نصوص أدبية

نصوص أدبية

منذ زمن بعيد ظل سجين أسئلة متناسلة، لا يكاد يجد جوابا لواحدٍ منها حتى تحاصره أُخَرٌ أَكْثر غُموضاً فيجد نفسه فريسة لعملية تكرار مُمِلَّة، في البَدء كانت الأسئلة وجودية محضة، لكن مع تقدُّمِه في العمر حضر الهاجس الاجتماعي بكل تجلياته وترتّبَ عن ذلك تَخبُّط نفسيٌّ قويٌّ، زاده حجم السؤال المعجون والمموه بتلاوين متضاربة تَجمعُ بين الغُموض والمجهول، وتدمج بين المعقول والسوريالي، وبالتالي تنامت درجة ضيَّاعه في بحر بلا قرار، وصارت سِدرة المنتهى بالنسبة له الخروج من وجع التَّوجسَات وقهر الهلوسات.

عندما سألته زوجته عن سر شُروده وهذيانه المُتكرر، لم يجد ما يردّ بِه عليها واِكتفى بابتسامة شَاحبة وغير مُقنعة، قالت له بإلحِاح:

" تَمتّع بما تبقى لك من عُمْرٍ، ولا تشغل بالك بالهرطقات، فلست بقادر على تغيير المسار والتأثير على ما كانَ وما هو كائن وسيكون"

لم يحفل بكلامها رغم اِيمانه برجاحته، وعقلا نِيته، لأن هُناك شَيئا داخله يمنعه من القُبول بالأمر الواقع، والاِستسلام لسطوةِ الغُموض. ثم أسند ظهره للخلف ونظر إليها بعيون ذَابلة، وعادت به ذاكرته سنوات إلى الخلفِ، شاءتِ الأقدارُ أن يتعرَّف عليها صدفة في طريقهما من الرباط إلى مدينتهما، ومن يومها تعددت لقاءاتهما، ولم يعد أحدهما يطيق البعد عن الأخر، كان يهرول لانتظارها كل مساء قرب مقر عملها، فتحتضنهما شوارع المدينة وأزقتهما، وهما في حالة انتشاء متقدمة، حتى إذا أحسا بالتعب، هرعا إلى مقهى الحديقة الكائن وسط الغابة المَخْزنِيّة، وطلبا مشروبا ساخنا، أو باردا حسب الأجواء، ثم يندمجا في الحديث، تحدثه عن نفسها، عن أحلامها وطموحاتها، ويحدثها هو عن ولعه بها وارتياحه لوجودها معه، وعندما يأتي المساء يفترقا، ليتكرر اللقاء في اليوم الموالي، وهكذا دواليك حتى قررا دخول القفص الذهبي، فتزوجا، وتدرّجا في دروب الحياة صعودا وهبوطا، ورُزقا بالذرية الصالحة، ثم ركبا قطار الحياة المتجه إلى حيث لا يعلمان.

الأن توقف الزمن، وصارت الحياة نسخا كَربُونية، وكل تلك الوجوه التي كان لها أثر في حياته رحلت في هدوء وصمت، ولم يعد له منها إلا تلك الصُّور الذِّهنية الملتبسة، وتلك القَسمات المتناثرة في تعاريج الذَّاكرة المنهكة، منذ شهرين اِلتقى بِسيّدة في إحدى الحفلات العمومية، بالكَاد تذكرها وهي تبادله التحية والترحيب وتنطق اسمه بحميمية، عرف فيما بعد أنها صديقة مقربة لحبيبته السابقة نُعمة  التي هاجرت منذ ما يربو على الثلاثة عقود ونيف إلى كندا، قالت له: " العالم صغير، من كان يظن أننا سنلتقي مرة أخرى بعد كل هذه السنوات"، سألها عن أحوال نعمة، أخبرته أنها لم تتزوج رغم دخولها في علاقات انتهت بالفشل، وهي تعيش حياة عادية.

" النبش في الماضي، يمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأوراق وقراءة الحاضر بنكهة الأمس، إرضاء للآنا الباحثة عما يُرضي بعضاً من تطلعاتها المكبوتة، وتحقيق التَّوازن المَطلوب للاسْتمرار في العيش دون مُركبات نقص أو خَوف من الأخر، والسَّعي لِتَحقيق مُصالحة مع النَّفْس، وترديد قولة نتشيه على لِسان زرادشت :( عَليك أن تُصالح نَفْسك عَشر مراتٍ في النهار لأنه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشِّقاق بينك وبينها ما يزعج ُرقادك)"

لقد كانت نُعمة أخر عشيقاته اللواتي كُنّ كثيرات، وكان يغيرهن كما يغير قُمصانه، ولا يتردد في دخول مغامرات غرامية دون تقدير للعواقب والتَّبعات، ويفرط في القفز من حضن إلى أخر، ولا يكاد يرسو على برّ، كان شخصا بوهيميا يمارس جنونه الموسوم بجرأة ظاهرة ولا مبالاة فاضحة، كانت المرأة هي عالمه الوحيد الذي يجد فيه السلوى، ولم تكن الجَرّة تسلم في بعض الأحيان، فقد كانت المشاكل تنزل عليه كالمطارق فتشج رأسه وتدفع به إلى أتون مُزهرٍ، لكنه كان يتدارك الأمر ويحلها باللجوء إلى الحيل والمواربة تارة، أو الكذب والمراوغة تارة أخرى، لكنه في أخر الأمر أُصيب بخيبة أَمل لا حدود لها وأصابه الملل من كثرة المطاردات الدونكيشوتية التي كان يخوضها بحثا عن طرائد نسائية مفترضة، وفجأة ظهرت نُعمة في حياته فغيّرت مسارها، وهي الخَارجة من تجربة زواج فاشلة، أحس بأنه لم يعد قادرا على فراقها فأسر لها برغبته في الاِقتران بها، لم تُمانع ورحبت بالفكرة ، فكلاهما كان في حاجة للأخر لكنها اشترطت عليه الهجرة صحبتها إلى كندا لأنها قد حصلت على عقد عمل مدفوع الثمن، بضمان من محام محلف، لم يتقبل الشرط ، فقد كانت الهجرة بالنسبة له أخر ما يخطر على البال، لأنه كان يكفل والدته وأختيه ولا يستطيع التنصل من هذه المسؤولية من أجل عُيونها ، عند هذا الحدّ اختلفتْ المشارب وتباعدت الأهداف، فمضى كل إلى غايته، يسعى لما ساقته إليه الأقدار.

عاد إلى عادته القديمة بعد رحيل نُعمة، واندفع بنزق يبحث عن لحظة انتشاء تبدّد ما كان يعتمل في صدره من شعور بالكآبة بعد سفر نعمة، وأقبل دون وازع على خوض مغامرات غرامية، و هو مقتنع تماما بأن هذا الفعل هو الوسيلة الناجعة لاقتلاع طيف نُعمة من ذهنه، و تكفلت الأيام والأحضان النسائية التي كان يتنقّل بينها في تحقيق السلوان الذي كان يصبو إليه. ولم تمض إلا أيام قليلة على ما كان فيه من فوضى مشاعر، حتى ساقت إليه الأقدار فتاة أحلامه وهو عائد على متن القطار من الرباط إلى مدينته، فتزوجها وطوى صفحة الدون جوانية إلى غير رجعة.

تزوج فريدة بهدوء وبسكينة زائدة، دون ضجيج أو بهرجة مفرطة، صار بإمكانه الأن مشاركة زملائه وزميلاته في العمل أحاديثهم عن الأسرة ومشاكل الأولاد، فقد أكمل نصف دينه ولم يعد مشبوها، وكأن الزواج هو صكُّ الفضيلة ومانع الرذيلة، فهو "الجنس الحلال" وهو سدرة المنتهى والحصن المستدام للفرج الذي يقي من المعصية ويجنب المرء الأدواء العصِيَّة.

نام في العسل ربع قرن، ورُزق بالخَلفِ الصَّالح ذكورا وإناثا، وتقطَّعَت به السُّبل في تجاذب مُسترسل بين الأحْداث والأفكار والوقائع، وتَفَاعُلٍ مع الأشخاص فُرادى وجماعاتٍ، هذه هي الحياة وعليه أن يعيشها بحَذافيرها ويَقبل بقواعد اللُّعبة، ويمارس طقوس الأبوة كما تقتضي الأعرافُ وتفرض سُنن المجتمع، لم يعد يَشْرب خمراً أو يُدخّن سجائرا، وأصبحَ يكتفي بنظرات يسرقها من الغَواني اللائي يصادفهن في طريقه.

فجأة، استيقظ من سباته الطويل، وانتبه إلى أنه قد دخل إلى مرحلة الكهولة، وأن شطط الأيام ساقه إلى فترة منتصف العمر وهو شبه منهك فكريا وعاطفيا، فقد أهمل كثيرا في منظره الخارجي، وصار همه الوحيد هو ضمان حاجيات الأبناء ودفع مصاريف دراستهم المرتفعة، ولا شيء يَهُمُّ فيما بعد، لكن وخزا عجيبا مسه على حين غَرّة في مواضع متعددة من جسده وعقله أيقظ حواسه ودفع به نحو بُؤرة الانفتاح على الحياة من جديد، فداهمه دون سابق إنذار شيطان الظُّهْرِ، وإذا به يتحسَّس شعر رأسه الرمادي ويتأمل تقاسيم وجهه المنعكسة على المرآة، مُحيّاه مازال مشرقا وبقليل من العناية يمكنه أن يستعيد نشاط الأيام التي ولّت ويتلمس طريق استعادة شذرات من الزمن الضائع.

2

ضَغط على هذه المشاعر المُحدثة في البداية دون أن يتمكن من كبح جِماحها، وحاول تصريف ضغوطها باللجوء إلى السَّفر صحبة زوجته، وممارسة بعضٍ من هواياته القديمة، عاد لكتابة الشِّعر من جديد، ومراسلة المجلات والمواقع، وحضور اللقاءات الأدبية والحفلات الفنية، كفَّ عنه شيطان الظهر حينا، فظَنّ أن الأمر قُضِي وأن السّكينة عادت لتعيده لجادة الصواب، وزمرة العقلاء الفضلاء.

مرت على لحظة الكمون التي دخلها سنة ونيف، إلى أن دعاه اِبنه لزيارة مدينة غرناطة التي استقر بها بعد اتمام دراسته في الهندسة المدنية، واختياره الاشتغال في إحدى الشركات الإسبانية صحبة زوجته التي كانت تشاركه نفس التخصص، اعتبرها فرصة لا تعوض فهو سيزور مدينة لسان الدين الخطيب الوزير الشاعر الذي كانت موشحاته تأسر قلبه، ويعانق تاريخ أسلافه المسلمون المغاربة الذين حكموا الأندلس سواء كانوا مرابطين أو موحدين، بعد أن عبّد الطريق أمامهم طارق بن زياد الذي كان له فضل الفتح المبين رغم تلكؤ موسى بن نصير، وشطحات سليمان بن عبد الملك الذي كان يرغب في أن يكون الفتح في عهده، تلك أيام مضت بما لها وعليها.

عندما وصل إلى مطار مالقا شّم عبير انتصارات المرابطين الذين دخلوها سنة 1090م بعد معركة الزلاقة، وانتشى بآثار المصامدة الموحدين الذين تسلموا مالقا سنة 1151م.

ركب الحافلة نحو غرناطة مرورا بشواطئ  كوستا ديل سول، استسلم لسحر المكان وجماليته، وغمرت نفسه موجة غبطة من توالي المناظر الطبيعية الساحرة، أحس أن الزمن يعود به إلى الخلف ويرتب له فصولا متداخلة من أشياء يذكرها وأخرى تنبثق فجأة بين تضاريس ذاكرته، لقد زار غرناطة طفلا صغيرا رفقة والده الذي كان متيما بالأسفار والرحلات، وما يتذكره عنها مجرد لمحات ضبابية، بإمكانه اليوم وهو في نهاية مرحلة كهولته استجلاؤها ووضعها في سِيّاق قَابل لإِرضَاء مزاجه، ومسايرة رغباته.

وصلت الحافلة محطة غرناطة، وجد ابنه في انتظاره، تعانقا وتبادلا القبل، قال لابنه :" سنتان مضتا على أخر لقاء لنا" ابتسم الابن وقال :"كنت أتمنى حضور أمي، فقد حجزت لكما جناحا بفندق غرانادا سنتر"

ردّ :

- طيف أمك دائما يرافقني، اِعْتبِرها موجودةً معي فأنا لا أتوقف عن الاتصال بها.

ضحك الابن، ولم يعلق بشيء.

أحس بكثير من الانتشاء، فاختلاؤه بنفسه في جناح خاص بفندق فاخر يسعده ويمنحه فرصة للاستمتاع بحوار داخلي افتقده منذ زمن بعيد، لهذا لم يتردد في كيل المديح لابنه وزوجته وحفيده، والدُّعاء لهم بِكل ما عَنّ

 بخاطره من أدعية صَالِحة ظَلّت راسخة في ذاكرته، وحاضرة بقوة في لحظات ضعفه ورضاه.

بعد تناوله وجبة العشاء في بَيْت ابنه، وقضاء لحظة سمر مع حفيده، أوصله ابنه إلى الفندق، كان الجناح الذي حجز له ابنه فاخرا، بسرير مزدوج وصالون أنيق  وحمام جاكوزي، و غرفة معيشة واسعة، بدأ بأخذ حمام ساخن، ثم تناول مشروبا كحوليا مما كانت تزخر الثلاجة، ونام على الفراش الوتير، وهو يحس بانتشاء غريب، حلم أحلاما لذيذة فيها مزيج من الفرح والحنين.

عندما استيقظ في اليوم الموالي كان مُبتهجا، ويشعر بخفّة زائدة تعتري جسده ، تناول إفطاره بِمطعم الفندق ، ثم نزل إلى حوض السباحة، مارس رياضته المفضلة في تقوية العضلات، ثم استلقى على كرسي الاسترخاء مستمتعا بأشعة الشمس الدافئة، وقد أغمض عينيه، تاركا لخياله فرصة التحليق في عوالم تجمع بين الماضي والآتي، وتسمح لذاكرته بالانتعاش واستعادة الأمل في حياة أكثر دفئا وسطوعا، فجأة لمع في ذهنه بيت علي ابن أبي طالب الشعري: 

ذهب الشباب فما له من عودة،

وأتى المشيب فأين منه المهرب

أحس بِثقله، لأنه ذَكّرهُ بالضُّعف وقلة الحيلة، وأعاد إلى ذهنه المسار الوجودي الذي يقطعه الانسان منذ خروجه من رحم أمه إلى هذا العالم الظالم، الخاضع لنواميس غير مُنصفة، تقتضي منذ البداية الرضى بحتمية المصير المقدر، ومحدودية التدخل فيه.

 تجاوز هذا الشعور، وفتح عينيه فالتقتا فجأة بعينيها، هي بلحمها وشحمها  نُعمَة حبيبته القديمة بلباس العوم، كانت تنظر إليه بشراهة غريبة.   

ابتسمت له، بادلها الابتسام،  اِستقام واقفا واتجه صوبها، هتف بها قائلا:

   - نعمة ..أليس كذلك؟

ردت وهي تمد له يدها مسلمة:

- نعم بشحمها ولحمها

عانقها بحرارة، لم تتواني هي الأخرى في تبادل العناق معه دون تحفظ،

سألها :

- كيف هي أحوالك

ردت بمحيا طلق:

-  أحوالي طيبة، العيش في كندا لم يغير في شيئا، وأنا هنا في رحلة استجمام

استعادا ذكريات الأمس بكثير من الحنين، حدثها عن زواجه بعد رحيلها، وحدثته عن علاقاتها الفاشلة، وعن نجاحها في مسارها المهني الذي توجته بحصولها على منصب أستاذة جامعية بمونتريال، اتفقا بعد ذلك على تناول وجبة الغداء معا بمطعم الفندق.

انتابه إحساس غريب، وغمرته مشاعر مشوبة بروح المغامرة والرغبة في الخروج عن المألوف، وهو جالس بمواجهة نعمة فتاة الأمس التي صارت اليوم سيدة ناضجة، ولا تزال تحتفظ بمعالم جمالها الذي كان يأسره ويسحره إبان الأيام الخوالي.

كانت تتحدث بمرح، ولا تتوانى عن إطلاق ضحكات تهز المكان،   وحديثها العذب يُشنِّف أسماعه.

في المساء تجولا بين أزقة حي البيازين الضيقة، وعاشا لحظات مفعمة بالبهجة، واستعادة عبق التاريخ، وعندما تعبا جلسا بمقهى ومطعم        AMAYRMO de  MIRADOR المطل على قصر الحمراء، طلبا عصير منجاة وكريب بالشوكولاتة، قالت نعمة :

- بقدر ما يستمتع المرء بجمال المنظر  وسحره بقدر ما يشعر بالوجع من فقدان هذه المعلمة التي ضيعها المسلمون الأمازيغ والعرب، ولعل مقولة السيدة الحرة الشهيرة لابنها أبو عبد الله الصغير وهو يسلم مفتاح غرناطة لملكي قشتالة إيزابيلا وفرناندو،   "ابكِ كالنساء على مُلك لم تُحافظ عليه كالرجال" توجز درجة هذا الوجع المتناسل .

ابتسم وقال وهو يضم يديها إلى يده:

- هي سنة الحياة ما من صعود وطلوع إلا ويتبعه نزول وسقوط ، من سوء حظ  أبو عبد الله  أن سقوط غرناطة ارتبط باسمه، وربما كان هذا سببا في عيشه منبوذا  بمدينة فاس التي هاجر إليها، وحتى ضريحه لم يتم ترميمه إلا مؤخرا بمبادرة من الأندلسيين الذين لازال الكثير منهم يحن إلى أصوله.

ثم تابع بصوت منفعل:

- الإسبان لا يزالون أوفياء لوصية إيزابيلا التي تركتها قبل وفاتها بأربعة أيام هي تقول إذا لم تخني الذاكرة:

 "أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية والدفاع عنها دائما وأبـدا بكل غال ونفيـس من الأموال والأرواح، وآمركم بعدم التردد في التخطيـط لتنصيـر المغرب وإفريقيا ونشـر المسيحية فيهما ضمانا لكل استمـرار كاثوليكي في جزيـرة أيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب بلـدا مشتتـا جاهـلا فقيـرا مريضـا على الدوام والاستمـرار"

قالت نعمة وهي تعض على شفتيها:

 - مع كامل الأسف مازال المغرب يدفع إلى اليوم ضريبة هذه الوصية العنصرية.

ران عليهما صمت قصير، تبادلا خلالها النظرات وهما يزدردان الكريب ويرتشفان العصير، ها هي نُعمة الكرواني تعود به سنوات إلى الوراء وهما معا في أحضان غرناطة المدينة الأندلسية، الفردوس المفقود، فهل هذه بداية لتجليات جديدة تسمح له باستعادة توازنه النفسي والروحي؟.

أحَسّت نعمة أن " حبيب الأمس " يعيش أزمة مشاعر ويبحث عن وسيلة تخرجه من وضعيته الصعبة، لهذا لم تتواني عن محاولة اِقتحام عالمه واكتشاف ما يجري ويدور في سريرته، لم يتردد هو في البوح لها بحالة الاغتراب التي أصبحت تلازمه   في  الآونة الأخيرة، خلال بوحه كانت نعمة تنصت إليه باهتمام، وفجأة هتفت به:

- اسمع يا مجيد لم تبقَ لي إلا ثلاثة أيام هنا في غرناطة، قبل شدّ الرحيل إلى مونتريال، وأريد أن نعمل معا على تبديد هواجسك وإنهاء حالة اغترابك.

 كانت الشمس تشدّ الرحال نحو مغربها، والسماء اكتست بحمرة ساحرة، غادرا المقهى ممسكان بيدي بعضهما وهما في حالة انتشاء، تَشِي بانْسجام طارئ ولحظة انصهار لم تكن في الحسبان، ضمتهما شوارع وأزقة غرناطة، وكلاهما مستسلم لأجوائها الدافقة بسحر غريب يمتزج فيه الدفء بإيقاعات موسيقى الفلامِينكُو ، ما يجعلك تشعر بأنك تعيش أجواء كرنفال مفتوح على آيات الجمال والافتتان.

كانا قد وصلا إلى ساحة بيب- رامبلا ، المكانُ مكتظُ، والناس منصرفون إلى عيش اللحظة بكل تجليتها وتَقاَسُمِ مُتعة الكينونة والوجود، حيث تسقط الفَوَارِق، ويَتَخلَّص المرءُ من ثِقل السِّنين ويتحول إلى كائن لا يَأبهُ بِقيود الاِحترام والحِكمة، ويُمارس شغبَ الطُّفولة والمراهقة غير آبه ولا مُهتَمٍّ بما قد يَتركه سُلوكه لدى الأخر مِن أثرٍ، غَايته القُصوى هي البَحْث عن السَّعادة  ولا يهم شكل الوسيلة.

 توقفا بين الجموع، المُتناثرة زرافاتٍ بَين مُتتبع لبعضِ العَازفين، وبين راقص على إيقاع موسيقاهم، وبين واقف أمام الفنانين المُتخصصين في رسم البُورتريهات، اقترحت نعمة على مجيد دخول إحدى الحانات لتتبع موسيقى ورقص الفلامينكو، لم يتردد في قبول الدعوة.

دخلا ملهى " ماي ويست" ، كانت الموسيقى صاخبة، رجال ونساء يتمايلون على إيقاعها، رائحة المتعة وجنون الأجساد يفوح من المكان، جلسا إلى طاولة مستقلة، قال مجيد:    "الصخب مطلوب أحيانا، حتى نتوقف عن التفكير ونعيش اللحظة بحذافيرها، أعرف أن الزمن يسارع الخطو ليطوي الصفحات ويتسلى بعذابات البشر"

قاطعته نعمة محتجّة:

  "دع الفلسفة والحكمة لوقتهما، فأنا أريد أن أرقص وأمارس شَغَبي وجنوني".                                 

ثم تابعت قائلة: " أريد أن أمنح لجسدي فرصة الخروج من حالة السُّكون إلى حالة الجنون، أريد أن أرقص بفرح كمراهقة ودَّعت طفولتها"

أَمسكتْ يده وجذبتهُ نحو حلبةِ الرَّقص، اِندمجا ضِمن كوكبة الراقصين والراقصات، بدآ يتمايلا ويُحركَا جسديهما بِشغف وفرح، مُسايرينِ إيقاع المُوسيقى وحركات من معهما على الحلبة، سَرقهما الوقتُ على هذا الحال حتى كَلَّا وتعبا، فعادَا إلى طاولتهما، وأشار مجيد إلى النادلة، التي  أقبلت ضاحكة، طلب منها أن تَمُدّهما بعشر زجاجات جُعّةً باردة.

جاء الطلب بعد حين مع بعض المكسرات وحبات الزيتون، شربا وهُمَا في حالة انسجام وتناغم يتبادلان النكت والقفاشات، فكّر مجيد: الحياة لحظة ومُتعها لا تُتْركُ ، وزَمنُ الحُبّ لا ينتهي إلا مُتداخلا مع سِيّاقات أُخرى لا أحد يَعلم سَبيلها.

مع كل كأس جعة كانت تَسري في جسديهما حرارة ودفءٌ، وكانت النَّشوة تَتَجلّى على محيّاهما، وترتسم اِبتساماتٍ وكلمات وِدّ مُحلقة كَفراشات الرّبيع.

أشعل مجيد سيجارةً ونفث دخانها، ثم نظر إلى نعمة مبتسما، وقال بصوت عال:

" (أشتهيكِ بفرح

 أشتهيك كحبة كُمثرى

 أتلهف شوقا لأقطف

 نُسْغَ الفرح من ثِمار

 نهديك

 أشتهيك كحبة منجاة

 أحترق كعود الصندل

 عند الفجر

 وأسجي جسدك النابض

برداء حبي"

نظرت إليه نعمة بدهشة واستغراب ثم قالت: " يبدو أنك تتكلم بلغة الماضي،

ما زلت أتذكر هذا المقطع الشعري، سمعته منك منذ أكثر من ثلاثين سنة"

ووصلت حديثها قائلة:

" أقسم أنني أعيش معك أحلى لحظات العمر"

سرقهما الوقت وهما غارقان في نشوتهما، غير آبهين بما يُعكّر الصفو أو يعطل فرص الاستمتاع، بدأت تباشير الفجر تلوح، وأخذ الرواد يغادرون الملهى، كانا قد  ثَملا ووصلا درجة متقدمة من السُّكر، طلب مجيد سيارة نقل عن طريق تطبيق UBER.

عندماخرجا من المرقص، استقبلتهما تباشير الفجر الأولى بنسيم عذب، ولاحت حمرة الشفق في السماء راسمة لوحة فنية تفيض بصفاء صوفي رهيب، لم تتأخر السيارة في الحضور، ركبا وهما في حالة انتشاء وذهول.

 قطعت السيارة شوارع غرناطة شبه الفارغة، كان الليل ساحرا، لأنه يحمل سكونا تفتقده غرناطة في نهارها الصاخب، عندما وصلا إلى الفندق نزلا وهما متعانقين، استقلا المصعد، ودون مقدمات دخلا الجناح الذي كان يقيم به مجيد، ثم استلقيا منهكين على السرير، هتفت نعمة بصوت تشوبه رنّة توتر : " أحس بالغثيان"، ثم اندفعت نحو الحمام، ومضت تفرغ ما جوفها، لم يتردد مجيد في اللحاق فوجدها قد نضت ثيابها ووقفت عارية تحت مسرة الدوش وقد انساب الماء رقراقا محتضنا جسدها المنحوت في أبهى صورة، قال وهو ينظر إليها باندهاش ورهبة:

- منظرك يذكرني "بماجا" الفتاة العارية في لوحة فرانسيسكو غويا

قهقهت ضاحكة وهتفت به:

  - ماذا تنتظر.. تعال الماء منعش، ستحس بانتعاش وطاقة جديدة

تردّد لحظة، ثم أزلَ ملابسه واندفع نحوها، ضمها فشمّ عبيرَ ورد أحمر، رنت له بطرفها الحالم، وأحس أنفاسها تلهب أنفاسه، فغرقا في ذوب قبلة ملتهبة، عَبَرا بهدوء إلى مرابع الحلم، وحلَّتْ رُوحاهما الجَذلى كفراشتين منتشِيّتين تمتصان رحيق الزهور. لا مجال الآن للمَرَارات والغُصَصِ، الجِراحُ العَميقة تندملُ، والأحزان المتأصلة تتَبَدّد، الحياة تُطَأطئ الرَّأسَ صَاغِرة، مُستسلمة لنشوتهما.

أنهيا الاستحمام، ثم نشفا جسديهما بالمناشف المخصصة لزبائن الفندق، هرولت نعمة نحو الفراش واندست عارية تحت الملاءة، وجلس هو على حافة السرير، فتح دفة الخزانة الصغيرة واستخرج  من محفظته الجلدية ورقتين وزاريتين وانهمك في الكتابة، كانت نعمة تتطلع إليه في استغراب وعلى وجهها ترتسم ابتسامة عريضة، عندما انتهى من التحرير قدم لها الورقتين وطلب منها التوقيع، سألته بصوت رقيق :" ما هذا ؟"

  رد قائلا:

-  عقد زواج عُرفي، أريد أن تكون علاقتنا ذَات صبغة شَرْعِيّة

قاطعته ضاحكة:

- تريده زواج متعة على صداق متفق عليه أليس كذلك؟

- بلى ...هل توافقين؟

- يكفيني يورو واحد مقدمَ صداق ومثله مُؤخرا

وقَّعا معاً على الورقتين، وقال مجيد بأن الشاهد على زواجهما هو "الله" وسيغفر لهما زلّة السُّكر، ما دام يغفر كل الذُّنُوب إلا الشّرك به، وهما مؤمنان، وزواجهما حلال طيب، والنّية في أخر الأمر أبلغ من العمل.

3

"أيها الشوق العابر للقارات ها أنت تأتي طائعا متقاطعا مع هبات الوجد التي تسكن صدري، وتحملني في رحلة عشق ولهفة، أمارس هوسي الغريب، وأعلن لنفسي أنني واثق الخطى، أتعلم أبجدية الحب بأسلوب جديد، ولغة أنيقة تجعل المعنى يتجاوز الواقع، ويسبح في ملكوت التجلي دون حواجز أو موانع"

مرّت لحظة التأمل، وسكنت الجوارحُ، وتجدَّدت المشاعرُ التي توقفت منذ ثلاثة عقود مضت، الحياة عادتْ لتُكسِّر ذلك الجمود، أيام ثَلاث عاشها مع نُعْمة غيَّرت الكَثِير من قناعَاته وبَدّدت يَأسَه، ودَفعته إلى ترديد بيتي أبو تمام :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى 

ما الحب إلا للحبيب الأولِ

كَمْ منزل في الأرض يألفه الفَتى

 وحنينه أبداً لأوّل منزلٍ

في حَضرتِها، عَلَّقَت نُعمة قَائِلة: " حَياتُنا سِلسلة حِكايات، قد لا تَتكرَّر، ولكنها بالنِّسْبة لنا تكرّرت بشكل لا يَستوعبه العقل، أنا وأنت نستعيد حبنا الضَّائع في مدينة كانت ومازالت فِردوساً مفقودا نتوق إليه"

 "تعطيل العقل ومنعه من مواجهة الحقائق  والوقائع المرّة ، يصبح ضَرورة  قُصوى ، حتى لا يَدخل المرء مرحلة اكتئاب جِدُّ محتملة،

التفكير والتحليل ومحاولة فهم الصورة، كما هي بادية للعِيان، يقود إلى دَوّامة لا سبيل للخروج منها، وبالتالي تُصبح أي خطوة في هذا الاتجاه عديمةَ الجَدوى"

أحس مجيد، أن عليه أن يعيش اللحظة كما هي وأن لا يشغل باله بطرح مزيد من الأسئلة، لهذا لم يَتَردد في اِستعارة قَول أمرؤ القيس وَهُو   يوجّه كَلامه لِنعمة:

"لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غدًا، اليوم خمرٌ وغدًا أمر"

هكذا طوى صفحة التساؤل، واستشراف المستقبل، وعليه الأنْ أن ينعم بما جادت به الظروف عليه ولو في حدوده الضيقة، فهو يَعلم أن قِصَّته مع نعمة توشك على لفظ أنفاسها الأخيرة، وهو قانع بما كان، ولا يهمه ما سَيكُون، نُعْمة أَخبرتْه أنها عائدة إلى مونتريال لأن حياتها هناك ولا تستطيع تغيير نَمطها، أما هو فعائد للدار البيضاء، لأن حياته هناك وفريدة تبقى هي الاستمرار والاستقرار، وما عاشه مع نعمة كان مجرد نزوة.

***

محمد محضار 30 غشت 2025  

 

في ساعة الغروب، انزلقت العتمة على وجه الأرض، تاركة نوافذ النهار مشرعة لبعض الوقت، كما لو أنها لا تعارض وجوب الرؤية بوضوح.

وحين لمح ذلك الشبح الذي بدا كسراب، لم يكن الجسد مرئيًا، ولا نابضًا بالحس أو الحياة. انتابته صدمة، أعقبتها رعشةٌ جعلت أسنانه تصطك.  لم يكن يعرف إن كان ذلك السراب هو الآخر، أم هو نفسه حين نسي كيف يبدو وجهه.

كان الوقوف أمامه أشبه بالجلوس على حافة حلمٍ مبتور في شتاء تلك الليلة المشؤومة، حين لامس وميضُ البرق النافذة المغلقة، كرسالة تحذير لم تكد تُسجَّل في الذاكرة حتى زمجر الرعد كأنما ينتقم من صمتٍ قديم. ثم اخترقت صاعقة شجرة الزيزفون الواقفة في وسط الحديقة، وتصاعدت ألسنة اللهب، لتسقط ضحية الغدر.

لم يتكلم... لم يتحرك… كأنما تجمد الزمن في عينيه.

لكن الذكريات المدفونة بدأت تتسلل من جوف الحلم، وتخرج كخيوطٍ غير مرئية تسبح بين ذرات الهواء، على هيئة جحافل من الوهم، لا تزحف بل تندفع كأنها تعرف الطريق إلى مواضع الألم، تتكوّن من ظلالٍ متراكمة، لا تُرى إلا حين يصمت العقل، وتُصغي الروح لما يُشبه الحقيقة، تتجه نحو السراب كأنها حكاية من قصص الخيال، ينفصل فيها العقل عن الواقع. ساوره شكٌّ، بل أثار ألمًا في جرحٍ لم يكن يعرف موضعه.

وهكذا بدأت رحلة الشقاء نحو المجهول، محاولةً الحفاظ على إيقاع الحياة الهش، والتغلغل إلى دهاليز البحث عن انفاس مبعثرة في زوايا الزمن.

مع كل دوي برق كانت الجروح القديمة تفتح أفواهها لا لتجدد الألم فحسب، بل لتذكره أنه ما زال حيًا.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

كررها في داخله، كأنما يحاول أن يثبت لنفسه أن الألم ليس نهاية، بل بداية الإدراك.

ذبذبات مكتومة تتماوج فوق جيش من الغيوم، مدفوعة بأعاصير البحر، مقتحمة أديم السماء، كأنها تُعيد تشكيل الجرح ليغدو أكثر وجعًا، أكثر حضورًا، كوميضٍ لا يهدأ.

ثم تلاشت الأصوات، وسكن الضوء، ولم يبقَ سوى صمته...

أدرك حينها أن كل ما رآه لم يكن سوى رعشةٍ في الذاكرة، تتجسّد كلما نطق البرق كأنما الجرح لا يسكن، بل يتذكر.

***

كفاح الزهاوي

سألتني مرة لماذا تكتبين؟

سيدي المتكئ على ظل الورق سوف أجيبك ...

إنني كتبت كل هذه السطور، وكل هذه الأحرف الشاحبة تارة وتارة أخرى النابضة بالحياة كتبتها لأخفي جزء مني داخل صندوق الورق ...

ذاك الجزء الذي لم يصل إليه الضوء يوماً فقد كان يقبع في أعماق العتمة وشيء من الوحدة المترفة ....

كنت على الدوام أحرص إلا أكون من الذين يوزعون عواطفهم عبر المجالس المكتظة بالثرثرات، ولا من الذين يتاجرون بمشاعرهم من أجل أن يصوب إليهم الأضواء الخادعة ...

وكنت دائماً ما أحاول أن أخرج تلك الشحنات القابلة للإنفجار على صفيح الورق لا على حقول الألسنة الرطبة ....

لست من الذين يطفون فوق الهواء بفعل إنعدام جاذبية واقعهم

لطالما كنت من الذين تلتصق جذورهم بضبابية الوقت .

أعلم أن الغالبية الساحقة قد تركت نوافذها مشرعة للضوء والضجيج، ولكنني لا زلت أحكم إغلاق الأبواب أمام شح العواطف اللازوردية حتى ولو لم يصلني منها سوى القطرات ..

أعجبت بزمن الأشياء البسيطة التي كان الناس فيه كزمن زحام بيع أوراق الجرائد على طول الأرصفة، أو كالرسائل التي يوصلها ساع البريد ...

دعني أقول لك إن الرسائل فقدت رونقها وشغف إنتظارها وكذا صدقها حين أعلن عن موت ساع البريد...

هل تعلم لما لا ألتقط صوراً بهاتفي لسبب واحد فقط وهو إنني لا أرغب أن أجمد اللحظات بوميض ضوء الصورة، وإنما أرغب في أن أعيشها وهي على قيد الحياة.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان.....

(قصيدة نثر)

هذا اللون الأخضر في المرايا العاشقة لا يراني مفردا. يفتحُ لي في جنون الشّفاهِ شريطَ الجمال، ويلُمّني مع ظلّي كائنا متعددا.

*

يقتلع الشبحَ من خدّي، يقيمُني على نبوءةٍ، ويمسح مائدتي من آثار الجحيم. فأكون أنا المعذّبَ في ظلالِ الجسارة... أكونُ شكلاً إنسياً مغرّدا.

*

لُمّيني أيّتها الْإنْجِيّةُ، يا سيدةَ الياسمينِ، لُمّيني عُجالةً سابِحةً في مطايا  الرّحيل... فما عادَ ترابُ هذِي الْيابسةِ يستوعبُ أنْهاري الخالدة.

*

وما عاد ارتِفاعُ منسوبِ النبْضِ يقدّمُ للعابر خبزاً ولا صاعاً من ماء. أو يضيفُ لروعةِ اللّقاء وصفاً يطفئُ الْموجدَة.

*

ها القلب الآن ماءٌ مشقوقٌ، هاربٌ من قراراتِ الضّفاف، يستأنِفُ سبْكَ الموجِ في تراتيلِ الموت، يعومُ في ظلالِهِ ويحشد في حبّه كل حوارِيّي الإيمانِ، يرتّبهم سطوراً: سطراً سطرا... في دواوينه الماجدة.

*

قدْ أكونُ عابداً وقد لا أكون في عشقِ الجبينِ اللّجين عاشقا ماردا.  ولكنني في ظلّ الصفصافة، أجدني أنا المرتهنَ وأنا الرسول الّذي في كفّيها بدا... وقدْ بدا ماجداً وأمجدا.

***

نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

 

كنت تحت إدارة مشرفة، وتُعد هذه كارثة بالنسبة لي: أن تترأسني “امرأة”، والكـارثة الأخرى أن يرأسني “رجل” كذلك!

لعل الكارثة الحقيقية في أنا..

المهم أنني قرأت شخصية هذه الإنسانة منذ اليوم الأول، قرأت لغة جسدها، نظراتها، تصرفاتها، ولمست ما يفيض منها من حقد وكراهية وشر محتمل. وفوراً رسمت الشخصية التي سوف أكون عليها عند التعامل معها منذ تلك اللحظة.

علمت أن ردود الأفعال المباشرة لا تجدي نفعاً مع من هم على شاكلتها، ولا يجب أن يُرد لها الصاع صاعين على الإطلاق. بعض الشخصيات يجب ألّا تتوقع ردود أفعالنا، وعلينا التعامل معها باستراتيجية الغموض.

يقتلها عدم الرد عن الرد، يحرقها الصمت والبرود الشديد، والطاعة العمياء. وذلك بحد ذاته يتطلب مقدرة كبيرة على ضبط النفس ومراقبة كل كلمة وكل تصرف. وقد استغرقني الأمر سنوات حتى تعلمت هذه المهارة.

كنت أعرف في داخلي أن هذا القناع الرمادي الذي قررت ارتداءه قد يخنقني ببطء. لم يكن برودي سوى درع فولاذي يخفي وراءه بركاناً من الغضب، وحرقة أسئلة مؤلمة: لماذا أُجبر دائماً على أن أبدو أقوى مما أشعر؟ ولماذا لا أملك رفاهية الانهيار؟ عموماً لم أملك الوقت لذلك فمستقبلي المهني كان على شفير جرفٍ هاوٍ.

مشرفتي هذه كانت تفعل كل شيء لتخرج مني رد فعل واحد متوقّع: غضب، إحباط، بكاء، فرح، امتنان… أي شيء. لكنها لم تقابل إلا جداراً خشناً رمادياً، لا شيء فيه ملفت لأي انتباه. للدرجة التي جعلتها تكلفني بأربع تقارير مفترض أن ينجزها أربعة موظفين كحد أدنى! كلفت بإدخال بيانات يصل عددها إلى ١٨٠٠ قبل بداية كل شهر، وعليّ إنجاز هذا التقرير خلال ثلاثة أيام.

كنت أبقى بالمكتب إلى ما بعد وقت الدوام الرسمي الذي يمتد من السابعة صباحاً إلى الساعة الخامسة عصراً، لأغادر المكتب العاشرة والنصف مساءً ثم أستيقظ الخامسة فجراً. بقيت على هذا الوضع لقرابة العام.

أعمل بطريقة غير طبيعية، حتى قال لي أحد زملائي يوماً: “أشعر أنك تعيشين على التمثيل الضوئي! أتمنى أن أراكِ تأكلين أو تشربين شاي، قهوة، ماء، أي شيء! عمل عمل عمل… لا يصح أن تضغطي نفسك لهذا الحد.”

كنت أفعل ذلك لأختبر حدودي بهذه الحرب الصامتة، كيف لي أن أحرقها غضباً وأُظهر أسوأ ما لديها بدون أي ردة فعل مني؟ وواجهت ضغطاً كبيراً من قبل جماعة التبرع بالنصائح والتدخل في حياة الآخرين دون طلب، بضرورة تقديم شكوى رسمية.

وربما كانت معظم تلك النصائح منطقية، ولكن—كما أسلفت—من خلال تحليلي لتلك الشخصية ولتلك البيئة الموبوءة لم تكن المواجهة المباشرة خياراً جيداً. بل الحرب الباردة والتكتيكات بعيدة المدى هي ما أطاحت بهم جميعاً.

ولأنني كنت مضطرة ألّا أكشف شخصيتي الحقيقية، تحملت اتهامي بالسلبية والضعف والخضوع.

لم يجدِ تنمرها معي نفعاً، فقررت تحريض المدير ليبدأ هو الآخر تلك الحرب التي لا مسبب حقيقي لها سوى أنها لا تستسيغ شخصيتي!

كنت أحياناً أدخل المكتب وأقطع حديثاً عني بين زملائي، والذي على ما يبدو كان مثيراً للشفقة.

في مرة، دخلت المكتب ولم ينتبه لي أحد، وسمعت مديري يتكلم عني عند مجموعة من أعوانه، يخبرهم برغبته في طردي، وأنه لا يستطيع نكران الكفاءة الاستثنائية التي أقدمها، لكني “بومة” و”أسد النفس”، ويفضل استبدالي بسكرتيرة غنوجة تفتح له نفسه!

لا أدري ما هو مفهومه الحقيقي للسكرتارية، عدا عن حقيقة كونه إنساناً فاشلاً سواء فُتحت نفسه أم سُدت؟

المهم أن أحد الزملاء كان يدافع عني باستماتة قائلاً:

“إذا طردتها سوف تندم، فلن تجد من يأخذ العمل بكل هذه الجدية والتفاني ويحتمل كل المهام دون شكوى أو تذمّر.”

كان متحمساً جداً بالكلام، ولم ينتبه لدخولي. فجأة التفت خلفه ووجدني جالسة بمكاني. اصفر وجهه من الصدمة وقال:

– بسم الله! منذ متى وأنتِ بالمكتب؟

– رددت: منذ أن كنت بومة.

فاجأه الرد، وحاول طوال ذلك اليوم رفع معنوياتي بمدحي وإحضار قهوة وحلويات وغداء. وبعد انتهاء الدوام قال:

“كنت أراقب تصرفاتك، أحاول أن أرى دمعة، كتمة، زعل، أي شيء… معقول لم تتأثري بالكلام؟ أنا رجل، لكن إذا حصل وسمعت كلاماً عني بهذا الشكل ربما أختنق.”

رددت عليه بكل برود:

“تعتقد أني فعلاً ممكن أتأثر من هذا الإمعة؟ خيشة البصل الجالسة بالمكتب؟”

ضحك، وأطلق علي اسم “حديد” تعبيراً عن القوة والصمود، لكن للصمود ثمناً باهضاُ ولم يكن يدرك وقتها أن "الحديد" الصلب اللامع صدءٌ من الداخل.

اليوم التالي، دخلت على مديري هذا لمناقشة مهمة عاجلة كلفني بها. وقبل أن أخرج من مكتبه قلت له:

“على فكرة، حتى أنا أكرهك وأحمل هم ضغط العمل ورؤية وجهك، لكن دعنا نحتمل بعض إلى أن تجد الغنوجة وتفتح لك نفسك. وإلى ذلك الوقت يخلق الله ما لا تعلمون.”

بعد سنة وشهرين، نُقلت إلى قسم آخر. وفي حفلة توديعي قالت مشرفتي:

“سمعنا إن عندك هوايات ومواهب، كلمينا عنها.”

قلت: “الفنون القتالية، والكتابة، والقراءة، والتمثيل، والصيد.”

قالت إحدى الزميلات: “صيد؟ كيف؟”

قلت لها: “في الماء العكر.”

ضحكوا كلهم، وقاطعتنا المشرفة وقالت: “بما إن هوايتك التمثيل، مثلي لنا مشهد.”

تحمس الجميع، وأصرّوا على تمثيل مشهد صغير أمامهم.

لكني نظرت إليها وقلت:

“غريبة… ألم يعجبك أدائي سنة وشهرين!؟”

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

 

لمْ تعرِفيْ القصرَ كيْ تخشَىْ من القبرِ

يا نفْسُ ما الفرقُ بين الفقْرِ والقفْرِ؟

*

لمْ تبتلِيْ العِتقَ كيْ تخشَيْ من الحشْرِ

يا نفسُ لا فرقَ بين الحشْرِ والأسْرِ

*

ما كُنْتِ فيها سوى عُشْرٍ منَ العُشْرِ

وما جَمَعْتِ إلى صِفرٍ سوى الصِّفْرِ

*

وما انْتَقَلْتِ بها إلا على الجَمرِ

وما اصْطَحَبْتِ سوى صَبرٍ على الصّبرِ

*

أذُقْتِ من أُكْلِها أحْلى من المُرِّ؟

أشربةً نلتِ لم تُغلىْ على الوَغْرِ؟

*

أعزَّ فيها امرؤٌ منْ غيرِما  وزرِ؟

أجاعَ من خلْقهِ فيها سوى الحُرِّ؟

*

أذاعَ من قلمٍ فيها سوى الهِتْرِ؟

أَرُدَّ إلّا كتابٌ مِنْ ذوي الفكرِ؟

*

أمِنْ جديدٍ سوى عن صَولةِ الحُمْرِ؟

أمن مُعادٍ سوى عنْ نكبةِ النُّمْرِ؟

*

أطالَ عُمْرًا بها حُكْمٌ سوى الكُفرِ؟

ألم يطُلْ حُكمُهُ فيهاعلى الدّهْرِ؟

*

يا نفْسُ ما ظلَّ من أهليكِ من نَفَسٍ

تخشيْن من أجلِه آتٍ بلا عُمْرِ

*

ما ظلّ منهُمْ وقدْ كانوا سوى صُورٍ

تضيعُ في زحمَةِ الأبياتِ والنَّثْرِ

*

وذكرياتٍ على النسيانِ قادرةٍ

لولا الكثيرُ من الإتيانِ والهَجْرِ

*

عاشُوا كما عِشْتِ ما نالوا وقد وُعِدوا

كما وُعِدْتِ سوى الآلامِ والقَهْرِ

*

يا نفسُ تحتَ الثّرى صاروا وخلفَهُمُ

ما تشهدينَ مِنَ الطّغيانِ والشَّرِّ

*

يا نفسُ فوق الذُّرى كانوا وحِلفُهُمُ

الذي افْتَقَدْتِ منَ الإحسانِ والبّرِ

*

والعزُّ والعلمُ والإيمانُ في شظَفٍ

والآلُ والصّحبُ من أسْرٍ إلى أسْرِ

*

والذلُّ والجهلُ والإلحادُ في دَعَةٍ

والتِّترُ والرّوم منْ نصْرٍ الى نصْرِ

*

فاليومَ يا نفْسُ من فقرٍ الى فقرِ

وفي غدٍ حانَ منْ قفرٍ الى قفرِ

*

فأحسني الظّنَّ بالرّحْمنِ وارتقبي

اسْتحالةَ القفْرِ فردوسًا إلى النّشرِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أحببتُ رجلاً صامتًا،

رجلاً يضع الكلمات في جيوبه

ويترك لي مهمّة إنطاقها بالقصائد،

كنتُ أستفزُّه بقلقي، بثرثرتي،

أنتظر من شفتيه ضجّة اعتراف،

غير أنّه كان يجيبني

بهديةٍ صغيرةٍ،

بلمسةٍ غير معلَنة،

بكرمٍ يفيض كنبعٍ في ليلٍ عطِش.

*

كنتُ أقول في نفسي،

أيّ حبٍّ هذا الذي يختبئ في العيون ولا يُقال؟

أيّ رجلٍ هذا الذي يشيّد لي قلاعًا

من تقديرٍ،

ويضع على جبيني تاجًا من صمته الرزين؟

*

واليوم…

في أزمتي، في عجز الجسد،

فهمتُ.

فهمتُ أنّ الحبَّ ليس كلمةً تُلقى كزهرةٍ عابرة،

ولا وعدًا يذوب مع الغياب،

إنّه الفعلُ،

الفعل وحده،

أن يحميني حين أنكسر،

أن يظلّلني حين أقع تحت غيوم الألم،

أن يحملني بعينيه حيث لا يقوى ظهري على الحمل.

*

أدركتُ أنّ الشعرَ لا يحتاج دائمًا إلى حروف،

وأنّ بعضَ الرجال يكتبون قصائدهم

بأفعالهم،

ونحن الشاعرات،

لا نملك إلّا أن نقرأها…

ونبكي،

ونشكر الله.

***

مجيدة محمدي

قُمْ أَخِي وَامْسَحْ جِرَاحَاتِ الْأَسَى

مِـنْ بَـقَايَا الْأَمْـسِ، وَازْرَعْ نَـرْجِسَا

*

وَاخْـلَـعِ الـظَّـلَّ الَّــذِي فِــي ثَـوْبِنَا

إِنَّــــهُ الْــعَـارُ ارْتَــدَانَـا وَاكْـتَـسَـى

*

نَــظِّــفِ الــتَّـارِيـخَ مِــــنْ أَدْرَانِــــهِ

مِـنْ غُـثَاءٍ فِـي الْـمُدَى قَـدْ كُرِّسَا

*

لَا تُـــــصَــــدِّقْ أَنَّ ذُلًّا عَـــــابِــــرًا

ذَاتَ يَـــوْمٍ قَـــدْ يَــحُـطُّ الْأَنْـفُـسَـا

*

نَــحْــنُ أَبْــنَــاءُ وَمِــيـضٍ خَــاطِـفٍ

يَــدْفَـعُ الــنَّـوْمَ، وَيَـجْـلُـو الـنَّـعَسَا

*

نَــحْـنُ أَبْــنَـاءُ الـتَّـجَـلِّي إِنْ أَتَـــى

سَــتَـرَى زَهْـــرَ الْأَمَــانِـي وَرِســا

*

كُــــلُّ تِـمْـثَـالٍ تَــهَـاوَى وَانْـتَـهَـى

بَــاتَ ظِــلًّا فِــي الـخَيَالِ انْـعَكَسَا

*

لَـيْـسَ فِــي الْأَلْـفَـاظِ مَــا يُـنْـقِذُنَا

مِـنْ صَـدَى الـتَّارِيخِ إِذْ مَـا هَـجَسَا

*

نَـحْـنُ جِـيـلُ الْـفَـتْحِ بِـتْنَا مِـشْعَلًا

لِــغَـدِ الْأَجْــيَـالِ نَـبْـنِي الْأُسُـسَـا

*

سَــوْفَ نَـمْـضِي، لَا نُـبَالِي بِـالْبُكَا

أَوْ نُــرَائِـي مَــنْ تَـمَـادَى أَوْ دَسَــا

*

هَـا هُـمُ الْآتُـونَ مِـنْ صَمْتِ الرُّؤَى

كَـسَـرُوا الْـقَـيْدَ وَفَـكُّـوا الْـمِحْبَسَا

*

إِنَّــمَــا الْإِنْــسَــانُ فِـيـنَـا صَــاعِـدٌ

لِـقِـبَابِ الْـفُـلْكِ، يَـمْـحُو الْـحَنْدَسَا

*

إِنَّــنَــا نَـشْـهَـدُ مِــيـلَادَ الـضُّـحَـى

وَعُـيُـونُ الْـفَـجْرِ أَضْـحَـتْ مِـقْـبَسَا

*

إِنَّــنَــا نَـشْـهَـدُ إِشْـــرَاقَ الـــرُّؤَى

حَـيْـثُ زَالَ الْـوَجْـهُ عَـمَّـنْ أُلْـبِـسَا

*

سَــوْفَ نَـبْـنِي مِــنْ حُـطَـامٍ عَـابِرٍ

وَطَــنًــا كَــــانَ غُــلَامًــا أَخْــرَسَــا

*

رَكِــبُـوا أَصْـوَاتَـهُمْ حِـيـنَ انْـطَـفَتْ

جَــعَــلُـوهَـا لِــلْأَمَــانِـي فَـــرَسَــا

*

لَا تَـقُـلْ: كَـانَـتْ حُـرُوفِـي بِـدْعَـةً،

حِـبْـرُنَـا يَـجْـلُـو ضَـبَـاباً عَـسْـعَسَا

*

قَــدْ غَـرَسْـنَا فِــي فَــرَاغٍ صَـرْخَـةً

عَـلَّ هَـذَا الْكَوْنَ يَنْسَى مَا نَسَى

*

فِـــي دَمِ الْأَحْـــلَامِ شَـــكٌّ نَـاعِـمٌ

وَعَــلَـى جَـمْـرٍ بِـلَـيْلٍ حَـسْـحَسَا

*

كُــــلُّ فَــجْــرٍ فِــيــهِ لَــيْــلٌ آخَـــرٌ

فَـــازَ مَــنْ لِـلْـغَدْرِ كَــانَ احْـتَـرَسَا

*

فَـاحْمِلِ الْـمِرْآةَ فِي عُمْقِ الدُّجَى

عَــلَّ فِـيـهَا قَــدْ تَـرَى مَـنْ عَـبَسَا

*

وَابْـــنِ بَـيْـتًا مِــنْ زُجَــاجٍ كَـاشِـفٍ

يَـعْـكِـسُ الـضَّـوْءَ إِذَا مَــا انْـبَـجَسَا

*

نَــحْــنُ لِـلْـغَـيْـمِ رُعَــــاةٌ، كُــلَّـمَـا

خَــانَ بَــرْقٌ، لِـلـضُّحَى أَوْ غَـلَّـسَا

*

مَــــــنْ يَـــرَانَــا أنَّـــنــا أَعْـــــدَاؤهُ

عَـــاشَ فِـــي قِـصَّـتِـهِ وَاحْـتَـبَسَا

*

دَاخِــلَ الـسَّـطْرِ الَّــذِي خَــطَّ بِــهِ

كَــــانَ مَــــاءً آسِــنًــا، أَوْ نَـجِـسَـا

*

قَـــدْ بَـنَـيْـنَا مِــنْ شَـظَـايَا صَـوْتِـنَا

هَـيْـكَـلًا يَـحْـكِـي كَـلَامًـا مُـؤْنِـسَا

*

وَسَــكَـنَّـا فـــي بُــيُـوتٍ أُحْــرِقَـتْ

قَــرَّرَالـبـاغـي لــهَــا أَنْ تُـكْـنَـسَـا

*

صَــارَ مِـفْـتَاحُ الْـخَـلَاصِ الْـمُـدَّعَى

فِــــي أَيــادِيـنَـا حُــلِـيًّـا مُـلْـبَـسَـا

*

نَــحْـنُ لَا نَـخْـشَى ظَـلَامًـا، إِنَّـمَـا

مِــنْ شُـعَـاعِ الـضَّـوْءِ إِذْ مَـا دُنِّـسَا

*

لَا تَـلُـمْنِي إِنْ تَــرَى فِــي لُـغَـتِي

شَـبَـحًـا يَـقْـضِـمُ مَـــا قَــدْ يَـبِـسَا

*

تَــارِكًــا لِــلْـقَـارِئِ الْآتِــــي غَــــدًا

أَنْ يُـسَـمِّـيَ مَـــا رَأَى أَوْ حَـدَسَـا

*

إِنَّـــهُ الْــوَعْـيُ: الـشَّـظَايَا، كُـلَّـمَا

لَـمْـلَـمَ الْـقَـلْـبُ شَـتَـاتًا، ضُـرِّسَـا

*

نَـحْـنُ مَـنْ عَـلَّمَ هَـذَا الـصَّمْتَ أَنْ

يَـلْـبَسَ الْأَصْــوَاتَ كَـيْ لَا يُـبْخَسَا

*

وَجُــنُــودُ الْــفِـكْـرِ صَــــارُوا تَــبَـعًـا

لِــلَّـذِي خَـــانَ الْــوَرَى وَاخْـتَـلَسَا

*

قُــمْ وَشَـاهِـدْ مَـوْكِبَ الْأَطْـيَافِ إِذْ

مِـنْ ضِـيَاءِ الـشَّمْسِ يَـوْمًا أَفْـلَسَا

*

كُــــلُّ قَــلْــبٍ صَــــارَ فِــيـهِ كُـــوَّةٌ

أَصْــبَــحَ الْـعَـالَـمُ فِـيـهَـا مُـبْـلِـسَا

*

قَــدْ مَـضَـى عَـهْـدٌ، وَجِـئْـنَا بَـعْـدَهُ

أَثْــقَــلَ الْـكَـاهِـلَ مِــمَّـا أَوْجَــسَـا

*

وَأَتَـــــى فَـــجْــرٌ رَمَــــادِيٌّ، بِــــهِ

وَسَـوَّسَ الشَّيْطَانُ مَا قَدْ وَسْوَسَا

*

هَــــذِهِ الْأَبْــيَــاتُ ظِــــلٌّ شَــــارِدٌ

يَـرْتَـجِـي فِــي صَـمْـتِهِ مُـلْـتَمَسَا

*

فَـاطْمَئِنْ يَـا شَـكٌّ، وَارْسُـمْ خُطْوَةً

لَـــنْ تَـــرَى وَجْــهًـا بَـرِيـئًا يَـائِـسًا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أثرٌ يمرُّ بي.

وَجهٌ

ينظرُ مِنَ الورقِ.

صوتٌ

لا يُسمعُ، لكنّهُ يَنفُذ.

كلَّما انطفأتُ،

زهرةُ نارٍ

داخلي تضحك...

***

أنا طفل الوقتِ

أحاول إيقافه

أدوس على أسمال

ذاكرتي

ألقي ببصري بعيدا

وقبل أن

ينفدَ الشغفُ

أتبعثرُ

وأجمعني

حين يفهمُني الغبارُ

***

مُسَطّحَةٌ أحلامي

والوقتُ مُدَوَّرٌ

كيفَ سأفرشُ

مدادَ أخيِلَتِي ؟!

سَجّادةُ الوقتِ

فُسيفساءُ ألوانٍ

ولَونُيَ الأبيضُ

لن أكونَ مُحايدًا

إذن .!

***

لا أحدَ ...

أدخل ...

تتكوّر النافذةُ.

البيتُ: رمادُ صوت.

الغيومُ

تمحو ما لم يُكتب.

شمعةٌ

ترتجفُ من نظرتي.

البعيدُ

يسكنُ المقعدَ المقابلَ.

***

الحظُّ:

جِرْسٌ في بيتٍ مهجور.

الأصدقاءُ؟

خطأٌ إملائيّ

في رسالةٍ محترقة.

أنا؟!

صدًى لأحدٍ

لم يأتِ.

***

مسطّحٌ

مثل ارتباكٍ أولٍ بينَ بُعدين،

لا اسمَ لما يطفو،

ولا ضفافَ للانتظار.

الزمنُ ...

خدشٌ على قشرة اللا مكان،

يدورُ،

يعلمُ

أن الخطأَ كانَ أول النُطق.

***

المداد؟

هُلامُ هاجسٍ

ينفرُ من اللغة،

يسيلُ على فراغٍ

مُصابٍ بالوعي.

والخَطُّ؟

فكرةٌ تهربُ من نفسِها.

***

السجادةُ

بُقعةُ صمتٍ ملوّنة،

كلُّ خيطٍ فيها

ذاكرةٌ رفضتْ

أن تولد.

***

الأنا ...

بياضٌ يفقدُ توازنَهُ

كلّما نادى عليهِ اللونُ الآخر.

لم أعد محايدًا

إذن

سأكون

أثرًا في ذاكرة البياض.

***

د. إبراهيم مصطفى الحمد

العراق تموز 2025

لن أجد ما يوازي حبكِ

الاّ أن استعير من المحال وصفكِ

كان قد بدأ الحب هكذا

ضوءٌ رسا على رصيف قلب مهجور.

*

في كلِّ مرة

أمدّ يدي لحلم بلّله اليقين

وانتِ تتكئين على بؤرة العواصف

تكتبين عطشكِ في زاويا الأمنيات

تحرسين نشوتكِ الاّ تغفو

فأغفو ..

وفي رأسي منكِ تدور رائحة المسك

*

أردّد "صباح الخير"

واذا بك عارية تضحكين

ترجمين المستحيلات برمشة عين

وحين يتأخر الليل، تحت ثراء البرق والرعد

يفيض حرفي الأول

معلّقا على ثوبك القصير

*

شجرة، تكاد بين أرضين

تسقط مغشيا عليها

تنفرط سعفاتها

ويخذلها قلبها عن واجبه العادي

*

لا مصبّ لهذا النهر التائه

لا فيضان في ساقه يفجع القلوب اليتيمة

لا فانوس يسرق منها الأحلام

ويهرب بوجنتين حمراوين.

*

أنا التالي

في ريشة خيالكِ حين طعنتْ الفصول بالأصفر.

وجع الطريق

جرح الاقحوان

يوم قصدَ السنونو سطوح ذكرياتٍ

فرّتْ من سمائها الأقاويل

وتركتْ ممراتنا الطويلة يابسة.

*

لئلاّ يلومني ظلّي،

حين رآني أتبعكِ، وأنتِ تهشّين الحاضر والماضي

بياقوت الكلام....

انصرفُ.

*

أبحث عن عونٍ

عمّن له حجة اكثر بياضا من سؤالي

لكنها ارتحلتْ كتابوت.

***

زياد كامل السامرائي

 

عانقيني

احمليني

لم أزل طفلاً صغير

فأنا في الدّرب أعمى

لم أطق وحدي أسير

أنتِ يا أنثاي ظلّي

وعصا الشيخ الضّرير

في ظلام اللّيل أمشي

ونهاراتي كسير

لا أرى إلّا أراكِ

بين بستاني الكبير

فالفراشاتُ تهامت

فوق ما فيكِ نضير

أنتِ يا أنثاي أنتِ

ملمسُ الحسّ الحرير

وأنا الشيب كساني

رهن إحساسي المرير

فأنا مازلت أنّي

لفّني هذا المصير

بينما أنتِ بقيتِ

نورساً حلواً يطير

فوق ذي الأمواج يزهو

بارتياحٍ للأخير

فمتى تحنين يوماً

نحو ذا العبد الفقير!؟

بعدما ظلّ يعاني

من متاهات الهجير

يمشي في الصّحراء ظهراً

مثلما يمشي البعير

وإذا اللّيلُ تراخى

إعتلى منه الشّخير

بينما أنتِ غفوتِ

بين أنغام الخرير

تشربين الماء عذباً

والوصيفات تدير

أكؤس الخمر المنقّى

وأنا قوتي الشّعير

مرغَماً بالعيش وحدي

بين قطعان الحمير!!

***

رعد الدخيلي

 

كَمْ بَقْعَةٍ لِلْعِشْقِ تَلْعَبُ فِيَّ أَرُوقَةَ الزَّمَنِ

حَتَّى بَزَغْت كَرُدَهَةٍ

خَلَعْتُ رِدَاءَ العَيْنِ ثُمَّ

تَنَاهَبَتْ ذَاتِي

فَخَرَجْتُ مِنْكَ إِلَيْكَ

فَاخْرُجْ مِنْ جَوَارِحِكَ الَّتِي

عَبَرَ النِّدَاءُ بِسَقْسَقَاتِ الحُلْمِ مَوْجَ نَزِيفِهَا حَيْثُ مَلَكْتُهَا

هَذِهِ رُوحِي كِتَابٌ عَاثِرُ الصَّفَحَاتِ

فِي جِهَةِ الْيَمِينِ

وَكَانَ قَلْبُكَ يَرْعَشُ الْوَجْدَ

الْمُحَلَّى فِي عَرَائِشِ غُرْبَتِي الْقُصْوَى

وَوَهَجُ تَوَحُّدِي جِهَةَ الْيَسَارِ

وَمِيَاهُ عِشْقِكَ بَيْنَ أَوْرِدَتِي

تَسِيرُ عَلَى ارْتِعَاشِ النَّبْضِ فِيكَ

فَاذْهَبْ لِقَلْبِكَ مُسْرِعاً

وَتَحَسَّسِ الْوَشْمَ الَّذِي تَرَكَتْهُ آثَامِي عَلَيْهِ

نَادِنِي مِنْهُ إِلَيْهِ

تَرُدُّ النَّارُ صَامِتَةً

وَتَمْلَأُ جَرْتَيْنِ مِنَ الْعَسَلِ

وَاسْكُرْ صَلَاةً كُنْتُ أُخْفِيهَا بِخَمْرِ التَّمْتُمَاتِ

شَفَاهَ هَمْسٍ

فِيكَ تَذَرِينِي وَتَجْمَعُنِي

نِثَارَ الرَّغْبَةِ الْأُولَى

فَهَلْ تَسْتَطِيعُ حَمْلَ أَنُوثَتِي؟

هَلْ أَثْقَلَتْكَ مَشَاعِرِي؟

وَرَضِيتَ أَنْ تُلْقِيَ بِصَخْرِ تَلَهُّفِي

فَارْحَلْ وَخُذْ أَنْفَاسَكَ الْمُتَكَوِّمَاتِ عَلَى فَمِي

كُنْ رَاحِلاً بِي

بِصَبَوَةِ خَافِقِي

بِصَلِيلِ أَوْهَامِي

بِآيَاتِ الْعُرُوجِ إِلَى سَكَنٍ

لِقَاعِ النَّشْوَةِ الْأُخْرَى

وَثَبِّتِ الرِّيحَ فِي عُنْتِ الْوَهْنِ

إِذْ لَيْسَ تَعْلُونِي طَواحِينُ الْهَوَاءِ وَلَا وَثَنٌ

غَيْرَ امْتِشَاقِ النَّايِ مِنْ سَفَرِ الزَّمَنِ

إِنِّي هُنَا امْرَأَةٌ مِنَ الْجُورِيِّ

تَفْتَحُ طَاقَةَ الْمَعْنَى

لِكُلِّ الْعِطْرِ

فَاخْرُجْ مِنْ أَنَايَ فَرَاشَةً

ثُمَّ احْتَضِنْنِي وَاسْتَرِيحْ

***

مرشدة جاويش

 

كَانَ الْمَسَاءُ رَمَادِيًا، وَالْقِطَارُ يَسْتَعِدُّ لِلْمُغَادَرَةِ. جَلَسَتْ فَتَاةٌ قُرْبَ النَّافِذَةِ، تَحُدِّقُ فِي الْفَرَاغِ كَأَنَّهَا تَهْرُبُ مِنَ الْعَالَمِ. بَيْنَ يَدَيْهَا كِتَابٌ مَفْتُوحٌ، لَكِنَّ عَيْنَيْهَا لَمْ تَلْمِسِ السُّطُورَ.

قَبْلَ إِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ بِلَحْظَةٍ، دَخَلَ رَجُلٌ يَلْهَثُ، حَقِيبَتُهُ تَضْرِبُ رُكْبَتَيْهِ، يَبْحَثُ بِنَظَرَاتٍ سَرِيعَةٍ عَنْ مَكَانٍ. لَمْ يَتَبَقَّ سِوَى مَقْعَدٍ وَاحِدٍ... بِجِوَارِهَا.

جَلَسَ وَقَالَ، كَمَنْ يُحَاوِلُ تَبْرِيرَ تَأَخُّرِهِ: "كَادَ الْقِطَارُ يَسْبِقُنِي، كَعَادَتِي فِي كُلِّ شَيْءٍ."

ابْتَسَمَتْ مُجَامَلَةً، لَكِنَّهُ تَابَعَ وَهُوَ يُلَمِّحُ عُنْوَانَ الْكِتَابِ: "قَرَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يُنْقِذْنِي مَرَّةً وَاحِدَةً."

نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِدَهْشَةٍ. ضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: "رُبَّمَا كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ نِهَايَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ."

هَكَذَا بَدَأَ الْحَدِيثُ... بَسِيطًا، غَرِيبًا، لَكِنَّهُ مَأْلُوفًا. تَحَدَّثَا عَنِ الْكُتُبِ، عَنِ الْمُدُنِ، عَنِ الْوَحْدَةِ، عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُقَالُ عَادَةً فِي أَوَّلِ لِقَاءٍ.

عِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى مَحَطَّتِهِ، نَهَضَ وَهُوَ يَضَعُ الْحَقِيبَةَ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ: "أَنَا أُدْعَى مَالِكٌ... وَسَأَكُونُ فِي هَذَا الْقِطَارِ غَدًا فِي نَفْسِ الْوَقْتِ. إِنْ مَرَرْتِ مِنْ هُنَا مُجَدَّدًا." وَغَادَرَ.

بَقِيَتِ الْفَتَاةُ تَحُدِّقُ فِي الْمَقْعَدِ الشَّاغِرِ بِجِوَارِهَا، وَكَأَنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنْهَا. لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَعْدُ إِنْ كَانَتْ سَتَعُودُ غَدًا، لَكِنَّهَا أَدْرَكَتْ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنَّ مُصَادَفَةً وَاحِدَةً قَدْ تَظَلُّ عَالِقَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَالذَّاكِرَةِ إِلَى الْأَبَدِ.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَتِ السَّمَاءُ تُمْطِرُ بِخِفَّةٍ، وَقَطَرَاتُهَا تَرْسُمُ خُطُوطًا بَاهِتَةً عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةِ الْقِطَارِ. جَلَسَتِ الْفَتَاةُ فِي ذَاتِ الْمَقْعَدِ، وَيَدَاهَا مُشْتَبِكَتَانِ فِي حَجْرِهَا، وَقَلْبُهَا يَخْفِقُ بِإِيقَاعٍ لَا يُشْبِهُ الْمَطَرَ. لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ لِمَاذَا عَادَتْ. رُبَّمَا لِتَتَأَكَّدَ أَنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ، أَوْ لَعَلَّهَا خَافَتْ أَنْ يَأْتِيَ وَلَا تَكُونَ هُنَاكَ.

ثَوَانٍ تَمُرُّ كَأَنَّهَا سَاعَاتٌ... الْقِطَارُ يَسْتَعِدُّ لِلْمُغَادَرَةِ. لَا أَحَدَ دَخَلَ.

بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ (أَحْم)...

الْتَفَتَتِ الْفَتَاةُ فَجْأَةً، وَهَا هُوَ وَاقِفًا بِنَفْسِ حَقِيبَتِهِ، وَبِنَفْسِ ابْتِسَامَتِهِ الْمَائِلَةِ. "كَادَ الْقِطَارُ يَسْبِقُنِي مُجَدَّدًا."

ضَحِكَتْ - لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهَا، بِلَا حَذَرٍ. جَلَسَ بِصَمْتٍ، ثُمَّ قَالَ: "كُنْتُ خَائِفًا أَنَّكِ لَنْ تَعُودِي."

قَالَتْ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى النَّافِذَةِ: "وَأَنَا كُنْتُ خَائِفَةً أَنَّنِي سَأَعُودُ."

سَادَ صَمْتٌ خَفِيفٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِجًا... بَلْ سَعِيدًا، كَأَنَّ الْكَلِمَاتِ بِحَاجَةٍ لِفَرَاغٍ كَيْ تَسْتَقِرَّ.

ثُمَّ سَأَلَهَا فَجْأَةً: "هَلْ تُؤْمِنِينَ أَنَّ الْغُرَبَاءَ يُمْكِنُ أَنْ يُصْبِحُوا مَحَطَّاتٍ فِي حَيَاتِنَا... أَوْ رُبَّمَا مَصِيرًا؟"

نَظَرَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ إِلَى الْمَقْعَدِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا. "لَا أَعْرِفُ... لَكِنَّنِي أُؤْمِنُ أَنَّ بَعْضَ اللِّقَاءَاتِ لَا تَحْدُثُ عَبَثًا."

كَانَ الْقِطَارُ يَمْضِي بِهِمَا شَمَالًا، وَالْوَقْتُ يَمُرُّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا. لَمْ يَسْأَلَا عَنِ الْمَاضِي. لَمْ يُخَطِّطَا لِلْغَدِ. كُلُّ مَا بَيْنَهُمَا هُوَ هَذِهِ اللَّحْظَةُ، وَهَذَا الْمَقْعَدُ... وَشَيْءٌ يُشْبِهُ الِاحْتِمَالَ.

***

شادي مجلي سكر

 

فصل من رواية: خلعُ خاتَم الطائفية

الفصل الأول: عفراء في مهبّ الطائفية

لم تكن الشتيمة التي ارتطمت بأذن عفراء سوى كلمة عابرة في ظاهرها، لفظة يومية ممجوجة اعتادت أن تُلقى في وجهها بلا اكتراث، غير أنّها في تلك اللحظة لم تكن مجرّد صدى باهت، بل الشرارة الأولى التي أشعلت نارًا هوجاء ستأتي على ما تبقّى من حياتها. أحسّت كأنّ الكلمة، برغم صغرها، قد شقت جدار صمت طويل، فارتجّ قلبها قبل أن ترتجّ الجدران.

فجأة، اهتزّ البيت القديم بانفجار الباب، كأنّ عاصفة من الجحيم هبطت لتقتلع سكينته. ارتطم الخشب المهترئ بجدار الصالة ارتطام قنبلة، فتردّد الصوت في أرجاء الدار كهدير موت يقترب. وما هي إلا لحظات حتى اندفع إخوة زوجها إلى الداخل، وجوههم الداكنة عابسة كالأقنعة الغاضبة، عيونهم تلتمع بلمعانٍ راعد لا يشبه عيون البشر، بل يشبه لهبًا متقدًا بالثأر. كان المشهد أشبه بقطعان ذئاب جائعة وجدت فريستها أخيرًا.

ارتجفت ركبتاها، لكنها تماسكت بحدس غريزي، تحاول أن تفهم، أن تلتقط من وجوههم جملة تفسّر هذا الجنون، غير أنّ الكلمات تأخرت، والأيدي سبقتها بعنف صاعق. انهمرت اللطمات والركلات على وجهها كالمطر الأسود، وانغرست قبضاتهم في جسدها الضعيف، بينما كانت صغيرتاها تصرخان في هلعٍ يضاعف عجزها. تحوّلت اللحظة إلى دوامة من الألم والضجيج، والبيت إلى ساحة حرب بلا رحمة.

كانت صيحاتهم تنفجر في الهواء كالرعود:

ـــ "أهلك قتلو اخونا، زوجك!"

انكمشت الأرض تحت قدميها، كأنها لم تعد أرضًا بل هاوية تسقط فيها بلا قاع. لم تعد الوجوه وجوهًا، بل جمراً متقدًا بالكراهية. لم تعد الكلمات كلمات، بل خناجر تطعن روحها قبل جسدها. شعرت بالهواء يضيق في صدرها، مزيجًا من عرق الغضب وأنفاس الغيظ ورائحة الدم التي تسللت من أنفها إلى شفتها الممزقة. صار المكان خانقًا، كقبر حي، يُدفن فيه صراخها مع كل نفس.

لم تجد ما تفعله سوى أن تضمّ طفلتيها المذهولتين والباكيتين بذراعين مرتجفتين، تحاول أن تشكّل بجسدها الهزيل درعًا واهنًا، تعرف أنه سيتحطم أمام أول ركلة، لكنها لم تجد غيره سبيلًا لتأجيل موتهما. كل صفعة كانت تسقط على وجهها، كانت تظن أنها ستصل إلى وجهيهما، فتشدّهما إليها أكثر، وكأنها تتوسد بهما لتستمدّ من براءتهما القليل من الصمود.

كانتا تحدّقان بعينين غارقتين في الذهول، كأن العالم انحصر أمامهما في وجه أمّ تُجلَد بلا رحمة. ارتجفت أصابعهما الصغيرة وهما تتشبّثان بثوبها الممزق، تبحثان في حضنها المرتعش عن مأوى من طوفانٍ لا يُدركان معناه، سوى أنه يهدّد كيانَهما الصغير بالانهيار.

كل صفعةٍ سقطت على وجهها، كان صداها يرتطم بقلبيهما، فيرتعشان كأن الألم انتقل إليهما خفيًّا. لم تفهما لماذا تُهان أمّهما، ولا كيف يتحوّل البيت إلى ساحة عذاب، لكنّهما شعرتا أن الكون كله قد انقلب إلى سوطٍ يجلد أضعف ما فيه: امهما، تلك المرأة التي طالما ضمّتهما برفقٍ وحمت أحلامهما من الكوابيس.

كانت دموعهما تختلط بدموعها، حتى صار البكاء واحدًا، وجسد الأم وذراعاها المرتجفتان غدتا آخر قلاع الحماية. كانت تُطوّق جسديهما بذراعين كالهشيم، تضعهما بين صدرها وجدار الضربات، وكأنها تفتديهما بكلّ ما تبقّى من جسدها المنهك. وفي عيونهما الصغيرتين ارتسمت صورةٌ ستظل محفورة للأبد: أمٌ تتكسّر أمامهما، ومع ذلك تحاول أن تبقى جبلًا.

وفي خضم العاصفة، تسللت إلى وعيها الحقيقة القاسية: لقد قُتل زوجها، ليس لأنه اقترف ذنبًا، بل لأنه رفض أن يُذعن لأوامر الطائفتين، رفض أن يطلّقها هي، "السنيّة"، ليصون دمه "الشيعي". دفع ثمن رفضه بطعنة غادرة في دكانه، والآن جاء دورها لتكون قربانًا جديدًا يُقدَّم على مذبح الطائفية العمياء.

كانوا يريدون غسل دمه بدمها، تحويلها إلى شاهدٍ إضافي على أسطورة الثأر، إلى ذريعة جديدة تديم دورة الانتقام، كأنها ليست إنسانة من لحم ودم، بل مجرّد رمزٍ تُقاد إلى الذبح. شعرت أن الجحيم قد فُتح على مصراعيه فوق رأسها ورأس طفلتيها، وأن لا منفذ للخلاص.

لكن مأساة عفراء لم تتوقف عند هذا الحدّ. ففي الوقت الذي كانت فيه صرخاتهم تمجّد زوجها المقتول "شهيدًا كما يدعون"، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها قسوته هو نفسه عليها. كان شريكًا في كسرها، يغضّ الطرف عن إهانات اهله، بل يشاركهم في تجريحها وسحق كرامتها، يتلذذ بضعفها ليشعر برجولته الواهنة. لم يكن في موته خلاص لها، كما لم يكن في حياته سند. رحيله لم يحررها، بل دفعها من سجنٍ مألوف إلى جحيمٍ أعمق.

تذكّرت لياليها القاسية معه، حين كان يتركها تبكي وحدها بينما يغطّ في نوم ثقيل. تذكّرت كيف كانت أصوات إخوة زوجها تعلو في البيت، يتدخلون في كل تفاصيل حياتها، يصرخون في وجهها لأتفه الأسباب، ويضربونها بحضوره، فلا يجد في نفسه غضاضة أن يشيح بوجهه، بل ربما ابتسم في سرّه لأنه رأى فيها عبرة تذكّرها بمكانتها الدونية.

الآن، وهم يهجمون عليها كالوحوش، كانت تشعر أن الموت يحيطها من كل جانب: موت جسدها الذي يتلقّى الضربات، وموت روحها التي عاشت مديدة في قفص الإهانات، وموت أملها الأخير في مستقبل آمن لطفلتيها.

 أي مستقبل يمكن أن يولد في بيت تحكمه الكراهية، وفي دولة تنخرها العشائرية والطائفية حتى العظم؟

بين ارتطام الأجساد وصراخ الأطفال، لمحت وجه ابنتها الكبرى، وقد تجمّد فيه الرعب. نظراتها الواسعة البريئة كانت كمرآة تعكس لها حجم الكارثة: ماذا سيبقى من طفولة هذه الصغيرة حين ترى أمها تُسحق أمام عينيها؟ أي ندبة ستخلفها هذه اللحظة في قلبها الصغير؟ وأي ضوء يمكن أن ينقذها من ليلٍ كهذا؟

تمنّت عفراء لو أن الزمن يتوقف، لو أن الباب لم يُفتح، لو أنّ الحياة منحتها فرصة واحدة لتصرخ في وجوههم:

"أنا لست عدوّتكم، أنا أمّ تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم".

لكن صوتها كان محبوسًا في صدرها، يختنق تحت وطأة الركلات والشتائم.

كل شيء في المكان تآمر عليها: الجدران الصامتة، الأثاث المهتزّ، حتى المصباح المعلّق في السقف كان يتأرجح مثل مشنقة تُعدّ لها.

 شعرت أنها غريبة في بيتها، مُجرّدة من كل حق، مُحاصرة بين ماضٍ لم يرحمها وحاضر يلتهمها ومستقبل مسدود لا يَعِد سوى بالهاوية.

وبينما كانت تُضرَب وتُهان، راودها خاطر مرّ كالسكين: ربما كانت مجرد رقم في سجل طويل من الضحايا، لا أحد سيذكرها سوى طفلتيها، ولا أحد سيبكيها في غدٍ ملطخ بالدم. وراودها شعور أكثر مرارة: أنّها لم تمت بعد، لكنها في نظرهم قد ماتت بالفعل؛ ماتت كإنسانة، ولم تبقَ سوى جسدٍ يُنهش ليُشبع عطش الطائفة للانتقام.

ارتفعت صرخات بناتها أكثر، فارتجف قلبها. تلك الصرخات لم تكن مجرد بكاء طفلتين، بل نداء استغاثة للعالم بأسره، علّه يسمع ويرى. لكن العالم كان أبكم أصمّ، كما كان دومًا.

هكذا وجدت عفراء نفسها في مهبّ الطائفية، امرأة ضعيفة بلا سند، يطحنها واقعٌ جائر لا يعرف الرحمة. لم تكن تدرك إلى أين ستمضي الأحداث، لكنها أيقنت أن حياتها انكسرت عند تلك اللحظة، وأنها، منذ الآن، لن تكون سوى ظلّ امرأة، شبحًا يلاحقه وجعٌ لا ينتهي.

عفراء... طفلة الأمس، بسمرتها الجنوبية المضيئة كدفء شمس الفجر على بساتين نخيل دجلة، وبعيونها السوداء الواسعة التي كانت تلمع ببراءة ومرح، كأنها نوافذ صغيرة على الفرح. لم يُتح لها أن تُكمل مقاعد ابتدائيتها، حتى تقدّم لخطبتها رجل من طائفة أخرى. لم يتوقف أهلها طويلًا عند حدود المذهب، فقد طغت سطوة المال على يقينهم، ورأوا في يسرِه صفقة العمر. وهكذا دفعوا بابنتهم الغضة إلى يديه كما تُدفع أمانة إلى غريب، غافلين عن أنهم سلّموها إلى قدرٍ معتمٍ لا يرحم.

 ومنذ تلك اللحظة، انزلقت حياتها إلى أرض رخوة، حُفرت فيها أخاديد الطائفية بالحقد والعداوة، وصار جسدها الندي وروحها البريئة ساحةً لتصفية ثاراتٍ قديمة بين الدم والدم.

 الليل كان قد بدأ يسدل ستائره الثقيلة حين خبت العاصفة الأولى. جلست عفراء في زاوية غرفتها، وطفلتها الصغرى نائمة على حجرها، بينما الكبرى تحدّق في العتمة بعينين واسعتين، خائفتين كمن شهد نهاية العالم. كان صمت الليل يقطعه صدى بعيد لرصاصٍ يتردّد في أزقة المدينة. كل شيء في الخارج يذكّر بالموت، حتى نباح الكلاب بدا كتحذيرٍ من غول يتربّص خلف الظلام.

انطفأت مصابيح الشارع، وبقي نور القمر يتسرّب عبر الشقوق، يسقط على الجدران الرطبة فيرسم أشكالًا مخيفة. أحسّت أنّ البيت كله صار مسرحًا للرعب، وأنّ كل زاوية فيه تحمل خنجرًا مخبوءًا أو عينًا تترصّدها. رائحة الدم لم تفارق المكان، مختلطةً برائحة الدخان والعرق، حتى صارت جزءًا من أنفاسها.

الآن، وقد صارت أرملة بين ليلة وضحاها، لم تجد حولها سوى صغيرتيها اللتين التصقتا بها كغريقتين تبحثان عن قشة نجاة. كان بكاؤهما المكتوم يدوّي في أعماقها كصدى سؤال مرير: "من يحميكِ ويحميـنا؟" لم تجد جوابًا سوى دمعة ساخنة انسابت على وجنتيها، تكثّفت فيها كل وحشتها. أدركت أنّها وحدها تمامًا، تواجه عاصفةً أكبر من قدرتها، وأنّ لا سند لها غير صبرٍ يذوي ودمعٍ يتدفّق.

ومنذ تلك اللحظة، دخلت حياة جديدة، أشبه ما تكون بقبر مفتوح. أُغلقت الأبواب عليها، ومُنع عنها الضوء، حتى زيارات أمّها وأخوتها حُرمت منها. لم تعد ترى أحدًا، ولا يُسمح لها بالخروج إلى السوق أو إلى جيرانها. أرادوا لها أن تتعفّن حيّة في زوايا الدار مع طفلتيها، كأنها جثة تنتظر ساعة دفنها.

 ولم يكتفوا بذلك، بل خطّطوا لمصير أشدّ قسوة: تزويجها إلى شقيق زوجها القتيل بعد انقضاء عدّتها الشرعية، لا حبًا ولا رأفة، بل انتقامًا وتشفيًا. أرادوا أن يحوّلوها إلى أسيرة جديدة في بيت أشدّ قسوة، إذ كان ذلك الأخ أحقدهم عليها وأقساهم قلبًا. لا تنسى كلماته حين قال لها وبكل ما تحمله عجرفته الوقحة:

 ـــ "سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري"

هكذا، صارت عبدةً مقيّدة، مسلوبة الإرادة، يُراد لها أن تقضي ما تبقّى من عمرها في خدمة جلاديها. شعرت بالدنيا تدور بها، سوادًا كثيفَا يغمرها، دموعها تفيض حتى كادت أن تذيب جفونها، وصوت داخلي يلحّ عليها بسؤالٍ لا ينطفئ: "كيف الخلاص؟"

كانت الأخبار تتسرّب إليها خلسةً كهمسٍ بعيد، تحمل معها وجعًا آخر أثقل من طاقتها: أهلها لم يكونوا في منأى عن التهديدات التي تلاحقهم ليل نهار. لم ينجُ أحد من لعنة الدم التي صارت تطاردهم أينما حلّوا، كأنهم شركاء في جريمة لم يعرفوا عنها سوى وقعها على ابنتهم. حاولوا جاهدين أن يثبتوا براءتهم من التهمة التي طالتهم ظلمًا، يطرقون الأبواب، يستجدون العدالة، يرفعون أصواتهم أمام كل من يُصغي، لكنّ الحقيقة ضاعت بين جلجلة الثأر وصمت الخوف، فظلّت صرخاتهم معلّقة في الفراغ، بلا صدى.

ولمّا ضاق بهم الوطن، عزَموا على الرحيل، تاركين العراق كلّه خلف ظهورهم، يلوذون بالمنفى هربًا من سطوة الدم المهدور. أرادوا أن يأخذوها معهم، أن ينقذوا ابنتهم من المصير الأسود، لكنّ أخ الزوج سدّ الطريق، وتصدّى بوجهٍ متجبّر كأنه قاضٍ ينطق بحكم القدر. اعتبر نفسه الوريث الشرعي لأخيه في كل شيء، حتى في زوجته وطفلتيها، ففرض سطوته عليها كما يُفرض الليل على نهارٍ أعيا.

كانت هي تسمع عن مآسي أهلها من بعيد، فتشعر أنهم يواجهون مأساتها بوجه آخر، كل منهم يقتطع من قلبه ليحفظ كرامته ويثبت براءته، بينما هي تُساق إلى مصيرها كجارية مسلوبة الإرادة. أيُّ عجزٍ هذا الذي جعلها تتجرّع ألمها وحدها، وأيُّ ظلمٍ ذاك الذي طعن أهلها مرتين: مرة حين خسروا ابنتهم حيّة، ومرة حين وُسموا بعارٍ لم يرتكبونه؟

هكذا غدت مأساة عفراء مأساة مضاعفة، لا تخصّها وحدها، بل انسكبت ظلالها الثقيلة على أهلها جميعًا؛ كلهم عالقون في دائرة ظلم واحدة، وكلهم ينزفون بلا عدالة، فيما القدر يسخر منهم جميعًا.

عندها راحت تسأل نفسها بأسى يائس: أية حفرة مظلمة وقعتُ فيها؟ أي مستقبل ينتظر ابنتَيها؟ أسئلة كالسياط تتناوب على رأسها، تحرق روحها ليلًا ونهارًا.

 كلما خطرت ببالها فكرة الانتحار كمهرب، ارتسمت ملامح طفلتيها أمامها، حاجزًا يمنعها من الفناء. أي يدٍ ستمسح دموعهما إن رحلت؟ أي صدرٍ سيحتضنهما إن تركتهما؟

ظلّت معلّقة بين هاوية الانتحار وظلمة المصير الذي يُحاك لها، تتقلّب بين العجز والرعب، تبحث عن بصيص نورٍ في نفقٍ لا نهاية له. كانت تدرك أنّها ليست سوى ضحية صغيرة في حرب طائفية كبرى، وأنّ حياتها الممزقة ما هي إلا مرآة لعنفٍ أعمى يحكم البلاد.

عفراء... امرأةٌ ضعيفة لم تختر قدرها، ولم تجد من ينصفها، محكومة بقوانين لا ترحم، وبأعراف لا تعرف غير الثأر. كل ما بقي لها أن تتشبّث بطفلتيها، لعلّ حنانهما يمدّها بجرعة حياة، أو يهبها شجاعةً لمقاومة ليلٍ طويل، ليلٍ قد يطول حتى يتماهى مع الأبد.

الفصل الثاني: خيط في العتمة

في وطنٍ انكسرت فيه موازين العدل، وغابت فيه سلطة القانون لتعلو مكانها أعراف العشائر وأحكام الطوائف، وجدت عفراء نفسها عارية من كل حماية، لا سلاح لها سوى الصمت والدموع. الليل عندها كان أثقل من أعمار الدهر كله، يمتد كأبدٍ موحش، والنهار يتحول إلى ساحة حصار لا مخرج منها ولا ملاذ.

ومع ذلك، تسلّل إليها خيط أملٍ واهن، كوميض شمعة في عاصفة، عبر يدٍ صديقة قديمة ترتبط بقرابةٍ بعيدة لعائلة زوجها، ما سمح لها بطرق باب عزلتها دون ريبة. تلك اليد خبّأت لها سرًا ثمينًا: هاتفًا صغيرًا كان أهل عفراء قد تركوه أمانةً عندها قبل أن يغادروا العراق، علّه يكون جسرًا يوصلهم بابنتهم الأسيرة خلف جدران الخوف.

أخفت عفراء الهاتف كما تُخفى الروح بين ركام التأني، تغلّفه برعشة قلبها كلما لمسته، وكأنها تمسك بطوق نجاةٍ معلّق بمعجزةٍ مؤجّلة، تنتظر أن يفتح لها فجوة في جدار عزلتها، ويعيد إليها صوت الحياة.

ذات مساء، عادت بها الذاكرة إلى جارتهم القديمة، أم أحمد، المرأة الجريئة التي نجحت في إخراج أبنائها من العراق قبل أعوام. تساءلت عفراء: هل يمكن ليد تلك الجارة أن تمدّ إليها الآن خيط نجاة؟

انتظرت عودة صديقتها في زيارة جديدة إلى بيت أهل الزوج، وما إن سنحت الفرصة حتى توسّلت إليها أن تحصل لها على رقم هاتف أم أحمد، متذرعةً بأنّها امرأة وحيدة ومريضة بالسرطان وتحتاج للاطمئنان على أحوالها.

وبالفعل، نالت ما أرادت.

وحين أرخى الليل سدوله الثقيلة وغرق البيت في صمتٍ خانق، بدت الجدران وكأنها تنصت لأنفاس ساكنيها. كانت عفراء في غرفتها، تبحث عن ركن قصيّ بعيد عن سرير طفلتيها الغافيتين، كأنها تهرب من ضجيج العالم إلى عزلتها الخاصة. تأكدت من أن الباب قد أُغلق بإحكام، ثم التحفت البطانيات الثقيلة تغطي رأسها وجسدها، لا اتقاءً للبرد، بل خشية أن يتسرب صوتها المتهدّج إلى من يجاورها. كانت أشبه براهبة في صومعة معزولة، تحتمي بالصمت والظلام كي تُخفي ضعفها عن الأعين.

مدّت يدها المرتجفة نحو الهاتف، كأنها تستنجد بحبل نجاة أخير. ارتجف الجهاز بين أصابعها المرتعشة، قبل أن تفتح خطاً إلى الخارج، إلى ما وراء جدران وحدتها الثقيلة. وما إن جاءها الصوت المنتظر حتى بدا وكأنه نسمة رقيقة تهب في قلب إعصار:

ــ عفراء… كيف أنتِ يا حبيبتي؟ لقد حزنا لمصابك، وأعلم تمامًا ما تعانينه، فما غادرتِ فكري ولا فكر أبنائي يوماً.

توقفت أنفاسها لحظة، إذ انسكبت عليها نبرة أم أحمد دفئاً وحناناً، كأنها ماء بارد يطفئ لهيباً داخلياً أو كفّ رحيمة تمتد لتمسح دمعة خفية. في تلك الكلمات البسيطة، شعرت عفراء أن جدار وحدتها قد تصدّع، وأن الصمت الذي كان يطبق على روحها قد انفرج ليمنحها متنفساً.

لم تستطع عفراء أن تجيب؛ بكت بصمت، وخنقها نشيجها حتى عجز لسانها عن النطق. أدركت أم أحمد بحسّ الأم حجم ما يعتصر قلبها، فقالت مواسية:

ــ كل عقدة ولها حلّ يا ابنتي، فلا تيأسي. أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما يختلج روحك.

جاء صوت عفراء مبحوحًا متقطعًا كأنّه يتكسّر بين الضلوع:

ــ خلصيني يا خالة… إنّي أموت كل يوم ألف مرة.

التقطت أم أحمد المفهوم، وفهمت ما وراء الكلمات، فأجابتها بحزمٍ حنون:

ــ لا تخشي شيئًا، سأتدبّر الأمر قريبًا وأكتب لك بالتفصيل، لكن إيّاكِ أن تتساهلي في الحذر.

لأول مرة منذ زمن طويل، أحسّت عفراء بأنّ صدرها يتنفّس بحرية.

ضمّت طفلتيها الصغيرتين، وغمرتهما بذراعيها، فيما قلبها يتهدّج بارتعاشة أمل، أمل خافت لكنه حقيقي، قد يكون مفتاح النجاة من ليلها الطويل.

منذ تلك المكالمة الليلية، تبدّل قلب عفراء. لم يعد ينبض كما كان من قبل، بل صار كوترٍ مشدودٍ بين الخوف والرجاء.

كان صوت أم أحمد في أذنها كأنشودةٍ بعيدة، لحنٌ هادئ وسط ضجيج العاصفة، يبعث شيئًا من الطمأنينة في قلبٍ أنهكه الرعب.

 كلماتها ــ "كل عقدة ولها حل" ــ ظلت تتردّد في روحها كترتيلةٍ صغيرة تعيدها إلى الحياة، وكأنها يدٌ خفيّة تمسح على جراح نازفة منذ زمن. كانت تلك الجملة وحدها كافية لتفتح كُوّة ضئيلة في جدار ليلها الطويل، كأنها تقول لها: لا بد أن للفجر موعدًا، مهما طال الليل.

بعد أيام، وصلت إليها رسالة قصيرة على هاتفها، كأنها شفرة نجاة.

 "علينا أن نتحرّك بحذر. لا تتعجّلي. سأمدّ لكِ خيطًا واحدًا كل مرة، حتى تخرجي من هذا القبر... اصبري."

قرأت عفراء الكلمات مرارًا حتى حفظتها، ثم خبأتها بين ثنايا قلبها، كأنها تعويذةٌ سحرية تحرسها من الانكسار. كان قلبها يتشبث بالحروف كما يتشبث الغريق بخشبةٍ في بحرٍ هائج.

بدأت ملامح الخطة تتضح شيئًا فشيئًا. طلبت أم أحمد منها أن تراقب البيت بدقة: مَن يزور، مَن يغادر، أوقات نوم العائلة، متى يخرجون إلى الأسواق، ومتى يسكن البيت تمامًا. عليها أن تحفظ كل ذلك عن ظهر قلب، فهذه التفاصيل الصغيرة هي مفاتيح الخلاص.

كانت الليالي تمرّ ثقيلة كالحديد. يجثم فوق صدرها خوفٌ لا يزول، يتناوب مع أملٍ هشّ كشمعةٍ في مهبّ الريح.

كانت كل مساء تجلس قرب ابنتيها النائمتين، تحدّق في وجهيهما الصغيرين، ثم تهمس في سرّها: "لن أترككما في هذا الجحيم ابدًا… سنخرج، مهما كان الثمن." وكانت الدموع تهرب من عينيها، فتبتل وسادة الطفلتين وهما لا تشعران.

وفي ليلةٍ بعيدة، انساب إليها صوت أم أحمد عبر الهاتف، خافتًا لكنه واضحٌ كإشارةٍ لا تخطئها الأذن:

ــ "استعدّي. الليلة الثالثة من الأسبوع القادم ستكون فرصتك. سيأتي رجل أثق به، سينتظرك عند الباب الخلفي ساعة السحر. لا تحملي شيئًا سوى الطفلتين واوراق السفر. أيّ تردّدٍ سيُضيّع كل شيء."

ارتجف قلبها كعصفورٍ في قفص ضيق. بين الخوف والرجاء وقفت حائرة: هل حقًا يمكنها أن تغادر؟ هل يُعقل أن تنجو من سطوة تلك العائلة، ومن أعين الجيران، ومن الجدران التي مثلت حولها سجنًا للطائفة والعار والقيود؟

الأيام التي تلت كانت أطول من عمرها. كانت تخطو في البيت مثل شبح، تحاول أن تخفي رجفة يديها وارتعاش عينيها، فلا يلحظ أحدٌ ما يضطرب في داخلها. كل صباح ينهشها القلق، وكل مساء يوقد فيها الأمل شرارةً صغيرة تكاد تخبو لكنها لا تنطفئ. كانت تحفظ خبر الهروب بين ضلوعها، وتخاطب به جدران غرفتها الصامتة، التي ابتلعت دموعها مثل قبرٍ بلا صدى.

وحين جاءت الليلة الموعودة، كان الليل ساكنًا على نحوٍ مريب، كأنه يتآمر معها أو عليها. السماء معلّقة فوق البيت مثل غطاءٍ من رماد، والريح تتسلّل عبر الشقوق نافخةً بردها في أركان الغرفة. أيقظت طفلتيها برفقٍ وهمسٍ مرتعش:

ــ "هس… حبيباتي، لا تُصدرن صوتًا، لا تخفن، نحن ذاهبات في رحلة معًا."

عيون الطفلتين تفتحت مذعورة، لكنهما أطاعتاها، تمسكتا بثوبها كما لو كان حبل النجاة الأخير. حملتهما بين ذراعيها، تتقدّم بخطواتٍ حذرة نحو الباب الخلفي، حيث يبتلع الظلام المكان كعباءةٍ سوداء.

هناك، سمعت نحنحة رجلٍ تتردّد ثلاث مرّات، متباعدة كما وصفتها لها أم أحمد. شدّت على ابنتيها وفتحت الباب، فإذا برجلٍ غريب الملامح يقف في العتمة.

 لم تعرفه من قبل، لكن في صوته كان شيءٌ من الصدقٍ، جعلها تطمئن للحظةٍ وسط ارتجافها. همس لها بسرعة:

ــ "أنا من طرف أم أحمد… أسرعي قبل أن يفيق أحد."

خرجت عفراء وطفلتَاها خلفه، والخوف يطاردهنّ كظلٍّ لا يرحم.

 كان البرد يضرب وجوههن، والريح تتلاعب بثيابهن، وأصوات الكلاب الضالة تتعالى في الأزقة، كأنها تنبح سرّهن المخفي. عبروا أزقّةً ضيّقة ملأتها روائح العفن والمجاري، وانعكست أضواء باهتة من مصابيح الشوارع على جدران حجرية متصدعة، فبدت كوجوهٍ قبيحة تترصدهم.

كل حركة في العتمة بدت كعينٍ تراقبهم. قلب عفراء يخفق بعنف، كأن صدرها لم يعد يسع نبضه. لكنها تماسكت، شدّت على يدَي ابنتيها، وهمست لنفسها: "لن أعود… لن أُسلمهما لهذا الجحيم."

طال الطريق حتى بدا كأنه قرن. خطواتهم المتسارعة تُحدث صدى مكتومًا على حجارة الأزقة، والليل يحبس أنفاسه معهم. وأخيرًا توقّف الرجل عند سيارة قديمة رابضة في الظل، كأنها تنتظرهم منذ دهر. فتح الباب الخلفي وأشار إليها:

ــ "اركبوا بسرعة."

دخلت السيارة تحتضن طفلتيها بكل ما بقي من قوة في ذراعيها. ارتعش جسدها وهي تشعر لأول مرة أن الجدران التي طوّقتها سنين بدأت تتلاشى خلفها. كان صرير الإطارات على الطريق أشبه بصرخة تحرّر. لم تعد تسمع صخب البيت، ولا شتائم إخوة الزوج، ولا صرير أبوابهم المؤصدة. لم يبقَ سوى أنفاس ابنتيها الدافئة تختلط بدموعها، ورائحة الخوف تنسحب تدريجيًا من صدرها، تاركةً مكانها لارتجافة أملٍ جديد.

في تلك اللحظة، همس قلبها بصوتٍ مبحوح:

"لقد بدأنا طريق النجاة."

**

يتبع

سعاد الراعي

قرر "سلام" هذه المرّة أن يزور السوق الأسبوعي لعاصمة إمارة سيكا عند الفجر. البارحة، في المقهى الملاصق لبيته، جرى بينه وبين صديقه "عبد العليم" حوار طويل حول تحولات الأسواق الأسبوعية، وكيف أصبحت سلوكيات الوافدين إليها مرآة صافية لقياس حرارة المجتمع ونبضه.

حين بلغ السوق بعد أن قطع كيلومترات على قدميه، كانت العتمة ما تزال تكسو الأفق. جلس ليستريح على صخرة عند جذع شجرة هرِمة يتجاوز عمرها القرنين، وأطلق بصره في حركة القادمين، أفرادًا وجماعات، يتدافعون صوب البوابة. كانت عيناه تلتقطان التفاصيل، بينما ذهنه غارق في تأمل عميق في دلالات ما يرى.

وفجأة دوّى صراخ حاد، اهتز له فضاء السوق:

ــ "لص! لص!"

انتُزع سلام من شروده حين لمح شابًا قوي البنية يركض بجنون، وخلفه أصوات التجار والزوار تتعالى باللعنات. وبعد لحظات لحق به أربعة شبان أكثر قوة ونشاطًا، يركضون بأرجل مرفوعة كأنهم في سباق، يصرخون:

ــ "قف أيها اللص الملعون!"

اقترب سلام من أول خيمة نُصبت بعد بوابة السوق، وكان صاحبها شيخًا يبيع أقمشة بيضاء، فسأله:

ــ "السلام عليك، ما الذي حدث؟"

رد التاجر دون تردد، وعلى ملامحه مرارة السنين:

ــ "انتشرت السرقة هنا منذ ثلاث سنوات، يا سيدي الفاضل. كان سوقنا مضرب المثل في الأمان، ثم تغيّر كل شيء. هذا اللص اختطف محفظة فلاح لحظة قبض ثمن بيعه لأجود ثور لجزار كبير في العاصمة."

عاد سلام إلى مكانه مضطربًا. اجتاحه حزن غامض وسهاد ثقيل. تذكّر حديث البارحة مع عبد العليم، واستحضر في ذهنه شذرات من أقوال الفلاسفة في الشخص والهوية والغير، وفي الحرية والاضطرار، وفي جدوى القيم حين تنكسر الموازين.

وبعد نصف ساعة عاد الشبان الأربعة. كانوا يبتسمون كأنهم أحرزوا نصرًا أخلاقيًا. نهض سلام متفائلًا، فبادرهم:

ــ "أمسكتموه؟"

مر ثلاثة منهم أمامه بضحكات غامضة. أما الرابع فتوقف قليلًا، نظر في عيني سلام طويلًا، كأنه يعرفه ويقدّر مكانته، ثم اقترب وهمس في أذنه اليمنى سرا وطلب منه أن لا يفشيه لأحد:

ــ "أمسكناه يا عمي سلام... لكنه مكّننا من نصيبنا."

شعر سلام بارتجاف يديه، فشدّ على جذع الشجرة الهَرِمة وهمس لنفسه بمرارة:

ــ "انتهى الكلام..."

***

قصة قصيرة: الحسين بوخرطة

أنتَ لَمْ تُحسِنِ التَّحديقَ

ولم تتركِ الخُنفساءُ

آثارًا

سوى

تلك الرائحة.

*

الأصدقاء:

أخطاء طباعية

نُدَبٌ

يصعبُ محوُها

*

البياضُ

أسطورةٌ هَشَّةٌ

تبتلعُها جيوشُ السَّواد

الحقيقةُ

لم تلتقطها السيارة

*

أحتاجُ الكثير من الصداقات

وحكمةُ زوربا

تلك عادةٌ سيّئة

*

المثال المُقيمُ

في رأسِ أفلاطون

أرخصُ مِن قيمتِهِ

في سوقِ النّخاسة

مَنْ سَيُزايدُ..

*

الدخولُ إلى الذات

ممرٌّ مُضاءٌ بسؤال،

وسقراطُ هناك،

ينفخُ في رمادِ يقينه

*

عندما أسَرَّكَ صديقُكَ

كانت يدُهُ الأخرى

تعبثُ

بسلسلةِ المفاتيح...

*

البياضُ خرافةٌ

طَعِّمْهُ بالسَّوادِ

قبلَ أن يفوتُكَ مَوسمُ الظِّلالْ

*

عندَما كنتُ صغيرًا

كنتُ أضحكُ

حتى تبْتَلَّ

لِحْيةُ الزَّمَنْ

*

عندَما كبُرتُ

صرتُ أبكي

حتى تشتعلَ

لحيةُ المكان

*

الانتماء:

أن تكونَ محاطًا بالبياضِ

ولكن...

*

التَّحَقُّقُ:

أن تستيقظَ

ولا تجدَ ظِلَّكَ

في صفوفِ الطباشير.

***

إبراهيم مصطفى الحمد

لم يكن في الجوار غيرها ليخدش الباب في ساعة متأخرة. يبدو أن المطر داهمها في كرتون زيت تبرع به الجار لإيوائها. رقة هذا الكائن تأسر سكان العمارة، لكن صغارهم لا يهتمون بالفرق بين دمية وقطة. آثار السلك الذي ربطها به أنذال صغار بادية على رقبتها. تموء وهي تتمسح بسروال نومه. لعلها جائعة!

سارع إلى المطبخ بحثا عما تبقى من سندويتشات الغذاء. معذرة يا صغيرتي، فالحرم المصون غاضبة في بيت العائلة. الشقة برأيها أضيق من كرتونك، ولا تليق بشاعر رأسماله في الحقيقة كومة أحاسيس، ونسخ أعماله الملقاة في أرجاء الغرفة.

هل يليق بشاعر مثلك أن تحاصره امرأة في زوايا أربع من الطوب والإسمنت؟ قدرك أن تتفجر دفئا ورقة لتذيب صقيع الحياة. هكذا أنتم أيها الشعراء! ثم انصرفوا إلى حيواتهم يديرونها بخبث ومكابرة، غير عابئين بسطوره الممددة على صفحات الجرائد.

شاعر.. ثم ماذا؟

تموء القطة فيمسح على ظهرها ليدخل السعادة إلى قلبه. بعض النساء قطط! يتجدد المواء بينما يقلب درج مكتبه بحثا عن مسودة أشعار في الحب والجمال، وبؤس بني البشر. لا فرق بيني وبين أي صعلوك آخر في الحي. تلك هي الحقيقة. يقرر الصعلوك أن يجابه واقعه بما يليق باللحظة الإنسانية من قسوة أو جنون. مهمتي أنا هي تزييف كل شيء. أحاسيس تنبض على الورق، بينما تُداس في الخارج بأقدام الباحثين عن عالم أفضل.

جمال تديره صالونات الأزياء والعطور بأنفاس حرب باردة.

عزلة محب لا يطيق الجلوس بمفرده لتناول فنجان قهوة.

وحب ملتهب الكلمات لكنه سريع الذوبان. يكتنفه لغط الحياة وشدتها فيصير عبئا على قلبين.

كفّ للحظات عن سهوه حين نطّت من مكانها إلى النافذة المجاورة. تحب القطط مشاهدة ما يجري لساعات. هل أكتب شيئا جديدا لو استلهمت حضورها الآن؟ من يدري، فقد يكون للوجود معنى إذا تفحصته بعيني قطة!

رن هاتفه فجأة، فتنحنح قبل أن ينصت بلباقة معهودة لحديث صهره. ألح على أن يكون للشاعر دور آخر غير إتلاف عمره بين كومة أوراق:

- تطلب الأمر ساعات لإقناع رئيس البلدية. ستكون رئيس الدورة العاشرة للمهرجان الثقافي. هي صفقة لتجديد أثاث البيت، وفض النزاع المستمر بينك وبين الحرم المصون!

كل شاعر هو، بنظر العائلة، بطل من ورق. كي يلمع صورته يحتاج إلى سمسار لإتمام مهمة التألق والظهور. رئيس دورة! هل يسخر من نفسه أم يُجاري قواعد اللعبة؟ التفت إلى القطة التي تلعق طرفيها في لحظة استحمام فريدة. تذكر ما قاله دافنشي يوما: "كل قط هو تحفة أدبية". ما عساه يكون الشاعر إذن إن لم ينسجم مع النفحة الإلهية التي ألهمته سحر بيان؟

أي شأن يتفرد به الصدق بعد انكسار المرايا؟

وهل..؟

التقط بسرعة قلم حبر أسود، ثم ارتمى على أريكته ليغزل من العاصفة خيوط مطر. يبدو أنها استشعرت ما يهز كيانه، فنطت إلى جواره لتموء وتتمسح بسروال نومه. بعض المشاعر قطط، تخدش قلبك ليسترد حماسه الفاتر. وفي لحظة مفعمة بالتجاوز، يصير العالم الفسيح كرتون زيت، لا يلبث أن يضيق بك ذرعا حين يُبلله المطر!

شاعر.. ثم ماذا؟

لا شيء!

***

حميد بن خيبش

 

أَرَدْنَــــاها بما تَمْــــلِكْ حَلُـــوبًا

وقَدَّمْنَا لها (غَسَنًا)* حُــــرُوبا!

*

وحَدَّثْنَا (ضُرُوعهــا) في ثوانٍ

فَتَـــمَّ لنا إذْ انْتَزَفَتْ.. نُضُــوبا!

*

فَـدَرَّتْ واستَدَارَتْ في خُشُوعٍ

تُقَبِّلُ كَفَّ (حَالِبها) رُغُـــــــــوبا

*

وخَصَّتْـــهُ (مُؤَخِّـرَةً) سَخَــــاءً

فَثَمَّـــــنَها وبَــــــــــارَكَهَا رُكوبا

*

وما فَطَـــرَتْ ولا جَــرَحَتْ صيامًا

إِذْ انْبَطَحَـتْ وقد بَلَعَتْ حُبُوبا!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

10/8/2025

 

لا شيء يثير فضولي،

ضيقة هي الرحابة

وللفضاء انكسار

كما استدامة شفق،

لا شيء يشبه نفسه

وإن تعدد الأشباه،

لو كان لي صوت هنا

ما صرخت،

فمن عاداتنا اللا انتباه

*

بداخل كل واحد منا جدار

وما الحب إلا احتمال غيمة

هذا الرمادي لا يكتفي،

قل: أنك متعب

قل: أنك اقتربت

قل: إنَّ خطاك إليك محاصرة

لا أحد هنا

هل من طريق؟

ترتد الخطى لا اتجاه

*

ما العالم؟

صورة لم تكتمل

تُعد غدها للأمس

هي مرآة الأنا

مكياج باهت

وأسود الشفاه

***

فؤاد ناجيمي

قصيدة/ هذا الرمادي لا يكتفي

من المجموعة الشعرية/ كأني أحمل الصحراء

 

قصتان قصيرتان

عادات قديمة

اليوم الذي يسبق المدرسة.. مازلت للآن أستقبله بنفس الحفاوة من الضجر والإكتئاب والبكاء.. في صباح يوم الجمعة، أستلقي أمام التلفاز مسندة رأسي على وسادة خضراء مطرز في الطرف العلوي منها طاووس وعبارة " أحلام سعيدة"

أمد قدمي على الطاولة التي تحمل التلفاز، أحركه بأطراف أصابعي حتى يوشك  أن يقع وجدتي تردد " يابنت لاتطيحي التلفزيون" "يابنت التلفزيون خربان، ياويلك من خالك"

و كأنها تخاطب الجدار، فمازلت ألعب بالتلفزيون حتى إهتزت الصورة وتشوت..تصيح جدتي.. "يابنت..الله يكافيكي، تعالي يا فاطمة صلحي التلفزيون خربته هذه الآفة"

تأتي دادا فاطمة تحرك الأريل " لا أعلم إن كانت هذه التسمية صحيحة لكن هذا ما اعتد قوله "تضرب الجهاز عدة ضربات، تعتدل الصورة.. لم تكن فاطمة كهربائية ولا خبيرة في الأجهزة الالكترونية.. هي فقط تضرب التلفاز كما كنا جميعا نفعل.. لكنه لايستجيب إلا لها.. تنظر إلي بعدما أصلحت الجهاز وتقول: " ليش طفشانه؟"

وتعلم أنني لن أجيب تخرج إلى الشرفة وتحضر بطانيتي المفضلة وتلقيها علي، كنت اشعر بالراحة الان استطيع التبسم دون أن يهتز بريستيجي.. أدّعي النوم إلى ما بعد الظهيرة  ممدة في منتصف الصاله أعيق حركة جدتي ان ارادت دخول الحمام، أعرقل فاطمة ومكنستها ملقاة وكأنني حجر على الطريق..

**

بقالة الحي

أسمع جدتي تكلم صاحب البقالة وتطلب "خبز ابيض مفرود، جبنة بيضاء وحلاوة لمى".. أسعد لحظة في يومي كله فلم أتحمل إختناق اللحاف ولا الإزعاج وشتم المارّين إلا لأجل هذه الفقرة.. كان البائع يعرف كل طلباتي لأنني من النادر أن أغير روتين شيء راق لي إلا بعد الملل منه..

سئلتُ في مرة:" إذا ذهبت لبقالة حارتنا القديمة ماذا سوف تشتري؟"

فأجبت:

ان إلتقيت صاحب البقالة أسأله أن يبيعني شوكولاتة جالكسي السادة التي كنت أتلذذ بها بعد الإستحمام مع كوب القهوة الذي تخادعني به فاطمه وتضع القليل فقط من  النسكافيه وتطفح الباقي بالحليب..

أو أشتري منه شامبو بيرت بلس الكبير للأستحمام، أضعه فوق منشفتين بيضاء وأركض على الحمام أسابق خالي الذي يقدس الإستحمام أكثر من أي شيء آخر..

أفتح صنبور الماء وأقف بعيداً عنه لأضبط درجة الحرارة التي كانت واضحة من البخار المتصاعد من كل مكان.. وجدتي تطرق الباب بشدة، أجيبها : " أنا أستحم يا جدة"، ثم بعد عدة دقائق تعيد طرق الباب وأصرخ للمرة الثانية " أنا أستحم أستحمممم"

وكأنه يصعب إستنتاج الإجابه فمع خرير الماء ورائحة الشامبو والبخار المتصاعد من تحت الباب يستطيع الجار أن يعرف أني أستحم في هذه اللحظة..

يطرق الباب من جديد فأغضب وأغلق الصنبور وأقول بطريقة ناعمه وراقيه "ها"

ترد علي فاطمة: افتحي الباب بسرعه، تناولني كأس ماء بارد حتى لا أصاب بالدوار من شدة الحرارة.. لا أعلم لماذا كنت ومازلت أعذب نفسي بهذه الطريقة!!؟

أو أشتري بسكويت الشاي والجبنة البيضاء والجلو لجدتي لتجهز لي حلى طبقات الجلو والبسكويت والجبنه في زيارة الأسبوع القادم..

لو إلتقيت صاحب البقالة أسأله أن يبيعني تلك التفاصيل الصغيرة، الذكريات والمشاعر

لو إلتقيته لطلبته أن يبيعني الزمن.. أن يعطيني جدتي ومنزلها… وفاطمة

***

بقلم: لمى ابوالنجا

. هذا خطأ كبير علينا إصلاحه سواء بالمال او بالقتل

. رد مساعده..

كان الاختيار غير صحيح ورغم بذل جهود كثيرة الا انها مصرة على أداء عملها حسب ما تمليه عليها القوانين وما يراه ضميرها كما قالت

. وانتم ما تفعلون حيال ذلك.. هل تخنعون؟

وتصفقون لها عندما ترون عنق قريبي متدليا على حبل مشنقة؟

تصرفوا بأية طريقة ترونها مناسبة وتقصر لنا الطريق وان لم تنجح قضية الإقناع او الضغط او حتى الرشوة تحولوا إلى الجانب الدموي

. وماذا نعمل عندما تصبح الحالة قضية رأي عام؟

. ليذهب الرأي العام للجحيم ولدينا المال والسلطة والاعلام والقدرة على صناعة الأحداث وفبركتها واخراس الأصوات المعارضة حتى لو تطلب الأمر استعمال (الكاتم) وماعليكم سوى سرعة التحرك قبل أن يفلت زمام الأمور ويطلع الآخرين على التقرير

. عند بداية الدوام جلست خلف مكتبها وهي مليئة بالاصرار على انجاز ما طلب منها حسب ما يمليه عليها واجبها المهني والانساني ولن تخضع لضغط او مغريات مهما كان مصدرها او حجمها وقبل ان تنهي قهوتها دخل مكتبها زميل بصحبة المساعد واختليا بها وقدما لها عروض برشوة تشتمل على الكثير الكثير ووعود واغراءات لكنها رفضت وبعد يأس المساعد تحول للتهديد والوعيد لكنها لم ترضخ ولم تبالي واصرت على موقفها فنهض المساعد مهددا

. إذا بعد هذا اعلمي انك لن تعيشي أكثر من يومين ان لم تتراجعي عن موقفك حتى مساء هذا اليوم

. فردت بهدوء..

افعل ما بوسعك فلن ابيع ضميري حتى لو كان الثمن حياتي وابلغ من يقفون خلفك اني لن أكون سببا في افلات مجرم من العقاب

فخرج غاضبا وأغلق الباب خلفه

. دخل المساعد على سيده واخبره بماجرى مع الطبيبه وفشله في اقناعها فابتسم بمراره وسأله..

. وماذا بعد؟

. نستخدم الوجه الثاني في طريقة التعامل معها

. وماهي ادواتكم؟

. لديها اخ يتعاطى المخدرات وام تحب المال كثيرا وأب يسكته التهديد ويلجمه الخوف وهناك عوامل مساعدة أخرى

. وماذا ستفعلون؟

نشتري اخوها ونساوم امها ونخيف ابيها وبعد ذلك نفعل المطلوب

. اعطوهم كل مايطلبون حتى إذا كان منزل فخم خارج البلد واستخدموا اخاها في ماتنوون عمله إلى أقصى حد واريد ان لايظهر على جثتها علامات تصفية او قتل متعمد او انتحار وإنما خليط بين كل هذا لكي يختلف المختصين عند التشريح مع إمكانية شراء بعضهم وغدا عندما تأتي للدوام لا تتصلوا بها واتركوا زميلها فقط يسالها عن موقفها فأن لم تغيره باشروا عملكم مساء وساحرك الصفحات الاخرى بعد انتهائكم ونعمل ضجة اعلامية عن انتحارها ثم يخفت كل شيء تدريجيا

. امرك سيدي

. في مساء اليوم الثاني اخلي بيت الطبيبة من ساكنيه واختبأت بداخله فرقة مختصة بالاغتيالات والتصفية الجسدية حتى وصولها وبعد وقت قصير تم قتلتها وتشويه جسدها بضربات وطعنات متنوعة ثم جيء باخيها ومعدته ممتلئة بكمية كافية من المخدرات ووضع مع القتيلة في البيت وبعد وقت قصير وصل احد اقربائها المتعاونين معهم ليكتشف الأمر ويبلغ الشرطة بانتحار المومى إليها وياتي بعد التبليغ دور الإعلام وتفتعل الضجة الخادعة ثم يبدأ الصراع بين الحقيقة والخداع.

***

راضي المترفي

 

دعي عيني على يومٍ تراكِ

وفي قلبي هوى يغلي هواكِ

*

فلا جدوى إذا المرأى ترآى

وفي عيني أرى فيهِ سواكِ

*

أيا أنثى بها حورٌ تجلّتْ

تُنَزَّلُ بالأنوثة من سماكِ

*

فتمطرُ في المجامر قطر مزنٍ

ليطفئَ ما تجمّر في نواكِ

*

فيا أنثى من الفولاذ قدّتْ

عناد الفرس يسري في جواكِ

*

فما اهتزتْ على يومٍ غصونٌ

ولا بثّت أزهارُ من شذاكِ

*

تناءيتِ إلى شرقٍ بعيدٍ

أيا شمسَ الصّبيحةِ في ذراكِ

*

فما في الأُفْق إلّاكِ شموسٌ

فلم تطلع ولم تطلق سناكِ

*

أعيشُ اللّيلَ في عمري كئيباً

فقد طال الظّلام على مساكِ

*

متى تأتين.. كي يأتي صباحٌ

مضيءٌ.. مبلجٌ.. صحوٌ؛ وراكِ!؟

***

رعد الدخيلي

 

أينَ الراكبُ أضلاعي يمشي أين؟

راقبتُ سلوكَ الممشى حتّى ساختْ أقدامي في حقلِ البينِ

لمْ أيأسْ لم أركبْ يختاً عشوائيّاً في بحرِ النونِ

يا حافظَ خطِّ الباقينَ سُكارى في جُرفِ العينِ

تمهّلْ .. عفوكَ لا يُجدي لا ينفعُ دفعا

لا يصلُحُ إلاّ للقفزِ على لوحِ التوفيقِ المُنشقِّ الخصرينِ

حيثُ المرآى ولاّعةُ خزّانِ التسخينِ

المرجلُ أعلى من فوّهةِ البركانِ الموبوءِ سواداً يغلي

آهٍ لو رفَّ الجفنُ الساقطُ بين الحافرِ والنعلِ

تطوانُ بلادي

العطفةُ في أعطافِ غلافِ الساهي العملاقِ

لا يرجو سهواً عَطْفا

لا ينتظرُ الباقي من حفلِ الإخفاقِ

شدَّ اصفرَّ تحرّقَ في وجدِ الماءِ الرقراقِ

(تطوانُ مصيرُ الغائبِ عنّي)

يتلوّنُ حسبَ مرامِ شموسِ الأخلاقِ

أو حسبَ مِزاجِ الطاحونةِ في صدرِ الحُبِّ الباقي

اللونُ يُشاكسُ خرقَ الطيفِ الشمسي

والبعدُ مُقايضةُ العُملةِ في سوقِ الأوراقِ

**

أبعدتُ ظنوني زَحْفا

كي لا أصطادَ الخيبةَ في سلةِ مُهر التغييرِ

لا أعرفُ تفصيلَ كلامِ الزَغَبِ المُصفّرِ سريعا

فكلامي يتفرقعُ شَجْواً مُنطفئاً

هذا أنتِ الليلُ الساجي وأنتِ الطَرَفُ الماحي للشوقِ

أين الغُربةُ كيف اللهوُ؟

لا أعرفُ خطَّ سَواءِ التوقيعِ على إنذارِ التبشيرِ

قُلتِ أراكَ ولم تقدحْ عينُ الرؤيا

هذي لحظةُ إيقافِ التنفيذِ

قولي أحسنتَ وقولي للبحرِ التطوانيِّ متى تنشقُّ الأقمارُ

لا أُهديكِ وروداً فالوردُ مشاعلُ تصعيدِ الأنفاسِ

قولي حتماً يأتي البرقُ

قولي البرقُ يُريدُ خُلاصةَ إعلانِ الأخبارِ

ما يأتي لو خابَ الظنُ وطنَّ الطرقُ على مِسمار الأبوابِ

" طَنجةُ " في المرمى عنوانُ سكونِ الأطباقِ

التوأمُ ضِدّانِ

طنجةُ – تطوانُ

من دِنِّ الخمرةِ في طنجةَ حتّى ضجّةِ عينيْ تطوانِ

***

عدنان الظاهر

12/ 8 / 2025

 

تقولين: لِمَ قصائدُك موحشةٌ؟

كلماتُك تفوحُ رهافةً، وصورُك تجعلُ الأنهارَ مرآةً

تغتصبُ أُنوثةَ الحوريّات.

*

أُحبُّكَ واحدًا، شامخًا أو منكسرًا... سيّان!

فما تدّخرُه من الوُدِّ يُصلحُ ما فسدَ من العالم.

*

قد يشغلني عنكَ حزني، وفقدي،

لكنّي لن أجزعَ من طرقِ بابك.

*

ثمّةَ ما يجعلني منجذبًا إليك؛

إنَّ قلبي اختار أن يكون بقربك، وكفى!

*

تُعيدُ عليّ السؤال: "لِمَ أنا؟"

أضحكُ، ويأتيني النّداء: "الطريقُ من هنا."

*

في أوّلِ فراقِنا تحتجبُ الشمس،

وفي الثاني نبتلعُ القمر، حوريّةً سماويّةً،

وفي الثالث يطرقُ بابي بردُ السماء،

فأشعرُ أنّ البيتَ أوسعُ من أن يضيق.

*

قد تغيبين، لكنَّ خيالَكِ ما زال بيننا...

قصيدةٌ لم يُفضَّ بكارتُها.

*

مَن يُصدِّقُ أنَّ رجلًا مثلي

يحملُ قلبَ عصفورٍ؟

***

د. جاسم الخالدي

كواكِبٌ من نجمِها تستقي

الضِّيا تَثَنَّى تحتَهُ أنْجُما

*

وأبرَصٌ عالٍ يُسامي الرِّشا

من جهلِه يحْسبُهُ أعْتما

*

من تحتِه بيدٌ تَعَالى علىْ

روضٍ عَليها طالما أنْعَما

*

من بينِها ماءٌ نضا زعْمُهُ:

يا بحرُ لولانا ابْتلاكَ الظّما

*

من خلْفِه برْدٌ فشا مُذْ غدا

بكلِّ جوٍّ دونَه مُغْرَما

*

من تحتِه فَيْحٌ لهُ اسْتسْلما

إذْ خالَ أنّ البردَ طالَ السّما!

*

في إثره دفءٌ غدا تابعا

لمّا تناسى فضْلَهُ الأقْدَما

*

بينهمُ آذارُ رايٌ بلا

أهلٍ إذا قيلَ فقدْ أجْرَما

*

وفوقَ ذا خلْقٌ يرى أنّه

من ربِّهِ الأعلىْ غدا أعْظَما

*

من دونِه خلقٌ يُماري السّما

-ما انفكّ- فِيمَنْ ربُّها كَرَّما

*

من حولهِ خلقٌ نباتٌ وآ

خرٌ جمادٌ أدْركا المُجرِما

*

فوقهُمُ ربٌّ عليمٌ غدًا

يُجري عليهمْ حُكمَهُ الأحْكَما

***

أسامة محمد صالح زامل

 

سكن القلب ساهياً

تحت همس الدوالي..

يذكر الأمس وأياماَ خوالي

يتغنى

ينتشى من همسه صمتا وخمرا..

ويرى فيها هياماً

وعناقيد تدلت

وانحنت

في ظل دالية

يهيم نسيمها سحرا وشعرا ..

تناثر ظلها بين الغصون

واوراقها، تراقص

للريح لحنا

وايقاعه شعرا ونثرا ..

هي تمرح في احضانه غافية

وهو يسرح في اجفانها

شوقاً وصبرا ..!!

***

د. جودت صالح

6 / 7 / 2025

 

منذ نعومة أظافري

كنت شاهدًا

على مسرحية الكراسي

الكوميدية السوداء للحكم

حيث يرقد المخرج

في قبر التغيير

لم يغير مشهدًا واحدًا

كأن الزمن في لحظة

قد تحجر على خشبة

المسرح الأبدي

والدهشة يصيبها الارتباك

كلما تكرر المشهد

والشخصيات تخنق الأنفاس

أعجب من حكمة المخرج

في اختيار بغايا الكراسي

وأشكال أهل المناصب

كيف أنهم متشابهون بالقبح

لكنهم يلعبون أدوار

السلطة ببراعة مذهلة

فاللصوص أذكياء

يجيدون الدراما ويحفظون

السيناريو قبل العرض

كيف لم ينهر المسرح بعد

كيف يصفق الجمهور حتى الآن

"عاش المسرح عاش المسرح"

***

باقر الموسوي

 

أحبت مدينته التي كانت تقرأ عنها في الروايات الأمريكية. كانت مسرعة بسيارتها المكشوفة فلحق بها وأوقفها تلكأت بجلستها وحديثها، سألها وقبل السؤال لا طفها بكلمة أوقعها في شباك قلبه، ومن ثم قال لها ابتعدي بسرعة بعد أن أخذ معلوماتها وهو يودعها بنظراته المملؤة حنية ومحبة لا تعرف لماذا وكيف!!

انطلقت ساندي مسرعة على غير هدى، وأوقفت سيارتها في أول تقاطع يؤدي إلى نهر جار وأرض خضراء لأشجار استظلت بهم وهي ترتعش من خوفها الذي أدخله إلى قلبها، جلست بحنو على جرف النهر وأخذت بطرف كف يدها وغسلت وجهها واستلقت على العشب، وراحت تستعرض ما مر عليها بهذا اليوم من بدايته إلى أن قامت بمخالفة مرورية لم تسجل بأوراق المرور..

ومن بين خيوط الحقيقة والتهيؤ لمحته..

لا يمل ضحكهما وهما يتجاذبان أطراف الحديث ويتذكران إحدى الفتيات اللواتي مررنا بروحه..

ينظر إلى عينيها بلهفة وهو ساكت، شيء ما يجذبه إليها، فتنهمر مياهها في ساعة الغيم. وهي تبكي بكاءً مرًا حين سمعت صوتها وهي تقول له برسالة من بضع كلمات:

" كن صديقي لا حبيبي الآن أنا بحاجة اليك. أتحبني مثلما أحبك؟" وتذوب روحها وتهمس بالقرب من قلبه:

" أم أنا توهمت ذلك الحب وبنيت عليه اشكاليات روحي ؟؟"

يرد عليها بعتب:

" أنا أحبك مثلما أنت تحبينني، أحب السطوح على جسدك البض الرائق مثل الليمون وأتجول بأصابعي وأمسد شعرك العسلي الطويل وأقبلك في كل جزء من جسدك، حتى تسكري تحت وقع شغفي، وأتمدد داخلك، أسكنك، أي قدرة الآن تأخذني إليك؟ وأنت في كامل البهاء، كل تخومك مستعدة لأن تستقبلني، سعيد بك وبأثرك وبنهج البلاغة الكامن في شغفي"

هكذا يحدثها بلهفة وهو يضاجعها بكلماته ويداعبها بعنفوان رجولته، الذي يدس الوجع اللذيذ فيها، فينتصب كل شيء في مداره، ويصبحان قدرة واحدة، أخذ وعطاء، ولهفة وتجرد وغياب، ويده تجوس عبر كنوزها، تستنطق الوقت فيها، ظهر يسلم قيده، وصدر يفك تمرده، فيكون طعمه ويقينه، يعود طفلاً على ربوعه، ويسرج من ذاته زيتًا لينير لها منعطفات الوقت.

أكمل معها حلمه وقام يكرره تباعا وهي تحوم بروحها شمالاً ويمينًا وتمؤ كالقطط بليل بارد يأجج مفاتن روحيهما وهي ترتفع وتنخفظ تأخذه كله بحق اللحظة وبحق الكلمة، وبحق ما فيها من نار تطلب دفئها، ينتهي وتنتهي، فيستقر ما بهما، وتنسحب بهدوء في متن النوم، ويظل بجوارها، ينظر إليها وقد راحت بنوم هادىء جميل وهي بين ذراعيه ظل يهمس بينه وبين روحه:

" أسدل النعاس رموش من أحب، الآن يا ربي ساعدني، في الصباح ستغادرني، وماذا أفعل؟ إنها سندريلا قلبي لا أحتمل فراقها، يبكي شوقًا إليها وهي ممددة بجواره في كامل البهاء، ينشد الوقت منها الهدوء، ويكتب قصته، احتضنها بلهفة عاشق متيم ينتظر هطول المطر، وراح يداعب كنوزها بشفتين تعرفان كيف يكون قطاف الشهد، تململت واستيقظت وضمته، وأخذته إلى حومة الرحيل حيث لا صبر ولا جلد إلا بالقدرة التي بيثها الشغف فيهما..

أشرقت الشمس وسطع نورها غلف الأرض بمروجها الخضراء، فتحت عينيها وتمتمت ببضع كلمات:

" لن يكتفي ما بي منك، فسدد لي فاتورة الأيام التي سبقت وجودك"

وعادت إلى النوم وهو يحتضنها بشوق، فلما استيقظت كانت كبحر لجي، توسده الشراع والريح هادئة، وكل شيء في قبض الشغف، ونام يلتفان ببعضهما، يتطاولان على كل شيء، والمحبة سند اللقاء، يأخذها وينحت بفعله هيبة اللذة.

انتهى غيابهما، فعادا منهمكين، أكل من تينها وشرب من سكرها، وقاما يغتسلان، تحت الماء المنهمر، قال لها:

" سارتشف الماء المنساب من على جسدك"

صرخت:

" لا "

أصر، وقال لها:

" هو عرقك، شهدك، هو نبع الحقيقة فيك"

شهدت اللحظات ولادة عمر جديد يضاف لأعمارهما، وخرجت من الحمام وجسدها ينقط قطرات الماء، حتى وقفت أمام المرآة، وبشفتيه جفف جسدها، وأجلسها وقام بتسريح شعرها ثم وضع قبله على رأسها، فابتسمت له ابتسامة المحبة التي دانت لها روح حبيبها.

توجهت بعد أن أعدت كوبًا لها وله من القهوة الساخنة، وهما يلتقيان عند نافذة المطبخ الكبير في بيت فخم يقع على ربوه الجبل في إحدى ضواحي كاليفورنيا..

اوكلاند مدينة الاخضرار والجبل وأيضا بلاد التهريب والعصابات والقتل والنهب.

في الليل رن هاتفها برقم لا تعرفه ولكن يرمز لمدينة اوكلاند، ردت بهدوء وسكينة على الهاتف، كان على الطرف الآخر رجل الشرطة المسؤول على أمن مدينة اوكلاند..

" اهلا ياحلوة كيف أنت الآن؟ ألا زلتِ مسرعة؟ "

ردت بخوف على الطرف الآخر:

" أنا بخير الآن لن أقود سيارتي بعد اليوم "

". لماذا هل أنت خائفة ؟"

ارتعش جسدها، وقامت لتدخل الحمام، وتبحث عنه..

***

نادية المحمداوي

 

إحذرْ عدوَّكَ مرَّةً واحذرْ صديقَكَ ألفَ مَرَّة

فَلَرُبَّما انقلبَ الصَّديقُ فكانَ أعلمَ بِالمَضَرَّةْ

علي (رض)

***

سأبتلِعُ ظِلِّي، وأتَحاشى الظلالَ المُجاوِرَةَ

وكوني لا أُجيدُ فَنَّ الهُروبِ، سأمشي حافيًا.

**

عندَما كنتُ بظِلالٍ عديدةٍ

كانتْ تنتفِخُ ...

تلمعُ انتفاخًا .. فيُعشيني السطوع

اكتشفتُ حصانَ طُروادةَ

بأقَلِّ الخسائرِ.

**

الظِّلالُ ألغامٌ بابتسامات عَريضةٍ، وقلبٍ مفضوحٍ بالحُبِّ،

وسِلالٍ مِنْ فاكهةِ الَّلغْوِ، وأقفالٍ لا مرئيَّةٍ، وقُبَلٍ، وبياضاتٍ...

في الواجِهةِ الخلفيةِ باندورا تَـتقيأُ ضَحِكاتِها..

**

كلكامشُ خانَ إنكيدو

حين أغرَتْهُ شهوةُ الحياة.

**

أرادوا أن يُجَمِّلوا الحروبَ

نَحَتوا عبارة (نيران صديقة).

ولم يَجِدِ المُمَثّل السوري محمد أوسو وَسْمًا لدراما عودَتِه

سوى (الأعدقاء).

فيما شاهدَ إميل حبيبي سُوريالةَ العالمِ

فصار مُتَشائِلًا.

الظِّلالُ ألغامٌ

بصيغةِ إخوة...

**

ظِلّي يتبعُني في الشمسِ

ويختفي في الظلامِ

وهو (أدرى بالمَضَرَّهْ)

**

الظِّلالُ قَنابِلُ موقوتَةٌ

و(الريمونت كونترول) آخِذٌ

السَّحْبَةَ الأولى مِنَ الزِّنادِ

بينَما تَنطفِئُ الشَّمسُ

يَنشَطُ الغُرَيْرِيُّ الـ(عَديقُ)...

ص!!

***

د. إبراهيم مصطفى الحمد

العراق - تكريت

 

"قُمْ للعراقِ ووفِّهِ التَّبجيلا"

وتعهّدوهُ شبيبةً، وكهولا

*

في ماضياتِ الدَّهر أبرَقَ دُرَّةً

كونيّـةً، ومُعلِّـماً، ودليـلا

*

قُمْ للَّذي سنَّ الشَّرائعَ مِشْعَلاً

للسَّائرينَ على هُداهُ سـبيلا

*

أيامَ تحبو في الحياةِ خليقةٌ

كانَ العراقُ كبيرَها المأهولا

*

وبهِ السَّفينةُ قد رسَتْ، وحمامةٌ

غرسَتْ غصونَ الخيرِ فيهِ جزيلا

*

فببصرةٍ وبمَوصلٍ وبأرْبِـلٍ

دارُ السـلامِ تألَّـقَتْ إكليـلا

*

شـرفُ المَقامِ بـدارِهِ آثـارُهُ

وبهِ الحضارةُ كانتِ القنديلا

*

قُمْ للذي غنَّى القصائدَ شامخاً

صاغَ الكلامَ مُفجِّـراً، وجميلا

*

فأبو مُحسَّدَ في الذُّرى أنشودةٌ

وأبو فـراتٍ واصلَ التَّرتـيلا*

*

والمُحْدَثـونَ كواكـبٌ، لا تختبـي

ساروا على دربِ الحديثِ فحولا

*

إسحاقُ غنّى فانتشوا وتمايلوا

وبناظمٍ طـرِبَ الغناءُ أصيلا **

*

تلكَ الشَّوامخُ في الأعالي عِزّةٌ

تتقدّمُ الدُّنيـا صدىً وعقولا

*

فتسامقَتْ بينَ الْعوالمِ كوكباً

حُضـناً يضمُّ رواسياً ونخيلا

*

واليومَ بينَ عصابةٍ منزوعةٍ

عنْ أرضِهِ لا ترتوي تقتيلا

*

أسَفي على مَنْ كانَ نجماً هادياً

واليومَ ضاعَ وقد أضلَّ سبيلا

***

عبد الستار نورعلي

..................

* إشارة الى المُغنيين إسحاق الموصلي، وناظم الغزالي

اللّيلةَ

في أوج الرّبيع

زهرةٌ من زَهرات الحديقة

باتتْ تحتَ ضياءِ القمر

يَرُشّها عشقًا وشوقًا

حتّى مطلع الفجر

عندما الشّمسُ وخزتْ وجنتيها

أفاقتْ

فإذا الطَلُّ أبيضُ

على اِحمرار

يُبلّل تاجَهَا…

***

سُوف عبيد - تونس

 

جلست هي خلف مكتبها المتواضع في دائرتها الحكومية، تخفي في قلبها همسا لا يسمعه سواها. أحبته بصمت حبا خجولا لم تجرؤ ان تنطق به، واكتفت بأن تراقب ابتسامته حين يلقي مزحة عابرة، أو تلمح انشغاله في الملفات التي بين يديه فتنهض مسرعة لمساعدته كونها أقدم منه بهذه الدائرة..

لم تنجح كل مساعيها ان تجذب انتباهه اليها. تعلقت روحها بضحكته بأحاديثه وبطريقة ادارته لعمله. كونه صادقا في تعامله مع الناس ويكره ان يؤجل عمله الى يوم آخر. نال احترام المراجعين أيضا. لا تدري ما سبب انجذابها له ربما كونها تحمل نفس صفاته اذن كان انجذابها مبررا. والمصادفة الغريبة انهما من نفس برج الحمل. وحين أخبرته بتلك المصادفة وبإحساس لم تشعر به من قبل..كأنها طفلة ترى الأشياء لأول مرة. ليتها قادرة ان تبوح بشئ من مشاعرها. ولعل هذه النقطة تكون مفتاحا للحديث بينهما. انفلتت من فمها جملة غير مترابطة بسبب ارباكها أجابها مع ابتسامة خفيفة على وجهه وببرود تام قال: بأنه لا يكترث لمسألة الأبراج ويعتبرها ضحك على العقول الساذجة.

حاولت ان تبوح له بهذا التعلق لكنها تتراجع في كل مرة وتخاف ان يصدمها برده. أو ربما أنه يحب امرأة أخرى وتكون تلك الخطوة انتقاصا لكرامتها كامرأة. غالبت مشاعرها بهذا الصمت الدائم ودون ان تخبر حتى صديقتها المقربة

مضت سنتان كانتا كفصل طويل من الانتظار، تخبئ في نظراتها له الف سؤال وسؤال، وتحلم ان يفهم يوما ما تخفيه عيناها من حنين صادق تجاهه..

لكنها استفاقت ذات صباح على خبر في الدائرة هز كيانها وصمتها: نعم ان الرجل الذي اختاره قلبها قد خطب امرأة أخرى، من خارج الدائرة وهي التي ارتدت اليوم فستانها الجديد وقررت ان تسأله عن ذوقها بينما رأت زميلاتها يشاركن بتوزيع الحلوى. وامتلأت أروقة الدائرة بالتهاني والتبريكات. دون ان يعرف هو أن قلبا بقربه قد تهشم تماما، وأن ابتسامتها في ذلك اليوم كانت ستارا يحجب انكسارها.

المحنة غدت أثقل من ان تحكى، وأقسى من ان تنسى

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

 

مثنويّاتٌ ورباعيّاتٌ عربيهْ..

منحوا الفحّامَ مِن مَغنمةِ الليلِ محلّاً للجواهرْ

ثم قالوا: أنتَ في نسجِ اليواقيتِ بِنورِ البدرِ ماهرْ

**

طبقاتٌ طبقاتٌ طبقاتْ

صنفوا الانسانَ وفقَ العرقِ والدينِ ولونِ البشرَهْ

أهملوا في كنهِهِ أسمى السماتْ

تلكَ ما يمنحُ نفسَ المرءِ حقاً جوهرَهْ

**

سارقو تاريخِ أوطانٍ وأمجادِ مدنْ

قرصنوا في الليلِ تاريخاً وبحراً وسفنْ

**

صنعوا القزمَ وقالوا أنتَ عملاقٌ عظيمْ

فتعالَ الآن للحكمِ على رأسِ بلادِكْ

نحنُ نحتاجُكَ كي تبدو على ظهرِ جوادِكْ

فارساً، كي لا يرى الناسُ جواداً وكريم!!

***

شعر: كريم الأسدي

 

نطَقَتْ حجارةُ كوكبِ المرّيخِ

من خسّةِ ابن خسيسةٍ ممسوخِ

*

تسْتنْصرُ المولى على أحوالِها

حتّى تُطيحَ برأسهِ المنْفوخِ

*

غضَبًا لهاماتٍ أبى أنْ ينحَني

قرآنُها لكتابِهِ المنْسوخِ

*

وأخي على عهدٍ مع الصّمتِ الذي

قطَعَ العُهودَ لذلّةٍ ورُضوخِ

*

لا ينْقضُ الأخُ عهدَهُ والصّمتُ إنْ

يُأذنْ له فلحرفِهِ المشْروخِ

*

كحُروفِ علْمٍ أصبحتْ حِكْرًا على

المركوبِ والملبوسِ والمطْبوخِ

*

وزعيمِ قومٍ كالجبالِ بحيّهِ

بالقُدسِ سهلًا مرَّ دون شُموخِ

*

وإمامِ قُطرٍ غرَّبَ الأقصى عنْ

الحَرَمَيْنِ تأليهًا لشيخِ شُيوخِ

*

فإلى متى يبقىْ أخي العَربيُّ في

أرضِ الحضارةِ خارجَ التّأريخِ؟

*

وكأنّه لم يأْتِها إلّا ليُر

بي الصّمتُ من والَاهُ بالتّفريخِ

*

وإلى متى يبقىْ أخي العربيُّ في

أرضِ البيانِ مُكرّسًا لمُسُوخِ

*

وإلى متى يُغْنيهِ سلمُ قصورِها

من شرطِه فرطُ انْطواءِ الكُوخِ

*

جرَّاكَ يا! ظنّتْ عُيوني أنّها

حطَّت بأرضِ الهنْدِ بينَ السّيخِ

*

حتّى التقتْ حرَمًا على هَرَمٍ علىْ

متألّهٍ عن أصلهِ مسْلوخِ

*

عدِمتْ جذورُ الصّمتِ دونك أرضَها

وغدا الكلامُ لكوْكبِ المرّيخِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ذات مساءٍ كان الغيم يتأمّل صمت الجبال، جلستُ تحت شجرةِ التينِ القديمة، وأنا أرتّق ظلّي، وأعدّ أصابعي الناقصة من الذاكرة.

*

جاءت... كأنها النسيم حين يخجل من لمس جرحٍ مفتوح، كأنها الأمل حين يخطو فوق الرماد دون أن يُحترق.

*

مدّت يدها إلى التين، فتدلّت الثمرةُ خجلى، كأنها تعرفنا منذ دهرٍ لم يبدأ بعد، أو لعلها كانت تذرف دمعةً حلوةً على تلك الحكايات.

*

تناولنا التين كما يتناول العاشق الغفران، ببطءٍ، بخشوعٍ، كأن لكل لقمةٍ ذاكرة، ولكل حبةٍ نبضًا فاته أن يُولد في زمن الحرب.

*

قلت لها:

هنا، يا حبيبتي، كنتُ أقف ذات يومٍ على قدمين.

*

لم تسأل عن الأخرى، فالعين التي تحبّ لا تفتّش عن النقص، بل تخلع نعليها، وتدخل الحكاية حافيةً.

*

انفجر اللغم، وانفجر الوقت، وانفجرت السماء فوقي حجارةً من دم. رأيتُ الجنود يتساقطون كأوراق الخريف، والأشجار تتلو صلواتها الأخيرة، والعشب يحترق كما لو أن الأرض تعتذر عن إنجابنا.

*

تحت شجرة التين، نسيت الألم للحظة، كأن الحبيبة حين تضحك، تعيد ترتيب التاريخ.

*

سألتها:

هل تسمعين؟

قالت: ماذا؟

قلت: أنين التراب؟ أنين العروق التي ماتت تحتنا؟

*

فوضعت كفّها على التراب، وقالت: لا شيء يموت... كل شيء يعود بشكلٍ آخر. ربما كنتُ أنا هو اللغم في حياة أحدهم، وربما كانت شجرة التين هذه أمًّا، أنجبتنا من جذور الندم، وسقتنا من دموع الأرض.

*

يا أنتِ، حين نجونا من الحرب، لم ننجُ حقًّا، بل تغيّر شكل موتنا فحسب. لكنني، رغم ذلك، أحبّكِ... أحبكِ كما يُحبّ الجندي طلقةً لم تخرج، كما تحبّ الشجرةُ من ينام في ظلّها دون أن يقطعها.

*

تحت شجرة التين، بدأت الحرب تنسى أسماءنا، وبدأ الحب يتعلّم النطق من جديد.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

اليوم كانت خطواتي المسائية المعتادة رتيبة فوق البساط الأخضر المندى لحديقتي الواسعة المهملة، ذات الأشجار الكثيفة المتشابكة، وأصص الورود المبعثرة بفوضى عابثة.

كل شيء يشي بالترهل والجدب، حتى نقرات نعلي البلاستيكي الكتومة وهي تخطر بتثاقل فوق خضرة الأرض الندية، ما كانت تستسيغها روحي، وقدماي متعبتان تخطان سيرهما بتمهل دون هدي منذ أكثر من ساعة. هناك كتاب مهمل بغلاف جلدي كلح لونه لكثرة ما تعرض للفح الشمس، يرقد منذ أسبوعين فوق كرسي الخيزران العتيق لصق شجرة السرو القزمة.

مثلما البارحة وقبلها بأيام مضت مسرعة، اخترت النوم وحيدا في الغرفة الباردة ذات النوافذ العريضة المطلة على بركة ماء المسبح، الذي ما عادت الذاكرة تسعفني للتعرف على أخر مرة عام جسدي مسترخيا فيه. ولم اكسر اليوم عادة الأشهر التي سبقته في تنقلي الليلي للنوم وحيدا في باقي غرف الدار المسكونة بالصمت الموحش. أجوب أشبار الدار، أتنصت صوت التلفاز المرمي بعيدا في زاوية غرفة الضيوف، واسمع ضربات الأغصان في الخارج وهي تعاند وتتأرجح مع بعضها. وأعيد تكرار عد رخام درجات السلم كلما وجدتها أمامي، كل ذلك محاولا إبعاد ما رقد في الذاكرة.

اليوم اجتاحتني رغبة المبيت في إحدى غرف الطابق العلوي. الغرفة المغلقة منذ عامين مضين. الغرفة الأثيرة لابنتي الوحيدة التي ما عرفت عنها شيئا مذ هاجرت وهجرتني بعيدا مع أمها. لازالت الغرفة بستائرها الموشاة بالدانتيل الزهري والمسدلة طوال الوقت، ترسخ في سكونها القهري. لوحة الفرس الجامح المسمرة جوار المنضدة في طرف الغرفة البعيد، والسرير العريض ذي الغطاء المطرز بألوان فاقعة ولعبة الأرنب الوبرية الكبيرة المرمية جواره، تذكرني بصخبنا المفتعل وكلمات وداع تبادلناها عنوة وببرود تأبيني ذات صباح. حينها ضجت أشجار الحديقة بصيحات فزعة مجنونة لسرب طيور كثيف، وذبلت معها زهور الأصص بلمح البصر، بعد أن جف اخضرار سيقانها منذ ما يقارب العامين. ومع صمت الجدران الكثيف أحسست أن الكثير من كل ذاك الصخب قد هُد، وعرفت كيف أفل، وتسللت شمسه مسرعة نحو غروب. صباح بحثت فيه عن نفسي، ولكن وهو يسدل ستارته ويمضي بعجالة اكتشفت حينها وحدتي المفزعة. 

***

روح

ببرود دفع الطبيب جملته اللعينة وهو يتصفح الأوراق الموضوعة أمامه.

ــ إنها تملك قلبا بصمامين معطوبين شبه عاطلين، وتضخم متقدم واعتلال شديد بعضلته اليسرى، ليس سوى سرعة إبداله، ما ينقذ هذه الطفلة من موت فجائي.

كان هذا الإيجاز الطبي يكفي ليكون رصاصة ثقبت رأسها. نز عرق بارد عن صدغها وخارت قواها، فهربت بدمعها بعيدا دون وجهة معينة.

كانت أم رضاب بسنواتها الأربعين في حلمها وحيدة في مساء كالح الظلمة، تقف عند حافة هاوية عميقة في مكان موحش مقفر. يرن في رأسها دون فكاك ضجيج أهوج، وهناك في عمق الغور بعيدا، كانت ابنتها التي ما اجتازت بعد عامها العاشر، عارية مرمية في الجوف العميق، عيونها مفتوحة على سعتهما تلوح رافعة يدها وكأنها تطلب عونا.

استيقظت فزعة ومسحت بيد متخشبة عينيها، تلمست جسد ابنتها الراقدة جوارها.كان العرق الدافئ يبلل ثيابها. سحبت قطعة قماش مبللة ومررتها فوق صدغ الصغيرة وربتت على كتفها.

ــ ما الذي يجعلك مستيقظة لحد الآن.

ــ لا شيء يا أمي ولكن اشعر بألم في صدري.

ــ تناولت الدواء، أليس كذلك؟

ــ أخذته في موعده.

ــ حسنا سوف تتحسن حالتك.

شعرت بكدر يلف روحها، فقد كررت هذه الجملة عشرات المرات وفي كل مرة يبدو لها هذا سيئا، ولكنها تعيد تكرارها ببلادة. كانت السنة تحتضر في شهرها الأخير، دون ما يشي لوجود جواب من مستشفى ينقذ أبنتها. رغم التماساتها المذلة وترددها المتكرر على عديد العيادات التي ما عادت قادرة على دفع أجور الفحص فيها. ولم تنفع حتى ابتهالاتها ونذورها للرب. فليس هناك في هذه المدينة النائية ولا حتى في العاصمة من طبيب يجازف بإجراء عملية إبدال أو تطبيب لقلب متهرئ. ولكنه قلب طفلة يا الهي، هكذا في كل مرة تنهي أخر أمنياتها، وتختم تضرعها ببكاء مر مكتوم. 

ــ أود أن تضميني لحضنك.اشعر أن شيئا ثقيلا ينط ويطفو في الهواء ثم يرقد فوق صدري.

سحبتها بهدوء من ذراعها الذي بدا مثل قصبة خاوية وضمتها إلى صدرها وراحت تهدهدها وهي تطالع سقف الغرفة بعينين زائغتين مبتلتين.

ــ أمي.. هل يعيد الله الموتى إلى الحياة مرة أخرى؟

ــ ما الذي يجعلك تفكرين هكذا؟

ــ لا شيء فقط أردت أن اعرف لماذا يموت الناس والى أين يذهبون.

ــ الموتى يذهبون إلى السماء، هناك تكون لهم حياة أخرى أكثر سعادة وفرحا.

ــ ألن أعود لحضنك يا أمي؟

***

فرت المحسن

دخل علي في غفلة من عين الليل. تسلّل إلي عبر خطوط الفيسبوك الغامضة. سمعت رنته الغريبة.. الا انني لم اعرها اهتمامًا يذكر. كنت افكر في تفاصبل قصة الحت علي منذ سنوات. قصة تحكي عن كاتب موتور. حمل ضغينته سنوات وسنوات. لينتقم من معذبه.. بعد اربعين عاما وقال لنفسه.. لقد تسرّعت

قطع عليّ حبال تفكيري. اوقف التفكير في القصة الجديدة. ارسل ابتسامة بالوان قوس قزح. تجولت بين كل الوانها لأتوقف عند لونها الاصفر:

-ماذا تريد؟ سألته. بجفاء

-اريد منفعتك وفائدتك.. قال مرفقا ردّه بابتسامة. قبل ان اتوجّه اليه بسؤال آخر تابع يقول: اريد اولًا ان احييك على قصصك الاخيرة.. لقد تفوقت فيها على نفسك.. وكتبت ما يستحق القراءة ويلامس حفاف الخلود. يسرني ان اكرر تحيتي.. وان اقدّم لك كل تقدير واحترام.. كاتبًا عربيًا يرفع الراس.. ويساهم بجهوده الجبارة وقدراته الفائقة في وضع قصتنا العربية على خارطة الوجود.

تمعّنت في وجهه.. انه وجه معروف لدي.. لكن أين رايته؟ لا اتذكر.. لأدعه اذن يواصل كلامه.. ولأمنح نفسي فرصة أن امسك طرف خيط ذاكرتي،، فأتذكر.. وتتالت كلماته.. لأراه بعد الف كلمة وكلمة، يدخل إلى مكتبي ابان عملي محررًا ادبيًا في اكبر صحيفة تصدر في البلاد، وليقدم لي سبع ورقات.. طالبًا مني أن اقرأ ما ابتدعه فيها في الرواية والقصة.. تقبلت لحظتها ما قاله لي برحابة صدر.. دأبت على ان اتمتع بها وامتع غيري من زائري الصحيفة.. وشرعت في قراءة ورقاته السبع.. خلال قراءتي الصفحة الاولى. الكلمة الاولى الحرف الاول.. كان لا بد من اتناول قلم الحبر الاحمر.. لأشير الى ما حفلت به تلك الورقة من اخطاء.. بعد انتهائي من الورقة الاولى، ارسلت نظري إليه ضمن محاولة اعتدت عليها في مثل تلك المواقف.. لمعرفة ما يدور حولي.. فسارع إلى القول: اعرف انني ضعيف في الاملاء واللغة.. لقد تعلمت في مدرسة عبرية.. قال وتابع: ارجو أن تجد قصتي الاولى مساحة ولو متواضعة في الصحيفة. قال هذه الكلمات وانصرف وهو يمضي باتجاه باب الخروج خطوة إلى الامام واخرى الى الخلف. وخرج.. إلا أنه ما لبث ان عاد.. كان ذلك وانا اضع التصويبات الخطيرة الحمراء على اوراقه السبع. تناول الاوراق من يدي وهو يطويها في جيبه: شو هاي الاحمر طغى على الاسود. لا.. لا اريد ان انشرها. حمل اوراقه وتوجّه نحو باب غرفة التحرير. توقف في مدخل الغرفة وراسل نحوي قذائف من كلمات: من انت حتى تشوّه قصتي بأحمرك القذر؟.. وقبل ان ارد عليه قائلًا بإمكانك ان توجّه سؤالك هذا إلى اصحاب الجريدة.. اعتقد انك ستجد الاجابة الصافية لديهم.. كان قد اختفى.. وها هو يطل علي من خطوط الفيسبوك بعد ثلاثين عامًا على تلك الواقعة.. ترى هل يكون هو .. هل شبه لي؟ لا اعرف اختلط علي الامر، فعاد يقول لي:

-اعترف ان قصصك الاخيرة مكنتني من التجوال في بساتين بلادنا الغناء واعماق انسانها المعطاء.. شكرًا لك.. 

ما ان قال هذه الكلمات حتى رأيتها فرصة مناسبة لتبين جلية ما يحدث في تلك اللحظات العصيبة.. قلت له:

-كل كاتب في العالم يتمنّى ان يستمع إلى مثل هكذا كلام.. في مديح انتاجه.. شكرًا لك.. هل تريد ان تضيف شيئًا؟

ارسل ابتسامة ملأى بالغموض الواضح:

-طوّل روحك علي.. وتعامل معي تعامل كاتب مبدع مع قارئ معجب.. 

هززت راسي علامة تقبّل كلماته.. لعلّه يمضي في طريقه ويخلي لي ما تبقى من الليل لأواصل وحدتي معه.. إلا انه فأجاني بموقف غير متوقع.. خرج من خطوط الفيسبوك واتخذ مجلسه قبالة مكتبي.. وضع رجلّا على رجل:

-انت تستحق كل تكريم.. كاتب مبدع مثلك يستحق ان يقرأ في اكثر من لغة

هزّتني كلماته هذه. اثارت طيور طموحي فراحت تحلق شاقة الافاق غير عابئة بالليل واهله. نسيت ما انا فيه. وقلت له:

-اهلي لا يقرؤنني.. فهل يقرؤني الناس في لغات اخرى؟

ارسل ضحكة دوّت في ارجاء الغرفة، قال:

-اهلك لن يقرؤك يا مُعلم.. الا اذا قرأك ابناء لغات اخرى.. عندها سيعرفون قيمتك وقيمة ابداعك.. كما عرفت انا

عندها سألته عمّا اذا كان يعمل مترجمًا ادبيًا، فاخبرني انه تعلّم في مدرسة عبرية، وأن بإمكانه ان يفتح لي طاقة مشرّفة في هذه اللغة.. الاغلب ان توصلني إلى ما تبقى من لغات.. وتابع يقول:

-اعطني مجموعةً او مجموعتين من قصصك يا تشيخوف العرب.. وسوف ترى ماذا بإمكان زائر غريب يأتيك في آخر الليل وأول الصباح ان يفعل.. انتابني شعور غامر بالفرح.. وانا استمع إلى كلماته المعبّرة المؤثرة الرائعة.. خاصة عندما وصفني بما تمنّاه كل كاتب عربي ولم يكن لاحد منهم. تشخوف العرب.. تناولت مجموعة قصصية كتبتها مستوحيًا احداثَها من حياة الكاتب الروسي العظيم انطون تشيخوف.. محبوبي وفاتني.. واخرى من حياة نظيره الكاتب الفرنسي المفلّق جي دي موباسان. ناولته المجموعتين.. بيدين آملتين، فتناولهما بيدين واثقتين.. وخرج نازلًا ادراج بيتي.. درجة بعد درجة.. وكأنما هو يعد ادراجه.. بعد دهرٍ من الانتظار.. رأيته يبتعد عن بيتي.. ويأخذ في تطيير اوراق مجموعتي الغاليتين.. عن تشيخوف وموباسان.. واحدة عقب الاخرى.. كان يطير اوراقهما في الهواء القاتل.. وعندما ابقى عددًا من الاورق في يده.. تمكّنت من احصائها فتوقفت عند الرقم سبعة.. بعدها رأيته وهو يتناول قلمًا احمرَ يشبه قلمي ايام كنت محررًا فعالًا قبل حوالي الثلاثة عقود من الزمان.. وراح يشطّب كلماتي الرائعة.. كلمة اثر كلمة.. وسطرًا بعد سطر.. عندها.. عندها فقط.. همست في اذني.. قائلًا لها .. لقد وقعت اخيرًا يا مُعلّم.. وقعت في كمينك الليلي.. اي كمين هذا؟

***

قصة: ناجي ظاهر

أنا صوتٌ يتفجرُ مِن عُمق ذاتك

يجري في صحرائِك

الموحشة

محملاًً بأكاليل من زهرِ البيلسان

ينشرُ عطرَ المحبةِ

تنتشي روحُك

مِن عذوبتِه

ويغردُ حُلمُك على

رأسِ الصحو

يوقظُ فيك

بهجةَ الحبِ وجنونَ العشق ِ

لك أنا

كما أردتني

امرأةٌ مِن نورٍ ونار

أضيء عتمتك

وأحرِقُ بقايا

نسائِك المنسيات في جُبِ الذاكرةِ

أنا سنبلةٌ من سبعِ سنبلات

أبشرك بعمرٍ مِن اكتفاء

وحبةُ عنب عصرتها

نزواتُك لتصُب

في كأسكِ حتى الإرتواء

لن يأكل الطيرُ مِن رأسِك

إن زرعتني في حديقتِك الخلفية

وقفاً لطيورِ الحب

ولن أخبر بقيةَ النساءِ عنك

فموسمُ التفاحِ محجوب

لأجلٍ غير مسمى

وسكاكيني حادة ٌبما يكفي

لحزِ رؤوسهن اذا

دارت لكي تتبعك

قد يهزِم نوري ناري

وقد يحدثُ العكس

فعندما أحببُتك

تركت ُباب الجنونِ

مفتوحاً على الروح

مِن دونِ قيدٍ أو شرط

في شريعةِ الغاب

أنا ذئبةٌ ... بريئةٌ مِن دمِ ابن يعقوب

وان كانت دِماؤك هي

وسيلتي للحياةِ

على طريقةِ الزومبي

وفي شريعةِ المحبين

انا بثين وليلى وعبلة

كلهن أنا

فلا نجاة يا حبيبي

طريقُك نحو الهُيام بي

يلوحُ في الأفق

رأيتهُ في حُلمي

وفسرتُه كما يطيبُ لي ...

***

أريج محمد احمد

2/6/2021

 

‪‪تناءت وانتمت يوماً وراحت

إلى أقصى الدّيار فلن تعودا

*

إذا عادت؛ فلم ترجع بأمسٍ

ولن تأتي من الشّوك الورودا

*

لأنّ الغصن مقطوعٌ؛ فأضحى

يباساً أجرداً.. جذراً وعودا

*

إلى أنْ شاب فوديها بياضٌ

وطاف النّجمُ في الصَّدغين سودا

*

رأت ما كان في أمسٍ جفاءً

لنور الله مذ عمَّ الوجودا

*

فعاد اليومَ ما فيها وضيئاً

بروح كان يحويها وليدا

*

وذي كالحُور قد عادت إليهِ

أخاً قد صار في أختٍ سعيدا

*

فيا أختاه؛ ما أحلى زمانٌ

يعيد المرءَ في الدُّنيا جديدا

*

وما أقساه من عمرٍ تمادى

إلى منفاه مقصيّاً طريدا

*

فيا دنياي لا تبقي نفوساً

عنيداتٍ، ولا تبقي العنيدا

*

عسانا ﷲ يعطينا.. فنحيا

- كما أعطى - لنا عمراً مديدا

*

نموسق ما مضى لحناً قديماً

ونعزفُ حزننا ناياً وعودا

*

فقد ملَّ الفؤاد.. كما مللتِ

فحان الوقت.. هيتِ أنْ نعودا!

***

رعد الدخيلي

 

هُــدُوءُ الـلَّـيْـلِ يَـضْـجَـرُ مِـنْ سُـكُـونِي

تَـغُـوصُ خُـطَـايَ بِـالـدَّرْبِ الْـحَـزِيـنِ

*

وَقَـــدْ سِــرْنَـا نُـحَـدِّقُ فِــي سَــرَابٍ

يُــغَـنِّـي لِـلـعِـطَـاشِ بِـــلا مَـعِـيـنِ

*

أَنــــا والــحُــزْنُ أَنْـشَـبْـنَـا خِــيَــامًـا

عَــلـى طَــرْفِ الـحَـقِـيـقَةِ وَالـظُّـنُـونِ

*

نُـعَـانِـقُ لَـيْـلَـنَـا الْـمَـشْـحُـونَ زَيْــفًـا

تَــرَاكَــمَ مِــــنْ عَــنَــاءَاتِ الـسِّـنِـيـنِ

*

تَــوَضَّـأْتُ الْأَسَـــى فِـــي كُـــلِّ فَـــجٍّ

وَصَـلَّـيْـتُ الـتَّـوَجُّـسَ فِـــي عَـرِيـنِـي

*

فَهَلْ فِي الْأَرْضِ مَا يُرْضِي احْتِمَالِي؟

وَغَـــدْرُ الــنَّــاسِ أَصْــبَـحَ كَـالْـيَـقِـيـنِ

*

أَنــا يــا صَـمْـتَ لَـيْـلـي، كُـنْـتُ طِـفْـلًا

يُـخَـبِّـيءُ فــي الـنَّـدى شَـوْقَ الـجَـنِينِ

*

وَيَـحْـسَـبُ أَنَّ فـــي وَجْـــهِ الـمَـرَايَـا

رُجُـــوعًـــا لِـلـطُّـفُـولَـةِ وَالــحَــنِـيـنِ

*

وَلَـــكِــنْ كُـــــلُّ مِـــــرْآةٍ تَـــصَــدَّتْ

بِــكَــفِّ الــشَّــكِّ لِــلْـوَجْـهِ الأَمِــيــنِ

*

فَــأَدْرَكْــتُ الـنِّـهَـايَـةَ قَــبْــلَ بَــــدْءٍ

لِــمَــا تَـحْـوِيـهِ مِـــنْ خُــبْـثٍ دَفِــيـنِ

*

تَـعَـلَّـمْـتُ الْــــوَدَاعَ بِــكُــلِّ صَـــوْتٍ

وَصَـافَـحْـتُ الـشِّـمَـالَ مَــعَ الْـيَـمِـينِ

*

أَنَــا وَالْـحَـرْفُ نَـغْـزِلُ مِــنْ شَـظَـايَـا

رُؤًى تُـقْـصِـي الــرَّخَــاوَةَ بِـالْـعَـجِـيـنِ

*

وَنَــكْـتُـبُ فِــــي مَـلَامِـحِـنَـا حُــرُوفًــا

تَـخَـطَّـتْ فِــي الْــوَرَى حَــدَّ الْـجُـنُـونِ

*

فَـإِنْ سَـأَلُـوكِ عَـنْ وَجَـعِـي، فَـقُولِي:

شِــرَاعٌ لَــمْ يَـجِـدْ ظَـهْـرَ الـسَّـفِـيـنِ

*

أَنَـــــا أَفْــنَــيْــتُ شِــرْيَــانِـي نَــزِيــفًـا

وَصُـغْـتُ خُـطَـايَ مِــنْ نَــارٍ وَطِـيـنِ

*

أُقَـبِّـلُ فِــي الْـغِـيَـابِ ظِــلَالَ أَهْـلِـي

وَأَلْـثِـمُ فِــي الْـجِـرَاحِ مَــدَى الْـوَتِـيـنِ

*

سِـهَـامُ الْـغَـدْرِ لَــمْ تَـهْـدِمْ قِـلَاعِـي

فَــقَـدْ بَـنَـيْـتُ عَــلَـى صَــخْـرٍ مَـتِـيـنِ

*

وَلَا كَــيْــدُ الْـحَـسُـودِ يَــهُــدُّ رُوحِـــي

هِــيَ اعْـتَـادَتْ عَـلَـى صَــوْتِ الْأَنِـيـنِ

*

فَـيَـا صَـمْـتَ الـسِّـنِـينِ، أَجِـبْ نِـدَائِـي

أَأَمْــضِــي، أَمْ أُقِــيــمُ كَـمـالـرَّهِـيـنِ؟

*

أَأُكْــمِـلُ سَـيْـرِيَ الْـمَـنْـفِـيَّ وَحْــدِي؟

فتُـطْـفَـأ نَــشْـوَةُ الْأَحْــلَامِ دُونِــي؟

*

وَهَــلْ يَـكْـفِـيـكَ أَنْ تَـبْـكِـي قَـصِـيـدِي

إِذَا مَـــا مُـــتُّ وَانْـغَـلَـقَـتْ جُـفُـونِـي؟

*

أَنَـــا فِـــي فِـتْـنَـةِ الْـمَـعْـنَـى سُـــؤَالٌ

يُـحَـلِّـقُ فَـــوْقَ هَــامَــاتِ الـظُّـنُـونِ

*

أُغَــذِّي الـصَّـبْـرَ إِنْ مَــا ذَابَ صَـبْـرِي

وَلَا أُفْـشِـي لِـمَـنْ حَـوْلِـي شُـجُـونِـي

*

فـــإِنِّــي لَا أُجِـــيــدُ الْــيَــوْمَ عَــزْفًــا

سِـوَى رَسْـمِ الـسُّكُونِ عَـلَى الْـجَبِينِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

في نصوص اليوم