نصوص أدبية

نصوص أدبية

سأني خطبي وأعياني الضجر

وتخطتني دهاليز الكدر

*

لا سواد الليل يشفي علتي

وضياء الصبح قد بات أمر

*

فكدير الخطب ما أن ينضوي

وهدير العشق ما أن ينتظر

*

بين أشجان وقلب موله

لم يزره السعد في يوم أغر

*

لا حبيب يرقب الشكوى ولا

وتر غنى ولا ذنب غفر

*

وسألت القلب عن حب لها

أنما الايام في الحب قدر

*

فرجاني الشوق أن لا أنثني

ورأيت القلب قد بات صقر

*

كلما رمت لأدنو قربها

جاءت الايام أمرا لا يسر

*

كلما عدت لأرجو وصلها

ما رأيت الحظ في يوم بدر

*

ليس بطرا كلما غبت  أسيت

قد طربت فوق فنجان السمر

*

قد يراني غير صوت صادح

كان عزفي فوق ألحان القدر

*

لست أخشى بعد كل ما رأيت

من دواهي سحرها او ما بدر

*

هل شهدت ميتا في جلد حي

أوكزته كل ألوان الشرر

*

يا ألهي كم رقاني حلمك

كنت وقدا مثل أسناء الدرر

*

كلما جئت رباك لائذا

لذت عني مثل سيف قد نصر

*

نعم بالله الذي في أضلعي

وهو يجزي حق من كان صبر

*

يا ألهي لست أخشى ما أسيت

عمر غاب فوق أوصاب الضجر

*

ورجوت في صلاتي محسنا

زال عني كل مشؤوم القدر

*

عدت أحيا في رباك صامتا

ورجائي مثل  تسبيح القمر

*

هذه الدنيا سراب زائل

أضرمتها كل أنفاس الشرر

*

هذه الاولى متاع راحل

ما رجاها الا وهن قد غرر

*

نعم بالله الذي في أنفسي

قد شفيت كلما سئت غفر

*

عندما صرت ضيائي مشرقا

ما ربتني الا أسرار الظفر

*

سطع البدر علينا بعدما

طالت الاحزان أغصان الشجر

***

د. علي الاسدي

 

تقول الشاعرة

لا تتكلمي مع شاعر، اقرئيه وحسب

إن كان مساءً، أعدِّي لنفسك كوباً من شاي الأعشاب

في النهار، لا تسرفي في القهوة أمام قصائده

ببساطة ابتعدي عنه

يقول الشاعر

لا تتكلم مع شاعرة، اقرأها فقط

إن كان مساءً، هيّئ نفسك للحلم

في النهار، هيّئ أيضاً نفسك للحلم

ببساطة ابتعد عنها

الشاعرة تفهم البحر

الشاعر يفهم الشجرة

هي تغرقُ وهو يحترقُ

يُرمى لها طوق النجاة فتخرج من البحر قائلة

لا تقرئي الشاعر وحسب، تحدثي معه

إن كان مساءً هيّئي نفسك لرقصة تحت القمر

‏في النهار هيّئي أيضاً نفسك للرقص أمام المرايا

ببساطة اقتربي منه

بعد الحريق ينزل المطر

فيخرج الشاعر من الرماد قائلاً

لا تقرأ الشاعرة فقط بل تحدث معها

إن كان مساءً، ادفن نفسك في سُرّتها

في النهار، ادفن نفسك أيضاً في سُرّتها

ببساطة وَحِّد صوتك فيها كي تولد منها

‏تقول القارئة لم أفهم شيئاً

ويقول القارئ لم أفهم شيئاً

المعنى في قلب المستمعات والمستمعين

***

فارس مطر

برلين 10.11.2025

من الغيابِ إلى دهشةِ العرشِ

(يَا ابْنَ مَزونَةَ، أَيُّ فَجْرٍ قَادَنِي

حَتَّى نَسِيتُ خَرِيطَتِي، وَسَرَتْ يَدَايَ)

[السِّفْر الأوّل: القلبُ الغريق]

*

المَوْجَةُ عَاتيَةٌ،

اِعْتَصَرَتْ قَلْبي،

غَسَلَتْ نَبْضَهُ،

عَلَّقَهُ الذُّهُولُ شِرَاعًا...

أَشْهَدُ لِيَباسٍ

كَشَفَ عَوْرَةَ فُرْشاةِ العُمْرِ.

بُهَاقُ صُورَتي لَفَحَتْها سُمْرَةُ المَعْرِفةِ،

قَضْمَةٌ قَادَتْني لِسَحيقِ القَصْرِ،

شَقَاءُ النَّفْسِ،

شَهْقةُ لَذَّةٍ،

قِناعُ الصَّمْتِ...

"وقالَ العَرّافُ:

هٰذا الفتى مَرْزوقٌ،

لكنَّهُ لَنْ يَسْعَدا،

محفوظٌ بسِرٍّ رَبّانِيٍّ،

لكنَّهُ

سَيُصْحِبُهُ الشَّقَاءُ

كَوَسْمٍ لا يَزُولُ..."

[كمْ وُرِّثتَ من المَنافي؟

مذْ خُطَّتِ النقوشُ على جُدرانِ وِلادتِك،

والماءُ غَرْبٌ،

والصلاةُ بَرْدٌ،

والسماءُ بلا جَناحينِ ولا طَلَلٍ…]

*

أُرْخِيتُ نَجْمِي فِي الدُّجَى، وَتَمَايَلَتْ

خُطُوَاتُ نَفْسِي فَوْقَ صَهْوَةِ غُرْبَتِي.

{2}

(مَا بَيْنَ زُبَيْدٍ وَسَلُوقَةَ غُصَّتِي،

وعَلَى يَدَيَّ تَمَزَّقَتْ سُبُلُ المَعَانِي)

*

[هلْ كانتْ وطنًا؟

أم خَيمةً للغيم؟

أم نَبيًّا ضَلَّ فِي لُغَةِ السراب؟

وحْدَهَا سَلُوقَةُ تُطفئُ فَزَعَ المدى،

تُربِّي الأسماءَ فِي كِنَانَةِ الشكِّ،

ثُم تُلقِّنُهَا النِّسْيَانَ، اسْمًا بَعْدَ اسْمٍ.]

*

"فَلَنْ يُفَارِقَ جُرْحُ الرُّوحِ مَنْ لَا يَكْرَهْ…

سَيَبْقَى وَحِيدًا طُولَ عُمْرِهِ،

لِأَنَّهُ لَا يَنْسَى."

ضَاعَتْ خَرَائِطُنَا، وَكُنَّا نَكْتُبُ الـ

مَجْهُولَ فِي أَسْفَارِ رَمْلِ الْمَأْتَمِ.

وَالْقَنْدِيلُ يَنْقُشُ فَوْقَ جِدَارِ نَفْسِي

أَنَّا سَنَرْجِعُ… لَوْ بِوَهْمِ الْعَاشِقِ!

{3}

(أَرْنُو إِلَى ظِلِّي… وَأَرْجُو صُورَتِي،

لَكِنَّنِي… فِي دَاخِلِي… كُنْتُ الْغَرِيبَا)

*

[وَكُنْتَ تَقُولُ: هَذَا الضَّبَابُ وَطَنٌ،

أَوْ: هَذِهِ السُّحُبُ الَّتِي لَا تَهْطِلُ إِلَّا شُبْهَ نَارٍ…

قُرَيَا؟

لِي مِنْهَا ظِلٌّ وَاحِدٌ فِي كُلِّ فَجٍّ،

وَلَكِنْ لَا رَبِيعَ لِي.]

*

"احْتَجَزَ الْبَرْقَ فِي الظَّلَامِ،

وَأَهْدَرَ ضَوْءَ الصُّبْحِ

عِنْدَ عَتَبَاتِ الْحُلْمِ."

فَتَحَتْ نُفُوذَ الْغَيْمِ فِكْرَتُنَا، وَمَا

خَرَجَتْ سِوَى الْأَشْوَاقِ مِنْ جُبِّ الدُّجَى.

{4}

(قَصْرُ طَيْبَةَ فِي جُفُونِي رُقْعَةٌ،

وَالْمَاءُ يُهْمِسُ فِي الرِّمَالِ: هُنَا الْمَآبُ)

[السِّفْر الثاني: الْحُبُّ وَالْغِيَابُ وَالْمُسْتَحِيل]

*

بَعِيدًا عَنِ الشَّاطِئِ،

الْوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْنِي هُوَ اللَّهُ.

الْحُبُّ…

الْأُنْثَى الْمُجَرَّدَةُ مِنْ مَفَاتِنِهَا،

الصَّدَى يُنَازِعُ صَوْتِي آنَئِذٍ…

أَحْلَامُ ضُحَى الشُّمُوعِ نَفَقَتْ بُكَاءً.

أَيَّتُهَا الْجَزِيرَةُ الْمَنْشُودَةُ…

أَعْلَمُ أَنَّكِ لَنْ تَكُونِي حَقِيقَةً،

لَكِنَّهُ الطَّبْعُ: الِاحْتِفَاظُ بِالْوَرْدَةِ طَيَّ دَفْتَرِ ذَاكِرَتِي…

لَمْ أَكُنْ مَعْنِيًّا بِالْعِطْرِ،

أَتَوَقَّعُ الشُّحُوبَ…

هِيَ مَا اقْتَرَفْتُهُ خَطِيئَةً أَعْتَزُّ بِهَا.

"عُشْبَةُ النِّسْيَانِ تَاهَتْ،

وَعَقِيقُ الصَّغِينَةِ عِنْدِي…

مِنْهُ أَرْتِيكَارِيَا!

فَكَيْفَ النِّسْيَانُ؟ وَأَيْنَ مَخَارِجُهُ؟

وَأَنَا؟ أَنَا لَسْتُ النِّسْيَانَ."

*

[أَعْرِفُ أَنَّكَ - مِثْلِي -

تَحْفُرُ صَوْتَكَ فِي جُدُرَانِ قَصْرِ طَيْبَةَ،

وَتَمْسَحُ مِلْحَكَ عَنْ رُخَامِ مَغَارَةٍ فِي صِقِلِّيَّةَ،

وَتَنْقُشُ وَجْهَكَ فِي زُرْقَةِ عَيْنِ امْرَأَةٍ تُسَمِّيهَا الْمَنْفَى…]

*

مَنْ فِي التَّنَاصِيفِ اغْتَسَلْنَا طِينَهُ،

لَمْ يَسْتَطِبْ خَمْرَ الْمَعَانِي وَافْتَرَى.

{5}

(صِقِلِّيَّةُ نَادَتْ بِرِيحٍ تَائِهٍ،

وَرَمَتْ عَلَى سَفَرِي مَلامِحَ ضَيْعَتِي)

*

[لَيْسَ فِيكَ مَكَانٌ وَاحِدٌ،

بَلْ كُلُّ مَا نُفِيَ فِيكَ… صَارَ مَقَامًا.

سَاحِلُ ظُفَارٍ،

أَدْغَالُ غَامْبِيَا،

ضَوْءُ بَرْكَةِ الْحَسْوِ حِينَ تَفُتُّ جُثَّتَكَ الْقَدِيمَةَ…

إِذْ تَنَامُ، وَيَغُوصُ الدُّودُ فِيكَ.

فِي فَلْكِنَا نَحْنُ النُّجُومُ، وَوَعْدُنَا

فَوْقَ الرِّمَالِ… وَمُهْرُنَا: أَسْرَارُنَا.

وَالْمَنْفَى امْرَأَةٌ تَبِيعُ أَصَابِعِي،

وَتُعِيدُنِي لُغَتِي… لِأَمْحُوَ مَا بَقِيَ.

"دَلَعَ لِسَانَ طَيْفِهَا،

تَغَنَّجَ عِطْرُهَا،

ذَاكَ الَّذِي يَسْكُنُ فِي أَحْنَاءِ نَفْسِي..."

*

[هٰذَا جِدَارُكَ!

يَا ابْنَ غُبَارِ الْقَوَافِلِ…

مَا كَتَبْتَ عَلَى الْحَجَرِ؟

*

(اسْمِي نَسِيءٌ فِي الدَّفَاتِرِ…

كُلُّ هُوِيَّاتِي رَمَادٌ…)]

{6}

(ظُفَارُ أُنْشُودَةُ الدُّخَانِ بِرَأْسِيَ،

غَانَا تَبْكِي فَوْقَ مَوْتِ الْبِدَايَةِ)

*

الْعِشْقُ،

بِفَرَحٍ غَامِرٍ،

يَسْكُنُ مِشْكَاةَكَ.

أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ،

هَشٌّ نُورُكَ...

*

[سِفْرُ الثَّالِثُ: الْأَنْقَاضُ الْكُبْرَى]

مَأْتَمُ الدُّخَانِ،

أُمَمٌ تَؤُمُّ مَوَانِئَ النِّسْيَانِ،

تَمْلَأُ الرُّوحَ أَنْفَاسَ الْأَوْثَانِ

الْمُغِيثَ لِلْغَرْقَى

بِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ غَصًّا!

عَيْنَاكِ تُدَاعِبُ أَوْجَاعِي،

خَجَلِي...

كُلُّ مَا سَأُصَادِفُهُ هُنَاكَ.

"لِيَكُنْ هٰذَا الْبُكَاءُ

صُورَةَ الرُّوحِ الَّتِي

لَا تَسْتَظِلُّ

سِوَى نَفْسِهَا…"

رُوحُ الْمَكَانِ كَانَتْ مُحِقَّةً.

أُفَكِّرُ بِالنَّهْرِ الْمَالِحِ،

وَعَبْرَةُ الرِّيحِ تَتَوَضَّأُ

لِتُمَارِسَ فِعْلَ التَّنَاسُلِ

مَعَ الْجُرُوفِ.

*

[لَمْ تَصِلْهَا…،

لَا لِأَنَّهَا وَعْرَةٌ،

بَلْ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُشْبِهُكَ حِينَ تُخَاصِمُهُ،

فَتَأْخُذَكَ مِنْكَ الرِّيحُ،

وَتُرَوِّحُنَكَ الْجِهَاتُ.]

*

مَنْ يَجْمَعُ الْآفَاقَ فِي كَفِّ الرُّؤَى؟

مَنْ يَسْتَعِيرُ النُّورَ مِنْ خَفَقِ الدَّمِ؟

{7}

(بِرْكَةُ الْحَسْوِ الَّتِي كُنَّا بِهَا

شَرِبَتْ جُرُوحَ الْقَافِلَةِ… ثُمَّ انْطَفَأَتْ)

[السِّفْرُ الرَّابِعُ: مِرْآةُ الْفَقْدِ وَمَسْرَحُ الْوَهْمِ

*

خَزَنَ عَقْلِي دِفْءَ لَوْنِ الْفُقْدَانِ...

أَيَّتُهَا الْأُكْذُوبَةُ:

أَضِيئِي فَنَارَ الْعَتْمَةِ،

دَرْبُ الْعَوْدَةِ دَنِفٌ بِالْغِيَابِ،

صَحْبُ الْبِلَاشِينِ الْمُهَاجِرَةِ،

سَحَرَتْهُ نَجْمَةُ الشِّمَالِ.

"يَتَكَوَّرُ الْحُلْمُ الْمُبَاحُ بِدَمْعِهِ،

وَيُرَتِّقُ الذِّكْرَى عَلَى أَشْلَاءِ نَفْسِي"

مُنْذُ فَجْرِ الْبَشَرِيَّةِ

أَسْمَالُ مَنَادِيلِ التَّضَرُّعِ

تَمْسَحُ دَمْعَ الضَّيَاعِ..

يَلُوحُ لِأَسْرَابِ الطُّيُورِ،

شَاخَتِ السَّمَاءُ،

وَهُوَ خَسِرَ خُلُودَ الْمَوْتِ.]

*

[أَكَانَ الْحِجْرُ مَخْبَأً لِلْغَيْمِ؟

أَكَانَ الْمَوْتُ رُقِيًّا؟

أَكَانَ دَفْقَ بُكَاءٍ فِي عُيُونِ الْأَوَّلِينَ؟

أَكَانَ الطِّينُ مَوْطِئَكَ الْأَخِيرَ؟

لِتَكُنْ رَحِيلًا دَائِمًا…]

*

كُلُّ الْمَنَارَاتِ انْحَنَتْ، وَمَآذِنُ

خَرَجَتْ مِنَ التَّكْبِيرِ صَوْتًا مُعْتِمًا.

{8}

(مَا بَيْنَ أَنْطَاكِيَةَ وَالْحِجْرِ ضَوْءٌ قَدْ نَامَ

فَانْحَدَرَتْ خُطَايَ إِلَى الرَّمَادِ)

*

(فَالْعَتْمَةُ غَابَةٌ أَثْمَرَتْ

كُلَّ مَا فِي السَّلَّةِ...)

*

"مَا بَقِيَتْ إِلَّا الرُّمُوزُ تُلَاحِقُنِي،

نَحْوَ سُؤَالٍ هَادِرٍ لَا يَرْحَمُ"

*

[أَنْتَ الْآنَ تُقِيمُ،

لَا فِي بَيْتٍ،

وَلَا فِي قُبَّةٍ،

بَلْ فِي تَأَمُّلِ وَرَقَةٍ طَارَتْ مِنْ صُفْرَةِ الْخَرِيفِ…

يَا ابْنَ النِّسْيَانِ،

هَلْ أَنْتَ شِعْرٌ لَمْ يُكْتَبْ بَعْدُ؟]

*

وَالْوَقْتُ يَبْصِقُ فِي السَّمَاءِ نُذُورَهُ،

وَالْأَرْضُ تَخْشَى أَنْ تُجِيبَ، وَتُتْهَمَا!

{9}

(أَسْأَلُ جِدَارَ الْوَقْتِ: هَلْ يُخْفِي دَمِي؟

وَيَقُولُ: دَعْ عَنْكَ الْوُجُوهَ، وَابْدَأْ!)

*

(الْعُوَيْلُ، هُوَ الْآخَرُ،

مِنْ أَوْطَانِ الضَّلَالِ.)

*

"كُلَّمَا أَقْبَلْتُ صَامِتًا كَصَلَاةٍ،

أَخْرَجَتْنِي الدَّمْعَةُ الْكُبْرَى لِنَفْسِي"

*

[فِي جُرْزِ الْهُوِيَّةِ رَأَيْتُ رُؤَايَ،

رَأَيْتُ الْوَحْيَ بَيْنَ أَظَافِيرِ الْعُمَّالِ…

فِي بَازِلَ سَكِرْتُ بِخُبْزِ الشُّعَرَاءِ،

وَفِي مَتْرُو أُوسْلُوَ قَرَأْتُ هُوِيَّتِي مَطْمُوسَةً…]

*

نَحْنُ الَّذِينَ تَفَحَّمُوا مِنْ صَمْتِهِمْ،

وَتَفَجَّرُوا فِي الشِّعْرِ صَوْتًا مُلْهَمًا.

{10}

(فِي … كُنْتُ الْقَصِيدَةَ، ثُمَّ قَبَضَتْ يَدَايَ

عَلَى اِرْتِجَافِ التُّرْجُمَانِ)

*

(ظِلُّكَ عَرَبَةُ غَجَرٍ

تَقْرَعُ جَرْسَ الرِّحْلَةِ الْجَافَّةِ…)

*

"كُلَّ مَا فِيهَا يُنَادِينِي خَيَالًا،

ثُمَّ يَخْفِي وَجْهَهُ فِي جَوْفِ كَأْسِي"

*

[تَقُولُ الْحُرُوفُ:

هَلْ هَذَا غُصْنُكَ؟

تَقُولُ الْأَنْهَارُ:

هَلْ هَذَا نُعَاسُكَ فِينَا؟

تَقُولُ التَّوَارِيخُ:

كُنَّا هُنَاكَ…

وَلَمْ نَجِدْكَ.]

*

إِنْ كَانَ فِي الْأَحْرُفِ نُجَاةٌ، فَاسْتَقِ

قَنْدِيلَكَ الْمُطْفَى، وَهَاتِ الدَّمْعَ مَا!

{11}

(فِي أُوسْلُو… رَأَيْتُ هُوِّيَتِي تَغُوصُ،

كَأَنَّهَا وَرَقٌ عَلَى سُهُدِ الشِّتَاءِ)

*

"هَلْ أُصَلِّي، أَمْ أُرَتِّلُ نَارَ وَجْدِي؟

أَمْ أَكُونُ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ جُلُوسِ؟"

*

[أَصِلُّ؟

لِمَنْ؟

لِكِتَابٍ لَمْ يُكْتَبْ؟

لِأُمٍّ بَعَثَتْنِي، ثُمَّ عَادَتْ تَوْصِينِي بِالضِّيَاعِ؟

لِظِلٍّ؟

لِرَمَادٍ؟]

*

يَا أَيُّهَا الْمَنْسِيُّ فِي صَحْرَاءِ نَفْسِي،

كَيْفَ انْتَبَهْتَ لِمَا أَقُولُ وَغِبْتَ عَنِّي؟

مَا بَيْنَ نَصِّي وَالْمَرَايَا فَاصِلٌ،

قَدْ كَانَ ظِلِّي، ثُمَّ صَارَ تَنَكُّرِي!

كُنْتُ الْمُسَافِرَ وَالطَّرِيقَ، وَمَا دَرَيْتُ

لِمَنْ أُضِيءُ الْحُلْمَ… لَكِنِّي أَرَى…

{12}

(هَلْ كُنْتُ صَوْتِي؟

هَلْ رَأَيْتُ حَقِيقَتِي؟

أَمْ أَنَّنِي كُتِبْتُ،

وَلَمْ تُقْرَأْ… خُطَايَا؟)

*

"أَيْنَ أَزْرَارُ الْحَنِينِ إِذَا طَفِتْ

فَوْقَ مَوْجِ الرُّوحِ أَشْلَاءُ الْقُيُودِ؟"

*

(يَقْطِينَةُ يُونُسَ،

ضَرَبَتْهَا هَاجِرَةُ الْقُرُونِ.)

*

[السِّفْرُ الْخَامِسُ: مُنَاجَاةُ الْقِنْدِيلِ وَصَرْخَةُ الْوَحْدَةِ

يَضْجَرُ أَنْ تَكُونَ

قُرْبَ الْعَرْشِ تَسْمَعُ وَتَرَى،

وَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَيْكَ

مِنَ الشَّيَاطِينِ،

وَأَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ]

*

[لِكُلِّ مَا فَاتَ…

أُقَبِّلُ اسْمِي عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةٍ،

وَأَمْحُوهُ بِنَفَسِي.]

*

فِي كُلِّ نَصٍّ: نَارُ وَجْدٍ سَرْمَدِيٌّ،

وَتَرَاتِيلُ الرَّمْلِ… تُسْمِعُنِي دَمًا.

فِي كُلِّ جُرْحٍ أَغْنِيَاتٌ مِثْلُنَا

تَبْكِي عَلَى حَافَاتِ نَفْيٍ أَسْهَرَا.

{13}

(يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ

ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا)

*

"كُلَّمَا مَرَّتْ خُطَاهَا فِي دَمَائِي،

قُلْتُ: هٰذِهِ وَجْهَةٌ فَوْقَ الْوُجُودِ

فَاغْتَسَلْتُ بِمَاءِ حُلْمٍ يَابِسٍ،

وَانْتَشَيْتُ بِرُوحِ صَمْتٍ لَا يُفِيقُ

كَيْفَ لَا تَبْكِي الظِّلَالُ عَلَيْنَا؟

كَيْفَ تَصْعَدُ دِمَشْقُ فِي وَهَجِ النُّدُوبِ؟"

*

(الْخَائِبَةُ كَالنَّاسِكِ،

نَهْدٌ نَزَعَ عِبَادَةَ عُزْلَتِهِ.)

*

يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ

ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا.

{14}

(فَاصِلَةٌ…

قَبْضَةُ السِّكِّينِ وَقَلْبُ الضَّحِيَّةِ.)

*

"مَا بَقِيَ فِينَا سِوَى وَجْدٍ يُنَادِي،

عَاشِقٌ يُصْغِي لِحُزْنٍ فِي السُّجُودِ"

*

[كَأَنِّي مِنْ…

يُعِيدُ اللَّهَ مِنْ مَنْفَاهُ…

إِلَيْهِ.]

*

نَحْنُ الَّذِينَ تَنَاثَرُوا فِي غُرْفَةٍ

صَفْرَاءَ، حَيْثُ النَّفْيُ يُرْعِبُ أَغْنِيَا.

مَا ضَاعَ مِثْلُ الْحُلْمِ إِلَّا فِي يَدَيْـ

ـنَا وَنَحْنُ نَظُنُّهُ لَنْ يُسَلِّمَا!

*

فَاكْتُبْ، كَمَا تَكْتُبُ النُّبُوءَةُ، صَمْتَهَا،

وَازْرَعْ كَمَا يَزْرَعُ الْحَنِينُ يَبَابَنَا.

وَاسْمَعْ أَنَاشِيدَ الضِّيَاءِ… فَإِنَّهَا

فِي اللَّيْلِ تُعْلِنُ: أَنْتَ… أَنْتَ الْغَائِبُ.

***

د. سعد غلام

 

من أيِّ نافذةٍ تلوّحُ باسِمًا

فتعيدُ لي وجهَ الطفولةِ حالِمًا

*

​يا نفحةَ السرِّ الخفيِّ ترفَّقي

قد عادَ قلبي للنداءِ مُخاصما

*

​في صمتِ عينيكَ التجَلّي واضحٌ

نوراً يُحيلُ الكونَ ظِلًّا ناعِمًا

*

​أنصتُّ لاسمِكَ في الرياحِ فإنّها

تُصغي إليكَ وتستفيضُ معالما

*

​ما كنتَ إلا في المدى سرَّ الهوى

متجسِّدًا نُورًا، وسِرًّا قادِمًا

*

​يا منْ تركتُ على المدى آثارَنا

ومضيتَ تزرعُ في الفؤادِ عوالِمَا

*

​علّمتَني أنَّ الطهارةَ رحلةٌ

تمضي خفيَّ البوحِ، صمتًا كاتما

*

​وغسلتَ في نهرِ اليقينِ حنينَنا

حتّى غدونا بالضياءِ عزائِمَا

*

​فإذا الظلامُ تبدَّدَتْ أستارُهُ

والصبرُ في دربِ الوصولِ غنائِمَا

*

​حتّى رأينا كلَّ شيءٍ واقعاً

في عينِ منْ بالحقِّ كانَ مُسالِمَا

*

نرنو إليكَ، وكلُّ دربٍ موصلٌ

نُورًا، إذا طَهُرَ الفُؤادُ سَلالِمَا

*

​وَيَظَلُّ سِرُّكَ لِلْقُلُوبِ مُلازِمَا

يَهْدِي سُلُوكَاً حَيْثُ كَانَ القادِمَا

*

​كُلُّ الوُجُودِ لَهُ صَدَىً وَخَفِيقَةٌ

يُصغِي إِلَيْكَ بِقَلْبِهِ مُتَفاهِمَا

*

​فَالشَّوْقُ حَوَّلَنَا إِلَيْكَ حَبِيبَنَا

وَالحُبُّ جَاوَزَ كُلَّ حَدٍّ حَاطِمَا

*

​نَهْرُ المَحَبَّةِ فِي الضُّلُوعِ مُتَدَفِّقٌ

يُجْرِي إِلَى بَحْرِ الحَقِيقَةِ عَالِمَا

*

​فِي كُلِّ سِرٍّ نَسْتَبِينُ ضِيَاءَهُ

مِنْهُ اسْتَفَقْنَا وَالصَّبَاحُ تفاقما

*

​فَكَأَنَّ قَلْبِيَ لَمْ يُغَادِرْ حُزْنَهُ

خَلْفَ النَّوَافِذِ بَاكِيًا وَمُلَازِمَا

*

فِي كُلِّ عُمْرٍ لِيْ سَرابٌ مَوْجِعٌ

وَالفَقْدُ ظِلٌّ مَا يُفَارِقُ عَالَمَا

*

رُوحُ المَحَبَّةِ فِي الضُّلُوعِ مُتَدَفِّقٌ

يَجْرِي إِلَى بَحْرِ الحَقِيقَةِ عَالِمًا

*

فِي كُلِّ سِرٍّ نَسْتَبِينُ ضِيَاءَهُ

مِنْ نُورِهِ نُحْيِي القُلُوبَ سَلَالِمَا

*

فَكَأَنَّ قَلْبِيَ لَمْ يُغَادِرْ حُزْنَهُ

إِلَّا لِيَرْتَقِيَ الفَنَاءَ كِرَامًا

*

فِي كُلِّ عُمْرٍ لِي سَرَابٌ لَامِعٌ

يَهْدِي خُطَايَ إِلَى الحَقِيقَةِ حَالِمًا

*

​وَلَقَدْ مَضَتْ خَمْسٌ وَلَمْ يَشْفَ الجَوَى

وَالجُرْحُ بَاقٍ بِالفُؤَادِ مُلازِمَا

*

​وَالآنَ نَخْتِمُ سِيرَةَ العُمْرِ الَّتِي

عَادَتْ إِلَى نَفْسِ النَّوَافِذِ باسِمَا

***

د. جاسم الخالدي

اركضْ بوجهكَ، فإنّ الْوحْلَ في الأذقانِ

للّذي به تَرَفٌ

فالنّخلُ قد سمَّجَه الْغيمُ

و ما طابت سماؤه وما هَطَلَتْ.

كأنّ صَمْغَ الْقَحْطِ عنه غيَّبَ القمرَ

فاكتفى به سَعَفًا

واتّسَعَتْ في نُسْغِهِ قصائدُ الْجَدْبِ وفي المطرِ.

قد شَحَّتْ أعذاقُهُ

مُذْ أرضُه عَقِرَتْ

و سكنت أقواسُه

مُذْ غَلَّها الْقَرَفُ.

*

اركُضْ بوجهكَ

فَصَكُّ الغفران للَّذي بالْوجهِ قد ركض،

و إنَّهُ أزمنةٌ للصَّبِّ في الصَّبَبِ.

صكُّ الغفران رذاذٌ مِن ظِلالِ الصّمتِ والتِّيهِ

بلا صَخَبٍ.

يأتيكَ بالْمَنِّ وأطواقٍ مِنَ الْغَمامِ

كالصَّدَفِ.

*

اركُضْ بوجهكَ

تَجِدْ مُغْتَسَلا مِن كَدَرِ الطّينِ،

و فيه أنتَ تعْتَكِفُ.

سيَنْزَعُ التُّفّاحُ منْكَ ظُفْرَهُ

ووَخْزَةَ الْقَشَفِ،

وستُصَفِّقُ لكَ الْمِرْآةُ

والْجُدْرانُ تبتَسِمُ.

ستَتَعَلَّمُ هناك

كيف تُنْسَى سِدْرَةٌ بالرَّمْلِ تَلْتَصِقُ…

*

اركُضْ بوجهكَ إلى الْهُناكَ

تَنْعَمْ بِهَوَى الْقِيعةِ والظُّلَمِ.

تلك الْفاتِنَةُ ،

في وجهكَ يَلْتَمِعُ غَيْمُها وينْتَثِرُ.

في كفِّها الْقَدَحُ والْأَعْنَابُ تَخْتَمِرُ.

مَفْتُونٌ بِثَوْبِها بَحْرُكَ والْبَصَرُ.

في أقداحِكَ

صَبَابَةُ الّتي شَغَفَها يُوسُفُ حُبًّا،

وبهِ كَلِفَتْ…

*

اركُضْ بالْوَجْهِ إلَيْها والْوَجْدُ فيكَ يَتَّقِدُ

و لكَ في ذاكِرَةِ الطّينِ

مَنَافِذُ لِأَوْجَاعٍ تَضْطَرِمُ .

و لَكَ في ذاكِرَةِ الْيَبَابِ،

مِعْرَاجٌ لِلْحَيَاةِ والسَّكَنِ…

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

في لَيْلِنَا انْفَرَجَ الكَلامُ وَأَزْهَرَا

وَتَناثَرَتْ أَرواحُنَا كَمْ أَبْحَرَا

*

جَلَسَ الرِّفَاقُ عَلَى مَقاعِدِ وُدِّهِمْ

كُلٌّ يُضِيءُ بِما تَجَمَّعَ أَشهُرَا

*

هذَا يُحَدِّثُ عَنْ حَنِينٍ غائِرٍ

ذَاكَ ارْتَوَى مِنْ وَجْدِهِ قَدْ أُغْمٍرَا

*

وَالنَّجْمُ يُصْغِي مِنْ عَلٍ فِي صَمْتِهِ

ضَيْفٌ كَرِيمٌ قَدْ أَتَى كَيْ يَسْهَرَا

*

وَالْبَدْرُ يَكْتُبُ فِي الفَضاءِ رِسالَةً

لِلشِّعْرِ: كُنْ شَهْدًا، وَكُنْ حُلْمًا يُرَى

*

أَقْداحُنَا لَيْسَتْ سِوَى كَلِماتِنَا

مِنْ نَبْعِهَا ارْتَشَفَ الجَمالُ وَأُسْكِرَا

*

فِي حَضْرَةِ الأَشْعارِ نُبْصِرُ أَنَّنَا

نُمْسِي لِنُوْقِدَ فِي الظَّلَامِ الأَدْهُرَا

*

بِضِيائِهَا حِضْنُ القَصِيدِ يَضُمُّنَا

وَتَزُفُّ أَوْتَارُ الهَوَى كُلَّ الوَرَى

***

بقَلَم: سليمان بن تملّيست

تونس فِي 2025/08/24

 

كانت الباب الحديدية لمدخل المنزل الخارجي مواربة، دَفَعتهُ بهدوء وحذر، على يساري تمتد حديقة البيت الصغيرة، كانت عالماً بظلالها الوارفة، يشذّب صاحبها أوراق أشجارها بحنان، ويرويها بيدٍ تعرفُ مواقيتَ العطش، كل نبتة فيها لها حكاية، كل شجرة تعرفُ صوتَه. تنصت إليه حين يتحدث، تعرف خطواته كانت كائناً يتنفس، يشبهه في صمته وإشراقه.

تُذكّرهُ شجرة النارنج في البيت الأول الذي أقامت فيه عائلته بعد عقود من (التّهجْوِل) في البيوت المستأجرة. وبالأمّ التي كانت بدموعها تسقي فيه شجرة النارنج. كانت الحديقة مرآة لروحه، بسيطة، مرتّبة، مسوّرَة بأشجار الآس.

في يوم قائظ استقبلتني الحديقة بصمتها الغريب، لأول مرّة بَدت غريبة، كأنّها تجهلني وتأنف من خطوي، لم يكن الصمت فيها هدوءاً، بل كابوسا يضغط على صدري بقوّة، لا عصافير تحطّ على الأغصان، ولا نسمات تعبث بأوراق الشجر، كل شيء واقف، صامت، مترقب. هالني مشهد شجرة النارنج التي تقوّس جذعها ويبست أوراقها، ومع ذلك بقيت ثمارها معلّقة، كأنها ترفض أن تهبَ الحياة بعد أن غاب من يحنو عليها بعينيه، رأيتها كأمّ مفجوعة تحمل أبناءها على كتفيها. إلى جوارها شجرة الزيتون، ما زالت خضراء يانعة، تتحدى الموت، تصرّ على أن تبقى حيّة.

بَدَت الحديقة كأنّها مرآة لفصول البشر: حياة تستمر، وأخرى تنطفئ، مشهد كأنه صراع بين غياب يحكم قبضته، وحضور يقاوم ليبقى. وبيت يحمل صدى خطوات غابت للأبد، لكن كل شيء في المكان يروي أن (علاء) ما زال حاضراً، وإن الغياب ليس سوى شكل آخر من الحضور. في ذلك المشهد، فهمت أن علاء موجود في الثمار اليابسة التي لا تسقط، في شجرة الزيتون الخضراء التي ترفض الموت، موجود في وداع الجيران لسيارته، كأنها جنازة ثانية، خرجوا جميعاً يودعونها كما ودعوا علاء ليلة التشييع، أحاطوها بنظرات حزينة حين تأكدوا أنها ستغادر المكان إلى حيازة رجل غريب.

تذكرتُ يوم كتبَ ماركيز عن قرية (ماكواندو) في «مئة عام من العزلة»، كيف كانت الأشجار تذبل حين يغيب أحد أحفاد العائلة. «ماكواندو» القرية الوهمية التي أنتجتها مخيلة ماركيز، كانت الطبيعة فيها شاهداً على انقراض العائلة. هنا في حديقة علاء تتكرر الحكاية بلغة حزينة أخرى، كان محمود درويش يقول: نكتب كي لا نموت، لكنه رحل وبقيت الكلمات تدور بين أغصان بيته، مثل أرواح تبحث عن صاحبها. والإنسان ليس خارج الطبيعة، بل ذروتها الواعية، حسب ابن عربي حين يقول: الكون كلّه شجرة، وأنت ثمرتها. هذا التواصل بنظر الصوفيين يسمّونه «أنس الكائنات»، حين تشعر بأن هذا الكائن يفهمك من دون كلام، كما يقول جلال الدين الرومي: أنصتُ إلى الشجر كيف يصلي حين يسقط المطر.

لم تعد شجرة النارنج بحاجة إلى كلام، أدركتُ منذ اللحظة الأولى أنها ليست كائناً صامتاً، بل ذاكرة قائمة بذاتها، إنها تحفظ الزمن في جذورها، وتخزن في جذعها النور، كما نحفظ نحن الوجوه والأصوات في أعماقنا. لقد فهم الأنبياء والعارفون هذه اللغة منذ البدء، وكان الحوار بين الإنسان والشجرة ليس مجازاً شعرياً، بل علاقة حقيقية تقوم على تبادل الصبر والحنين. في الكتب المقدّسة، كانت الشجرة أولى المعارف وآخر الوصايا، في الإسلام شبّه الخالق الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، كأن الجذر هو الإيمان، والفرع هو الأمل. اقتربت إلى الشجرة ببطء، مددت يدي ألمسُ لحاءها، فارتعشت أصابعي، هل الشجرة ارتجفت، أم أنا؟

ـ أين صاحبك؟ ألم يأت هذا الصباح ليسقيك ماءً؟ ألا تفتقدين صوته وهو يناديك: صباح الخير؟

لم تجبني. لكن نسمة خفيفة مرّت بين الأغصان، فسمعت ما يشبه تنهيدة بعيدة. كأنها تتذكر اسمه، أو تردّ عليه بتحية.

قلتُ ثانية: هل مات فيك حين رحل؟ أم ما زال في جذورك؟

الآن، وأنا أقفُ تحت أغصانك اليابسة، أشعر بأنكِ ما زلتِ في انتظاره. رفعتُ رأسي نحو السماء، شعرتُ بأنه يسمعنا، وربّما يبتسم الآن من جهة الشمس.

***

جمال العتابي

يـا عــاذلي في مَـنْ أُحـبُّ

هـل عـاد لـلـمـجـنـونِ لُـبُّ

*

كُـفِّ الـمـــلامَ ولا تَــزدْ

نــارًا بـأحـشـــائي تَـشــبُّ

*

نـاهـيـكَ عـن ذِكـر الهـوى

داءٌ ولـيــس إلـــيـــه طِـــبُّ

*

لـو كُـنـتَ مـمـن يـعـشـقـونَ

لـقُــلـــتَ إنّ الــحـــبَّ ربُّ

*

ولَـعَــمـري إنّ حـبـيـبـتي

مـثــل الـنـســيـمِ إذا يـهــبُّ

*

تـمّـتْ بهـا خـيـرُ الـصـفـاتِ

وحـسـنُها يـصــفـو ويـربـو

*

وإذا تُـطــــيـلُ لـوجـهـها

نَـظـــرًا فـــلا مـلـلٌ يــدبُّ

*

تـركــتْ فــؤادي مُـدنـفًـا

ولـهـــانَ مِـن ألـــمٍ يَـعِــبُّ

*

وأنـا أسـيـرُ حـبـيـبـتـي

مـاذا ســيـفـعـلُ مَـنْ يُـحـــبُّ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

العراق / الكوت في 3 / حزيران / 1971

(العراق في رباعيات)

عندما فتّحتُ عيني كان عهد النُخّب

كان عهداً جائراً في عين حرّ وأبي

صعقته ثورة جاءت بلا محتسب

فإذا بالحكم يهوي كبناءَ خرِبِ

**

رقص الشعب وغنّى عالياً في طرب

آملاً أن غداً جاء لنيل الأرب

لكنِ الفرحة زالتْ بتفشي الشغب

وخصام القادة الأحرار خلف الحجب

**

إذْ تمادت فئة جهلاً وراء المنصب

وبدا الإرهاب يسري كلسان اللهب

وقف القائد حيرانَ ولا من عجب

أنَّ من ناصره أصبح رهنَ الرِيَبِ

**

والذي عاداه حقّاً نال خيرَ الرتب

كان قد أخطأ تَكراراً ولمّا يُصِبِ

لم يدمْ إلّا سنيناً حيث بعث العرب

أغرق الشعب جميعاً في خضم لجب

**

صيَّر الأرضَ يباباً والدِّما في سَرَبِ

في حروبٍ أحرقتْ كلَّ ذكيٍّ وغبي

صرعته قوة عظمى أتت عن كثب

وأقامت حكم غاب من ضباع السّهب

**

ها هي الأعوامَ مرَّتْ حلماً فـي وسنِ

لمْ أكــنْ أحسَبُني مِن بعدَ كلِّ المِحَــنِ

أنْ سأبقـى نابضَ القلبِ صحيحَ البدنِ

شاهداً عَهْدَ لصوصٍ عصفـوا بالوطـنِ

**

هل يقوم البحر مهتاجاً بغسل الدرن؟

هلْ سيشدو الطائر الغريد فوق الفنن؟

هلْ يكون الروض فتّاناً لكلّ الأعين؟

أم تراه محضَ حلمٍ عُمَق هذي الدُّجَنِ؟

***

د. بهجت عباس

8 تشرين الثاني (نوفمبر 2025)

.........................

Eras have passed, and an era is yet to pass

Written and translated by Dr. Bahjat Abbas

When I opened my eyes, it was the era of the elites.

An unjust era in the eyes of a free man and a proud.

A revolution struck it down, unpredicted and fierce,

And the regime collapsed like a crumbling building.

**

The people danced and sang loudly in joy,

Hoping that tomorrow would fulfill their wishes.

But the joy vanished with the spread of chaos.

With the conflict of the free leaders behind the scenes.

**

A faction, in ignorance, chased after power,

While terror spread like a tongue of flame.

The leader stood bewildered and no wonder,

those who supported him became under suspicion.

**

And the one who opposed him rose to high ranks.

Though he erred again and again, never hitting the mark.

It lasted but years, when the Arab Baath sank,

Drowning the people in a turbulent dark.

**

It turned the land into a wasteland, and blood flowed in a stream,

In wars that burned the brilliant and dull.

A mighty power struck him down from nearness.

And set up a jungle rule of steppe hyenas.

**

Now the years have passed like a dream in sleep,

I never thought, after all ordeals,

That I’d remain—heart beating, body still sound—

A witness to era of thieves who ravaged the land.

**

Will the sea rise raging to cleanse the stain?

Will the songbird sing again on the bough?

Will the meadow bloom to charm all eyes?

Or is it but a dream in the depth of the darkness.

November8, 2025

كعادتها كلَّ صباحٍ، حين تنبثق الشمس من رحم البحر كوليدٍ يغتسل بالنور، خرجت فُلّة تركض على الساحل الصامت، ذلك الشريط الفضيّ الذي يمتدّ بلا نهاية أمام عينيها. كانت تركض وحدها كما اعتادت، تتنفس الملح والنسيم، وتُصغي إلى وقع أقدامها وهي تنسج لحنها الخاص على الرمل النديّ.

في تلك اللحظات، كانت تشعر أنها أخفّ من الريح، أن الشاطئ كله ملكها وحدها. بعض المارة حيّوها بابتسامةٍ خجلى، وآخرون حاولوا مجاراتها في الجري، لكنها ظلّت ماضية في خطّها، تتنفس بعمقٍ، وتُصغي إلى موسيقى أقدامها على الرمال، كأنها نبض الأرض نفسها وأن العالم يتراجع خلفها كظلٍّ ذابل.

لكن..

سرعان ما تغيّر كل شيء.

بدأت الوجوه تتكاثر حولها، أجساد بشريةٍ متلاحقة تتقافز، تركض بجنونٍ لا تعرف له سببًا. حاولت أن تسبقهم، أن تحافظ على نسقها ونغم خطوتها، غير أن الزحام تكاثف حولها والتفّ كطوقٍ خانق. سواعد تتشابك، أكتاف تتدافع، أنفاس تلهث... تحول الركضُ إلى معركةٍ بلا ضوابط، كأنهم يركضون لأجل النجاة من شيءٍ لا يُرى.... تعثّرت، ارتدت.. تراجعت خطوة، انكمش الهواء من حولها.. ضاق صدرها، شعرت بالاختناق، بالغثيان، بالعرق يتصبّب منها كخوفٍ سائل. دوّى في أذنها صخبٌ غريب، كأن البشرية كلها تركض على جسدها. أرادت أن تصرخ، لكن صوتها ضاع بين اللعنات والركلات والأنفاس اللاهثة الحامية.. عندها فقط، شهقت شهقةً واحدة، وقفزت كمن يبحث عن الهواء... وانطلقت فجأةً إلى الأعلى.. الى الأعلى....

ركضت فوق الرؤوس، خفيفةً كغمامةٍ من ضوء.

كان المشهد تحتها يتقلّص شيئًا فشيئًا، حتى صار كتلةً من الظلال المتزاحمة. هناك، في ذلك الارتفاع الطليق، شعرت بأنها تحررت من كل ما يقيدها. ملأت رئتيها بالهواء، وأحسّت أن روحها تنفتح كزهرةٍ خرجت من جحيمٍ عميق.

ركضت بكل ما أوتيت من قوة.

ارتطم بصرها بجدارٍ أسمنتيٍّ هائل، ممتدٍّ إلى ما لا نهاية، يقف أمامها كأنه حدّ الوجود ذاته. اصطدمت به بكل اندفاعها، اصطدمت به بكل قوتها محاولة اختراقه. ارتدت للخلف، سقطت، لكن شيئًا ما في داخلها رفض السقوط. نهضت، واجهت الجدار بعزمٍ جريح، ركلته بقدمٍ ملتهبةٍ بالإصرار، مرة.. ومرة أخرى..

وأخرى..

وأخرى، بلا كلل.. حتى انشقّ الجدار فجأةً، وتدفقت منه ريحٌ قوية أسقطتها على أرضٍ طريةٍ ندية..

وجدت نفسها بين أذرعٍ دافئةٍ تشبه حضن أمٍّ طال فراقها.

الطمأنينة تسللت إلى جسدها، والرائحة حولها تنضح بعطر الطلع الفتي. تلمّست الجسد الذي احتواها، أحسّت بخشونةٍ مألوفةٍ ودِفءٍ يعرفها منذ الطفولة... وعرفت فجأة: إنها النخلة العتيقة، عمّتها الحنون وسط الدار، التي طالما ظلّلت طفولتها، وها هي الآن تحتضنها من جديد.

ارتخت أنفاسها..

سكنت روحها..

كل شيء تلاشى، حتى البحر خلفها بدا كذكرى بعيدةٍ عند حافة السكون.

رفعت بصرها نحو السعف المتمايل قربها، رأت فيه لمسةً خفية، كأنها تسألها: ما الذي يحول بينك وبين نفسك؟

أغمضت عينيها..

تسلل من أعماقها صوتٌ خافت، كأنه اعترافٌ تأخر كثيرًا:

"كم نخاف الصمت، كأنه مرآة تكشف ما نحاول ستره و نسيانه."

وحين فتحت عينيها، تطلّعت إلى الفجوة التي خلّفتها ركلاتها في الجدار، رأت من خلالها عالمًا رماديًّا مترامي الأطراف، بلا سماءٍ ولا أرض، ضبابٌ كثيف يبتلع كل شكلٍ ولون. تسلّل رعبٌ غامض إلى قلبها، رعبٌ مجهول، كأنها تقف على حافة العدم. لكنها هذه المرة لم ترتدّ للوراء.. فقد كانت في حضن النخلة الام، وتذكّرت كيف يبقى الجذر صامدًا في عمق الأرض، لا يهرب من الريح، بل يعانقها حتى تهدأ.

مدّت يدها تلامس راس النخلة بخشوع، كابنةٍ عائدةٍ إلى رحم الامان، وقالت بصوتٍ مبلولٍ بالامتنان:

"ظننتني أهرب إليك، وما علمتُ أني كنت أعود إليّ. أنتِ لم تُنقذيني من الهلاك فحسب بل ولدتني من جديد،"

امالت النخلة رأسها في صمتٍ حنون، فاهتزّت سعفاتها كما لو كانت تبارك ميلادها الثاني، ثم أسقطت في كفِّها تمرةً تشعّ بلون الفجر. تناولتها برعشةِ مَن يذوق الحياة لأوّل مرّة، وكأنّ في الطعم نبوءةَ عودةٍ إلى أصلٍ لا يموت.

كانت تسمع في نسيم الريح همس السعف وقد اختلط بأنغامٍ بعيدة، كأنها تأتي من بيتٍ ناءٍ في الذاكرة:

صوت أختها الكبرى، حَنّة، تغني وهي تمشط شعرها كل صباحٍ بمشطٍ خشبيٍّ فقد لمعانه وبقي دفؤه. تجدل ضفائرها بأصابع تعرف كيف تزرع الطمأنينة في القلب.

تناهى إليها شذى الخبز حين كانت أمّها تعده لهم كصباح يوم جديد، وصوت الديك المشاكس الذي كان يُعلن أن اليوم يبدأ مع كل فجر واعد. كل شيء عاد دفعةً واحدة، كأن بابًا سريًا في الذاكرة انفتح على نهرٍ من ضوءٍ وحنين.

لم تكن تلك الصور مجرد ظلالٍ من زمنٍ مضى؛ كانت وجوهًا حيةً تتنفس داخلها، تمدّها بما نسيته من دفءٍ وقدرةٍ على البكاء.

سكنت فُلّة في حضن النخلة، تلك التي كانت تضمّها بذراعٍ من الرقة، تهدهدها ببطءٍ كأنها تخشى عليها من الهواء. كانت النخلة تحاول اُنزالها برفقٍ من عليائها إلى الأرض، كأنها أمٌّ تخشى أن تُوقظ حلم ابنتها.

غمرها دفءٌ لا يُشبه شيئًا، دفءٌ كأنما انبثق من رحم الكون، كأن نعيمًا خفيًا احتواها للحظةٍ لا يعرفها الزمن.

أحسّت بالأرض تمتد تحت قدميها بأناة تشبه الحنوّ.

فتحت عينيها على نورٍ ناعمٍ كابتسامةٍ نسيتها في زمنٍ بعيد، قبّلت جذع النخلة، وهمست لها بشكرٍ لا صوت له.

أومأت النخلة بسعفها نحو الأفق، كأنها تهمس: "هناك من ينتظرك".

التفتت فُلّة، فرأتها.

كانت حَنّة تمشي من عمق المسافة، يسبقها نورٌ يعرف طريقه إليها، وجهها هالة من سكينةٍ وحنان. بدت كأنها خرجت من عمق الأفق لتعيد للعالم نَفَسه الأول.

ركضت فُلّة نحوها، احتضنتها كما يحتضن الغريق اليابسة التي حلم بها دهراً، تشبّثت بيدها التي ما زالت تعرف شكل الطفولة والأمان.

قالت حَنّة بصوتٍ يشبه نسمةً تنحني على جرحٍ قديم.

ـ إلى أين نمضي يا فُلّة؟

ابتسمت فُلّة، وفي عينيها بريقُ مَن وصل بعد غيابٍ طويل، وقالت:

ـ إلى الشاطئ...  هناك حيث تبدأ الحياة..

سارتا بخطى متناسقةٍ، يداً بيد، حتى بدا وكأنهما ظلّان لروحٍ واحدة. وحين لامست المياه أقدامهما، أخذ البحر في احتضانهما شيئًا فشيئًا، حتى غمرهما برفقٍ مهيب. تمسكت "فُلّة" بأختها، لا خوفًا من الماء فحسب، بل اتكاءً على وجودٍ هو بالنسبة لها يقينٌ في وجه العدم. التحمت بها حتى تماهتا، حتى صار الاثنان كائناً واحدًا من نورٍ وماءٍ وذاكرةٍ نقية...

ثم، في لحظةٍ خاطفة، قفزت "فُلّة" من أعماق الموج، شهقت شهقة الحياة الأولى، ورفعت وجهها نحو السماء. هناك، رأت النوارس تحوم في دوائر واسعة، كأنها تبحث عنها هي، أو عمّا تبقى منها. أطلقت صرخةً حرّرت بها ما علق في صدرها من ضيق وأشجان، وفجأةً، ارتدّ الصدى جافًّا، بلا موجٍ ولا نوارس.

كانت على سريرها، استيقظت، تختنق من وهم الموج.

**

سعاد الراعي

2025.11.09 المانيا

 

طالتْ غفوتكَ تحت شعري المُنسَدِل

وضجِرت أَقْراطِي!

متى تصْحو لتلثِمَ ندى روحي؟

وتدغدغ بسمة نبضي

لا تتأرجح بين أَنفاسيَ مُتردِّداً

ها أنا وَعْدٌ يَتَهادى بثوبِ الأزل

يشُقُّ ضبابَ الحيرة

ليُزهرَ على شفتيكَ

قدراً سرمديَّ الصَّدى

يخفقُ بأجنحةِ الخلودِ

نحوَ عَينَيكَ

دَعْني أستَنشِقُ عَبيرَكَ

سَأبُثُكَ نَسماتِ المَلائِكة..

وأُهدي إليكَ أَسْرَارَها

هلمَّ إليَّ

وتشبَّثْ بجذع روحي

لأضمَّك بجناحي قلبي

أرويكَ من فيض وريدي

هَلْ ليَ أَنْ أُلَملِم

روحك بأهدابي؟

هل ليَ أن أحتضن

دموعَكَ بين ضفَّتَي شَفتيّ؟

***

الياقوتُ المُتكِئُ على شَواطِئكَ

يَتوقُ للتَجديفِ عكسَ التَّيار ...

ينتظرُ نبوءَةَ العِشقِ

وولادةَ العذْراء

أنتَ فقط مَنْ يَملِك القَرَار

تَرجَّلْ عن صهوَةِ الحيرة

خُذْ بيدي

إلى بَرزخِ الحُلْمِ

هناكَ أشاطِرُكَ العِشْق

طريقاً للفِردَوس

***

سلوى فرح - كندا

 

اللغةُ تهتزُّ بين أصابعي،

كما لو أنّها طفل عنيد،

تتشظّى في فمي قبل أن أتمكّنَ من جمعها،

تتعثرُ في مساماتي،

تسقطُ في أزقّة الروح،

تحاول أن تُغطّيَ صخبَ العدمِ،

لكنَّها لا تفي،

لا تفي بمقدارِ صراخِ الزمن.

*

أمزقُ الحروفَ كأوراقٍ قديمةٍ،

أجمعُها على شكلِ قميصٍ لم يعد يدفئ،

يغدو قلبي عارياً أمامَ التجربة،

أحاول أن ألبسه،

فتتمزّق الخيوطُ في راحتي،

ينسلّ المعنى بين الأصابع،

تظلُّ الكلماتُ تترنّحُ على حافةِ الصمتِ.

*

الواقعُ يضغطُ على اللغة،

يضغطُ على المسافاتِ بين النطقِ والفكر،

يطوي الصباحاتِ في سطرٍ واحدٍ

ويذبح الليلَ بلا رحمة،

والألمُ يمتدُّ كجسرٍ مهدمٍ

بين ما أرغب في قوله، وما أستطيع...

*

أرى الصورَ تتساقطُ،

تتكوّرُ كأجسادٍ صغيرةٍ

تختبئُ في حنايا النصّ،

أمسكُ ما تبقي،

أعيدُ ترتيبَها في جدائلَ متشابكة،

لكنّها لا تتّحدُ،

تبقى شظايا،

بقايا لغةٍ لم تعد قادرةً على التعبير.

*

أسألُ عن العالمِ،

عن أولئك الذين يشربون من أنهارٍ ملوّثةٍ،

عن الغيومِ التي تحمل دخانَ المدن،

عن الصباحاتِ التي تذهب بلا موعد،

عن المساءاتِ التي تنهار فوق رؤوسنا،

وكلُّ ما أملكَه هو قميصٌ ممزق،

أحاول أن ألبسه على جسدِ الواقع،

وأتمنى أن لا ينكشف كل شيء.

*

أحاول أن أغني،

لكن الأوتارُ مقطوعة،

والحنجرةُ مسدودةٌ بالحجارةِ،

أحاول أن أطير،

لكنّ الريشَ منتوف من جناحي،

أحاول أن أكتب،

لكنَّ الكلماتَ تهربُ مني

كما يهربُ الماءُ من أيدي العطاشى.

*

اللغةُ، مثل مرآةٍ مكسورة،

تعكسُ بعض ما هو موجود،

لكنها لا تُعيدُ الصورة كاملةً،

أرى في شظاياها نفسي،

أرى العالم،

أرى الألم،

وأدركُ أنّ ما بيننا وبين التعبيرِ

هو فجوةٌ سحيقةٌ،

لا يربطها إلا حلمٌ صغيرٌ،

قميصٌ ممزقٌ

يحاول أن يدفئَ الروح العاريةَ من المعنى...

***

مجيدة محمدي

اتركوا لە الطريق

سيأتي ههنا..

ظل طويل

ذو سبعة أرواح

مديد القامة في الليل

كشجر السرو

بينما في النهار

لا يكاد أن يرى،

عاد إلى شوارع متداخلة مكتظة

لم يبق رقعة، أزقة

لا يؤدي فيها رقصة الفوضى

مات بالأمس

يُقدم اليوم في عزائه ماء

حي يرزق ومتيقن

ان صرح الدنيا لم تبن لە وحده

والكل يمارس طقوس الحياة

حتى ضفدع أعور أو سلحفاة معاق.

*

لا تقترب كثيرًا من الأوركيد

لئلا تتحول فجأة إلى أشواك

كدبيب دعسوقة

على ظهر اليد

تثير دغدغة آثار الأقدام

إصبع تحركها، بغيا أن تطير

سرعان ما تلدغ وكأنها دبور

قالوا لا بأس

ربما بايبولار (١)

*

فسحة للخطوات

خفق وخطى

تحدث في القلب شرخا من بعيد

مثلثات، مربعات ومسدسات‌!

إنها قادمة

قطرة متجمدة

على حافة جرف

في شتاء أعزل

تشهد كل ما يفعله الصعيق القاهر

ولا تنطق بحرف،

بل تنتظر الربيع

أن يفك قيدها

ثم تتدفق الى النهر المضطرب

سعيا لسفر متجدد

*

ماذا عساك أن تفعل؟

أسهوا سقطت ههنا؟

أراك هكذا منطوية

على غصن زمزريق مقبرة صامتة،

وحشود متحمسة

على أبواب الوصول، جامدين،

قبل مد يد المصافحة:

ضربة شقت ظهر ديباج

وفوق كل شاهد قبر

حسرة صماء قابعة

وعلى غصن منكسر، قطرة متدلية

ترى الخفايا ولا تنطق حرفا

ويا عجبا لصدق الحقائق

عانقهم الشوق ورحلوا مبكرًا

ولا ينبض قلب الحياة

الا بالدماء..

*

ضجيج

لا شيء سوى رعد، تنكسر برقه في السماء

تنبت به (شوك الجمل) في القاع

محاط بضرعاء متطاولة متطفلة

قالوا: دونە ستجف الغابة

هذي حكمة الفوضى

اطردوا من جسد الشجر

هذه القوة الخارقة، صاعقة قشعريرة

تمر من الرأس الى القدم

وحلق مخنوق

ملأى بأطعمة عفنة.

هكذا ناقوس المحيط

الكل مستسلم، متلائم مع وجوده.

هو من:

يعلم سيموت إذا عض،

ويفعل!

ويستجيب لنداء بايولوجيا الأبكم

وقد يبوء عبء الندم...

قالوا لا ضير، إنه الأوكسيتوسين(٢)

*

يا قطرة تحولت من جامد الى سائل

مازلت باقية على الدرب

ترى من دون همس

يا قطرة متجمدة على الصخرة الصماء!

يا ندى نقية القلب والقامة!

يا من، همستك شفتي السحر

في هذا الحشر الجنوني

حفاة

والطرق جمر

خالية من المشاة

آثار الخطوات متبقية

متناثرة في كل الاتجاهات،

من سيتنبأ:

بتضاريس ضباب الفوضى؟

قراءة جغرافية الجبين؟

أم اعوجاج خطوط راحة اليدين؟

متحير

غير واثق

الطريق خال، وآثار الأقدام

مثلثات، مربعات ومسدسات‌!

على طول المنحدرات....

*

أين تتسائل؟

صرع يصيب كرسي

مستتر، مستهتر

وشعع من غرف المزارات

تضاهي ظلام الأكواخ.

أفي الشمال أم الجنوب

ترآى النقيضان؟

والتفاهات سواسية

قطرتان من الندى

معلقة بغصن زيتون شبه يابس

أفي الأسفل: دبكة، أم مأتم؟

وهنالك داخل نهرمتموج

سمكة متحيرة في مجرى تائه

تمر بوادي الذئاب المفزع،

وهل بقى شيء مازال لم يرَ

- لوحة غرنيكا؟(٣)

- ضحكٌة مليئة بالدموع؟

آن الأوان أن تبحث وتدور

مرارًا وتكرارًا

عن تفسير حلم

(بلا أجنحة..طيران)

ودون جدوى.

في جنون هذا الحشر

أين تسلك طريقا؟

بعدا لضغوط دوائرمجوفة

على أية خريطة

تجد جغرافيا الشعراء؟

إنها أرضٌ قاحلة معبئةٌ بالفوضى

هنا أطر الأفكار

تنكسر تباعا

ومازلت تبحث عن نفسك

في دواوين مهجورة

وفضاءات لامتناهية

***

سوران محمد

................

Bipolar -1: اضطراب ثنائي القطب

2- هورمون العاطفة Oxitocin

3- لوحة غرنيكا، بابلو بيكاسو، ١٩٣٧

هو واحدٌ مِنَ الرجال الافاضل الذين تعرّفت إليهم في لحظة قاتمة مُعتمة، فأناروا، لم يكن شخصية معروفة لدى الجميع، لا رئيس بلدية ولا مدير مؤسسة تُقدّم خدماتها الكريمة لى ناشدي مكرماتها، وإنما كان عاملًا اجتماعًيا ناشطًا في مكاتب الخدمات الاجتماعية في مدينتنا الحبيبة المشتركة.. الناصرة، يُقدّم خدماته بمهنية عالية رفيعة، مُرفقًا إياها بابتسامة جزلة كريمة، وكلمات طيبة، تدُّل على خلق كريم وأصالة مُحتدّ، ومعرفة مُتعمّقة بالنفس البشرية قبل هذا وبعده.

تعرّفت إلى الفقيد رمزي لطفي نصّار (1958/ الاثنين 4-11-2024)، قبل أكثر مِن عَقدين من الزمان، وكان ذلك عندما قدّمني إليه صديق آخر مِن فُضلاء مدينتنا، هو الصديق الراحل أيضا موسى خبيص.. تعطرت ذكراه. منذ اللحظة الأولى لتعارفنا ذاك شعرت بأنني عثرت على صديق، مُساند ومُعاضد، وأن تلك اللحظة ستشهد ما بعدها.. كونها كانت لحظة فريدة كما اخبرني قلبي. وأذكر يومها أنني أردت أن اطمئن قلبي على مشاعري تلك، فأخبرته أنني أعرف العديدين من الفضلاء من أبناء عائلته المكينة، أمثال الراحلين سمعان نصار، سهيل نصار وعزمي نصار، وما إن ذكرت هؤلاء حتى قاطعني بابتسامة دافئة قائلًا: الجميع يعرف هؤلاء وأنا اعتز بهم وبانتمائي إليهم وإلى هاته المدينة الكريمة المعطاء. أسعدني ما قاله، فاسترقت النظر إلى عينيه فرأيت فيهما لمعة أنس رانية واعدة.. قالت لي إنني ماض على خطى هؤلاء. وهذا ما أكدته الفترات التالية لعلاقتي به، فقد كان يؤكد لي، لقاءً إثر لقاء وجلسةً بعد سابقتها، أن انسانيته حضرت وآثرت الإقامة المُبشّرة في كلّ ما كان يقوم به مِن أفعال، سواء كان ذلك في المساحة الخاصة لعمله عاملًا اجتماعًيا أم في المساحة العامة لوجوده واحدًا مِن أبناء مدينة البشارة الغراء.

في كلّ لقاء لي به، سواء كان في مكان عام أو خاص، كنتُ أتأكد مِن ذلك الانطباع الأول عنه وعن شخصيته، ذلك أن كلّ لقاء يؤكد لي أنه إنسان إيجابي، مُحبٌّ لأهله وناسه وأهل مدينته، بل وعالمه الواسع، وأذكر في هذا السياق أنني كثيرًا ما كنتُ اطرق باب مكتبه، فينفتح لي بكلّ أريحيّة، رقة ولطف، مُرحّبًا مُهلّلا، وداعيًا إياي للدخول لنتبادل الأحاديث الحافلة بالمودة والحادبة على كلّ ما هو جميل ولطيف في الحياة. ولا أذكر أنّه اعتذر وتذمر، أو ادعى بالعمل والانشغالات الكثيرة، وهكذا كان بابه مفتوحًا ومُرحّبًا دائم الترحيب. أما في المرّات القليلة التي بقي بابُه موصدًا، فقد كنت أعرف مِن زملاء وموظفين آخرين له، أنه يخفي وراءه مُشكلة يسعى الفقيد لحلّها باحثًا مع أصحابها عن الحلول المُناسبة لها. وقد رأيت في قليل من الأحيان تلك الوجوه تخرج من غرفته مُبتسمة ومُزيلة عنها ما الحقته بها الأيام من آلام وأوجاع.

هذه النفس الطيّبة الكريمة، وطّدت العلاقة بالراحل الكريم، ولعلّ أطرف ما فيها أنها اتصفت بالندية والاحترام المُتبادل، وهكذا مثلما كنت أفخر به وبإنسانيته الفيّاضة، كان هو يفعل، وقد قدّمني إلى آخرين، في أكثر مِن موقف، على اعتبار أنني واحدٌ من الناس الذين غلبتهم انسانيتهم، ففاضوا على كلّ مَن أحاط بهم مِن مُعذّبي الأرض وأبناء السبيل، بكلّ ما حفلت به قلوبُهم مِن مَودّة، عطف وإنسانية.. حينها عادة ما كنت أرسل نظرة حانية إليه وكأنني أريد أن أشعره وأوحي إليه بما مُفادُه: أنت تتحدّث عني أم عنك؟

مما أتذكّره عن فقدينا الغالي، أنه كان ثاقب النظر، عارفًا لكلّ ما يدور حوله، مؤمنًا بإنسانيته السخيّة المُتدفقة عطاءً وجودًا، ولا أذكر أنني وجّهت إليه طالبَ مُساعدةٍ، إلا وعاد إليّ شاكرًا عارفًا لفضله، في كلّ ما قدّمه إليه مِن أيادي بيضاء، سواء بالقول الذهبي، أو بالفعل الماسي. وقد كان سريع التفاعل فهو لا يؤجل ويسوّف وإنما يُبادر مِن فوره إلى التحرّك والعمل، وتقديم كلّ ما توفّر لديه من معرفة، تجربة ومهنية، وطالما خفّفنا معًا مِن آلام واوجاع مُحيطين بنا مِن أبناء جلدتنا وإنسانيتنا.

لهذا كلّه وتبعًا له، سارع الكثيرون، حين انتشار نباء رحيله المُفزع، إلى الاعتراف بفضله ومبادراته السخية، سواء في تقديمه خدماته الكريمة، أو بمبادراته لتقديم كلّ ما بإمكانه تقديمه دون تذمّر أو تراخٍ. وقد سرّتني إشارة وردت في نعي إخوة لنا في حي الفاخورة، وقعها الأخ المحترم محمد الحلو، تقول إن الفقيد كان مِن أوائل العمّال الاجتماعيين الذين دخلوا إلى ذلك الحي، وبادروا لإقامة نادي المسنين فيه.

رحم الله الفقيد، فقد كان شخصية اجتماعية، تجاوزت حدود اسرتها الصغيرة، لتمتدّ على مساحات واسعة في حيوات اسرتها الكبيرة، اسرتها الإنسانية، لذا كانت الخسارة بها كبيرة وكبيرة جدًا، وتجاوزت حدودها العائلية المعروفة، لتمتدّ إلى آخرين، لا سيّما مِن أولئك الذين أنار لهم الطريق وجعل مِن كلّ مكان حلّ فيه مكانًا رائعًا ويطيب العيش فيه.

***

ناجي ظاهر

‏كنت مشرقةً..

نحيلةً بفستانِك الأسود

الذي يناظرُ أصابعَ البيانو في ركنه الأنيق

أما الليل،

فكان بكامل حُلَّته يُقطِّرُ نفسه في هدوئِكِ الساحر

وكان لابُدَّ من ريشةِ طائرٍ مغردٍ على قبعتِكِ،

لتعيدَ توازني

خلف النافذة الواسعة شارع واسع

وأضواءٌ ومطرٌ يكملُ المشهد

ولأَنَّ لي جرحاً واحداً، فقد آويتُ جراحاً أخرى

لأستطيعَ كتابةَ قصيدةٍ كما تأولّتِ

ثم خرجتُ حاسرَ الرأس

إلى حيثُ شجرةُ الجوزِ التي آثرتُ أن أكون تحتها

وقفوا خلفي بظلال طويلة هادئة

رائحتهم تشي بأنهم شعراءُ هبطوا من الغيم

أمهلوني دقيقةً لسيجارةٍ أخيرةٍ

عرفوا أني لا أدخن فقالوا اكتب قصيدتَكَ الأخيرة

وعندما لم أحرك ساكناً

لم يطلقوا النار على رأسي

ومضوا واضحين بلا أقنعةٍ تحُفُّهُمُ الموسيقا

شاهدُ العيان أكَّدَ أنَّهُ لم يرهم

لم يرَ شجرةَ الجوزِ

ولا الليلةَ الممطرةَ

لا الأضواءَ، ولا الشارعَ

ولا النافذةَ المضيئةَ الواسعة

لم يرَ القبعةَ ولا ريشةَ الطائرِ المغردِ

ولا الليلَ المُقَطَّرَ في هدوئِكِ الساحر

لم يسمع البيانو

ولم يرَكِ نحيلةً ومشرقةً بفستانٍ أسودَ

وقبل أن يختفي ويتركَ المشهدَ فارغاً همس لي مؤكداً،

أني ما زلتُ حياً برأسٍ حاسرٍ

وجراحٍ تؤهلني لكتابةِ قصيدة

***

فارس مطر / برلين

يَا أَنْتَ،

كَمْ بَقِيَ مِنْ صَدَاكَ فِي أَذَنِ الحَنِينِ؟

كَمْ مِنْ رُؤَاكَ تَكَسَّرَ فِي زُجَاجِ الغِيَابِ؟

أَنَا الَّذِي يَكْتُبُكَ مَاءً،

وَيَقْرَؤُكَ نَارًا

2

مَا بَيْنَ نَبْضَيْنِ،

أَغْسِلُ خُطَايَ بِحَبْرِكَ،

وَأَتْرُكُ لِلدَّمْعِ نَافِذَةً تَسْقُطُ فِيهَا اللُّغَةُ

3

أُرَتِّبُ فِي عُيُونِكَ لَيْلِي،

وَأُخَبِّئُ ضَوْءَكَ تَحْتَ جِلْدِي،

لِئَلَّا يَفْنَى المَكَانُ.

أُقَلِّبُ الرَّمَادَ،

فَتَنْبُتُ مِنْهُ حَبَّاتُ رُمَّانٍ

4

أَدْخُلُ غَيمَكَ وَحيدًا،

تَسْتَفِيقُ بِيَ الفُصُولُ كَأَنَّها وَرَقٌ فِي مَاءِ الخُطَى.

أَمْشِي وَالنَّارُ تَلْمَعُ فِي حَجَرِ الأَنْفَاسِ،

أَبْحَثُ عَنْ صَوْتٍ كَانَ يَنْقُرُ صَدْرَ اللَّيْلِ كَالرَّحِيلِ

5

كُنْتَ لِي وَطَنًا مِنْ خَفَقٍ،

وَأَصْبَحْتَ صُورَةَ مَاءٍ تُشْبِهُ الحُلْمَ،

تَنْفُضُ مِنْ نَفْسِهَا نُدُوبَ المَوَاسِمِ،

وَتَكْتُبُ عَلَى جِلْدِ الرَّمْلِ أُغْنِيَةَ التَّبَدُّدِ

6

أُرَتِّبُ فِي ظِلِّي نَبْضَكَ،

وَأُعَلِّقُ عَلَى جِدَارِ المَسَاءِ مَسَافَاتٍ مِنْ نَدَمٍ،

لِأَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّمَادُ

7

مَا الَّذِي فِي صَمْتِكَ يُشْبِهُنِي؟

أَسْتَمِعُ لِحِرْفٍ يَنْزِفُ فِي المَدَى،

وَيَتَدَثَّرُ بِأَسْمَائِي القَدِيمَةِ.

أَسْأَلُ: هَلْ يَسْمَعُ النُّورُ خُطَايَ وَهُوَ يَتَعَثَّرُ فِي الطِّينِ؟

8

كَأَنَّ الغِيَابَ الَّذِي فِيكَ نَهْرٌ،

تَصُبُّ حَوَافِيهِ فِي جَسَدِي،

وَيَغْسِلُ وَجْهِيَ مِنْ وَحْلِ أَيَّامِنَا،

وَيُعَلِّمُنِي كَيْفَ أُصْغِي إِلَى صَمْتِكَ النَّازِفِ الآنَ،

كَيْ أَفْهَمَ المَاءَ حِينَ يَبُوحُ بِلَوْنِ الرَّمَادِ

9

أَنَامُ عَلَى رِيشِ جُرْحِكَ،

أَسْتَعِيرُ مِنَ الرِّيحِ نَبْضَكَ،

وَأَغْزِلُ مِنْ عَرَقِ المَسَاءِ قَمِيصًا لِيَوْمِي،

فَأَصْحُو عَلَى كَفِّ نَارٍ،

تُسَمِّينِي بِمَا لَا أُطِيقُ

10

فِي عَيْنَيْكَ وَرْدٌ يَنَامُ عَلَى جَنَاحِ الحَرِيقِ،

وَيُوقِظُ فِيَّ رَغْبَةَ البَحْرِ،

أَنْ أَسْقُطَ أَكْثَرَ فِي المَوْجِ،

وَأُولَدَ مِنْ جِسْرِ ضَوْئِكَ طِفْلًا

11

كُنْتَ فِي الأُفُقِ شَمْسًا تُفَاجِئُ طِينِي،

وَتُوقِظُ فِي صَمْتِيَ الغَيْمَ،

وَفِي عَرَقِيَ النَّبْتَ،

حَتَّى صِرْتُ أُغَنِّي ظِلِّي

12

مَتَى تَرْجِعُ الأَغَانِي الَّتِي ضَيَّعَتْهَا النُّدُوبُ؟

وَيَرْجِعُ الحُلْمُ مِنْ فَوْضَى الوَجَعِ،

وَيُصْلِحُ كَسْرَ المَرَايَا؟

13

أَمْضَغُ أَسْمَاءَنَا القَدِيمَةَ،

كَمَا يُمْضَغُ التَّمْرُ فِي مَوَاسِمِ الجُوعِ،

وَأَبْكِي إِذَا مَا تَسَرَّبَ مِنِّي الرَّمَادُ

14

فِيكَ أَسْكُنُ وَأَنْسَى المَدَى،

أَسْكُنُ وَجْهَ الحُرُوفِ،

وَأَتَسَلَّقُ نَبْضَ اللُّغَةِ،

حَتَّى يُصْبِحَ الكَلَامُ بُخَارًا

15

أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ،

تَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَجَسَّدُ فِي نَفْسِ الصَّدَى،

وَتَكُونُ الْمَوْتَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفَ يُحِبُّ

16

فِي زَمَنِ الْعَطَشِ،

أَشْرَبُ مِنْ عَيْنِكَ صَبْرَ الْمَلَائِكَةِ،

وَأَكْتُبُ فِي الظِّلِّ أَسْمَاءَ مَنْ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ

17

يَا ابْنَةَ الرَّمَادِ،

يَا مَنْ تَسْكُنِينَ فِي وَهَجِ النَّارِ،

أُسَمِّي الغِيَابَ قُبْلَةً،

وَأَمْشِي عَلَى سُرُوجِ الغَيْمِ،

وَأَحْمِلُ نَفْسِي إِلَى مَهَبِّ النُّورِ الأَعْمَى

18

أَرَى فِي خُطَاكِ حُرُوفًا تُصَلِّي،

وَفِي نَبْضِكِ مِئْذَنَةً تُنَادِي لِلرَّمَادِ،

فَأَسْقُطُ فِي المَاءِ كَمَنْ يَعُودُ مِنَ الغُفْرَانِ

19

أَضَعُ قَلْبِي عَلَى الطِّينِ،

فَيَنْبُتُ فِيهِ بَابٌ مِنَ الحُلْمِ،

يَفْتَحُهُ لَيْلٌ يَتَنَفَّسُ بِنَارِكَ

20

يَا زَمَنَ الْحُرُوفِ الْمَحْرُوقَةِ،

هَلْ بَقِيَ فِي الصَّفْحَةِ مَاءٌ لِكِتَابَتِنَا؟

هَلْ بَقِيَ فِي الْحُلْمِ مَتَّسَعٌ لِلنُّورِ؟

21

مَدِينَتُنَا تَنْهَضُ مِنْ تَحْتِ الرَّمَادِ،

تَرْتَدِي جَسَدَهَا مِنْ نُورٍ وَخُوفٍ،

وَتُسَمِّي الشُّهُودَ أَبْجَدِيَّةَ الدَّمِ

22

أَضَعُ نَفْسِي فِي وَرَقِ الْعُمْرِ،

أُسَمِّي النِّهَايَةَ بَدَايَةً،

وَأَخْتِمُ الرُّمَّانَ بِرَمَادٍ،

لِكَيْ تَبْدَأَ الْحِكَايَةُ مِنْ نُقْطَةِ النَّارِ

23

كودا

الرَّمَادُ…

مِسْكُ الحُرُوفِ بَعْدَ احْتِرَاقِهَا،

وَالرُّمَّانُ…

قَلْبُ المَاءِ حِينَ يَنْزِفُ جَمَالًا

فِيهِمَا تَلْتَقِي الأَضْدَادُ،

وَيَبْدَأُ الوُجُودُ مِنْ لَهِيبِ اللَّذَّةِ وَخُشُوعِ الفَنَاءِ.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

كان الصباح شاحباً، والسماء تلبس لون الرماد، تجمّع عدد من الأمهات والآباء، مع الأشقاء، والزوجات والأطفال، كنت من بينهم، الجميع ينتظرون سيارة السجن التي تنقل المعتقلين، إلى المجلس العرفي، كان أحدهم أبي، وجوههم مشدودة، عيونهم تتطلع إلى اللحظة التي ينزل فيها المتهمون من السيارة نحو قاعة المجلس، " كاكا درويش" الوحيد الذي أُقتيد من بينهم نحو قاعة المحاكمة في معسكر في قلب المدينة، كان مركزاً لتدريب الجنود ومقراً للمجلس العرفي الذي تتشكل هيأته القضائية من ضباط برتب مختلفة، رئيسها برتبة عقيد، انسجاماً مع طبيعة النظام الذي يقوده ضابط عسكري أيضاً.

دُفعَت الأبواب الثقيلة لقاعة المحاكمة، فارتجّ صدى الحديد على الجدران الحجرية، دخل درويش، مكبّل اليدين لكنه منتصب القامة، بخطوات ثابتة كأنه يدخل قاعة للمؤتمرات. لم يلق نظره على أحد، حتى أفراد عائلته الذين انتظروا موعد يوم محاكمته، لم يلتفت لوجودهم، عيناه صوب القفص الحديدي، ثم إلى هيأة المجلس.

كان الصمت كثيفاً، حتى أن أنفاس الحضور على قلّتهم كانت مسموعة كصفير خافت، لا يسمح لأهالي المتهمين بالدخول باستثناء المحامين، ورجال الأمن، والآخرون ينتظرون خلف الجدران!

قاعة المحكمة فسيحة، جدرانها عالية، تتدلى من وسطها ثريا قديمة، مطفأة، علا زجاجها التراب. المقاعد الخشبية تصدر أزيزاً خفيفاً عند كل حركة، خلف المنصّة جلس العقيد رئيس المجلس، بوجه أحمر جامد، يقطر جبينه وقاراً زائفاً. على يمينه ويساره عضوا المحكمة، مختلفان في الرتب، ومتشابهان في حجم كرشيهما، وملامح وجهيهما القاسية. بينما كان المقدّم المدعي العام أشبه براقص يتمايل في عرض مسرحي، يوزع الاتهامات المجانية، منحازاً ضد المتهم.

بدأت الجلسة بصمت مطبق بددته أسئلة العقيد عن اسم المتهم وعمله ومحل سكناه، ثم وجّه اتهامه لدرويش:

ـ أنت متّهم برفع السلاح ضد الحكومة مع (عصابات) تتحصن في الجبال. ما أقوالك؟

رفع درويش رأسه بثبات، صوته قوي وواضح:

ـ هذا اتهام باطل وافتراء، الصحيح، نحن الذين لنا الحق في توجيه الاتهام للنظام الذي يمارس سياسة القمع ضد القوميات والأقليات، وأضاع ثروة البلاد في حروب لا معنى لها، نعم أنا ضد الديكتاتوريات وحكومة الاستبداد.

همهمة خافتة تتصاعد في القاعة، أحياناً تتحول إلى ضجيج، رجال الأمن يتحركون،

العقيد يصرخ بأمر التهدئة ويطرق على الخشب:

اسكت! هذه محكمة وليست منبراً سياسياً. أنت وقح تجاوزت حدودك. ثم يأمر بإخراجه، لكنه استدرك وأعاده إلى القفص بعد أن هدأ الهرج. ثم نادى على أول شاهد، رجل خمسيني بوجه متردد، يرتدي بدلة رمادية، عيناه كانتا تفضح قلقه. ثم نادى على الثاني، كان أشد وقاحة من الأول، شاب مشحون وعيون مراوغة. ثم نودي على محامي الدفاع المنسّب من المجلس، رجل أشيب ببدلة فاخرة، وربطة عنق مبالغ فيها. حال شروعه بقراءة لائحة الدفاع عن المتهم:

ـ درويش بصوت مرتفع.. أنت لا تمثلني، لم أطلب أحداً ليدافع عني، أنت جزء من المسرحية!

صدور القرار:

سحب العقيد ورقة مطبوعة معدّة سلفاً، من ملف أمامه على المنصة، لم ينظر فيها، بل قرأها كما لو أنها محفوظة منذ زمن: قررت المحكمة الحكم على المدان درويش بالإعدام شنقاً. رفعت الجلسة!

سكون عميق ثم تصفيق خفيف من رجال الأمن.

في لحظة صاعقة، وقف درويش في مكانه، ثم صاح بصوت اهتزت له جدران القاعة:

ـ لا.. لم ترفع الجلسة، ما زالت مستمرة!

ران ذهول عميق.. اتجهت العيون كأسهمٍ مشرعة نحو درويش صاحب الصوت، امتصت القاعة، والجدران، والهواء، لحظات الذهول...كأنما رفع عنهم مفعول سحر مفاجئ أغلق أفواههم.. فترة من الوقت، ثم عاد الصوت من جديد:

ـ عليك أيها العقيد أن تستقبل قراري الفوري.. سأنفّذه الآن:

حَكَمتُكَ أنا، بخُفين من نعليّ يصفعان وجهك القبيح، تذكّر دائماً أن فلاحاً من قرى الشمال نسجهما بإحكام. انحنى درويش نحو قدميه وسحب نعليه بسرعة خاطفة، ثم صرخ: خذ الأول، هذا للأحكام الجائرة، ورمى بنعله نحو منصة العقيد، وسط ذهول الجميع.

وخذ الثاني! هذا لعدالة تشترى وتباع!

سقط النعلان على المنصة، ارتجّ جسد العقيد، تراجع إلى الخلف، بينما انسحب العضوان بسرعة نحو الغرف الخلفية. تحرّك الحرّاس بسرعة خاطفة نحو المتهم، طرحوه أرضاً في ثوان، أوثقوا ذراعيه خلف ظهره وهو يصرخ، ويشتم، ويبصق في وجوه الهيأة. كاد صوته يمزّق جدران القاعة، وعيون الناس تتسع، بعضها متعاطفة وأخرى خائفة. آخرون تبادلوا نظرات حائرة. حركة الحرّاس كانت عنيفة، اندفع أربعة منهم باتجاهه دفعة واحدة فأحكموا إغلاق فمه بشريط لاصق، صوته محبوس، لكن عينيه كانت أبلغ من كل صراخ.

نودي على متهم آخر بينما كان العقيد يحاول أن يستعيد توازنه في غرفة المداولة، كأنّ يداً غير مرئية تسحبه للاستسلام إلى النوم، مرّت دقائق أغمض فيها عينيه:

كانت القاعة مكتظة بالحضور، لم يكونوا بشراً، بل أشباح رمادية بعيون مفتوحة على اتساعها، لا رموش لها، صمت ثقيل... يقف درويش في القفص من جديد، خلفه طوابير من الوجوه المحكومة ظلماً. يسمع العقيد طرقاً قوياً على باب القاعة، لا أحد يفتح الأنوار، فتشتعل وحدها. لا يجرؤ النظر في أعين المتهمين، كان وحيداً، لا موظفين، لاحرّاس، جلس على كرسيه، لم يعثر على شيء سوى نعلين استقرّا باطمئنان على سطح المنصة. وملف مغلق مختوم بشمع أسود، على غلافه كتب بخط مرتعش، "ملف قضية درويش لم يغلق بعد".

استيقظ العقيد فزعاً، وجهه يتصبب عرقاً، صدى المطارق يضرب قلبه، عيناه تغوران وصوته يخفت، حاول الصراخ لكن صوته اختنق.

كان أبيّ  مكبّل اليدين، يلتفت نحوي، تلك اللحظة ظلت محفورة في ذاكرتي مثل جرح لا يندمل..كأن العالم كله توقف هناك..بين نعلين على منصّة (الرئيس)، ويدين موثوقتين لرجل يحلم بالحرية.

***

جمال العتّابي

أخافُ جفافَ الفراتِ ودجلهْ

حينها تُخسَفُ أفئدةُ الكائناتْ

ولنْ يجدَ البدرُ نهراً لكي يتراءى

ولنْ يَكتبَ الشعرُ بيتاً

ولنْ يَعزفَ الحُبُّ جملهْ

ولنْ يتمشى على الماءِ قصدَ السماءِ

بأجنحةِ الوجدِ سربُ البناتْ

***

شعر: كريم الأسدي

...........................

ملاحظة:

تألفتْ أبياتُ هذه القصيدة عندي وأنا أعبر جسر المشاة المقام على ضفتي الفرات في الناصرية ـ العراق ليلة السادس من تشرين الثاني 2025 ..

 

فتحتها الغرفة السّابعة..

لم أحفل بوصاياه... السّراب..

فتحتها ...

كانت السطور الفارغة.. تقول الاعترافات المتاخّرة

كاملة ...

يباركها الصّمت الحزين...

الغرفة السّابعة بوّابة للمحطّات البعيدة..

للخريف وآخره...

كان القلب يجتثّ خطاه..

باكيا يتبعني...

غير انّي كنت اضحك..

اردّد اعترافه الأخير..

أحفظه عن ظهر خيبة..

حتى.. حين يسألني قلبي عن طريق الرّجوع..

اقول:

نسيت...

***

حياة بن تمنصورت - تونس

 

إنّي أنا الْهادئُ والرَّصينُ

والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ،

لا تقتضي وسادةً مليئةً،

بالسَّيفِ والْخناجرِ،

والشَّوكِ والْحناجرِ،

أرصفةِ الشَّوارعِ،

ورأسِ ذاكَ الْمُبصِرِ الْعتيدِ،

داخلَ ذاكَ النَّفقِ الْبعيدِ،

صاحبْتُ شارعَ الْكفاحِ والرَّشيدِ،

عرفْتُ ذاكَ الشَّاعرَ الْمنعوتَ بالمُجيدِ،

وذلكَ الْمشهورَ بالسِّكِّيرِ والْعنيدِ،

والشَّاعرِ الْبليدِ.

سكرْتُ دهراً، وصحوْتُ أدهرا

ونمْتُ عصراً، ويقظْتُ أعصرا

لا عيبَ، لا خوفَ منَ السُّكّْرِ،..

يكونُ فيهِ الرَّجلُ السَّكرانُ أوهى..

مِنْ نسيجِ الْعنكبوتْ،

الْخوفُ مِنْ صَحْوٍ يكونُ..

الرَّجلُ الصَّاحي كبركانٍ يثورْ.

لم أحْملِ الْأوزارَ في رَبَابتي.

لم أمسحِ الْأكتافَ في الشَّبابِ أو كهولتي.

وما وقفْتُ في بلاطِ سلطانٍ، ولا الْأبوابْ،

أنتظر الرِّضى أو الْأكياسَ أو

ما يمنحُ الْحُجّابْ،

أو نظرةً مِنْ أعينٍ الذِّئابْ،

أو مَنْ يقولُ: يا هلا بأجملِ الأصحابْ،

وهو يحدُّ خنجراً ومِنْ وراءِ الْبابْ....

***

عبد الستار نورعلي

(حين تنقر الزنابق شبابيك الخريف يشتعل الرُّضاب حتى وإن كان في الطَّفِّ المَغول)

***

مَأْخُوذًا أَسْمَلُوني، وَشْمِي فِي الْعُيُونِ،

كُنْتُ الْخَافِرَ فِي وَجْدِي، أَوْلَمُونِي يَتِيمًا.

أَضَلُّوني هُوَايَ، هِمْتُ مُخَضَّبًا

بِوَبَاءِ الذِّكْرَى فِي تِيهِ التَّعْبِيرِ

٢

عَمَّ صَبَاحًا يا طَلَلُ،

اِسْتَفَاقَتْ فِتْنَةُ فِتَنٍ.

شُبَّاكٌ عَلَى الْمِحَنِ،

تَحْتَ الرَّمادِ الْمُظْلِمِ

٣

الحُرِّيَّةُ تُحْفَةٌ مَنْقُودَةُ الضَّوْءِ،

وَالنَّاصِرُ مَهْتُوكًا يَسْأَلُ الدَّمَ:

-أَتُجِيدُ العَرَبِيَّةَ؟

فَيَصْمُتُ الوَجْمُ

٤

الْقَاتِلُ عَادَ،

أَسْتَجِيرُ بِمَنْ؟

كُلُّ مَا حَوْلِي

مِنَ الْمَغُولِ الْقَاسِي

٥

عَبَثُوا بِالحُلْمِ،

أَشْبَعُوهُ طَعْنًا وَرَكْلًا.

صَارَ كَابُوسًا،

صَادَرُوا حَتَّى الْمَنْدَرِسَاتِ.

زَرَعُوا فِينَا بِالْعُقْمِ: العَاهَاتِ

٦

هَاجَرْتُ لِلْخَيَالِ،

دَاهَمُونِي فَاعْتَقَلُوا مِنْ أَفْكَارِي البَنَاتِ.

اِفْتَضُّوهُنَّ عَلَانِيَةً،

نَقَّبُوا فِي الْقُبُورِ عَمَّا نَسُوهُ.

مَقَامُ مَرْدُوخَ، مَنَامُ الإِبْرَامِزِ،

أُورُ وَكْرُ الطُّيُورِ تَقْذِفُ النَّارَ،

ثِيرَانُ نَيْنَوَى جَعَلُوهَا مَهِيضَةً

٧

فِي كُلِّ بَابٍ وَشُبَّاكٍ: الذِّئْبُ،

وَيُوسُفُ فِي الْجُبِّ يَنْتَظِرُ بُشْرَى

٨

هَنْدَسْنَاهَا: مُرَبَّعَاتٌ، مُثَلَّثَاتٌ، دَوَائِرُ،

الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالْقَصَبَاتُ، التُّرَعُ وَالْأَنْهَارُ

٩

الطَّفُّ عَادَ،

الحُسَيْنُ مَا مَاتَ.

السَّيْفُ مَاتَ،

الْيَوْمَ عَادَ الْفِينِيقُ،

مَغُولِيًّا يَمْتَطِي الْهَمَرَ الْمُتْعَبَا

١٠

تَشْتَاقِينَ، تَعَالَيْ نَشْكُو بَعْضَنَا.

مَفَاتِيحُكِ لَدَيَّ،

اُطْرُقِي شَرْيَانِي.

مَا دُمْتِ تَسْكُنِينِي، تَسْكُنِينِي

١١

يُؤْلِمُنِي أَمْلِي لِنَفْسِي،

وَأَنَا أُمْلِي أَلَمِي.

الدَّمُ الْمَطْلُولُ دَمِي،

أَهْطَأُ مَقْطُوعَ النَّفَسِ.

الطَّفُّ يَسْكُنُنِي: أَطْيَافًا وَظِلًّا.

هُنَا كَفٌّ، هُنَاكَ رَأْسٌ،

هُنَاكَ عَارٌ،

بِلَا رَأْسٍ وَلَا كَفٍّ يَقُومُ قَائِمًا

١٢

السَّمَاءُ تُطْفِئُ الرَّمَادَ،

وَتُمْطِرُ دَمًا يَانِعًا

١٣

اِكْشِفُوا الْقُبُورَ!

كُلٌّ مِنْ وَرَاءِ الثَّرَى

بِلَا كَفٍّ، وَلَا رَأْسٍ،

وَلَا كَفَنٍ مُبَهَّمًا.

اِنْفَرَطْنَا رُمَّانَةً

بَعْدَمَا كُنَّا وَطَنًا.

التُّخُومُ مَعَابِرُ الْغِرْبَانِ الرَّوَّاغِي،

وَالنَّهْرُ شَارِبُهُ رَدْمُهُ بِالْأَجْسَادِ

١٤

تَدَلَّى مِنَ السَّمَاءِ الشَّيْطَانُ،

وَمَعَهُ جُنْدُ وَهْمٍ؛

أَنْزَلُوا فِينَا النَّوَائِبَ،

أَضْرَمُوا بِالنَّخْلِ النَّارَ لِتَنْحَنِيَ.

وَالْوَرْدُ يُرَحِّلُ أَحْلَامَهُ النَّضِيرَا.

لَا جَنَاحَ فَرَاشَةٍ يَحْمِلُ الْكُحْلَ،

وَالْعَنَادِلُ بِدُونِ الْحَنَاجِرِ تُؤَنِّبُ،

وَالْحَمَّامُ أَبْقَى أَطْوَاقَهُ وَطَارَ

مِنَ الْمَرَاقِدِ يَبْحَثُ عَنْ عُشٍّ أَبْيَضَا

١٥

قَوَارِيرُ الْعُطُورِ عُبِّئَتْ كَافُورًا،

الْكَنَائِسُ خَالِيَةٌ، أَجْرَاسُهَا تُبَاعُ خُرْدَةً.

خِيَامٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ،

وَالسُّؤَالُ مِهْنَةُ مَنْ صَبَرَا

١٦

إِسْخِيلُوسُ يَكْتُبُ مَلْحَمَةً جَدِيدَةً لِلرَّمَادِ

١٥

يَرْتَدِي الْعُرْسَانُ الْأَكْفَانَ،

وَإِسْرَافِيلُ عَلَى السُّورِ

يُنَفِّخُ فِي الصُّورِ الْمُعَلَّقَةِ.

الطُّرُقُ مُزَوَّرَةٌ،

تَحْتَ أَقْدَامِنَا

عُبُوَّاتُ الْمَوْتِ تَنْتَظِرُ لَمْسَةَ أَحَدِنَا

١٨

أَتَسْأَلِينَنِي عَنِ الْحُبِّ؟

هُوَ هَجْرُ الْقُلُوبِ.

وَعَنِ الْهُوِيَّةِ؟

هِيَ ضَالَّةُ الدَّرْبِ الطَّوِيلِ.

وَعَنِ الْعُرُوبَةِ؟

التُّهْمَةُ الْمَكْبُوتَةُ فِي الظُّلُمَاتِ

١٩

الْقُلُوبُ سَرَادِيبُ أَهْرَامَاتٍ،

نَدْفِنُ فِيهَا أَمَالًا صَغِيرَةً،

جُلُّهَا مُحَنَّطًا رَقِيقًا

٢٠

اِمْتَشَقَ الشَّهِيقُ،

وَأَنَا أَخْنَقُ بِالْعِبْرَةِ.

كُلَّ لَحْظَةٍ قَتِيلٌ،

دِمَاءُ الطِّفْلِ: إِلَى مَتَى تَسِيلُ؟

نَتَنَفَّسُ مِرْآةً مِنْ كُتَلِ الْكُونْكْرِيتِ الْكَئِيبِ

٢١

غَدًا! لِأُتَسَلَّى بِهِ عَنِ الْغَدِ الْمَفْقُودِ.

الْغَدُ غَيْبٌ، لَكِنَّهُ يُلَوِّحُ رَمَادِيًّا قَاتِمًا

٢٢

اِشْفَعُوا يَا أَصْحَابَ الْقِبَابِ الْبَيْضِ!

فِي كُلِّ رُكْنٍ شَظِيَّةُ أَمَلٍ صَغِيرٍ.

اِنْثَالَتْ أَمَانِينَا هَبَاءً،

وَانْزَاحَ عَنِ الْبَالِ جَوَابٌ،

وَبَقِيَ السُّؤَالُ مُعَلَّقًا

***

د. سعد محمد مهدي غلام

خمس سنوات مضن، صار للصمت في بيت الشقيقة محاسن كرسي بعجلات، تجلس عليه، وتتحرك بأي اتجاه تريده، نصفها يذكّرنا بما كان، ونصفها الأخر مشلول إثر جلطة دماغية أصابتها، صارت محاسن كائناً نصف حي، عيناها نافذتان إلى ما وراء الكلام، تلاحقان كل حركة في البيت، تبحثان عن غياب تفتقدهم منذ سنوات.

لم تعد محاسن كما كانت، نصفها صامت، ونصفها الآخر يحاول أن يحمل روحه فوق كرسي متحرك، ومع كل يوم يمضي، كانت تفقد شيئاً من جسدها، لكنها لم تفقد يقظة القلب.

كان علاء الأقرب إليها، لا ينقطع عن زيارتها، يجيء كل نهار جمعة يجلس عند قدميها، يضحك، يمسح بيده على رأسها. ثم فجأة ...غاب، لم يطرق بابها منذ أشهر، وحين كانت تسأل عنه بإشارتها، ووويييينه ؟ نجيبها:

ـ سافر إلى الهند للعلاج.

فتسكت، لكن عينيها تشي بأمر آخر غير مصدّقة!2110 JAMAL

تجلس عند النافذة، تسند رأسها إلى الجدار البارد، فيما يدها وسيلتها الوحيدة بالسؤال تتحرك يميناً وشمالاً، ولسان متعثر كأنها تريد أن تتعلم النطق أول مرة. تحاول أن تقبض على الكلمات بلا جدوى، تمضي أيامها أسيرة لذاكرة انقطعت، لم تعد تفهم لماذا اختها عدوية تلبس السواد؟ كذلك اختها الأخرى هناء، وابنتها ابتسام، لماذا يحيط بها الحزن؟ تلتفت إلى الأبناء والأحفاد البنات وقد غرقن في ثياب سود أكبر من أعمارهن. تريد أن تصرخ، غير أن نصفها الميت يخونها، لا يخرج من فمها، سوى أنين ودموع، تتكدس الأسئلة في صدرها، لا تجد سوى صمت يضاعف حيرتها.

حين خانها الكلام، ابتكرت طريقتها الخاصة في السؤال، لم تعد تطيق أكاذيبنا. في لحظة عجز وارتباك، اهتدت محاسن إلى حيلتها الطفولية، أخذت قصاصات ورق، رفعت يدها الوحيدة المرتجفة نحو ابنتها، أشارت إليها أن تكتب، فهمت ابتسام على الفور، كما تمليها عينا الأم: جمال، عدوية، هناء، علاء، أديب، صفاء، فلاح، هاشم، إسماعيل، كما لو بدت الأوراق كأنها سجل حضور لعائلة تستحضر وجودها يومياً.

وضعت محاسن الأوراق في كيس يشبه أكياس اليانصيب، علقته على مسند كرسيها، كلما غلبتها الحيرة، وألح عليها السؤال، مدّت يدها، كأنها تستبقي الحياة بين أصابعها، لم تكن الأوراق مجرد أسماء، بل حبل نجاة يحميها من النسيان.

صار للكيس طقس يومي، كلما نتعاقب عليها بالزيارة. تمدّ يدها المرتجفة فتسحب ورقة واحدة، تفتحها ببطء، تؤشر بعينيها على الاسم، وتهمس:

ـ وووينننه هههههذا؟ تقصد علاء.

يصمت الجميع.

ثم تسحب ورقة ثانية باسم صهرها هاشم، وورقة ثالثة باسم صهرها الثاني إسماعيل. تأتيها الأجوبة وتهزّ رأسها غير مصدقة، فتشيح بعينين مشبعتين بالأسئلة من دون جدوى.

نحن أخوتها وأخواتها صرنا أسماءً مطوية بقصاصات في كيس محاسن، انكمشنا جميعاً داخل الكيس المعلق على مسند كرسيها، تتحسسنا بيد وحيدة بما يخدم وهمها بأن الغائبين مازالوا موجودين، لتشعر بالأمان أن أصحابها عند كيسها أحياء يرزقون.

***

د. جمال العتابي

عن الأرواح التي تلتقي كل مساء لتشرب قهوتها دون أن تتذكر من تكون

***

أنا لا أذهبُ إلى المقهى لأشربَ القهوة،

بل لأنتظرَ وجهي يعودُ من الغياب.

في مقهى النسيان رقمَ ثلاثةَ عشر،

تجلسُ الأرواحُ حولَ الموائدِ مثلَ جملٍ ناقصةٍ،

تبحثُ عن فعلٍ مفقودٍ،

عن معنى مؤجَّلٍ منذ آخرِ حياة.

*

الوجوهُ هناكَ بلا ملامح،

كأنَّ الذاكرةَ قد أُفرغتْ في فنجانٍ مائلٍ،

والملاعقُ تدورُ على مهلٍ

تريد إلتقاط الزمنَ الهارب...

*

في كلِّ مساءٍ،

يدور النادلُ مثلَ ملاكٍ ضجرٍ،

يوزّعُ فناجينَ الدهشة،

ويكتبُ على الحائطِ بالطباشير،

“من تذكّرَ نفسه، يُطرَدُ فورًا.”

*

نجلسُ طويلاً،

نبتسمُ بلا سبب،

نستمعُ إلى أغنيةٍ لا تتكرّرُ

لأنّ أحدًا لا يتذكّرُها بعد انتهائها.

*

إحداهنّ تضحكُ كما لو أنّها عرفتْ حبيبًا في حياةٍ سابقة،

ثمّ تسألُ: “هل قلتُ هذا من قبل؟”

ولا أحدَ يجيب.

*

تغفو الكلماتُ في أعيننا،

تتسلّلُ الأرواحُ إلى ما قبلَ الذاكرة،

نحنُ الظلال الذين نُعيدُ تمثيلَ أخطائنا القديمة

على مسرحٍ مهجور.

*

عندَ الإغلاق،

تطفأُ الأنوارُ ببطءٍ،

وتنسحبُ الأرواحُ إلى الغيبوبةِ الأولى،

كلٌّ يحملُ فنجانَه الفارغَ

كشاهدٍ على عدمِه.

*

وفي الصباح،

حين يفتحون المقهى من جديد،

تجدُ الطاولاتِ رطبةً

برائحةٍ تشبهُ الندم،

وكُرسيًّا مقلوبًا

تعثر به احد ما … حاول الهرب ...

***

مجيدة محمدي

 

حسناً أيتها الأبواب السمكية الصلدة

يدي اختبرت صلابتك

وقسوة فولاذك المعتدّ

يدي الدافئة بنقراتها المؤنسة

خمسة أصابع أيقظت سوناتا المساء

إيقاع مزهر رقص فوق صمتك المعدني

لي الحلم المسافر بجميع احتمالاته وإخفاقاته

ولك أناقتك الراسخة

***

فارس مطر

رعاكِ اللهُ أينَ بيَ المسيرُ

أسيرُ وخافقي وَلِهٌ أسيرُ

*

وإنّ الحالَ لا يُرضي الاعادي

أ يُرضيكِ إذا ساءَ المصيرُ

*

ولو أنّي ملكتُ قيادَ نفسي

لكانتْ مُنيتي وبها أطيرُ

*

ولكنْ ليس عنديَ مِن خَيارٍ

سوى أنّي برَبّيَ أستجيرُ

*

وأسلُهُ يُرقّقُ قلبَ غاوٍ

تَحَجّرَ وهو في حالي بصيرُ

*

عنادُكِ والزمانُ رعاكِ ربّي

على مثلي مُتيِّمتي كثيرُ

*

أُذكرُّكِ الالهَ ويومَ حشرٍ

ومأوى الظالمين هو السعيرُ

*

فمَنْ يملكْ يكنْ ربًّا رحيمًا

وحسبي اللهُ خالقُنا القديرُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

ألعراق / الكوت في 7 تموز 1970

a

مُتفائلًا تصْحو لِما

تُهدى منَ الأحلامِ

*

مُتشائمًا تُمسي بما

يجلو من الأوهامِ

*

والفجرُ شكرٌ أنْ أُذِقْـتَ

حلاوةَ الإسلامِ

*

والعصرُ كفرٌ أنْ سُقيـتَ

مرارةَ الأيّامِ

*

والصّبحُ مَسْعدَةٌ وتغـريدٌ

بــ "مال الشامِ"

*

والقصْرُ مشأمةٌ وأبـياتٌ

من الآلامِ

*

وغدًا ستصْحو شاكرًا

تشدو كطيرِ اللامي

*

وغدًا ستُمسي كافرًا

تشكو إلى الأقلامِ

*

يعدو وراءَ هواهُ قلـبُكَ

دونما إحجامِ

*

وتَبَدّلُ الأهواءِ شانُ

أواخرِ الأعوامِ

*

فغدوْتَ لا تدريْ كحالِ

بقيّةِ الأقزامِ

*

إنْ كنتَ ممّن آمنوا

أمْ أنتَ في الظُلّامِ

*

وعلى خُطى القلبِ الخيالُ

مشتّتَ الأحلامِ

*

فتَراكَ حينًا طائفًا

بملابسِ الإحرامِ

*

وتَراكَ آخرَ سائحًا

بمدائنِ الأصنامِ

*

والحالُ أنّك لم تغادِرْ

مرْتعَ الأسقامِ

*

وتَراكَ نجمًا ساهرًا

مع سادةِ الأنجامِ

*

وتَراكَ نورًا خافتًا

في معشرِ الأجرامِ

*

والحقُّ أنّك عالقٌ

في ألسُنِ الأرحامِ

*

وتَراكَ مُلهِمَ ثورةَ

الفُقراءِ والأيتامِ

*

وتراكَ ربًّا فوق عرشِ

إمارةِ الأرقامِ

*

والحالُ أنّك راتبٌ

لحِيازة الأوهامِ

*

وتراكَ فردًا صالحًا

في موْطنِ الآثامِ

*

وتراكَ لصًّا عالمًا

في عالمِ الإجرامِ

*

أيّا تكُنْ كان المصيـرُ

مِنصّةَ الإعدامِ

*

وتراكَ حينًا مُستريـحا

في ظلالِ سلامِ

*

وتراكَ آخرَ ماضيًا

كاللّيثِ نحوَ صِدامِ

*

والحقُّ أنّكَ لسْتَ

إلّا منتجًا إعْلامي

*

تحْيا على فتنٍ لها

أمسيتَ في الخُدَّامِ

*

حُلْما بأجنحةٍ ولـكنْ

دونَما أقدامِ

*

فتنٌ بها السبّابةُ

انتفضتْ علىْ الإبهامِ

*

وبها غدتْ كُتَلُ العروبةِ

دونما أحجامِ

*

وبها غدا للموتِ ياهو

مصدرَ الإلْهامِ

***

أسامة محمد صالح زامل

الريحُ ذئابٌ تعوي

في غابة أحزانِ فقيدِ الأهلِ

سيّانِ الأرقُ القاتلُ والليلُ الشتويُّ كحدِّ النصلِ

إذا ما طالا ظلاّ

كالمبضعِ في جسدِ الملدوغِ بنابيِّ الصِلِّ

لا الطبُ يخففُ لا جُرعاتُ التخديرِ

فالليلُ الليلُ الشتويُّ ظلامٌ معجونٌ بالملحِ وبالكحلِ.

أتمنى أنْ يسهو

شُرَطيُ الآلامِ لبضعِ سويعاتٍ كي أغفو

كي أستمرئ طعمَ الراحةِ بعدَ التخديرِ

أنْ أحلمَ في ساعةِ تحريرٍ في شيءٍ ما

أنْ أنسى

فالداءُ استشرى

مُنتَشِراً كالحبرِ على سطحِ الماءِ

كحجيراتِ السرطانِ والكسلِّ.

من ذا يرزحُ في زنزانةِ محكومٍ بالعزلِ

لا يدري من أين تؤاتيهِ الريحُ شتاءً

تتركهُ يتخبطُ في الظلماءِ كمنديلٍ يتدلى في حبلِ

ومن أيةِ فوّهةٍ تتعالى

أصواتُ الذئبِ كقصفِ الرعدِ

لا ضوءٌ يتنفسُ في مصباحِ السجنِ طوالَ الليلِ

لا نورٌ في الكوّةِ منذ الفجرِ وحتى ما بعدَ الظهرِ

أتساءلُ من في هذا السجنِ، أنا أمْ ظلّي؟

ما حجمي أو شكلي وأين أنا من أهلي؟

***

عدنان الظاهر

عُودُهُ صُلْبٌ

شكيمتهُ من الفولاذِ

أطْقُمُ بارجاتْ

صعبُ المِراسِ.. تَجَذَّرَتْ

في ذاتهِ وطنيةٌ

واستغلظَتْ

حتى استوى

كالطودِ يحويهِ الكُماةْ!

*

تأبى كتائِبهُ الوَنَى

عَصِيَّةٌ

تَلِجُ الأصَمَّ

تسيحُ من شريانهِ

لغة الأباة

*

طاوي حياةٍ

مُرْمِلٍ

أرسى الثباتْ

ومضى بعزتهِ

يَطِب جِراحهُ...

فيطيبُ إصراراً

تفرَّدَ بالقرارْ

فهو المآلُ

الباعثُ الآمال

شعب الانتصارْ

وهو النضالُ بِسِلْمِهَ

ذخر الرغيف الحر

حرف تواصلٍ

ميلادُ فجرٍ

حافلٍ بالتهنئاتْ !

***

محمد ثابت السميعي

 

خلق الله بعض الشعراء

بعد مخاض عسير

في ليلة نحس

من أيام التكوين

*

على طاولة القمار

يكره النرد

القفز على الجهات الست

من فرط الم في أضلاعه

*

ثمة شعراء

كانوا يضاجعون أحلامهم

ويقتنصون طرائدهم

بشبابيك مثقوبة

*

أما أنا

فسوف أصبح شاعرا

يوما ما

وسوف أحمل في جيبي

أحزان مرايا عجوز شمطاء

وبضعة مساحيق

بألوان حرباء

*

واذا كتبت خربشات تافهة

بلا قافية أو وزن

فمن يعيد تدويرها

وهل يتخلى العود

عن أوتاره

ويسخر الناي

من حشرجاته

*

خربشاتي على كل حال فظيعة

بحيث لا يمكن نشرها

والقائها على المنصات

وفي الأمسيات الشعرية

وتقلق راحة بال الناشرين

ورؤساء تحرير الصفحة الثقافية

في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية

*

ثمة شاعر مغمور

لا يشيخ كما تشيخ القوافي

يتحدى البحور

ويتمرد على الايقاع

ثم يتسكع في دروب المتاهات

ويوزع الأقنعة الشفافة

على الشعراء الأشباح

*

مطرب الزعيم

يترنح بحناجر ربابة

ذات ايقاع خافت

ونبرات هجينة

عاش حياته كلها

في خفاء الكواليس

*

منذ خمسين سنة

وأنا اجمع معلبات

الكلمات المتقاطعة

أحاول اقناع

رئيس بيت الشعر

اذا كانت لديه حلول

لشاعر مغمور

يتخبط في نصوص نثرية خادعة

وشذرات متناثرة

كأوراق شجرة

في فصل الخريف

*

شاعر مغمور

في مفترق الطرق الوعرة والشائكة

غريق في وحل الأساليب الشعرية

يكتب قصائد محرضة

يحفربها نفقا في زنزانته

ويمخر عباب بحور الشعر

بطوق النجاة

*

شاعر مغمور

النقاد وضعوه على المشرحة

وراحوا يجرون عليه التجارب

لقد رسب في الاختبار المعملي

وفشل من قبل النقاد

وخرج خاسرا

*

كاد الشاعر أن يكون

كائنا فضائيا

يحوم حول فلك الديناصورات

ويقبم في برجه العالي

ويبرم صفقة هدنة بين المديح والهجاء

*

الشاعر المغمور فقد صوابه

وأحرق كل مسوداته

طائر بلا جناحين

أسد بلا زئير

توقف مخه عن النمو

هو الآن حبيس مصحة عقلية

في جزيرة مهجورة

***

بن يونس ماجن

لا شيءَ يجمعني برؤيا الأَمسِ

فغُرابي ما زالَ ينعِقُ،

وقشَّةُ البعيرِ لمْ تَكسِرْ سيفَ المغُولِ.

*

أَنتَ تَحتَ الرُّكامِ،

والهواءُ بعيد

والصَّمتُ يكتبُ نفسهُ في الماء

*

الزَّائرُ الذي يراكَ

يشربُ من هٰذا السَّرابِ،

يجمعُ مفاتيحَ المدينةِ

ويغرقُ.

*

مَنْ سيلعبْ لعبةَ التِّنِّينِ؟

مَنْ سيسُوقِ النَّارَ على قدمٍ وساقٍ؟

مَنْ سيأكُلِ الأَخضرَ واليابسَ،

في ليالي الحملانِ؟

***

زياد كامل السامرائي

 

أيقَنْتُ أَنَّنِي شَاعِرٌ مَصْلُوبٌ،

وَعَاشِقٌ بَصَرِيٌّ كَأُفُقِ الشُّهُبِ،

فِي زَمَنٍ هَمَجِيٍّ

تَكْثُرُ فِيهِ الْوَيْلَاتُ وَالْعِلَلُ.

*

مَنْ يُغَنِّي لِلنَّوَارِسِ الْبَيْضَاءِ،

تُحَلِّقُ عَلَى شَطْآنِ الْعَرَبِ؟

رُغْمَ أَنَّ الْكَثِيرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا

لُغَةَ الرِّيَاحِ، وَصَرَخَاتِ الظِّلَالِ،

وَصَوْتَ الْغَمَامِ عَلَى حَجَارَةِ الزَّمَانِ.

*

أَنَا الْغَرِيدُ بِحُرُوفِ

الْخَوْفِ وَالْحُبِّ،

الْمُتَكَسِّرُ عَلَى يَدِ الْقَدَرِ،

وَالْمُلْتَاعُ فِي صَمْتِ اللَّيَالِي وَالظُّلاَمِ،

أَحْمِلُ رِيحَ الْوَجَعِ فِي نَفَسِي.

*

أُغَنِّي لِوَطَنِي الْغَرِيبِ،

وَلِقَصَصِ الْهَوَى،

وَلِنِسَاءِ بَارِزَاتِ الزُّنُودِ،

يَتَسَكَّعْنَ فِي طُرُقَاتِ الرَّشِيدِ،

وَأُرَدِّدُ خَمْرِيَّاتِ أَبِي نُوَاسٍ

لِصَبِيَّاتٍ كَأَشْكَالِ الْوُرُودِ وَالضَّوْءِ،

وَأَرْسُمُ عَلَى وَرَقِ الْهَوَى طُرُقًا لِلْخَلَاءِ.

*

أَيُّهَا الشَّاعِرُ الَّذِي يَقْطُنُ كِيَانِي،

أَنْشِدْ أَغَانِيكَ الْمُتَنَاثِرَةَ

رَغْمَ الْقَلَقِ وَالْهَوَاجِسِ،

أَنْشِدْهَا مِنْ مَآسِي الْفُقَرَاءِ،

وَاتْرُكْهَا تَنَامُ رَغَدًا

فِي مَآذِنِ النَّاسِ وَظِلَالِ الْمَسَاءِ.

*

فَإِنْ سَأَلُوا: مَا الَّذِي أَبْقَاكَ حَيًّا؟

قُلْتُ: أَنَا الشِّعْرُ... وَفِي الشِّعْرِ نَجَاتِي،

أَنَا الْمَصْلُوبُ عَلَى نَبْرَةِ الْحَقِّ،

وَلَنْ أَنْحَنِي،

وَلَوْ تَفَتَّتَتْ أَحْرُفِي عَلَى صَخْرِ الزَّمَانِ،

وَلَوْ غَطَّتِ الظُّلُمَاتُ أَفُقِي،

سَأَسْطَرُ أَسْمَاءَ الْمَسَاكِينِ وَالْوُرُودِ عَلَى الْحُطَامِ.

*

سَأَغْنِي — مَا دَامَ فِيَّ نَفَسٌ —

لِلْحُبِّ، لِلْفُقَرَاءِ، لِلْقَمَرِ،

وَأَكْتُبُ وَصِيَّتِي عَلَى وَرَقِ الْعُمْرِ:

لَا تَكْتُمُوا صَوْتَ الشُّعَرَاءِ،

فَهُمْ أَخِرُ الشُّهَدَاءِ،

يَنْتَصِرُونَ بِكَلِمَاتٍ،

فِي زَمَنٍ أَعْمَى، وَعَالَمٍ مُتَفَتِّتٍ،

حَتَّى يَعُودَ الضَّوْءُ لِلْوُجُوهِ الْمُضَاءِ.

***

باقر طه الموسوي / العراق

 

مَنْ عَلَّمَنِي

أَنْ أَزْرَعَ أَحْلَامِي بَيْنَ اَلْأَمْوَاجِ،

إِذَا غَابَتْ سُفُنِي

أَنْ أَتْرُكَ دَفْتَرَ أَشْعَارِي يَبْكِي

إِنَّ غِبْتِ، وَصَارَ اَلْبُعْدُ يُؤَرِّقُنِي

منْ عَلَّمَنِي أَنْ أَصْمُتَ

حِينَ يَضِجُّ بِأَعْمَاقِي شَجَنِي

أَنْ أَكْشِفَ أَسْرَارِي لِلرِّيحِ

إِذَا صَارَ ت تَطْرُدُنِي

مَنْ كُلِّ فَضَاءَاتِي

وَ تُبَدِّدُنِي

*

مَنْ عَلَّمَنِي غَيْركِ؟

مَنْ عَلَّمَنِي؟

-2-

مَنْ عَلَّمَهُمْ

أَنْ تَتَوَقَفَ أَرْجُلُهُمْ

فِي مُنْتَصَفِ الدّرْبِ

إذا خَامَرَهُمْ

حُلْمٌ كَانَ يُخَادِعُهُمْ

مُنْذُ سِنِينٍ يُوعِدُهُمْ

لكن يُخْلِفُهُمْ

يَتْرُكُهُمْ

مَهْمُومِينَ حَيَارى

وَ يُخَلّفُ أوهامًا تَغْمُرُهُمْ

ليلاً ونَهَارَا

*

مَنْ عَلَّمَهُمْ غَيْركِ؟

مَنْ عَلَّمَهُمْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

فَرَسُ الْقُبورِ تُراجعُ الْمَوتى وَتَزْدَردُ الغُبار

لي في عَيْنِها

وَلَها

في السّواقي

اللّواتي تَجَفَّفْنَ مِنْ صَفْوِهِنّ

اشْتِباهٌ

تُكَثِّفُهُ الْأدْحالُ الّتي لا تفارِقُها أنْباءٌ لِأبْناءِ النّار

*

صِدْقاً

يقولُ عُمَرْ

رَأيْتُ بِعَيْنِنا ما لا يرى

وَلَقَدْ تَرَكْنا مَنْزلي لَيلاً وَكُنْتُ أنا الوحيدُ مِنَ الدّوارْ

داري هناكَ إِلى الجوارْ

قَسَماً رَأيْتُ مَكانَ مَنْبَعِنا

بَعْدَ انْتهاءِ فَقيهِ لَيْلَتِيَ الغريبَةِ

مِنْ جَداوِلِهِ الرّهيبَةِ والْحِوارْ

باباً عظيماً هالَني

وَتَفَتّحَ الْبابُ الْكَبيرُ أَمامَنا فَإذا بِنا وَسْطَ الْمدينَهْ

وَكَأنَّ هَذِهِ فاسُ حَرْفيًّا

بِها الأضواءُ والأَلْوانُ والأوحالُ

في حاراتِها الْجَصّاصُ والرّصّاص والْبَزّازُ والْخَضّارُ والْعَسّاسُ

والْجَزارُ

في بابِ الأخيرِ جَميعُ أنْواعُ الْكَلاليبِ

الّتي

فيها الْكُراعُ وَقُرْبَها نَشِبَتْ رُؤوسٌ في اصْطِفافْ

إِمّا لِتَيْسٍ أَوْ لِبَغْلٍ أوْ لِكَبْشٍ أَوْ حِمارْ

كانوا ثَلاثَةَ زائرينَ مُنَقِّبَيْنِ وَصاحبَ التّقْييدَةِ الْآتي بِإيعازٍ مِنَ الصَّفِّ الْحليفِ

وَكُنْتُ رابِعَهُمْ

ذِبْحاً سَخيفاً بَيْنَهُمْ

وَرَأيْتُنا مُتَخَبِّطينَ كَأيِّ سِرْبٍ مِنْ نِعاجٍ بَيْنَ قَوْمٍ بالظُّلوف وَبِالْخِفافْ

وَقِلالُهُمْ لا يُسْتراحُ لَها

لَكِنَّنا أُبْنا

وَغُلِّقَ ذلكَ البابْ

لا تَنْظروا لِلْخَلْفِ

قال لَنا الْفَقيهُ

لِكيْ تَفوزوا فَالصّناديقُ الّتي حُمِّلْتُمُ ملآى ثمينَهْ

خِفّوا فَلَسْتُمْ لِلسّكينَهْ

لَمّا دَخَلْنا الدّارَ داري مُنْهَكينَ رَمى الْمَفاتيحَ الثّلاثَةَ رِمْيَةَ المُتَأكّدِ الْمُسْتَأْمَنِ الْعاري مِنَ الْحِرْصِ الْمَقيتِ وَقالَ تَبْقى في الْمكانِ حَصينَهْ

حتّى نَعودَ

فَنَحْنُ في الْفَجْرِ الْصّفِيِّ سَنَنْطَلقْ

لَمْ أسْتَفِقْ

إلّا وَرَأْسي يَحْتَرِقْ

لا أَسْتَوي حَتّى يُعاودَني السّقوطُ فَلا أرى

ماذا أرى

لا شَيْءَ غَيْرَ طَلاسِمٍ وَسْطَ الْجِدارْ

وَمَخاوفِ الأهْلِ الّذينَ تَحَلّقوا حَولي بِغُرْفَتِيَ الرّكِينَهْ

يَتَساءَلونَ عَنِ الْمُصيبَةِ أَيِّ خَطْبٍ قَدْ أَلَمّ بِرِجْلِيَ الْيُمْنى فَصارَتْ مِثْلَ دَرْدارٍ ثَخينَهْ

*

دَعْ ذا (وَلا تَسْتَعْمِلِ التّعبيرَ إنْ شِئْتَ الْبِدارْ)

قِفْ وَانْظُرِ الْعَيْنَ الّتي كانتْ هُنا

لا تَبْكِ للذّكرى

لِعَينٍ أَوْ لِبيرٍ مَسْبَحٍ يا ما تَقافَزَ مِنْ جوانِبِهِ وَمِنْ شَلّالِهِ الْأطْفالُ مِثْلَ ضَفادعِ النّهْرِ الْغَزيرِ إلى القرارْ

اُنْظُرْ لِعَيْنِكَ ما لِعَينِكَ لَمْ تَعُدْ ماءً تَسيلُ بِهِ البَساتينُ الْبَهِيَّةُ لَمْ تَعُدْ باباً يُؤدّي بَغْتَةً لِمَدينَةِ الْجِنِّ الّتي تَحْتَ الثّرى

ماذا تَرى

ثُقْباً تَهَدَّمَ وَانْبَرى

وَبِقُرْبهِ فَرَسُ الْقُبور تُراجِعُ الْمَوْتى وتَزْدرٍدُ الْغُبارْ

وَتَحْكي وَما تَدْري جَفافَ بَحائرٍ

وَيُبْسَ الدّوالي في صُدورِ شِعابِيا

*

وَلا غَوْرَ أيّامٍ رَمَتْ بِسِهامِها

جَميعاً وَما شاءتْ لِذاكَ تَتاليا

*

عَنِ الْقَتْلِ غِيلَةً أَتَتْهُ قَرينَةٌ

تَقولُ فَنَفْري في الرّخاءِ تَباريا

*

عَلى الْفَوْرِ تَلْقانا قَبيلَةُ تابِعٍ

فَنَرْضى اقْتِسامَ الْعَظْم مِنهُ تَماديا

*

صَريحاً

أَقولُ لَها

قَدْ كَسَبْتِ الرّهانْ

رَبَتْ في شِعابِ النّواحي الْوَضائمُ إذْ عَمِيَتْ عَيْنُ كُلِّ الْعُيونِ

تَجَيّفَ فيها جَميعُ ذَواتِ الظُّلوفِ ذَواتِ الْخِفافِ ذَواتِ الْجَناحِ وَحَتّى التّوابِعُ وَالْجِنُّ حَتّى الزّوابِعُ

فَلْتَبْلَعي وَحْدَكَ الْيَوْمَ هَذا الْجَميعَ وَكوني لِكُلِّ السُّنينِ الْجَمادِ لِكُلِ طُغاةِ الْبِلادِ امْتِداداً وَسَيْفَ ضَعينَهْ

***

البشير النحلي

{افتتاح}

أَدْعُوكِ...

لِنُقِيمَ التَّوَاطُؤَ مَا بَيْنَ نَفْسِ العُنُقِ وَأُفُقِ الرِّيحِ،

مَا بَيْنَ شَمْسٍ تُوَشْوِشُ جِلْدَ التُّرَابِ،

وَصَوْتٍ يَقُولُ: كُنْتُ فِي بَدْءِ صَدْعِ السَّرَابْ...

2

{صَحراءُ اللُّغَة}

أَيَّتُهَا اللُّغَةُ الَّتِي بَاتَتْ صَحَارَى،

كَيْفَ نَكْتُبُ فِي الرَّمْلِ أَسْمَاءَنَا،

وَنَرْجُو البَقَاءْ؟

كَيْفَ نَمْلِكُ صَوْتًا،

وَهَذَا الهَوَاءُ عَلَى شَفَةِ المَوْتِ

يُجَاهِرُ بِاسْمِ العَدَمْ؟

3

{مَرَايَا الغُمْدَان}

أُشَبِّهُ يَمَنِيَّتِي بِالْمِرْآةِ،

وَأَجْعَلُ فِي شُرْفَةِ الحُلْمِ وَجْهَ بَلْقِيسْ،

وَأَسْكُنُ فِي كُلِّ نَفْسٍ،

كَأَنِّي ظِلَالُ غُمْدَانْ

تُرَاوِدُنِي فِي المَغِيبِ،

وَتَرْسُمُنِي كَخَرِيفٍ يُفَجِّرُ أَجْرَاسَهُ

فِي طُيُورِ السُّفُوحْ

4

{نُقُوشُ الصَّمْت}

كُنْتُ نَقْشًا

يَتَكَرَّرُ فِي جِدَارٍ مَخْذُولٍ،

كُنْتُ صَوْتًا يُمَارِسُ نَفْسَهُ

فِي الحُطَامِ،

وَفِي صَوْتِ عَشْتَرَ

كُنْتُ أَصْعَدُ

مِنْ مِلْحِ طِينِ القَرَارْ

5

{زَمَنُ النُّعَاس}

مَا لِي وَلِهَذَا الزَّمَنِ الَّذِي يَبْلَعُ المَدْنَفِينَ؟

مَا لَكِ وَهَذِهِ العَصْرَنَةِ الَّتِي تَحْتَفِي بِالنُّعَاسِ

فِي عُيُونِ النُّصُوصِ؟

هَلْ نُقِيمُ خَزَائِنَنَا فِي المَوْجِ،

نَجْمَعُ نُعَاسَ البَحَّارِينْ؟

هَلْ نُسْكِنُ رُوحًا مِثْلَ عَدَنٍ

فِي مَسَاحَةِ هَذَا النُّفُوقْ؟

6

{عَلَى شُرْفَةِ السُّبَات}

مِنْ فَوْقِ شُرْفَةِ السُّبَاتِ،

يُطِلُّ رَامْبُو،

عَارِيًا مِثْلَنَا،

مَكْسُوًّا بِمَا نَشْتَهِي

مِنْ لَهِيبِ البِدَايَةِ،

وَصَمْتِ القَصِيدَةِ،

وَرَعْشَةِ لَفْظٍ يَفُورُ مِنَ القَارَّةِ السَّادِسَةْ

7

{مَوْجُ الجُمَل}

فِي كُلِّ عَامِلٍ

يُفْرِغُ المَوْجَ،

ثَمَّةَ أُغْنِيَةٌ

تَنْسَى اسْمَهَا،

وَتَبْكِي عَلَى شَفَةِ العَرَقِ،

فِي كُلِّ صَخْرَةٍ

تَنْبُتُ الجُمَلُ المُسْتَحِيلَةُ،

كَأَنَّهَا عَدَنٌ تُرْوِي مَدِينَتَهَا

بِمَاءِ النِّدَاءِ

8

{الكُودَا – الخُرُوجُ مِنَ النَّصّ}

أَيُّهَا المَدَى،

يَا مِرْآةَ المَمْحُوِّ،

مَتَى نَخْرُجُ مِنْ نُصُوصِنَا

كَقُطْرَةِ حِبْرٍ

تُقَاتِلُ جَسَدَ الزَّمَنِ؟

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

يَموجُ السَّروُ في عينَيكَ

وما زِلتَ تَحْبو بين السَّنابِل

غازَلَتكَ الياسَمِينَةُ

فَتَحوّلت إلى غيمةٍ

لِمَ لَمْ تُحلِّق؟

ما كُنتَ حُبًّا

بَلْ نَوبَة ًكانونِيةً

ما كُنتَ عِشْقاً

بل حُزْناُ أُضيفَ إلى شِتائِي

لا تَنتَحِبْ بِصَمْتٍ

هدأتْ ثَورَةُ العشقِ

في أَورِدَتي

خَذَّلَنِي اللَّيلُ قَبل اكْتمال القَمر

بَقايا اَلرِّيح تَلاشَتْ

مَع أَوَّل ِ نَجْمَةٍ

لا تَبْحَثْ عَن الفَراشاتِ في مُقلَتَيَّ

قَبل الفَجِر هجرتِ السُنونُواتُ عُروقِي

لَسْتُ رَهينَةً لِلغُروبْ

أُريدُ أَنْ أَشرَبَ النَّارَ ثانِيَةً

أريدُ بعضَاً من الشَّمس

وكأسَاً تَجْتاحُكَ

لا تَتَسَكَّعْ في مَسَامَّاتِي حائِراً

اِرْحَلْ بِدَمي

اِجرحْ شَمْسي وهي تَفِكُّ أَزْرَارَها

خُذْ منِّي كُلَّ خَليَّةٍ وعَصَب

غَيْمَةٌ أنا

تَحْتاجُ إلى الرَّحيل ِ أبْعَدَ مِن عَينَيكَ

مَوجَةٌ أنا

تَحتاجُ إلى الإبْحار ِ أَعْمَقَ في شَفَتَيكَ

مَجْنونَةٌ تِلكَ الغُيومِ التي

لا تَمْطرإلا في الشِّتاء

مسْكِينَةٌ تلك الأرواحُ التي

لا تُعانِق الفردوس

***

سلوى فرح - كنــدا

 

تبدو الشوارع بليدة صامتة كأنها لا تعرفني. تزجرني لسبب لا أعرفه. أصبتُ بصعقة داخل رأسي. كل الظروف تسحبني نحو القلق. السيارات المزعجة. أصوات الباعة المتجولين. وشاشة التلفاز المضيئة في وسط الطرقات. وصوت الرافعة تهدم محلات الباعة المتجاوزين.

تكومتُ على نفسي من الإرباك والحيرة مرة أتجه شمالا ومرة أخرى يمينا علني أسمع خبرا يهدأ روعي وخوفي ولكن الأحداث تتشابك ولا أدري أي طريق أسلك..؟؟ كيف أصل الى بر الأمان،

 سمعت ضجيج الطلاب الصغار وهم يقصدون مدارسهم. مصادفة رأيت أحدهم يحاول العبور للجانب الآخر بينما كانت هناك سيارة قادمة بسرعة مجنونة صرخت دون وعيي واتجهت نحوه بطريقة عجيبة ثم سحبته بما امتلك من قوة وسرعة حركة. الا ان ما أدهشني أني فقدت صوتي في لحظة صراخي، كأن صوتي قد اختفى الى الأبد. أحسست وقتها اني أختنق لم تحدث هذه الظاهرة معي فيما مضى.

 كيف يمكنني ان أسير بدون صوتي..؟؟، بل وكيف يتم التعامل مع الآخرين..؟؟. دخلت الى حجرتي وأخذت اتدرب على الكلام كأني طفلة بعمر سنة أوسنتين. ادرب نفسي على نطق الحروف. جمدتُ في مكاني كمن يكتشف انه يسير منذ سنوات بلا حنجرة. تدربتُ صباحا ومساء ولكن. صوتي أبى ان يعود لي.

مضيت ابحث عنه في الازقة المبللة بذكريات الماضي. حيث كنت أخرج بصحبة صوتي والأمل يملأ صدري، وان غدا سيكون أفضل من اليوم. كانت الأماني تتراكض داخل روحي

 والسنوات زاحفة نحو مصيرها المجهول. هل يمكنني ان أمسكها وأعيدها الى الخلف الى أيام طفولتي؟ لم يكن هناك ما يزعجني. ولم أكن أفقه ما يدور.

لكنهم الآن يتحكمون بإرادتي. ويرسمون لي طريقا حسب اهوائهم وما يناسب مصالحهم الخاصة.

رسموا لي دائرة وأجبروني ان أبقى بداخلها أدور بلا هوادة مثل حصان الناعور الذي يخفون عينيه خلف قطعة جلدية. كي لا يرى نور الحياة والأضواء المشعة في هذا الكون الفسيح.

 هناك جلست قرب محل لبيع الشاي على الفحم والذي مازال يبيعه ذلك الكهل في فناجين مفقودة الاطراف. يفترش الأرض المفقودة التبليط. كنت اسمع الناس يتحدثون هامسين فيما بينهم عن الفقر والفقراء لكني لا أستطيع ان أشاركهم عما أفكر فيه. ولا يمكنني ان أبوح لهم بأني فقدت صوتي.

 والأفضل ان أعود من حيث أتيت متأبطة سري الجديد الذي لا يعرفه سواي. والذي اضطرني ان التزم حالة الصمت. لكن عيوني تترصد هفواتهم وتناحرهم فيما بينهم.

في طريق عودتي التقيتُ رجلا بلا صوت ايضا، كان يكتب على دفتر صغير جملة واحدة (خذلتني الحياة وهم خذلوا الجميع).

بالإشارة سألته من هم..؟؟ فلم يجبني!!

ثم رأيت امرأة تحدق في مرآة دائرية ولم يظهر داخل مرآتها أي شيء. قالت بصوت خافت: لم اعد اعرف وجهي، ربما ابتلعه اليأس لعدم صدقهم . وبالإشارة سألتها من هم.؟؟ فلم تجبني ايضا. !!

 وفي اخر الزقاق، كانت هناك طفلة صامتة غادرتها ضحكتها منذ زمن، فبدت كأنها عجوز صغيرة، حين نظرت اليها، شعرت انني انا من فقد ضحكته لا هي.

واصلت السير في قاع الوديان وقمم الجبال وتحت اشعة الشمس الحارقة ومع هيجان العواصف في آذار.

وأخيرا وجدت صوتي.نعم وجدته كان جالسا على مقعد خشبي في ركن المقهى، يحتسي الشاي ببطء. لا شأن له معي متظاهرا انه لا يعرفني. جلست امامه كأني أجلس أمام نفسي الهاربة من عالمها المضطرب.

لم يتكلم بلسان، لكني سمعته في داخلي يقول : تركتك حين هجرتِ نفسكِ. كنت قاسية معها تجاملين الآخرين على حسابها تعيشين غربتك بصمت دون ان تصرخي. مستسلمة لضعفك، أرى الكآبة مرسومة على صفحة وجهك لا يسعدك رفيف الطيور فوق رأسك. ولا زقزقة العنادل في ساعة الفجر ولا حتى المطر الغزير في ليالي الشتاء الباردة.

أحسست بدمعة ثقيلة ترقرقت في مقلتي وقلت له بلا صوت: عد إلي، لا أعرف ان أعيش بلا صوت فابتسم أو هكذا خيل إلي، ثم انسكب على جذع نخلة كأنه ماء الفرات الزلال. حاولت ان أتبعه لكنه قد ارتقى الى لب النخلة العملاقة.

لم أحزن كونها تستحق ان أمنحها كل ثقتي . ولأن صوتي ليس معروضا للبيع.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

كان في طريقه الى السوق ليشتري بعض الحاجات التي تطلبها زوجته المريضة كلما تطلب الأمر ذلك، ولم يكن الأمر سهلا طالما كان يشعر احيانا بشيء من التعب والإرهاق ومع ذلك فهو مضطر على تلبية ما تريده للطبخ وإلا من الصعب الحصول على صحن غداء ولا حتى حساء.

اغلق باب سيارته القديمة وسار بمحاذات الجدار الذي ينتهي الى إستدارة تظللها شجرة صفصاف عالية يستظل تحتها شاب يافع في الثلاثينيات من العمر ينظر الى السيارات وهي تجوب الشارع الصاخب خاصة عند الظهيرة التي تتقد من وهج أشعة الشمس..

سأله العجوز بفضول: 

 لماذا انت جالس وحدك هنا يابني في هذا الحر (اللاهف).. وهل تنتظر احدا.. التفت الشاب وقبل ان يجيب، سأله ثانية:

هل أكلت شيئا، وهل لديك نقود؟

وفي هذه اللحظة جائتهما رشة من مياه الشارع قذفت بها سيارة مسرعة..

قال الرجل المسن بعصبية يا لهذا الحظ العاثر..

أجابه الشاب:

إنها ليس مسألة حظ يا عم، بل تربية بعض العائلات وكذلك المحيط الاجتماعي، هما اللذان صاغا سلوكه طريقة ما وقذفا به إلى الشارع، هؤلاء من حصة (الخارج) الملغوم بالرؤوس، كما تراها تتحرك وتتقارب وتتباعد وتتنافر وهي تدور في حلقة مفرغة من الوهم الذي يطفح به الخارج، ولا مفر من هذا الطوفان، طالما بات مجالا لجذب الضعفاء والجياع واللصوص، إنها معادلة يسمونها ( انا والحلقة المفرغة ) وليس هنالك مسألة اسمها الحظ..!!

ظل الرجل واجماً امام هذا الفيلسوف الشاب اليافع

وقال له:

وأنت، أين موقعك من هذه الحلقة المفرغة؟

اجابه بسرعة وبدون تلعثم:

" أنا منها وفي خارجها "..

وأنت ياعم ؟

ظل صامتاً يفتش عن اجابة شافيه لهذا السؤال المحرج.. أنا مثلك..

اجابه:

(أنت لست مثلي ولن تكون)..!!

وأشار الى الرؤوس التي تتحرك وتعبر الشارع وتثرثر.. هل ترى هؤلاء، انهم ليسوا متماثلين في تفكيرهم، يتفقون ويختلفون يتجمعون ويفترقون يبنون ويهدمون..

قال له:

انت إذن في خارج الحلقة المفرغة الآن، هل تود الرجوع إليها؟

أجابه: ما دمت قد خرجت منها سالما فمن الصعب التفكير بالعودة إليها.

قاطعه بسرعة:

" انت الان تنظر الى الحلقة المفرغة من الخارج اليس كذلك يابني؟

نعم.. أنا، اطل عليها من نافذتي الخاصة، ( أنا ) و (الخارج) الذي يغص بالفوضى كما ترى وتسمع الضجيج والضوضاء والثرثرة..

قاطعه:

ممن تعلمت هذا الكلام الذي لا يقدر عليه الكبار.. من المدرسة أم من عائلتك أم محيطك؟

كان في إجابة الشاب اليافع شيئاُ من الإمتعاض، لأن السؤال أخذ منحى خاصاُ.. ومع ذلك،

أجابه:

تعلمت من أبي كيف اتكلم وكيف اصغي ومتى أصمت وتعلمت من الذين يكتبون كيف اكتب وكيف اختار ما اريده واتذوقه من ثقافة..

واضاف:

ما ازال اتذكر وأنا في الصف الأول متوسطه كيف اشاد مدرس اللغة العربية بالانشاء الذي كتبته وكيف رفع الأوراق الثلاث فخوراُ امام الطلاب، بعد ان سألني هل أنت كتبت هذا الانشاء ؟

قلت نعم..

وهل ساعدك فيه احد؟

قلت كلا،

وهل أخذت بعض مقاطع او كلمات من احد؟

قلت كلا..

وهل اعجبتك نصوص اردت ان تقلدها؟

قلت:

أنا أقرأ كثيرا، أقرأ اكثر مما اكتب وإذا كتبت شيئا لا يشبه كتابات احد..

أجابه:

نعم، عليك ان تقرأ الكثير الكثير وبعدها تكتب.. لا كتابة يابني بدون قراءة.. الذين سبقونا " همنغواي وتلستوي وهيدجر وبيرغسون وسارتر وسيمون دي بفوا وكولن ويلسون وماركس ولينين وماوتسي تونغ وتروتسكي والكثير من المفكرين والفلاسفة العرب وغيرهم كانوا يلتهمون الكتب التهاما، ومن كل هذا تولد الأفكار والبلاغة والأدب والفلسفة والعلوم والفنون، انها تتوالد عبر العصور، وقد تصاب بعض الثقافات ب(العقم او الخواء نتيجة الازمات).. لأن نمو الثقافات يحتاج الى سلام ومعايير التسامح ولغة للإصغاء ولغة للحديث..

نعم، الجميع يحتاج الى إنموذج للإقتداء ومن ثم الى الإستقلالية في إختيار النهج او الطريق.

وواصل الشاب حديثه.. دخلت مرة احد المقاهي فوجدت تجمعات هنا وهناك في الركن المقابل، والغريب في الأمر ان الجميع كلهم لا يعطون أحدا فرصة لإلتقاط أنفاسه.. الجميع يتحدث ولا أحد يصغي.. كيف يجري التفاهم بدون إصغاء، كيف يتفاهمون ؟

رد عليه، دعك من هذا إنهم يتفاهمون في الفوضى وبدونها من الصعب ان تجد من يصغي..

نعم، يتفاهمون في الفوضى بدون إصغاء..!!

***

د. جودت صالح

27 / اكتوبر 2025

أنا موهوبةٌ جدًا في رسمِ الحدود.. لأنّي أُدرك أنّ الجمالَ لا يُقيمُ إلّا في مساحةِ الاحترام.

أضعُ بيني وبينك وردةً، لا لِتُغريكَ بعبيرها، بل لتقول لك بلُطفٍ خفيّ،

هنا تنتهي خُطاك، وهنا تبدأ نَبضاتي.

وربّما أضعُ كلمةً مهذّبة، دافئةً، أنيقةَ الوقع، تُشبهُ السلام حين يمرُّ على القلب بلا ضجيج.

أو نظرةً جادّةً حانية، تُشبهُ يدًا تُرَبِّت على كتف المسافة، وتهمس،

قف حيث أنت… تلك مساحتي، فامنحها صمتَك الجميل كما أهبُك أنا وُدّي الرصين.

*

أُؤمن أن الاحترام ليس مجرّد سلوكٍ اجتماعي،

بل هو ذروةُ الفهم، أن تتقمّصَ ظروف الآخر، أن ترى العالم من نوافذه،

أن تدرك أنّ للناس أنفاسًا مختلفة، وأوجاعًا لم تُروَ، وأحلامًا هشّةً تخافُ الريح.

*

أنا موهوبةٌ في رسم الحدود،

لكنّني لا أرسمها بسياجٍ من حديد، بل بخيوطٍ من نورٍ،

تتركُ لكَ حريةَ الاقتراب، دون أن تسمحَ بالانتهاك،

تمنحكَ دفءَ الحضور، دون أن تُفقدني اتزاني.

*

فالاحترام، في جوهره، فنّ الموازنة بين القلب والعقل، بين أن تُحبّ وأن لا تُلغِي، أن تُنصتَ دون أن تذوب،

أن تظلَّ قريبًا بما يكفي، وبعيدًا بما يَصونُ النقاء.

*

هكذا أرسمُ حدودي، لا من باب الخوف، بل من باب الاحترام.

لا هروبًا، بل وعيًا بأنّ لكلّ نفسٍ فضاءها، ولكلّ روحٍ حقّها في الهواء.

***

مجيدة محمدي

(حكايةُ جنّتين وجنايةُ

قريتين)

***

وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حَرائقا

وَرُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقا

*

مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً

مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا

*

يُريهمْ أساريرَ الكتابِ جواهرا

كما أبصرَ (السَكْرانُ) فيهِ (رقائقا)

*

وَقيلَ قوافي الروحِ وَحْيُ خَسائرٍ

وَتُرسِلُ أطيافَ الفقيدِ فيالِقا

*

كفاكَ لظى الفقدانِ يُلهمُ عازفاً

لِيَشهرَ آناءَ الغيابِ فَوالِقا

*

يُفلّقُ هاماتِ الحُداءِ مع السُرى

وتُنكرُ أحوالُ السُراةِ مُفارقا

*

يَهزُّ عُذوقاً للكلامِ شهيّةً

لِيُطْعِمَ فلّاحاً كذلكَ سارِقا

*

أذوقُ تُموراً كالعُسيْلةِ نشوةً

وأخصفُ خوصاً للنُخيْلَةِ طافِقا

*

يُفتّقُ أكمامَ البلاغةِ عَلّهُ

إذا وَقَبَ الإظلامُ يلعنُ غاسِقا

*

يُفتّحُ أزرارَ الجوى وَيُخيطُها

فَهرطقةُ التبديعِ تُغْويهِ مارِقا

*

فيخْتَلِجُ الوجدانُ لَحْنَ حمائمٍ

وَتسْلو سماواتُ الفُؤادِ عقاعقا

*

تَبُثُّ يَماماتُ الجَنانِ هَديلَها

تَغاريدَ مكلومٍ تَذكّرَ ناعِقا

*

وَرِثْنا رُؤى الضِلّيلِ قَبْلَ غُواتِهِ

معاً شيّدوا في الماوراءِ جَواسِقا

*

وَمِنْ شَجَراتِ النخلِ طَلْعَ سلائقٍ

وكيفَ طُلوعُ النَخلِ تُؤذي السَلائقا

*

سُكارى مِنَ التَهْيامِ خلفَ إمامِنا

نَشعُّ كأنّ الليلَ شعَّ مَشارِقا

*

فَهيْهاتَ بستانُ النخيلِ بجنّتي

يَخونُ حفيدَ الباسقات وعاشقا

*

فَما بَرِحتْ تُزْكي النُفوسَ طُلوعُها

ورغمَ جنوحِ العادياتِ بواسِقا

*

سأهجرُ من غابوا وأرحلُ لاحقاً

حَداثَةَ مفتونٍ يَرومُ لواحقا

*

أنَرْكَبُ أفلاكَ الحداثةِ كلّما

عَدِمْنَ  بحورَ الأوّلينَ زوارقا

*

ونعزفُ لَحْنَ السابقينَ تِلاوَةً

وتأبى القوافي أن تفوقَ سَوابقا

*

سأتلو مراقي السالكينَ سَلالِماً

وأقفو مقاماتِ المنازلِ تائقا

*

وأجلو المرايا في البصيرة جاعلا

مَدى بَصَري بازاً ينادمُ باشِقا

*

بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكِفٍ

وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا

*

بأجنحةِ الشاهين طافَ مَواكِباً

وَبوتقةُ الخيّال فارتْ خَوارِقا

*

خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى

تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا

*

فَلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ

ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا

*

وَلَسْتُ فقيهاً بالرواية عالماً

ولكنّني أغزو الحقائقَ ذائقا

*

وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ

وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا

*

وأسطو على سِرِّ البَداهةِ كاشفاً

فُيوضَ حُدوسٍ في اللُبابِ وفاتِقا

*

يَنِثُّ يقينُ العارفينَ نَيازكاً

وألْفَ شِهابٍ للحوالكِ ماحِقا

*

هَوى مَلَكوتُ الوجْدِ قابَ غوايةٍ

نُجيماً على قاعِ البواطِنِ طارقا

*

فَسَحّتْ عُيونُ الخافياتِ مجامراً

تُحرّقُ في بَهْوِ الجِنانِ نَمارِقا

*

وَرَشّتْ قواريرُ الغيوبِ رذاذها

وفاضت خوابي الدالياتِ دَوارقا

*

يَكادُ فؤادُ الصَبِّ يهطلُ كوثراً

لِيُطفي بهِ قيدَ النفوسِ صواعقا

*

لَعَلَّ غواةَ الحَرْفِ طوْعُ مشورتي

غُباقى يعبّونَ الضياءَ غبائقا

*

تسامتْ نُهى العَرّافِ فَرْطَ درايَةٍ

إذا ما تفادى في الضميرِ عوالِقا

*

وزاغت خُطى القيّافِ قُرْبَ يمامةٍ

هُنا الدمعُ حتى الدمعِ أصبحَ ناطقا

*

متى ما تَذُقْ سِرَّ المُدامةِ من فَمٍ

لِهادِلَةٍ أمسى مزاجُكَ رائقا

*

عَتقْتُ هَديلَ الساجِعاتِ بداخلي

ألا ليْتَ ألحاني تُروّضُ عاتِقا

*

أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما

مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا

*

سألْتُ فُراتَ اللهِ قَبْلَ جفافهِ

لماذا بَكينا يَوْمَ زيفاً تَعانقا

*

أكُنّا كما الغرقى بِوهْمِ عُروبَةٍ

على رُقْعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا

*

بِخيْلٍ وراء الرُخِّ حينَ تَرادَفتْ

لَها عَمّقَ (الفيلانِ) تلكَ الخنادقا

*

وحولَ الضفافِ الحاضناتِ فُراتِنا

لَمَحْتُ ظلالَ الناطحاتِ عوائقا

*

نَطحْنَ سَماءَ اللهِ حتى تَهدّمتْ

على الجانبينِ الأخصبينِ طوابقا

*

فَيا حَبّذا الأحلامُ تُسْعِفُ واهِماً

وَرُبّتَما الأوهام صارتْ مَشانقا

*

أينسى فُلولُ الجائرينَ صَنيعَهمْ

سَلوا ياسَمينَ الشامِ ثُمَّ الزَنابِقا

*

وَذَكّرْ يَتامى الذابِحينَ نخيلَنا

وَكمْ دفنوا قُرْبَ السَديرِ شَقائقا

*

بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزَلْ

أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا

*

أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ

يَراهُ فُؤادي في القصيدةِ شاهقا

*

وَيرنو الى كُنْهِ العَدالةِ جوهراً

فَلَمْ يَرَ ما بينَ الأنامِ فَوارِقا

*

ولستُ بِراءٍ للخليقةِ مُنقِذاً

وألعنُ طاغوتاً يُذِلُّ خلائقا

*

وأرشقُ تمثالَ الزعيمِ حجارةً

جُزيتُ عَدوّاً للعُتِلِّ وراشقا

*

وأوما لِأقسى قريتينِ تَراءَتا

ثَعابينَ أرضعْنَ الجِنانَ بَوائقا

*

وَأوصى فراديسَ الهلالِ حصانةً

مَخافةَ عَوْدٍ للضباعِ دَقائقا

*

فَبِسَكَ وزّانا يَكيلُ مُطَفِّفاً

وكائلَ غِشٍّ لا يَهابُ مزالقاً

*

أتيتُ مَكائيلَ المُطفّفِ ناعياً

لِأنصُبَ في ذكرى الضميرِ سُرادِقا

***

د. مصطفى علي

ضجري ما أبقى لي ضجري

ألا أنفاسا في الشرر

*

ما كان العود ليطربنا

لولا أحلام في الصغر

*

نطعم أشلاء محنتا

عزفا والناي بلا وتر

*

سهد والليل يؤرقني

ما فك رقادي من أسر

*

كل الاحوال سأرقبها

سير الأحوال على عمري

*

سير الاحوال لمزدلف

أشتات كان بلا أطر

*

وأديم الارض سأحرثه

زهر ألقاه بلا جذر

*

ضجري ما أبقى لي ضجري

كل الاحلام على خطر

*

أسفا أزجيك سيدتي

ما كنت أرى بالفكر

*

أعطيني الساعة منزلة

أني أهواك ولي عذري

*

أسقوني الآن محبتها

كأسا بالحب بلا خمر

*

ورقصنا اليوم بلا لغة

فوق الاقدار وفي الكدر

*

أني ألقاها معتركا

دمس الايام ولا القدر

*

ما كان القول يؤنسنا

قول معناه على الجفر

*

خطب الايام سيتعبنا

ما جال خطاب في الصدر

*

من كان الماضي سيدها

قد عاد اليوم على خبر

*

أين الاطلال وما بقيت

ما عاث الريح بلا مطر

*

أين الربان سفينته

وثغاء الشاة مع البقر

*

أين الأقوام ومسربها

أين الحكام مع القصر

*

أين المصباح ومسنده

وسناء الليل لمحتكر

*

كيف المصباح سنطفئه

وطريق فيه لم نسر

*

كيف الأدوار ستلعبها

أبلاه غنت من بشر

*

ما هذا الفعل أحسبه

زيف قد عاد على نظر

***

د. علي جبار الاسدي

في نصوص اليوم