نصوص أدبية

نصوص أدبية

وماذا يُخبّئُ لي تحتهُ لونكِ الأسودَ غيرَ حقولٍ مزهرة مِنْ (زنبقِ مادونا)* تحرسُ بشموخٍ وكبرياء أبوابَ فردوسكِ الأعلى، تحرق كلَّ ذنوب أناملي الوقحة لو تقترب أكثرَ فأكثر، ألا تعلمينَ بأنَ أصابعي قد تمرّدتْ عليَ فأصبحت خيولاً جامحةً تصهلُ عالياً حينَ استمعتْ لتلكَ الهمهمات؟! هلّا أغدقتِ عليها بجرعةٍ مِنْ عسلكِ الأسطوري المختوم بالشمعِ الأحمر لعلَّ شَبَقها المجنون يهداُ ويستكين؟! أيّنا يصرخُ على الآخرَ؟ لهفتي أمْ أزهارَ لونكِ الأسود؟! لو كانَ الأمر بيديَ لتوسّدتُ ضفتيهِ المعطّرة بأريجِ (برادا)* وما استفتُ مِنْ هيجانِ أنوثتهِ الزاكية، لو كانَ الأمرُ بيديَّ لاستنطقتُ أغوارهُ الغارقة بأحلامهِ الأرستقراطية وبذرتُ فيهِ بذورَ شهوةٍ ديكتاتورية العشق، لو كانَ الأمرُ بيديَ لقبّلتهُ ألفَ قُبلةٍ وقُبلةٍ مِنَ الأمام، وشممتُ عنفوانَ جنونهِ مِنَ الخلف الملغّم بالأساطيرِ الرومانية كلَّ لحظةِ انتظار، كمْ تغارُ الروح مِنَ الدانتيل وهو يحزُّ سكونَ سيقان مصقولة الكبرياء يعاندني ألّا تقتربْ لئلا يحترقَ هذا العالم؟! وكمْ تزكمني رياح شهوتهِ العاصفة تخضَبُ مفارقَ شيبَ أياميَ المترقبة خجلاً شفتيهِ المتوردتانِ بالصمتِ الطويل؟! آهٍ! لو تفتّحتْ أبوابهُ فجأةً لتبرعمَ هذا الحنين أزهارً سومريّة النضارة، آهٍ لو دخلت خيولي الغازية عميقاً عميقاً لحدثَ زلزالٌ يُطيحُ بكلِّ آلهةِ العشق المزيّفة وانتصرنا!

***

د. كريم  عبد الله

....................

* زنبقِ مادونا؟: زنبق مادونا (أو زنبق العذراء) هو نوع من الزهور التي تُعتبر رمزًا في الفن والدين، ويمثل الطهارة والنقاء. يُطلق عليه أحيانًا اسم "زنبق العذراء" بسبب ارتباطه بتجسد مريم العذراء في التقاليد المسيحية، حيث يُعتقد أن هذه الزهور تمثل النقاء والبراءة.

* برادا: ماركة عطور ايطالية عالمية.

* أزهارً سومريّة: تستخدم بشكل أدبي أو فني في بعض السياقات للإشارة إلى الجمال القديم أو التراثي، استلهامًا من الحضارة السومرية العريقة.

 

إلى صوتِ من لا صوتَ له..

إلى قلوب ِكُلِّ المهمَّشين الطيِّبة، أقدِّمُ هذا النَّص.

***

هوامشُ نحنُ، يا سيِّدي

مجردُ هوامشَ

دخلنا خِلسةً من البابِ المُواربِ

حين أعمتنا طقوسُ الضوءِ ذاتَ مرةٍ

عبيداً صِرنا نتسولُ ابتسامةً شاحبةً

تنهرُنا أمواجٌ

وكُلُّ الدُّروبِ أمامنا مُوصَدةٌ

والفضاءاتُ تُغلقُ بواباتِها

فأين المَفرُّ

هوامشُ نحنُ يا سيِّدي

يبددُنا وجعُ الحاضِرِ

ويتبرأُ مِنَّا الغَدُّ

ولا تاريخٌ لنا يَشفعُ

أبهرت عيونَنا نياشينُ السَّادةِ

فحسبناها شَمساً تَضحكُ

وظننَّا الدعوةَ عامةً

ومن أضيقِ الأبوابِ دَخَلنا

والحفلُ يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ

تاهَ الدَّربُ عنَّا وتُهنا

وصار عسيراً منه خُروجُنا

هوامشٌ نحنُ، يا سيِّدي

مُجرَّدُ هوامشَ

تُشبِعُنا كلمةٌ

وتُقنعُنا مُجرَّدُ كذبةٍ

نشربُ كؤوسَ الشَّجوِ مُترعةً

ولا نبالي

إنْ كنّا على حافةِ الكونِ نَحيا

نفترشُ السَّماءَ وتُعانقُ تربةُ الأرضِ جِباهَنا

بهدوءٍ جِئنا، بهدوءٍ نَمضي

من غيرِ أنْ نُقلِقَ

مناماتِ سَيّدِنا

ضمائرُنا فرحٌ وعيونُنا اِنكسارٌ

نشتري بأبخسِ الأثمانِ

أحزانَ العالمِ

نرضعُ أثداءً يابسةً

ونقتاتُ زمجرةَ الرِّياحِ

وبين مزارِعِ مآقينا

جيوشُ الذبابِ تَعتاشُ

كيف الحمائمُ في أحضانِ الغُربان تنامُ؟

وكيف الحِملانُ

لأنيابِ الضواري تأمنُ؟

مليونُ زِيوسَ

في الأرضِ يتحكمونَ

وصرخاتُنا في زنازينِ الضمائرِ حبيسةٌ

وأيادينا بأغلالِ الخَيبةِ مُكبلةٌ

هوامشُ نحنُ، يا سيدي

تأنَفُ مِنا الياقاتُ

وفي دواخِلِنا

يعرِّشُ كالَّلبلاِب الثَّلجُ

سطوُرنا بيضاءُ وحظوظُنا سُخامٌ

جئنا في الوقتِ التَّائهِ من بُوصلةِ الزَّمانِ

ننامُ في خُرمِ إبرةٍ

وتُسكتُ جوعُنا كِسرةُ خُبزٍ

وتُطفئُ ظَمأَ إملاقِنا وعودُ الوهمِ

بأجسادِنا نَتحَدَّى شُموسَ اليأسِ

لا صقيعٌ يَعنينا

ولا وهجٌ يحرقُ سَجايانا

فقد جَفَّتْ مِنذُ دُهورٍ دموعُنا

يلفظُنا الضَّجيجُ

وننامُ بِسَكِينَةٍ

من غيرِ أنْ نُقلِقَ رَقصاتِ الفراشاتِ

في أمسياتِنا الكئيبةِ

نأتي ونَمضي من غيرِ أن تدري بِنا

غيرُ الخنافسِ النَّهمةِ

الَّتي أبداً لا تشبعُ

من ماءِ أعينِنا

قالوا: مآسينا هي معاصينا

الَّتي في غابرِ الأزمانِ اقترفناها

وما علموا أنَّ آثامَهم مُرتسِمَةٌ

في خزيِّ أبصارِنا تَمثِلُ

كلَّما أغمضَ أحدُ الرِّفاقِ عَينَيه

أدركنا أنَّ الخَلاصَ قريبٌ

وأنَّ كَلَّ الهَوامشِ الخَاويةِ

على وشكِ أنْ تَمتلِئَ

معذرةً، يا سيدي، إنْ أصابكَ الضجرُ

فنحنُ هوامشُ، يا سَيدي

مُجردُ هَوامشَ

لا تُقدِّمُ ولا تُؤخِّرُ

***

بقلمي: جورج عازار

 

عندما ولجت زهور باب بيتنا المفتوح على مصراعيه، عانقت أمي بحب وهي تسألها عن الأحوال والأهل والأحباب، كنت عندها ما زلت نائما تحت بطانية سوداء خفيفة أشبه ببطانية السجناء، وحقيقة كنت مسجونا ذلك اليوم بسبب هطول الأمطار والبرد الشديد محروما من الخروج والاستمتاع بأشجار البرتقال المنتشرة على ضفاف نهر اللوكس المجاور لبيتنا... كانت ثيابي كلها قد تبللت بعد خروجي مباشرة من المدرسة، فقد كان يأتي علينا فصل الشتاء ممطرا وباردا وطويلا بلا كهرباء وبلا حطب ولا مدفأة، وأحيانا بلا مؤونة، وكانت متعتي إضافة إلى اللعب في البرك والمستنقعات وصيد طيور الدوري والحسون وجني البرتقال أن أنصت إلى حكايات أمي تحت نور الشمعة وصوت المطر والرعد عند انقطاع الكهرباء... جلست زهور قبالتي تساعدها أمي بوضع مخدة خلف ظهرها، ولكي أهرب من نظرات أمي وقريبتها بعد أن أيقظني صوتهما بدأت أتجول بعيني الناعستين متأملا شقوق جدران الغرفة ونوافذها ونور المصباح المشع فوق رؤوسنا وصورة جدي المعلقة على الجدار وهو يركب حصانا ويرتدي بدلة عسكرية، متخيلا ما عاشه في ظل الاستعمار الاسباني من حروب، ومعارك في الجبال والوديان... كانت زهور امرأة مليحة الوجه فارهة القوام والطول بعيون واسعة يشع منهما حزن لجراح عميقة أو قصة حب فاشلة، تخفي جمالها في جلباب بلون السماء وتغطي شعرها الأشقر بفولار أزرق غامق تنفلت منه كأشعة الشمس بعض الخصلات الذهبية..عندما تجلس زهور تقابل والدتي وجها لوجه لكي تتحدث معها بأريحية، وتكتشف من ملامحها ما أخفته أمي عنها من أسرار، وأحيانا لكي لا أسمعهما تخفض زهور من صوتها فيتحول الحوار بينهما إلى وشوشة وإشارات، وضحكات خفيفة... وهي ترتشف من كأس الشاي الذي قدمته لها أمي سألتني عن سبب عدم خروجي للعب مع أقراني، فردت أمي نيابة عني بأن ملابسي بللها المطر ولم تجف بعد وليس لي غيرها.. وبعدما انتهت من كأس شايها، وكمن تذكر شيئا نسيه، نهضت زهور من مكانها وودعت أمي بقبل حارة، بعد أن وضعت تحت وسادتي درهمين، ودست أوراقا نقدية في يد أمي وأقسمت عليها أن تأخذها وإلا لا قرابة ولادم يجمعهما، وودعتنا وهي تقول لي: "عليك أن تزورني غدا بعد الظهر لغرض ما" وتركتني سارحا كغزال باحثا عن شكل هذا الغرض ومضمونه... كانت زهور امرأة ذكية للغاية تحسب لكلامها وسلوكها ألف حساب... قلت لأمي سائلا:" هل لخالتي زهور أبناء؟ فأجابتني وهي تحرك رأسها بالنفي وأردفت قائلة :" لم ترزق بأبناء إنها وحيدة عمتي رحمة الله عليها وقد ورثت عن زوجها أموالا كثيرة وعقارات لا تحصى فزوجها كان من أغنياء البلد "..عند مساء الغد ارتديت ملابسي وحذائي البلاستيكي وقصدت بيتها كان المطر قد توقف للتو وبدت أشعة الشمس المنبعتة من بين الغيوم خجولة منكسرة، كنت أعرف طريق البيت جيدا فقد سبق لي أن زرته مع والدتي أكثر من مرة لكني كنت أبقى طوال الوقت ألعب بحديقته في انتظار خروج أمي، كان البيت فسيحا أشبه بقصر صغير يقع على أطراف المدينة حيث شيد الأغنياء فيلاتهم وبيوتهم الفخمة المطلة على بساتين البرتقال والنعناع المحادية لنهر اللوكس، وكان بيتها واحدا من هذه البيوت الفسيحة الهادئة المنعزلة... ضغطت على زر الجرس وانتظرت فتح الباب بعد لحظات أطلت علي زهور من الشرفة بوجهها المشرق وهي تطلب مني أن أنتظر قليلا حتى تنزل إلي، فتحت الباب وعانقتني بعد أن رفعتني قليلا من الأرض كعصفور وهي تقول لي:" أهلا أهلا بابن الغالي" ، وكانت لأول مرة تضمني إلى صدرها امرأة غير أمي فسرت في روحي قشعريرة زادها عطرها تيهانا وتشردا وضياعا، فسرت خلفها كجناحي فراش فتنه الضوء فتحول إلى رماد تذروه الرياح في كل الاتجاهات، أدخلتني غرفة نومها كانت الغرفة واسعة ومضاءة وهادئة، بها نافذتان واسعتان مشرعتان على المطلق بزجاج أندلسي يتدفق منه نور بألوان مختلفة، وستائر زرقاء شفافة مزينة بزهور بنفسجية وأسراب من العصافير الهائمة تحت شمس الغروب، وشرفة صغيرة تطل على الحديقة ومياه نهر اللوكس، وتقابلها مباشرة غرفة يظهر منها رفوف مكتبة يتوسطها بيانو بلون بني ومفاتيح بيضاء لامعة، كانت غرفة النوم مرتبة ومؤثتة بعناية فائقة وذوق رفيع ولمسة فنية ساحرة، وزينت جدرانها بلوحات جميلة.. ووجدتني مشدوها أمام لوحة فنية بها فتاتان صغيرتان جالستان قبالة البيانو مكتوب أسفلها الفنان بيير أوغست رينوار، لما رأتني شاردا في ملكوتها وأكوانها وسحرها الجارف كالشلال تركتني على هواي ولم تسألني كعادتها عندما تزورنا في البيت عن الدراسة ونتائجها، ولا عن والدي وأصدقائي وإخوتي، ولم أنزل من سمائها إلى جنانها على الأرض إلا بعدما وضعت كأس الشاي المنعنع الدافئ بين يدي الصغيرتين وهي تقرب مني بلطف ومودة مائدة سوداء مستديرة الشكل لكي تضع عليها ما لذ وطاب من الحلويات والعصائر.. لم تسألني إن كنت جائعا أوعطشانا أوعاريا، ولم تقل لي كما كانت تقول أمي وأختي الكبرى عندما أعود من المدرسة :"كل عمر كرشك" وإنما قالت لي بصوت ملائكي :"كل ما على هذه المائدة هو احتفال بنجاحك وتفوقك وبعد أن تنتهي منها كلها لك مني هدايا أخرى" وتذكرت المائدة التي نزلت على النبي عيسى بن مريم من السماء، وهكذا نزلت علي من السماء مائدة خالتي زهور لتفرح هذا القلب الصغير المتشظي والمنسي...وقبل أن انهي وليمتي فتحت خالتي زهور دولاب ملابسها وبدأت تخرج منه بعناية أحذية جلدية صغيرة الحجم أنيقة المظهر، وأقمصة وسراويل ومعاطف وبدلات وجوارب بأشكال زاهية وتضعهم على سريرها أمام عيني... كانت تنقلني برقتها من عالم إلى عالم آخر كساحرة وتتركني هكذا متشردا كالنجوم المضيئة في سمائها، وبصوت أنثوي دافئ قالت لي:"هذا كله على مقاسك ".. متى أخذت القياس ؟ لا أعرف ؟..أي ملاك هذا الذي يمشي على الأرض أمامي في صورة إنسانة؟ من أي نور خلقت هذه المرأة وصورت ؟.. وضعت زهور كل ذلك في حقيبة كبيرة بنية اللون وأقفلتها بإحكام وركنتها جانبا بعد أن تأكدت بأن كل شيء على مايرام، وتركت على السرير بدلة بيضاء اللون مخططة بالأسود وقميص شتوي ومعطف طويل وحذاء جلدي وجوارب بيضاء لامعة.. كنت وأنا أرتدي البدلة البيضاء كالحالم الذي يتمنى أن لا يوقظه أحد من حلمه حتى لا يخرجه من متعته ولذته وفتنته..وهي تمشط شعري بنفسها وترش على صدري وملابسي الجديدة عطرا خفيفاـ تقول لي في كل مرة وهي تربت على كتفي الصغيرتين :"هكذا أنت تبدو كفارس أو عريس أو أحلى منهما لا ينقصك الآن سوى الحصان وليلى لتكون شهرزاد زمانك، ثم تنهدت كما لو أنها تذكرت لحظة جميلة سرقها منها الزمن".. وفتنتني ليلى أكثر مما فتنني الحصان والفارس وشهرزاد، مسكت بيدي الصغيرة الباردة والهشة كجناحي فراش قزحي فسرت من جديد في جسمي كل مشاعر الدنيا وأحاسيسها واشتعلت خدودي وأنفاسي وتوهجت كنار الفرن التي كانت تخبز عليه أمي رغيفها، كما لو أنها برقتها أيقظت بداخلي براكين صغيرة نائمة من الحرمان فثارت حممها ونيرانها فأذابت كل شيء في طريقها الروح والجسد والعقل، فهي لم تكن تمسك أصابع يدي وإنما كانت تمسك روحي التى ظلت عالقة بروحها وأنفاسها وعطرها لحد الآن، وهكذا ساقت روحي كجدول صغير إلى مكتبها ومرسمها المطل على حديقة غناء وبساتين مخضرة تعانق سماء نهر اللوكس.. كانت المكتبة تضم مجموعة من الرفوف المملوءة عن آخرها بالكتب والمجلات، والصحف الملونة الموسومة بعناوين وأسماء مختلفة، كانت تنظر إلي أحيانا وتحدثني عن كبار الكتاب والمبدعين وحياتهم وهي تنتقي لي مجموعة من الكتب والمجلات كما تنتقى الزهور من الحدائق الوارفة لتخبرني في النهاية بأن بدايتها كانت مع هؤلاء فلولاهم ماعرفت الدنيا على حقيقتها، ولما صارت فنانة وكاتبة مشهورة، ثم أجلستني على كرسي مكتبها ووضعت يدها على كتفي وانحنت قليلا قبالتي حتى صارت أنفاسها الرقيقة كنسيم يداعب جفوني أو كمن يريد تعليم حكمة أو قول سر خطير قالت لي وعيناها مصوبة على عيني وملامحي، ويداها الرقيقتان تخفي يدي الصغيرتين بين أصابعها الدافئة :" هذا سراجك الذي سيضيء ظلمة طريقك وهذا مركبك الذي سوف يعبر بك إلى ضفتك المشتهاة التي تحلم بها " وخجلت ان أسألها عن السراج وعن المشتهى والضفة، وعندما كبرت وتعلمت الحكمة والتأويل على يدي استاذة الفلسفة وكانت تشبه زهور في أشياء كثيرة، عرفت بأن زهور كانت هي سراجي ومنجاي ومركبي وضفتي بعد أن أطلقت روحي من قفصها وحررتها لتعيش في أكوانها وحكاياتها للأبد...جمعت كل الكتب وهي توصيني بقراءتها والحفاظ عليها ثم وضعتها في محفظة جلدية كأنها صنعت للتو من شدة لمعانها..كانت تخرجني بيد من قبعتها السحرية كحلم وتطلقني بيدها الأخرى عصفورا هائما فوق شرفاتها.. وضعت المحفظة على كرسي المكتب فيما كنت أنا مازلت مرفرفا ما بين الكتب واللوحات المعلقة على جدران مكتبتها، كانت مغلب اللوحات موقعة باسمها الفنانة زهور بدت لي المرأة التي أمامي غير المرأة التي تزورنا بالبيت غير زهور المرأة العادية البسيطة قريبة أمي التي تأتي كالفرج ساعة الضيق لتخفف عنا وطأة الحياة وقسوتها وعذابها، بدت وهي تحدثني عن الإبداع والثقافة ودورهما في بناء الإنسان والمجتمع والحياة امرأة مختلفة تماما.. امرأة أكثر سحرا وجمالا وإشراقا وحيوية ونشاطا ونضجا وفلسفة.. وضعت كأس العصير أمامي فوق المكتب وطلبت مني ان أنتظرها ريثما تنتهي من ارتداء ملابسها لكي توصلني بنفسها إلى البيت، ولم ترتدي هذه المرة الجلباب كم كانت تفعل عند زيارتنا وإنما ارتدت فوق القميص البني وسروال الجينز الأزرق معطفا طويلا أسود اللون أخفى الجزء العلوي من حذائها الجلدي ذو الكعب العالي، تفوح منه ومن جسدها رائحة عطر بارزي يشرد غزلانا بأكملها ولم تخف هذه المرة وجهها بل تركته مشعا كقمر يطل من عليائه، وسمحت لشعرها الأشقر لأول مرة بأن ينسدل كأشعة الشمس على ظهرها ويغطي كتفيها، و لم أكن أعرف أنها تملك سيارة ولم تزرنا بها من قبل، أخرجت السيارة من الكراج وفتحت لي الباب وطلبت مني ان أركب كأمير بجانبها، وتركت العنان للسيارة ولصوت عبدالحليم وهو يغني سواح وأنا ماشي في البلاد، لتشعل في الحرائق من جديد وهي تسوق وتردد بعض الكلمات مع عبدالحليم وتدق بأصابعها على المقود، قالت لي وعيناها على المارة والسيارات المارقة بجانبها وخلفها :"كنت مثلك طفلة خائفة ومرتجفة وعاجزة وعندما اكتشفت متعة القراءة والفن والموسيقى والحلم والإ بداع والفارس والحصان ولوعة المشاعر صرت كما أشتهي، تحررت من خوفي وعجزي وحطمت القفص الذي كان يسجن خيالي.. " وتنهدت ثم صمتت وأخذها الشرود بعيدا إلى عوالم ذكرياتها...عندما وصلت السيارة الى باب بيتنا لم أشعر بالمسافة الفاصلة بين البيتين ولا بالشوارع المزدحمة ولا بوجوه الناس.. فتحت الباب من جديد لكي أنزل، لما نزلت ربتت على شعري وقبلتني على خدي الأيمن وهي تودعني على رصيف بيتنا قائلة :"لا تنس ما قلته لك بلغ سلامي لأمك ولوالدك، كانت كل حركاتها وحديثها عن والدي وسؤالها عنه ومساعدته له في أيام الشدة توحي بأنها كانت تحبه لحد الجنون وأن قصة أشبه بقصص الشعراء كانت بينهما وانتهت بالفشل من غير زواج ولا استقرار، فوجدت في ما يذكرها بنفسها وعالمها وحكايتها وطفولتها وشبابها.. ودعتني بعد أن وضعت الحقيبة والمحفظة بجانبي وغابت كقرص الشمس تاركة في الروح إحساسا غريبا مازال يسكنني لحد الآن..ومنذ ذلك الوقت وبعد وفاتها مباشرة وما خلفه غيابها من حزن وفراغ في نفسي، بدوت طفلا آخر في عيني والدتي وإخوتي ومعلمتي وأقراني تملكني الشرود وصرت أنشد العزلة باحثا عن روحي التي شردتها كالعصافير قريبة أمي خالتي زهور.

***

قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

...........................

* (أي تطابق ما بين أحداث هذه القصة وشخصياتها هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع والحقيقة)

 

عن الحب والعار، حين تُصبح الترعة شاهدًا على العاشقين.

لم تكن فاطمة سوى زهرة بريّة نبتت على ضفاف قرية لا تعرف الرحمة، إلا إذا مرّ بها الموت. كانت ابنة الحاجة زينب، صاحبة القهوة القديمة، تحمل قوامًا يسرق الأبصار، ووجهًا كُتب عليه الجمال كما يُكتب الشعر على ورقٍ عطِر.

لكنّ الجمال، في قريتنا، لا يُغفر.

صلاح، شاب بسيط يعمل على المعديّة التي تعبر الترعة، كان يراها كل صباح كأنها حلمٌ يتجدّد. قلبه حفظ ملامحها أكثر مما حفظ شكل السماء في المواسم. لم يتكلم، لم يطلب، كان يحبها بصمت… كما يفعل من لا يملكون شيئًا سوى نبضهم.

وفي ليلة قاسية، سقطت القرية في الظلم.

صابر، ابن العمدة، أرادها لنفسه، لكنها رفضته. فلفّق لها تهمة شرف، وزوّر رسالة، ودفع بمن يشهد زورًا. سقطت فاطمة، ولم يسأل أحد إن كانت بريئة.

في فجر اليوم التالي، وجدها صلاح على ضفاف الترعة، حافية، تهمس للريح.

قال لها:

– "نهرب..؟ نعدّي المعديّة ونسيب كل ده ورا ضهرنا."

أجابت وهي تبكي:

– "العار بيعدّي معانا يا صلاح… الترعة دي ما بتنساش."

رحلت المعديّة بلا رجعة.

لم يُعثر على فاطمة، ولا على صلاح. وُجد فقط إيشاربها الأبيض عالقًا بخشبة، وقميص صلاح مبلول على الحافة.

سكتت القرية. ماتت الحاجة زينب كمداً بعد أيام.

وصابر..؟ صار يهذي كل ليلة باسم فاطمة، ويرى وجهها على صفحة الترعة التي لا تكذب.

لكن الغريب... أن الترعة لم تعد كما كانت.

كل من يمر بالمعديّة بعد منتصف الليل، يسمع ضحكة خافتة، ويرى ظلّين يعبران الماء. البعض أقسم أنه سمع اسم "صلاح" يُهمس مع صوت المجداف.

أما صابر، فاختفى ذات ليلة، ووجدوا معطفه على الحافة ذاتها، وعلى الطين كان مكتوبًا بحروف كأنها محفورة بنار:

"الترعة لا تنسى من ظلمها."

وصارت القرية تروي القصة كما تروى الأساطير.

صارت المعديّة تُعرف باسم "معديّة العاشقين"، وصارت الترعة تحمل وشمًا لا يمحوه الزمن… اسمه فاطمة...!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

 

أم الغرف، غرفة خضراء، حُدودُها بلا جُدران، بل من دفءِ كَفّينِ مُمتدَّتينِ إلى الضّوء.

غُرفةٌ تُشبهُ حضنَ أمٍّ تُسمّى جنة،

غُرفةٌ تشبهُ فجرَ العيونِ قبلَ أنْ تُبصرَ اللّونَ،

غُرفةٌ بلا وقتٍ، بلا ذاكرةٍ، بمَنفذٍ وحيد إلى العالَمِ.

(1)

في غُرفةِ الطّفولةِ كانَتِ الجدرانُ لوحاتٍ بِخُطوطٍ مُرتعشة،

كانتْ هُناكَ دُميةٌ بعَينٍ واحِدةٍ تُحدِّقُ في الغَدِ،

وكانَتْ نافذةٌ تُرَحِّبُ بالشّمسِ كأنَّها ضيفٌ حَبيبٌ لا يعودُ مَرَّتين.

هُناكَ في الزَّاوِيَةِ كانَ الحُلمُ يُبنى مِثلَ قَلعَةٍ مِن وَرق،

والخَوفُ يَختبئُ تَحتَ السَّريرِ مِثلَ قِطٍّ مَحشورٍ في ظِلِّ الغَفلة.

(2)

في غُرفةِ الحُبِّ،

تَتمَدَّدُ السُرر كأنّها قُصائدُ بلا قوافٍ،

وتَتَشابَكُ الأيادِي كأغصانٍ تُخفي العُشَّ عنِ العاصِفَة.

المَرايا تَخجَلُ مِن نَفسِها،

والضَّوءُ يَتَسلَّلُ خَفيفًا كَأنَّهُ يَخشى أن يُوقِظَ العِناقَ.

تَحترِقُ الشُّموعُ، لكنَّ العِشقَ لا يَصيرُ رَمادًا.

(3)

في غُرفةِ الأبناء،

الجُدرانُ مُلَوَّنَةٌ بِضَحكاتٍ عَابِرَة،

والأبوابُ تَرتَجِفُ مِن وَقعِ الخُطى المُتَسارِعَة.

هُناكَ في الرُّكنِ الصَّغيرِ، دُميةٌ جَديدةٌ،

وهُناكَ في الرُّكنِ الآخَر، أحلامٌ مُستَقبَلَةٌ لم تُفتحْ بَعد.

الغُرفةُ تَكبَرُ، وَلكنَّ الأطفالَ يَغادِرونَها دُونَ أن يَلتَفِتوا وَراءَهُم.

(4)

في غُرفةِ المَرض،

الجُدرانُ تُصغي إلى الأنينِ كأنَّها أمٌّ عاجِزَة،

والسَّريرُ أجنحَةٌ مكسورةٌ لا تَطير.

المَصلُ يُقطِّرُ الوَقتَ في العُروقِ،

والتَّنهُّداتُ تُعيدُ تَرتيبَ الهواءِ بِلا فائدة.

هُناكَ عِطرٌ مَنسِيٌّ على الطَّاولة،

وهُناكَ نافِذَةٌ مُغلَقَةٌ على غَيمَةٍ لا تَبكي.

(5)

في غُرفةِ السِّجن،

الأيّامُ مَحصُورَةٌ بينَ قَضبانٍ ضَيِّقَة،

والزَّمَنُ يُعيدُ وَجهَهُ المُتَشَابِهَ كَأنَّهُ وَجهُ الحارِس.

هُنا الأحلامُ تَختَنِقُ،

وهُناكَ الزَّوايا مُثَقَّبَةٌ بالأمَلِ القَليلِ كَسَطحِ القَمَرِ المُعتِم.

الجِدارُ مَحفورٌ بِأسماءٍ أَكَلَها الوَقتُ،

والأبوابُ لا تَفتَحُ إلّا عَلى لَيلٍ طَويل.

(6)

في غُرفةِ الوَحدَةِ،

الصَّمتُ جِدارٌ، والمَاضي بابٌ مُوارَب،

الصَّدى يَعودُ مِثلَ زائِرٍ لا يُرِيدُ أن يَغادِر،

والنَّظرَةُ تَرتَطِمُ بالسَّقفِ كَأنَّها سُؤالٌ لا يُريدُ إجابةً.

هُنا يَنبُتُ المَساءُ كالعُشبةِ،

وهُناكَ في الزَّاوِيَةِ، يَتَكدَّسُ الوَقتُ بِلا مَعنى.

(7)

في غُرفةِ المَوت،

الهواءُ ثَقيلٌ كأنَّهُ صَمتُ الأشجارِ قَبلَ السُّقوط.

المَرايا لا تَعكِسُ شَيئًا،

والسَّريرُ مَرتَب مِن غِياب.

هُناكَ ساعةٌ مُتَوَقِّفَة،

وهُناكَ بابٌ مَفتوحٌ إلى مَكانٍ لا يَعودُ مِنهُ أحَد.

(8)

الحَياةُ غُرَفٌ،

بَعضُها يَتَّسِعُ للحُلمِ،

بَعضُها يُغلَقُ بِالألَم،

بَعضُها يُضِيءُ بِالمَحبَّةِ،

وبَعضُها يُطفَأُ بالمَوت.

كُلُّ الغُرَفِ نَدخُلُها،

كُلُّ الغُرَفِ نُغادِرُها،

لكنَّ بَعضَها يُسافِرُ مَعَنا في أعمَاقِنا،

كَأنَّهُ طريق لا يَنتَهي.

***

مجيدة محمدي - تونس

في أزقَّةِ "إدِنْبَرَه"،

تتسلَّلُ الذِّكرياتُ على وَقْعِ خُطىً تائهة،

وأنغامِ مزمارِ قِرْبةٍ إسكتلنديّة،

تنبعثُ من زُقاقِ "جوليس كْلوس."

تتيهُ الخواطرُ في متاهاتِ زمنٍ قاسٍ،

وتناقضاتِ "جيكل وهايد"،

رغمَ دقَّةِ ساعةِ برج "البَلْمُورال."

*

أرصفةُ "الرُّوَيْلْ مايل" المتينةُ،

لم تُنْهِكْها وَقَعَاتُ أقدامِ المُشرَّدين،

ولا تلكَ الطاولةُ المعروضةُ عليها

مطويَّاتُ الحُرِّيَّةِ لفلسطين.

*

في الأعالي، تُحلِّقُ قلعةُ "إدِنْبَرَه"،

تُراقبُ بمهابة تَلَّةَ "آرثر سيت"،

وهَضْبَةَ "كالتون"،

تحرس بصمت ميناء "لِيث" القديم.

*

وفي الطَّرَفِ الغربيّ،

تَنطلقُ قطاراتُ مَحطَّةِ "هاي ماركت"

كذِكرياتٍ عابرة،

تلوّحُ من النّوافذ،

ثم تذوبُ في الضّباب الدّاكن.

*

في مَقهى "الكَبشِ الأسود"،

أصابعُ تُلاعِبُ حافَّةَ كوبِ قهوةٍ هجينة،

تحاول اصطياد خواطرَ جنوبيّةٍ

في أزقَّةِ "إدِنْبَرَه" الشّماليّة.

***

نزار فاروق  هِرْمَاسْ

يَحلُمُ أن يعيشَ في مدينةٍ فاضلةٍ،

يحلُمُ أن يرى الأُناسَ في الصباحْ،

ضاحكةً وجوهُهم،

راضيةً نفوسُهم،

يحلُمُ أن يستافَ في الرياحْ،

روائحَ الغصنِ النديِّ عندما يجرحُهُ التفاحْ،

**

يحلُمُ أن تنتهيَ الحروبْ،

يحلُمُ أن يعانقَ الإنسانْ،

أخاهُ مهما شطّت الدروبْ،

**

يحلُمُ أن يسيرَ قربَ النهرِ في الغروبْ،

فيُبصرَ الأسماكَ من صفائِهِ،

ويبصرَ الشمسَ التي من خجلٍ تذوبْ،

مُحْمَرّةً في مائِهِ،

**

يحلُمُ أن يرى العراقْ،

غيرَ الذي يراهْ،

يحلُمُ بالأمطارِ لا الدماءِ من سَماهْ،

**

يحلُمُ بالوُديانِ ذاتِ الخضرةِ المنبسطةْ،

وأن يظلَّ راكضاً بلا نهايةْ،

كأنّهُ قلادةٌ منفرطةْ،

**

يحلُمُ أن يعيشَ في مكتبةٍ،

يغفو وفي يديهِ يُنسى الكتابْ،

توقظُهُ الشمسُ التي تُقبّلُ الأهدابْ،

**

يحلُمُ أن يظلَّ حالما،

كي لا يرى الأوجاعَ والهزائما،

تَترى عليهِ مثلَ ذئبٍ جائعٍ،

**

يحلمُ أن تنكتبَ القصيدةْ،

من ذاتِها بلا رهائنْ ؛

دموعِهِ والقلبِ وانفعالِهِ،

**

يحلمُ بالقليلِ من قُماشةِ النسيانْ،

يَرتُقُ فيها ما رأى،

منَ الحروبِ والإنسانْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

قصيدتان

(1)

هناكَ حياة ..

هناكَ حياة

أنت لستَ الوحيدَ الذي أنجبتْهُ الحياةْ

*

هناكَ حياةٌ تحيلُ الغصونَ الى الشجرهْ

هناكَ حياةٌ، يقولُ انتظارُ العروقِ الى غيمةٍ ممطرهْ

هناك حياةٌ تحيلُ الرضيعَ الى صدرِ اُمِّهْ

هناك حياةٌ لِتشمسَ شمسٌ وتمتدَ تستقبلُ الضوءَ صبحاً أيادي النخيلْ

*

أنتَ لستَ الوحيدَ الذي أنجبتْهُ الحياة

هناك حياةٌ لكي يعشقَ النهرَ شاعرُهُ، ويموتْ

هناك حياةٌ لكي يحكمَ العاشقونَ ـ بحكمِ الهوى ـ الملكوتْ

فمَن قالَ لكْ

بأنَّ الحياةَ تغيبُ اذا غادرتْ منزلكْ؟

***

(2)

رئيسٌ يقودُ خيوطَ الرئيس!

نصَّبوهْ

ثمَّ قالوا: أتوا ـ كي يكونَ رئيساً ـ بِهِ ناخبوهْ

*

صنَّعوهْ

والى أنْ يجئَ الزمانُ لأدوارِهِ علَّبوهْ

*

هو لا يطلبُ الآنَ شيئاً سوى أنْ يكونَ الرئيسَ أَمامَ المُشاهِدْ

فيقولونَ عنهُ: الرئيسُ البطلْ!

*

والكواليسُ تعلمُ مَن كانَ في مسرحٍ للدمى

رئيسٌ يقودُ خيوطَ الرئيس

***

شعر: كريم الأسدي

اهداء الى روح امي 

في حضن الليل، حيث يسود السكون وتغفو الأزقة على أنفاس النائمين، دوّى صوت الطرق على باب بيتنا، لكنه كان مختلفًا هذه المرة. لم يكن طرقًا صاخبًا كمن يستغيث في فزع، ولا كان واثقًا كمن يطلب العون في يقين، بل جاء متردّدًا بين الخجل والاضطرار، كأنه يخشى أن يثقل بطرقه على صدر الليل.

نهض والدي على الفور، وفيما فتح الباب، تطلّعنا إلى وجه غريب يتوارى خلف ستار القلق والاستعجال. بادر بتعريف نفسه على عجل، قال إنه مرسل من قِبل نجوى، صديقتي الأقرب إلىّ في المدرسة، وأخبرنا بصوت مختلط بالوجل أن نجوى الآن وحيدة، تتلوى تحت وطأة المخاض في عيادة الطبيبة القريبة من بيتنا، تعاني من حمى شديدة ووضع متعسّر، وتحتاج إلى امرأة تكون إلى جوارها في هذه اللحظة العصيبة.

لم يكن طلب المساعدة أمرًا غريبًا عن بيتنا، فقد كان ملاذًا للباحثين عن العون، وكان قلب أمي ملجأً للضعفاء والمحتاجين. لم تكن الحاجة تمرّ أمامها دون أن تمدّ يدها، لم تتردد يومًا في تضميد الجراح، او زرق الإبر للمرضى أو في مواساة أمٍّ تنزف صرختها مع مولود جديد، كانت تسابق الليل قبل أن يختطف الأرواح، وكأنها قد نذرت نفسها لتكون سندًا في ساعات الألم والضياع. وكنّا جميعًا ندرك أن العطاء قد كُتب عليها كما كُتب علينا أن نكون ظِلًّا لها، معينًا لها لا يتأخر.

لكن الليلة كانت مختلفة… هناك شيء ما في صوت الرجل، في تردده، في ذكر اسم نجوى تحديدًا، جعل القلق يتسلل إلى روحي كتيار بارد يتسلل إلى العظم. نجوى؟ كيف تكون وحيدة في لحظة كهذه؟ كيف صار بها الحال إلى أن تحتاج إلى يد غريبة بدلًا من أهلها؟ وهي في حالة مخاض؟

لم تمنحني أمي الوقت للاستغراق في أفكاري، هرعت تتهيأ للخروج، ارتدت عباءتها في عجالة، أعدّت حقيبتها الصغيرة التي كانت دائمًا حاضرة لمثل هذه المواقف، ثم التفتت نحوي بنظرة أدركت معناها دون أن تنطق بكلمة. لحقت بها على الفور، لكنني توقفت عند الباب، حيث كان الرجل لا يزال واقفًا في قلق. نظرت إليه وسألته بشيء من الحدة التي لم أستطع إخفاءها:

— "من تكون أنت بالنسبة لنجوى؟"

خفض الرجل رأسه وكأنه يحاول التملّص من السؤال، ثم قال بصوت خافت:

— "أنا خطيبها… أو زوجها."

تجمدت في مكاني، وشعرت بأنني لم أسمع جيدًا. كيف ذلك؟ لقد كنت أعلم أن نجوى منذ ان تركت المدرسة لم تتزوج بعد! لكن الرجل لم يكن في موضع دفاع أو تفسير، بل كان فقط يرجو المساعدة، يتوسل بعينيه أكثر مما تنطق به شفتاه. أما أمي، فلم تعبأ بأسئلتي ولا بذهولي، فالموقف كان يتطلب العطاء لا التساؤل، الإغاثة لا الأحكام. دون أدنى تردد، اندفعت مع الرجل نحو العيادة، حيث كانت نجوى بين الحياة والموت، تصارع وحدتها وألمها في أوج احتضار الليل.

أما أنا، فبقيت خلف الباب المغلق، أتنفس وجعًا لم أفهمه بعد. عاد الجميع إلى النوم، لكن رأسي كان أشبه ببحر هائج، يعجّ بالصور والتخيلات، كل واحدة منها أشد قسوة من سابقتها. كنت أعلم أن الحياة ليست عادلة دائمًا، وأن نجوى كانت على علاقة برجل ما وقد عانت كثيرًا بسبب هذه العلاقة، لكنني لم أتصور يومًا أن تصل إلى هذه اللحظة.

تساؤلاتي لم تهدأ، وشعرت كأنني أمام باب جديد من الأسرار، باب يوشك أن ينفتح ليكشف ما لم أكن مستعدة لمعرفته بعد.

كنا صديقتين لا تفصل بيننا الأسرار، نتقاسم اللحظات كما نتقاسم الهمسات، بلا تصنع أو تكلف. منذ سنوات الدراسة الأولى في الثانوية، كنا نعرف أدق تفاصيل حياة بعضنا البعض، من أصغر الخبايا العائلية إلى أكثر الأسرار خصوصية. عرفتُ كل شيء عن عائلتها: والدها الشرطي الذي يعمل في محافظة بعيدة عن العاصمة، لا تراه العائلة إلا مرة كل شهرين، وأمها التي تحمل على عاتقها مسؤولية تربية أبنائها الأربعة، ومن بينهم الأخ الأكبر ذو الستة عشر عامًا، الذي كان يتباهى بحمل سكينه في جيبه، متوهمًا أنه درع العائلة وحاميها من العار والاعتداءات.

كنا نجد متعة خفية في العودة من المدرسة سيرًا على الأقدام، نقطع الطرقات الطويلة، غير مكترثتين للوقت، غارقتين في أحاديث لا تنتهي، نحلل شؤون الحياة وننثر الآراء حول كل شيء وأي شيء. لكنني بدأت ألاحظ تغيرًا في ملامح نجوى؛ بريق عينيها المتقد صار أكثر شرودًا، شغفها بالدراسة تراجع، وأيام غيابها أصبحت متكررة. لم أنتظر طويلًا حتى اعترفت لي، بصوت تملؤه السعادة والرجفة، بأنها وقعت في الحب.

فرحتُ لها، حبًّا بفرحها، وسألتها بفضول عن المحظوظ الذي خطف قلبها. نظرت إليَّ بعينين يشع منهما ضوء غريب وقالت: إنه صاحب ورشة التصليح القريبة من منزلهم، ذلك الرجل الذي أحضرته والدتها لإصلاح التلفاز المعطل. قالت لي إنهما أحبا بعضهما من النظرة الأولى، حتى إنه رفض أن يتقاضى أجره عن التصليح، فدعتْه والدتها إلى العشاء عرفانًا بالجميل. ومنذ ذلك اليوم، صار يتردد إلى بيتهم، تراقبها عيناه بحب واضح، وتتركهما والدتها يجلسان معًا لساعات، وكأنها ترعى هذا الميل الناشئ بينهما.

استمعتُ لها حتى النهاية، ثم سألتها بحذر: "وماذا بعد؟ كيف تخططان للمستقبل؟" لكنها صمتت لوهلة، وكأنها تتردد في الاعتراف بشيء يخنق كلماتها. وأخيرًا، بصوت خجول متردد، همست: "هناك عقبة... إنه متزوج ولديه أطفال."

شعرتُ وكأن صاعقة ضربتني. ارتددتُ إلى الخلف وتوقفت، قلتُ بذهول: "ماذا؟!" نظرتْ إليَّ بعينين مغرورقتين بالدموع، ثم تمتمت: "لقد زوّجوه بابنة عمه وهو صغير... لكنه لم يحبها قط."

لم أتمالك نفسي، انفجرتُ في وجهها: "ولكن ما ذنب الأطفال؟ الحب لا يكون حبًا إذا كان خرابًا لبيوت الآخرين!" رأيت ارتجافة في عينيها، لكنها ظلت صامتة، كأنها لا تريد سماع الحقيقة القاسية التي تنبض بين كلماتي. تابعتُ بحدة: "كيف تثقين برجل يخون زوجته وأطفاله؟ وما أدراكِ أنه لن يخونكِ أنتِ في المستقبل؟ الخيانة طبع متأصل، يا نجوى، لا يتغير بسهولة... فكّري بعقلكِ قبل أن يستدرجكِ قلبكِ إلى هاوية لا خروج منها."

ودّعتها ذلك اليوم على أمل أن تفكر مليًّا في كلماتي، ووعدتني أنها ستفعل. لكنها لم تتحدث عن الأمر مجددًا، وإن مرّ على لسانها عرضًا بعد أيام. ثم، فجأة، انقطعت نجوى عن الدوام المدرسي، وكأنها اختفت من عالمي تمامًا...

كانت الأسئلة تتناسل بين أروقة المدرسة كأنها شظايا ضوء تتكسر على جدران الصمت، تبحث عن إجابة لغياب نجوى الغامض. كانت الأعين تحاصرني كأنني المفتاح الوحيد لهذا اللغز، فأنا أقرب صديقاتها، والأقرب دومًا مُطالب بالبَوح. لم أحتمل وطأة الأسئلة، فانطلقت إلى منزلها، تسبقني ظنوني وتلاحقني الهواجس.

عند عتبة بيتها، استقبلتني والدتها بنظرة قلقة، وأخبرتني أن نجوى طريحة الفراش. دخلتُ غرفتها بحذر، وما إن التقت عيناها بعيني حتى انتفضت كطائر جريح، وارتمت بين ذراعيّ، تقبلني بحرارة، كأنها تغالب بردًا موغلًا في عظامها. لاحظت شحوبها المقلق، ووجها الذي صار كصفحة من رماد، وجسدها الذي صار ظلًا لنفسه. همستُ إليها بسؤال حائر: "ما بكِ، يا نجوى؟ أهو المرض الذي سلبك إشراقتك؟"

أجابتني بصوت خافت، كأن الكلمات تستثقل الخروج من بين شفتيها: "مجرد مشاكل في المعدة، لا شيء يستحق القلق..." لكنني كنت أرى في عينيها ما هو أبعد من مجرد وعكة جسدية. كنت أقرأ ارتجاف السر الذي لا يزال يتخبّط في جوفها، لكنه ظل عصيًا على الإفصاح. لم أشأ أن أنبش جراحها، ولم أُثر الحديث عن قصتها التي حسبتُها طُويت مع الزمن. ودّعتها على أمل أن أراها قريبًا، لكن الأمل شيء، والواقع شيء آخر.

مضى شهران على زيارتي الأخيرة، وحين عاودتُ الذهاب، لم أكن أتوقع أن أجدها على هذه الهيئة. رأيتها وقد امتلأت ملامحها بنضج مباغت، وجسدها المتعب قد ازدادت استدارته بشكل لم تفلح ملابسها الفضفاضة في إخفائه. شعرتُ بأن صدمة صامتة تسري في جسدي، لكني تماسكت وسألتها بحذر عمّا طرأ عليها. قاطعتني أختها بضحكة ساخرة، قائلة: "هذا من أكل الثريد!" وضحك الجميع، وشاركتهم الضحك، لكن قلبي كان يختنق بين ضلوعي.

في تلك اللحظة، أدركت أن نجوى كانت تخوض معركة لم تجرؤ على البوح بها، مع مجتمع لا يرحم، ومع نفسها التي لم تعد تعرفها. كانت ضحكاتنا تملأ الغرفة، لكن في عينيها كان هناك شيء يشبه الغرق، صرخة لم تجد سبيلها للخروج.

لم يكن قد مضى وقت طويل بعد هذه الزيارة حتى باغتتنا الحقيقة في منتصف الليل، كطيف داهم يقتحم سكون العتمة. كانت صدمة جعلت كل الأسئلة المعلقة تسقط دفعة واحدة، حين وصلنا النبأ من خطيبها. عندها فقط، فهمت أن نجوى لم تكن مريضة بالمعدة، بل كانت تصارع زلزالًا هز كيانها، زلزالًا جعلها تفقد السيطرة على حياتها، وتتركنا جميعًا على حافة الصدمة، نبحث في صمتها القديم عن كلمات لم تقلها، وإجابات لم تجد طريقها إلى النور.

ما إن رحلت أمي مع ذلك الرجل حتى شعرتُ بوحدة خانقة تلتف حولي كأفعى جائعة، أخذت أدور في باحة الدار كأنني أبحث عن منفذ يحررني من شرنقة الغضب التي سرت في عروقي. لم أجد متنفسًا سوى صبّ جام سخطـي على نجوى، ألعن اللحظة التي دخلت فيها حياتي، اللحظة التي منحتها فيها ثقتي. كيف لها أن تتصرف بهذه الرعونة؟ كيف تغامر بمصيرها ومصير من حولها بلحظة طيش لم تفكر في عواقبها؟ لقد خذلتني، غدرت بصبري عليها وبمحاولاتي المستميتة لفهمها. لم أعد أطيق حتى سماع اسمها، كرهت كل ما يمت لها بصلة، حتى نفسي كرهتها لأنها ذات يوم صدّقت بأنها تستحق الصداقة.

كان الليل كئيبًا، ثقيلاً، يسحق أنفاسي تحت وطأته، وحين لاح الفجر، استيقظ أبي كعادته، أعدّ نفسه للخروج، ولم يسأل عن أمي، فقد اعتاد على هذه النداءات الطارئة، اعتاد أن تُطلب أمي لإسعاف أرواح تتخبط في تيه الحياة. مضى أبي، ولم تمضِ عني الكآبة. لم تمضِ عني تلك الهواجس السوداء التي تغلغلت في فكري.

بعد دقائق، عادت أمي، كانت تحمل بيديها سلة كبيرة تتدثرها لفافة بيضاء. لوهلة، تلاشى كل شيء حولي، كل الأصوات، كل الحواس، ولم يبقَ إلا هذا المشهد المشؤوم. سألتها بصوت مخنوق، مرتعش: "ما هذا يا أمي؟". فاضت الدموع من عينيها وهي تهمس بأسى: "إنه صبي... طفل جميل... لكنه وُلد ميتًا". أرادت أن تريني إياه، لكنني تقهقرت إلى الخلف، وكأن شبحا او وحشا خرج من السلة ليحاصرني. صرخت، لم أعد أحتمل، لم أعد أريد أن يكون لهذا الليل الموحش امتداد في بيتنا. "لماذا جلبته إلى هنا؟ لا أريده! لا أريد أن أسمع اسم أمه مجددًا!". كانت مشاعري تتدفق كطوفان هائج، لا هدوء فيه، لا اتزان، فقط رفضًا مطلقًا لكل ما له علاقة بها.

فهمت أمي قصدي، لم تجادلني، فقط قالت بصوتٍ حزين: "كادت نجوى أن تموت، وخطيبها... أخبرني أنه لا يستطيع الزواج بها وبطنها منتفخة بهذا الشكل، لكنه سيفي بوعده حالما تستعيد صحتها". كلماتها لم تفعل شيئًا سوى إذكاء النار المشتعلة في داخلي. "وماذا عن هذا الشيء في السلة؟"، سألتُ بحدة لم أخجل منها، لم أشفق على شيء. تنهدت أمي، كأنها تحمل جبال الدنيا فوق كتفيها، وقالت: "سيأتي أخوها ليأخذه".

ضحكت بتهكم مرير، كمن يعجز عن تصديق ما يسمع: "وماذا؟ هل سيأتي بسكينه ليغسل العار؟". نظرت إليّ أمي بحزن عميق، بعينين تحملان أكثر مما أستطيع قراءته. لم تقل شيئًا، لكن دقات الباب جاءت كفاصل قاطع بيني وبين صخب أفكاري. كان الأخ قد جاء... جاء لينهي قصة هذا اليوم الذي لم يكن في الحسبان، اليوم الذي ترك في روحي ندبة لم تندمل."

***

سعاد الراعي

  

لا عودةَ للوراء

عزمتُ أن أحترفَ القتل

فقد مللتُ النومَ المُبكّر

والاختناقَ بدخان السكائر

سألبسُ سروالي وقميصي بالمقلوب

ليظنَّ من يتعقبني

أني أنظر من خلف رأسي

تلك حكمة القتلة المحترفين

لا يثقونَ حتى بأصابع أقدامهم

سأنزل إلى عالم السراديب المفرغة من الرحمة

حيث الصرخات المعلقة من غلاصمها بالسقف

وهناكَ سأتعلم كيف أهربُ مسرعاً

بينما قدماي مغروزتان بالإسمنت

سأتعلم القتلَ بالسمع والشمِّ

بل حتى بصرخات الأوردة المذعورة

سأتعلم القتل من أجل رفاق الطفولة العابثة

أنهم يحطّون على مدرج ذاكرتي من دون ترخيصٍ مسبق

يُزيحون ستارة أهدابي

ويتسللون إلى عيني بأقدامهم الموحلة

فتتوقف مصفاة دموعي عن العمل

وترتفع حرارة مضخّة الحنين

ويومض تحت إبطي مصباحُ الخطورة الأحمر

وكمن يشربُ من القنينة من دون أن يفتح السدّادة

يُغادرون حاملين شيخوختهم على أكتافهم

أتوسّل إليهم المكوثَ

لكنهم يخشون

أن يُنبتَ المكوث ُ على عُكّازاتهم أغصاناً وبراعم

ليس لي من خيار لاستبقائهم في الذاكرة سوى أن أقتلهم

سأقتلهم اشتياقاً وحبّاً

قبل أن يقتلني اشتياقهم لي

فالقاتلُ النابه يُباغتُ ضحاياه

قبل أن تفتح أياديهم بوابة الهروب

***

شعر: ليث الصندوق

أيها الشاعر للفجر

نبوءته

وعينك قربان

مثل سماء شاسعة

هذه البلاد تفيض بيراعك

كل الحروف تأتيك

دفعة واحدة

وتمضي مع الجرح لائقا بالنخل

ثم أنك الوارث لدجلة والفرات

أيها المتوسم بنايات الصباح وابتساماته الخجولة

بلاد كلكامش واشور وأنليل

ايها الشاعر ثمة ايقاع وحبر وصلصال

يتدفق مثل موسيقى شهية بالأمطار والجمال

لا تبح اسرارك للعابثين

لا تقص رؤياك لمخلوقات عمياء

دع قصائدك يفضحها الضباب

والشمس تهرول اليك

لا تخف من الذئاب والطغاة

ربما ستعانقك المشانق والحبال

وتمضي مع الأزهار والأضواء

ايها الشاعر في فمك تعويذة الخلاص

بين أضلاعك تختبىء الكنوز

صوتك يعلو عنان السماء

رغم انك لست حرا

لكن تتبعك النوارس والطيور والأحداق

وكنت أنت البلاد

وكنت أنت العراق

في روحك اخضرار الحقول

ووردة السلام

***

باقر طه الموسوي

ليس عليك ان تنقذ اشياءك الجميلة والنًهر ياخذها في جريانه اللّانهائيّ...

فقط.. أجلس على حافّة النّهر.. وتأمّل..

تأمّل اشياءك وهي تمضي... وابتسم لوجهك.. يردّ لك السلام..

*

ليس عليك ان تبحث عن تأويل لساعات سلفادور دالي الذّائبة..

فقط.. دندن اغنيتك الأثيرة وأنت تحصي النّجوم.. النجوم التي تغازل ضوءك..

*

والرّيح، تلك التي ستعرج بك الى سماء.. سابعة..

لا تحفل بها ان خانتك.

انشغل انت بقدميك تسيران بثبات على طين. سيبتلع طينك..

استمتع.. بملمسه الحريريّ ولا تنس ان تنظر الى النّجوم...

النّجوم التي مازالت تستعير ضوءك..

***

حياة بن تمنصورت

الكتبُ الورقيةُ تُعلّقُ نفسها،

تعاني من اضطرابِ النسيانِ الجماعيّ.

2

الأصدقاءُ في القائمةِ السوداء،

ينتظرونَ عفوًا رقميًا مُحتملًا.

3

الذكاءُ الصناعيُّ يُجرّبُ أن يحلم،

لكنّهُ لا يعرفُ كيفَ ينسى.

4

الساعةُ الذكيّةُ تفكِّرُ نيابةً عني،

تقيسُ نبضي، تحصي خطاياي،

تذكّرني أنّي نسيتُ أن أكونَ إنسانًا.

5

الروبوتُ، يُلقّمُ طفلًا طعامَهُ

يُغنّيهِ تهويدةً مُبرمَجة،

ويُطفئُ ضوءَهُ عندَ النوم.

6

رجلٌ افتراضيٌّ يكتبُ وصيّتَهُ،

يوزّعُ ذاكرتَهُ على حساباتِهِ المُؤمّنة.

7

الشوارعُ تُعيدُ تدويرَ المارّة،

الوجوهُ مكرّرةٌ،

التنهّداتُ مُستوردةٌ من مسودّةِ أمس.

8

المدينةُ تُصابُ بعطلٍ تقنيّ،

الإشاراتُ الضوئيةُ تعاني الاكتئاب،

والطرقاتُ لا تعرفُ إلى أينَ تقودنا.

9

في المتجرِ الإلكترونيّ،

تُنقَّحُ الأحلامُ قبلَ الشراء،

يُعادُ ضبطُ النهاياتِ كي تُناسبَ الجميع.

10

يدٌ اصطناعيةٌ تكتبُ رسالةَ عشق،

المُرسَل إليهِ بلا ذاكرة،

يُحيلُها إلى ملفّاتِ المهملات.

11

كي لا تضيعُ، "GPS" قطةٌ أليفةٌ ترتدي

لكنّها تنسى كيفَ تجدُ نفسها.

12

المطرُ الإلكترونيُّ يَهطلُ،

الحقولُ البلاستيكيّةُ تتنفس،

والغيمُ يَطلبُ إذنًا بالتحميل.

**

طارق الحلفي

كامرأة ليست عادية

عشت عمراً أعتقد ومازلت

أن القصائد كتبت وتكتب لي

كنت ومازلت رغم تسرب الكبر إلى بتلات العمر

أرقص كلما غنى الساهر

لأنه يغني لي وحدي

أنا من بين كل النساء الحبيبات الجميلات

أنا بطلة الروايات والحكايا والأساطير

أنا ضفة النهر التي تتجدد بملامسة الماء

أنا تنورة الأرض التي تتشقق في حضرة الشجر

أنا العطر واللون والموسيقا

سيدة الفراش أغنية الحقول

بنت الشمس والقمر

وما بين صبح وليل

أمرن جسدي على الوقوف مبتسماً

أمرن صوتي على ممارسة الانحياز للجمال

كم مرة خانتني التفاصيل

سلمتني للتشظي

كاملة اليقين

وبقيت على الوعد

كل الحياة لي

أحتسي الحسرات والعثرات وأمشي

أمشي على وجعي

لا أكترث للسواد

فلطالما انتظرني النور

عند المنعطف الأخير

لطالما تراءى لي نصف الكأس

العامر بالمزيد من عناقيد الشغف

خطوة إثر هفوة

أعبد الطريق نحو الوصول

وفي ظني أن منتهى الجبن الوقوف

***

أريج محمد

13/3/2025

أقولُ لأمّي وأمّ صغاري

حذارِ من الشائعات حذارِ

*

فما زلتُ سيفًا مِكَّرًا مِفَّرًا

كعهدي أجوسُ خلالَ الديارِ

*

وكيف يَغيبُ اخضرارُ الربيعِ

ويُكسى بأسودَ لونُ النُّضارِ!

*

غدًا سوفَ آتي بروحِ نبّيّ

معي عشبةُ الخُلدِ وضوءُ النهارِ

*

ومأذنتي فوقَ رأسي غناءٌ

يشجُّ المساءَ بصوتِ هَزَارِ

*

فيطلعُ فجرٌ بغزةَ ليلًا

وينبتُ خِصبٌ بُعقرِ الدمارِ

*

غدًا سوف آتي سحابًا سلامًا

لأحرسَ قمحي وأحمي صِغاري...

أخيرًا:

أيها المُرْجِفُ أَنصفْ

كي يكون القول قولًا قويمْ

يدُك الماءُ يدي نارٌ جحيمْ

أيّها المُشكلُ لا تدري ما تريدْ

أ تماري في الفلسطيني العنيدْ

أ وتُزري بفلسطينيْ عنادَه؟

وبدعوى الوعظ ترجونَ حيادَه !

أيّها الناصحُ مهلًا ثمَّ مهلا

يشربُ الطوفان من باعوا بلاده...

فدعوا اللهَ أعزّائي

دعوهُ وعبادَه ...

***

د. لطيف القصاب

.........................

كُتبت في اليوم السابع من طوفان الأقصى، وزدتُ عليها لاحقًا 

14/ 10 /  2023

رواية جيب

هواجس غريبة

كان ذلك قبل عشر سنوات

لقد ذهب هذه المرّة بعيدا

بعيدا جدا إلى أمدٍ يكاد يكون لا حدّ له.

استطلع الخليقة منذ أن وجدت على سطح الأرض...

مازال هو هو لم بتغيّر

ومازالوا هم في لغط وفوضى

يلعونه

يسبونه

يشتمونه

حتّى لو أخطأوا نسبوا الخطأ والخطيئة إليه...

مع عنفه، وصخبه، تجلّت له فكرة عفويّة

لا يشكّ أن الجميع يلعنونه وإن كانوا قد وصلوا إلى درجة عالية من العلم..

لايرونه خرافة..

لذلك لايرى نفسه خرافة مادام في نظر الآخرين حقيقة، ليكن، لا ينكر أن هناك أغلبية مطلقة تكرهه وتلقي بكلّ أعمالها الدنيئة على عاتقه،

ولن تنفعه أقلية صغيرة تتحاشاه ولا تذكره بسوء

العالم

الكون

الدنيا

الناس

لن ينجو منه أحد

يملي

يوسوس

يتدخّل في شؤون الآخرين

هكذا يصفونه

ولو استعرض السباب واللعن عليه، لوجده كثيرا.. كثيرا جدا. ومايهمه هو أن يحصر في السجل أمامه من هو الأكثر سباب له ومن هو الأقل..

راح يتصفح الدفتر القديم الجديد، يقلب صفحاته بتأمّلٍ وتأنٍّ حتّى وقع بصره على شخصين مهمين رجل وأنثى في مكانين متباعدين الرجل يسكن مدينة تُدعى (برمودة)

والمرأة من مدينة (الذهب)

 (نديم التاج) أكثر الناس لعنا للشيطان منذ بدء الخليقة إلى ساعة ان فُتِح السجلُّ الخاصُّ باللاعنين.. والعذراء ذات التاسعة عشر عاما (طلّة الورد) هي أقلّ الناس لعنا للشيطان.

بدأ يفكّر بالطريقة التي يجمعهما بها...

رغبة تراوده في أن يلتقي الأكثر بالأقلّ

كيف تكون المعادلة إذن؟

ولم يكن ليهمّه الحرام في هذه الحالة سيجتمعان بالحلال... ليدرك هو نفسه أنّه يمكن أن يفعل الخير أيضا، وليبدأ مع (نديم التاج) قبل كلّ شئ.

2

البشرى

استبشرت (طلّة الورد) خيرا، وسارعت كما لو أنّ إحساسا غريبا يدفعها إلى الباب الخارجي، فتطلّ عليها سيدة بهيّة الطلعة في الأربعين من عمرها لم تنل منها التجاعيد، في عينيها غبطة وانشراح على الرغم من أنها كانت تلهث وعلى جبينها يندى عرق غزير...

ارتاحت (طلّة الورد) لمرآى السيدة الغريبة التي لم ترها من قبل، وبسطت يدها إليها قائلة:

- تفضّلي!

- لك الفضل (واصلت تلتقط أنفاسها) هل أستطيع أن أستظلّ في بيتك قليلا؟

- على الرحب والسعة.

قادت الضيفة إلى صالة الاستقبال:

- استريحي، سأذهب لأحضر لك ماءً وبعض الطعام.

فالتقطت الضيفة نفسا طويلا:

- أشكر لك كرمك لاتتعبي نفسك إنّي صائمة.

وحالما استراحت وبدأ تعبها يتلاشى ونَفَسَها يعود لحاله:

- أنت وحدك؟هل خرج الأولاد مع أبيهم؟

فارتسمت حيرة على وجه (طلة الورد) يخالطها بعض الحزن والأسف:

- الظاهر أنّك لست من سكان مدينتنا، أليس كذلك؟

ابتسمت السيدة الغريبة، وقالت بنظرة ثاقبة:

- أنا من مدينة (الذهب) وقد قادتني الأيام إلى بلدكم حتّى أنهكني التعب، فطرقت بابك لأستريح بعض الوقت قبل أن أواصل سيري إلى بلدي.

- أهلا بك ضيفة عزيزة (ببعض التردد، والتأفف) لكن عشر سنوات مرت على زواجي ولم تحلّ بعد مشيئة الربّ لأكون أمّا.

فقطبت الضيفة مابين حاجبيها:

- لا تيأسي يا عزيزتي... مادمت آويتني، كأنّ القدر ساقني إليك، مادمت خفّفت عنّي التعب، فإنّي أبشّرك أنّ وليّا من أولياء الله الصالحين سيأتي غدا، ويتخذ من (شقائق العاقول) مستقرّا له إلى حين، والأجدر بكِ أن تزوريه ليجد لك مخرجاً.

راودها يقين وشك في الوقت نفسه:

- شقائق العاقول؟

-  نعم.. أراك في شكٍّ يمكن أن تجرّبي فتقطعي الشكَّ باليقين ولن تخسري شيئا!

وفي لحظات انقلب شكُّها إلى يقين دامغ:

- هل من شرطٍ لذلك؟

-  العلم علمه هو.

- كلّ شئ يهون إلّا شرط الحرام.

ردّت الضيفة بانزعاج ظاهر:

- لا أبدا.. لا يلبسْكِ الوسواس، وأظنَ أنّ شرطه الوحيد ألّا تخبري زوجك!

تركت (طلة الورد) الصالة تختار هدايا لضيفتها: بعض النقود... قطعة ذهب من صنع زوجها.. زوّادة طعام.. وعادت تخطر بنفحة من الحيويّة والرشاقة بعد كلّ ماسمعاه من أمل..

لكنْ

لم تقع عيناها على السيدة الضيفة

بل

أبصرت على الأريكة الزرقاء شريطا أصفر بلون الزعفران، فأدركت أنّه ليس بحلم يقظة، وما هذا الشريط إلّا علامةً تدلّها إلى (شقائق العاقول) وأنّ السيدة الغريبة لابدّ أن تكون ذات شأن عظيم، اختصتها بالزيارة، واختارتها من دون كلّ النساء العقيمات.

3

لا يهمّه الوقت

سواء قبل عشر سنوات أم الآن..

والذي يعنيه أن يسمع أحدا يلعنه أم يشتمه

كان في غاية الرّضا عن خطوته الأخيرة في لقاء الرجل الأكثر لعنا له في هذا العالم الملئ بالمتناقضات. سيأتيه بصفة تاجر ذهب يمارس الحرفة نفسها والفن الجميل النفيس ذاته.

هيئة أخرى غير التي ظهر بها لزوجته يوم الشريط الذهبي!

حين وصل إلى معرض الصائغ القدير الشهير، وجده منهمكا في تلميع تمثال صغير لملك قديم عاش منذ قرون، فترك الأخير عمله، وحياه بطرف عينه ثمّ ترك مابين يديه، ونهض يحيي الزبون الجديد.

- ياسيد (نديم التاج) الملك القدير عبدك بكل ّهيبته أتتركه من أجلي أنا الذي قد أرى ولا أبتاع منك شيئا؟

-  عفوا يا....

-  كاتب الزعفران.

-  عفوا ياسيد كاتب الزعفران.. الحاضر أولى هو يملكنا ولا نملكه كالماضي وأنت أولى بأن ألتفت إليك وأضع جانبا ما أملك فهو في يدي مضمون!

-  أعجبني جوابك أيها التاجر القدير، وقد جئتك بطلب أرجو ألّا تردني عنه.

- قل ماعندك وستجد مايرضيك.

كان عليه أن يثير في في التاجر الشهير (نديم التاج) حاسّة حبّ الذهب عنده، فقد وجده الأكثر لعنا له والأكثر رغبة في تحويل المعادن الخسيسة إلى جواهر أرقى:

- الحق أنا تاجر ذهب مثلك من مدينة (عين الذهب) ، وللأسف استشف الناس أنّ هناك معادن تعج بها بطن الأرض أغلى من الذهب وأنفس بعضها سائل أو غاز والأخرى صُلبه، فهرعوا وبيدهم المعاول ولم يلتفت أحد للذهب فهبط سعره وأصبح بثمن التراب.

فهزّ (نديم التاج) رأسه، وفغر فاه وبدا مثل تمثال تشنَّجت رقبته، وعاد بعد لحظة إلى توازنه:

- إلى هذا الحدّ؟ الحمد لله أنّ باطن الأرض عندنا لاينبئ عن شئ.

فابتسم الآخر ابتسامة تخفي كثيرا من المكر:

- لذلك جئتك (وبسط ماعنده، فاصطفت تماثيل من ذهب لملائكة، وطيور، وشجر، وحيوان، وحلقات زواج، ومفاتيح، ودوائر، وأقراط... تحفٌ تحسها حيّة تكاد تنطق وتتحرك كلها من الذهب الخالص أشياء غريبة يضمّها كيس التاجر الغريب) خذها بثمن تراه يناسبك!

-  كلّ هذه التحف من صنعك!

- نعم ولا أكذب!

بعض الدهشة والصدمة، تخامر ذهن (نديم التاج) :

- قد يزعجك سؤالي لِمَ اخترتني أنا؟

فضحك ضحكة بريئة وسقطت من عينيه دمعة خافتة:

- لأنّك الأكثر شهرة، والأكثر إيمانا في هذا البلد!

فازداد إعجاب الصائغ بالتاجر الصائغ الغريب، وقال:

- ليس تحت يدي مال سائل الآن يمكن أن تذهب معي إلى البيت نتغدّى معاً و....

فقاطع مضيفة بلهجة رجاء:

- أنا اليوم صائم... وأضطرّ إلى أن أغادر المدينة لأصفي حساباتي مع تجّار آخرين لا عليّ دَيْنٌ وديني لآخرين كثير ، وسأترك كلّ شئ عندك..

- من دون ضمان قد يعرض لك حادث لا قدّر الله؟

- سمعتك تكفي وإيمانك الذي لا يشوبه شئ، أمّا الأعمار فبيد الله، إن لم أرجع ابن بمالي ماينفع الناس من مشاف ودور خير حسبما تراه يليق.

قد يكون هذا آخر الناس الطيبين

حدّث الصائغ نفسه، وتساءل:

- هل توصي بأمر آخر؟

-  أنصحك أن تسرع إلى مدينة (عين الذهب) فتبتاع كلّ مافيها من ذهب بسعر التراب وتعود إلى مكانك ليكون لك النفوذ الأعلى ولا يدانيك أحد!

وغادر، تاركا الصائغ في شكٍّ من أمره ويقين... شكّ إلى حدّ الهلوسة وإيمان قوّي بالخير وأملٍ جديد يغيّر مسار حياته...

لكنهّ حسم أخيراً أمره.

فأغلق متجره

واستعدّ للرحيل حيث مدينة (عين الذهب)

4

شقائق العاقول

حسب وصف السيدة الغريبة لم تكن (شقائق العاقول) سوى خربة تمتد من نهاية الطريق عبر تلّة الملح إلى طرف المدينة البعيد من ناحية الشمال. تبدو الخربة هادئة في النهار وحين يجنّ الليل يأوي إليها المشردون، والدراويش وبعض السّحرة، وربّما بعض من الجنّ الذين يتركون تلّ الملح ليطّلعوا على عالم الإنس الغريب، وقد اعتادت الخربة أن تستقبل في موسم الربيع أحد المشايخ من ذوي القدرات الذين يعالجون المرض والآفات ببركاتهم، ويدّعي أهل (برمودة) أنّ الشيخ اختص بمدينتهم وحدها فلا يذهب ليستعرض قدراته في أيّة مدينة أخرى.

الشيخ (ذو العطاء) زارته في أكثر من موسم، فقال لها أن تلزم الصبر، وأنّها لا تقلق للوقت. ، يشير إليها بعينيه الهادئتين، أن الزمن سيفي بوعده لها فلا تحاسبه على طوله أو قصره، وحين ذكرت ذلك لزوجها ابتسم واستعاذ بالله من الشيطان الرّجيم، وعاهدها أنّه لن يخونها لا بالحلال ولا بالحرام إذ قبل مختارا بحكم القدر، كان يستعيذ بالله من أيّ مكر ومن غواية الشيطان، مع ذلك يفكّر أين ستذهب كلّ ثروته.. أملاكه وذهبه وبيته بعد وفاته، وهو القلق نفسه الذي عانت منه (طلّة الورد) وربّما أكثر.

بعد أن عبرت التلة حسب الشرط أن تمشي ولا تركب في الذهاب والإياب لمحت عن بعد خيمة رماديّة اللون، جاثمة في الخربة مثل سحابة تلتصق بالأرض الجرداء. دقّ قلبها وأدركت أن الضيفة اختصتها وحدها فالوقت ليس وقت زيارة الدرويش صاحب البركات. لقد أنستها المفاجأة أن تسأل الضيفة الغريبة عمّا تأخذه معها هديّة للوليّ، فحملت بعض الطعام وقطعة ذهب، ووقفت عند الباب مترددة أتدخل أم تنتظر...

قطع عليها تردّدها صوت مهيب ذو صدى يبعث بعض الخوف:

- أدخلي.. أدخلي..

اندفعت داخل الخيمة، واستعادت بعد لحظات بصرا انتقل بين ظلام ونور، فرأت أشبه بما يرى النائم دخانا رماديّ اللون يلفّ شيخا مهيب الطلعة ذا لحية صفراء وعينين ثاقبتين لو نقرتا في صخر لثقبتاه.

كاد يغمى عليها من الرهبة لا الخوف

الحيرة والعجب.

فرمت مافي يديها من ذهب ومال وطعام بين قدميه، ولوّحت بالرقعة الصفراء، وقالت بصوت متهدّج:

- إن كان لايكفي فاعذرني سآتي بما هو أكثر وأغلى.

فصاح بها:

- لا تخافي، أمّا ماعلى الأرض فسينفع المشردين المتسكعين، وأمّا شريط الزعفران فهو لي.

تلاشى خوفها وشعرت قليلا بالأمان:

- جئتك أطلب البركة.

فهزّ رأسه غير راض:

- بل قولي جئت تطلبين الولد.

- ياشيخ.. أنت الذي أرسلت من منحني شريط...

فقاطعها:

- اسمي كاتب الزعفران.

فراودتها جرأة:

خذ ماتريد إلأ الحرام.

فقهقه على غير رزانته المعتادة:

- أبعدي عنك الظنون (ثم سكت برهة وأردف) تطلّعي في عينيّ.

رفعات بصرها إلى عينيه، في الوقت نفسه سرت حرارة في جسدها ونمت في عظامها قوّة هائلة تُمكِنها من سحب العالم كلّه بيد واحدة، أشار إليها أن تتمدد على التراب، فامتثلت بيسر عندها ارتفعت عيناه إلى سقف الخيمة حيث تصارعت عناكب ماتت، وذباب خاوٍ، وشباك يعلو الغبار:

- مادمت تريدين ولدا، فسيكون حقّا طيبا وشرّيرا، يخرّب ويبني، يرحم ويظلم، عنيف وشرّير.. قبيح وجميل..

- قبلت

مدّ الشيخ يده إلى السقف ذي الشباك فطلع منه قلم خشبيّ ودواة ذات لون ذهبيّ مصفرٍّ، قال هذه المرّة بصوت أجشٍّ قادم من زمنٍ بعيد:

- اكشفي ثوبك عن بطنك إلى مافوق سرتك.

لا ونعم.. أرادت أن تصرخ أو تضحك.. لا تدري على أيهما تقع :الخوف أم الطمأنينة، ويداها مشدودتان إلى ثوبها فأزاحته إلى ماتحت ثدييها. فجثا الشيخ على ركبتيه جنبها، وغطّ القلم في وعاء الزعفران، فتناثرت على بطنها البيضاء كقلب نخلة أشكال شتى من حروف وتكوينات:

أفعى

أو

حصان

وردة

سوط

خطوط

دوائر

تفتح عينيها تلاحقان ملحمة العناكب والذباب القديمة، وتفتحهما، تظلّ تفتحهما وتغلق... والسقف من فوقها ثابت ومتحرك.. والحروف تستقر على بطنها.

دخان

ص وغ ثاء تاء

يرسم

يزخرف حسب هواه

تتقاطع الصور والحروف وتنتشر على البطن كلّها فتصبح ذهبيّة اللون من قطعة انشقت عن القمر، وكلما انهمك في الزخارف ازدادت طمأنينة، وراحة، وفي لحظة ما.. ساعة ما... وقفت يده، وقال :

- إنهضي وغطّي نفسك.

ظلّت صامتة وواصل:

لا تنظري إلى بطنك إلّا بعد أن يواقعك زوجك، فإذا حدث، فيمكن أن تبصري ما مسطور عليها ولك الحق في أن تغتسلي!

فلملمت نفسها ولو خُيّرت لها لظلّت على نومتها تحدّق بالعناكب القديمة إلى أبد الآبدين، وواصل الشيخ:

- أسرعي إلى بيتك قبل حلول الظلام فيأتي المشرّدون، وتخرج العفاريت من مكامنها لتغزو المكان.

فهرعت بخفة إلى خارج الخيمة دون أن تلتفت إلى الشيخ الذي عاد إلى وقفته. كانت الشمس في الخارج تعبر التلة باتجاه الغرب غير أنّ الوقت مازال فسيحا أمام الغروب، فعجبت من أنها بقيت تحت يد النّقاش من الظهر إلى ماقبل المغرب ولم تشعر بالوقت الذي تجلّى لها داخل الخيمة بدقائق معدودة.

5

مدينة غريبة

كانت مدينة الذهب في رحلة إلى باطن الأرض...

رحلة عجيبة يرى (نديم التاج) آثارها واضحة في كلّ مكان. الرجال حملوا أدوات حفر، وانهمكوا مع الأرض. تركوا المعدن الأصفر إلى نسائهم يعرضنه للبيع. لم يبق رجل في المدينة قطّ. قالوا إنّ الذهب خدعهم قرونا وقرونا.. نقي للزينة لاغير، أمّا االمعدن المخفي تحت الأرض والذي انبعثت رائحته قبل أن يراه أحد، فيمكن أن يحقق لهم حياة أرقى، ومن رائحته رسم خيالهم صورته. يمكن أن يكون أبيض داكنا. ولا أحد منهم يظنّ أن خياله وسوسة من شيطان أو هلوسة لا حدود لها.

وقعت عبناه على تماثيل من ذهب في الشوارع، وأبصر ذهبا كثير ملقى على الأرض بشكل ذليل، كانت النساء يقبلن أيّ سعر يعرض عليهن، وفي خلال جولته بعد أن ابتاع من محلات كثيرة، توقف أمام عارضة تضمّ مصوغات لأشجار ونخيل، وخلف منصّة البيع فتاة...

رفع عينيه عن الذهب إليها

التقت عيناهما

سرت في جسدة رجفة غريبة

أهي لفحة الحب؟

لم يعتد على الحرام ولا يرغب فيه، ولا يدري أنّه أكثر الناس كرها للحرام وشيطانه، لكنّها أشبه بوحي يتجسّد أمامه في الطول والخصر والنظرات؟ألم ير امرأة ثاقبة الجمال من قبل؟ بلى أما هذه فلها جمال ذو هيبة.

براءة

التقت عيناه بعينيها فاستعاذ من الوساوس:

- جئت شاريا؟

ابتسمت عن أسنان ناصعة البياض

- لبعض الذهب أمْ كلّه؟

- إنّي أرى معرضكم يضم أشجارا لا غير.

فجالت بالمعروضات واستقرت عيناها على عينية بنظرة ذات دلالة:

- أبي صائغ ماهر يصوغ أي شئ بتوصية، أيّ زبون يرغب في تحفة يبتكرها له، أما المعرض الذي تراه فلا يضمّ غير الشجر الذي يعشقة أبي.

في هذه اللحظة انتقلت عيناه بين صفوف الإبداع من نخيل وصنوبر وآس وموز وطلح.. كان المعرض غابة تكتظ بالشجر وحده لا يشرك معه شئ، فيتيقين من أنّ صائغ الشجر القدير يمتاز بقدرة وموهبة لايضاهبه فيها أحد، فتحوّل بعينيه إليها وقال:

- ما اسم والدك.

- ساجي الرحيم.

- أنا نديم التاج

- مرحبا بك.

- واسمك؟

- طلّة الورد.

فتردّد واستجمع شجاعته:

- هل ذهب السيد ساجي الرحيم مع سكان المدينة للحفر؟

فابتسمت وردّت بأسف:

- أبي لايؤمن بمعدن ٍ آخر غير الذهب يقول إنّ المعدن الجديد الذي نطمح أن نعثر عليه سيريحنا بلا شكّ لكنه سيقتلنا مثل السمّ البطئ.

غادرا المعرض المزهو بالشجر والنخيل إلى بيتها، فمرا بأسواق ذاهلة، ووجوه تعرض أصحابها للخسارة غير أنّهم مستبشرون بالمعدن الجديد الذي يظنّون أنّه يعوّضهم أضعافا مضاعفة، ولا رجل يمشي في الشارع إلّا هو و (طلّة الورد) تمشي أمامه كقطاة تزهو بأنوثتها، ولم يقنع نفسه أنّ هناك من هي أجمل منها في أيّ مكان...

فجأة

انطلقت زغرودة

تلتها ثانية

وثالثة

ثمّ

عجّت المدينة بالزغاريد

ليس هناك من رجل غيره، فهل ظنته النساء عريسا، فتساءل:

- ماذا حدث؟

ردّت من غير أن تلتفت إليه:

- ذلك يعني أن إشارة وصلت من الرجال تعلن عن نجاحهم.

- ومتى يعودون؟

- لن يعودوا قبل أن يقبضوا على المعدن الهارب في بطن الأرض فيدخل كلّ بيت به يرتاح الجميع.. يتنقلون وهو يخدمهم.. يدفئ البيوت حسبما يظنّون، وينير الطرقات.. ويختصر الزمن، فنرحل معه حيثما شئنا بساعات لابشهور وسنين.

- قاطعها بحذر:

- هل تؤمنين به؟

- لا أدري مادمت لم أره بعد!

دخلا البيت، فتجاوزت به الصالة إلى غرفة يمين البهو، في الحال وقع بصره على شيخ مهيب الطلعة ذي لحية يتوزّعها سواد وبياض، ممدّد على فراشه، ارتسم الشحوب على وجهه الوقور، حاول الرجل أن يمدّ يده، المزدحمة بالعروق فسارع (نديم التاج) ولمس يد مضيّفه فسرت في يده منها برودة خفيّة :

- لا بأس عليك.

- أبي جاء الضيف يشتري الذهب ويطلب مقابلتك!

غمز الرجل ابنته، فغادرت الغرفة، وقال:

- لو جئت من أجل الذهب لوجدته في المعرض واستغنيت عن رؤيتي، فما الذي ترجوه عندي؟

- اطمئن سأشتري الذهب بالسعر الأصيل، أما هدفي من الزيارة فهو ابنتك..

استجمع (ساجي الرحيم) أنفاسه، وحاول أن يعتدل بجلسته، تطلع في وجه ضيفه الذي اتخذ مكانه على كرسيّ بمحاذاة السرير:

- طلّة الورد ابنتي الصغرى سابعة أخواتها كلّهن تزوّجن ورحلن، (سماء الورد) تزوّجت من تاجر مصابيح ورحلت، وليان الورد من بحار لايستقرّ على أرض وهي لاتتركه، أمّا الثالثة الأخرى شوق الورد فزوجها صاحبب أرض شاسعة الأطراف، والرابعة هالة الورد فقد اختارت درويشا تهيم معه في الساحات البعيدة، والخامسة غزل الورد فقد تزوّجت من قائد قتل في الحرب فقضت كمدا عليه، هيام الورد السادسة خرجت ذات يوم ولم تعد قيل لي دخلت البحر تغتسل بالضياء فجرفها الموج.. ربّما لا تعنيك هذه التفاصيل..

- بل يهمني جدّا حتّى أكون على بينة من أمري.

رانت لحظات صمت ثقيلة على قصرها فراوده فضول:

- أرى كلّ أسمائن مرمّبة من الورد فكيف اخترتها؟

فهزّ الرجل رأسه عن يقين:

- أمر لا تفهمه إلّا بعد حين (رفع عينيه الذابلتين عن ضيفه إلى السقف وتغنّى بصوت مرتعش كأنّه يدعو ابنته للدخول) :

ليلتي تنثر عطرا والشذا ينفث سحرا

أترى أسكب خمرا أم أنا أوقد جمرا

إن هتكت اليوم سرّا فغدا أحفر قبرا

قال مجاملا :

- هون عليك فكلّ خسارة تهون.

عادت (طلعة الورد) على نداء أبيها الذي خاطبها بصوت واهن:

- تعرفين يابنتي أن ساعاتي معدودة، ولا أحبّ لك الوحدة من بعدي، فما ترين في طلب الضيف.

خفضت بصرها إلى الأرض، وقالت بحياء:

- أقبل بشرط.

- مهرك ذهب أبيك وسيكون له قيمة في مدينتي فقولي شرطك. !

- ليس الآن، سأبوح لك به في الليلة الموعودة.

وقبل أن يرحلا حذّر ساجي زوج ابنته:

- احذر من أن يغتال الذهب في مدينتك معدن آخر مثلما حدث لنا عندئذ سينفعك الحذر عمّا يأتي.

وهكذا كان كتب الكتاب ووفاة الشيخ الصائغ في يوم واحد، فلبست (طلّة الورد) بدلتها البيضاء، ولفعت جثمان أبيها بالسواد، وقالت:

- ها نحن في بداية الطريق، سأقول لك شرطي ولك الحقّ في أن نكمل معا أو الانفصال!

فقال من دون تردّد:

- قولي قبلت!

- مادام زواجي حدث في يوم موت أبي فإنّك لن ترى جسدي الذي يخلو من كلّ عيب في النور حتى ألقح منك بمولود!

فهزّ رأسه بالإيجاب ووضع يده بيدها وكان يخطوان وسط زغاريد المدينة المفتونة إلى مدبنته وهما محملان بتحف الذهب.

6

حديث النور

ربّما تكون الليالي السّالفة متشابهة في تفاصيلها التي جرت وسط الظلام

وهذه الليلة تلتبس بصيغة لا مثيل لها حيث ضمّهما الفراش في البدء كما هو مألوفٌ والظلام الثقيل يجثم على جسديهما.. هو شرطها يوم كتب كتابه عليها.. جاء الشيخ يحمل دفتره القديم.. ورسم بخطّ قديم فريد الملامح اسمه واسمها، ومدّ الشيخ الصائغ يده المرتعشة ذات العروق مبديا وافقته.. وقال:

- انتهينا أصبحتما واحدا لتتركي أباك وكلّ قريب لك وتلتحقي بزوجك!

لم يكن بيت الصائغ ساجي بحاجة للزغاريد، فالمدينة بين لحظة وأخرى تطلق فرحها بأشكال مختلفة لأنباء تصلها من جماعة الحفر.

كان الجميع يشهدون عرسهما من دون أن يعرفوا.

وأقسمت أن تبوح له بشرطها ليلة يدخل عليها فتطلب منه أن يفعلا ما فعل آدم وحواء خلال الظلام

فلايشعلان مصباحا

ولا نارا

يتلامسان

يتعانقان

بتشبّث كلّ منهما بالآخر

لتكن، على حسب هواجسها، لغة العيون هي الحكم بينهما

حتى تعلق بنطفة منه تفتح لهما النور

وجسدها لا عيب فيه.

أقسمت له أنّه ناصع كالمرمر لا عيب فيه ولابرود..

هكذا بكلّ جرأة

كأنّها تزهو على بل هي امرأة أخرى خلقت عرسها بيوم وفاة أبيها فأرادت للمس والشمّ والسمع أن يتقدّما على البصر فهذه علامات، على وفق هواجسها، لاتغشّ مثلما يخدعنا البصر.

وتحققت هواجسها أكثر حين مات أبوها

إذ حالما شيّع نديم التاج شيخ الدفتر إلى الباب، وعاد وجدها تتأمّل في أبيها. سألته:

- متى أرحل يا أبي إلى بيت زوجي؟

ردّ بصوت مرتعش

- متى تشائين.

اعترض نديم التاج:

- كيف نتركك وحدي.

فنظر إلى صهره نظرة لوم:

- هل تنتظران موتي؟

فصمت كلاهما غير أنّ الشيخ جلس نصف جلسه فهرع إليه كلاهما يرجوان مساعدته فزجرهما يبتعدان عنه،

فجأة

قفز من سريره بخفة صبيّ، وهبط إلى الأرض..

استدار

واستدار

حتّى خيّل إليهما أنّه سيعود طفلا، فوضعت سبّابتها على شفتيها توحي لزوجها بالصمت، فظّ الشيخ يدور على نفسه، وثوبه ينتفش بالهواء.. راح يردد

_أنا آتٍ ياحي.. ياحي أنا آت.. آت.

دار

ودار ودار

ثمّ تهاوى في مكانه منكفئا على وجهه.. كلماه فلم يردّ.. فخطت إليه (طلعة الورد) لمسته فأحسّت أنّ جسده أوغل في البرودة أصبح كقطعة ثلج.. أو مثل شتاء قادم بالثلج.. عندئذ قالت لزوجها:

-  أتذكر أن عينيّ خدعتني فظننت وقتها أنّ نوبة إغماء حلّت بأبي حين هوى وهو يهبط من سموّه ولم أعرف أنّه مات إلّا حين لمسته بيدي.

قال عن يقين:

- أنا أيضا ظننته مغمى عليه.

- إذن دعنا ننسى عيوننا !

لكنّ هذه الليلة اختلفت تماما.. استعدت لها ليستعيدا بصرهما. كانت رائحة الزعفران تعبق منها، وحين دخل عليها زوجها وأطفأت النور، كادت تلتهمه.. شعرت أنّها أصبحت كأنثى العنكبوت. همس في أذنها:

- راءحة غريبة.

- هي لك أتحبها؟

- أموت فيها.

صرخت

ضمته بين يديها

وتحسست أنفاسه...

اللهاث

واللمس

والعطر

واختفى سأنه كل ليلة البصر

وعندما سكنا

وتلاشات أنفاسهما مع صمت الغرفة الرهيب.

قال، وهما يستلقيان على ظهريهما يحدِّقان بالظلام

- إنّي أستاف رائحة تبعث فيّ حرارة االلهيب وسط شدّة الشتاء..

قالت:

- هل غابت عنك إنها رائحة الزعفران!

فرفع رأسه إليها:

- هي المرّة الأولى التي استافها من جسدك؟

فضحكت بغنج، وقالت:

- جاءت تبشِّرك بولد.

عرف ماتعنيه، فغادر فراشه، وخطا نحو المصباح ينيره، فجاءه صوتها:

- نعم يمكنك الآن.

اراءت له مثل إلهة قديمة لا يجاري جمالها مخلوق، غاب يتحسس نعومته ويلتمسه بعينيه..

ثمّ

اعترته دهشة غريبة

أغرب ممّا يراه

البياض والنعومة.. السّحر والخيال، ويبصر في الوقت نفسه، على بطنها، خطوطا وأشكالت غريبة..

كلّها صفراء...

بلون الذهب الذي يتابعه كلّ يوم وتابعه لئلا يهبط إلى الحضيض

وردة أم أفعى.

شجرة أم عصفور

مزمار...

كتابات قديمة..

هل ارتسمت على بطنها عبث، فهمس همسة أشبه بالصّراخ:

- من فعل هذا ببطنك؟

- كيف كشفت بطنك له؟

فاعترضت وقد خمّنته يشكّ:

لم يلمسني قط... كان القلم يجري على جسدي.

- متى حدث الأمر؟

نهضت ترتدي ثيابها فانتبه إلى نفسه فتذكّر أنّ الغضب لايليق بعارٍ:

- خلال سفرك؟

أكمل ارتداء ثيابه:

- إحكي لي كيف حدث ذلك؟

قصّت عليه قصّة السيدة الفاضلة التي زارتها، وخربة (شقائق العاقول) والوليّ المهيب، ومارأته من عناكب وحشرات تتصارع في السّقف، فهزّ رأسه متمتما:

- لكنّ الوقت ليس هو الموسم الذي يقتحم فيه الأولياء الخربة.

أكّدت:

- صدِّقني قصصتُ عليك كلّ ماحدث!

فكوّر يده وضرب على جبهته ضربة خفيفة:

- أنا لا أكذِّبُك ولا أشكّ فيك.

فكادت تفقد صبرها:

- علام إذن استسلمت للغضب والقلق والحزن؟

صمت برهة ثقلت على صدره ثمّ نطق بصوت حزين:

- أريد أن أعرف هل هو ذاته الرجل الذي زارني ليخبر عن الذهب في مدينتكم فألتقيك أم شخص آخر.

- ألست سعيدا بالولد.

- في البدء عليّ أن أعرف هل أنا ضحيّة شيطان أم أنّك وقعت بيد ملاك؟

اقتربت منه طوقت عنقه بساعديها، ونظرت بعينيه نظرات حانية.

- أطرد عنك الوساوس!

كان ساهيا كمن يتطلع بشئ ما با يستطيع لنظره عنه فكاكا:

ماسم الشيخ الولي الذي كتب على بطنك ؟

قابلت تساؤبه بابتسامة واسعة:

- كاتب الزعفران..

تراجع عنها.. فبقيت جامدة في مكانها.. حاولت الكلام فلم تقدر، كان يتمتم مع نفسه:سألاحقه حتّى أجده... وخرج من دون أن يترك أثرا.

7

حلقة النحاس

في طريقه على مايبدو مدن كثير لاتحصيها عينٌ ولعلّه يجد (كاتب الزعفران) في إحداها. أقرب المدن إليه مدينة النحاس، كان كلّ شئ فيها مركّب من نحاس:

البيوت..

الشبابيك..

أواني الأكل والشرب

الأشجار نفسها نحاسية الجذوع تأتلف أوراقها من خضرة مع لون شبيه بمعدن النحاس، كان الناس فيها هادؤون مسالمون، ولفت نظره تمثال كبير في وسط المدينة لسيدة قيل عنها إنّها ملكة المدينة، والغريب في الأمر إنّ السيدة تشبه زوجته (طلّة الورد) أو تكاد تكون هي.

ظاهرة كادت تصعقه..

هل هي عينه التي تكذب؟

أم مصادفة؟

أم حلم؟

بعد ساعة من اللّف والدوران، وأزيد بقليل وجد رقعة الدارويش، عثر على حلقتين صغيرتين أحداهما تلتفّ من الشمال إلى اليمين، والأخرى مشغولة بالدوران من اليمين إلى الشمال، وعلى بعد منهما شيخ وقور يجلس متربِّعا على حصير وقربه كسرة خبز وجرّة ماء من نحاسٍ لاخزفٍ:

- ياسيدي هل أنت كاتب الزعفران؟

بقي الرجل على صمته وعيناه تتابعان الراقصين ولا يدري أطال الوقت أم قصر حتّى توقفت الفرقتان عن الرقص، فصاح الشيخ:

- حسنا أوقفتم القتال (والتفت إلى الواقف أمامه) ، أنت في مدينة النحاس وقد أمرت مَلكَتُنَا صاحبة الجلالة (سماء الورد) ألّا نحدّث غريبا إلّا أن يأكل من زادنا ويشرب من مائنا.

ناوله الجرّة وكسرة خبز، فقضم وشرب، فسأل :

- هل لجلالة الملائكة سماء الورد أسماء أخرى؟

أجاب الشيخ الوقور:

- لا تسأل إلّا عن الشئ الذي دخلت المدينة من أجله!

- هل أنت كاتب الزّعفران؟

- طلبك ليس عندنا يمكن أن تجد له حلّاً في مكان آخر.

أذعن ودفعته هيئة الوقار إلى أن يلزم الصمت

فخرج من مدينة الزعفران قاصدا المدينة المجاورةَ لها، ويبدو أن رحلته لاتقع حسب المصادفة، فما سمعه من عمّه الشَّيخ لاح لعينيه في كلّ المشاهد حيث رآى ثانية، تمثالا يشخص وسط ساحة المدينة مصاغا من الحديد لسيدة تكاد تكون صورة طبق الأصل لزوجته (طلّة الورد) ، فتجاوز الصّدمة الجديدة وازداد يقينه أنّ المصادفة تخلّت عنه فحث خطاه إلى خربة الدراويش إذ تيقّن أنّه في غنى عن يسأل الآخرين.

لكن

هل يكذب بصره؟

هو ليس في حلم

ولم يهادن كابوسا قطّ

العالم ينسخ نفسه أمامه بِشَكْلٍ آخر الحديد صورته والسّيوف منظره، فكلّ صنائعه التي تسير بها المدينة من حديد والشَّيخ الذي قابله في خربة النحاس هو هو الذي يراه في هذه المدينة:

الوجه

الهيئة

الملبس

كان يجلس على حصير.. جنبه قرص خبز، وجرّة ماء، عيناه تبحران في جماعتين ترقصان:واحدة من اليمين إلى اليسار، والأخرى من اليسار إلى اليمين:

الصورة تنسخ نفسها

تقدّم نحو الشيخ وظلّ صامتا ينتظر أن يقف الراقصون...

رقصوا طويلا وترنّموا

وفي ختام الرّقصة، تراشقوا بالورد الأحمر الحديديّ فسالت من جباههم قطرات دم، فصاح الشيخ بصوت رزين:

- انتهت الحرب

عندئذٍ وقفوا صامتين فانتبه (نديم التاج) إلى الماء والخبز، وحرّكه فضول للتشابه الفظيع، فشرب الماء من جرّة الحديد وقضم الخبز باسم صاحبة الجلالة (ليان الورد) :

- ألم نلتق ياسيدي من قبل.

- لا تلتفت إلى الماضي ولا تسأل عن شئ لم تأتِ من أجله.

قال بإصرار:

-  أين أجد كاتب الزّعفران؟.

- إبحث عنه في المدينة المجاورة لكن لا في مدينة الملح التي أكلها البحر، ولا المدينة التي أبحرت على البحر!

- ياسيدّي لم أفهم.

- إعرف أَنَّكَ سترى ممكلة ابتلعها البحر لملكة علامتها تمثال قائم في الماء لهيام الورد فاحذر لئلا تغرق وتخطَّ

لمملكة أخرى قد يكون طلبك فيها.

فخرج وقد شعر بأنّ السَّفر بدأ يرهقه، وفي صحوه الجديد وربّما سفرته الأخرى شاهد بحرا هائجا عن يمينه وعند أسنان البحر لاح له تمثال يشبه زوجته (طلّة الورد) خانته الدهشة.. فازداد يقينا أن يعثر على كاتب الزعفران، كانت هناك طيور تحطّ على التمثال وأخرى تهبط على الماء تنقر قطراته، وقوافل من بشر ودواب تشرب منه، فأدرك أنّ ماء البحر عذب وليس مايراه خداع بصر أو لعلّ الماء مالح والواردون من حيوان وطير وبشر يروِّضون أنفسهم على الصبر وعلى الرّغم من أنّه كان يتعرّق، والعطش أتعبه إلّا أنّه تذكّر وصية الشيخ فابتعد عن مملكة الملح وملكته التي يعرفها، وتخطّى إلى مدينة أخرى.

يمكن أن يسمّيها مملكة الحجر!

بيوتها

أدوات أكلها وشربها من حجر

مقاعدها حجر

زهورها والورد فيها حجر

أناسها يحملون الحجارة فيلوونها كما يشاؤون.

أمأ التمثال فهو نفسه لم يتغيّر

الصورة

الشكل

الحجم

ومكتوب على قاعدة التمثال بخطٍّ من ذهب بلغة قديمة لا يفهمها تشبه الخطّ الذي رآه على بطن (طلّة الورد) !

وحين دخل خربة الدراويش في المدينة الحجريّة رآى الفرقتين اللتين رآهما من قبل، ينحتون ويرقصون فرقة من اليمين إلى اليسار وأخرى بعكسها، والشيخ الذي رآه من قبل يجلس على عرش من حجر كتمثال قديم يتطلع في الفرقتين الراقصتين، يتبعهما بعينينه إلى يمينه كسرة خبز وعن شماله قارورة ماء حتّى مرّت ساعة أو أكثر بقليل، فتراشقت الفرقتان بوردود من أحجار.

- أوقفوا الحرب

صاح الشيخ فجمد كلّ منهم في مكانه، ولما يئس، هتف بالشيخ:

- ياسيدي هل أنت كاتب الزعفران

- بل أنا كاتب الحجر، فخذ الماء واشربه بأمر صاحبة الجلالة (هيام الورد) ولا تخاطبني في الآتي.

- ياسيدي انتظرتك في وقفتي أكثر من ساعة.

- بل هي سنة أو دهر فارحل عنّا بسلام

وجاءته مدينة أخرى، خامسة كلّ مافيها معادن نفيسة وتمثالها الذي ألِفَه من لؤلؤ وذهب وألماس، وعند القاعدة بقي الخط بشكله القديم.

إلى هذه الساعة نظره لا يتغير

بصره لايضعف

وذاكرته في أحسن حالاتها، وسط المدينة التمثال نفسه، الناس مشغولون بالذهب والألماس والحلي، على واجهات البيوت تحف من لؤلؤ وألماس وحرير وذهب ودّ لو كان في رحلة تجارة لا رحلة بحث لابتاع كلّ ما يرغب فيه مِمّا يسرّ العين ويريح النَّفس، ولعلّ المدينة خلت من خربة للدراويش، والفقراء الذين يتخذون من أحد أطرافها مأوى لهم، فغادرها بعد أن يئس ثمّ أذهلته مفاجأة أخرى لتمثال يشبه التماثيل التي سلفت بصورة (طلة الورد) وليس هناك حوله سوى بشر عراة ذوي شعر طويل يرقصون حول التمثال. ومعهم رجل رثّ عار يكاد يكون كاتب الورد.

الجميع يصرخون

يزعقون

النساء العاريات

والرجال العراة

لا يرغب في أن يكذِّبَ نفسه إذا قال إن المدينة بدت بحجم قبضة اليد، فكيف يسأل كاتب الزعفران القديم الحديث، ولا يفهم أحدهما الآخر ولا يبالي كلّ منهم بالآخر

فكوّر يده وواصل سيره..

واصل وهو يبحث عن المدينة التالية.

8

لقاء غريب

ظلّ يمشي وهو على يقين أن المدينة التالية ليست وهماً حيث كان يبحث عن حقيقة راودته فأراد أن يقطع الشكّ باليقين!

لم ييأس في أن يجدها فقد أكّدت له تجارب سابقة أنّها موجودة مادام العالم يكرر نفسه بطرق شتّى:يتراشق مرّة بالورد وأخرى بالنحاس أو الحديد...

وإذ رآها تلوح له من بعيد

فدخلها بعد جهد جهيد

هذه المرّة اختلفت الحال تماما..

شاهد مظاهر جديدة

جديدة إلى حدّ الإبهار والإنكار

هل يصدّق عينيه أنّه لايرى تمثال سيدة يشبه (طلّة الورد) منتصبا وسط المدينة بل رآى نُصُبَاً لايفهم معناها تعانق السماء إلى جوارِ مبانٍ شاهقةٍ، وطرقٍ واسعةٍ وحدائقَ عامرةٍ، مع ذلك تزكم رأسه رائحة غريبة تثير في نفسه الغثيان.

دخان كثيف يتصاعد

أبنية شاهقة

علامات ضوئيّة كثيرة

يتطلّع في الوجوه بعضهم يضع على أنفه قناعا، وآخرون على عيونهم نظّارات، كلهم مسرعون لا يبالون به.

حركة دائبة من آلات تحرث الأرض

وتشقّ الأرض

أو

تجوب البحر

فأين يجد كاتب الزعفران وسط الصَّخب والضَّجيج؟

ومازالت الرائحة الغريبة تخالط أنفاسه.

هناك عطر نفّاذ مريح ورائحة كريهة يمتزجان بأنفاسه.

خلال جولته خامره يأس لحظة فطرده من باله، العالم نسخ نفسه أكثر من مرّة فلماذا يمتنع الآن، كلّ شئ جديد هذه المرّة.. ورآى حين هبط الليل، حديقة صغيرة في ضاحية من ضواحي المدينة الغريبة التي لا تهدأ ليلا ولا نهارا، فأوى إليها ليستريح، ولم يكذّب عينيه، ولم يصدقه يأسه إذ أبصر من باب الخيمة ملامح لشخص يعرفه.

فتماسك

وتشجّع

فإذا به أمام كاتب الزّعفران لكن بحلّة آخرى

الوجه

الهيئة

النظرات

شيخ تركته الفرقتان اللتان تتبعان أمره، فتدوران من شرق إلى غربٍ، ومن غربٍ إلى شرق ثمّ تتقاتلان وتركنان للسلام بإشارة منه.

الدنيا تصوغ نفسها بشكل آخر

وشيخ الخربة لم يبق منه إلّا وجهه البعيد.

- أدخل

فدخل

وكانت المفاجأة الكبرى بانتظاره

لحظة انكشفت له الحقيقة أن كاتب الزعفران هو صائغ الذهب الذي زاره في الحِقبة الأولى ودلّه على مدينة يباع بها الذهب بسعر أرخص من التراب.

- هل عرفتني؟

أجاب بانكسار:

- نعم ألست التاجر الذي أخبرني عن انهيار الذهب!

فضخك ضحكة طويلة:

- هل اقتنعت الآن بقدرتي.

فأطلق عنانه للغضب:

-  لِمَ فعلت ذلك معي من دون الآخرين؟

أجاب هذه المرّة برزانة:

- كنت الأكثر لعنا لي.. الجميع يلعنوني أما أنت فالأكثر لقد أعطيتك وعاقبتك.. كنتُ أفضل منك!

- ماتركته عندي من مال أنفقته كلّه في الخير بنيت مشافي وجوامع ومباني للتائهين ودورا للمحتاجين!

فزجره بعنف:

- مع ذلك تركت كلّ شئ ورحلت في المدن حتّى عدت إليّ.

يردّ بتوسّل :

- ولكن لِمَ اخترتني أنا من دون الخلق؟

فقهقه ثانية واسترخى، تلون حتّى أشاع الخوف في كلّ شئ حوله:

- لأنَّك كنت الأكثر لعناً ًلي !

سرى خوف في أوصاله وتغيّرت قسماته، فاعترف.

-  لا أنكر أنّ ّالعالم كلّه يكرهك.

نظر إليه بصيغة مكر :

بغض النظر عمّ تقول وما أعرفه عن الآخرين كنت كريما معك تركت لك الذهب ومعادن أخرى أنظر إلى الدخان المتصاعد في الفضاء والآلات التي تسري بسرعة جنونيّة أنا الذي أوجدتها ستخدمك أنت والآخرين الذين يلعنونني، ستكونون عبيدا لها وقد حقّقت ثأري.

راوده حنق مكتوم:

الذي يشغلني الكتابة التي على بطن زوجتي..

استغرق الآخر\الشيخ\ الشيطان\ملك العالم الجديد:

- هي خريطة العالم الجديد رسالة تحذير لك. أما عفة زوحتك فليس لي أن أهتكها.

- الآن ارتحت.

عيناه الماكرتان تقدحان بتشفٍّ:

-  ارتحت؟كم قضيت من الوقت لتصل إلي؟

شهرين.. ثلاثة.. على أكثر تقدير:

مازال في أوج سخريته:

- حين تعود ستجد حاكما لمدينة الذهب، يبني ويهدم، يقتل ويحيي يعمّر ويخرّب.. لو انتهكتُ عرض زوجتك لكان الذي من صلبي يتعامل بالشرّ وحده، فاخرج من غفلتك فقد قضيت ربع قرن وأنت تظنّها بضعة أشهر، ستجد كلّ ماتراه من دخان وآلات ومصانع ستراها هناك!

راح يتراجع إلى الوراء، ويتلفت حوله، منتصف الليل كان يغادر المدينة التي لا تنام، وهو لايرغب مثلها في النوم، المصابيح من حوله تنير الطرقات، والآلات تجري.. يا للغفلة الطويلة ربع قرن. عمر ابنه خمسة وعشرون عاما، فهل يحد المظاهر التي يراها هنا في بلده، وهل تستغرق رحلة العودة ربع قرن آخر..

أم يعرفه أهل مدينته؟

ظلّ يسير والضباب المتصاعد إلى السماء يشدّ عينيه إلى الأفق البعيد والآلات تجري من حوله ليل نهار كأنّه يتسابق مع الليل والنهار ليعود من حيث أتى في غفلة من الزمن.

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

منذ عامٍ، لم أكتب قصيدةً جديدة.

لم أفتح النافذة على الفراغ، لم أضع إصبعي في فم الليل لأقيس حرارته،

لم أعد أختبر الكلمات على لساني كما يفعل الطهاة،

لم أضع الحروف فوق النار لأرى أيُّها يصير رمادًا وأيُّها ينبت أجنحة.

*

منذ عام، وأنا أراقب اللغة وهي تشيخُ في المرآة.

أحرفٌ مترهّلة،

نقاطٌ تتساقط كالشعر،

فواصلُ تتثاءب على الورق،

وعلاماتُ تعجّبٍ تقفُ كأراملَ في جنازة المعنى.

*

أريد قصيدةً لا تعرفُ اسمها،

قصيدةً تخرجُ من فوضى الضوء ككائنٍ هاربٍ من فجرٍ لم يكتمل،

قصيدةً ترتدي معطفًا من الدخان، وتمضي بلا وجهةٍ،

قصيدةً تسقطُ سهواً من دفتر الله، فتتبعها الملائكة كطفلٍ تائهٍ في السوق.

*

القصائد التي كتبتها كانت مصنوعةً من زجاجٍ قديم،

كلُّ بيتٍ نافذةٌ مغلقة،

كلُّ قافيةٍ مرآةٌ تنكسرُ حين أحدِّقُ فيها،

كلُّ استعارةٍ ظِلٌّ يبحثُ عن جسده في رمل الوقت.

*

أريد قصيدةً بلا وزنٍ،

بلا ذاكرةٍ، بلا ماضٍ يطاردُها ككلبٍ هرم.

أريدُ قصيدةً تفكُّ قيدها من القاموس،

تتسلَّلُ خارج المكتبات،

تصرخُ في وجه النحو وتلكمُ البلاغة في فكّها العتيق.

*

أريدُ قصيدةً بلا جغرافيا،

تمطرُ في صحارى الكلام،

تشربُ الملح،

وتبني بيتها على الحدِّ الفاصل بين الماء والنار.

*

منذ عام، وأنا أحاول كتابةَ هذه القصيدة،

لكنّها ترفضني كما ترفضُ الأرضُ آخر المطر،

كما يرفضُ البحرُ أن يحتفظَ بالموجةِ ذاتها مرتين.

*

أريد قصيدة خارج القاموس!

***

مجيدة محمدي

قلتُ له:

أنا اللهبُ المتّقدُ

خارجَ المشاعل،

داخلَ العيون،

أُولَدُ من رماد.

*

لم تكن شجرةً

تُروى بالمطرِ الأوّل لتزهر

ولا غصنًا يرقص مع الرياح.

أنتَ صخرةٌ

نحتتها العواصفُ بأزاميل النور

كأنك لوحةٌ مقدّسةٌ

الألمُ فيها طريقٌ إلى الخلود.

*

عبرتَ الدروبَ الوعرة

والطريقُ ليست نهرًا

يمتحنُك بحجارته الملساء.

الطريقُ امتحانٌ صامتٌ

سافرتَ فيه وحدَك

وأنا أحملُ قلبَك كجمرةٍ

تقاومُ الانطفاء.

*

ليستِ الظلمةُ عدوَّك الأوحد.

هي كفُّ الليلِ على عينيك

ومرآةٌ مكسورةٌ

تلملم روحك المتشظية

لتعيدها إليك.

*

والنور؟

شُعاعٌ يأتي من جذوةٍ في داخلك

يضيء كلّما أحرقتك الأيام.

هو طائرُ فينيقٍ

ينهضُ من رمادِك،

يحلقُ بجناحين من نارٍ

ليذكّرنا أن النهاية

بدايةٌ أخرى.

*

الفينيق لا يموت.

يخدع الموتَ بابتسامةٍ

ينهضُ من بين الجراح

وكلّما احترق

غنّى أغنيةَ الرماد:

"أنا البدءُ الساكنُ

النارُ الباردةُ

الموجُ المخذولُ.

أنا يا حبيبةُ

نهايةُ الطريق."*

*

في داخلكَ نارٌ

تعتنق لهيبَ الألم

لتصوغَ من الجراحِ أجنحة.

كلُّ بابٍ تفتحه

يقودكَ نحو نورٍ لا ينطفئ.

في داخلك حياةٌ أبديةٌ

ولادةٌ لا تعرف النهاية

تعرفُ أن الجراح

بدايةٌ للنور.

*

أنتَ الفينيق

يخدعُ الموتَ بابتسامةٍ

ثم ينهضُ

بجناحين من نارٍ

وأنا البدايةُ الأخيرة

والسقوطُ العالي إلى السماء.

***

ريما آل كلزلي

....................

- من نص آخر فينيق د. عاطف الدرابسة

 

الوقت فجر يغسل كائناته

من عتمة الازمنة

والشمس صديقتي

ترمم وشاح الوسن

الصباح يدفع ببرودته

في الاجساد المنهكة

وهذا الصقيع المجنون

يغزل من فروة الثلج

معطفا للارض

البحر يترصد وجهي

بحبكة شرقية وخيالات

هذا اليأس يطاردني

في الاضواء

وكالعادة هذه المشاهد

ترتطم بخطواتي

يسألني عن اسمي

الغارق في مساحاته

ادخل امواجه المتلاطمة

فتغمرني الأطيان والزوابع

افتح نوافذ للغرقى

فسحات للهاربين

في المنافي البعيدة

الحالمين في العودة

إلى الوطن

وطياته في الامسيات

وهذا الكأس يمكث

في شفاه امراة

وحده يعاقر صمتها البعيد

حين يتذكر فصوصه

في البياض

ضحكتها في تجاعيد المرايا

املأ كأسي بالخمر

حتى تهذي التماثيل بالجنون

واطلق خطواتي في الهواء

ايها البحر انا يعقوب

دلني على روح البلاد

او ارم حجر السهد في خاصرتي

ايقونة للوطن المستباح

بالتماسيح

***

باقر طه الموسوي

 

"أكثر ما يعذب الإنسان أن يحلم في زمن تلاشت فيه الأحلام".

ترتفع الشمس قليلاً في تلك الساعات الصباحية، متفقّدة كلّ زوايا مسارها المظلم. تلقي أشعتها لترى أدقّ الأشياء والتفاصيل وما تحتاجه من نور منها. كان الباب مغلقاً، وجمهرة من البشر تقف أمامه تحت لهيب الشمس. وآخرون استضلوا منها بشجرة يتسلّل منها ضوء النهار بخيوط ذهبية، أحسن صانعها الطرق عليها، فلمعت متماوجة تفزع سكون الظلّ. قادتها خطواتها نحو الكرسي، جلست ونظرها مشدود للأماكن حتى أغمضت عينيها، توزّع وقتها في الليلة السابقة بين المطبخ والصالة وترتيب خزانتها، سرقها ذلك المسلسل أيضا لوقت متأخّر من الليل. أخيراً رأته، كانت تقف في مؤخّرة حافلة النقل، حين تسمّر بطوله النحيف، وشاربه الخفيف، وشعره المتدلّي للخلف كذيل حصان باسترخاء غطى أذنيه، لم تشعر في تلك اللحظة ماذا حصل حين لمعت عيناه، إلّا أنها رمت بنفسها نحوه وقبّلته، اعتصرا بعضهما بعناق حميم، كان جسدها مرفوعا على رؤوس الركّاب الآخرين، وكلما شدّها له هبط جزء منه نحو أرضية الحافلة، تعلقت برقبته بكل ما استطاعت، فيما الحافلة تتمرجّح في سيرها بسبب الحفر التي ملأت الشارع، إلّا أن قفزة العجوز التي تتوكأ على عصاها أمام الحافلة بشكل مفاجئ دفع سائق الحافلة أن يتوقف بكلّ قوة، فسقطت هي أرضاً، تحسّست جبينها وأدنت بيدها كأس الماء الذي وضعته على الطاولة المجاورة للسرير، شربت قليلا منه، ثم انطلق أنين نفس متعب، لكنها سرعان ما وقفت أمام المرآة لترتّب مكياجها الخفيف، مرتدية ثوباً شفافاً أسود اللون، لا يفصله عن جسدها إلا حمالات الصدر وثوبها الداخلي، مدّت يدها نحو قنينة العطر ورشت جسدها من الأعلى حتى وسطها تقريباً، وحملت بعد ذلك حقيبتها المليئة بالأوراق النقدية وانطلقت صوب مكتب العقارات وهي تحدّث نفسها كم جميلاً موقع ذلك المنزل، خصوصاً إطلالته على البحر، سيكون صيفاً يدعو للجنون أقضيه مع البحر والشمس وطيور البحر وصوت الأمواج والمراكب الشراعية وصفير البواخر التي تجوب البحر شمالاً وجنوبا، حتما سأشتريه…ولكن عليّ أن أتناول قهوتي في ذلك المقهى، مازال هناك بعض الوقت على موعد فتح المكتب لأبوابه، دنت من إحدى الطاولات خارج المقهى والتي تطلّ على طرف الشارع المزيّن بالورود وجلست، طلبت قهوتها وتناولت من حقيبتها قطعة شكولاتة وعادت تحدّث نفسها مرة أخرى، امض أيّها الوقت سأشتريه، آه من هذا الزمن ووحدته، تُرى هل سيجلب لي هذا المنزل الحظّ وألتقي حبيب أحلامي وأعوّض ما مضى.. تعشق بخار فنجان القهوة مع الهواء الذي تنفسته، فيما زفيرها فرّق البخار على جوانب الفنجان، نهضت أخيراً لتتابع مسيرها صوب المكتب، وما إن وصلت الباب حتى أصابها مغص حادّ لم تستطع بسببه مواصلة السير لدخول المكتب، هوّت على الأرض، لتصحو بعد ساعات طويلة في غرفة جدرانها بيض، وعلى سرير تحيطه أجهزة الفحص الطبي وخراطيم مختلفة، ويد طبيب تمتدّ نحو ركبتها بمشرط حاد فزعت واستدارت بجسدها للجهة الأخرى، أمسكت بكأس الماء وشربت منه، ثم أعادته إلى الطاولة وعيناها تحلقان في أجواء الغرفة سحبت الغطاء حتى رأسها وهربت بأفكارها أمام واجهة عرض كبيرة لفساتين العرائس وبأنواع مختلفة توقّفت، فمها مفتوح قليلاً، وشفتاها مسترخيتان، فيما تحاول بين اللحظة والأخرى ترتيب خصلة الشعر التي تسقط سريعاً أمام عينها فتحجب عنها الرؤيا أطلقت نفَسَاً طويلاً وحدّثت نفسها كم أتمنى أن ألبس ذلك الفستان، حتى لو ليلة واحدة أينك؟ ماذا فعلت كي تختفي عن حياتي؟ "شماله حظي" ردّدت تلوَّت يميناً ويساراً، سقط الغطاء عن جسدها، مدت يدها مرة أخرى صوب كأس الماء من دون أن تفتح جفنيها، سحبت الكأس نحوها، كان فارغا إلا من قطرات تمسكّت بجدرانه بخّرتها حرارة كفها التي ظلّت متمسكة في كأس الماء الفارغة حتى وقت آخر…

 ***

 كريم شنشل

من مجموعة نثار الروح

عبد الستار نورعلي: العنقاء

(بمناسبة عيد المرأة)

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ الستائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ من أنوفنا،

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ،

*

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسيفَ والرمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

*

في حلمٍ

يُبرعمُ الربيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظر اللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ

ويبدأ الحصادْ،

*

في كتبِ الروايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

*

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها

عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ،

وفي أمّارةِ الرغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ،

*

فانفجرتْ دماءُ صالةِ النساءْ،

صرخْنَ: هيتَ لكْ!

يا أيها الأبدعُ خلقِ اللهِ

في البقاءْ،

*

خُلِقتَ، أيها الأبدعُ، في أحسنِ تقويمٍ،

فكنْتَ لعبةَ المقدودِ من دُبٌرٍ،

وتجريح النساءْ،

**

إنّ ضلعي يتوارى اليومَ خلفَ الظهرِ

يسقيني بساتينَ الهواءْ،

وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البهاءْ،

*

السلسبيلُ هُنَّ،

قيلَ: رفقاً بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ،

والقارورةُ الزجاجُ في مكانِها

في حانةِ الصدرِ،

وفي أحسنِ تقويمٍ،

وفي أجملِ تنظيمٍ،

وأشهى منْ دمِ الغزالْ،

*

أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً،

أختي التي ربّتني أحيا مثلاً،

أكملتُ منْ تحت يديها؛

كي تراني مثلاً،

مُدرِّساً صرْتُ،

وصارَ السينُ والصادُ مثالاً ساطعاً:

مهندساً، محامياً، مُطبِّباً،

أو عاملاً مناضلاً

أو قائداً مثقفاً

أو ناشرَ الهواءِ في الأرجاءْ،

*

أختي التي ربّتني أحيا مَثَلاً

ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ

تحيا مَثَلاً،

كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ،

بتغريدِ الحمامْ

وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ

حلاوةَ الأحلامْ

ورايةَ السلامْ،

*

في مرضي

كانتْ هي الضمادَ والدواءَ والحنانْ.

في الامتحانْ

تجلسُ في فُوّهةِ البابِ وفي لسانِها

زغرودةُ النجاحْ،

*

في السجنِ زارتني

وفي العينين كبرياءْ،

لا تعبٌ مرٌّ ، ولا إعياءْ،

وقلبُها صُلْبٌ منَ الصمودْ

والأملِ الموعودْ،

*

وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرقبةْ

أو فجّروني ارتفعتْ برأسِها،

صاحتْ:

سيبقى مثلاً ، وخالداً،

مادمْتُ  في الأحياءْ،

ما دامتِ العنقاءُ والرمادْ والبقاءْ....

***

عبد الستار نورعلي

..................

* ألقيت القصيدة في الاحتفال الذي أقامته (شبكة مانويل السويدية منْ أجلِ الحرية والسلام والاتصال بين اللغات)، وذلك في استوكهولم، وبالتعاون مع رابطة المرأة العراقية في السويد، وبحضور عدد من المنظمات والأحزاب العراقية والسويدية، بتاريخ الأحد 7 آذار 2010 وقد كرّمتني الشبكةُ بمنحي درعَها.

لمّـــــا كتبتُ حروفَ إسـ

ـمـكِ راحَ يرمقني القمــرْ

*

متعجبــــا ً ويقــــــولُ لي

كُــنْ يـا جميـلُ على حَذرْ

*

أنــــا كنتُ حارسها الأميـ

ــنَ سميرهــا حتّى السَحَـرْ

*

شعّـتْ بنـــــوري فَهْيَ توْ

أمـــيَ الذي منّـي انشطـــرْ

*

سمّيتُــــــها غيـــــرَ الذي

قدْ شاع َ عنهــا وانتشــــــرْ

*

بالصمتِ لذتُ لدهشتـــي

لكنّـــــما قلمــــي اعتــــــذرْ

*

لمْلمتُ أوراقـــــي وسـر

تُ، وقلتُ أستفتي الزهــــرْ

*

همـسَ البنفســـجُ ضاحكاً

لا تخفِ سـرّكَ، قـدْ ظهــــرْ

*

وأفـــــاقَ زهْرُ الياسميـــ

ــن مرددا ً ذاع َ الخبــــــرْ

*

هـــيَ زَهْــرةٌ مِـنْ نسلنـا

دعْ عنــــكَ تسمية َ البشــرْ

*

احتــــرتُ ممّــا قدْ سمعـ

ـ ـتُ وضجَّ ذهنــــي بالفِكرْ

*

لمْ يبقَ غيرُ البحْــرِ أسْـــ

ـــألهُ لأعرفَ ما استتـــــرْ

*

أطلقتُ فيــــــــهِ زورقي

والموجُ مِنْ حـولي هَــــدَرْ

*

نــاديتـــــهُ يا بحْــرُ هــلْ

صحَّ الذي قــــــالَ القَــمَرْ

*

هـــلْ يا تُرى هـيَ زهرةٌ

وِلدتْ كمـــا زعـمَ الزَهَــرْ

*

فأجــــــابني... حوريـّــة ً

كانتْ هنـــــا منذ ُ الصِغَرْ

*

سببٌ هنـــــــالكَ واحـــدٌ

سأقــــــــولهُ بالمُخْتَصَــــرْ

*

إنّــــــي ختمتُ قصيدتي

وحجبتُ اسمكِ بالصــــورْ

*

كــــــيْ لا أغيظ َ البحْرَ و

الأزهــارَ والقمرَ الأغــرْ

***
1297 jamil

* فكرتُ طويلا ماذا سوف أهديك بمناسبة عيد الفطر هذا العام، فلم أجد أغلى وأجمل من هذه القصيدة، التي كتبتها من أجلك ولم أذكر اسمك نزولا عند رغبة القمر والبحر والزهر، أنلا أذكر اسمك، لكن سأكتفي بتلك الصورة الجميلة ذات اللون الأزرق، التي زينتِ بها في زمن ٍ ما قصيدة لي في يوم عيد ونشرتها تعبيرا عن إعجابك وكرمك. 

جميل حسين الســـــاعدي

وسط أنقاض الحياة وخيامٍ تتنازعها الريح، كانت هبة، ذات الأعوام الستة، مسجاةً إلى جوار والدتها المصابة وأختها الصمّاء، مقيدةً إليهما بحبلٍ يلف خاصرتها الصغيرة، وكأنّ الخوف نفسه قد شدّ وثاقها إلى هذا القدر الموجع. لم يُسعفها النعاس، فرغم الجوع الذي ينهش أمعاءها والقلق الذي يستبد بروحها، ظلت عيناها الواسعتان تحدقان في شقٍّ بأعلى الخيمة، شقٍّ نسيَت والدتها أن تسدّه بخرقة. كان ذلك الفُتات من السماء بوصلتها إلى الفجر، اللحظة التي انتظرتها طوال الليل لتنفيذ ما اعتملت به أفكارها الصغيرة.

في ظلمة الخيمة، تحركت بحذر، تلمّست أنفاس والدتها، تفقّدت الحبل المربوط بها، وعقدةً تقيّد حريتها. بأصابعها النحيلة، راحت تفكّها بصمت، حتى إذا انفلتت، غمرها شعور أشبه بنشوة الانتصار، إحساس لم تعرفه منذ ذلك اليوم الذي خُطفت فيه طفولتها على وقع القصف. كان يومًا أطفأ نور والدها وأخاها الرضيع، يومٌ خرجت فيه برفقة أمها وأختها لجلب الماء من آخر ما تبقى من الحياة، من حنفية الجامع التي ما زالت تقطر قطراتٍ يتنازعها العطشى في ملحمةٍ للبقاء، بينما عادوا ليجدوا منزلهم قد تلاشى في العدم، كل ما كانوا، كل ما يمثلهم، صار رمادًا وركامًا.

استعادت المشهد كأنه يُعرض أمام عينيها الآن، ارتجفت أصابعها، وأحكمت قبضتيها الصغيرتين المرتعشتين على فمها، تخشى أن تفلت منها عبرة فتوقظ والدتها، فتنهار خطتها قبل أن تبدأ.

جمعت ما تبقّى من شجاعتها، ومسحت دموعها بكمّ ثوبها، كأنّها تطرد بها الحزن العالق في مقلتيها. ربطت ضفائرها بخرقة انتزعتها من كمّها الآخر، مشدودةً كحلقات أملٍ واهنة، ثم انتعلت نعليها المهترئين وجلست تنتظر ميلاد الفجر، علّه يحمل لها بارقة رجاء، علّها تصل إلى ما ترجوه وتتمناه ولا يخيب ظنّها.

راودها طيف العيد، فتذكّرت بيتهم الدافئ، غرفتها التي كانت تمتلئ بهجةً في صباحات العيد، وفرحة ارتداء الثياب الجديدة، وتذوّق الحلوى التي أحبّوها، والهدايا التي كانت تُخبَّأ لهم بحبّ ليجدوا فيها مفاجأةً من والديهم. شعرت بمرارة الفقد، لكنّها سرعان ما طوّقت وجعها بقرارها الصامت.

ما إن بزغت ساعة الفجر الأولى حتى نهضت هبة، وتسلّلت خارج الخيمة، تسابق الريح بخطواتها الصغيرة نحو ما تبقّى من بيتهم. راحت تنبش في الركام بصبرٍ يليق بمن يفتّش عن كنزٍ، عازمةً أن تجد هدايا العيد لأمها وأختها.

ها هي الصغيرة، بين أنقاض منزلها، تسير كما لو أن خطواتها تبحث عن شيء يعيد إليها شعور الانتماء وسط هذا الخراب. غاب عن إحساسها الجوع، والخوف، وحتى الحذر، فلم يعد لشيء في هذا العالم وزن أمام ثقل ما تحمله في قلبها الصغير.

انحنت ترفع حجرًا، بحجم نبضها المرتجف، كان ملطخًا بلونين من الحمرة، كأنما احتضن آخر ما تبقى من حياة من كانوا هنا. نفخت عليه، أزاحت عنه الرماد والتراب بأطراف أصابعها المرتعشة، ثم شهقت بالبكاء، تهمس بحرقة تقطع نياط القلب: "بابا... هذا دمك ودم أخي... أنتما معي الآن!"

جففت دموعها بيد ثابتة، كما لو أنها ترفض أن تنهار. لم يكن الوقت وقت بكاء، بل وقت استعادة الذكريات المنثورة تحت هذا الركام. واصلت الحفر بأصابع صغيرة أرهقها البرد والتعب، حتى لامست شيئًا معدنيًا بارزًا. سحبته ببطء، وإذا به دبوس معدني، كان يربط لفافة أخيها الرضيع. تأملت لمعانه الخافت تحت ضوء الشمس الحزينة، ثم احتضنته وقبّلته، كأنها تلملم شيئًا من دفء الأيام الغائبة، من ضحكة أخيها التي لم تعد تسمعها، ومن حضن والدها الذي صار ذكرى.

نهضت، نفضت الغبار عن ثوبها المثقل بالبقايا والحنين، وحين همّت بالمضي، أحسّت بشيءٍ صلبٍ تحت قدميها. انحنت لتلتقطه، فإذا به بقايا إبزيم حزام والدها الجلديّ الجميل المحترق، الذي كان يشده حول خصره كل يوم قبل أن يغادر. تلمسته بأناملها، وكأنها تبحث عن نبضه فيه، وكأنها تستجدي رائحة الأمان التي تلاشت بين الجدران المنهارة.

فجأة، شعرت بعيون غريبة تراقبها. التفتت، فرأت كاميرا مصوبة نحوها، وعينين تتابعانها بفضول. كان مراسل إحدى القنوات يقف هناك، يراقب هذا المشهد، يحاول فهمه. اقترب منها، وانحنى قليلًا ليكون في مستوى نظراتها، ثم سألها بصوت خافت لكنه محمّل بالدهشة:

"ما اسمكِ؟ وماذا تفعلين هنا بين الركام؟"

ارتبكت لوهلة، ثم عدّلت من وقفتها، كأنها تستعد لإعلان شيء جلل، وقالت بصوت ثابت رغم كل ما يسكنه من وجع:

"اسمي هبة... كان هنا بيتنا... وأنا أبحث عن هدايا لأمي وأختي، لأن اليوم عيد، وأتمنى أن يفرحوا بها."

تبادل المراسل والمصور نظرات متفاجئة، ثم عاد ليسألها، وكأنه لم يستوعب بعد:

"هل يمكن أن ترينا هداياك؟"

فتحت يديها الصغيرتين، وقدّمت لهما كنزها الغالي. تأمل الرجل ما بداخل راحتيها، لكن معاني الأشياء لم تصله بعد. نظر إليها بحيرة، ثم سأل مجددًا:

"هدايا؟"

تابعت بعينيها الكاميرا التي اقتربت لتلتقط تفاصيل كنزها الثمين، ثم قالت بثبات يشبه الحكمة التي لا تليق بعمرها:

"أريدها أن تكون مفاجأة لأمي وأختي... هذا الحجر ملطّخ بدم أبي وأخي اللذين دُفنا هنا، بين أحجار بيتنا، وهذا دبوس لفافة أخي الصغير، الذي كان أبي يحمله دومًا، ملفوفًا بإحكام حول صدره، أما هذا..."

رفعت آخر قطعة بين يديها، وكأنها تضع بينهما وصية رجل رحل ولم يترك خلفه سوى الحب والألم، وقالت بصوت مبحوح:

"هذا الإبزيم لبقايا حزام أبي الجميل... ينقصني فقط ورق نظيف لأغلفها."

صمت المكان. لم يعد هناك سوى صوت الريح التي تداعب الغبار العالق في الهواء. المراسل لم يجد ما يقوله، والمصور خفض كاميرته قليلًا، كأن الصورة لم تعد تحتاج إلى تعليق. أما هبة، فوقفت بثباتها الصغير، تحدق في كنوزها، وكأنها تدرك أكثر من الجميع معنى هذه الأشياء.

ففي عالمٍ تحطّم أمامها، لم تكن تبحث عن أنقاض بيت... بل عن بقايا حياة.

تدور عدسة الكامرة، تبحث عن صورة تصوغ الحقيقة، فتستقر على وجه المراسل المذعور، الذي يحاول جاهدًا أن يستعيد توازنه. يمسح بقايا دموعه بسرعة، فلا مجال لانكسار المشاعر أمام الكاميرا، فالمهنية تفرض عليه أن يكون محايدًا، ولو أن قلبه يضج بالأسى.

يتنفس بعمق، محاولًا ضبط صوته المرتعش، ثم يمضي في حديثه:

"هؤلاء هم أطفال غزة... يولدون رجالًا من رحم المعاناة، يشتدّ عودهم بالصبر، ويستمدون صمودهم من الألم، ويتحملون مسؤولية الحياة التي تنهب أعمارهم يومًا بعد يوم. أنظر إلى هذه الطفلة، فتتراءى لي بائعة الكبريت الصغيرة، تلك التي أشعلت عيدانها في عتمة البرد واليأس، تمامًا كما يشعل أطفال غزة عيدان الأمل بين الركام، علّ الحياة تضيء ولو للحظات وسط الظلام الذي لا ينقشع."

ينتقل نظره إلى يديها الصغيرتين اللتين تمسكان بحجر، وكأنهما تقبضان على آخر ما تبقى لها من وطن. يبتلع غصّته قبل أن يقول بصوت خافت لكنه جازم:

"حجارتها تذكرني بحجارة جدار برلين، ذاك الجدار الذي أسقطوه منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، فصار أنقاضه تباع كتذكارات للسياح، أما غزة... فتباع كلها، بأهلها، لسماسرة الحروب."

قبل أن يكمل كلماته، يشق أزيز الطائرات سماء المشهد، يشتد الضجيج، فيرتبك التصوير، وفي لحظة خاطفة، يمسك بيد هبة الصغيرة، ويهرول بها بعيدًا... بينما خلفهم، تستمر الحكاية ذاتها، تتكرر يومًا بعد يوم، كأنها لعنة لا تنتهي.

**

سعاد الراعي

لم يتسن لأبي أن يمتلك سيارة، فاستبدلها بدراجة هوائية.. ليس لأن ثمنها لم يتوفر له، بل لأنها رغبة، بل سطوة أمي، وأنا أعذرها الآن، لا عندما كنت في ذلك العمر، فأبي كان يضع نظارة طبية سميكة الزجاج وراءها تتخايل عيناه بطيبتهما وناعسيتهما.. أمي التي عشقت أبي كما حين تعشق النساء عادة رفضت أن يسوق سيارة، ولعلها رأت أن الدراجة الهوائية أخف وطأ، هو رأي العاشقة المستبدة..

ولم يكن رأس أبي محميا بخوذة يستعملها العالم المتحضر الذي أراه حولي، فحكومتنا طغت مطامعها على سلامة أفرادها، وبالطبع لن يستحثها سحق رأس أحدهم أمام شاحنة أو سيارة بأربع عجلات، أو صاروخ روسي!

أبي في طقوسه اليومية وبعد عودته من عمله كمعلم، خاصة عندما يصادف دوامه بعد الظهر، يستقل تلك الهوائية، وبها يعدو إلى بيت أختيه اللتين كانت حالهما أبسط ما يمكن أن يوصف، فيمر بالكبيرة، ويقرع نافذة بيتها التي تشهد للطريق مباشرة بحضورها الوارف، ينقرها بإصبعيه ليطل وجه عمتي الناعم منها، تبتسم، وتهش لاستقباله سريعا، وعندما يطمئن إلى حالها يذهب إلى الصغرى، عمتي التي قدر لها أن تظل في وضع مادي أبسط من أختها التي أسعدها الدهر بعد سنوات، لم يتغير أبي معهما، وعندها يجلس بين أطفالها في مزاح وتسامر يشاركه إياه زوجها الطيب، وأبناؤها الذين ما تزال وجوههم تطل من نافذة روحي، وبين زوجي عمتيّ اللتين حظتا بحب زوجيهما، وحظ أبي باحترامهم وتقديرهم جميعا.

ليس شرطا هنا أن ينطبق المثل" خذ البنات من صدور العمات"..

فاتني أن أذكر أني كنت أرافق أبي فوق دراجته، وأتنشق معه هواء الوصال وصلة الرحم، وحرصا على جمع أفراد عائلتي بحب ما أزال به حتى اليوم أثرى.

أما في العيد، فيتبدل الأمر، إذ نستقل معه جميعنا سيارة أجرة تتصدرها أمي برضى وقناعة ألا سوءا سيصيبنا ما دام أبي ليس الذي يقودها..

لو خيرت، فلن أستبدل بدراجة أبي الهوائية أعظم سيارة، فلن يكون لها ظهرها الذي أتمسك به واثقة وأغمض عيني بعيدا عن هموم الدنيا وتقلباتها..

***

أمان السيد

أول أيام الفطر المبارك 2025-03-31

وَلَمحْتُ من بينِ الجبالِ إماما

لَيَلِدْنَ أرحامُ الجِبالِ كِراما

*

سَقَطتْ على اليمنِ السعيدِ وأهْلِهِ

حِمَماً فَكُنَّ قيامةً وَ قياما

*

فَتَسابقَ الأنصارُ خَلْفَ إمامهم

مُتَزَنّرينَ مع الجهادِ صياما

*

تَرَكوا مَلَذّاتِ الحياةِ وآزَروا

بِدِروبِ غَزّةَ عُزّلاً وَيَتامى

*

هَجَروا أدلّاءَ الغُزاةِ وهاجروا

للأكرمينَ مَودّةً وَغَراما

*

عَرفوا الحياةَ رسالةً وشهادةً

وَكَذا الطريقةَ كوثراً وَمُداما

*

مُتَأزِّراً بِإزارِ زاهِدِ عصرِنا

يرضى كَفافَ مَعيشَةٍ وَلَماما

*

وأرى أعاريبَ الفلاةِ وراءهم

مُتَسوّرينَ مع الغُزاةِ خِياما

*

عرباً تثاقلَ ركْبُها عن نُصرةٍ

فَسَبى الدخيلُ حرائراً وأيامى

*

عَتَبي على زمن الخنا فَمُلوكُهُ

زرعوا الوَنا بشعوبهم فتنامى

*

وَعَجِبتُ كم زُمَرُ الخيانةِ والخَنا

عَبَرتْ بِذاكِرةِ الزَمانِ سُخاما

*

أسفاً سُليْمى لا عُروبَةَ إنّما

عربٌ وَصاروا عالةً ورُكاما

*

عَرَبٌ أطاعوا رومَهم فَمَليكُهم

عبداً يصيرُ أمامَهمْ وَغُلاما

*

وأرى جياعَ الشعبِ راقدةً على

ألَمِ الطِوى كي يُسْكِتوهُ نِياما

*

أيَسُرُّ سُكّانُ الخليجِ إذا رَأوْا

مُدُنَ الجوارِ خرائباً وَحُطاما

*

فَخُذوا الى صنعاءَ ماءَ قريحتي

مَطَراً يعالجُ نارَها وَغَماما

*

وَذَروا مَآقي الروحِ تنثُرُ دمعَها

بِسَماءِ أحبابِ الرسولِ خَزامى

*

فَهَداهِدي حَمَلتْ لنا نَبَأَ التي

قَدَحَتْ أَواراً في دمي وَأُواما

*

سَبَأٌ بِها بَلْقيسُ حاصَرَها العِدى

وَقبائلٌ من قومِها تَتَعامى

*

ياساكناً  يَمَنَ  الجنوبِ ، كتابُنا

وَصَفَ  التثاقلَ في النفيرِ  حَراما

*

يانارُ أعداءِ الطُفولَةِ والصِبا

كوني على يَمَنِ الأُباةِ سَلاما

*

أَوَ نَصْلِبَنْ زيداً ونخذله كما

كُنّا مع الجَدِّ الأصيلِ لِئاما

*

أنَخونُ زيدَ الخيلِ ثانيةً بها

وَنَخطُّ شاهدةَ السعيدِ خِتاما؟

*

زيدٌ يصارعُ كلَّ شُذّاذِ الورى

هو لا يُقاتلُ في العراقِ هِشاما

*

فَتَرَفّعوا عن تُرّهاتِ تُراثِنا

فَزَعيمُنا رغمَ الأسى يَتَسامى

*

بعواطفي صنعاءُ جئتُكِ ناصراً

وأصوغُ أوجاعَ الفُؤادِ (كَلاما)

*

سأصبُّ أدمُعَ مقلتي بقصائدي

فعسى أداوي بالقصيدِ (كِلاما)

***

د. مصطفى علي

 

لم يبقَ في الليلِ إلّا ثلثُهُ الآخِرْ

وأنتَ مستيقظٌ يا أيُّها الشاعِرْ

هل أنتَ منتظرٌ شمساً تُواعِدُها

أم أنتَ مكتئبٌ من حُلمِكَ الماطِرْ

كأنَّما النّجْمُ أرواحُ الأُلى رحلوا

لكنْ تلوحُ لنا من عالمٍ ساحِرْ

إيماضُ أضوائِها طَرْفُ العيونِ وقد

يُرامُ قصدٌ من الإيماءِ يا ساهرْ

***

يقولونَ: ماتَ الشِّعرُ وانقطعَ الوحيُ

فما للهوى أمرٌ عليهِ ولا نَهْيُ

يقولونَ: قد تابَتْ شياطينُ شِعرِهِ

وخيلُ قوافيهِ تدارَكَها الجَّرْيُ

ولكنّني إن قلتُ يوماً قصيدةً

لقامَتْ لها الدنيا وضجَّ بها الرأيُ

قرأتُ على النجماتِ شِعري فأصبحَتْ

بغيرِ سمائي ليسَ يُعجبُها السَّعْيُ

***

ليسوا بريئينَ، كلٌّ فيكَ مُتَّهَمُ

يداكَ عيناكَ والأوراقُ والقلمُ

وذلكَ القلبَ كم أدماكَ بُغيَةَ أنْ

ترضى القصيدةُ حتّى كِدْتَ تنهدِمُ

الليلُ عندَ جميعِ الناسِ مأمنةٌ

والليلُ عندَكَ وحيٌ أدمعٌ ودَمُ

مرَّ الأناسُ على الأزهارِ وانصرفوا

وأنتَ تصغي إليها فالتُّوَيْجُ فَمُ

***

عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

تأتي الرياح محمّلةً برائحة الأعشاب الطرية،

والشمس تعزف على شُرفات الصباح لحنًا شاحبًا،

لكنني أعرفُ هذا الفصل جيدًا،

هذا الذي يجيءُ مثل عاشقٍ متأخر،

يطرقُ البابَ بأصابعٍ من زهرٍ،

ثم يسرقُ المفتاح ويهرب.

*

الربيعُ كذبةٌ أُخرى،

كذبةٌ نُصدقها كلَّ عام،

كأننا لم نرَ أوراقَ الوعودِ وهي تتساقطُ قبل الأوان،

كأننا لم نعرف مذاقَ الخيباتِ التي يتركها في أفواهنا،

حين يخضرُّ القلبُ قليلًا، ثم يأتي الصيفُ ليحرقه.

*

أرى الأرضَ تتنفسُ من رئاتٍ مستعارة،

تنموُ فيها الأزهارُ مثل حكاياتٍ ناقصة،

يُطلقُ العشبُ ساقَهُ نحو الأعلى،

كمن يرفعُ رايةً بيضاء،

لكنه يعرفُ أن السكاكينَ لا تفرّقُ بين الاستسلامِ والمقاومة.

*

في وطن الحربِ،

حيث النوافذُ تصرخُ بلا صوت،

والأبوابُ تعوي مثل ذئابٍ جائعة،

يأتي الربيعُ مرتديًا قناعَ البهجة،

يزرعُ في الأزقةِ براعمَ مُلونة،

ثم يضحكُ،

ويعودُ أدراجه،

قبل أن يبدأ القتلُ من جديد.

*

الربيعُ خائنٌ قديم،

يعدُ الأرضَ بأنها ستُنجبُ ألفَ سنبلة،

ثم يتركها وحيدةً في مهبِّ الجفاف،

يملأُ الطرقاتِ بأحلامٍ خضراء،

ثم يسلّمها للعاصفة.

*

أعرفُ جيدًا هذا الفصل،

هذا الذي يتقنُ دورَ العاشقِ ثم يختفي،

هذا الذي يبيعُ الوطنَ بسعرِ حفنةِ زهور،

هذا الذي يُلقّنُ الأرضَ دروسَ الحبِّ،

ثم يسحبُ منها ضوءَ الحياة.

*

لكنني لا أُصدّقه بعد الآن،

فالخيانةُ التي تتكررُ، تصيرُ عادة،

والأملُ الذي يُقتلُ كلَّ مرة،

لا يعودُ أملًا،

بل جرحًا مفتوحًا،

ينبتُ فيه الربيعُ من جديد،

ليسقي الأرضَ بالخديعة.

***

مجيدة محمدي

 

الأطفالُ القتلى

وأَعْني: ...

الملائكةَ المغدورينَ

العصافيرَ الذبيحةَ

والفراشاتِ المُحترقة

في لهيبِ حروبِ الآخرين ~

انَّهم الآنَ ليسوا بحاجةٍ إلى عويلٍ

ودموعٍ وصيحاتِ غضبٍ

ولا الى توابيتَ صدئة

محمولةٍ على اكتافِ الآباءِ المُنكسرين

أَو في أَحضانِ الأُمّهاتِ المسبيات

ولا تعنيهم المقابرَ الموحشة

والقبورَ المهجورة

حيثُ انَّهم كُلَّما يُحاصرُهم

الوحوشُ والقَتَلَةْ

الطغاةُ والجنرالاتُ السّفِلةْ

وتجّارُ الدمِ والحروبِ العبثية

فأنَّهم يهجرونَ الأرضَ

ويهربونَ - مذعورينَ

الى أَعالي النورِ والخلاص

حيثُ فراديسُ اللهِ

الذي ينتظرُهم دائماً

حتى يغمرَهم بالدفءِ

والمحبَّةِ والمسرات

ويمنحَهم أجملَ الألعابِ

والحلوى والثمارَ اللذيذةَ

ثمَّ يُرسلُ لهم أُمهاتٍ سماوياتٍ

ومعلماتٍ عارفاتٍ ومعلمينَ حكماءَ

ومربيّات طيّبات ومرحاتٍ وحنوناتٍ

مثلَ امهاتِهم الأرضياتِ

اللواتي هُنَّ على يقينٍ كاملٍ

أَنَّهم بين يديْ ربٍ كريمٍ

وطيِّبٍ وحنونٍ عليهم

وعلى كلِّ الناسِ النبلاءِ

وليسَ على الذينَ قاموا

بسرقةِ طفولتِهم الناصعة

وكركراتِهم الحلوة

ومن ثُمَّ قتلوهم بلا معنى

وبلا أَيِّ ذنبٍ

كانوا قد اقترفوهُ

في هذهِ الحياةِ المحتشدةِ

بالأخطاءِ والخطايا

والفتنِ والكراهيةِ

التي يندى لها قلبُ اللهِ

على ما أَصبحَ عليهِ

مصيرُ الوجودِ والخليقةِ

والعالمِ الآيلِ للخرابِ

والغيابِ والفناءِ الأَخيرْ

***

سعد جاسم

كندا-2025-3-24

1 ــ الحانةُ والكفُّ

يجتازُ وينقضُ ــ والنومُ عزيزٌ ــ عهدا

لاحقني إذْ طاحتْ من خوفٍ أسناني

فنهضتُ أُجرجرُ ليلي ذيلاً حتّى

بانَ الفجرُ وفجّرَ آياتٍ في النورِ

طفحَ الكيلُ وزادتني الحُمّى خمرا

فتجنّبْ خوضَ الضاربِ في رأسٍ شقّا

يسألُ ما قالَ القارئُ كفّاً

نادى فتصدّى محروقاً يحتثُ الرملا

يبصرُ خطّاً يقطعُ خطّا

وبروجاً قامتْ خُضْرا

هذا تأويلُ عروقِ الأحداق السودِ

يحكمُها طاغٍ جبّارُ

**

2 ــ زورَقُها في الماءِ

مَنْ يفتحُ آفاقَ الكوكبِ في كفٍّ ممدودِ

للدُنيا ومراراتٍ خالدةٍ صمّاءِ

فيها أمرٌ مُرٌّ أشجاني

لا أغلقُ في الشرفةِ باباً للحانِ

هل تأتي ؟ قد تأتي في الرؤيا لأرُشَّ العمرَ عطورا

وأُوزِّعَ شمعَ الزينةِ نِدّاً في عودِ

قارَبُها في دجلةَ من خلفِ الجسرِ صَدودُ

الريحُ تشدُّ البردَ جنونا

والماءُ يضيقُ بآفاقِ الودِ الخسرانِ

يطفو فينا يطغى مدّا

نطفو جَزْرا

ماسٌ فيها ليداريها ويبدِّلُ حالاتِ اللونِ بعينيها

يغرقُ فيها مَن يسعى لعبورِ أساطينِ التسخينِ بجفنيها

دوّارُ المِرجلِ في موقد نارِ الثغرِ السرّي

شَررٌ يتطايرُ من بؤبؤِ سٍرٍّ في عين النجمِ

عينٌ لا تُشبهُ أُخرى

لا في اللحظِ ولا في طورِ اللونِ المُغري

قرّبتُ الضوءَ فصدَّ ومن ثُمَّ استرخى مشلولا

غيبٌ يتنبّأُ عمّا في جوفِ الآتي

أني لا أندمُ إنْ فَقَأتْ عينَ الدُنيا أظفاري.

***

الدكتور عدنان الظاهر

كانون الثاني 2025

أيّ حرب خاسرة يخوضها الانسان؟
أي شتات خلق منه هذا الكائن المختنق المتخبّط في رماد ثوبه المقدس وكم ستخدعنا أنفسنا بعد؟
سخرية مقيتة أن يسكن المرء مع عدوّه في ذات الجسد
أن يحمل نقيضه في داخله كجنين يأبى أن يُجهض..
نمت وأنا أجترّ أفكاري بمرارة..
في تلك الليلة راودني حلم أنّني أعمى أو ربّما كنت محبوسا في باطن الأرض. تجمدت أطرافي وتسلل برد جارح الى داخلي يضغط على أحشائي ويمزقها ثم صعد كالسهم نحو رأسي حيث يكمن ذاك المرض الخبيث الذي عانيت منه منذ طفولتي،
عقلي.
كنت مذعورا من الظلمة الحالكة التي تداعب وجهي وتغرقه في أحضانها كعاشقة متملّكة. خطر لي أن أقوم بحركات عشوائية كي أعرف ما اذا بقي شيء من الحياة في هذا الجسد لكنني تفاجأت أنني أتحرك حركة عشوائية غير تلك التي اعتزمت القيام بها..
حاولت الاستناد الى المنطق كعادتي دائما غير أنني شعرت أن كل فكرة اجمّعها بعناء تهوي مدوّية كأنها قارورة زجاجيّة.. أمسكت برأسي كي أحد من الضجيج الذي سببه هذا السقوط..كم أتمنى أن يصالحني يوما هذا العقل كم عانيت كي نتّحد وكم أهلكني..
هدأ روعي بعد صمت ساد طويلا بيني وبين نفسي. كنت أثبت نظري في الفراغ محاولا تجزيئه علّني أخفًف من شموليّته المخيفة. "على الأقل لا نور هنا" قلت في نفسي قبل أن أنتبه الى غرابة ما صرّحت به.
اه، نعم لا نور ينبعث فجأة من قلب هذا السّواد ليتلاعب بأملي ويسخر منه. كنت غارقا في الظّلام حتى اعتقدت أنني متماهٍ معه تماما..جميل هذا التناغم بل رائع أن أحظى ببعض السّكينة دون أن تتداخل الأشياء وتتعقّد من تلقاء نفسها..فقط أنا وظلام دامس، كلانا فارغ وكلانا مستعدّ لعناق سرمديّ تنتهي فيه الأشكال ومسمّياتها..
شعرت أن هذه الظّلمة قد حرّرت بصيرتي وجعلتني اشفق على رجل الدين وأنا أراه يغرق في كرسيّه الذّهبي تدريجيّا وأغفر لذلك الدّاعية السّياسي وأنا أشاهد لسانه يطلق فحيحا خافتا قبل أن يلتفّ بعنف حول عنقه كما لبثت بعضا من الزّمن أراقب أرضا كريمة جادت بكلّ ما تملك من خيرات بها قوم يحملون أوعيتهم الفارغة وهم يربطون أحزمة جلديّة على بطونهم الخاوية وكلّما امتدّت يد أحدهم الى الطّعام هاج القوم وشرعوا بتكسير الأوعية على رؤوس بعضهم حتى لتظنّهم قردة أو صنفا غريبا لا يمكن ان يكون بشريّا..
عادت المشاهد تتغيّر بسرعة حتّى توقفت عند طفل لا يتعدّى السّادسة. كان يقبع وحيدا في زاوية لا تكاد تتّسع له. بدا مضطربا وخائفا وكانت كلماته تختنق رعبا في حلقه.. وجدتني فجأة أرتعش غضبا امام بكائه الصّامت ثم سلّمت نفسي لنحيب هستيري طويل، نحيب شعرت معه أن قلبي قد ينشقّ في اي لحظة من شدّة الانفعال. انصهرت بجميع جوارحي في ذلك البكاء الأليم حتى شعرت أنّني أنسلخ بشدّة وأرتطم ارتطاما عنيفا بسطح الأرض وصوت عميق يصيح بي" حرّر هذا الطفل من معاناته وستتحرّر بدورك، لن تغفر وانت لازلت تغتسل بدموعه"
استيقظت فزعا من هذا الحلم الغريب وقد تبين لي أنني كنت ابكي بكاء حارقا لفترة طويلة. بعد قليل كنت أستعيد مشاهدا ممّا رأيته في الحلم وأنا اجلس في مكتبي الذي بدا لي فجأة أشبه بقبر أدفن فيه سنوات عمري، غير أنّه قبر مضيء ومرفّه الى درجة ما.
***
بقلم: مريم عبد الجواد

أليوم سأستقيل من العمل لدى الحُزن

لم أعدْ أقنعُ بمنصبٍ

لا يُناسب ما يدسّهُ تحت جلدي من الأنقاض

عملتُ لديه مديراً لمبيعات الألم

ومأموراً لضرائب النوم الهانيء

أجبيها من أسِرّة المشفى التي لا تُصدر صريراً

وبالرغم مما لعقته جراؤه من دمي

تركني محبوساً داخل فمي

حتى أوشكتْ أن تذوبَ بمقلاته

آخرُ ما أخفيته تحت لساني من الإبتسامات

**

لقد طفح الكيل

لن أعمل لدى من يغسل جوربه بدموع عامليه

يتركهم يستغيثون داخل فقاعاته

ليُفجّرها

مستمتعاً برؤيتهم يتلاشون في بخار استغاثاتهم

سأكتبُ استقالتي بحروف قابلةٍ للنمو

لعلها تُنبتُ جدراناً

تصدّ الراكضين وراء ظلالهم

سأعلقها على قفا من ينامون تحتَ الماء

ليحلموا بأنّ لهم زعانف وخياشيم

لقد تعبتُ كثيراً

وربما يقصم ظهري

ثقلُ قرصٍ واحد من الأسبرين

**

سأقدّم استقالتي للحزن

ثمّ أتقدم بطلب عمل لدى السعادة

لكنّ ما يُخيفني

أن أهدرَ سنواتِ عمرٍ أخرى أطير بجناحيها

ثمّ أكتشف أنهما جناحا بعوضة

عندئذ سأقضي ما تبقى لي من العمر

سجيناً في سجن بلا أبواب

فعدا عن بابَيّ الحزن والسعادة

ليس للحياة من باب ثالث

***

شعر / ليث الصندوق

لا الدارُ داري بعدَ عينيها

ولا

سَكَنَ الفؤادُ إلى سواكِ

وَقيَّلا...

يا أمَّ زهرا:

لا شذا في زهرةٍ

إلا جرى معناكِ فيها مُوْغِلا...

يا أمَّ زهرا:

لا حلا في وردةٍ

إلا اقتنى من ثغرِ مبسمكِ الحَلا...

يا حسرةً!

أ بشهرِ آذار الوداعُ؟

بشهرِ (آذارٍ):

رأيتُك أولا!

آذارُ:

هل تدري:

شهورًا أرقبُ

الميعادَ والتذكارَ فيكَ تَسَلسُلا ...

مِنْ قَبْلَما إحدى (ثلاثينٍ) سنينًا

يا أمَّ دربِيَ المُتْعِبِ المُتَهَدِّلا ...

يا أمَّ بيتي

يا هلالَ العيد

يا قمرَ النساءِ وخاتونتي:

عَظُم البلا !

*

الفوطةُ البيضاءُ ما زالتْ تراثُك ماثلًا...

يُزري بقانون (الِبلا)

يا للغزاليات* حيثُ تبغددتْ

أ ولستِ كنتِ بها غزالتَها؟

بلى!

يا بنْتَ عمِّي:

ها وقد هُزِمَتْ جيادي كلُّها

مازلتِ تعتقدينَ بيْ:

فرسَ الفلا!

*

يا سائرين إلى الغريِّ أمانةً

قولوا لحيدرَ مِنْ على أُفُقِ الملا:

أمُّونَةٌ مأمونةٌ بجوارهِ

حامي الحمى وأبي زينبَ العُلا...

ما خاب من أمسى بحصنكَ سيِّدي

لا والذي رفع السماءَ بـ (كن) بِلا

عَمَدٍ...

سبحانك العالي وما من شافعٍ

من دون أمركَ

شافعًا مهما علا ...

***

لطيف القصاب

..................

* إشارة لحيّ الغزالية غرب بغداد

السماء تمطر..
نعم تمطر..
ليس المطر الذي نعرفه، أحيانا لعنات، أحيانا أشكال خرافية، وأحيانا صحن ورق دوالي، وفي لبّ الأوقات رصاصا!
ذات يوم في إحدى جلسات ذلك البائد، كان هناك رجل عنتري، أتعرف كيف يكون الرجل عنتريا؟
سترد سريعا، هو قبضاي مثل عنترة بن شداد، وسأهز رأسي نافيا، وستكمل إذا هو عاشق مثله أيضا، وعندما تراني أسخر من إجابتك بأن أمطمط شفتي.. انتبه، أنا لم أخرج لساني، اكتفيت فقط بأن زممت شفتي، وحركتهما في كل اتجاه، كما تفعل أم أربع وأربعين..
لن أقول لك ماذا قصدت بالأخيرة، سأترك لك محرك البحث في شاهد رمضان، أثق أنك ستكتشفها!
لكن..
إن لم يكن عنترة الشاعر الأسود، فمن هو؟
الأسود.. ولا تنابزوا بالألقاب، نحن في رمضان!
ها ها لقد أمسكنا بطرف الخيط
هو أبيض، ووسيم وينتمي إلى فئة تطلق الرصاص متى رغبت، وحتى لو كان السبب لا سبب..
وماذا بعد؟
حلا لذاك العنتري..
على فكرة.. لديه مكتب فخم تزينه لوحة محفورة بحرفية وبراعة تحمل ألقابا انتقاها بنفسه، وخطها له أهم الخطاطين في المدينة، وعندما حاول أن يعترض..
من؟
الخطاط.. المسكين حلا له أن يعترض على واحد من الألقاب فقط، لشكله ليس غير..
لعلك تريد أن تخبرني؟!
نعم.. هي رصاصة في جبهته، لقد جلبها لنفسه..
كيف يفكر أمثاله بالاعتراض، وهل حصل ذلك قبل أن ينهي اللوحة أم بعدها؟
ما أسخف استنتاجك!
بعدها بالطبع..
ماذا إذا حين نصل إلى صحن الورق دوالي؟
ستكون بمنتهى الغباء كما أراك!
في ذلك المكتب كل وسائل الراحة، ومنها ثلاجة فارهة طولا وعرضا، وفي ذلك اليوم كان يزينها صحن ورق دوالي جلبه العنتري من بيته بعد أن قامت طباخته الماهرة بطبخه، وأسالت عليه الدهن، وأشبعته بالحامض، ووكأته فخذ خروف ورؤوسا من الثوم.. هكذا يطبخونها في مدينتي..
ثم ماذا؟
بعد أن أكل بضعة أمشاط منه......
لن أبتعد في الوصف إن قلت إن أصابع ورق الدوالي لا تختلف عن أمشاط الرصاص شكلا، وتأثيرا، خلّى الباقي ليمزمز به في السهرة برفقة كأس عرق صك/ أعني صافيا لم يمزج بالماء/ اسأل عنه سكارى مدينتي أيضا/ وخرج لبعض شأنه محذرا حراسه من الاقتراب من الصحن، أو حتى محاولة شم رائحته..
لكن عندما جاعوا نبحت بطونهم تطلب الطعام، ففقئ الاحتراز بعد أن تغلغلت رائحة ورق العنب/ هنا لمن ما يزال يجهل مسمى الطبخة/.... وهممم.... همممم... التهموا الأمشاط ماسحين المحظور على بكرة أبيه!
يا للهول..
وماذا بعدما رجع؟
لم يعترف أحد منهم بذنبه، فخطرت له فكرة جهنمية لن تخطر إلا لأمثاله.. قرر أن يقوم بتحليل لبرازهم..
ماذااا؟
ألم تُجر تحليلا لبرازك من قبل؟!
بلى، ولكن أيعقل..
وما الذي يمنع؟ّ
ألم أقل لك إنك ساذج جدا!
سرعان ما صار موظف المخبر الذي يعمل عند الطبيبة في الطابق الذي يعلوه بين يديه، وسحب عينات البراز بنفسه.. لا تستغرب، فالبودي غاردز الذين يخصونه تخضخضت سراويلهم من الخوف، وعملوهااا.. تحتهم/ هي بعض المصطلحات من مدينتي أيضا/ فألتمس عفوك إن سقطت من لساني بحكم التداول، أو إن عبثت بمنخارك..
السماء التي بدأت تتوشح بغروب يسحب قفطانه فوق البحر القريب في ذلك الوقت وقفت تراقب مشهدا اعتادته..
تعالت أصوات ركلات، ورفس تدحرجت على أثرها العضلات المنفوخة فوق السلم ترافقها قذائف، وشتائم الدكتور ذو الألقاب المتسلسلة.
***
أمان السيد - أستراليا
18-3-2025

الحوت والقرش.. اسمان ترددا في حياتنا نحن ابناء الحارة الشرقية، وكثيرا ما كان موضوعا اثيرا لدينا، فطالما سهرنا الليالي نتناقل اخبارهما، وكان كل منا يصُف في جانب احدهما، بل انني اتذكر اننا كثيرا ما تعالقنا بالأيدي وكسّر بعضُنا بعضا، لولا تدخل مَن وقف جانبا مفضلا الامان والسلام من ابناء الحارة.. في فض الاشتباكات بيننا. مما اتذكره اننا انقسمنا ذات ليلة مُقمرة الى فريقين، كل منهما يدّعي ان احد الجدعين اقوى من الآخر، وانتهت الليلة بان حطّم بعضُنا بعضًا.. وكاد يستنجد بمن وقف في صفّه وتغنى بأعماله العظام وشجاعته الخارقة.
بعدها انفضّ كلٌ منا الى طريق، وعاد مفكرا فيما يمكنه ان يفعله من اجل معبوده البطل، وكان ان حمل كل منا، نحن رئيسي الفريقين، انا وصديق لي، فكرةً ما فتئ ان طرحها في القعدة الحاراتية في المساء التالي، وكان مفادها انه يفترض فينا ان نتوجه، هو الى قرشه وانا الى حوتي، سائلين كلا منهما عمن هو الاقوى والاشجع بينهما. ما ان طرحت هذا السؤال على محبوبي الحوت، حتى ربّت على كتفي، انا الفتى الصغير قائلا انه لم يفكر في هذا الموضوع من قبل، وانه سيبلغني بما يمكن ان يتوصل اليه خلال يوم او بعض يوم. ما ان نطق بهذه الكلمات حتى ارتاحت اساريري، وتوجّهت الى رئيس الفريق الآخر المنافس. وقفت امامه وقفة من يتحدّى خصما قويا شرسا، واخبرته انني انتظر اجابة الحوت، وانه وعدني بان يقدم الي اجابته خلال فترة قصيرة. ضحك الفتى الواقف قبالتي.. بعدها انفجر في ضحك متواصل، ما اضطرني لأن اطلب منه ان يُطوّل روحَه وان يخبرني بما اضحكه كل ذاك الضحك، فما كان منه الا ان ركض في عدة اتجاهات، معبرا عن حيرته وقال لي، انه سمع من قرشه نفس ما سمعه مني، وانه ينتظر الاجابة بعد يوم او بعض يوم.
توجّهنا، رئيس فريق القرش وانا رئيس فريق الحوت، في الموعد المحدد لنا مع شجاعينا العظيمين، وكان ان جرى بيننا الحديث التالي:
انا: هل توصّلت الى اجابة.. مَن هو الاقوى بينكما انت والقرش؟
هو: وهل هذا سؤال؟ انا بالطبع الاقوى.
فكّرتُ فيما يمكنني ان اقوله لفريق الحوت، فريقي، والقرش، فريق ابن حارتي وخصمي، وتوصّلت بعد امعان في التفكير وسباحة مضنية في بحوره، الى ان اجابته هذه قد توقعني في حيرة اكبر من سابقتها، كونها لم تضف جديدا، فعدت اسأله:
-وكيف يمكنني ان أتأكد من انك انت الاقوى؟
عندها غرس الحوت عينيه في:
-هل تريدني ان اواجه القرش.
انطلق لساني رغما عني:
-وهل هناك حلٌّ آخر.. لمعرفة من الاقوى بينكما؟
خلافا لكل ما توقعته.. ربّت الحوت على كتفي وهو يقول:
-لا تخف.. في قول كلمة الحق.. صحيح انني معتزٌّ بقوتي وشجاعتي،، الا انني اخضع لكلمة الحق مهما كانت قاسية.. لا تخف يا ولد.
واضاف يقول: انت في حماية الحوت.
تشجّعت اكثر فقلت له اختصارا للحديث والوقت:
-هل انت على استعداد لمنازلةٍ.. تُرينا أيًا الاقوى بينكما؟
ضحك الحوت حتى استلقى على ظهره:
-معك حق. حدّد موعدًا للمنازلة..
عندما عدنا، ابن حارتي رفيق القرش وانا- رفيق الحوت، الى جلستنا المسائية في اليوم التالي، اخبرني رئيس فريق القرش، انه اتفق مع قرشه على منازلة بين الجدعين، تُقام مساء يوم الجمعة القريب.. في مركز البلد، قرب الدوار العمومي وعلى مشهد من الناس.
التقينا في الموعد المُحدّد من مساء الجمعة، كان الجو متوترا مشحونا، وكل منا يتمعّن فيمن يؤيده. وقف الحوت منتصب القامة ووقف قبالته القرش مثلما وقف هو، واخذ كل منهما يدفع الآخر بصدره الى الوراء، سائلا اياه: انت متأكد انك اقوى مني؟، اما نحن الوقفين حولهما من ابناء الحارة الشرقية، فقد كانت قلوبنا تدقّ على ايقاع حركة كل من محبوبينا، هم كانوا يرسلون النظرات الموّلهة السكرى في قرشهم ونحن كنا نرسل نظراتنا المتأكدة من قوة حوتنا وقدرته على ان يدحر القرش الواقف قبالته.
دفعة بالصدر من هذا الطرف واخرى من ذاك، والنتيجة معركة شرسة بين عملاقين وليس بين رجلين. الطريف اننا كنّا نرى كلما اشتبكا اكبر واضخم في الجثة والوزن، لقد كبرا حتى اننا لم نعد نراهما، لقد تركزت عيوننا المنبهرة المُتحسّبة لكل حركةٍ ونأمةٍ، في اليد التي توجّه اللكمة الاشد والاعنف، وكنا كلما وجّه الحوتُ لكمةً الى القرش، نحبس انفاسنا بانتظار اللكمة التالية وبعدها الضربة القاضية، وعندما ابتدأنا في وضع انتصار الحوت في جيوبنا، اخذنا نصفّق له مهللين مكبّرين، وهو ما استفز مؤيدي القرش، فراحوا يشجعونه ويصفّقون له، الامر الذي فعل فعله في استنهاض جرأة القرش واستثارة حميته، فتوقف عن ترنحه، وشرع بتوجيه اللكمة تلو الأخرى الى الحوت قبالته.
عندما شعرنا ان تشجيع فريق القرش، ادى دورا مُهمّا في توجيه دفة الفوز، اخذنا نهلل ونكبر داعين الحوت لتوجيه اللكمات الى خصمه القرش، الغريب انه استجاب لنا وراح ينفخ جسده انتفاخة مارد خرج للتو من الف ليلة وليلة، فاستعاد عافيته وراح يكيل الضربات لخصمه بمكيال من قوة وشجاعة.
عندما رأينا ان التشجيع يؤدي دوره الكبير هذا في التحفيز.. والتسديد اللكماتي، ارسلنا مَن يستدّعي المزيد من اولاد الحارة، ممن فضلوا الوقوف جانبًا وعدم الانضمام الى هذا الفريق او ذاك، وعندما فهمنا انهم غير معنيين، وعدناهم بان نتقاسم معهم طعامنا وشرابنا خلال ثلاثة الايام التالية. عندها اخذ هؤلاء، ومعظمهم - اذا لم يكن كلهم من ابناء المهجّرين الجدد، ابتدأت الكفّة تميل الى من يزداد مؤيدوه، فهي حينا تميل نحو الحوت وآخر نحو القرش، وجاءت اخيرًا.. المفاجأة غير المتوقعة..
عندما تساوى عدد المؤيدين المشجعين لكل من طرفيّ الصراع القتّال، كان كل من المتنازلين قد اوشك على السقوط واعلان الهزيمة.
توقف الاثنان، للمفاجأة الصاعقة.. توقفا عن القتال. نظرا كل في اتجاه، وبصقا معا علينا، ولحق كل منهما بفريقه مسددا اليه الضربة تلو الاخرى.. كانت تلك علقة غير متوقعة من جدعي البلد، وكثيرا ما قضينا الليالي متضاحكين.. ومتذاكرين تفاصيل تلك العلقة.
***
قصة: ناجي ظاهر

يا ليتني حجرٌ في أرضِ أندَلُسِ

حيثُ الهواءُ نديٌّ طيّبُ النفَسِ

*

وكفُّ سائحةٍ ترنو لتلمِسَني

فتستحيلُ إلى وردٍ بلا يَبَسِ

*

كم من حكايا بأحجارٍ إذا لُمِسَتْ

لأنبأتْكَ بصدقِ القولِ لا الغَلَسِ

*

نافورةُ القصرِ في الحمراءِ تجعلُ من

ماءِ التغرُّبِ شرقيّاً بلا دَنَسِ

*

مجدٌ مُضاعٌ كمُهرِ الصبحِ يَخطَفُه

من أمِّه الشمسِ ليلٌ أبيضُ العسَسِ

*

كأنّما جنّةُ الفردوسِ قد سألتْ

مِرآتَها في تجلّي الضوءِ والقبَسِ

*

هل ثَمَّ في الكونِ من فاقت محاسنُها

حُسني أنا؟ فأجابتْ: أرضُ أندلسِ

***

عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

أبكم صوت حنيني

وعناق الشهقة الحرّى على دفءِ يقيني

وذهولي عاريًا يخلع من برق ارتباكي

غيم ظلي وبراكين انيني

فامطري ان شئت صحوًا او جنونا

فانا غزوك يسبيني بمدح

وامتداحي لك قد جاز فنوني

فاتركيني

يقظة اسقي بها وشل السنين

يا ربيع الروح يا ارض الحنين

يا هزار الله في حقل ظنوني

إنكِ الخاتمة المثلى لشكي ويقيني

***

طارق الحلفي

كان فينا نورٌ، أو هكذا قيل.

كان لنا وجوهٌ لا تخجلُ من انعكاسها في الماء،

وأيدٍ لا تخافُ أن تمتدَّ إلى يدٍ مرتجفة،

وقلوبٌ تشبهُ العصافيرَ إذا ارتعشت الأرضُ من البرد.

*

متى انطفأنا؟

في أيِّ ليلةٍ نامت ضمائرُنا ولم تستيقظ؟

في أيِّ صباحٍ شربنا القهوةَ بدمٍ باردٍ،

ونظرنا من النوافذِ إلى الظلمِ كما لو كان مشهداً عابراً في فيلمٍ رديء؟

*

متى تغيرنا؟

أحين ابتلعنا صرخاتِ الآخرين حتى لا تفسد مذاقَ طعامنا؟

وخفَّنا من حملِ الحقيقةِ لأنها كانت ثقيلةً كجثةِ حلمٍ قُتل في وضحِ النهار؟

أو حين صرنا نرى الجثثَ كأرقام، والدماءَ كإحصائياتٍ، والوجعَ كخبرٍ عابرٍ في شريطِ الأخبار؟

*

لِمَ تغيرنا؟

هل تعبنا من الحزنِ حتى اخترعنا اللامبالاةَ كدرعٍ نحتمي به؟

هل بعنا أرواحَنا مقابلَ أشياءٍ تلمعُ لكنها فارغة؟

هل خدعنا أنفسَنا بأنَّ هذا العالمَ ليس مسؤوليتَنا،

وبأن العدلَ عبءٌ لا طاقةَ لنا بحمله؟

*

صرنا نصمتُ لأنَّ الصوتَ صار خطراً،

ونشيحُ بوجوهِنا لأنَّ النظرَ إلى الألمِ يُقلقُ نومَنا،

ونغلقُ أبوابَنا لأنَّ الضميرَ إن عادَ سيطرقُ بشراسةٍ كدائنٍ غاضب.

*

لكن هل انتهى الأمر؟

هل سنظلُّ أشباحاً تمشي فوق الخرابِ ولا تصرخ ؟

هل سنبقى غرباءَ عن أنفسِنا، نخافُ أن ننظرَ في عيونِ المرآةِ فتفضحَنا؟

*

ربما، وربما لا.

ربما، في ليلةٍ لا تشبهُ غيرَها،

يعودُ إلينا وجهُنا الأول،

ذلك الذي كان يشبهُ إنساناً.

***

مجيدة محمدي - تونس

لا أحب الوجوهَ المتشابهةَ

التي تعبرُ الشارعَ كلَّ صباحٍ

بخطىً رتيبةٍ

ونظراتٍ زجاجيةٍ

لا ترى سوى الفراغ

*

كلّ يوم..

تمرّ بجواري حكاياتٌ مكررةٌ

بلا دهشةٍ

بلا صوتٍ

تمضي كأنها لم تكن

*

أحاول أن ألتقط منها ظلًّا مختلفًا

بقايا نبضٍ يوقظ المعنى

لكنها تمضي كما جاءت

بلا لون

بلا رائحة

كأن الحياةَ تكرارٌ باهتٌ

لمشهد لا يتغير

*

لا أحب الرسائل الجاهزة

التي تهطل عليك كل يوم،

تتشابه في اللغة والمعنى،

الموسيقى نفسها،

والإيقاع نفسه.

*

كل يوم

تستقبل كلمات بلا عاطفة،

تخرج من فم معلّب،

ولا تصل القلب.

*

حروف باهتة

تمرّ كظل عابر،

لا تترك أثرًا،

ولا توقظ إحساسًا.

*

أبحث عن كلمة

تشبه الفجر حين يتنفس،

عن جملة

تنبض بالحياة،

لكنها تضيع

في زحام الكلام المكرّر.

*

أحتاج إلى رسالةٍ تولد من دهشة،

تنمو في حقل المعنى،

وتصل إليّ

كما تصل النبضةُ إلى القلب،

حيةً، دافئةً، بلا أقنعة.

***

د. جاسم الخالدي

لم يكن شط العشار مجرد مجرى مائي يمر بهدوء في أطراف المحلة، بل كان نداءً خفياً يدغدغ أرواح الأطفال المتعطشة للمغامرة والتحرر من قيود الواقع. كان يقع على بُعد بضع دقائق فقط من بيت العائلة، ان قربه هذا لم يكن سوى إغراء إضافيًا يدفع الصغار إلى تحدي الممنوع.
في أوقات العطلات المدرسية، وتحت لهيب تموز الذي يشتد على مدينة البصرة حتى يغدو الهواء نفسه كأنه نارٌ تلفح الوجوه. كانت مجموعات الأطفال تجتمع عند الشط، حيث يفضلون السباحة في المناطق الضحلة التي عُرفت بينهم باسم "منطقة الڰياش"، تجنبًا للموت الذي كان يبتلع أرواحًا غضة في تلك المياه العميقة كل عام.
عادل وأخوه، في الثامنة والسادسة من العمر، كانا ضمن أولئك المغامرين الصغار، رغم تحذيرات الأهل المتكررة ومنعهم الصارم لهما من السباحة، لم يكن الخوف من الغرق وحده ما يطاردهم، بل أيضًا شبح الأمراض المتفشية في المياه، وعلى رأسها مرض البلهارسيا، الذي تنقله ديدان مستوطنة في قواقع الشط.
لكن الطفولة لا تعترف بالتحذيرات، فكانت براعتهم في الاحتيال تفوق قدرتهم على الالتزام.
ينزعون ثيابهم خوفًا من بللها، يسبحون بملابسهم الداخلية، بعد ان يؤمنون ثيابهم عند صديق يجلس على الرمل حارسًا أمينًا. وعندما تنتهي مغامرتهم، يغسلون أجسادهم، يجففونها ويلبسون ثيابهم، ثم يبدؤون بتجفيف ملابسهم الداخلية بوسيلة عجيبة طالما اعتقدوا بفاعليتها.
كانت تلك اللحظات التي ينتظر فيها الأطفال مرور سيارات الحمل ذات العجلات الكبيرة على الطريق المحاذي للشط، بمثابة طقوس سرية لمغامرتهم الطفولية. كان المشهد يبدو كلعبة مثيرة تتحدى قوانين الزمان والمكان؛ يُلقون ملابسهم الداخلية على الإسفلت الحارق، لتسحقها عجلات السيارات وتعيدها إليهم جافة بسرعة تكاد تكون سحرية.
ولكن المغامرات لا تكون كاملة دون تلك المفاجآت التي تحمل طعم الخيبة المرير. فعندما تعلق الملابس بالعجلات، وتنطلق السيارة دون أدنى اكتراث لصراخهم البائس وركضهم المحموم خلفها، تتجسد المأساة الصغيرة في قلوبهم اليانعة كطعنة مؤلمة. المغامر التعيس الذي يخسر ملابسه الداخلية في تلك اللعبة الخطرة، لا يجد أمامه سوى العودة إلى البيت دون "لباس" تحت "الدشداشة"، محاولًا أن يخفي أثر فشله في عينيه البريئتين.
لكن الفضيحة لا تلبث أن تنكشف. الضحكات الساخرة من أقرانه تلاحقه كأشباح تتراقص حوله، وقصته تتحول إلى مادة للتندر والتسلية في مجالس الصغار. أما الأهل، فغضبهم لا يعرف الهدوء، وعقابهم يُكتب بصرامة لا تقبل المساومة.
ومع ذلك، لم يكن لأي عقاب أن يُخمد في قلوبهم جذوة التمرد على المألوف، ولا رغبتهم الملتهبة في اكتشاف العالم بطريقتهم الخاصة. كانت مغامراتهم تلك صرخة طفولية تتحدى كل شيء، كأنها محاولة مستمرة لإثبات الوجود في عالم لم يعرفوا منه سوى الحرمان والخوف والأحلام المعلقة على ضفة شط العشّار.
في وهج ظهيرة ثقيلة، حين عاد الأب إلى البيت متعبًا من عناء العمل، غابت أصوات أبنائه المعتادة، تلك الضوضاء الطفولية التي كانت تملأ أركان المنزل حياة. سأل الأم بلهفة مكبوتة: "أين هم؟" فأجابته بتردد: "لا أدري، لعلهم يلعبون في الخارج."
زمجر بصوت يحمل قلقًا أكثر مما يحمل غضبًا: "في الخارج؟ ومن يطيق اللعب تحت هذا الحر اللافح؟" ردت الأم محاولة تبرير غيابهم: "ربما ذهبوا إلى الشط..."
"الشط؟!" كرر الأب كمن اكتشف فجأة مصدر هواجسه القاتمة. هرع خارج البيت مستشيطًا بالغضب، يكاد يشتعل كاللهب من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. وما إن لمحه صديقهم الحارس، حتى أطلق نداءه المرتعد: "عادل! أبوكم قادم!".
وصل الأب إلى الحارس وانتزع منه ثياب الولدين بعينين تقدحان شررًا. على الفور، اندفع الصبيّان مذعوران، يركضان بكل ما أوتيا من قوة نحو الشارع، يقطعان الطريق بأقدامهما الحافية وكأنهما يهربان من قدر محتوم. اختارا ملاذًا مألوفًا: بناية المكتبة العامة بسورها الواطئ المكشوف والذي لا يصلح للاختباء، وبناية الإدارة المحلية بسورها الحجري العالي الذي توهما أنه قادر على حمايتهما من بطش أبيهما.
رآهما حارس البناية يتقافزان كطيرين جريحين، والذعر يكسو وجهيهما المحترقين من الشمس، وأجسادهما العارية المشبعة بملوحة النهر. هرعا إليه متوسلين، يتعلقان بسرواله كما يتعلق الغريق بخشبة خلاص. "أنقذنا يا عم ... أبونا سيقتلنا!".
نظر إليهما الحارس بحنان الأب الذي لم يُرزق أبناء بعد، وقال: "لماذا يريد معاقبتكما؟" لكنه أدرك سريعًا حقيقة الأمر حين استنشق رائحة النهر تفوح منهما. "آه، فهمت. لم يسمح لكما بالسباحة خوفًا عليكما، وهذا العقاب الذي تفران منه."
تشبث الولدان به كملاذ أخير، بكاؤهما ينساب كأنهار صغيرة من رجاء ويأس. وفي تلك اللحظة، اقتحم الأب المكان متقدًا غضبًا، يهدر بصوت يكاد يهدم السور نفسه: "ويلكما! إلى أين تهربان مني؟ تعالا فورًا!"
هنا تقدم الحارس بخطوات هادئة، وبصوت ملؤه الرجاء والاحترام، قال للأب: "يا اخي، أرجوك، لا تضربهما. لقد طلبا حمايتي، ووعدتهما بالأمان. أريد منك كلمة شرف، وعدًا من رجل لرجل، ألا تمسسهما بسوء."
تجمد الأب مكانه، وكأن كلمات الحارس لامست شيئًا عميقًا في روحه. أطرق برأسه هنيهة، ثم مد يده مصافحًا الحارس، وقال بصوت خافت: "وعدًا... لن أؤذيهما."
وما إن التقط الولدان همسات الوعد بين الرجلين، حتى انطلقا كطائرين أفلتا من شباك الخوف، يعدوان نحو البيت وأعينهما تلمع ببريق النجاة.
**
سعاد الراعي

 

العاطلونَ عن الأملْ

فقدوا العملْ!

*

والقارئون الكَف

والفنجان - لا -

ليس لهم وزنٌ

لدى كفّ زُحلْ!

*

واللاجئونَ بِدَرْبِهِمْ حاروا

فلا بلدٌ (تَنَفَّسَهُمْ)

ولا حَلّ مَحَلْ!

*

والغارقون بِدِينِهِمْ

من ذَقْنِهِمْ حتى الرصاص

تَصَفَّحُوا وجه الحياةِ

وأعملوا (تَصحيفهُمْ)...!

*

والناجحون وحْدَهُمْ

من يشتري تَعَب الحياةِ

ليملأوا الدنيا حُلَلْ!

*

والمالِحُونَ

المالحون

المالحون

على جِراحكَ يا وطن!!!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

من كتاب: (رِمال القلق )

في نصوص اليوم