رواية مهجريّة قصيرة
قد تبدو حكاية الرجل الطفل أو الطفل الرجل غريبة إلى حدّ ما
وربّما يكون هناك خطأ ما
في التشخيص، في العلاج الذي لم يكن له من داع
أمّا البداية فقد حدثت هناك بعيدا على الأرض التي اضطربت منذ بدء الخليقة ومازالت تضطرب إلى الآن.أرض تعج ببشر متباين وألوان شتى وأفكار وأزياء مختلفة تسع العالم كلّه.
فثمّة
السجلات القديمة تثبت أنّ مايعيشه الرجل الطفل والطفل الرجل من كوابيس هي ليست مصادفة.. شهادة ميلاده التي قرأها الإنكليز خطأ صحيحة مائة بالمائة، فقد ولد عام (1988) في العراق مدينة كركوك.. ولم يكن كاذبا في ادعائه.. غالبيّة الذين جاءووا إلى بريطانيا لجؤوا إلى الكذب، لقد كان صريحا للغاية.لا يخجل من أيّ شئ.. أيمن سردار
هذا هو اسمه
والده الدكتور (سردار عبد الرحمن كردي) اشتغل في قصر صدام حسين.. عمل طبيبا في كلية صدام والقصر الجمهوري، لم يكن مرغما فما ذلك إلا لأن الأب الطبيب الحاذق ينتسب لعشيرة كردية تُعْرَفُ بولائها لحكومة بغداد
ليسمها أغلبية الكرد ماشاؤوا..
انتهازية
خيانة
(أيمن) نفسه عاش معظم حياته في بغداد، في العطل يرافق أمه إلى بيتهم في كركوك، وخلال عطلات المدرسة.كان يذهب إلى مدرسة خاصة تؤوي أبناء الذوات ملحقة بالمشفى حيث يعمل والده، ولكونه الابن الأصغر بعد ثلاث أخوات فإنّ والده الطبيب المشهور يحلم أن يصبح ابنه الوحيد طبيبا مثله .. يرث مهنته على الرغم من أنّه سمعه ذات يوم يسرّ أمّه أنه يحيل إلى الخارج للعلاج أي مريض من أهل تكريت أو عشيرة الرئيس وإن كان ما يشفيه من جراحة سهلا يسيرا خشية من التبعات..
كان الطفل الرجل يفرح حين يسافر مع أمّه وأخواته إلى كركوك في العطل.. فيسمع حكايات تتكرّر على مسامعه. عن الدببة التي تعيش في التلال والأساطير التي تخص عيون المياه.لم تكن تلك الأساطير والحكايات الغريبة مفاجأة له، بقدر ما بدا سِنّهُ مفاجئا له، حيث أدرك، وهو في مرحلة الابتدائية والثانوية من تلاميذ المدرسة زملائه، أنّه يبدو أكبر من عمره، يشعر أنّه رجل، في الوقت نفسه وجد في زمن الحصار كلّ شئ يخطر بباله، الموز الذي لايراود الناس في الأحلام، والتفاح، والشوكولاته وجدها في المدرسة، قد تكون بأذهان الناس خرافة مثلما تختلق أذهانهم خرافات عن حيوانات مركّبة غريبة.
مدرسة القصر
مدرسة الرئيس
حلم أبوه أن يتخرج ابنه فيها ليصبح طبيبا مشهورا مثله، ولم يستمرّ الحلم طويلا كأنّ الحياة تأبي أن تبقى على نمط واحد، من كان يصدّق أن الدولة العاتية القويّة التي بسطت يدها على الجميع تتلخّص بدقائق محدودة
تنهار
أنت وحدك الطفل الكبير والكبير الطفل الذي جئت بعد أربع أخوات وكنت في زمن شحيح على الناس بالخبز والعدس تأكل الموز والتفّاح حتى أخذ كل شئ ينهار في دقائق فيصبح والدك المتهم بالعمالة للنظام صريعا على يد إحدى التنظيمات الشيعيّة، وزوج أختك الكردي يسقط برصاص تنظيم خفيّ والتهمة نفسها.
قد تكون هي الخرافة وحدها
فهاهو يبدو أكبر من عمره، وحين يسافر إلى كركوك، في عطلتي الربيع والصيف يسمع عن أساطير الشمال.. كركوك لنا نحن الأكراد.. وجانبه العربي يقول ولنا نحن العرب .. ليذهب التركمان إلى الجحيم.زمثلما هجّر السيد الرفيق بعض المشبوهين إلى إيران يمكن أن يطرد التركمان إلى تركيا.. في نفسه تلك الرغبة، والخرافة التي ورثها عن السلاسل الجبلية تؤيّده
ربمّا..
وهؤلاء الذين لايعرفون الرحمة بل الزّهو اختلفوا في الطفل الرجل واالرجل الطفل الأكراد يعدّونه عربيّا والعرب يرونه كرديّا، أمّا أصعب اللحظات التي عاشها فهي يوم قتلوا صهره زوج أخته الكبرى.. ساعةً حرجة .. مجرد أن أطلّ برأسه من الباب .انطلقت نحوه رصاصة نثرت مخّه،، اختفى القتلة، بعد أن رموا عند عتبة الباب حيث الدم ورقة كتبوا عليها القتل جزاء عملاء العرب.. الموت لعملاء العرب.. بعدها بيومين، جاءت رصاصة لصدر أبيه من قاتل يصرخ نحن الشيعة .. الموت لخدام صدّام
لكن
مع ذلك
مع كونه شبيها بالأسطورة خاف ..
الرعب..
تراجعت القهقرى، عشت أغلب حياتك في منطقة عربية تتحدث اللغة الغربية بطلاقة، وتتلكؤ .. تتعثر في لغة أبويك، حتى إنّك عندما جئت إلى بريطانيا ملأت طلبك بالعربيّة..
خطأ فادح لاشك.. فكلّ ما حوله يكاد الآن ينكره.. قبلها، وهي مقدمات كانت خافية عنه، فجأة شعرت بضيق في التنفّس.الدنيا لاتسع.لا يكاد يطيق الهواء.سأل نفسي هل هي موجة ربو؟ لم أكن يعاني من قبل أيّ مرض في الرئتين، البرد نفسه تعود عليه وهوصغير.. عاش في منطقة أكثر برودة ولا مشاكل عنده في التنفّس.. غير أن الوضع الجديد المفاجئ غيّر كل شئ في حياتي وجعلني أنبش الماضي ..
حتّى حين اغنالوا والده وقتها لم يهاجمه أيّ كابوس
الخوف
الرعب
من دون كابوس
المشكلة بدأت سهلة يسيرة، إحدى الليالي أوى إلى الفراش، بعد نهار عمل روتيني.. كنت طبّاخا في معمل لحلوى (التوفي) المدوّرة، و (النوغا) وهو عمل حصل عليه بعد أنّ شكّ فيه الجميع.. ظنّوه كبيرا ومازال طفلا..
القانون البريطاني يقول حين تصبح رجلا عليك أن تتخطى سنّ الحادية والعشرين.. الرجولة الكاملة، هذا يضحكه كثيرا، الآخرون مقتنعون أنّه فحل.. فحل تماما، مع ذلك يعرف نفسه تماما، ولا داعي أن يتكلّم بالتفصيل لكنّ القانون نفسه لم يقرّه طفلا.لا يصدقون أنّه في السادسة عشرة من عمره مثلما لا يصدّقون أنّ هناك ثقلا يجثم على صدره قبل ظهور السيدة (آيفي) وقبولها أن تتبنّى هذا الشاب الكبير السن الذي لايبدو طفلا.
لا يكذب حين يقول إنّه جاء إلى بريطانيا متسللا قبل ثلاث سنوات وحده من دون الرجل الكبير الذي اكتشفه الآخرون.. يحقّ له أن يضحك كثيرا .. الإنكليز مهما كانوا أذكياء فإنّهم يخطؤون.. وإن يظنّهم الآخرون ملائكة لايخطؤون في تقديراتهم..
من دون لَبْس
قبل أن تداهمه الكوابيس قبل عام وأكثر بقليل كان عمره ستة عشر عاما.هناك في العراق عاش.. بين بغداد وكركوك.. يفتخر أنّي كردي، ينتسب إلى عشيرة زيباري التي هواها مع عرب العراق، أبوه عمل في الطبابة الخاصة بالرئيس وكبار المسؤولين ..
في أوراق قدمها إلى السلطات البريطانيّة:ولد في كركوك أمّا معظم أيّامه فقد عاشها في يغداد مع العرب:
هذه ياسيدي المحقق نبذة عن حياتي.
الدكتور النفساني الذي ذهب إليه طلب منه أن يعيد قصة حياته، الوحيدة من دون هذا العالم الغامض التي سألته في الوقت المناسب هي السيدة (آيفي) .
قالت انس الماضي.أنت هنا تبدأ حياة جديدة:
والطبيب يقول تكلم معلومات لابدّ منه
حسنا هناك معلومات تخصّ الرجل الطفل أو الطفل الرجل، فقد تغيّر كلّ شئ، وانتهى عهد الدلال، تهاوى حلم أبيه في أن يصبح طبيبا يخلفه في مهنته، ففي أيام معدودة تغيّر الوضع تماما، فما كان عليهم إلا أن يرحلوا إلى كركوك.في بغداد استهدفت، كما يدعي، ميليشا شيعيه والده الطبيب الذي كان متعاونا مع الحكومة السابقة، ويكفي أنّه طبيب في القصر الجمهوري، وحين انتقلوا إلى كركوك استهدفت ميليشيا كرديّة صهره زوج أخته الكبيرة.كان الخوف يراوده بشكل لا مثيل له، وهو طفل في بغداد عاصر الغيلان والجن، والخرافات العربية منذ ولادته إلى أن كسر الامريكان الحصار واغتيل والده، وفي كركوك خلال إحدى العطل الصيفيّة تحدّثت التلال عن ولادته هو بالذات.. هناك نذر عليه أدّته أمّه في حينها وظنّت أنّها استوفت نذرها أمّا بقايا النذر الدأئريّة فظلّت عالقة بذمتعه هو.. غير لأنّ الأمّ نسيت أو تناست أن تخبره عن واجبه نحو النذر.. والواقع يقول .إنّها خافت بعد أن ولدت البنت الرابعة أن يتزوّج عليها زوجها الطبيب امرأة من أجل أن يولد له ذكر يرثه في المال والعلم، مهما يكن وعي الرجل ومنزلته سواء أكان من الجنوب أم الشّمال فإنّ فحولته ترفض أن يبقى أبا لبنات. الجنوب والشمال يدفعانه ليبحث عن وريث، في مثل هذه الظروف تحركت مدفوعة بأملٍ ورجاءٍ أم البنات السيدة (روشنا) فبدأت بالبخور والنذور والأولياء الصالحين، الولي الصدّيق حافظ القرآن (دلشاد محفوظ) دلّها على طريق الماء والجنّ الخيرين، هناك نبع صغير في مشارف كركوك على بعد مسافة يسيرة، ستجد عليه أم البنات أعلاما وبعض النساء العاقرات اللائي يأملن البركة والخصب.كان الشيخ (دلشاد محفوظ) عزيز النفس يزجي نصائحه للحائرين والحائرات يرفض أيّة هديّة، ولا يدلّ جميع من يطلب النصح والبركة على مكان واحد، هناك من تجد بغيتها في العين، وآخر يجد ضالته في مرقدٍ لوليّ عند الحدود، وآخر لا ينفعه إلّا أن يهاجر للجنوب فيقف هناك عند قبرٍ مهملٍ فيه عزاؤه، في حين يجد شخص ما حلّا لعقدته في البحث عن حقل بطنج أو زعفرانعند قمّة أحد التلال.المطالب شتّى وذوو الحاجات كُثْرٌ مختلفون، ومن حسن حظّ السيدة (روشنا) أنّ هناك نبعا صغيرا في أطراف مدينة كركوك تحفّه نباتات البطنج ذات الرائحة العطرة، في ذلك المكان الذي أشار إليه الشيخ مارست أمّ البنات طقوسها ..
على ماء النبع الجاري
وبين الأعلام الخضراء
مارست طقوسا لابدّ منها
خطت سبع مرّات فوق العين السائلة وهي تردد على بركة الله وباسم الله ليكن المولود ذكرا قال لها الشيخ سبع في سبع .. 49 وأربعين مرّة نسخاً لسموات الله السبع والأرضين فوق العين الجارية من أجل مولد ذكر مرتقب.
كي يولد الطفل الرجل أو الرجل الطفل
بعدها
تقطف من بطنج يحفّ بالعين حزمة تغلي منها كلّ يوم قبضة في الصباح على الريق .. ماؤها وحده لا تضيف عليه سكرا تكرعه حين تخفت حرارته دفعة واحدة
سبعة أيام هي وتحلّ البركة..
وعليها
مادامت حيّة أن تزور مقام العين كلّ عام..
ولم يكن قول الشيخ هراء
ولا تصرّف أمي عبثا
في العام نفسه حلت بركة السماء وحملت السيدة (روشنا) ، كان وزن المولود مذهلا، وزنه يفوق وزن أترابه المواليد الجدد، ولا مرض يعتريه، غير أن الأمّ التي كانت مذهولة بطفلها، وقد اطمئنت بعد قلق إلى أنّ زوجها الدكتور لن يفكّر بالزواج بعدما تقّق حلمه وإلاّ لكانت كارثة فربما كان يتقدّم إلى سيدة من عشيرة الرئيس أو عائلته الأقربين، من هؤلاء الذين يرسلهم إلى الخارج ليجروا أبسط العمليات هناك.. غير أنّها نسيت أن توفي بكامل نذرها.. كان عليها أن تذهب كل عام لتخطو الخطوات نفسها وتعيد العد ذاته وسط الأعلام الخضراء..
ففي السنوات القادمة بل هي أقلّ من بضعة أعوام تغيّر فيها كلّ شئ..
الطقوس انقطعت
والفوضى عمت
ما باليد حيلة ولم يكن هناك من تستشيره..
التلال التي تحيط بالمدينة من جانب الشرق، احتلها مقاتلون نظاميون، يسندون جيشا كبيرا اتجه نحو الحدود.. العين الصغيرة اختفت وقد تكون جفت، ولا أحد يقدر من الناس الآمنين والنساء الباحثات عن أمل، أن يصلوا المكان بل من يفكّر بالعين
شيخ الطريقة الناصح العفيف مات..
الخرافة نفسها ضرب عليها الزمن ستارا من النسيان
وتمتمت أم أيمن:سيأتي الوقت الذي تظهر فيه العين، ويظهر وريث الشيخ الزاهد، فأعرف منه ماعلي أن أفعله بشأن الذي يفوتني!
عندئذٍ انطلق لسانه، عن خوف وهو يرى مصرع أبيه وصهره:
- أمّي يا أمّ أيمن قررت الهجرة.
زوت مابين حاجبيها، وتساءلت بشبة اعتراض:
- الهجرة إلى أين.؟
كان يرى الحزن يخيم على العائلة جميعها والعار يلاحقها من عيون السلطة الجديدةفيزداد هاجسه بالخوف
- لا يهم إلى أين.. مع أني أفكر في بريطانيا.
بريطانيا؟
نعم لا صديق لنا لأنّ وظيفة أبي جعلت الجميع في هذه الظروف يعادينا، العرب يروننا عائلة خدمت الدكتاتور، والكرد يروننا جواسيس للعرب أنتن نساء لكنهم سوف يستهدفونني.
- لكنك ولدي الوحيد ومازلت صغيرا.
نعم هذا هو المطلوب عمري 16 عاما أنا طفل على وفق قانونهم ما لم أبلغ، هناك شباب عرب وكرد هاجروا فلم لا أفعل مثلهم .. لا أريد أن أموت .. وعندما أستقر أتدبر أمركن!
ولم يكن أمام السيدة (روشنا) إلا أن ترضخ لما تطلبه عصابات التهريب الكردية التي تزج بالشباب للهجرة.. ابنها الذي ولدته بملامح النذور منع من أن تكون لها ضرّة والآن عليها أن تحميه وتوافق على هجرته قبل أن تخطفه رصاصة فتفقده إلى الأبد..
لقد رضحت تماما لما كان يجب أن يكون!
وربما تكون هي الخرافة نفسها جاءت به إلى هذه الجزيرة البعيدة، فأصبجوا يشكّون فيه.لا أحد يريد أن يصدّق ولا يرغب في أن يكذب مثلما يفعل الآخرون.استقبلوه في معسكر الرجال مثلما يستقبلون أيّ لاجئ ثمّ تشككوا فيه وهو الرجل الذي يقول عن نفسه طفلا.خلال الأيام الأولى التقى في المعسكر بلاجئين مثله من العراق والصومال، وبعض المغاربة من الذين عبروا المانش.
كانوا فرحين بالعالم الجديد
يتلهف أي منهم إلى أن يقرأ في يوم ما اسمه على لوحة الإعلانات فيعرف أيّ يوم تُجرى له مقابلة كي مع الرجل الرسميّ، كان يحلس في الممر على كرسي خشبي ينتظر دوره وبجانبه فتاة في الثلاثين سوداء كالحة السواد يبدو أنها إفريقية أو من الكاريبي.التفتت إليه تسأءل بلغة إنكليزية ذات لكنة محببة:
- أنت أوروبي؟.
كان يرى بعينيها بعض الفضول:
- أنا ؟من أيّ بلدٍ تظنين.
- بلغاريا.. المجر..
- على أيّ أساس تعتقدين أنّي أوروبّي؟
- شكلك أشقر أبيض ومن يرك يظنك تعمل في الصليب.
- أبدا أنا من العراق!
قالت بلهجة عربيّة ثقيلة:
يعني تتكلم العربية.
نعم.. أنا عراقي أسمي (أيمن) ولا أعرف إلا العربية والإنكليزية وبعض المعلومات البسيطة عن الكردية وأنت؟
- (نوررو)
- من أين؟أثيوبيا؟
- من الصومال.
تشرفنا!
وقطع عليهما الحديث موظف أطلّ من إحدى غرف الممر الطويل نادى باسمه فاعتذر منها بأدب وتمنّى لها حظّاّ سعيدا، استقبله صاحب ملفّه مرحِّبا، وبسط يده نحو كرسي أمام الطاولة، فجلس، والرجل يطيل النظر إليه ثمّ انكشفت الدهشة عن قسماته:
- (أيمن) اسمي هنري .. كُلّفت بمتابعة قضيتك هل هذا كل ماتملكه من أوراق؟
- نعم ياسيدي قدمت لكم جواز السفر استخرجه لي أبي زمن النظام السابق، والجنسية وشهادة الجنسية، وأصرّ على أنّها صحيحة.
- يعني ليس هناك من وثيقة مزوّرة.
- أبدا .
سأل السيد هنري بعينين ثاقبتين ووجهٍ يكاد يخلو من الملامح:
- واثق أنت من كلامك؟
نعم بكل تأكيد .. أنا كردي أبي ناصر النظام السابق، الشيعة قتلوه، والأكراد قتلوا زوج شقيقتي، فهربت خوفا من الانتقام لديكم في الوثائق أنّ أبي كان طبيب القصر، كنت في أرقى المدارس وكان أبي يحلم أن أصبح طبيبا فأكمل مشواره.
- كل ذلك صحيح لكن بغض النظر عن الوثائق هناك نقطة حساسة عندنا نحن الشرطة وعند الأطباء تحتاج إلى بعض الوقت.
- لكنكم لاترحلون الأطفال والقانون يعامل من تحت العشرين طفلا أليس كذلك؟
- صحيح لكن المشكلة في شكلك تبدو في سنّ الخامسة والعشرين.. جسمك وقسمات وجهك..
فانتفض صائحا:
- غير معقول هذه تهمة تلاحقني أينما ذهبت!
- هدأ قليلا .. ستبقى في معسكر اللاجئين ليتم عرضك على لجنة طبية تقرر إن كنت تحت سن العشرين ويمكن أن تستأنف .. مرة وأخرى لاتخف.. لن نرحلك إلى بلاد القتل.
ردّ برجاء لا يخلو من توسّل:
- ياسيدي قد يطول الوقت ويتضخم ملفي فهل أبقى أعيش في المعسكر؟
- لا أدري كم يقتضي الوقت حتى يُبَتَّ في قضيّتك مع ذلك يمكنك أن تحصل على استثناء للعمل الجزئيّ، القضية تحتاج إلى بعض الوقت.
ثمّ
خرج من الغرفة حيث الدهشة والحيرة ترتسمان على وجهه، طفل رجل أكبر من عمره بعشر سنوات.. يعيش في مجتمع خاص، وفي مدرسة خاصة، طفل بامتيازات رجل، هل يذكر أنّه لعب مع أقرانه الأطفالمنذ كان في الروضة، والمدرسة الابتدائيّة، حدائق القصر والمدرسة الخاصة مليئة بالمراجيح وألعاب الأطفال، يزهو والده أنّ ابنه وُلِدَ بشكل مذهل، وزنه كبير وجسده ضخم، ولولا مهارة اللجنة الطبية لاحتاجت السيدة (روشنا) إلى عمليّة قيصريّة.. هل ترى هو النبع الذي جعله يسبق زمنه بعشر سنوات؟
حين وصل نهاية الممر سمع بابا ينفرج، التفت فرآى (نوررو) فتباطأ لحظات حتّى حفّت به، فتوقفت واتسعت ابتسامتها له:
- وجهك يتهلل بالبشرى؟
- أوراقي سليمة سأنتظر الإقامة!
- مبارك؟
شكرا لك ماذا عنك؟
قيد الدراسة..
إن شاء الله تحصل عليها بأسرع وقت يارب!.
صمت
دهشة
لايريد أن يفضح نفسه أمامها.. ليست مثل زملائه التلاميذ تعرف عمره، فتراه كبيرا وتعرفه صغيرا، ستة عشر عاما.يرى في عينيها شيئا ولو عرفت حقيقته لتحاشت اللعب معه لا لأنّه كبير، عكس ما حدث له في الروضة أو الابتدائيّة والثانوية التي كاد ينهيها فيما لو جرت الأمور على ما هي عليه، فيحصل على درجة عالية ليدخل كلية الطب.
رغبته تتعالى في أن يخفي كل الحقيقة..
ويمزّق كلّ شئ
رغبة
جموح
ليست هناك من رائحة عطر مثيرة يستافها تخفي رائحة جسدها الشبيهة برائحة العرق الحامض.
يضحك..
هل يفتتح فحولته معها، التقاها مرات في باحة المعسكر، نظرت إليه نظرات ذات معنى، حركت فيه أحاسيس غامضة، وحين تحدث معها في الممرّ لم يستفْ منها رائحة صنان كريهة.
هناك رائحة غريبة.
يضحك
ليست عنصرية
ولا باراثايد
أمّه تناقلت مع أبيه باللغة الكردية نكتة سمعتها من صديقاتها عن عضو قيادة قطرية سوداني كان يستحم صباح كلّ يوم بالحليب كي يطرد رائحة كريهة تنبعث من جسده.هكذا أشيع عنه.هناك رائحة تنبعث من جسدها أشبه برائحة البخور وأقرب للخشب المحروق، مهما يكن فالصوماليّة (نوررو) تبدي اهتمامها به، وبمناسبة حيازتها الإقامة دعته لتناول الآيس كريم والمعجنات في كافتريا (كافكس) سألها وهو يتطلع في عينيها:
هل ضايقتك المليشيات في الصومال فدفعك الوضع للهجرة؟
عضَّتْ على شفتها اليسرى، وقالت بغنج:
أبدا ليس بسبب الحجاب الذي يفرضه الإسلاميون، ولا الفوضى، هربت لأن أهلي فرضوا عليّ الختان.
خمّن الآن الطفل الرجل السبب في منحها الإقامة دون تأخير.. الإنكليز وفلسفتهم.. ، وقد سمع عن ختان النساء، وشمّ رائحته في بعض مناطق كردستان، قطع البظر، أليس كذلك، وخرج عن تساؤله الصامت، وعادت إليه سذاجة الطفل:
هل جميع النساء يختن؟
معظم العائلات يعدّون العمل سنة محببة.. معظم إفريقيا..
الحمد لله أنك وصلت إلى هنا..
كان عليّ أن أخضع لتلك المراسم في سن الثانية عشرة لكن سوء الأوضاع.. والقتال، ومرض أمّي أجّل المراسيم حّتى بدا إخوتي ومعهم زوجاتهم يتذمّرون (وخرجت عن حماسها قليلا، فسألته)
- أليس عندكم مثلنا؟
- أظنه ذلك في المشرق نادرا ربما في السعوديّة لكن أخبريني ماذا يحدث لو لم تفعلي؟
- يعدون التي لا تفعل شؤما متمرّدة ..
بحث عن أيّة كلمة:
- لا أدري.. جنون..
وقالت قبل أن يغادرا:
- خلال يومين تجد البلدية سكنا لي .أظنه بانسيون.هل تساعدني في شراء الأثاث ونقله؟
.- بكلّ سرور
لعلها ترمز إلى معنى آخر، وهو في فورة الشبق، ليست هناك من رائحة كريهة تبعده عنها، ربّما أخفتها بطريقة ما.. إفريقية خالصة تفصح رغبتها عنها، أشقر.. مثير .زفي عنفوان رغبته، قد تكون أشبه بلعبة الأطفال.. في الصف الثالث ظنّه أحد الطلّاب الجدد مدرسا، ولم يجرؤ أي من رفاقه التلاميذ أن يدعوه للعب معه خشية من أن تثار بعض الأقاويل.
فليحتفظ بالسرّ.
في السابعة عشرة من عمرها، ومن حسن حظها أنها هربت ليكن كذلك وليكذب عليها .ليضفي على نفسه عمرا أكبر.. فهناك لعبة جديدة يمكن أن يمارسها بعطر إفريفيّ يفوح رغبة وعطرا لا يقرف منه.
بعد يومين من لقائه (نوررو) استدعاه موظف الصليب وزوّده بأجرة نقل ومعها عنوان المشفى الملكي، فصعد سلالم ودخل مختبرات.. كشفوا عن عورته، وفتحوا فمه يعدّون أسنانه، مرروا أجهزة على جسده وعضوه التناسلي..
التقرير الطبي نفسه غالط الحقيقة في البدء
عمرك 21 عاما
هكذا ورد التقرير إلى إدارة الإقامة والشرطة ومكتب اللاجئين الذي يقيم فيه.
ووقف أمام القضاء هذه المرّة لم يكتفوا بإنكليزيته التي يخاطب بها الشرطة والصليب اللغة التي تعلمها في مدارس القصر الراقية، أحضروا له مترجما .. كردي يتحدث اللغة العربية أفضل بكثير من لغته الأمّ، لم يخبر أحدا أنّه كردي.. كان الجميع يظنونه عربيا ومن لا يسمعه يتحدّث العربيّة يراه قادما من شرق أوروبا.مثلما كان في المدرسة يتحاشى اللعب مع أقرانه الصغار، تفادى هنا الحديث.. نفسها (نوررو) أخفى عنها عمره وعرقه.. والقاضي يتطلّع فيه ويعلن عن تأجيل الحكم..
وقد عاد إلى مركز الصليب، ليطلب منهم أن يمنحوه تصريحا يمنحه حقّ البحث عن عن عمل..
ولا يدري أهي ثغرات القانون البريطاني أم شفقة الموظفة إذ سرعان ما دلته على وكالة ترغب في عمال، وقد آوته الوكالة..
معمل البطاريات
هي المرة الأولى التي يمارس العمل فيه
في سن السادسة عشرة تملأ جيبه النقود..
سيحدث نورو عن عمله الجديد..
لا شكّ أنّه تململ بعض التململ من جلوسه المبكر الساعة الرابعة ثم يقطع الطريق من مركز الصليب إلى الوكالة فيجد حشدا من الرجال والنساء الأجانب .. بولندا .. بلغاريا.. لاتفيا.. أكراد .. سودانيون.. بريطانيا عالم مصغر ينفتح عليه بشكل آخر
لا يراه طفلا..
رجل يلتقط البطاريات الصغيرة من على مسطبة تتحرك باتجاه أنامله فيعبؤها بكيس ثم يضعها على مسطبة أخرى، يحصد بعض النقود، يضيفها إلى منحة الصليب، وفي يوم آخر تبعثه الوكالة إلى معمل أجبان.. يحرّك مع آخرين وآخريات الرغوة، في حوض كبير، ويشتم رائحة كريهة، يتهامس كرديان بلغتهما أنها رائحة كريهة، أيّ جبن هذا، فيردّ الكردي الآخر، كيف يأكلون هذه العفونة.. آه ياجبن كردستان ولبن أربيل، أهذا جبن أم جيفة.. يبتسم أحدهما بوجهه، ويسأله:
Which country are you from؟
يردّ بالعربيّة:
من بغداد
يتساءل الآخر:
عملك هنا دائم؟
يردّ بملل
Part time
ويسكت..
وخلال عطلة نهاية الأسبوع التقى (نوررو) التي لملمت أشياءها لتغادر مقرّ الصليب إلى عنوانها الجديد في (هايسن كرين) ، فاقترح عليها أن يرافقها ثمّ يذهبان لشراء بعض السلع الضروريّة، كانت (نوررو) ترغب في أن تبتاع كل لوازم الجناح الذي سكنته في الطابق العلوي من محل شرقي يتاجر بالقدبم كي توفّر بعض النقود إلى أن تعثر على عمل ما..
ولم يكن المحل الشرقي بعيدا عن مكان سكنها..
ابتاعت معظم ماترغب فيه من أثاث وطبّاخ كهربائي صغير ذي عبنين، والتفت إليه وهي تقول:
- مارأيك أن تتغدى عندي غدا..
اغتنمها فرصة:
- شكرا لك لكن
راوده خيال أنّ الدعوة لا تخلو من معنى، كان عليه منذ البداية أنّه ليس مراهقا، رجل خبير بطيّات الأمور:
- سأعمل لك أكلة صوماليّة.
راحت الساعات تنبسط أمامه، راودته نشوة، هي المرّة الأولى التي ينفرد بها بامرأة، وقد حمل لها باقة ورد وقصد بيتها مبكرا.. الساعة العاشرة كأنّه يتعجل اللقاء.هناك مسحة من الذوق والنظام في ترتيبها البانسيون نسي الرائحة القديمة، ووضع الورد بين يديها، وقال مجاملا:
- ذوقك رفيع
- شكرا
بقيت كفّه في كفّها، واجتاحته رعدة خفيفة، عالم يراه جميلا من خلال قشعريرة في كتفيه، فتركت الورد على المنضدة الصغيرة، واتجهت به إلى خانة المطبخ:
- اشتم رائحة الطعام المعطّرة بالبهارات !
ماهذا؟
- عملت لك رزا باللحمة أكلة صومالية (وأضافت بخليط من العربية والإنكليزية) رايز بالبهار والزعفران نضيف إليه الخضار، وضع يده على كتفها:
يبدو من رائحته أنّه لذيذ
- هل أعمل لك قهوة أم شايا؟
- شاي لو سمحت!
أزاحت يده عن كتفها برفق، واقصدت الطبّاخ بقيا لحظات بين الصمت والتطلع في الجدران وسقف المطبخ الصغير الذي يفصله ستار خفيف عن صالة الاستقبال.
لاتقلق الطعام على نار هادئة جدا جدا..
وعادا إلى الصالة.. ينعمان بقدحي شاي، وقال وهو يلتصق بها:
ذوقك رفيع الأشياء القديمة تنفعنا إذا ماعرفنا أن نرتبها على الأقل توفر علينا كثيرا من النقود.
أنا لا أهتم للنقود أريد أن أعيش لكن علي أن أقتصد حتى أعثر على عمل.
فالتصق بها أكثر وقد فقد الزمام على مشاعره زاده هيجانا أنّه تحسس عمره من جديد.. أنت في السادسة عشرة.. لا تصدّق الإنكليز مثلما صدّقت أصدقاءك الصغار في المدرسة.. جسدك كلّه يلتهب..
التصق أكثر
جسده احتك بها
وطغت رائحة البهار والرز على راحة امرأة سوداء خيمت في ذاكرته طويلا، فاحتظنها على الأريكة..
التقت الشفاة بقبلة طويلة
ثمّ
ترنحا إلى غرفة النوم..
كان كلّ شئ يرتعش ويتهدّج
الفراش
السرير
صوته
آهاتها..
تقطع ظهره بفخذيها
وتسترخي..
يستلفيان على ظهريهما رأسها على ذراعه اليسرى، وساعدها على جبينها.
لايهمه أيّ شئ.. ولا يعنى بماض لا يعرفه لكنّ الفضول يدفعه لاقتحام شئ مبهم:
هل كان زوجك متفقا مع أهلك في قضية الختان.
أنا لست متزوجة.. (رفعت يدها عن جبينها) آه لم تجدني عذراء.. لا تستغرب أنا فعلته عمدا بأصبعي .. وهناك مثلي من يفعلن ذلك!
معقول
طبعا من باب التحدي
فضمّها بشراسة وعاود التقبيل
حصان جامح.. امرأة متمردة
قوّة رهيبة
فعلها أكثر من مرة.. كانت تصرخ وتتأوه وتقبض عليه بكلتا يديها ورجليها.. تتشبّث به.. ثلاث مرات أو أربع. يتباهى مع نفسه.. يثبت أنّه رجل في طفل.. طفل رجل وحين سكنت بين يديه قالت بغنج:
ألا نتغدّى
مثلما ترغبين..
حياة مختلفة تماما
أوّل لقاء له مع فتاة سوداء تظنه رجلا
ومعها يرى نفسه ولو من باب الزّهو رجلا
على مائدة الطعام قالت له:
مارأيك أن تأتي هنا تبيت عندي بعد أن تفرغ من الشغل .
فراوغ قليلا:
مارأيك أن تعملي عملا مؤقتا معي عن طريق وكالات التشغيل حتى تجدي عملا دائما.
أفضل أن أبحث عن عمل دائم..
كان يحسب حساب المبيت عندها.. ربما يمثّل له راحة أكثر لكن معسكر اللاجئين الذي يبدو غير مريح قريب من مركز المدينة على بعد خطوات من كل مكاتب التشغيل تتعامل مع العمالة المؤقتة، وتنقلهم إلى المعامل، ولو سكن معها لاضطر أن يمشي تحت المطر والبرد فأيّة ساعة يصحو قبل الفجر ليكون في حافلة العمل الساعة الخامسة.لا يهم.القوة والشباب.المراهقة واللهفة .. ثلاث مرات ومازالت لفيه جذوة.. :
على فكرة أمس انتهى عملنا في معمل البطاريات، وسنبدأ غدا كما وعدتنا الوكالة في معمل البيتزا!
فقالت وهي تدس في فمه لقمة من رز ولحم يتلألؤ بالزيت:
البيت بيتك أي وقت ترغب تعال.
كانت الأمور تسير لعينيه سهلة يسيرة، وبدت الحياة مع (نوررو) غير معقّدة.. ابتاعت هاتفا نقالا تركت رقمها عند أيّ مكان تزوره تسأل فيه عن عمل، المعامل، والمدارس الشرقية، ورياض الأطفال، وابتاع هاتفا يساعده على الاتصال بها، وفضّل أن يبقى عندها ليلتي نهاية الأسبوع والليالي التي يعرف أن لا عمل يعقبها فيظلّ نائما إلى الصباح .
لا رائحة قطّ تبعده عنها
كانا يخرجان معا
يتنزهان في حدائق فورست فيلد
أو
يهبطان ماشيين إلى وسط المدينة
أحسّ أنّه قريب منها
واحتفظ بسرّ طفولته لنفسه
وقد مرّ الشهر الأول..
انتظر قرار البتّ في عمره.. الزمن الذي يعيشه لا الذي يراه الآخرون
Age assessment
ماذا لوخانه القرار، وقد رؤوا أعضاءه وفحصوا كلّ جسده
لم تخضّ (نوررو) معه أيّ حديث سياسيّ غير أنّها بعد مرور أكثر من شهر بدأت تتغيّر.. لقد حصلت على عمل منظّفة في معملّ لذبح الدجاج الحلال
وبمرور الوقت
بين ساعات وأيّام وأشهر
لاحت مسحة قلق على وجهها، العلامة تلك رسمت، في البدء، بعض الضجر على ملامحها السّاذجة البريئة، يمكن أن يراه شعورا بالغربة والحوف مثل الحوف الذي يعتريه حين تلوح بفكره واقعة اغتيال والده.
شعور يمكن أن يتساوى فيه الجميع وإن اختلفت الظروف والأحداث..
في بيتهم ببغداد يقف الدكتور البارع في حديقة منزله، تتابع نظراته شجرة زيتون علا أوراقها بعض غبار شفاف ثمّ تابع نخلة تخطّى علوها السياج بمتر، ومابين الزيتونة والنخلة صرخ صوت ففز الأب، وسقط في مكانه
رصاصة اخترقت رأسه..
خافت الأم وغادرت إلى بيتهم في كركوك.. كانت تفخر أيّام الحصار أنّ لها بيتا هناك.. كركوك ليست للتركمان وحدهم.. والبيت الثاني لم يوفّر لها الأمان .. الأكراد .. هذه المرّة .. وقد سقط صهره.. كوابيس ارتسمت أمام عينيه.. في أعماق نومه يختنق.. يشعر أن يدا تقبض على نصف وجهه فلا يقدر على الكلام.
يقتله الخوق..
وقد سبقته في الكوابيس
بعض الليالي يشعر أنها تستيقظ عطشى.. متعبة.. حين ينام معها يؤدّي العمل مرّة أو مرّتين فتستلقي هادئة جنبه.. تلتصق به لكنّه استيقظ على حركتها ذات ليلة.. أنفاسها راحت تتهدّج.. مسكت ذراعه.صرخت جحيم.. جهنم.. فربت على كتفها وضمّها.. ، وقد تكررت الحالة .. قالت له إن الطبيب الإنكليزي لا يمنح مرضاه حبوبا منوّمة.. وتُضْطَرُّ أن تسأل صاحب الصيدليّة الشرقي.. ونجحت في مسعاها.. كانا يلتقيان.. يمارسان وأحيانا وهي في نشوة الهدوء والسعادة تنام على ذراعه فتنسى المنوّم.. سألها أن تحاول النوم من دونه، واعترفت له أنّها لاتقدر على أن تنام بغير الفاليوم خلال الليالي التي لايبيت فيها عندها، وعندما حضر نهاية الاسبوع بدت فرحة.هادئة..
كأنّها ترغب أن تقول شيئا وتتردد..
تحدثت في البدء عن سعادتها في العمل.. كيف يذبحن الدجاج وينتفن الريش في الماكنة، ثمّ يأتي دورها فتمسح أمكنة الدماء وتنظّفها.كانت تتحدّت عن الذبح والدماء برقتها المعهودة وسذاجتها وكأنّ شيئا لم يكن..
بدأت تتحدّث معه بلغة أخرى
فيها بعض الخوف والتردد
وسألته ذات ليلة:هل مايفعلانه خطيئة؟
كان قد مرّ على علاقتهما أكثر من تسعة أشهر.خلالها اشتغل في معمل للبيتزا ثمّ بضعة أسابيع في مكان للحلويات.. في آخر لقاء طلبت منه أن ينام في الصالة على الكنبة، فظنّه أمرا يخصّ النساء، غير أنّ التغيّر لم يطرأ عليها فجأة بل بعد فترة من عملها في مذبح الدجاج.. لاينكر الطفل الرجل أنّه تعلّق بها.. أوّل أمرأة تفتح شهيته، جعلته يدرك رجولته .الآخرون اتهموه بها.. فقطعوا عليه طريق الطفولة، فجاءت (نوررو) لتزيده توغلا في رجولة أخرى لاينكرها ويفخر بها من غير أن تقضي على مستقبله.
لذة متناهية
بهجة
فرح
مع ذلك لاحت عليها علامات القلق، والبكاء خلال الليل وهي نائمة جنبه، وفي الأيّام الأخيرة وجدها تتوقّف عن تناول حبوب الفاليوم.سألها وهويبتسم بلطف:
بماذا تفكرين؟
سألتك قبل أيام هل ما أفعله هو عين الصواب؟
هل أنت نادمة على هربك من أهلك؟
لا أقصد هذا لكنّي أراها فرصة أخرى الله منحني فرصة فلماذا لا أستغلها.
وسكت.. قبَّلها فشعر بدفءٍ وبرود يسري في شفتتيها.هل وجدت عشيقا آخر؟ربما تأثرت بالإنكليزيات اللائي يغيّرن أصدقاءهن بين حين وآخر:
أقول.. ربما.. ندمت لأنّك انتهكت طقس الختان.
لا أبدا يقول أهلي والناس إنّه سنّة.. الوثنيون في إفريقيا والمسيحيّون يفعلون ذلك.. لعلّه يقلل من شهوة المرأة.. (هزّت كتفيها) طظ في أن تبقى الوضع أكثر تعقيدا..
الطفل لا يفهم.. التفاصيل
سوداء مفعمة بالشّهوة..
تفوح منها الرغبة.. بهذه الصورة عرفها..
كلّ شئ في طريقه إلى أن يتغيّر
كان كلّما زارها وجد عندها شيئا جديدا.تتحدّث بالحلال والحرام.تمنحه نفسها بمنّة أو على مضض، قالت له وهو في إحدى تجلياته بعد أن انتهبا إنّ صديقتها الباكستانيّة في الملحمة تصحبها كلّ جمعة إلى الصلاة في مسجد الصحابة.هناك صوماليّات، وآسيويّات، العدد قليل لو قارنّاه بعدد الصوماليّات في برمنغهام، كلهن محجّبات يبحثن عن الدين الصحيح، وهي هداها الله دلّها إلى أن تهرب من أهلها لحكمة، لم تمنع نفسها عنه تلك الليلة، كانت تصرخ وتتأوه تحته وتختار الوضعيّة التي تريد، نامت هادئة لا تشعر بقلق، صحا منتصف الليل يقضي حاجته، فوجدها تتنفس مثل الملاك البرئ، وجسمها يضفي تحت المصباح الخافت بريقا ينثر في الغرفة دفئا ونعومة:
لا آخر في حياتها
إذن هو تأنيب الضمير.. هكذا خيّل إليه فاطمأن إلى سلوكها.أزمة تجتازها، وفي اللقاء الأخير تحقّقت معجزة الحلم القديم الجديد، اليوم نفسه بشرى له وعلامة غريبة في الوقت نفسه إذ حالما أقلّته بباب وكالة التشغيل حافلة العمل الساعة الرابعة من عصر يوم شتويّ ثائر البرودة وانحدر مثقل الخطوات نحو معسكر اللاجئين، هناك كانت المفاجأة بانتظاره
مفاجأة وليست هي بالمفاجأة
عالم جديد
دنيا جميلة الملامح
غدا لن يذهب إلى الوكالة فتقله الحافلة إلى معمل ما
لوحة الاعلانات على الحائط عند باب الاستعلامات تشير إلى اسمه وأسماء أخرى لاتعنيه.. تصريح الإقامة.. هو ليس برجل.. طفل.. القانون البريطاني يعدّه طفلا، دفعته الفرحة، والحميّة، والنشوة إلى باب الاستعلامات ليستقبل الموظفة على انفراد.هاهم الإنكليز يحققون طفولته التي فقدها في العراق، لاتعنيه قط رجولته، لاتحتاج إلى برهان، صحبته الموظّفة العجوز إلى أحد الممرات قائلة:
هذا كلّ ماقلته عن نفسك صحيح.أنا مناوبة والموظف الذي لديه ملفّك يباشر غدا.. سيحيل أوراقك إلى وزارة الداخليّة ذا كل ما أقوله.
خرج من المعسكر، مهما يكن فهي أولى بسماع الخبر. لم يبال ببقايا ريح لافحة تميل إلى الانجماد، خلّف شارع لندن وراءه، وقصد أشهر محلّ حلويات.لن تعوزه النقود بعد الآن، ابتاع حلويات راقية ثم! استقل الحافلة إلى (هايسن كرين) .. ليست هي المفاجأة .. لن تكون هناك مفاجاجآت بل أمور غريبة تقع عليها عيناه.
نقر بأصبعه على الباب، انتظر دقائق، وظنّ أنّها خارج البيت.. سينتظرها على الدرجات حتى تعود وفي خضمّ صمته تحرك مصراع الباب، وأطلت عليه..
كانت هناك كوفيّة عريضة تغطّي رأسها..
- معذرة كنت أصلّي
- قبّل الله
- جئت أخبرك أنّي حصلت على الإقامة.
- مبارك لك.
=تفضّلي هذه حلوى بالمناسبة
فأطلقت حسرة طويلة وقالت:
- تصوّر أصبحنا نفرح ونحتفل حين تقبلنا بلاد الشرك !
- ألم تفرحي يوم منحوك الإقامة؟
فقالت بلا مبالاة:
- كنت على خطأ
خيّل إليه أنّ هناك امرأة أخرى غيرها تتحدّث.. ليست (نوررو) التي يعرفها، امرأة كبرت سنوات فبدت عليها الجدّ ورزانة مفتعلة لا تليق بها:
- ياعزيزتي هل أنت نادمة على أنّك هربت من أهلك.
- كنت طائشة حتى قيض الله لي الأخوات في الملحمة الإسلاميّة وأنرن طريقي، بدأت أباشر معهن الصلاة في المسجد وأنصت لهن من باب الفضول حتى اهتديت والحمد لله.
فقال ممتعضا:
- ألم يكن في الصومال محجبات تنصتين لهن.
- كانت هناك غشاوة على عيني فقضى الله أن يهديني هنا.
فاقترب منها وحاول وضع يده على كتفها، فابتعدت .. تراجعت إلى الوراء وهي تقول:
- أرجوك إنّه ذنب عظيم.
المرأة الأولى في حياته.. يالسخونتها.. ورغبتها في الممارسة.. في هذه اللحظة هزته مشاعره فاهتاج هياجا صارخا:
- هل تعنين ماتقولينه
فأحكمت غطاء رأسها، وقالت:
- تستطيع أن تبيت في الصالة إذا أحببت .أنت الآن مثل أخي.
اقترب منها يخاول أن يروّض هياجه:
- نوررو ما الذي غيّرك!
فابتسمت:
- امتلأ قلبي بالنور.. كل مافعلناه حرام.. حرام.. زنا.. إلّا في حالة واحدة؟
- الزواج ؟
- ليس الزواج وحده.. جريمتنا كبيرة.. طاوعني .تزوّجني ثمّ نرحل نحن الإثنين إلى سوريا أو العراق.. نترك بلاد الكفر والزندقة فإن انتصرنا نكون مسحنا ذنوبنا وحصلنا المغفرة من لدن رب رحيم وإن قتلنا نكون شهيدين!
تلاشت رغبته
الخوف يعود
الرهبة
الطفل بكبر في ذاته
يشعر باختناق..
صرخ فيها بهمس:هل جننت؟
فقالت بتصميم:
بل هو عين العقل
لاتراوده الكلمات
أصيب بخرس
أشبه مايكون شلل في الوجه
تنمّل يعيق شفتيه عن الكلام
تراجع وسط الصمت إلى الخلف
تراجع كخادم في معبد يرجع القهقرى أمام سيده الإله.. عجز عن قول أيّ حرف فأحسّ انّ ظهره اصطدم بمصراع الباب حتّى استفاق على قولها:
- فكّر جيدا بما قلته لك وتعال معي تربح الدنيا والآخرة لكن لاتغب طويلا وإلا فلن تجدني!
وحين انحدر إلى السلم انفجر فجأة بالبكاء.. تهدجت أنفاسه.. تقطعت ورغب في أن يصرخ.. لقد هرب من الموت أمّا المرأة التي منحته جسدها فقد دعنه بتصميم إليه.. عالم متناقض لايفهمه.. بريطانيا التي لجأ إليها أخطأت فيه ظنّته كبيرا ومازال طفلا.. صبيّا.. وكأنّه لا يدري كيف وصل إلى المعسكر.خطواته لم تتعثّر في البرد، وحين ارتمى على فراشه نام نومة عميقة..
مائة عام..
ساعات.. أشهر ..
واستيقظ يكلّل فرحته الجديدة شعور بالفراغ لفقدان (نوررو) لن يراها حقّا.. قد يقرؤ عنها في الجرائد.. يرى صورتها بالحجاب.. هناك ضجّة بدأت تثور في الصحف عن مسلمات بريطانيات تحجبن وغادرن إلى العراق وسوريّة.. ناس ترحل إلى الموت وآخرون يهربون منه وفي ذهنه أن يتصل بأمّه.. طريقة ما .. لعلّه في يوم ما يقدر أن يعرف عن أخبارهنّ..
واستقبله بابتسامة مسؤول المكتب الكهل الأربعيني:
صافحه وقال بابتسامة:
- مبارك لك لقد حصلت على الأمان أخيرا.
- قلت لكم مذ البدء ياسيدي إن عمري ستتة عشر عاما وأوراقي كلّها صحيحة ..
- لا بأس هناك الكثيرون يبدون بملامح كبيرة أحيانا المظاهر تخدع.. الآن دعك مما مضى
فتساءل بقول إنكليزي مشهور:
- what is the next
- نعم.. هذا صحيح.. لغتك الإنكليزيّة سليمة الحياة هنا في المركز ودراسة كورس نفعتك..
- أنا ياسيدي درست في العراق في مدرسة راقية ابدأت اللغة الإنكليزيّة فيها من السنة الأولى وكان والدي الطبيب ينوي أن يجعلني أرث مهنته فيرسلني إلى أوروبا ..
- رائع الآن المجال أمامك واسع إمّا أن تدرس وتشتغل عملا جزئيّا.. هناك عوائل تتصل بنا تتبنى الذين لم يبلغوا سنّ الرشد.. حسب القانون، لديّ قائمة بثلاث عوائل سنتصل بسيارة إذا أحببت لتقلك إلى أحد البيوت.
- مالذي ترتأيه؟
- لا فرق لديّ إمّا أن تتصل بمكتب العمل ليوفّر لك سكنا وغالبا مايكون مشتركا مع آخرين .أو تذهب إلى إحدى العائلات التي ترغب في تبنيك..
- مازال لم يستقل بعد.. (نوررو) التي أيقن أنّه فقدها الوحيدة التي رأته كبيرا .انفعلت معه .. ولا تدرك سرّه .. هيئته تخدع الآخرين:
قال ببعض انكسار ثمّ استدرك:
- هل لي أن أعرف عن العائلة التي تتبناني؟
- سيدة محترمة اسمها Ivy ..
شدّه الاسم فقاطع:
- لو تهجّيته !
Ivy تعيش في قرية (west spring) في أطراف (Bull Well) لديها ابن قتل في حادث دراجة نارية، بنت تزوَّجت وهاجرت إلى استراليا وابن يعيش مع زوجته في أمريكا، والسيدة (آيفي) تعيش في الطابق الأسفل أما أنت فيمكنك أن تحتل الطابق العلوي من المنزل.
توقف السيد مدير المكتب عن الكلام، وتطلّع في وجه أيمن لحظات.:
- ماذا قلت؟
قال من دون تردّد:
- ذلك أفضل لي!
- إذن يمكنك أن تجمع حوائجك، سأتّصل بالسيدة جولي، فأخبرها ..
قصد غرفة تذكره بمعسكر للجيش أو قاووش مشفى .. أسرة تمتدّ مسافة، أناس تضحك، وتتذكر، عوائل منعزلة، وأطفال يلعبون في الباحة، وآخرون في قاعة الدرس يتابعون كورس اللغة الإنكليزية، يعرف كلّ منهم الآخر ولا يعرف.. يحترمونه رجلا وهو طفل، ولو عرفوا أنّه هرب خوفا من النظام الجديد لاستفزّوه، وربما عاملوه بخشونه، أو ضربوه، أمّا الآن وقد رجع طفلا في السادسة عشرة من عمره فلا يخشى شيئا. الزمن نفسه خسر الرهان معه.
راحت السيارة تنهب الطريق به إلى حيث مقرّه الجديد.عالم آخر يأمل أن ينسيه فترة الشّهور التي قضاها مع (نوررو) ياترى هل تنتظره الآن لتسافر به إلى أرض الموت؟
هناك أكثر من احتمال..
ربما تضعف
تخاف
تنكسر
فتلغي فكرة العنف التي راودتها..
توقفت السيارة أمام بيت فخم.. يبدو أن صاحبته ميسورة.. في الباب كانت تقف السيدة (آيفي) ، امرأة في الستين من عمرها، تبدو في السبعين، ابتسامة على وجهها المجعد المدور تخفي مسحة القلق من عينيها:
- أنت أيمن؟
- نعم
- قل لي نعم Mum هل يزعجك أن تناديني يا أمي؟
- شئ جميل أن أقول لك يا أمي.
Touch woo أنت رجل
اقتادته إلى الصالة فوقع بصره في الواجهة على صورة لرجل ذي شارب كث، خيّل إليه من ملامحه أنّه ابن خير.. أرستقراطيّ.. ابن نعمة كأبيه الدكتور، وثمّة صورة لولدين وفتاة .. وصورتها في الثلاثين من عمرها، وعلى الفاترينا بعض التحف..
- إجلس
قصدت الهاتف، واتصلت بمكتب اللاجئين، والتفتت إليه:
جائع ؟
I am ok thank you
في مثل هذا الوقت أحب أن أتناول القهوة هل تحب أم أعمل لك كاباجينو؟
قهوة أفضل بسكرّ ملعقة واحدة.
دخلت المطبخ، كأنّها تركته ليتآلف مع الصالة والدهليز وأجواء البيت، شعرت بالاطمئنان إذ لم تعد وحدها.منذ كتبت وصيتها وهي تتحاشى أن تقذف نفسها في دار للعجزة.ذلك فظيع، وجود الطفل الرجل يمنح البيت طعما آخر، فلا تخاف أن تموت في سريرها فيستدلون على جثتها بعد بضعة أيّام.. وعادت تحمل صينيّة القهوة، وجلست وهي تتساءل بلطف:
- من أيّة مدينة أنت؟
- بغداد..
- أووه هناك الوضع صعب.
عقّب بعدم اكثراث:
- كلّ الأمور تسير نحو الفوضى.
- وأهلك؟
- تركت أمي وأخواتي في كركوك.
- أنا مثلما أخبرك السيد جفري .. أسكن وحدي، ابني الأكبر في أمريكا، وابنتي في استراليا..
سكتت، وأشارت إلى صورة الشاب على الفاترينا:
- حادث دراجة نارية
ورفعت أمام عينيه سلسلة مفاتيح:
- هذه صورته أيضا، معي أينما ذهبت.
أشعر بالأسف الشديد.
- أظنّه لو كان حيّا لما تركني وهاجر بعيدا..
- هل يتصلان بك.
- (لوك) و (أليس) بين حين وآخر ربما (أليس) أكثر حين يتصل أحدهما وأنت في المنزل سأعرّفكما ببعض . (وابتسمت كما لو أنّها تتردّد) حين يصبح عمرك في الحادية والعشرين كما أنت عليه الآن أي بعد خمس سنوات سيخيرونك بين أن تبقى معي أو تغادر البيت.
- سأكون عند حسن ظنّك.
ونهضت تفتح باب المخزن القريب من الدهليز، استلّت منه عصا وقالت:
معي هشاشىة عظام والتتهاب في العمود الفقري، وإلّا لما شملني التقاعد المبكر وقانون الإعاقة من أجلك سأصعد الدرج أريك غرفتك.أنظر الطابق الأسفل فيه الصالة وغرفة نومي، وغرفة الصغير (لوك ) وفي الأعلى غرفتان.. خصصت لك واحدة!
كان هناك نور خافت يطغى على المكان بعث فيه بعض الكآبة على الرغم من شعوره بالارتياح، استندت إلى عصاها، ومسكت باليد الأخرى الحاجر:
هل أسندك؟
أنا بخير شكرا
تبعها وقد استغرفت وقتا في الصعود، ووقفت مبهورة الأنفاس:
نادرا ما أستخدم الدرج:
غرفتك هذه.. أقرب إلى الدرج.. عندك الغرفة الأخرى.. كانت ل (لوك) .. والثانية التي جنبها ل (أليس) أما غرفة (ريك) فهي تجت جنب غرفتنا (وأشارتت بيدها إلى باب في الواجهة) الحمام والتواليت بإمكانك أن تستخدم المطبخ الصغير في هذا الطابق.
لم يكن البيت من خلال اللمحة الأولى ليقل فخامة عن المنزلين في بغداد وكركوك، فقال مجاملا غير منبهر:
- أنا سعيد جدا شئ رائع.
- إسمع جيدا
أردفت وهي تسبقه إلى الغرفة:
- مادمت عرفت عنك الكثير من مكتب اللاجئين، أقول لك، أقدم لك نفسي لتعرف مع من تسكن، من هي أسرتك الجديدة، أنا كنت رئيسة قسم في مديريّة الضرائب، وزوجي (أندرو) الذي توفي بالسرطان قبل ثلاث سنوات كان مديرا لمجموعة بنوك باركليس في نوتنغهام.
- نعم Mum
- الآن أتركك لترتّب غرفتك.. وسأدعوك الساعة الواحدة لتناول الطعام؟ يمكنك أذا أحببت أن تطبخ وحدك هنا في الطابق العلوي، هل هناك طعام خاص بك؟
- لا أبدا؟
- ماذا عن لحم الخنزير؟
- لا تفكري بذلك أنا لست متدينا لكني لم أتعود على أكله بإمكانك أن تخبريني بذلك حين ترغبين.
- إذن إرتاخ بعض الوقت.
وهبطت، فوقف لحظة وسط الغرفة ثمّ اضطجع دقائق على السرير.قرية هادئة ناعمة.. رآها حين عبرت به السيارة المنعطف من الطريق العام، حياة جديدة يمارس فيها شعوره الحقيقي.. لعلّ الهدوء يساعده على أن يجد طريقا يتصل بأهله ذات يوم.كلّ شئ تغيّر .. الخراب يبسط ظلّه.. لابريد يمكن أن يلجأ إليه ليبعث رسائل إلى أمّه.. ولا هواتف منزليّة.. كم تطول مدّة الفوضى.. وتساءل هل تصرف الدولة الجديدة راتب والده التقاعديّ لأمّه؟كيف يرسل لها حوالة حين يعمل.
قضايا تشتت في ذهنه ربّما يلمّ شتاتها ذات يوم..
لكنه مع ذلك ينظر لكثير من الشواهد الغائبة عن عينيه بأمل.. هناك ريبة تراوده.. ريبة الطفل.. وثقة الرجل.. وحين ضمتهما مائدة الطعام وكان عليها شرائح من دجاج وبطاطا قالت له السيدة (آيفي) بعد أن ننتهي من الغداء سآوي إلى مخدعي، أظنّك رتّبت ملابسك في الخزانة، الساعة الرابعة سآخذك في نزهة .. نمشي في شارع القرية، وأدلك على معالمها وأريك موقف الحافلة، لتذهب غدا إلى مكتب العمل، ينظمون لك مساعدتك، وساعات عملك، ثمّ تقصد المدرسة لتسجّل في أقرب وقت.
أنا كنت أرغب أن أكمل دراستي لأصبح طبيبا .. أما الوضع الآن فقد اختلف.
فقالت وهي تزيح نحوه وعاء السلطة البللوريّ:
حسب رأيي أقترح أن تدخل (collage) لتصبح ذا خبرة في ميكانيك السيّارات؟
فردّ شبه مقتنع:
فكرة رائعة..
Skill and much money
لا يدري لِمَ يشعر، على الرغم من كلّ الامتيازات، والدفء والنعومة، ببعض الكآبة.. تخطر في باله (نوررو) وشبح الموت، اغتيال والده في بغداد، مصرع زوج أخته في كركوك، شكّ الإنكليز به.. جعلوه كبيرا فأعادوه صغيرا.. هناك شئ غير طبيعي، يبدو وهما، لا يستطيع أن يفهمه لأنّه طفل، ويعاني منه الرجل ذو الحادية والعشرين، في مثل شكله الآن، سيخيّرونه إذا كان يرغب في أن يبقى مع السيدة العجوز (mum) أو يغادر إلى سكن يستقل به.. لقد خرجت معه تمشي على عكازتها، ولم يكن شارع القرية بعيدا عن البيت.. كان الجو باردا.. والقرية يصبغها قتام ضبابي مشوب بحمرة.. يبدو كل مظهر في هذا الفصل قاتما.. ربما أكثر قسوة من الشتاء.. ، وفي ساعة القيلولة بعد الظهر شعر بالنعاس ودخل في خدر أشبه بالنوم، وخيل إليه واليقظة تدبّ فيه فجأة أنّ ثقلا ما يجثو على صدره.
صخرة ثقيلة
لكمة تتجه نحو صدره
ألم في الضلوع
فانتفض يلهث.
أنفاسه تتلاحق فأيقن أنّه عاش كابوسا لايتذكره، أشبه بكوابيس (نوررو) هل جرت إليه العدوى.. فغادر الفراش إلى ثلاجة المطبخ الصغيرة، كرع جرعة ماء وعاد إلى السرير.. كانت النافذة المطلة على حديقة البيت الخلفية نصف مشرعة.لم ينم وحده منذ قدم إلى بريطانيا.. قاووش اللاجئين والنوافذ العلوية التي يشبهها بعضهم بقاووش الجيش:
= اسمك؟
= أيمن سردار.
- كردي؟
ينكر، لا بدّ أن ينكر:
- أنا من بغداد.
- أنت؟
- اسمي قدرة.. من السليماتية؟
- هل لديك مشكلة؟
- لا .. أبدا كردستان تحررت لكن جئت أبحث عن المستقبل هنا في بريطانيا لايطردون اللاجئين:
- وأنا كذلك اخترت هذا البلد لأنّهم لا يطردون أحدا.!
هدوء .. صمت.. مع ذلك يشعر بالأمان، ويظلّ يتساءل:هل هي عدوى من (نوررو) المدى أمامه واسع، طيور نوارس تقطع حقلا، وغربان تتطاير بين أشجار المنتزه فتهبط على الأرض تلتقط الحب وترجع تطير، وكان صوتها يدعوه:
Yes Mum
يلتفت إلى أنّه قضى القيلولة من دون أن يغيّر ملابسه، كانت السيدة (آيفي) تبدو أنيقة وهي تستند إلى عصاها، بدلة رماديّة، تناسب تسريحة شعرها القصيرة، وأحمر شفاه شفاف.
مهيبة ..
تثق بنفسها كثيرا على الرغم من أنّها لا تريد أن تموت وحيدة في منزلها..
- الجو يميل إلى البرودة.. هل عندك مايكفيك من الملابس؟
- لاتقلقي لديّ مايكفيني.
- هنا القرية صغيرة.. لا غريب فيها، فأيّ من يلتقينا يعرف أنك ابني فقد أخبرتهم من قبل.كان لا بدّ من أن أخبرهم هل يزعجك ذلك؟
قال بابتسامة يغطّي خجله:
- بالعكس.
- هم يعرفون أنّها مشية اعتدت عليها كلّ يوم تريح ظهري وتجعل الدم يسري في ساقي.
قادته إلى الطريق عبر البوابة الرئيسية، دلتّه على موقف الحافلة، واتجهت به نحو البحيرة.كان هناك عند الحافة غير بعيد رجل في الخمسين يرمي بالطعام إلى الماء فيلتم أمامه أَوْزٌ شَرِهٌ، أشارت إليه السيدة (آيفي) بالتحيّة واجتازا سيدة ترمي كرة إلى مسافة بعيدة فيجري نحوها كلب ضخم يلتقطها.حيت صاحبة الكلب وواصلت مشيها البطئ.
ظنّ أنّهما _ الرجل والمرأة- لمحاه من طرف خفيّ، وساورت كلّ منهما ابتسامة خفيّة.
هل رأياه رجلا في السادسة عشرة من عمره؟
لا يشكّ.
ولايشعر بالضّيق..
- هنا أجلس في طريق الذهاب أستريح قليلا حين اشعر بالتعب:
جلست فجلس بجانبها وأشارت إلى البحيرة:
- أجمل ما في قريتنا البحيرة، والمنتزه، وبعض الكهوف التي يقال إنّ المقاتلين لجأووا إليها خلال الحرب الأهليّة بين الجمهوريين والملكيين.
تحبّ الكلام لكنّها ليست ثرثارة، مرحة..
تكره الصمت..
ماهسته أن يجيب وليس هناك عنده من قول:
نعم
- نهضت تستدير باتجاه نهاية المنتزه، تاركة البحيرة وراءها والمنتزه عن شمالها وقصدت فراغا يتوغل في عمق مفتوح يحطيه سنّ صخري غير عال ينتهي ببعض التلال وأرض متموجة.
بيوت وهمية..
على شكل اسطوانات من سمنت، أيّ منها لايبعد عن الآخر كثيرا، ولو نمت مثل أي كائن حي لأصبحت مرابض للجيش ومستودعات للذخيرة.
أشارت بعصاها إلى المكان، وقالت تبتسم:
- لابدّ أنّك سمعت بالجن..
- طبعا طبعا!
- هذه هي قبور الجنّ.
فنطق الطفل فيه متساءلا:
- قبور الجن؟ أراها صغيرة غير واسعة؟
- الجنّ ياولدي طويل أكثر مما هو ثخين يمكن إنّ يغور عميقا إلى بعد سحيق في الأرض.
خطفته لحظة صمت، واستثارت الأجواء طفولته، فقال:
- منذ متى بنيت هذه الشّواهد؟
- أووه إنّها قديمة جدّا، وقريتنا ألفتها .هم ألفونا أيضا وأرى أنّهم لطفاء، ليس هناك من غريب بيننا، فهم لا يحبّون الغرباء، وأظنّهم الآن عرفوك!
ابتسم في سرّه وسألها متعمّدا لا عن فضول:
- هل تعتقدين حقّا بالجنّ يا أمي؟
- لا عليك من هذا المهم أننا في القرية ورثنا أبدا عن جد هذه القبور فلا قيمة لرأيي!
لقد جاء إلى هذه الحياة بنذر.. زيارة نبع، طقس لذيدة، أعلام خضراء، وخطوات سبع، كما قالت أمّه،، هناك حيث الحرّ والشمس الساطعة والدفءذهبت ذات يوم إلى العين بمشورة رجل صالح، عبرت واستسلمت للطقوس المحيطة بالماء، هل يشكّ في وجوده لولا عالم الخفاء، وهنا في هذا الجوّ الضبابي البارد يقابل عالم الخفاء بصيغة أخرى.. الجن والأرواح هاجعون تحت الأرض!
وقد رجعت به إلى البيت، عرف الكثيرة عن القرية وأمامه الكثير، يبدو أنّها امرأة طيبة، يشعر أنّه يحتل الابن البديل الذي يكتشف موتها، قالت له إنّها واثقة من أنّها ستعيش إلى أن يصبح في سن الحاديّة والعشرين، ولا تراه يرغب في الالتعاد عنها، وفي قرارة نفسه أنّه لا يجبّ أن يستيقظ فيجدها ميتة عندئذ ستفتح البلدية والمحامي وصيتها فيذهب المنزل لوريثيها فيبدأ رحلة جديدة في البجث عن مأوى آخر.
وحين آوى إلى فراشه، شعر بخفة في جسده، لكنه استفاق منتصف الليل على زوبعة في صدره شلال بارد نقي يتدفق فجأة من أنفه إلى رئتيه، وحين نام كرّة أخرى اقتحم صدره التيار العارم.. فجلس متضايقا.ولم يذكر شيئا للسيدة () بل أنهى فطوره على عجل، وكلماتها تلاحقه:
تلفوني معك إذا احتجت أي شئ اتصل بي.
مرّ على مكتب التشغيلثمّ صعد بإلى شارع (ميرميد) ليكن ميكانيكا أو طبيبا .. لعلّه يجد في دراسته فيقدر أن يجتاز الثانوية بكفاءة ليدخل كلّية الطب أو الهندسة وإلّا فليجرب حظّه ممكن في أسوأ الأحوال أن يصبح ميكانيكيا ا خبرة في السيّارات مثلما اقترحت عليه أمّه الجديدة..
كانت المدرسة خليطا من إنكليز وشرقيين وبعض الأوروبيين، تلميذات وتلاميذ ذوو أعمار مختلفة ضاع حجمه وعمره الحقيقي بينهم..
لم ينظر إليه بعمره الحقيقي إلّا أمّه وهذه المرأة التي تبنته
أما أبوه فقد أراده أن يصبح طبيبا مثله
وفي المدرسة منذ الشهر الأوّل، اكتشف أنّ الميكانيكا أقرب إليه
يمكن أن يحوز على مغدل عال لكنه لايرغب في مهنة أبيه
ومع تقدمه في الدراسة راودته الكوابيس بصورة منتظمة:بتساءل:هل هي عدوى لا علاج لها انتقلت إليه من (نوررو) ، قبل يوم سألته السيدة (آيفي )
- هل عثرت على صديقة؟
قال بخجل:
- لم يجن الوقت بعد.
- لا تتحرّج حين تصبح لك صديقة تستطيع أن تدعوها إلى المنزل.
وفي اليوم التالي، بعد نهاية الحصص الدراسيّة، غيّر طريقه، استقل الترام إلى (فورست فيلد) ، هبط في المحطّة، وانحدر يسارا باتجاه (هايسن كرين) ، لو وجدها لدعاها الى مسكنه الجديد، صعد درجات البناية، وضغط على الجرس، مرّة وأخرى، انتظر قليلا، تذكّر أنّها أخبرته أنّها أجرت البانسيون من هنديّ يملك محلّ حلويّات غير بعيد فاتجه إلى المحلّ، انتظر قليلا حتى فرغ البائع من ترتيب علبة لأحد الزبائن، ابتسم الآخر بوجهه، فقال من دون مقدمات:
إنّي أسأل عن (نوررو) الصوماليّة هل مازالت تقيم هنا.
بان انزعاج على وجه البائع وضيق:
لا أدري لقد تركت السكن.
منذ متى؟أنا كنت معها في الكامب.
لا أدري قبل أن تنهي الشهر .
غادر وعلى وجهه ملامح ضيق وانزعاج، فكّر أن يقصد معمل السلطة الصغير الذي اشتغلت فيه مع نساء باكستانيات، حثّ خطاه إلى أعلى (هولند ستريت) وعبر المنعطف جهة اليمين، إلى فسحة صغيرة تطلّ عليها بناية ذات لون بنّيٍّ فاتح واجهته غرفة الاستعلامات، وموظفة شرقيّة ذات حجاب ذي زرقة تستطلع وجهه:
- نعم هل من خدمة؟
- إنّي أسأل عن (نوررو) الصومالية؟
أجابت وعي تتطلّع فيه بريبة:
- الأخت (نوررو) تركت العمل منذ بضعة أيّام.
- هل غادرت بريطانيا أم نوتنغهام إلى مقاطعة أخرى؟
فأفصحت عن برمها بلهجة أقرب إلى الفظاظة:
- ولماذا تسأل عنها؟
- كانت معي في الكامب وهناك أمور أبلغها لها.
- أظنّها سافرت خارج بريطانيا.
- متأكدة؟
فعادت إلى طبيعتها:
- ذلك الذي أعرفه لا أكثر.
لماذا يسأل عنها؟
الرغبة أم الفضول؟
أم كونها المرأة الوحيدة التي ظنّته رجلا فمنحته نفسها.
معها لا يحب أن يكون طفلا.يلعب لعبة الرجولة، بوضوح أكثر مما يمارسها مع الآخرين.. لكنّ اللعبة نفسها يمكن أن يؤديها مع امرأة أخرى.. يلتقطها أو تلتقطه من مرقص .. الشارع.. في المدرسة سجّل حضورة اليومي ونباهته في سرعة التعلم.. سيحصل على شغل ووظيفة، ويتغيّر العالم فيجد وسيلة، يعرف من خلالها عنوان أمّه وأخواته، صحيح أنّ العنف بدأ يتصاعد، ومن حسن حظه أنّه وصل إلى برّ الأمان، لكنّ هناك بعض التفاؤل.
في المساء وهما على مائدة الطعام، أفصح عن رغبته:
- أمّي هناك تلميذة معنا في المدرسة أصلها بولندي هل أستطيع أن أدعوها؟
- ما المانع؟يمكنها أن تبيت عندنا عطلة نهاية الاسبوع.
- ما اسمها؟
- بوجانة.
كانت في التاسعة عشرة من عمرها، أكبر منه بثلاث سنوات، جاءت إلى نوتنغهام مع دخول بريطانيا الاتحاد الأوروبي، تعلمت اللغة بشكل مذهل، واختارت مدرسة الميكانيك.. مثل (نوررو) لا تعرف عمره الحقيقي، استلطفها من أوّل يوم، قرأ في عينيها رغبة، لكنه لم يكن قد نسي (نوررو) بعد.. السحر الأسود ورائحة سمع عنها فأزعجته، ورائحة جسدها المضمخة بعطر شرقيّ أفريقيّ، بجهل نوعه، صحيح أنّ هناك رائحة خفيفة بين إبطيها تؤذيه:
بحضور أمّه يسأل والده الطبيب:
- لماذا ذلك الرجل السوداني يستحم بالحليب؟
تضحك الأمّ ويبتسم الأب:
- لا تتحدّث بذلك مع زملاء الدراسة؟
- هم يتندرون عنه!
أسمع يا ولدي، الأفارقة والسود في أجسامهم غدد تفرز العرق فيؤدّي إلى تجمع البكتريا في الأجزاء الحسّاسة من أجسامهم، فيظنون الحليب يطرد الرائحة.
فتقول أمّه ضاحكة:
- لكن المغنية صباح بيضاء شقراء مثلنا نحن الأكراد يقال إنّها تستحم بالحليب !
- لله في خلقه شؤون!
وتضيف أمّه التي عرفها تفضّل عطر (كلامور) الفرنسي، وتفتخر أنّها لو بقيت من دون استحمام شهرا لما انبعثت منها رائحة كريهة:
هناك بعض البيض أيضا لا تطاق روائحهم!
لو كانت (نوررو) حاضرة.. أووه لم تشغل بالك.. ستظل ذكرى ممتزجة برائحة إفريقية ساحرة.. ولعلها الآن تمارس عمليّة استشهاديّة في العراق أو سوريّة.. (بوجانا) تجربة أخرى لا تدرك الزمن الذي غزاك بشكل مفرط، لا يخشى أمّه الجديدة.. لا يظنّها تتطرّق إل عمره وخصوصياته.. ما يضرّ صديقته البولنديّة أن يكون في السادسة عشرة أو في الثلاثين، وقد التقيا بعد الظهر تجولا في (برود مارش) ، وقضيا وقتا ممتعا، استقلا بعدها الترام ثمّ الحافلة إلى القرية..
يزهو
يفتخر بأمّه الجديدة
يتكلّم بعفويّة عن القرية
وعند االمساء تضمّ الثلاثة مائدة الطعام.. طعام إنكليزي بحت.. (لزانيا) وسلطة.. ودورق نبيذ أحمر.. ولم يكن الكحول غريبا عنه، وقد ذاق بعضه، كان والده يتلقى زجاجات الويسكي والبراندي الفاخر هديّة من بعض المسؤولين الذين يعالجون عنده، ووجد والده يشرب باعتدال نهاية كلّ أسبوع، وذاق أيمن البيرة وقليلا من الويسكي، الطبيب الخبير أسجى له نصيحة جرّب كلّ شئ ولا تدمن على شئ، مع ذلك فقد استهواه النبيذ فشرب عند الأكل، تحدثت أمّه على المائدة وثرثرت عن مواضيع مختلفة:
أبنائها البعيدين
الطبيعة
منازل الجنّ، الذين لا يعرف أحد من أين جاؤوا وسكنوا طرف القرية الجنوبيّ..
قصة حبّها لزوجها
زواج الابن الأكبر من أمريكية ورحيله إلى بلد زوجته.
هجرة ابنتها المهندسة (أليس) إلى استراليا
كيف اختلّ توازن (ريك) عند المنعطف فانقلبت الدراجة به..
وقاطعت البولنديّة بلطف، لتبدو أنّها تهتمّ بحديث السيدة (آيفي):
هل يزورانك؟
فابتسمت وقالت:
أنا زرتهما:البنت ثلاث مرّات:البنت مرّتين و (لوك ) مرّة؟
فابتسم أيمن وتساءل:
أي البلدبن أكثر:أمريكا أم استراليا؟
فحكّت طرف فمها بإبهامها وقالت:
أستراليا حارة، ولها طابع خاص يختلف عن كلّ القارّات، أمّا أمريكا فهي صاخبة كما لو أنّها تسابق الزمن، والحقّ إنّي أرغب الهدوء، لا أحبّ المدن الصاخبة!
ثمّ
قدّمت بعد العشاء الجبن، والشراب الإيرلندي، الجوّ الدافئ والهدوء والسكر دفعاه لأنّ يجرؤ ويقبّل (بوجانا) أكثر من مرّة، وحين دقّت الساعة التاسعة والنصف اعتذرت سيدة البيت قائلة إنّها لا تستطيع السّهر أكثر، وتركت لهما حريّة الخيار في أن يراقبا التلفاز أو يأويا إلى الفراش وحالما أغلقت الباب خلفها، ضمّ (بوجانا) إلى صدره وهمس في أذنها:
هيا لنصعد..
وانحنى عليها يحاول حملها، فأطلقت ضحكة خافتة، وقالت:
صحيح إنّك قويّ لكن لاتغامر
فوضع يده على كتفها
وصعدا الدرج
رغبة جامحة يثيرها جسدها الأشقر اللامع..
شعرها ورائحة الصابون الناعمة المثيرة
يقبلها طويلا ويمسح شفتيه على خديها
تلهث.
ليست هناك من رائحة غريبة..
يداعب إبطيها بأرنبة أنفه ويحرّك شفتيه عليهما:
لا يتقزز
يروح في نشوة غامرة تتجاوز كلّ الحدود..
يسترخي على صدره.فتمرر أناملها على سرّته، ويظلّ يداعب حلمتيها..
ومرّة أخرى يتحرك فيه الرجل الطفل، والطفل الرجل.. .. فيرتقي.. ثانية.. تتجاوب معه بإفراط وتهدأ بعدها..
تندفع لمواضع حسّاسة بجرأة مفرطة لم يعهدها من قبل عند الأولى
يهدأ
يتهامسان
يتحدثان عن جمال المنزل والسيدة صاحبته.فلا يشعر إلاّ والنعاس يداعب عينيه..
يروح في رغوة لزجة من النعومة
فيغيب..
وترقد بجانبه ثمّ يتردد شخيرها الخفيّ فلا يحس به
لكنّها استيقظت بعيد منتصف الليل على صرخة
صرخة حادة أعقبتها همهمة ففتحت عينيها لتجده جالسا وقد أزاح الغطاء عن صدره.
كان يلهث
يتنفس بعمق
ماذا؟
تعاني من ربو!
لا .. كابوس
كأنّه في سباق مع الهواء، فنزلت عارية من السرير ودخلت المطبخ وعادت بكأس ماء
كرع مافي القدح، وهمست بصوت خفيّ:
هي المرّة الأولى.
بل سبقتها نوبة قبل أيّام.
وفي الصباح عندما اجتمع الثلاثة، سألته البولونيّة متعمدة:
كيف تشعر الآن؟
بخير .
فتساءلت سيدة البيت:
هل من شئ؟
شعرت بالهواء يهجم على رئتيّ دفعة واحدة، هواء بارد لذيذ لم تتحملاه لنعومته رئتاي، وكانت شفتاي لا تقدران على الكلام .
كابوس، وعليك ألّا ترهق نفسك.
قالت سيدة البيت وعقبت بوجانا:
لقد كان نائما مثل الملاك !
واتفق مع أمّه الجديدة أن تأتي (بوجانا) عطل نهاية الأسبوع والعطل الأخرى، واعتذرت له في المدرسة أنّها لا تستطيع أن تدعوه إلى سكنها ادعت أنّها تسكن في شقّة من ثلاث غرف مع عائلة بولندية، زوج وزوجة يعملان في يعملان في معمل للدباغة كانا قد عثرا على الشّقّة قبلها، لم يخطر في باله أن يزورها في مسكنها ويقضي هناك ليلة معها.. سوى أنّه شعر بتغيّر في سلوكها.. لاح قلق على قسماتها وشرود.بعض النرفزة والعصبية، اعتذرت عن زيارة المنزل في عطلة نهاية الأسبوع، ومرت أيّام لم تراوده الحالة، الأيام عادية، سيدة المنزل ذكرت له أنّها سجلت انطباعا مريحا عن بوجانا، وقالت إن الأوروبيين الشرقيين، أقرب بكثير إلى شعوب غرب أوروبا من وافدي الشرق وأمريكا اللاتينيّة، أمّا الكابوس فلم يهجره، راوده مرة خلال الأسبوع الذي غابت فيه بوجانا,الهواء الناعم الذي يهحم دفعة واحدة وانحباس فم.. ، فيفزّ، تعقب جلوسه في الفراش: صرخة
وفي الأسبوع التالي راوده الكابوس نفسه.
هل هي عدوى السحر الأفريقي الأسود !
لِم لا يعدّه مرضا..
التعاب رئتين
ربو..
كلّ شئ محتمل
زار الطبيب، وأجرى فحص الدم والرئتين، أبدت الأشعة والفحوصات سلامة بدنه، ولم يخف الوضع عن سيدة المنزل، كان يستغلّ جلسة العشاء للدردشة معها، فتتقبّل حديثه رصدر رحب:
- أمي استلمت اليوم نتيجة الأشعة والتحليل ليس هناك من شئ.
- جميل جدا.
قال بتردد:
في البدء ظننته ربوا أو حساسية الرئتين..
- إذن هو الكابوس
فصفنت برهة وسألت:
- ماذا عن (بوجانا)
- آمل أن تكون أنهت أشغالها التي منعتها من أن تأتي الأسبوع الماضي على أيّة حال سنتحدث اليوم.
قصد المدرسة، بصدر منشرح بعد أن اجتاز في الليل حلما متعبا.لايسميه كابوسا فلم يرافقه اختناق،، حلم بنهر عميق صافي المياه، وهناك عثر على شخصين يتحدى كلّ منهما الآخر.يشعر أنّهما تراهنا عليه، كلٌّ منهم يدعوه، لا يدرك لأيّ شئ يدعوانه، أراد فضّ النزاع بينهما، فزجراه، وأمره أحدهما أن يظلّ مكانه.. احتدم الشجار بينهما، فأخرج كلّ منهما بندقيّة، وطلب من الآخر أن يغوص في الماء ثمّ يطلقان النار على بعضهما، أيهما كان الأسرع في الرماية، قتل الآخر عندئذٍ يخرج من المياه.
وقف ينتظر طويلا
مبارزة جديدة
لعلّه جاء ليصبح حكما
أو
لعلّ الذي يقتل صاحبه يخرج إليه فيدعوه إلى المبارزة إمّا على الأرض أو يغطّ معه في النهر.
عن عمد ضغط على أنفه بسبابته والإبهام.. حبس أنفاسه .. ليرى كم يطول نَفَسُ من يخرج، بقي ينتظر فترة طويلة.. دققيقة .. دقائق.. كسر محظورا فرضاه عليه قبل الغوص، قترب من البحيرة يتطلع في الماء الصافي فلم ير شيئا إذ انقلب لون الماء إلى حمرة داكنة..
كان يتذّكر الحلم من بدايته إلى النهاية، فهناك أحلام كثيرة راودته لا يتذكّرها حالما يصحو، وتجد ستارا في طول النهار لتتلاشى من ذاكرته، وفي مدرسة الميكانيك، التقى (بوجانا) ، انشراح عميق يلوح على وجهها وقلق، وحين سألها إن كانت قد فرغت من شغلها الخاص لتقضي في المنزل عطلة نهاية الأسبوع، وأضاف بانفعال مفرط:
سنخرج إلى سوق الفلاحين، هناك يتركون البضاعىة في الهواء الطلق، فنشتري الفاكهة والخضار الطازجة!
فانتابها بعض الإحراج:
- سأشرح لك في فرصة الغداء بعض الأمور
وفي الفرصة الطويلة، وهما يتناولان طعامهما، بادرته:
- أنا آسفة علاقتنا رغم قصرها كانت رائعة ولو لم تكن هناك ظروف لما فرّطت بك.
فاجأته صراحتها، فاندفع:
- ماذا تعنين؟
أبدا اقول لك بصراحة أنا امرأة متزوّجة، زوجي أنهى الجامعة قسم اللغة الفرنسية، كان يرفض فكرة السفر، ويأمُل أن يعمل في وزارة الخارجية في السلك الدبلوماسي، والترجمة، بينما كنت أصر على الهجرة إلى بريطانيا، أنا هنا في بريطانيا منذ سنتين أعمل في معمل الدباغة عملا جزئيّا.. مع شريكيّ في السكن، تعلمت اللغة من الصّفر، وبدأت دراسة الميكانيك، قلت بولندا لا تنفعنا هنا الظروف من جميع النواحي أفضل بكثير للأجنبي من بلده وبقيّة دول أوروبا..
ا- لواقع هنا الفرص كثيرة.
فازدردت قطعة يطاطة مقلية، ورشفت عصيرا، واسترسلت.
- ظلّ زوجي يرفض، وقبل شهر تقريبا زرت بولندا، فالتقيته وحدث بيننا في شقتنا مايحدث بين أيّ زوجين، مع ذلك حذرته، إن لم يأت إلى نوتنغهام فأرى أن يتمّ الطلاق!
إلى هذه الدرجة هو متعلّق ببولندا؟
- نعم لاتنس أنّه يساريّ، أبواه شيوعيّان.
فهزّ رأسه، ورشفت جرعة ماء وواصلت:
- لقد عدت وفي بالي الطلاق، وشعرت أن هناك علاقة تشدني إليك، وفي بداية الأسبوع الماضي أحسست بشئ ما، دوار، وغثيان، فجاءت نتيجة ذهابي إلى الطبيب أنّي حامل.
غريبة!
- نعم مفارقة غريبة جعلتني أتصل فأدرك أن لقاءنا الأخير أسفر عن حملي!
فقال بسذاجة طفل برئ يسمع حكاية مشوّقة:
- هل اقترح عليك الإجهاض؟
- لا أبدا، ولو صرّح لي بذلك .. لرفضت بل ازداد تعلقا وعيّر فكرته عن البقاء في بولندا.
فخامره يأس لفقدانها السريع:
- معك حقك هنا المستقبل مضمون.
فقالت بصوت يملؤه الدفء:
- أرجوك افهمني حين التقينا وقتها كنت واثقة من أن زوجي يرفض اللحاق بي وأننا على وشك الطلاق وحين يحدث أستطيع أن أدعوك إلى المنزل فأقدّمك إلى شريكيّ في السكن .. لكنّي الآن أمّ هناك جنين في أحشائي منه، وسوف يلتحق بي في بضعة أيّام فهل يمكن أن أكون لرجلين.!.
فقال ببراءة:
- كل ما أقوله إني آسف لافتراقنا بهذه السرعة.
هو رجل يفقد صديقة دمغت بنشوتها رجولة حلّت فيه قبل الأوان.. ثاني امرأة تمنحه جسدها، وهو طفل يفارق لعبة ثانية.. دمية يكاد يبكي لأنّه فقدها ولم يحطّمها.. فهل تهجره الأحلام القبيحة والكوابيس بمثل هذه السرعة، وفي البيت انتبهت السيدة (آيفي) إلى تغيّره المفاجئ، قرأت في عينيه صمتا، وخفوتا في نغمة صوته، فقالت تزُيحه عن يأسه:
- هل تأتي (بوجانا) عطلة نهاية الأسبوع، إذا جاءت يمكن أن نخرج نحن الثلاثة في نزهة.
فردّ بصوت خافت:
- لن تأتي بعد الآن!
- تشاجرتما؟
- إنّها تفكّر بدعوة صديقها السابق والزواج منه!
- إذن إنس الموضوع، وفكّر بغيرها !
ومثلما توقّع، غادرته (بوجانا) ولم يتركه الحلم، الليلة الماضية كان حلما، .حاول في الصباح أن يتذكّر، فلم يقدر، وعجز عن التركيز في المحاضرة ودرس التطبيق العملي.شرد ذهنه عن كلّ شئ إلّا حلما يحاول أن يقتنصه، ولحظت سيدة البيت تشتته فتساءلت:
- هل مازلت حزينا من أجل بوجانا؟
- ذلك موضوع ابعد مايكون عن تفكيري.
- إسمع ياولدي حين كنت في الرابعة عشرة من عمري أحببت، قبل زوجي، شابا معي في المدرسة، كنت في غاية السعادة.. ليست هناك أجمل من أن تصبح المراهقة سيدة فيظلّ الشاب المراهق الذي يحوّلها إلى سيدة في ذاكرتها. ثمّ افترقنا بعد سنتين.. وأصبح لي صديق آخر.. وافترقنا ولم تنقلب الدنيا ثمّ تزوجت وعشت دهرا مع أ (ندرو) الذي أحبه حتّى توفي.
- هذه هي الحياة..
- سنزور قبره معا وقبر أريك ليس الآن طبعا أتحبّ ذلك؟
- بلا شكّ
وفي الليل آوى إلى فراشه، ونام نوما هادئا، لايتذكّر أيّ حلم، وقبيل الفجر شعر بثقل ما يحثم على صدرم، وموجة ريح باردة تقتحم رئتيه، فخشي أن يعود إلى النوم ثانية، ظلّ يتقلب في فراشه، وهو يشعر بوهن أو وهم يحاصره، يدرك غموضا يعتريه، تيقّنَ أنّها عدوى أصابته، عدوى الكوابيس والأحلام، فلا علّة تعتريه، ولا نقص في بدنه الذي يسابق بالقوّة الزمن.. والغريب أنّ - حين يحلّ النهار يبدو كلّ ئ هادئا ومسالما، يتنفس بهدوء، العالم يجري من حوله ناعما، السيارات، القطارات حركة الناس وجوده في المدرسة، علاقته مع (بوجانا) التي رجعت وكأنّ شيئا لم يكن فمن أين جاءت صرعات الليل، ولم ينقلب الهدوء الوديع الساكن إلى وحش مرعب يقضّ مضجعه بشكل زوبعة باردة تغزو رئتيه؟وليس بيده شئ سوى أن يلوذ بسيدة البيت:
- الآن يا أمي لا أظنّ الكوابيس تهجرني.آمل .. ذلك، الكوابيس التي كانت تعتري صديقتي الصومالية فتجعلني أهبّ من النّوم فأراها بأسوأ حال هي نفسها التي تجتاحني.
ففكرت قليلا، وتساءلت:
- وماذا حين كنت في العراق؟
- لا أظنّ على الرغم من أنّي رأيت أبي يسقط يُعدم أمامي وهي يسقي الحديقة، .
فابتسمت قائلة:
- لا أريد أن أعيدك إلى الماضي البائس أنا الآن أذهب كلّ أسبوع إلى قبر ابني وزوجي قد أصحبك ذات يوم، فلا أريد أن أذكّرك بالموت، وأنت هارب منه، لكنّي أريد أن أعرف كيف ولدت لعلّ ذلك يلهمني أن أساعدك.
فنفث الهواء وقال:
- ولدت بعد ثلاث أخوات، الرجل الشرقيّ يظلّ في شوق إلى وريث ذكر يحمل اسمه، وكانت أمّي تخشى أن يقترن أبي بغيرها، فذهبت إلى ولي، أشار عليها أن تذهب إلى عين في أطراف المدينة .. نبع تخطو فوقه عشر مرّات وتشعل البخور،، وبتلك المعجزة وُلِدت.
- وهل هناك من شرط شرطه عليها؟
- نعم .أن تفعل تلك المراسيم مدى الحياة لكن الحرب الأولى وحرب الخليج وانتشار الجيش والشغب، وربما اختفاء العين نفسها حالت دون أن تكمل أمّي النذر.
فأطلقت ضحكة ساحرة بعثت في نفسه ارتياحا، وقالت:
- النذر والعدوى.. لم تكمل أمّك ماعليها.. وشملتك عدوى السحر الإفريقي من صديقتك الصوماليّة، لا تنس أنّ أمّك (آيفي) بنت قرية تضم مقابر الجنّ، وإنّي أؤمن بعالم الخفاء.
ففغر فاه متعجبا:
- هل تساعدينني.
- إسمع.. سجّل في ذاكرتك نحن الآن نقترب من نهاية شهر أكتوبر .. هل رأيت شجر اليقطين يغزو المحلات التجاريّة في هذه الأيّام؟
- نعم.
و- هل سمعت بالهلوين؟
- نعم يا أمّي
كلّ سنة يصرف الناس هنا مليون يقطينة تصوّر مليون يقطينةفي احتفاليّة الهلوين تذهب في محاربة الأرواح الشريرة، يتفادى بها الأحياء الأرواح الشريرة والجن! قد تكون لعبة لكنها لعبة لذيذة، لا تضرّ إن لم تكن تنفع، نحن نحارب الخفاء بالنكتة والوجوه الغريبة، غدا تذهب إلى المدرسة وكأنّ شيئا لم يحدث وعند رجوعك تبتاع يقطينتين، واحدة للبيت وواحدة تضعها بيدك بين قبور الجنّ!
وتنفس في صدره الطفل ذو الستة عشر عاما، فتساءل:
- هل أنت متأكّدة من ذلك؟
- عيب ياولد لا تقل هنا في هذا البلد الناس لايحبّون هذه العبارة يمكن أن تسأل بصيغة أخرى..
فاستغرب لزجرها المفاجئ:
- بأيّة صيغة أسأل إذن؟
- Are you ok with that وتذكّر أنّك محظوظ لأنّ لك أكثر من أمّ، واحدة هناك، والآخرى معك الآن!
ومن غريب المصادفات أنّ الوضع اختلف تماما، شعر بارتياح تام لما سمعه، بعض الأمور لانصدقها لكنّها تبعث فينا الراحة، أو لا نصدّقها إلى درجة أنََّنا نؤمن بها، ربّما تكون الخرافة الأقرب إليه فمايزال طفلا، وقد تكون صديقته التي لن تتركه، وإن بدا شابا تخطّى العشرين من عمره، وهناك احتفاليّة تنتظره، م يتكاسل، ذهب إلى المدرسة، والتقى المدرب وزملاء الصف، تحدّث مع (بوجانا) وبقية المعلمين، وحين انتهى درسه، خرج إلى أقرب سوبر ماركت، وجد اليقطين أمامه، ابتاع اثنتين ذواتي حجم وسط كما أوصته أمّه، وفي المساء أرته كيف يمارس السحر المضاد، أحضرت، قلما ذا حبر سائل أزرق شمعتين، وسكينا حادّة،، حفرت الجمجمة، من أعلى الهامة اقتطعت الجزء المدوّر، فكان على شكلّ قبعة.. ومدت يدها إلى الداخل فأخرجت حشوة وبذورا كثيرة ألتقتها على في وعاء جانبيّ..
رسمت دائرتين بمستوى واحد
اسفلهما خطّت دائرة أخرى
تحتها هيكل لزورق ذي نتوءات
وحفرت دارتين متقاربتين
ثمّ دائرة كانت الأنف
وقالت السِّكِّينة كلمتها الأخيرة لتكون فما على شكل نصف دائرة ذات أسنان.
شبح
روح قبيحة
شيطان
وضعت الشمعة داخل الجمجمة، وقالت
كلّ سنة أنحتُ العينين، والفم والأنف على شكل مثلثات، هذا العام تركت المثلثاث لك فالمعروف عنها منذ زمن الفراعنة تقضي على الأرواح الشريرة .
فتح الجمجمة من أعلى، فكانت قبعة، ومد يده إلى الداخل، فأخرج الأحشاء والبذور، وقال:
في العراق يغسلون بذور اليقطين ويملّحونها ثمّ يقلِّبونها في المقلاة على نار هادئة ليكرِّزوها للتسلية أو مع الشاي.
- لا تتعب نفسك تجدها جاهزة في المحلات.
فلم يعترض، وقالت محذّرة من الخطأ:
- اجعل قاعدة العينين للأعلى، وقاعدة الأنف للاسفل، وأجعل الفم مثل زورق وانحت.. نصف دائرة مثل الزورق ولا تنس الأسنان.
لن أخطئ فقد تابعتك باهتمام (وقال بلغة الأطفال) هل يمكن أن يكون الفم مثلثا؟
وأطلقت ابتسامة واسعة:
عندئذ لايقدر أن ينطق ! (وأضافت) لابدّ أن تكون هناك دائرة هي القبّعة ونصف دائرة للفم!
راح ينحت مثلثات العينين والأنف، وقوس الدائرة والأسنان، السِّكِّين تسري بيده خفيفة، ناعمة، حتى نحت اليقطينة، فأصبحت وجها رأسا لشخص مشوّة ذي قبعة، تشع عيناه شررا ينطلق نحو عالم الخفاء.
ممتاز
قالت أمّه
وأردفت:الآن بدأنا الخطوة الأولى سيبقى الشبحان هنا ثمّ يغادر أحدهما..
كان يشعل شمعة الجمجمة كل ليلة، فيقرأ في العينين نورهما القوي لكنّ الشئ العظيم الذي أَسَرَهُ أنّه لم يعد يشعر بأيّ حلم خفيّ يداهمه، ولا يحسّ بذلك الهواء البارد الذي اعتاد أن يقتحم رئتيه، وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر، وكانت ليلة باردة، غائمة، خرجت إليه أمّه من غرفتها، وفي يدها علبة كبريت وشئ ملفوف وضعته على المنضدة، رفعت القبعة عن رأس الشبح وأشعلت الشمعة فشعت من عينيه نظرات صارمة، عادت إلى الأريكة بعد أن وضعت الجمجمة على منضدة من المعدن مدورة، وقالت والابتسامة لا تفارق شفتيها:
- سأتأمّل اليقطينة وأنا جالسة على هذه الأريكة من هذه المسافة أجمل.
فقال مثل طفل صغير:
- نعم هذا أجمل
وقدمت إليه الكبريت، فأشعل شمعة اليقطينة الخاصة به:
- الآن يمكنك أن تخرج إلى مساكن الجنّ تحمل اليقطينةّ وتضعها هناك، ضعها في أيّ مكان حتى تؤدّي نذرك وتطرد الأرواح الشريرة كما كان القدامى يفعلون.
- ألاتأتين معي؟
- ماذا هل تخاف؟
فتحركت في نخوة الرجولة التي يراه فيها الجميع:
- أنا أبدا
فابتسمت ثانية:
- إذن خذ هذا القناع إِنَّه قناع (أرك) كان يلبسه كلّ عام في مثل هذه الليلة، حين تصل إلبسه، تأمل اليقطينة وعدّ عشر مرات ثمّ عد إليّ لنتاول العشاء.
التقط القناع من يدها، وحمل اليقطينة ذات العينين اللامعتين الصارمتين، كانتا تتحركان مع الريح وتبعثان تحديا ما باتجاهات مختلفة، شعر ببعض الرهبة والخوف، في الوقت نفسه لم يراوده الخوف حتّى وصل منازل الجنّ، فوضعها في بينها لبس القناع وتراجع إلى الخلف، ويعدّ .. 1 2 3 لم يشعر بالبرد، لكنه راح يعدّ ويتأمّل الجمجمة ذات العينين اللامعتين وسط رهبة الليل وحشرجة الظلام!
***
د. قصي الشيخ عسكر – روائي مهجري
................................
انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة يوم 26\10\2024، وأكملت تصحيحها 2\11\2024 مدينة نوتنغهام