي اللحظة التي هممت أن أغادر البيت إلى الجراح، واجهتني شخص ما.. أنبق الملبس. واسع الابتسامة:

لوح لي ببطاقة في يده …

رجل أمن، وأشار لي بأصبعه أن اصمت...

منذ قدومي لهذا البلد القابع في الشمال لم يعترضني أيّ من رجال الأمن

عاملني باحترام طوال إل صحبىته لي. قال إنّها إجراءات لا بدّ منها، وحولني إلى رجل أعلى منه، كهل نحيف، أبيض الملامح بصفرة باهتة. استقبلني بلطف، تطلع في أذني، وأشار بيده إلى الشخص الذي أوصلني، هزّ الثاني رأسه وحضر اثنان. بإشارة من الكبير فخرجت معهما، كتب لي أحدهما على ورقة:

اصمت لو سمحت.. نأمرك بالصمت

شعرت بدبيب الشبكة، وحركة العنكبوت، دقائق ثمّ سكن كلّ شئ

تركني الرجلان الضخمان عند بعض الأجهزة وحضر آخرون... ثلاثة.. استداروا نحو أذني، سلطوا عليها بعض الأجهزة... شعرت يدف ءوبرودة، وأحسست بحركة الشبكة...

اهتزّت هزّات عنيفة أشبه باهتزازها من ضخيّة كبيرة

دبّور... خنفساء..

ثمّ سكنت

عندئذ عدت مع الإثنين الضخمين...

الرجل الكبير يأمرني بالجلوس، يكسر الصمت:

- كنّا نشتبه في أنها لعبة ألكترونية زرعتها في أذنك جهة ما... فأعرضنا عن الكلام حتّى قطعنا الشكّ باليقين.

ياسيدي لو كان هناك استهداف ما لاختاروا رجلا مهما يحتل منصبا... فابتسم الرجل للمرة الأولى:

- علينا أن نشكّ في البدء

أهناك من شئ يخصني؟

- أبدا تستطيع الانصراف

فنهضت متسائلا:

- هل تقترح عليّ إزالته؟

فعاد إلى سيرته الجادة:

- تلك مسألة تخصّ الطبيب (والتفت إليّ قبل أن أخطو خارج مكتبه): قد نحتاج اليك!

غادرت مبنى التحقيق وأنا مطمئن إلى أنّ العنكبوت في أذني ليس روبوتا زرعته شركة أو دولة لغاية ما، والحق لم يخطر على بالي الأمر منذ رأيته يغزوني.. شككت في أنّه روبوت ساعة رأيت المحققين يتحدثون بالإشارة، وها أنا أخرج من دائرة التحقيق وفي أذني كائن حيّ.

لم أتردد

مباشرة

قصدت عيادة الطبيب الجراح الشهير. كان كهلا في الستّين من عمره. نهض مرحبا بقسمات باردة، تمعن في أذنيّ كليهما، بعينيه المجرّدتين، وقف برهة عند كلّ أذن ثمّ توقّف أمام صاحبة العنكبوت، مسك أعلاها برفق وقرب منها عدسة تكبير الرؤيا. سألني ياستغراب:

- منذ متى احتل أذنك؟

- قرابة شهر أو أقلّ

- وماذا كنت تفعل.

- ظننته يبقى بضع دقائق أو ساعات ويغادر!

- نعم!

- ثمّ طابت لي اللعبة..

- لعبة؟

- نعم؟

- بالتفصيل لو سمحت، فكلّ حرف تقوله بنفع الطبيب وينفعك!

- مثلما ألتذ بمشاهدة مباراة في كرة القدم أو مراقبة مسرحيّة.. راودتني فكرة أن أعايش وجود العنكبوت في أذني، وأستمتع لضجيج الحشرات فأصبح معه طرفا في اللعبة.

- لقد لفت ظري شئ مختلف تماما...

خطر؟

- أبدا لا

لكن ما هو الشئ المثير.

- العنكبوت حين تبني بيتها على الأرض تستقرّ في وسط الشّبكة، أما حين يصحبها رواد الفضاء ليجروا عليها التجارب فأنها بعد أن تنسج شبكتها فإنّها تستقرّ في أعلاها إن سلوكها في إطار الجاذبية الأرضية يختلف عما هي عليه في الفضاء.

- وماهو السر

- لا أعرف؟أما ما رأياته فإنّ العنكبوت في أذنك أعلى الشبكة . !

- بغض النظر عن الأرض والجاذبية إنّي أندهش لم اختارني العنكبوت من دون خلق الله؟

- لأنك تسمع أكثر مما ترى ربما لا تدري أنك في عصر يرى أكثر مما يسمع!

بعد فترة صمت:

- ماذا لو غيرت رأيي ذات يوم وطردت العنكبوت؟ هل هناك من نتائج تضرّ؟

- لن تقدر إنه أصبح جزءا من أذنك. التحم بها وأصبح منك. هذه هي الطبيعة بدأت تتحرك نحونا بعدما كنا نتحرك نحوها.

صدمة مفاجأة

شعور بالألم يجتاح جسدي:

- سيدي لا أخفيك سرا إنه الفضول ولا أخفي أني زرت طبيبة المركز الصحي فطمأنتنتي وكان أبعد احتمال أنّه إما يغادر أو يموت!

- لكنه استعصى وأصبح جزءا منك!

أدركت أنّ الوقت انتهى ولاشئ يمكن أن أقوله، وليس عنده من شئ فنهضت وشدّ على يدي مصافحا:

- عليك أن تسمع بأذن واحدة وتتقبل الوضع الجديد برحابة صدر، وأتوقّع أنّك ترفض قبول بعض الأمور الآن وسوف تسعى إليها في المستقبل.

- أهناك مانع أن تذكرها لي الآن.

- بكل صراحة، الطبيب الجراح لا يخدعك إذا نصحك أن تذهب إلى طبيب نفساني.

- ثق سيدي أني سأختصر الزمن وأسعى منذ الغد لما نصحتني به.

4

لا أشكّ أنّ هناك شيئا غير عادي فلم أرفض زيارة الطبيب النفساني بحجة أن أكون مشبوها بالقلق والجنون، .. حالتي تختلف تماما، فمن يرفض يعان من إحساس داخلي، أما حالتي فتتلخّص بشئ خارجيّ محسوس بعيد عنّي كلّ البعدغزا جسدي فتصوّرته لعبة، وإذا به يصبح جزءا منّي، فلأكن جريئا... لأكن صريحا لا لأعرف نفسي فقط بل الشئ الذي داخلني وفي أسوأ الاحتمالات: هل يمكن لأشياء أخرى لا تخصّ الحروب والعنف تجتاحني في المستقبل؟

الطبيب الشاب الوسيم بعد حديث قصير عن اسمي، وعملي، والتحقق من حال أذني، وبعد المرور على رأي طبيبة الصحة والطبيب الجراح، أخذ يعاين بدقة أذنيّ كلتيهما السليمة وذات العنكبوت، تساءل كأنّه يحدث طفلا:

- إذا حطت ذبابة على أنفك ماذا تفعل؟

أجبت بتقزز:

أنشها.

- أو بعوضة.

- ماذا يادكتور لست طفلا

فقاطعني:

- حسنا تلك هي الخطوة الصحيحة، أريد أن أعيدك إلى زمن الطفولة، زمن ماقبل الحروب، أيام اللعب.

صمتُّ مقتنعا، وأردف:

- يمكنك الآن أن تسترخي على أريكة الفحص.

أطفأ نور الغرفة وسحب الستارة فتحققت عتمة سرعان ماشتّتها نور أزرق دوار اجتاحت دوائره المتلاحقة السقف والفراش:

- استرح.. استرح.. استرخ

- نعم

أشعر بأزيز ناعم يشبه الموسيقى قادما من بعيد:

- هل كانت لك علاقة بالحيوانات؟

- الصغار في سني يربون القطط والحمام وبعضنا يصطاد العصافير والضفادع مجرد اللهو أو نطارد الكلاب بالحجارة!

- ربيتم في بيتكم كلبا أو قطة؟

- كلا

- والحشرات؟

أكره البعوض الذي يهتاج في الصيف والذباب.

ألا تحب الحشرات؟

أحب الفراشات.

والعناكب؟

لا أحبها ولا أكرهها يقول الناس إنها تخلصنا من الحشرات.

وبعد هل تتذكر ملامح أخرى؟

فاستسلمت للصمت برهة ونطقت:

- معلم درس الأحياء طلب من التلاميذ ذات يوم أن يأتي كل منا بحشرة، بعضنا جمع ذبابا. والآخر صراصير، أو اليعاسيب وأنا جمعت أكثر من عشرين فراشة حية.. كنت مثل الآخرين أمسكها حية.

سألني باهتمام:

وصفتها حينذاك ولا أذكر ماذا كتبت !

هل أخذتها حية إلى المدرسة؟

- حملتها داخل حقيبتي في صندوق وعندما فتحت الحقيبة وجدتها ميتة فرفعتها بملقط ووضعتها على المنضدة!

- من منكم جلي عناكب؟

- أحد التلاميذ لا أذكر اسمه!

- المعلم أخطأ كان يجب ألا يقبل من جلب عناكب... العنكبوت ليس حشرة الحشرات لها ستة أرجل و العناكب ثمانية. ؟

- هذا ما لا أعرفه إلّا منك!

- لا بأس.. لحظة عابرة.. تذكر.. في مكان ما غابة.. طريق.. منزل قديم.. لقاء طالت مدته.

قل لعل ماتكشف عنه ينفع.

إنّه يوم التوصية ياسيدي كنت أبصق على العنكبوت لم أقتله... لم أدمّر بيته أو أكون عنيفا مثلما يفعله الأطفال والصبيان مع الضفادع والوزغ ذلك اليوم عدتا إلى لعبة الطفولة لا أنكر أني كنت أبصق على شبكتها فتهتز لتظنها حشرة وقعت. أبصق برفق لئلا أهشّم الشبكة.. ولعلها تلحس قطرة بصاقي ، ذلك اليوم، انتظرت الوظيفة بفارغ الصمت، وحاولت قتل الوقت باللهو مع العنكبوت. أقسم أنّي جعلته وسيلة للفتك. بصقت عليه.

كيف؟

تحدثت من دون توقف والموسيقى اللذيذة تلاحقني:

5

التوصية

بعد جهد حصلت على توصية إلى السيد المدير الذي قيل لي إنّه يمكن أن يجد لي عملا في دائرته. حملت بطاقة التوصية، وقصدت العنوان. كنت أواجه، بعد دقائق موظف الاستعلامات الذي قال لي إنّ سيادته يأتي بعد ساعة.

ساعة من الانتظار القاتل تجعلني أفكر بوسيلة لقضاء الوقت. اتجهت إلى فسحة من النبات والحشائش عند الرصيف المقابل، وارتميت على أحد المقاعد الخشبيّة أحاول قتل الوقت بأيّة صورة كانت.

الوقت بدا مملا، ورتابة المكان جعلتني أهمّ بالعودة من حيث أتيت لولا حاجتي للوظيفة. لم يكن هناك من شيء يبعث في نفسي المرح سوى بيت عنكبوت يجثم بالقرب منّي. دائرة من الخيوط الرفيعة الرقيقة تتأرجح من الإعياء تحت هبّات النسيم بين جذع شجرة يوكالبتوس وحافة المقعد الخشبي. كان العنكبوت يربض في إحدى الدوائر البعيدة !

تذكرت أني، وأنا طفل، كنت ألعب معه. أخدعه. هكذا تصوّرت. والآن أرى الزمن حيوانا غير أليف ربما لعبي مع العنكبوت ذي العينين الخشنتين ينفعني في ترويضه. كنت أخدع صديقي القديم. أقترب منه بحذر ثمّ أرشق رشقة خفيفة من البصاق على حافة النسيج. ينتاثر الرذاذ، على أطراف الدائرة، ويهتزّ الببيت، فيتحفّز العنكبوت. ينتفض من سكونه، ويندفع بحماسه المعهود إلى رقعة البصاق الكبيرة، فأروح أقهقه ساخرا منه...

الآن لايجدر بي وأنا في هذه السنّ، أن ألعب مع العنكبوت لعبة أخرى. والدتي قالت ذات يوم إنّها من الألعاب القذرة. وأرى أنّها على حقّ، فما يحق لي من باب الذوق في هذه السنّ أن أعود إلى مشاكسات الطفولة.

رحت أبحث عن لعبة جديدة، كسرت غصنا تدلّى من شجرة يوكالبتوس، وبدأت أطارد الحشرات. وقع بصري على حشرة تجثم فوق ورقة آس، وفي لمح البصر هويت بالغصن عليها، ثمّ التقطتها من جناحها بين إصبعيّ، وتسللت بخفة وحذر إلى بيت العنكبوت، وصوّبتها نحوه....

كنت أقف على بعد خطوة أراقب ماذا يحدث. استقرت الحشرة، واهتزت دائرة الشباك، فتحفزّ صديقي القديم، وهمّ بالوثوب إليها... فجأة... وهذا مالم أتوقعه، وقف برهة، كأيّ إنسان يفكّر، أو يتأمّل، وعاد إلى مكانه غير مبال بالحشرة. رحت أبحث عن حشرة أخرى. لاحقت فراشة تطير عبر الممرّ باتجاه الساقية، وما أن استقرت على وردة خزامى حتّى هويت بالغصن عليها، وعدت أدراجي إلى بيت العنكبوت، فحدث لي مثل المرّة السابقة بالضبط. العنكبوت يتحفزّ، ينظر بعينيه الكبيرتين المتوعدتين... لحظة يتأمّل ويعود إلى مكانه.

هكذا كنت أجمع الحشرات وأرميها في بيت العنكبوت، وهو لمّا يفترسها بعد كأنّه لايعيرها أيّ اهتمام!

وفي آخر لحظة، لفتت انتباهي حركة ما. سمعت أزيزاً، فتوقفت عن مطاردة الحشرات. كانت هناك حشرة تقترب من النسيج، وهي لاتعي أيّ مصير ينتظرها. أخيراً وقعت في الدائرة وانقلبت تحيط بها الخيوط الرقيقة. هذه المرة انتفض ولم يقف أو يتأمّل. ارتسم مشهد الصراع أمامي: الحشرة ترفس بأرجلها وأجنحتها، والعنكبوت يدور حولها ينفث عليها خيوطه وحين سكنت حركتها دبّ من خلفها وراح يمتصّ بطنها.

تلك اللحظة شُغِلت باللعب مع العنكبوت عمّا يحيط بي. انتبهت إلى أنّ موعد المقابلة انتهى. كلّ الجهد الذي بذلته من أجل مقابلة سعادة المدير ضاع منّي أمام خيوط واهية ذكّرتني بلعبة من ألعاب الطفولة، وما عليّ إلاّ أن أبحث عن عمل من دون التفكير بأيّة توصية من أحد بعد الآن.

توقفت الموسيقى

فتساءل الطبيب

اختفت الدوائر الزرقاء، فنهضت وعدت إلى المقعد، فتأمل الطبيب وقال:

- لا أظنّ أن هناك أمرا يثير القلق.

- لست قلقا لكني أشعر بالندم كوني بدأتها لعبة تشبه ألعاب الطفولة فإذا بالشئ الخارجي يصبح جزءا لا يتفصل عني. يأكل لي وآكل له. نجوع نحن الإثنين، ونشبع.

- لا أرى أنك تحتاج إلى علاج. أذناك سليمتان حيويتان أكثر من أي عضو في جسدك.

هل من خطر؟

- كل شئ طبيعي وما عليك إلا أن تتعايش مع الحدث الجديد الذي حل فيك احتسبه مثل سنّ صناعي تزرعه في فكك ولا تنس أن الطبيعة أرادت أن تعبر عن حبها لك عبر العنكبوت!

- هل تظنّ العمليّة سهلة

- أتفق معك جرّب أن تتعايش ويمكنني أن أساعدك أتفق مع لجنة الأطباء أنّك أصبحت من ذوي الاحتياجات فلا يضايقك أحد.

تلك هي الصدمة وليست

المفاجأة

وهو بعض من

الخوف

كنت أقبل العنكبوت ضيفا يقيم لأجل غير معلوم وق استُثرت حين عرفت أنّه اصبح بعضا من جسدي

استفزّتني الرؤيا الجديدة

هل أفقد أذني ذات العنكبوت؟

فإذا ما استأصلته هل تعود إلى سيرتها الأولى؟

اللعبة اختلفت

تحولت إلى معادلة جديدة

في جسدي شئ يحب القذارة

قريب من رأسي

ليس ببعيدٍ أن أصبح هدفا لحشرات أو حيوانات أخرى تريد أن تحتلّ جسدي.

من قبل سمعت أكثر مما رأيت

ربما أكون انحزت لسمعي أكثر من بصري والطبيب الجراح أجرى عليّ فحوصات شاملة:

العين

الأنف

الأعضاء الأخرى كلها سليمة

وفي الزيارة الثانية انكشفت خبايا لاتخطر على بال.. منذ يومين فقدت شهيتي.. أشعر أن معدتي ممتلئة حتى عرفت ان العنكبوت في أذني يأكل لي... مثل الأم التي تتغذى فيتسرب الطعام إلى طفلها.. معدتي اكتفت... أصبحت زائدة لا فائدة منها.. وأصبح طعامي مجموعة من الحشرات..

إني آكل ذبابا

وفراشا وصراصير

قذارات كثيرة..

- لم لا تغير الأجواء؟

أشار عليّ الطبيب:

- يعني؟

- أن تسافر مثلا.

بمعدة زائدة؟الماء نفسه لم أعد بحاجة له!

بضعة أيام...

رجعت إلى الحاسوب أبحث عن رحلة قصيرة، بعد دقائق من البحث توقف المؤشرة عند رحلة أمدها عشرة أيام في منتجع بجزيرة (رودس) حيث المنام والطعام الذي لست بحاجة له |.. قلت أجرب لعل أرى وأستاف أشياء أخرى جديدة علي غير التي كنت أسمعها!

هذا ماحدث بالضبط بعد أقرت اللجنة كوني من المعاقين!

***

القسم الثاني: رودس

أخيرا

بعد بضعة أيام

مارست الرحلة الأولى

هبطت رودس

بين بحر مرمرة والمتوسط أصبحت

كان المنتجع جميلا بشرفه الممتدة بين الشارع الفرعي وحقل الزيتون الذي يحاذيه من جهة الغرب، وحين أقف من شرفة غرفتي أرى على بعد قريب بركة السباحة التي تعج بالحركة فتزدحم بفتيات وفتيان أحبوا تاماء والشمس. وكان الساحل على بعد مسافة يسيرة من شارع المنتجع الذي تتناثر على جانبيه أشجار الزيتون والبردي والدفلى. ثمّ تقاطع الشارع العام فموقف الحافلة لأدخل بعدئذ طريقا قصيرا على جانبية حقل فلفل وخيار ينتهيان ببعض البيوت.

منظر مهيب أوصلني إلى الساحل

مع ذلك لم أجرؤ على العوم خشية على أذني أمّ العنكبوت.

كنت بعد قدوم الضيف الذي التحم بي أمسح شعري بالماء. وأشطف وجهي. اضطر أن أغتسل من رقبتي إلى قدمي.

ربما فكّرت أن أغطي أذني بغطاء لا يتسرب منه الماء... راودتني الفكرة فأعرضت.. خشية من أن يتوغل العنكبوت في أذني أو يختنق فيموت، فيسبب لي مضاعفات مزعجة.

أصبحت حركتي مع الماء محدودة.

وصلت الساحل.. تمتعت.. بمنظر المتزلجين على الماء والأشرعة.. جلست بعيدا أراقب رجالا ونساء وأطفالا مفتونين بالماء والموج..

خانتني الشجاعة في أن أنزل إلى الماء، وواسيت نفسي بالشمس التي بدت ساطعة قبل أن تهبط من جديد إلى الماء بوقت بعيد.

كنت قبل أن اصل جزيرة رودس أنفر من الطعام..

أكتفيت بما يأكله العنكبوت، أما هنا في رودس فكان المنتجع يقدم كلّ يوم ثلاث وجبات.. ألتفت في مرآة الحمام إلى أذني، وأوحت النظرة الجاذبية التي لملمت المشهد.. لمحة ارتدت إليّ، بشبكة في أعلاها يصحو أو ينام الكائن الصغير المرعب.

لم تعثر عيناي على بقايا حيوات.

رحت أشعر بالجوع..

جوع حقيقي.

مضاعف...

كنت أقف في الطابور السريع حيث امتدت أمامي أصناف الطعام... سجق

بطاطا.. لحوم..

خبز يبهر العيون

مقبلات

حلوبات

زيتون

كأنّها الجنة الموعودة..

هي أشياء ترى ليست جديدة عليّ إذ سافرت من قبل وحدي، ولربما كان نظري أقوى من سمعي فلم أنبهر بها، ومارأيت الآن يدلني على ألا آكل لي وحدي.. كان العنكبوت المخبوء في أذني ساكنا طول الرحلة التي امتدت بالطائرة أربع ساعات.

لا أظنّ أحدا التفت إلى أذني منذ وصولي المطار وركوبي الطائرة إلى الآن....

لم يتحرك

أقنع نفسي وأضحك في سري من أين يدخل الذباب في الطائرة، من أين تأتي الحشرات، أظنّه جائع مثلي!

اخترت منضدة تسع اثنين في مواجهة زرقة تنتهي بسلسلة جبليّة، رحت ازدرد الطعام واسمع طنينا خافنا في أذني. أراه رجع ثانية إلى حسابات قديمة، آكل يشبع، ويأكل فيشبع. الطبيب على حق حين قال لي إن الإنسان انفصل عن الطبيعة فصمتت عنه دهرا، أما الآن فقد بدأت تتجلّى نحوه لكي تلتحم به.. بدأت مشوارها من جديد لكي لا بقضي عليها الإنسان بجنونه المفرط.. اليوم أصبحتُ هدفا لعنكبوت، وغدا غيري يصبح مرمى لذبابة أو دبّور.. عقرب... سبعة مليارت تعيش على الأرض سبعة مليار هدف بنظر الحشرات.

أو

غيرها

من تحليات الطبيعة الأخرى

رقم هائل...

أنهيت جلب المرطبات، وحين عدت اعترضني رجل في الخمسين من عمره أبيض بحمرة.. تجلس قبالته سيدة شقراء، في الأربعين معتدلة القوام.. رشيقة ذات عينين زرقاوين:

- مرحبا!

قالها بابتسامة ودوددة.

- أهلا...

- إذن أنت عربي..

- كيف عرفت؟

من سحنتك وتقاطيع وجهك في مثل هذه الحالة ألقي بكلمة مرحبا فإذا كنت غير عربي لن تجيب!

سحبت كرسيا وجلست بينهما، وقال:

- زوجتي روسية تتحدث العربي’’عاشت معي في لبنان فترة، نحن الآن نعبش في ألمانيا

هززت رأسي مرحبا:

أهلا وسهلا

فقالت بلهجة عربية ذات لكنة

شكرا لك.

فقال الرجل من دون تردد، وهو يضع الملعقة جانبا:

- أنا من بيروت سنّي وأختي متزوجة من شيعي جنوبي والله لقد فرحت حين رأيت الصواريخ تحوّل بعض أحياء تل أبيب إلى أنقاض مثل غزة.. يلكن هؤلاء الحكّام الخونة...

عدنا للحرب ثانية، الحرب التي أدخلت العنكبوت في أذني... أكثر ممن حرب مرت بي.. 67.. 73 الخليج الأولى.. الثانية.. العراق.. سورية.. كلها تجمعت في أذني بشكل عنكبوت.. جئت هنا لكي أرتاح. زرودس جزيرة السحر والأساطير مع ذلك علي أن أكتم علامات الضيق.:

- ياسيدي العرب غير راضين لا عن إيران ولم يكونوا راضين عن الاتحاد السوفيتي الذي دعمهم زمن الشيوعية ولن يرضوا عن أيّ أحد.

فقالت زوجته بلغتها الغريبة المفهومة:

- لو كان الزمن زمن خروتشوف وبريجينيف لما تجرؤوا على فعل ذلك لا في غزة ولا في أوكرانيا

فابتسم ابتسامة واسعة، وقال:

- لا تقلقي البركة في بوتن أبي علي سيعيد أوكرانيا إلى بيت الطاعة!

حاولت أن أغير الموضوع:

- كم يوما ستبقى ها؟

- نحن غدا نعود إلى ألمانياصار لنا عشرون يوما هنا!

قد يكون التفت إلى أذني وتجاهل أن يسألني عنها.. ربما يظنه - فيما لو انتبه - جهاز سمع جديد أو تشوها خلقيّا غير أني أدركت أن الحرب تلاحقني إلى أي مكان.. مثل الموت.. في الوقت نفسه خَفِي عنّيِ أن سمعي أقوى من بصري حتى كشف الحالة الطبيب، ليست يداي ولا يصري أو حتّى رجلاي .. لوكان نظري هو الأقوى فأيّ مخلوق من مخلوقات الطبيعة يمكن أن يحلّ فيه؟!.. مع ذلك تفاءلت أن هذا الرجل الذي يتحدث معي بلغتي الأم هو آخر من ألتقيه هنا في هذا المكان الآمن.

نهضت، ومددت يدي مصافحا... فأخرج الرجل بطاقة من جيبه وَبَسَطَ إلّيَ يَدَه:

- اسمي وعنواني والإيميل آمل أن نبقى على اتصال.

شكرته وصافحت زوجته، ووعدته أن أتصل به، كان في ذهني أن أزور القرية السياحية القريبة التي وصفها لي موظف الاستعلامات وتحدّث عن مشهد تمثيلي يقدم في الساحة العامة. عدت إلى غرفتي، استرخيت ساعتين، في الساعة الرابعة وقفت في الشرفة أتمطى فوقع بصري على السيد ( واثق)وزوجته يتجهان إلى حوض السباحة كانت في المايوه.. وعن بعد تبينت جمال قوامها... حبب إليّ - والمسافة غير بعيدة - أنّ السنين لم تترك في جسدها أثرا ولم تبالغ كثيرا... لم ينتبها إليّ وطالت وقفتي لبضع دقائق حتى اقترب موعد قدوم الحافلة التي تمر كلّ ساعة فارتديت ملابسي وغادرت إلى القرية الصغيرة حيث المهرجان الصيفي والعروض المسرحية في الهواء الطلق.

بدت القرية بشارعها الضيق، وساحتها الصغيرة ودرجها الهابط إلى شارع فرعي آخر، بدت مثل مدينة كبيرة يمكن أن تبتلع العالم كلّه في بضع لحظات.

لم أشعر بالوقت.

انتبهت والغروب يهبط والشمس تعانق البحر إلى أني لم أر إلى الآن عنكبوتافي الجزيرة. لا شك أنه موجود، عيناي هما الغائبتان اللتان رآتا حشرات مألوفة تطير وتحط..، ربما شغلني الأكل. كنت آكل بنهم، وأتحدث مع جليسي بالعربية... غدا لا أحد يكلمني بلغتي الأم، ولعله يكتب إليّ ذات يوم.

سأظلّ أحدّث نفسي وهذا يكفي على الأقلّ من باب المواساة..

لا يهمّ

يمكن لصاحبي أن يحب حزب الله

إيران..

قد أختلف معه وقد أتفق

مع ذلك شعرت بالارتياح حين تحدثنا

لا عليّ.. مسحت على أذني حاضنة العنكبوت برفق فشعرت باهتزاز خفيف.

ساورني اطمئنان

فكرعت جرعة ماء، وقصدت مسطبة صغيرة..

بدأ الناس يتجمعون. أجانب ومن أهل الجزيرة، صدحت موسيقى، وصعد شباب وشابات، من حسن حظي أني وجدت مكانا فقد اكتظت الساحة بالحشود التي جاءت تتابع العرض.

قرية صغيرة بحجم العالم..

أغان لا أفهمها وأتفاعل معها.

رقصات تجعل جسدي يرتعش..

يصعد مقنعون.

يتصافحون

يتحاربون

سيوف ورماح

الحرب بصيغة أخرى.. حين أبصرت مصادفة حرب غزة اغتنمها فرصة عنكبوت فدخل أذني...

الآن

لا أبصر وجوه المتحاربين

آنسة تزعق

وأخرى تقهقه

أشعر بهزة خفيفة في أذني

رجل في السبعبن جالس جنبي يتابع العرض أظنّه يكلمني

لغته غريبة لكني أهمه.. ليست الإنكليزية، ولا العربية اليونانية بلا شك..

مع ذلك أفهمها بوضوح

....

العرض رائع هل تفهمني.

يبتسم ويهز رأسه:

...

أيّة معركة هذه..

لايعرف لغتي بالتأكيد، لكنه يفهمني:

معركنا كثيرة... مع الفرس.. الرومان.. معركة طيبة... معركة الآلهة، عليك أن تختار أيّة منها، فالتاريخ يعيد نفسه في كلّ لحظة.

.....

أنت على حقّ

في اليوم التالي جلست على مائدة الفطور. التقطتُّ جبنا وزيتونا وخبزا خفنة وقصدت وعاء القهوة.

الحق شعرت بجوع شديد، فابسمت

العنكبوت اعتمد عليَّ في هذه الجزيرة

لعله في يوم ما... ساعة ما لا يفَكِّر بالطعام

ليأكل اما يشاء بفمي

من الأفضل...

مع رغبتي في الأكل راودني فراغ لرحيل سائح وحيد حدثني باللغة العربية بتعبير آخر شخص اكتشفني.. مباشرة بعيدا عن المقدمات خاض في حرب الإثني عشر يوما..

سبّ الحكام...

وأمريكا

وإسرائيل

وتشفّى بالصواريخ الإيرانية التي جعلت بعض مبانٍ من تل أبيب أنقاضا مثلما حدث لغزّة

يمكن أن أختلف معه أو أتفق سوى أن دهشة اعترتني من داء الزمن الذي يسمونه مصادفة

مع أني لا أؤمن بالمصادفات

وحجتي التي لا تجد تفسيرا أن عنكبوتا قصد أذني وحدها

كانت إحدى العاملات الرشيقات تقترب من منضدة تركها عجوزان، تلمّ صحونها الفارغة.. ألقيت نظرة من خلال الزجاج على البحر وسلسلة الجبال واغتنمتها فرصةً لحظةَ دفعت العربة بمحاذاة منضدتي:

سلسلة جميلة أليس كذاك؟

- إنّه بحر مرمرة وأسطنبول هناك بواخر تبحر إليها من الميناء في مركز المدينة..

الدّهشة تراودني:

- كم يستغرق الوقت؟

- أقلّ من ساعة جرّب!

تأملت قليلا:

- لا أظن فليس في خطّتي جدول آخر. لكن لو سمحت.. هل تحبين... هل تحبين حضور العرض المسرحي معي الليلة في ساحة القرية.

- لا مانع لدي فعملي في المنتجع وقت الفطور والغداء.

- إذن إحسبي حسباك لن أتناول عشائي هنا في المنتجع !

غادرت قاعة الطعام ودار في خلدي أن ألفّ في المناطق القريبة أحدق في الحقول على جانبي الطريق وساحل البحر.. أبحث عن عنكبوت.. وأظنني تجاهلت رجلا قابلته البارحة حدثني بلغة لا أعرفها وفهمته وحدثته بلغة لا يعرفها وفهمني. فمن هو؟كان عليّ أن أسأله عن اسمه.. الليلة الماضية شهد العرض معارك وأقتعة.. غناء حزين وصراخ.. الليلة سأعيد الكرة لكن مع امرأة أفهمها وإن كانت تتحدث بلغة عايشتها.. ليست لغتي. وليست لغتها.. كيف تداهمنا المفاجآت.. سرتُ في الطريق نفسه.. دخلت حقلا مزروعا بالفلفل.. وآخر عبر يمين الطريق خيار.. لم تقع عيناي على عنكبوت... جالتا بين أشجار الخطمي والبطم واللانتانا وبهرني جمال البونتينا بزهورها البنفسجية وقامتها.. رأيت حشرات كثيرة.. البارحة تركت النافذة مفتوحة فجالت في غرفتي حشرة غريبة لفت ودارت.. كنت متثاقلا من أن أنهض فأطردها، لكن الآن وفي مكان أوسع لا أرى عنكبوتا.

هل هربت العناكب لتغزو الأماكن البعيدة...

للمرّة الأولى أشعر بقلبي يخفق. أتساءل أو يسألني غيري هل أحببت من قبل؟لم أكن أعرف الحب، تجاهلته، فأكتشف أمرا خطيرا، مع كلّ هزّة في الشبكة حيث لا حشرة تقع أعرف أنّي أكذب. هذه المرة لا هزة في الشبكة. فتحت عيني على المدرسة وجمع الحشرات، المعلم نفسه لم يقل إن العنكبوت ليس حشرة، وللطرفة أذكر أنّ أحدنا _أميّز ملامحه ولا أتذكّر اسمه- أحضر في يوم جمع الحشرات للمعلّم دودة أم أربع وأربعين... يقال إنها تدخل في الأذن، هذه الملاحظة نسيت أن أتحدّث مع الطبيب النفسي عنها.. وفي الحرب أو الحروب التي عاصرتها ولم أساهم فيها وجدتني ابتعد عن الحب، كلما اندلعت حرب وإن كنت بعيدا عنها نسيت الحب. الروعة أن ترى الرعب من بعيد ولا تكون جزءا منه..

كانت (أسترا) علامة جديدة ذكرتني بما نسيته، اهتزت شبكة أذني، فاعتذرت. علي أن أقول تجاهلت. نعم تجاهلت في الثالثة والثلاثين من عمري، وهي على ما أظن في الثانية والعشرين.

أشعر بفراغ كبير

لا أجد عنكبوتا في الجزيرة، وأرى حشرات أخرى، ماذا يحدث لو وقع بصري على شبكة بين أغصان الورود، هل يغار الذي يتربّص مقيما في أذني؟

جلست على البحر أراقب المتزلجين على الماء والأشرعة،، واتجهت نحو زحمة الساحل. بودي لو أستطيع النزول إلى الماء كما لو كنت من قبل قبل أن يأتيني الغزو. في الحمّام. أغطي أذني بمنشفة خفيفة، وأغسل شعري بحذر. ثم أرش الماء على رقبتي وجسدي.

أظن أنني أستطيع أن أدخل الماء أتوغّل فيه إلى صدري ولا أنزل بعيدا، مادام العنكبوت أصبح امتدادا من جسدي، فلا أدري ماذا يحدث لو اختنق..

جربت.

شعرت ببعض البرودة

وتوغلت.

وشوشة ما في أذني ولا اهتزاز.

تجرأت أن أدخل الماء إلى حدّ رقبتي ثمّ توقفت.

وفي الظهيرة وجدتها مع ثلاثة أخريات، ينضمن الموائد.

ابتسمت لي، فبادلتها بابتسامة.

التقطت. سمكا، ومرقة فاصوليا، وبعض الللبن. ملأت صحنا آخر بتفاحة وكمثرى وحبة مندرين وجدت منضدة فارغة في منتصف قاعة الطعام، كانت تروح وتأتي مثل نحلة سكرى. رفعت لها يدي فقدمت مبتسمة:

- سآكل بشهية كبيرة فقد كنت في البحر.

- صحة

- لا تنسي سأنتظرك في ساحة العرض بالقرية هل يناسبك الساعة... السادسة

- أوكي

وانصرفت.. عنّي إلى عملها..

فرح يغمرني..

لوكنت كاذبا لاهتزت الشبكة من دونما حشرة، وهنا أنا آكل لي وللعنكبوت حتى لا يجري في دمي غذاء آخر من بعوض وذباب.

أكلت

وأكلت

التهمت الطعام بشهية مفرطة

وتمتعت بالآيس كريم...

بلا شك مرت الساعات ثقيلة، حاولت أن أغفو، لسخونة الطقس تركت باب الشرفة مفتوحا. شعرت براحة تامة، وأدركت أن الوقت للحب وإن جاء متأخرا فهو ما كان ينقصني.

نشوة

ارتياح

شعور بالزهو...

انتصار من دون التحضير إلىحرب وقتال...

غادرت المنتجع إلى موقف الحافلة ـووصلت إلى ساحة القرية قبل ساعة.. جلت في الطريق الضيق وأبصرت تغيرا في الساحة.. هناك حركة.. بدأ الحرّ يخفت.. عبرت الساحة من عند الدرج الهابط إلى الشارع الضيق الموازي الذي يكتظ بأشجار الليمون..، استدرت في نهاية الشارع.. صاعدا إلى الشارع العام حيث تجلس امرأة ضخمة الجسم خلف منضدة صُفّت عليها جرار تنادي بنغمة هادئة.. عسل طبيعي حالما اجتزت مسطبة العسل، رأيتها تتهادى مثل حمامة باتجاه الساحة الصغيرة حيث المهرجان. كانت ترتدي قميصا أبيض يكشف عن ساعديها وتنورة طويلة طراز طبعةَ الورد باللونين الأحمر والأبيض حثثت الخطى خلفها وحالما أصبحت على بعد خطوات هتفت:

- أسترا

التفتت إلي:

- هل جئت مبكرا؟

- وصلت قبل دقائق فهبطت الدرج ثمّ التففت من طريق آخر إلى الشارع العام...

- أعجبتك القرية؟

- هل أبالغ إذا قلت قد تكون الفردوس!

- هناك أيضا المدينة القديمة.

- يمكن أن نزوره اأيّ يوم إذا أحببت.

للمرة الأولى تلتقي عيوننا ونحن سائران:

- كما تشاء.

قلت كأنّي أتطلّع إلى زمن سرمديّ:

- كم شهرا تستمر حركة الناس والمهرجانات ؟

- موسم السياحة من حزيران إلى منتصف أكتوبر.

- ماذا عن المنتجع؟هل يتحوّل إلى مشتى؟

- يغلق.

تنتهي الضجة.. الحيوية.. الصخب اللذيذ، ولا أتصوّر كيف يكون لون الشتاء...

وصلنا إلى الساحة التي بدأت تكتظ بالناس، من حسن الحظ وجدنا كرسيين متجاورين في الصفوف الخلفية. الم أزاحم ماريا فأسبقها، كانت تتقدمني فتجلس عن يميني.

أذني العنكبوت

هل أثير فضولها.... طول الطريق جعلتها عن شمالي...

كان معظم النظارة من الأجانب وبعض اليونايين السياح، ارتقت فتاة عذبة رشيقة المسرح، وصدحب موسيقى، فراحت الفتاة تتحرك برشاقة ثمّ توقفت الموسيقى وكفَّت عن الرقص ليرتقي، شاب، فيبدأ بالغناء، مالت على أني فاعترتني خيفة من أن تلمح من بين ضباب الأضواب مافي أذني:

- أغنية لمطرب يوناني.. الشاب المغني أعرفة من رودس.

لم يبن على قسماتها أي انفعال فقلت مجاملا:

- يبدو أنّها أغنية جميلة:

فمالت ثانية تهمس:

ذهبت حيث تهمس عيناك لأوّل مرّة...

أين الحب حبي العذب

حتى يدفننا في البرد والصقيع

أَقْفَلَ الباب وضاعت المفاتيح

لديّ رغبة أكبتها.. رغبة أن أمسك يدها... شئ جديد لا أعرفه غير العنكبوت يجتاحني.. لا أستطيع أن أصفه.. بالأمس حضرت معارك بالأقنعة البارحة والليلة تبدأ مسرحية، الوجوه فيها، مكشوفة.. واضحة القسمات.. فتاة.. وأم... وشاب يحمل السهام.... يرمي السهام على فتيان وفتيات فيهيم كل فتى بفتاة.. وينسى الرامي فيجرح نفسه.

ملت عليها:

- أليس كيوبيد..

هو نفسه عندنا أوريوس..

لا أتذكر بقية القصة، بل عرفت كيوبيد يرمي السهام، هناك حركة.. فتاة تختطف.. لا أدري مايجري، وفي النهاية انكشفت الأنوار، فنهضنا، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة:

- هل نتعشى؟

- كما تحب.

أشرت إلى مطعم قريب على الرصيف المقابل:

أ- تحبين البتزا؟

فأطلقت ضحكة قصيرة وقالت:

- هذا لا يبيع البيتزا.. إنها ريتزا.. جبن بالخبز.. حرف P في اللغة الإنكليزية R باليونانيّة

فضحكت من نفسي.. ومسكتها من كتفتها، مازلت أحتفظ بحدودي معها.. لا أريدها أن تهرب من حياتي مع أنّي أدري أنّها تجيد الإنكليزية.. وأنا أتحدثها غير أننا مثل الكومبيوتر.. مثل نظام Yotub لا نتحدثها بمشاعرنا ...

مجرّد مهارة..

قادتني إلى مطعم هادئ في شارع فرعي، قالت:

- لن تجد البتزا إلا في المدينة القديمة.

- مارأيك أن نتناولها غدا.

- هذا كثير

- ولا يهمك.

في نفسي أن ألمس يدها. أبحر في عينيها. لمت نفسي على أني هجرت المشاعر لأمر لا أعرفه حتى تجاوزت الثلاثين. قد يكون في حياتي السابقة جانب عبث.

إهمال...

إنبهار بما يجري من حولي.

لا أحب أن أتحدّث عن نفسي وعن الماضي، ولا عن أغلب الحاضر، ثلاث ليال انقطعت فيها عن أخبار العالم والحرب.. أريد أن أعيش بلا حروب.

بلا مشاكل

بلا ماض.

لتذهب الأحداث التي عشتها إلى الجحيم.

الحروب.

الأزمات الاقتصادية

الأمراض

الجوع.

قدم النادل، فتركت لها حرية الاختيار. وجاء بعدئذ يحمل بعض الأطباق، فنظرت إليّ بحنو وابتسمت:

- الدولما طبق يوناني مفضل.

مازلت أحبها، وأطبخها. شعرت بهزة في أذني

هزّة خفيفة. أظنّه راضيا.. هكذا خيل إليّ، أما الوعاء الثاني فامتلا بالزبادي والخيار والثوم.:

التزازيكي

أشارت إليه، فهززت رأسي مسرورا:

نسميه الجاجيك عندنا.

في نفسي أن أرفع لفة دولما إلى فمها. كثير من الرغبات أؤجلها، حرصا على المستقبل. لكن هل تظن سوءا بي حين ترى أذني؟قلت أقطع الصمت:

أمس كنت وحدي، حضرت معركة وكان الممثلون مقنَّعين، واليوم شاهدت معك رواية والممثلون من دون أقنعة.

فردت بابتسامة عريضة:

الحرب غموض، أما الحب فجمال وروعة، لا تنس أن الممثلين الأوائل كانوا يمثلون الحروب والمآسي بأقنعة.

فخطرت في ذهني فكرة عن نهاية لا أعرفها:

ماذا يفعل هؤلاء بعد الصيف.

لا شئ نبحث عن عمل آخر وبعضنا يتحول على نظام المساعدات.

وأنت؟

أنا جمعت نقودا لا بأس بها سأذهب لأسجل في الجامعة بأثنا قسم التاريخ.

أكلت بلهفة والعنكبوت ساكن.. ارتحت لروائح الطبخ في المطعم، ودقة الترتيب، وحضر الآيس كريم، فتساءلت:

أترغبين في شئ آخر؟

كلا من الأفضل أن نذهب؟

ممكن أن تتصلي بسيارة أجرة نسقلها معا فتوصلك قبلي ثمّ تقلني إلى المنتجع..

أنا أسكن في بيت أختي ليس بعيدا عن المنتجع! (وأضافت) زوجها يعمل بحارا على البواخر التي تتجه من المرفأ إلى تركيا فإذا مافكرت أن تعبر بحر مرمرة أخبرني!

- ربما.... ماذا عن غد؟

سأنتهي من دوامي الثانية أذهب للبيت ساعة.

نلتقي هنا في القرية؟

يمكنك أن تستقل الحافلة إلى القرية فآتيك عند البوابة الساحة الرابعة أ نذهب إلى وادي الفراشات ثمّ نقصد المدينة القديمة!

وهو كذلك. دلفنا في السيارة، وراحت المشاهد تتراقص في عيني؟ أذني اليمنى حيث الشبكة تقابل الساحل. الطائرات التي تقلع من المطار.. الأضواء التي تتراقص.. الحر الذي افتقدته في مدن الشمال.. الحب الذي عثرت عليه مصادفة..

دخلت بنا السيارة في شارع زراعي خمنت على ضوء السيارة الساطع أنّها أشجار زيتون وحشائش ورمان، كان الشارع لايبعد سوى مسافة كيلومتر عن التقاطع المفضي إلى الساحل القريب من المنتجع. وتوقفت بعد مسافة قصيرة أمام بيت في مقدمة بيوت تبيَّنت أنها لم تزد عن خمسة أوستة، هبطت ولوحت لي بيدها:

أراك غدا.

استدارت السيارة نحو الطريق العام. شعرت بحيوية ونشاط، وكدت أنسى العنكبوت. حركت يدي وضغطت ضغطة حفيفة نهاية شحمة أذني.

كل شئ على مايرام.

في الفندق استرخيت قليلا...

اضطجعت على ظهري، وغالبت النوم. كانت الليلة حارة، فتركت باب الشرفة مفتوحا، رددت الستارة الناموسية على الباب، وبقيت وحدي مع العنكبوت. هناك حالة جديدة.

حالة غريبة..

أفهمها ولا أفهمها.

حياة تجذبني عن الماضي إلى الماضي.

في بلدي غادرت مباشرة بعد أن لاعبت العنكبوت. قلت إنّي حملت توصية، وحين وصلت مبكّرا لمقابلة السيد المدير اغتنمت الفرصة فجلست في الحديقة، لكن بعد أن رأيت العنكبوت لا يأبه لرذاذٍ من بصقتي يهزّ الشبكة... غادرت المكان..

هذا ما حدث بالضبط..

ظننت لعبتي مع العناكب انتهت...

هربت

غادرت الحروب والخوف

القلق والخشية من االحاضر

رحلت إلى مدن الشمال

ولم يخطر أن لعبة بدأتها في الطفولة أو الصبا ارتدت عليّ

فما

أحسه الآن هو شعور بالدفء والحب.

بداية تعوضني عما فات

ماذا بعد؟

وسط الهواجس غلبني النوم، سكنت تماما، فذهبت إلى ساحل البحر. الوقت ضحى، والشمس ساطعة. لا أحد على الساحل غيري سوى ما يقع عليه بصري من جبال ممتدة على بحر مرمرة... نسيت العنكبوت، وقفزت إلى الماء.. ويبدو أنّي نسيت السباحة فوجئت بعمق البحر على الساحل. ضربت بيدي ورجليّ

لا أحد يسمع

وبين اليأس والأمل مددت يدي فأحسست بكف ناعمة تسحبني إلى الساحل. لم أر وجها بل عرفتها من ضحكتها... فسقطت على الساحل لأجدني أستفيق من كابوس البحر، والعرق يتصبب من جسدي....

العطش.. يباس فمي..

والعنكبوت.. يهتزّ هزة خفيفة...

فعرفت أني انقليت على جبني الأيمن.. إذ منذ مارست اللعبة اعتدت أن أنام على ظهري وجنبي الأيسر، فخطوت إلى المبردة.. ورحت أكرع قنينة ماء.

3

في الصباح رأيت إطلالتها عند الفطور

مريلتها البيضاء

لفة شعرها الحفيفة

رشاقتها وجدتهافي المطبخ مع عاملتين يتعاونَّ على توزيع الطعام في العارضة وعلى المساطب، كوب شاي، وبعض الجبن والبيض، وعيناي تحومان بين سلسلة الجبال والبحر، وخطوتها الرشيقة بين المطبخ وعارضة الطعام تسد النقص أو تجمع الصحون الفارغة.

كم كنت أشعر بالفراغ لو لم ألتقها.

أظنّ أنّي أكثر سعادة من الآخرين.

وعندما ختمت فطوري غادرت قاعة الطعام، وتوليت عن غرفتي.

لدي الكثير من الوقت.. حشود من الثواني والدقائق. والساعات.، البحر أمامي ولا أقدر أن أغطّ إلا إلى رقبتي.. خلَّفت المنتجع وراء ظهري وتجاوزت البيوت القريبة، قبل أن أصل التقاطع إلى حيث البحر، استدرت يمينا فعبرت أوّل سويرماركت، ومعرض السيارات القديمة فالمطعم السياحي

عندئذٍ

لاح لي الدرب الذي دخلته سيارة الأجرة البارحة، تخميني كان في محله.. أشجار رمان وليمون وعنب، وحين تقترب من البيوت عن يسارك محل مفتوح تكدست في واجهته ربطات من البصل الأخضر...

بيت أختها أوّل السطر..

ابتسمت لي السيدة من عمق المحل.. فبادلتها بابتسامة، وتمعنت في البيت جيدا.. حديقة صغيرة شجرة ليمون.. وباب في أعلاه رأس تمثال قديم.. ثمّ رجعت إلى الشّارع العام... تجوّلت في المحلات الثلاث القريبة من المنتجع.. ماذا يمكن أن أشتري.. قبعات، وميداليات.. سفن صغيرة من خشب ذات شراع.. وأخرى من نحاس.. تراث جزيرة عبر قرون... ترددت أن ابتاع شيئا غير قنينة ماء.. شراء أيّة تحفة يذكّرني باليوم الأخير.. الرحيل.. أحاول أن أتجاهل.. أحيانا من دون مسوّغات.. نتجاهل أو ننسى.. لو سألني الطبيب النفساني ماذا جمعتم قبل أن يأمركم المعلم بجمع الحشرت.. لتذكرت أنّه طلب منا أن نجمع أوراق الشجر نلصق ورقة في كل صفحة ونكتب وصفا لها.. جمعت ورق سدر وتوت.. صفصاف.. ورق ورد الجهنمي.. ورق الدفلى.. استحسن المعلم مافعلناه وعاتبني.. كان إنسانا لطيفا.. أنبني أن عدنا في حديقة البيت نخلتان ولم أقطف خوصة أضعها في الدفتر... الخوص أيضا ورق.. وكأنّ نسياني خوص النخلة دفعني لأن أفرط خلال الواجب الجديد في صيد الفراشات،

حقا رأيت نخلة صغيرة ذات ثمر صغير أخضر بين السوبر ماركت ومعرض السيارات القديمة..

كرعت نصف قنينة الماء وغادرت إلى البحر.

ارتحت للجلوس على الساحل.. بضع خطوات عن الماء...

المناظر تنسخ نفسها من دون أن تسبب ضجرا

سلسلة الجبال..

القوارب الشراعية

زوارق التزلج..

نساء بالمايوهات..

كل مارأره الآن يصبح في الشتاء سرابا

أطلالا لا أثر على الماء

مشاهد تسبِت مثلما تسبِت الدببة في صقيع سيبيريا!

هل يمكن أن أعبر هذه اللحظة بمعجزة ما الخريف والشتاء إلى صيف آت..

لقد بدأت أخشى البرد

والعتكبوت في أذني هادئ صامت!

قبيل الغداء عدت من البحر إلى غرفتي، ارتحت قليلا، وغادرني حين رأيتها الإحساس الهائل بالوحدة.. العنكبوت ظلّ في سكونه... وزعت ابتساماتي بينها والعاملات المنهمكات في خدمة القاعة.. هذه المرة اتخذت مكاني خارج القاعة في الشرفة تحت المظلّة.. جمعت أنواعا من الطعام.. واستمتعت بعد الوجبة بالآيس كريم.. كانت الحرارة بلغت الرابعة والثلاثين.. في النهاية قدمت العاملة ذات الأربعين عاما تجمع أطباق مائدة غادرها الزبائن.. ثمّ خرجت تدفع عربتها ثمّ بعد دقائق قدمت أسترا تحمل صحنا صغيرا فيه قطعتا بقلاوة:

البقلاوة قدمت متأخرة... هذه لك

شكرا.. (تسرعتُ) أسترا بيتكم ليس بعيدا من هنا هل تمانعين أن أنتظرك عند موقف الحافلة ؟

فابتسمت ابتسامة واسعة:

- يمكنك أن تشرب القهوة ثم نغادر!

_إدن اتفقنا!

غادرت الشرفة الملحقة بقاعة الطعام، وكانت ماريا منهمكة، في جمع الأطباق وترتيب الشراشف.. راودني وأنا أهبط، الدرجات أن أمرّ على مكتب الاستقبال، وجدت الشاب مارك الذي استقبلني أول يوم وصلت.. قلت: متسائلا

هل يمكن للسائح أن يدعو إحدى العاملات لمرافقته إلى إلى المعالم السياحية؟

هذا شئ طبيعي لكن أنصحك أن تتفق معها سلفا على النقود. وساعات العمل التي تقضيها معك..

هو الهاجس القاتم الذي وخزني، فلم أتحمّل حتىّ تبينته. هل ذهبت مع مشاعري بعيدا؟أشكّ أنّها عدت دعوتي لها ساعات عمل تنتظر أن أدفع أجرها. لقد جمحتُ إذن بخيالي إلى درجة أنّي أحس العالم خواء بغيرها على الأقل في الأيام الباقية لي من رحلتي، وماذا بعد. أنا في مدينة من مدن الشمال، هل تحقق في غضب الطبيعة بصورة عنكبوت ليدفعني إلى هذا المكان الدافئ.

استلقيت على سريري، انتظر الوقت، لكن الضّجر نكزني.

هاجس الخوف

هبطت إلى بركة السباحة. راقبت بلا رغبة فتاتين تتناولان الكرة وسط الماء وشباب، وصغار عند حوض السباحة الخاص بهم.

لايثيرني أيّ مشهد

ومازال عنكبوت أذني ساكنا، منذ أصبح جزءا مزروعا في جسدي لم يعد يهتم بالصيد وغواية الحشرات إلى شبكته.

غادرت البحيرة والمنتجع، عليّ أن أقضي الوقت، فأتأكّد من أنّه حب لا عمل.

هل اكتشفت عطشي متأخّرا؟

وصلت الساعة الرابعة إلى البيت، ضغطت على الجرس فسمعت الرنين ورأيت من فتحة الباب العلوية برقا يومض، وحالما انقطع الرنين انتهى البرق، فتحت الباب وخلفها طفلة صغيرة ذات وجه مدوّر في السنة الرابعة من عمرها.

- تفضل (وأشارت إلى الصغيرة ) ماريا ابنة أختي.

اجتزنا الممر المزدان بفاترينا اعتلاها تمثال العذراء وبعض الشموع، وصورة المسيح معلقة على الجدار إلى غرفة الضبافة فاستقبلتا سيدة ممتلئة القوام تضع سماعتين في أذنيها..، قالت كاليوبي.. أختي.... رحبت بي السيدة بابتسامة واسعة وكلمات يونانية لا أفهمها، انتقلت الطفلة إلى حيث أمها.. الشبه بينهما كبير وتكاد أسترا تنفرد عنهما بوجهها البيضوي وعينيها الواسعتين. وبلمحة عابرة رأيت صورة على الجدار تقابل الباب لرجل في االعقد الرابع، ممتلئ الوجه يرتدي ملابس البحر الزرقاء، اتخذت مكاني قرب المنضدة. قلت:

- هل هناك من شئ ؟لقد أوجست أمرا فقد رأيت وميضا يرافق صوت الجرص؟

غادرت الأم والطفلة صالة الاستقبال، وقالت أسترا:

- أختي ثقيلة السمع. أحيانا تخلع سماعتي الأذن حين تشعر باحتقان في أذنيها فتعتمد على ضوء الجرس الذي يرافق الرنين.

قدمت المرأة بالقهوة وكأس ماء، ونطقت فعقبت: تقول تفضل، وأردفت:

- سماعة أذن... ممتازة أحيانا تسبب التهابا.. أظنّ سماعة أذنك مزروعة أليس كذلك؟

ياللهول...

قد يكون من حسن حظي أن تراه جهازا يقوي السمع لا غازيا احتل أذني فأصبح بعضا منها.. منذ أن جئت إلى هذه الجزيرة تركت النت والبحث عن الأخبار. لا أعرف عن الحرب ولا يجذبني سوى الطبيعة والشمس والبحر.....

النت نفسه ضعيف في غرفتي ولا يعمل إلا حين أكون قرب مكتب الاستقبال

لقد تركت كل شئ ورائي..

لكنّ تصوّرها أراحني قليلا وعي تظنّ العنكبوت في أذني شبكة متطورة اقوّي سمعي الضعيق

وضعت فتجان القهوة جانبا:

أنا جاهز (التفت إلى سيدة البيت) شكرا للضيافة، ولوحت للطفلة بيدي...

راحت السيارة تنهب بنا الطريق ، وأنا أتجل المشاهد، المنحدر، التلة المغطاة بالأشجار، رصيف تتناثر عليه مساطب خشبية،، فاستقرت بنا السيارة عند باب ارتقت عليه لوحة Butterfly vally.، قطعت تذكرتين.. صعدنا درجات ليقابلنا جسران أحدهما ذو سنام.. أول نسمة قابلتنا هبت على شجرة خماسية الأوراق فتطايرت من بين أغصانها فراشات زاهية اللون عبرت من أمامنا وتأرجحت أخريات تعبر فوق رؤسنا الجسر إلى الشلال.

ترددت...

هل ألمّح لها عن أجور ساعات تقضيها معي.. أسألها هل عدَّت السّاعات؟

ترددت ثانية.

ههممت أن أضع يدي بيدها فأختبر إن كانت تحمل لي حبا أم مجرد خدمة بأجر فخانتني الشجاعة.. قالت:

- هو الوادي سنقضي ساعتين ثمّ نذهب إلى المدينة القديمة.

نظرت إلى ماء المجرى الذي يعكس خضرة الأوراق، لا أريد أن أتفاجأ، أشارت بيدها نحو شجرة ضخمة ذات أوراق إبرية تتداخل بين أوراقها التي تنشر على الجذع فراشات وتلتمّ بشكل كما لو يتجمع النحل على خلية عسل.. في هذه اللحظة انصرف ذهني إلى فراش جمعته ذات يوم فارتسم بذهني سؤال أخفيته: هل هناك في هذه المستعمرة فراش بشبه فراشة حنطتها لمعلم المعلومات، وأردفت سؤالي إليها بصيغة أخرى:

- أسترا لم أفهم السرّ في احتشاد هذا الوادي بالفراش دون سواه من أرض الجزيرة؟

فأجابتني بابتسامة فرحة:

- لذلك سموه وادي الفراش. !

- لعلها معجزة!

- ربّما فهنا يتكاثر... أغلبه يعيش ويموت في هذا المكان!

هواجسي هربت من كلّ مشهد

في لحظة انحشرت عند الشلّال الهابط من بين الصخر إلى البحيرة الصّغيرة، وفراش يطير جماعات لينتشر في فضاء المكان أشبه بالنجوم الساطعة في النهار أم حزمة متناثرة من الألعاب النارية ليلة عيد المبلاد، كانت هناك فراشة تستفزني..

تحطّ على جذع شجرة حور

وأخرى

تجثم قرب مساقط الماء تحرّك جناحيها كأنّها تمسّد الهواء..

لايهمني قطّ أن يكون كل ما أراه حلما..

وليكن العالم كلّه حلما

إلاّ أن أراها حقيقة

النقاء والهدوء اللذين بحثت عنهما

لا أريد أن يكونا حلما...

مقابل الحروب التي عاصرتها

والمآسي

ومارأيته من خراب ودمار...

والطبيعت التي اقتحمتني وصارت بعضي

أريدها هي

كلّ مافعلته مدفوع بإحساس العاشقين

فمعها

رأيت السلام

والأمان

والطمأنينة

لا أعقل أنها فعلت كلّ مافعلته من أجل ساعات تأخذ عنها أجورا

مع ذلك أجلت سؤالا خفت منه.

هل نغادر الآن؟

- كما تحبّ.

- تستدعين سيارة أجرة؟

- دعني أحاول.

رجعنا باتجاه المدخل، وقفت أمام كهل في الخمسين يدخّن على أحد المقاعد الخشبية في الفراغ المحيط بالبوابة، استقبلها بلطف.. تحدّثا باليونانيّة.. ضحكا، أخيرا هزّ رأسه، والتفتت إليّ:

- سيارة الأجرة من هنا إلى المدينة القديمة تكلفك 30 يورو الرجل الذي تحدثت معه أعرفه سائق إحدى حافلات السياحة التي جلبت سياح أحد المنتجعات وستقلهم إلى المدينة القديمة سنذهب معه.

- كم أدفع له؟

- لاشئ

هل هو الحب الذي دفعها، ربما، لا أتعجّل في المدينة حين ينتهي النهار ساعة نجلس إلى طاولة العشاء وتطلّ علينا المصابيح بسطوعها الأنيق، تواتيني الشجاعة.

تركتني أجلس جنب النافذة.. شعرت بخدر لذيذ وطمأنينة...

أغمضت عيني كمن يقبض على المناظر التي أمامه ببصرة ويحفظها من التشتت والتلاشي.

هنا ننزل...

بدأ الظلام يهبط والمصابيح تستفيق، أمّا المدينة فكانت تعجّ بالعابرين...

نزلنا في شارع ضيق عند موقف الحافلات وعبرنا بوابة إلى داخل سور ملئ بمحلات تبيع الملابس والأحذية، وكانت هناك مقهى ينادي صاحبها على كلّ عابر..

- تحبّ أن تشتري شيئا؟

- لمن؟

صديق؟زوجة؟صديقة؟

- أبدا لو كنت متزوجا أو لي صديقة لجاءت معي.

اجتزنا المحلّات لنخرج من الباب الخلفي، فطالعنا البحر، والشارع الواسع، وحشد البواخر:

- هنا يعمل زوج أختي فاسيليوس.

- الرجل الذي رأيته صورته.

- نعم.

عبرنا رصيفا عريضا تحتله كراس تتحلق بشكل دوائر حول مناضد، واعترضنا شاب يدعو بكل أدب العابرين إلى الطعام، فقابلناه بايتسامة، بعد خطوات واجهتنا ساحة مستطيلة تتوازى مع طريق الساحل، تحت أشجارها وأعمدة المصابيح انتشر رسامون شباب يعرضون لوحاتهم للسياح كانت فرصة لأدعوها إلى تناول الآيس كريم من كشك عند الاستدارة:

لنر أيّهما أطيب الأيس كريم هنا أم في المنتجع!

أوكي.

تناولت لعقة:

مارأيك!

- لا الصراحة هذا.

فضحكت:

- لا ذاك لأنك أنت تجلبينه لنا.

قابلتني بضحكة ولم تعقّب.

دخلنا المدينة القديمة فأحاطني عبق الماضي وتسللت إلى أنفي رائحته

الماضي الذي كانت تعج فيه بالحياة قبل قرون بقيت منه محلات تعرض ملابس وتحفا مذهلة، فوق تلك المحلات الأنيقة بيوت لا يسكنها أحد....

مذهلة قلت عبارتي وأضفت: تعجبني الشوارع الضيقة وعبق الماضي

وانبسطت أمامي سلع كثيرة.. هي نفسها التي رأيتها في مدن الشمال.. لا أنكر أن لها رائحة تعبق بالدفء..

قبعات

سفن

تحف تعبق بالماضي

ميداليات مفاتيح تحمل كل ميدالية حرفا أبجديا:

قالت تشرح لي بعض ما غمض عليّ

هنا كان يسكن أجدادنا تحصنوا في هذه المدينة وكان الأتراك يحكمونهم حتى كانت الحرب الأولى فجاء الإيطاليون وطردو الأتراك!

ابتعت ميداليتين واحدة تحمل الحرف الأول من اسمي والأخرى حرف اسمها الأول، لو تحقق ما في ذهني لتبادلنا بعدئذ الحروف:

وقفنا أمام مقهى امتلأت بالزبائن:

هل ترغبين أن نتناول العشاء في هذا المكان أم على البحر.

مثلما ترغب.

- إذن لنعود إلى المطعم الأول.

رجعنا من الطريق ذاته، كان هناك ازدحام القادمين إلى المدينة اضطرنا ومن خلفنا والعابرون أمامنا إلى أن نحشر أنفسنا إلى حافة الرصيف حيث الحائط ففتحة تنهي بنافورة وباب أثري مهجور، وعبرنا ساحة الرّسامين.. وصلنا المطعم والشاب لمّا يزل يقف على الرصيف ينادي على العابرين.:

حقا إني أشعر بالجوع؟

جلسنا متقابلين، فجاء النادل، طلبنا طبقي سمك، وبعض المقبلات، وذهب ليغيب بعض الوقت عندئذ أخرجت الميدالية التي تحمل حرف اسمها الأول:

- أسترا هذه لك؟

- جميلة شكرا لك!

وتجرأت فكسرت خوفي والتردد وقفزت على هواجسي، فقلت:

- هل تحسبين الساعات التي ترافقينني لكي أعرف كم عليّ من حساب قبل سفري.

فابتسمت بنشوة:

سجلتها في البيت لا تشغل بالك!

تماسكت

كلّ ما في داخلي ارتعش ارتعاشة خفيفة

لا أحس بحركة العنكبوت منذ أصبح جزءأً منّي

راودني زعل مثل زعل الطفولة.....

لقد خسرت الرهان على نفسي

قدم النادل يحمل صحني السمك والمقبلات، والتحلية، هززت رأسي أعرب عن شكري، وقلت:

- أسترا. أتعرفين أنّك خلال هذه الفترة القصيرة أثرت اهتمامي ومشاعري!

- أشكرك جدا.

- قد أبالغ أو أتسرّع إذا قلت لك أحبّك!

فعبثت يدها بالشوكة، وجرعت من كأس العصير:

- أنت فاجأتني!

- لا أبالغ في مشاعري بضعة أيام تعادل شهورا والحب لا يحتاج لوقت قصير!

فاالتقطت بيدها قدعة سمك، وقالت:

كلْ ألم تقل أنك جائع.

مضغت بعض السمك والخبز، فابتسمت بوجهي وتساءلت:

- ألم تحبّ من قبل؟

- لم يكن لديّ الوقت، كنت.. (توقفت عن الكلام أعرضت أن أقول كنت أتابع الحروب والقتل. أرى أكثر مما أسمع وعندما زاد سمعي عن بصري... ): شاء القدر أن تكوني أنت.

فصمتت قليلا ورفعت رأسها إليّ:

أنا.... العام القادم سأتقدّم للتسجيل في جامعة أثنا. قسم الآثار لقد جمعت مبلغا من عملي في المنتجعات وأعمالا أخرى، افكر أن أعود بعد التخرج للعمل في رودس.

لعلي قاطعتها:

- أوروبا مفتوحة أمامك، تستطيعين أن تعيشي معي هناك في مدن الشمال.

- مسألة لا أفكر فيها على الأقل الآن (ثمّ استدركت): هل تقدر أن تقيم مشروعا هنا في رودس أو أثنا؟

- قد يكون الأمر صعبا.

فقالت من دون تردد:

- يسعدني أن أرتبط بك لكن لا أظنّ أني أقدر أن أعيش بعيدا!

استفقت من حلم صنعته منذ بضعة أيام. حاولت أن أستبق الزمن فأراه بصيغة أخرى غير واحدة... نسيت أو تجاهلت كلّ شئ محتمل..

- هل تطلبن شيئا آخر:

- لا شكرا..

وعن غير وعي، أخذت يدها وطبعت عليها قبلة، فهمست بصوت خافت:

أشكرك

وزاغت ببصرها عني إلى الطريق، لتختفي عن بصري ضجة الشارع، والناس، والبواخر القادمة من بحر مرمرة، محملة بأجواء الشرق، لم نتبادل حروف الأسماء، ولم ألتفت إلى الطريق الموصل إلى بيت أختها المليئة حافته بأشجار الزيتون والرمان، وتجاهلت نخلة صغيرة مهملة عند حافة الشارع العام أمام معرض السيارات القديمة...

كأنّي خسرت كل شئ..

كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة

فهبطت من من السيارة، وأعرضت عن أن أذهب إلى غرفتي في المنتجع، قصدت الطريق الجانبي إلى الشارع العام، وعبرت التقاطع، دخلت درب البحر.. فوصلت الساحل الذي همد منذ غياب الشمس

لا أحد معي..

سوى ضياء مصابيح خافت..

الجو حار والريح ساكتة..

ابصرت في البحر... واتخذت مكاني إحدى المساطب..

هناك معالم أخرى... الكنيسة الأثرية.. حصن القديس نيكولاس.. سيدة القلعة.. ينابيع كاليثيا.. قالت لي هناك مسجد من زمن الدولة العثمانية... هل ألغيها... ظننته الحب، فظهر لي بشكل ساعات عمل... وفي خضم الهواجس.. ونغمة الحزن أطلّ عليّ من حيث لا أدري شخص ما.. من البحر أم من جهة البستان قبل الساحل.. اختار مجلسه جنبي... حياني بلغة أفهمها ولا أعرفها.. وعلى الرغم من خفوت المصابيح وظلّ الشجرة الذي يحجب الضوء، تبينت وجهه حين التفت. إنّه هو نفسه الرجل االذي جلس جنبي في القرية الصغيرة بساحة العرض، واستعراض الحروب الأسطوريّة من قبل ممثلين مقنعين:

هذا أنت حسنا أنّي وجدتك هنا.

فهمت نبرته بوضوح، لم يكن غاضبا ولا مستاءً

- حسنا أنّك تذكّرتني.

فضحك ضخكة طويلة وقال:

بحثت عنك فوجدتك تبحث عن امرأة تشغلك عني.

قلت بضيق صدر:

- مالعمل الآن

لا بدّ أن تفهم... كان الناس إذا رؤوا الأسطورة من قبل يتحجرون.. أنت الآن آمن فأنت في بلاد الأساطير التي أصبحت حقائق.. لكن إذا خرجت إلى أيّ مكان آخر أوّل مايراك الناس تتحجر مادام العنكبوت بأذنك؟

أخذتني المفاجأة:

- ماذنبي أنا؟

- لأنكّ قبلت أن يقتحم العنكبوت أذنك وجدتها لعبة.. أحذرك.. حالما تغادر الجزيرة ويقع بصر الآخرين عليك تتحجر تصبح تمثالا.

جمدت في مكاني ولزمت الصمت.. لا قدرة لي أن ألتفت.. رجلاي تتخدران...

أشعر بنعاس خفيف

ثقيل...

لم أعد أشعر بما يحيط بي...

لا أدري كم بقيت على حالة الخدر والصمت لكنني شعرت بدف مفاجئ وعطش وحرارة تلامس جبيني ففتحت عيني، فأبصرت الشمس أمامي على الطرف الآخر من سلسلة الجبال...

استعدت أنفاسي..

لم يشغلني الحرّ ولا تيبس شفتي... ولا أفكر إلا بالعنكبوت الذي التحم بأذني... صدقت تماما الرجل الحقيقة الأسطورة الذي قال لي أني سأتحجر حالما يراني الناس الآخرون خارج الجزيرة، فوضعت يدي على أذني، وهمست:

أسترا!

ملحق

عندما عدت إلى الشمال تاركا سعة الحرّ خلفي، شعرت بعد يومين أو ثلاثة في خدر بأذني.. تنمّل بشبه خدرا تتعرض له من إبرة تخدير موضعي، وقد اتسع الخدر بعد بضعة أيام، زرت الطبيب الجراح ففاجأني أن العنكبوت مات وتعفّن في أذني، والورم بدأ يسري في، لابدّ من أذهب إلى المشفى...

لا حلّ سوى أن أرقد على ظهري...

لم تعدّ الجراحة تنفع...

كنت أرقد على السرير . يزورني. زأطياء.. ويمرّ عليّ ممرضون وممرضات.. كبّ يوم أشعر بخدر يتسرب إلى جسدي....

نصفي الأيمن تحجّر تماما

إحدى الممرضات انصرفت إلى مرافقتي طول اليوم.. تحدثني...

تنقل لي الأخيار

وقد أشرت لها أن تفتح بريدي الألكتروني لأرى أن كانت هتاك رسابة من أسترا.. فتحت البريد الألكتروني، فاتصرفت عن رسائل الإعلانات، ولفتت نظري رسالة غريبة.

مازلت أعي

وغدا يتحجر كلّ جسدي فلا أرى شيئا..

وضعت الحاسوب برفق على صدري...

كانت الرسالة من واثق زوج السيدة الروسية...

أنا بخير.. آمل التواصل

وآمل أن تكون بخير

كانت تبك آخر عبارة ألتقيها من الآخرين قبل أن يتحجّر جسدي كلّه فلا أستطيع حينذاك أن أعي شيئا!

***

(رواية)

د. قصي الشيخ عسكر

4 \9 \2025

مِنْ حريرٍ حُلْمهُ

حَلْوَاهُ : دنياهُ

تُعَانِقَهُ هداياهُ

ونَكْهَتهُ بألْعَابٍ تَشِبُّ..ولا تَشِيبُ!

*

أبيضٌ تُفَاحَهُ

عَبَقٌ براءَتهُ

وثوبهُ بالهوى قَمَرُ خَصِيبُ!

*

أَنَّى لَهُ

إِطفَاءَ شَمْعَتِهِ وَحَوْلَهُ

بَهَجَةٌ تَكْلى

مُطَوَّقَةٌ بآلامٍ تُذِيبُ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

إهداء: إلى الحروف التي لم تُكتب، والأسماء التي صارت شواهد، إلى الغائب الذي تحوّل قصيدة، والدمعة التي سالت حبرًا، والصمت الذي اختار أن يتكلّم بطريقته.

هناك أماكن لا تحتفظ بالزمن فحسب، بل تُخفيه في قلبها كما تخبئ الحقول آخر دفء للشمس قبل أن يبتلعها الغروب. تلة وادي هدسون، في خريف 1985، بدت خارج إيقاع التغيّر؛ جمالها مؤصّد في زجاجة زمن مغلقة. الأعشاب تنمو كما تشاء. ولولا أميليا، لكنت مررت بها كما يمرّ الغيم على قمم بعيدة، عابرًا بلا أثر.

في صباح ضبابي، حين كانت الأشجار ترسم أسماءها على الهواء، أشارت إلى ممر ضيق وهمست: «هذا المكان يناسبك». مشيت معها. الأرض تفوح برائحة المطر، والهواء مشبع بندى الطين ودخان مدخنة بعيدة. باغتها سعال رقيق وأخفَته في منديل أزرق. سألتها إن كانت تشعر بالبرد. ابتسمت: «لا شيء يدعو للقلق». لم أكن أعلم أن تلك التلة ستبقى في ذاكرتي لا كصورة، بل كفصل مؤجَّل من حياتي، وأن نظرة واحدة كانت كافية لفتح باب ظلَّ يطلّ على فراغ منذ ذلك الحين.

في أسبوعي الأول بالجامعة، كنت أتنقّل كحرف غريب في نصّ لا أفهم لغته. الوجوه تمرّ كأطياف، واللغة كزجاج نافذة قديمة؛ تُظهر كل شيء، لكنها لا تمنح دفئًا. دخلت القاعة متأخرًا، تعثّرت وسقطت كتبي. ارتطم صوتها بالأرض نقيًا، كأذان فجر في قرية نائمة. قبل أن أنحني، مرّت ضحكة خفيفة، كنسيم يتسلل من نافذة مواربة. رفعت بصري ببطء. كانت واقفة في صمت، خارجة من حلم لم أره قط. شعرها منفلت كأنفاس الحقول المذهّبة قبل الحصاد. ابتسمت وقالت: «بداية قوية». أجبت: «أو نهاية مبكرة». ابتسمت، كمن يعرف أن اللحظات الصغيرة لا تبدأ إلا بعد أن تنقضي.

بعد المحاضرة، وجدتها عند الباب. «أنا أميليا»… همست، كما تُولد أول كلمة في قصيدة يؤمن بها الشاعر قبل أن يخطّها. كان في حضورها ما يجعل الغريب مألوفًا، وما يجعل اللقاء الثاني بلا دهشة.

في الأيام التالية، كنا نلتقي بلا موعد. أحاديثنا، وإن قصرت، كانت تترك أثر تفاهم لا يحتاج إلى شرح. في إحدى النزهات، وقفت أمام النهر كأنها ترى فيه ظلّ سلما، ألاباما، وقالت، وعيناها معلّقتان على صفحة الماء: «بلدة صغيرة، لا يحبها أحد، لكنها تحفظ الوجوه كما هي». ثم تابعت: «ربما من وُلد فيها يقضي عمره محاولًا مغادرتها… أو يحملها معه أينما ذهب». تذكرت مدينة والدي. لم يكن يذكرها كثيرًا، لكنه كان يحملها في نبرة صوته كما يحمل الفلاح أول قطرة مطر في موسم جاف، بحذر لا يخلو من رجاء. قلت: «ثمة مدن نظن أننا تجاوزناها، لكنها تظل كامنة في طريقة تنفّسنا». ابتسمت، كأنها تودع الفكرة للنهر، وتركتها تنساب مع التيار.

بعد أيام، دعتني إلى التلة من جديد. قالت: «هذا مكاني. هنا أسمع صوتي دون أن أرفعه». ما بلغني لم يكن صوتًا، بل سكونًا يتشكّل بيننا، كخيط ضوء يتسلل من نافذة مغلقة.

وفي أحد أيام الخريف، ونحن نعبر فناء الجامعة، توقفت عند شجرة الدردار. قالت: «أحب هذه الشجرة الطاعنة؛ تتجدّد بصمت كل عام، وتلوّح بذاكرة لا تنطفئ، كيد عجوز تعرف كل الوجوه». صمتت لحظة، ثم أضافت بلهجة حالمة: «أريد أن أترك أثرًا قبل رحيلي». ابتسمت، مستعيرًا سؤالًا من نص مألوف: «أليست هذه رغبة الجميع؟». لم تُجب، بل حدّقت بعيدًا، حيث كانت الأشجار تتوارى في الضباب، ككلمات تُمحى من قصيدة غير مكتملة.

ثم جاء أول شتاء لي في ألباني، شمال نيويورك. هبطت الحرارة إلى ما دون عشر درجات تحت الصفر. من خلف زجاج الكافتيريا، راقبت البياض يغمر الحديقة بصمت لا يحتاج تفسيرًا. أشارت أميليا: «هيا، لنخرج. هذا أول ثلج حقيقي». توقّفت وسط الساحة، رفعت ذراعيها، وأمالت وجهها نحو السماء. استقبلت الثلج كطقس طفولي تحفظه في قلبها. قالت: «ألا ترى؟ كل شيء يُمحى… أليس ثمة ما هو أنقى من بداية بيضاء؟». فكرتُ في المدن التي تُمحى ملامحها تحت الثلج، وقلت ممتعضًا: «إنه الجحيم». ضحكت: «ربما ترتجف لأنك تفكر في البرد. لا تدعه يفكر عنك».

ثم حكت بصوت خافت عن شتاء بعيد بألاباما، كانت فيه طفلة عليلة، وأمها تهمس: "البرد يسكن القلوب قبل الأجساد، ومن يبرأ منه لا يعود كما كان." صمتُّ، لكن وقع كلماتها ظل يطرق داخلي.

في الطريق عائدًا، خطرت لي حكاية زواج والديّ. جدي هو من قرّر أن يزوّجه بابنة عمّه، حفاظًا على صلة الدم؛ كأن العائلة أثقل من نداء القلب. لم يخترها، بل وُضعت في طريقه كما توضع الحجارة في مجرى النهر. ربما لهذا كنت أبحث عن علاقة لا تبدأ بختم العائلة، بل من ارتباك صادق، من رعشة لا تُفسَّر. كأنها أول برق في ليل طويل.

مرّت ثلاث سنوات على لقائنا الأول. ما بيننا لم يكن حبًا معلنًا، ولا صداقة عابرة، بل مساحة رمادية بين كلمة لم تُقل ومعناها. ثم جاء المساء الذي طلبت فيه أن ألقاها على التلة. كانت على صخرتنا القديمة، والجدية الحزينة تملأ صوتها: «حين يبدأ الجسد في الغياب، لا يبحث عن معنى… فقط يريد أن يُرى». صمتنا قليلًا، ثم قالت إنها لم ترد أن أركض خلف نبض يُقاس بالأرقام، وإنها لم تعد تملك رفاهية الصمت. أخرجت دفترًا صغيرًا: «فيه مغلف. لا تفتحه الآن… اقرأه حين يصمت كل شيء».

لم أرها بعد ذلك لأسبوعين، حتى وردني اتصال من والدتها. تكلمت بصوت واهن، كأن الحروف تمشي على حافة الصمت، تتعثر بين الحلق والقلب. صمتت لحظة، ثم أفرغت ما في صدرها. قالت أخيرًا: «كانت تقول إنك لا تحتاج وصية… أنت تعرف. أردت فقط أن أخبرك… أنك لم تكن صديقًا. كنت الباقي».

بعد يومين، صعدت إلى التلة. جلست على صخرتنا، وفتحت المغلف. كان الورق باردًا، خشن الحواف، ورائحته تشبه دفاتر المدرسة القديمة. الحبر الأزرق يلمع تحت الضوء. قرأت: «كنت أتمنّى أن يكون لي معك زمن لا يخذلني». أعدت قراءة السطر الأخير، وشعرت أنه يتنفّس معي. همست، كمن يطلق صرخة سرية لا يسمعها أحد: «سأتخرّج يا أميليا… وسأحمل هذا النقاء الذي أهديتِني إيّاه، آخر ما تبقّى من أمريكا يجاور نبضي».

وبينما كان الصمت يهبط على التلة مثل ثلج متأخر، أدركت أن البياض لم يكن غيابًا، بل شكلًا آخر للحضور؛ حضور يظلّ يرافقني حتى وأنا أمضي، كظلّ لا يذوب في الضوء، وكأغنية لا تنتهي حين يسكت العازف.

***

عبد الله محمد الزعبي

 

يصر على الموت واقفا، كما قرأ يوما في أخبار النبي سليمان. أن تموت واقفا معناه أن تُطمئن الحياة بأنك عائد مرة أخرى. وحدها النفوس الضعيفة تستلقي معلنة عن نهايتها.

 بعد كل صلاة عصر يؤكد لهم أنه لا يخاف الموت. كيف يخافه وهو الذي بارك حضوره الغليظ والقاسي في لاندوشين(*). حرب بلا مجد أو هوية. قاتلوا إلى جانب محتل ضد أبناء الأرض، ثم استسلموا لحقيقة مرة.

 كيف يخافه وهو الذي عاين بقلب متحجر تطاير أحشاء رفاقه، فتلاشت قدسية هذا الإهاب الرباني، الذي تلُفّه منذ الطفولة جلابيب صوف في أعالي الأطلس. هناك وُلد، وهناك تبرعمت أحلامه بالزواج، وزعامة القبيلة، ثم الفرار من إدانة بالحبس سنة ونصف بعد اتهامه بسرقة المواشي.

لا مشكلة لديه في الإقرار بأنه تاجَر بأحلام البسطاء أمثاله. ما الذي تتوقعه من جبل لا يلد إلا الحجارة؟ عشرون سنة وهو ينحت أمنية الثراء، فوجدها يوما في الاحتيال على رعاة الجبل.

- يعرض أحدهم النعجة كما لو في بطنها خاتم سليمان. الطماع يقضي عليه الكذاب. أعدهم بأثمان مغرية في سوق المدينة، فأقبض نصف المبلغ من السمسار ويقبضون الريح!

لكنهم سامحوه يوم علموا بنقله تعسفا إلى لاندوشين. الذاهب مع الفرنسيس مفقود، والناجي مولود. لم يأسف سوى لتركها وحيدة، تستجدي لقمتها من بعثرة خيوط الصوف على النول.

هبت نسمات رطبة من ردهة البيت فألقى حصيرا وتمدد. في الشقوق البارزة يجهد عنكبوت ليبني مصيدته. كأنها غذّته من صبرها وطول بالها. تدلى الجنين الأول من بطنها ميتا فلم تحزن. أما الثاني فكانت الولادة متعسرة، ثم قرار بأن يلحق أخاه إلى جنة الصبيان.

بلا ولد ولا وتد. الولد مفقود، والوتد غارق في طيشه ورعونته. كالأرزة تحملت ومدت جذور أحلامها بعيشة الكفاف في حضنه. ملعون ذاك الذي يسمونه حبا، فالقلب بلا بصيرة كالنار الموقدة.

مرت سنة، سنتان، ثم فقد إحساسه بالزمن. باع نولها المسجى في زاوية الغرفة كي لا يذرف مزيدا من الدموع. حتى أشياء مطبخها تشير إليه بأصابع اتهام

- لماذا خلّفتها وحيدة؟ هل قطفت ثمرة فؤادها لتعتلي صهوة جنونك؟ كلكم أنذال! سيمضي زمن قبل أن تدركوا أن الدنيا لا تساوي شهقة محب في ليلة باردة. هنا تقلبت في فراش الانتظار، تتلمس خبرا أو فجيعة. الحرب هي الحرب. طاحونة ابن آدم الأول. لكنها تجلّدت وأرهفت سمعها كل ليلة لوقع أقدامك.

حمّلوه رسالة من زعيمهم "هوشي مِنه" إلى الخطابي في أعالي الريف:

- الأحرار يموتون وقوفا لأنهم أوتاد الوطن.

بعد رسو الباخرة في ميناء كازابلانكا، صادف فرنسيا يعربد في الجوار فطعنه. لتكن ضريبة احتلال ساق رفاقه إلى الذبح. بعد ليال من السير المتخفي في الأودية، داهم قريته كالذئب الجريح:

- كلكم أوغاد. يجركم الفرنسيس إلى حتفكم خاضعين. ليس الوطن خيمة وشياها ترتع في الوادي. لو رأيتم ما يصنعون بهم في غابات لاندوشين. قطط تموء من الذعر. موتوا وقوفا ليكون لهذا الوجود معنى. رأيت الموت وشممت ريحه. إنه خطوة. نعم مجرد خطوة، كلما مشيتها تراجع للخلف. الحر من يملك مصيره. كونوا رجالا أو احفروا لهذا الصمت مقبرة.

انزعجوا قليلا ثم سامحوه!

***

حميد بن خيبش

........................

* حرب الهند الصينية أو فيتنام. شارك فيها جنود مغاربة إلى جانب القوات الفرنسية.

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى السُّورِ العظيم

مع التِّنين الأصفر.

الأصفُر لونُ الخباثة،

ولونُ صحفِ اليوم (إيّاها؟)

يتحوّل التِّنينُ الى جسرٍ

على نهر اليانتسغي

مثلَ "جسر على نهر درينا"*

بسيوفٍ من الذَّكاء الاصطناعي،

هذا زمنٌ سيتحوَّلُ العالمُ فيه

الى ألفين وخمسمائة قبيلة،

كما تنبّأ الرَّفيقُ أبو الألفِ ميل

في ثورتِهِ الثَّقافيةِ غير العنترية،

فالعنترياتُ "التي ما قتلتْ ذبابة!"

مازالتْ هباءً منثورا

منذ أيام:

"سنرميهِمْ في البحر!"

فرمَونا..

في غيابة الجُبِّ

حتى يوم يُبعثون!

فظلَّتْ القبائلُ تتناسلُ

مثلَ الفُطْرِ،

بفضلِ النَّمر الورقيّ الهائج؛

بسببِ الدُّبّ الأبيضِ المُهتاج

حتى نخاع البروليتاريا العالمية

الغافيةِ

على أوتارِ عزفِ شِلَّة الأُنس

في (الوادي الأخضر) طُوى،

وشِلّةِ الرَّقصِ على الحبال!

في هذا الزَّمان الأغبرِ..

مِنَ الصَّحراءِ الكبرى،

والمليء بالدُّمى المُتحرِّكة

بالرِّيموت كونترول...؟

***

عبد الستار نورعلي

...........................

* جسر على نهر درينا: رواية الروائي اليوغسلافي إيڤو أندريتش (1892-1975) والتي نال عليها جائزة نوبل في الأدب عام 1961.

لا يمكنني أن أتذمّر،

فكيف يشكو القلبُ وهو يطفو ،

في بحرٍ ماؤه من عطاءٍ لا يُحصى؟

كيف تضيق الروحُ وقد سُقِيَت

من نبعِ رحمةٍ لا ينضب؟

*

أنا الغافلةُ التي مرّتْ على النِّعَم

كما يمرّ العابرُ على حدائقٍ مطرّزةٍ بالعطر،

ثمّ لم يلتفتْ ليقول ، شكرًا.

*

لكنّ الله،

المنعِمُ بكرمه ولطفه،

ظلّ يُفيضُ عليّ من خزائنِ غيبه،

كمن يُطعمُ طفلًا غافلًا

ويغطيه برداءٍ من دفءٍ وهو نائم.

*

إنّ الخطوب ليست سيوفًا مسلّطة،

إنّها أبوابٌ خفيّةٌ يُدخلنا الله منها

إلى قاعاتٍ من الفهم،

إلى سكينةٍ لم نكن نعرفها،

إلى حوارٍ صامتٍ مع السّماء.

*

فكلّ ما يأتي من الله جيّد،

حتى ما نراه جرحًا

إنما هو نافذةٌ أخرى للضوء،

وكلّ دمعٍ ينحدرُ منّي

هو حبرُ صلاةٍ مكتوبةٍ في الغيب.

*

فلا مجال للشكوى،

ولا حيلة للغضب،

إنّما نحنُ قلوبٌ على مائدةِ اللطف،

تتعلّمُ ببطءٍ

أن تُسمّي كلّ ما يجيء ،

خَيْرًا.

***

مجيدة محمدي

لم يكن اللقاء عاديًا، بل كان صامتًا أكثر مما ينبغي، خافتًا، كأن الكلمات خجلت من أن تُقال.

جلست أمامه، تحدّق في وجهه وكأنها تفتّش عن شيء كان هناك قد اختفى.

لا لهفة، لا ذلك البريق المعتاد في العيون، لا ضحكة تفلت بين الحين والآخر، حتى الوقت بدا ثقيلًا، يتثاءب بينهما.

تأملته، كان شاردا كأنه يحادث أفكاره... لا يحادثها هي، مما زاد من توترها، تملّكها شعور بالإحباط.

قالت بنبرة حاولت أن تخفي فيها خذلا نها: بإمكانك الذهاب.

ثم أضافت وهي تشيح بنظرها عنه: أنت لم تطلب لي حتى فنجان من القهوة. ما جدوى جلوسنا، وعامل الكافتيريا لا يزال يترقب إشارة منك؟ لا قهوة، لا حديث، لا اهتمام.. صمتَ.

لم يجد ما يقوله، فقط تمعّن في الطاولة الخشبية أمامه، كأنه ينتظر أن تجيبه هي نيابة عنه.

وقفت، رتّبت حقيبتها الصغيرة وهمّت بالرحيل.

قال وهو يرفع رأسه فجأة: لكن لم تمضِ سوى عشر دقائق.

أجابت، دون أن تلتفت:

"لا بأس... الأسبوع القادم نلتقي وغادرت.

في الحافلة، كانت الخيبة تجلس بجانبها، وجدت مقعدا خاليًا بجوار رجل في الأربعين من عمره. في البداية، لم تنتبه له، كانت غارقة في التفكير، ترسم في رأسها سيناريوهات كثيرة لما كان يمكن أن يكون.

لكن بعد خمس دقائق، بدأت تشعر بنظراته تتسلل إليها. التفت بخفة، فإذا به يبتسم ابتسامة متصنّعة، ثم يعبث بهاتفه بطريقة مكشوفة، كأنه يبحث عن طريقة للحديث معها، أو أسوأ من ذلك، هو الحصول على رقمها دون إذن.

انكمشت على نفسها أكثر، ألصقت كتفها بالنافذة، متمنية أن تتوقف الحافلة فورًا.

اشتد الضيق داخلها. فجأة، بدا لها فنجان القهوة المفقود أغلى من لحظة النجاة.

قالت في سرها: ليتني لم أغادر.. ليتني بقيت لأعلم ما به، ماذا لو بادرت أنا بالسؤال، حتى دون قهوة، حتى وأن كان في الصمت.

أخرجت هاتفها، بحثت عن أسمه في قائمة الاسماء، ضغطت على زر الاتصال.

انتظرت...

"الجهاز مغلق، يرجى الاتصال في وقت لاحق.

ضغطت مرة أخرى، ثم ثالثة، ولا رد.

أعادت الهاتف إلى حقيبتها ببطء، وحدها أنفاسها كانت مسموعة، وداخلها شعور ثقيل، أثقل من فنجان قهوة لم يُطلب.

***

نضال البدري

 

تعالَي إليَّ لِأسقي الحديقةَ هذا المساءْ،

تعالَي إليَّ أرى النارَ تخبو بهذا السراجْ،

أرى نبتةَ الصمتِ طالتْ وصارَتْ كمثلِ السياجْ،

تركتِ الندى ذاهلاً في الحديقةْ،

ووحدَكِ كنتِ أمامي الحقيقةْ،

أنا لا أراكِ ولكنْ أرى أثراً منكِ مثلَ السّناءْ،

**

تَبينُ الورودُ تجِفُّ الورودُ وأنتِ انعطافُ النسيمِ على عُنقِها في مدارِ التشظِّي،

إذا كانَ للماءِ جذرٌ فأنتِ وإنْ كانَ للنارِ نبضٌ فأنتِ،

إذا سالَ نهرٌ منَ الليلِ فوقَ حصى الضوءِ أنتِ،

وإنّي صببْتُ بكفَّيكِ بعضَ المياهِ وأنتِ قبضْتِ الأناملَ فوقَ المياهِ،

وحينَ فتحْتِ يديكِ رأيتُ هنالكَ نجمةَ صيفٍ تَشِعُّ،

لقد كانَ ممشاكِ طيفاً رفيعاً على جانبيهِ سنابلُ صُفْرٌ،

وشَعْرُكِ حينَ تهبُّ الرياحُ كرايةِ عشقٍ تشيرُ لكلِّ الجهاتِ،

ويا نارَ جلدِكِ كوني سلاماً وبرداً على كلِّ ثوبٍ يلامسُ هذا العذابَ،

**

زجاجٌ يُطوِّقُني حيثُ كلُّ انعكاسٍ سيَبْذُرُ غابةَ ظلٍّ عليَّ،

وأنتِ بهاءٌ فلا تُسألينَ كأنَّكِ وحدِكَ وقتٌ كأنَّكِ أنتِ مكانٌ جديدٌ ووحدي إليهِ وصلْتُ،

كأنَّكِ قبلَ الحياةِ وبعدَ الحياةِ لذا إن أردتُ الحديثَ إليكِ،

فلا بُدَّ من لغةٍ وقعُ أحرفِها في السماعِ كمثلِ الفَراشِ يُلامسُ ضوءَ التُّوَيجِ،

وإمَّا أرادَتْ يدايَ يدَيكِ فلا بُدَّ أن أتوضَّأَ بالنبعِ يا امرأةً تسكنُ الغيمَ والأمنياتِ،

لكِ الليلُ مملكةً لا تزولُ وروعةُ هذا الغروبِ إذا الشمسُ ذابَتْ كمثلِ انصهارِ الحديدِ،

أحبُّكِ، لسْتُ أمَلُّ التغزُّلَ فيكِ كشمسٍ ستُشرقُ كلَّ صباحٍ،

دخانُ التجلِّي يُنادي عليَّ سديمٌ تكثَّفَ أوحى إليَّ،

**

خذيني لغرفتِكِ المشتهاةِ فإنَّ أناملَ كفّي تسافرُ باللمسِ فيكِ،

جدارُكِ خلفَ السريرِ فُصوصُ المجرّةِ أمّا مراياكِ ماءٌ تصلَّبَ،

هذي الجواهرُ إذ تلبسينَ تُغادرُ عُنصُرَها الرَّخْصَ،

نافذتانِ أرى منهما ظبيةً لا تُنالُ، ستائرُ ترقصُ، عطرٌ منَ الرغباتِ النديّةِ، ساعةُ رملٍ كخصرِكِ،

بعضُ النباتاتِ فيها الجذورُ مُعلَّقةٌ في الهواءِ وما من ترابٍ وتُسقى إذا ما نظرتِ إليها وما من مياهٍ،

**

وتحرُسُ نومَكِ تلكَ الفراشةُ،

قولي لها إنْ دنت نحلتي: ذا حبيبي،

أميرةَ كلِّ الطبيعةِ إنّي أتيتُ وعندي بذورٌ،

فهلّا أذِنْتِ لتفتحَ هذي الشرانقُ باباً منَ الخِصْبِ،

إنّي شفيفٌ،

وإنّي أتيتُ لأسقي الحديقةَ هذا المساءْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

 

أبوابها مصفّحة

حجارتها من صَلد الصوّان

حيطانها شاهقات من إسمنت وحديد

تدور بالريح

إذا ما خفتت أو سكنت

تدور بالنفط

إذا اِنتهى النفط والغاز

تدور بالكهرباء

إذا توقف

تدور بالماء

إذا جفت الينابيع والسواقي

تدور من الآبار بالدلاء

إذا غارت

تدور بالسّيول والأنهار

إذا عمّ الجفاف ولم يسقط المطر

و لم يبق إلا الحجر

تدور بأمواج البحار

والمحيطات

إذ نزحت

تدور بملح السّباخ

إذا بلغت التراب

تدور الطاحونة بالسواعد

سواعد العبيد

إذا تحرّروا يوما

تدور بعرق الكادحين

إذا أضربوا

تدور بدولارات أصحاب المليارات

إذا أفلسوا

الطاحونة تطحنهم

و تدور بحقائب الوزراء

إذا أقيلوا

تدور بكراسي الرِؤساء

إذا ما سقطوا

في اِنتخاب

أو في اِنقلاب

الطاحونة تطيح

بعروش الأمراء

و بتيجان الملوك

إذا عَصفت بهم الثورات

الطاحونة تطحن الشعوب

تعصرها

تدور بدمائها

و تقول هل من مزيد

تطحن القمح والشعير

الحنطة / الأرز/ القهوة / السكر

تقول هل من مزيد

تطحن القصب / الصبار/ السدر / الحلفاء

هل من مزيد

تطحن التين والزيتون / النخيل / الليمون/ اللوز / الموز

هل من مزيد

تطحن الغابات / الحدائق / الورود/ الزهور

الياسمين

هل من مزيد

تطحن الخيول / الخرفان / الأبقار/ الغزلان / العصافير / الفراشات

هل من مزيد

الطاحونة تطحن الأسوار

الأهرامات

برج بابل

برج إيفل

جدار الصين

حنايا قرطاج

أعمدة البتراء

منارة اﻹسكندرية

كوليزي روما

ناطحات السحاب

هل من مزيد

الطاحونة تطحن الجبال والبلدان

هل من مزيد

تطحن الأرض والبشر

هل من مزيد

تطحن القمر

هل من مزيد

الأفلاك والنجوم

الطاحونة مازالت تريد

إلى أن تدور الدواليب على نفسها

تطحن أسنانَها وسلاسلَها بأسنانها وسلاسلها

فتهوي كأعجاز نخل خاوية

ويبدأ تاريخ

...جديد

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

حكم لسانك يا فتى

كالسيف في غمد الحكيم

وصن الكلام من الأذى

كالدر

في الحصن الأمين

وكن السمو

موازيا

شم العلا

وكن الروابي والزهر

وكن النسيم

بعبقه

ريان كالورد الندي

ما انت إلا لحظة

فابعد فؤادك ما استطعت

عن الغوى

ياراسخا يا وادعا

فالصدق

يهديك النجاة

والحب يهدي للحياة

***

باقر طه الموسوي

(الى أطفال غزّة الصابرين صبرَ الرّجال على الجوع والحصار)

جُوعُكَ ...

يا طِفلي الشّاحِبَ

يُمزِّقُ قَلبِي ... يُضنِينِي ...

يَقضِم خُبزَ حُرّيّتِي

يَنثُر أوْجاعَ الجَمرِ مِن فُرنِي

يُغمِّسُ في طَبَقِ المُرِّ أرغِفَتِي ...

فَأرَانِي مُحاصَرَةً بالعَجزِ

يتبَعُنِي إثمُ العرَبِ

حَيث ولّيْتُ يُلاحِقُني

لا مَأمَنَ مِنه يَحمينِي ...

*

دَمعُكَ ...

يا طِفلِلي البَاكِي

يُفَجّرُ حزنِي أنهَارًا

مَن يَقدِرُ عَنه يُسْلينِي ؟؟

يُمَزّقُ قَلبَ التّاريخِ

يَسألُهُ عَن عصرِ العَطَنِ ...

يَسألُهُ عَن إثمِ العَرَبِ

عَن حُكمِهِ بَين الكَبائرِ ؟؟

فَغَدا السّؤالُ يَجلِدُني

هَل جَلدُ الذّاتِ ...

يَكفِيكَ ... ويَكفِيني ؟؟

*

خَوفُكَ ...

يا طِفلِي الغَافِي

في قَاعِ الجُبنِ يَرمِينِي ...

عَينُكَ نِصفُ المُغمَضَةِ

راصِدَةً أصدَاءَ القَصفِ

تَلدَغُ كبِدي النّنازِفَةَ

تُقِضُّ هَجعَةَ جَفنِي

فأرَى الأقمارَ تنطَفِئ

وسَماءَ الوَطنِ آفِلَةً

وأرَى الأفجارَ تنسَحِبُ

مِن بَينِ أصابِعِ أمنيَتِي

حتّى ما بَقِيَ في الأفُقِ ضَوءٌ

تَزهُو لِرؤيَتِهِ عَيني ...

*

جِسمُكَ ...

يا طِفلِي العَاري

في كُلِّ الصّوَرِ يَأتِيني ...

كعصفورٍ بِلَا رِيشٍ وأجنِحَةٍ

بَين الرّكامِ ... تَحُطّ

بَعضَ التّرابِ ... تَسِفُّ

بِمَلامِحَ تَقتَحِمُ الكَونَ

وتُزعزِعُ شريانَ المُدُنِ

فتُلطّخُ وجهي بالذّلِّ

عند المِرآةِ تُعرّينِي ...

*

حِصَارُكَ ...

يا طِفلِي ... شَرَفّ

يَرفَعُكَ للمَجدِ رَجُلًا

بِسِياطِ الخجَلِ يَكوِينِي ...

فأنتَ الحُرُّ

مِن جوعي ... ومِن عَطَشي

وأنتَ الحُرُّ

مِن خَوفِي ... ومِن خِزيِي

وأنتَ الحُرُّ ... في القَبرِ

وأنتَ الحَيُّ ... فِي الموْتِ

تَركتَ لِي الخُبزَ والماءَ

فما شبِعتُ مِن جُوعِي ...

ولا استطاعَت مِياهُ الأرضِ

تُطهِّرُني وتَروِينِي ...

وظَلّ الإثمُ

يَتبَعُنِي ... يَصفَعُنِي ...

يُعفِّرُ وَجهِي وجَبِيني ...

***

كوثر بلعابي

(تونس - القصرين: في أوت 2025)

 

ما زال هذا الجرحُ ينزفُ راعفًا

فإلى متى نتقاسمُ الآلاما؟

*

ستونَ جرحًا قد حملتُ شجونَها،

قد صيرتني للجراحِ إماما.

*

أمضي وأحملُ في الفؤادِ مواجعي،

كالنارِ تأكلُ في الحشا إضراما.

*

وأرى الليالي، وهي تزرعُ وحشتي،

تُهدي إليَّ من السنينِ سهاما.

*

كم قد بكيتُ على رُفاتِ أحبّتي،

حتّى غدوتُ لأدمعيَ إقلاما.

*

إنّي غريبٌ في الدروبِ كأنّني

زرعٌ تجرّعَ في المدى أيتاما.

*

والصمتُ يوجعُ مهجتي في وحشةٍ،

فيغورُ في صدري الأسى إقداما.

*

أبقى وحيدًا، والظلامُ يطوِّقُ الـ

أحلامَ حتّى يعتلي الأحلاما.

*

وتنازعتني في الليالي لوعةٌ،

تمضي لتُشعلَ في الفؤادِ حطاما.

*

أبني على أملِ النجاةِ قصائدي،

لكنْ يُحوِّلها الأسى أوهاما.

*

والجرحُ أوسعُ من يدي، فكأنّهُ

بحرٌ يمدُّ إلى العروقِ سهاما

*

أُلقي على شفتيَّ صمتاً بارداً

كي أستبيحَ بها الجراحَ خصاما.

*

وأضعتُ في ليلِ الفناءِ ملامحي

وتناثرتْ في مقلتي أيّاما.

*

وسَكبتُ في جوفِ الخرابِ حكايةً

ومضيتُ مكسورًا أجرُّ حُطامًا

*

أبقى غريبَ الروحِ، أحملُ غصّةً،

تغتالُ طيفي، تستبيحُ مناما.

*

فإذا رحلتُ، فلن أخلِّفَ غيرَ ما

خطّت جراحي للورى أقلاما.

*

دمعي نشيدي، والدماءُ قصيدتي،

قد علَّمتني أن أصوغَ مَراما.

*

وإذا رحلتُ فهل سأتركُ بعديَ الـ

ـجرحَ الذي كانَ الوجودُ قيامًا؟

***

د. جاسم الخالدي

لا شيء ينتظرني على الرصيف

سوى ظلّي.. يختبئ من الليل

وأنا، أُصلح زِرّ الوقت في معطفي القديم

كأنّ التأخير خطيئةُ قلبي وحده

قلتُ له ..تعال حين يكبر القمر

لكنه اختار أن يغيب

الساعة تنقر فراغ السماء

والضوء المعلّق على ناصية الحلم

يرتجف كشمعةٍ في صدرِ منفى.

هل كنتَ موعدا؟

أم وهمًا يتقن ارتداء العطر

والغروب

القهوة بردت

الكرسيّ الآخر ظلّ فارغا

إلا من وردةٍ بيضاء

تركتها الريح

حين جلستَ ذات حلمٍ ولم تأتِ.

***

رائدة جرجيس

ليت الأماني تباع وتشترى

وليت حنين الزمان

كرجع الصدى

كأن الزمن توقف هناك. في عشرينيات عمرها، دموعها سرا، تحمل الف معنى ومعنى. واليوم تذكرته بلهفة تلك السنين. وكأنها بالأمس القريب، وأبجدية الحاضر تتقن فن اللعبة- بخيالها المتعب لاحت عقود عمرها. ليشهد الزمن: انك في عقدك الخامس سيدتي. !!

تجاهلي ماضيك وأحتفلي بمقالاتك وأحلامك-.

قالت: سأطوي صفحة ذكرياتي مجبرة مذ طفولتي. ولكن سبابتي تشير الى أخطاء الاخرين- البغيضة. واللعنة الأبدية لمن يكسر قلب امرأة في ربيع صباها.

شعرت بسعادة وهي تقرأ سطور الناقد التي كتبها عن مقالتها الأخيرة وتمنت ان يقرأ كل أصدقاءها ما كتبه الناقد المعروف-.

كان الناقد يشيد برصانة مقالتها من الناحية الأدبية مع ملائمة ثيمتها للحاضر، وما مدى تأثيرها على القارئ.

تحدثت الكاتبة خلال مقالتها عن الوفاء لدى الرجال والنساء على حد السواء لكنها في الحقيقة انحازت لجانب المرأة فهي بنت جنسها. فكتبت- ان الرجل أقل وفاء منها وتعني بان- المرأة تقولبت روحها مع مشاعر أمومتها لتصبح أكثر التصاقا ببيتها وابناءها وزوجها دون ان تلتفت الى الجوانب الأخرى بذات الاهتمام.

وذكرت الكاتبة في نهاية مقالتها ان الوفاء ينبع من أعماق النفس البشرية، ومن تبلور مشاعر الألفة بين الطرفين. فان كان الارتباط قد نتج عن بذرة حب. فقد نجحنا في الوصول لهذا الحب الرصين وربما الدائم-.

اما زواج المصالح فهو عرضة سهلة للريح القادمة من جميع الاتجاهات.

قرأت الكاتبة سطور الناقد وهي في غاية الرضا والطمأنينة

نشرتها ايضا على صفحتها الخاصة-.

وتلقت الكثير من التعليقات من اصدقائها وصديقاتها والكل يشيد بمنجزها وانها تستحق هذا النقد البناء.

ولكنها تفاجأت وبدهشة كبيرة عن تعليق كتبه أحدهم باسم كنية لا تعرفها وقد كتب في تعليقه-.

وهل تعرف سيدتي معنى الوفاء. ؟؟ لتكتب عنه !!

هذه العبارة هزت كيانها حتى انغرست قطرات الخجل فوق محياها وأخذت تذرع الغرفة ذهابا وايابا.

أصابتها الحيرة. فهمست بنبرة المنكسر مَنْ هو صاحب التعليق يا ترى.؟؟-.اذن كيف تجرأ وكتب هذه العبارة. ؟؟

وهل يعرفني شخصيا أم ماذا.؟؟

حاولت ان تأخذ مشورة زوجها. لكنها تراجعت فربما لا يهتم لما تكتبه وتنشره كعادته دائما.

اذن لأبحث في صفحته الخاصة- علني أجد ما يساعدني للوصول اليه. ومعرفة السبب الذي دعاه لكتابة هذه السطور..؟؟

أخذت تقلب بمواضيعه المنشورة الواحد تلو الآخر فكانت مواضيعا عامة لم تفدها بشيء. عليها ان تستمر في البحث والتتبع.

وهنا وجدت ضالتها. لقد وجدت صورته (قام فلان بتغيير صورة ملفه الشخصي) نعم عرفته !!

يا الهي انه هو وجع الماضي. وغصة في ذاكرة الزمن-.

اذن من حقه ان يكتب هذا التعليق !!.

ولو كنت مكانه لكتبت ما هو أبشع من ذلك.

فهو الرجل الذي أضاعته الأيام- لظروف غامضة لم تُعرف ملابساتها الا بعد سنين طويلة.

تقدم لخطبتها مع عائلته الذين وفدوا من محافظة بعيدة رحب بهم أخوها الكبير بطريقة لائقة وأسلوب مهذب. وأكرمهم التكريم الذي أظهره. وكأنه ذاك الرجل المتحضر الذي أحترم اختيار أخته لشريك حياتها.

رافقهم صباحا الى مرآب السيارات ليودعهم بكل أريحية. الا انه طلب من ذلك الشاب ان يزوره منفردا حتى يتفاهم معه عن الية الخطوبة وعقد القران.

وبعد عدة أيام عاد الشاب الى دارهم وحسب الاتفاق المبرم- وتقاليدهم- لا تسمح- للمرأة المخطوبة- ان تشارك بالحديث. انما الأخ الكبير هو من يتحدث نيابة عنها. في حالة وفاة الوالد.

خرج الشاب. وكالعادة رافقه أخوها الى مرآب السيارات. لكن هذه المرة غيّر طريق مسيرهما نحو المرآب- من خلال طريق زراعي قلما يتواجد فيه أحد-. لكن اختياره كان مقصودا. فقد أوقف الشاب في منتصف الطريق- وطلب منه بصيغة التهديد ان لا يعود الى هذه المدينة مرة أخرى. وربما اسمعه كلمات غير لائقة بلا أدنى شك.

هرب الشاب الى مدينته وهو يحمد الله لعدم تورطه مع هذه العائلة دون معرفته بشكل المؤامرة التي حاكها أخوها-.

وبكل وقاحة أبلغها ان الشاب قد تراجع عن طلبه.

وعاد مزهوا بهذا الانجاز الرخيص الذي رسم داخل روحه علامة تجبر فارغة.

ومضتْ هي مكابرة في متاهة عمرها. مع انتصار قسوته

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

في نصوص اليوم