نصوص أدبية

نصوص أدبية

افكار ليست فلسفية

الوقت انزياح

بين الفكرة والمعنى

ونسوره تتارجح

بين نيران الصدق

ونيران الخديعة

وحناحاه ابيض واسود

لكن سماؤه تحرق بنار

العذاب اذرع

الناقمين الطغاة

وانهاره تسقي بماء الحكمة

العقول

الارواح

والاجساد

والحان ناياته عذبة عذبة

للباحثين عن

امل ذهبي

وعن حكمة ذهبية

تشفيهم من

جراحات الحياة .

***

سالم الياس مدالو

منذ أزيد من سبعة عقود

والعرب لا يعيرون اهتماما

لما يجري في فلسطين المنكوبة

يلهثون وراء الصهاينة الكفرة الفجرة

مثل كلاب اصابها السعار

*

لقد بدأ العد التنازل

وستكون مسألة وقت فقط

قبل انهيار الأقنعة المزيفة

وكشف السوءات

وفضح المكايد

والدسائس والمؤامرات

*

كابوس غزة

يزعج سبات الحكام العرب

وقادة  هذاالعالم الغبي الحقير

المتواطئين في جرائم ضد الانسانية

بحق الفلسطينيين

*

أصحاب الارض هم الفائزون

رغم الحصار الظالم

في أتون المعاناة

القدس لنا

والمسجد الأقصى لنا

وكل فلسطين لنا

من النهر الى البحر

العدو الابدي

لا يسير حسب رغبة العالم الحر

فهو لا يرزخ للضغوطات

ويطعن في الشرف والكرامة

يحتمي وراء ورقة اللاسامية

ويستعين بالفيتو الامريكي الارهابي

لا سبيل لاسقاطه الا بالمقاومة الصلبة

*

الجيوش العربية المتقاعسة

تعتني بتلميع نجومها على الاكتاف

ونياشينها على الصدور

وفي حفل تنكري

تتدرب على طلقات وألعاب نارية

ضد جرذان الثكنات المتآكلة

***

بن يونس ماجن

اريد ان تشاكسي

وتغضبي

وتنثري الحاجات

فوق مكتبي..

وتمرحي

وترقصي وتقفزي

وتلعبي..

**

أن

ترشفي الماء

كالعصفور

قطرة فقطرة

حتى اذا ارتويت

تسكبين الماء

عند مقربي..

**

فكلما اراك تركضين

يرقص الالهام في دفاتري

قصائد منثورة

يفوح من فستانك الجميل

عطرك الشذي

ما بين ضوء الفجر

حتى المغرب

**

فكيف لي

ينث في خطاك

(الليلك) الندي

عند الزحف

عند الجري

عند المشي

عند اللعب

بسمة تفوح،

بعدها النهوض  و(الحبو)..

**

صغيرتي

لا تكبري ،

حتى اراك تكبري..!!

وتمسكين اصبعي

حيث يمرح الغريد

فوق غصنه الرهيف

يُرسَمُ الغد ..

**

اركضي  وحلقي

وانثري الاوراق فوق مكتبي

وبعثري الاقلام ثم (شخبطي)

وإرسمي الخطوط

أينما ترين .. اكتبي

لا تهربي

دعي خطاك تمرح

عند مخدعي ومشربي..

صغيرتي،

تعاند الكلام والرعود

تكتفي القيام والقعود

في جمالها الندي.

لا تكبري..!!

***

د. جودت العاني

2 تشرين ثاني 2024

تفتش

وتبدأ بحثها

من أخمص القدم

إلى رأسها

فكرة بلهاء

تحاول عبثا

العثور على ضالّتها

*

تذهب بخيالها

إلى آلاف تصّرمت

وتتطلع عيناها

إلى مدى

طمرته ترسبات

خلفّتها أقدام مهرولة

لفكرة تبحث

وتبحث

علّها

تحظى بحلم

تمنّته حقيقة

آه يا عبث الأفكار

*

رفقا

فلا اللوم يجدي

ولا أمل للبحث

فدعوها

تتماهى وخيالها

فكرة عابثة

تبحث

عن ضالّتها

***

ابتسام الحاج زكي

أغلقت باب بيتها، وسدت نوافذه بإحكام، ثم تحصنت بالداخل وقد اطمأن قلبها إلى أن الموت لن يصل إليها، ولن يستطيع أن يفاجئها. الكثير من معارفها رحلوا على امتداد السنوات الماضية، أغلبهم اِقْتَنَصَهُ الموت في غفلة منه وهي لا تريد أَنْ تُفاجَأَ مثلهم. لهذا ملأتْ كَرَار بَيتها بكل الموادِّ الغذائية التي تَحتاجها، وقَرَّرت أن لا تغادره البَتَّة. منذ أسْبوع طرق باب بيتها مُوظفون حُكوميون تابعون للبلدية وأخبرُوها بضرورة إخلاء مسكنها لأنه آيل للسقوط، لكنها واجهتم بشراسة:
- لن تنطلي عليّ حِيّلكم أيّها اللُّؤماء أنتم رُسلُ الموت تُحاولون جَرّ رِجْلي لِمغادرة بيتي فيَصطَادني.
- أَغلب السُّكان رَحلوا يا حَاجّة، بُيوتُ هذا الحي ستنهار لأن الشُّقوق تعتري كل الأبْنِيّة.
- تَكذبون! أنتم تريدون بِي شَرّا
- ذَنبك على نفسك، نَحن قمنا بِواجبنا
للموت أعوانٌ، وعيون ترصد الضَّحايا وتُعِدّهم لليَوم المَوْعود، وهِي لن تَنْخدعَ بهذه السُّهُولة وتُصبح لقمة سَائِغة للموت يقتنصُ روحها ويحْرِمها من نعمة الحياة على حين غَرّة. هِي فعلا بَلغتْ من العُمر عتيّاً، وَتُعانِي مِن ضَغط الدّم، واِرتفاع نسبة السُّكري، وآلَام مرضِ النَّقرس، لكن هذا ليس مبررا يَشفعُ للمَوت فَعْلتَهُ.
أفاقت من سَحائِب أفكارها على صُراخ وضَجيج قَوِي بالخارج، تَردّدتْ لحظةً ثمّ اِقتربتْ من الباب الخَشبي المَتِين، ووضعت عَينَها على العَين السِّحرية، رأت شَابّا ملقى على الأَرضِ وهو يَنزِف دَماً.
كانت ملامح وَجْهِه تنِمُّ عن معاناة فَظيعة من الآلام. وكان يَصْدرُ عنه صَوتُ أنينٍ مُمِضّ. عَادت أدراجها وجلستْ على الأريكة الوحيدة التي تملك. " لَا شأن لها به، هناك رِجال أمن وإسعاف بالبلد وهم المسؤولون عن حماية أرواح المواطنين ورعاية الجرحى والمُصابين منهم، هِيَ مُجرد سيِّدةٍ عَجوز، مِنَ الأفضَل لها أن تَبتعدَ عن المشاكلِ ".
زادت حِدّةُ الأنين، أصْبحتْ تَطرقُ أسماعَها بقوة وهي جالسة في مكانها، تَقَطّع من الزمن رَدحٌ، وهِي ساكنة تُفكّر، لَكنها في أخر المطاف قامت من مكانها واتجهت مرة أخرى نحو البَاب، نظرتْ عبر العين السحرية، كان الشاب ما يزال مُمدّدا في مكانه وهو يَتَوجّع، لم تتردد هذه المرة، فَتحت البَاب واقتربتْ منه، سالته بصوت أجش :
- من فعل بك هذا ؟؟
رد الشاب بصوت ضعيف :
- فاجأني ثلاثة شبان على حين غرة، عندما حاولت الدِّفاع عن نفسي اِعتدَوا عليَّ بالضرب، ثم طعنني أحدهم بمدية على مستوى عظمة الترقوة.
قرفصت جالسة، مَدّت يديها تفحص جُرحَه :
- الحمد لله الجُرح سطحيٌّ، يُمكنك الدّخول معي للبيت حتى أقوم بِتنظيفه وتقديم الرِّعاية الَّلازمة لكَ
ابتسم الشاب، بدا جبينه وضيئا وعيناه ناعستان تَشِيان بِطِيبَة ظاهرة.
ثم قال:
- عفوك سيدتي لا أريد الإثْقال عليك
قاطعته العجوز وهي تَرسم ابتسامة رَقيقة على شَفتيها:
- تفضل معي بُنيَّ، ليس هُناك إثقال.
سَاعدتْه على الوقوفِ، وأسندتْه على كَتِفها ثم دَخلاَ البيت، دَعتْه للتَّمدّد علَى السري، وأَسْرعت نحو الباب تُغلقه بإحكام، ثم هرولت نحو الحمام، آبَتْ تَحْمِلُ حقيبة صغيرة، فتحتها، أخرجتْ زجاجة كحول، وقطعا من الشَّاش، والأشرطة الّلاصقة، وكبسولة مُرهّم لتطييبِ الجُروح، بدأتْ بتنظيف الجرح بكل عناية ومعالم الفرحة ترتسمُ على مُحيَّاها:
- لقد اشتغلتُ ممرضة أزيد من ثلاثين سنة بالمستشفى الجامعي ابن رشد
- شكرا لك أيتها السيد الطيبة، يداك بلسم وترياق
عندما أصبحَ الجُرح نظيفاً، دَهَنتْه بالمُرهّم، ثم غَلفته بالشّاش وشَدّته بالشريط الَّلاصق، بدتْ علاماتُ الارْتيَّاح على وجه الشاب، قدّمتْ له العَجوزُ كأس لبنٍ ساخنٍ شَربه ولسَانه ينطق بكلماتِ الاِمتنانِ.
أحسَّت العجوز بتيّار عواطفٍ لا حدود له يشدُّها إلى الشَّابِّ، تَخَيّلته اِبنها الذي لم تلده، كم هيَ رائعة عَاطِفةُ الأمومةِ، إن لها سحرا خاصًّا، ووهجا ينير الجَوانح، ويُفجر شَلّال نور في الذات.
سألها الشاب وقد لاحظ شرودها:
- أين غاب عقلك أيّتُها السَيِّدة الطَيبة ؟
ردت وعيناها تومضان ببريق غريب :
- كنت أفكر بك، تخيلتك ولدي الذي لم تلده بطني
- هو إحساس متبادل سيدتي..
غفا الشاب لحظة، وعندما استيقظ وجدها تجلس فوق الأريكة المقابلة للسرير وعيناها تحدقان به، اِستوى جالسا وهو مُتَهَلّل الأسارير هتفت به العجوز:
- الحمد لله أنت بخير
رد الشاب:
- بلى أنا بخير يجب أن أذهب الآن
قاطعته:
- مازالتَ متعبا يمكنك البقاء معي بعض الوقت، لقد آنستَ وحشتي، و ذهب عنِّي الخوف الذي كان مسْتبدّا بي.
سألها الشَّاب باِستغراب :
- ما يُخيفك ياسيدتي ؟
تلعثمت العجوز لحظة ثم قالت :
- أنا خائفة من الموت، لا أريد أن أموت، أنا أحب الحياة
- الحياة جميلة، لكنها مجرد مرحلة في عمر الانسان ولابد أن تنتهي، لتبدأ مرحلة جديدة، ولنسميها تجاوزا مرحلة ما بعد الحياة.
- الموت تساوي العدم
- لا لست متّفقا معك
قام الشاب من مكانه واقترب من العجوز، مَدَّ لها يده أمسكتها بحنو، قال لها :
- قُومي سيّدتِي
قامت من مكانها، أحسَّت بخفة لم تعهدها من قبل، اِختفتْ ألام المفاصلِ، وغاب صَفِير الضَّغط عن أذنيها، قالت للشاب:
- يَدُك مَنحَتني قوَّة وقُدرة على الحَركة لا عهد لي بِها
ضَحك الشَّاب وقال برقَّة وحُنو:
- أتعرفين من أكون؟
بدتِ الدّهشة على مُحيّاها، وقالتْ:
- لا يا بنيّ
حَدَّق بها هُنيهة، ثمّ هتف قائلا:
- أنا الموت الذي كُنتِ تَخافينه، وأنتِ الآن ميتة.
التفتتْ نحو الأَريكة التي كانت تجلس عليها، رأت جسمها في مكانه، وقد مال رأسها إلى الخلفِ.
***
محمد محضار
2017

 

** النهار وحش إفريقي.

إفترس زنوجا كثرا في السافانا.

سأطعمه حلازين تطفر من جلدي.

أرنب مخيلتي اللذيذة.

سردا مثيرا يحبكه العميان في الحانة.

صلوات إحترقت في فرن الكاهن.

سأطعمه حمام صوتي النافق.

ولأن جارتي الضريرة

كلما سقط ثعلب من عمودها الفقري.

تركب دراجتها الحزينة.

وتجر النهار خلفها إلى دار الأوبرا.

ولأن الضباب أخ مكسور الخاطر.

يرمي مناديله العدمية على شباك الأرملة.

ويختفي في البستان.

ولأن الباص يهطل فوق الجسر.

لأن السائق تمثال من الجبس.

لأن المسافرين ورق يتدافع في النسيان.

سنكون وجبة لحيتان اللامعنى.

***

فتحي مهذب – تونس

تجوعُ القطّةُ... تأكلُ صغارَها...

تجوعُ الثّورةُ...تأكلُ أبناءَها

وحين يجوعُ التّاريخُ...

يلتهمُ صفحاتٍ عصيّةٍ على الهضم

في تغذيةٍ راجعةٍ

تساعدُه على لفظِ ما أثقلَ معدتَه

من رؤوسٍ لم تستو في طبخة...

ولا كانتْ مهذّبةً في جلوسِها

إلى مائدةِ المقايضة

المقامةِ في قرنةِ الوطن ....

هاجسُها اقتيادُ القطيعِ إلى ساحةِ الذّبحِ....

تلبيةً لرغائبَ جائعةٍأرّقتْ مضاجعَها ...

على مرِّ اللّيالي الحمراء ...

حيث المفارقاتُ

تغذِّي الاستلابَ في رحمِ الافتراء ...

لينمو جنينًا يجيدُ قرصَ الأذانِ...

حقنَ الأفئدةِ ...بموتٍ سريريٍّ

تكريسًا لهدوءٍ ملغومٍ

يستدرجُ الأرواحَ إلى غابةِ الرّماد...

ما تبقى من صفحاتٍ ...

تبعثره عاصفةٌ هوجاء

مقبلة من كل الجهات..

فكيف نكتبُ عن سلالاتِنا

الطاعنةِ في الهروب ...

على جذوعِ الأشجارٍ الخاويةٍ ؟

أو على صفحاتِ الرّيحِ الراكضةِ

نحو محفّاتِ الحتفِ المجملِ

بفتاوٍ طالعة من تنانيرِ الجهل المبين...؟

*

ثمة أشعارٍ تهندس الضجيجَ

لنحمدَ القهرَ على نعمته

كي لا نموتُ خاسرين

عند ناصيةِ خطوطٍ متوازية

لا تلتقي إلا .. بإذن الله ؟

*

في عينِ العمَى تمرُّ الفوضَى

حاملةً امواجَ قامتِها

نحو ذاكرةِ ليلٍ

تفتّحتْ قبل موسمِ القِطافِ

والسّيدُ السّجانُ

يسحبُ الظّهيرةَ من عُرفِها

وقد اتزرتْ برهبةٍ سوداء

في ساعةٍ شمطاء ...

توقفتْ عقاربُها

عند مرآةِ صمت عتيق

هو انعكاس طبيعي

لنظام الكون !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

جاء الشِّتاءُ مبكراً

هذه المَرَّة

ترتجفين شوقاً

أشْعلي بَعضاً

من الذِّكريات كي تُدفِئَنا

أوقدي سِراجَنا القديم

وتعالي نتصفَّحُ صور دفاتِرَنا

كلَّما دبَّ النُعاسُ في عينيكِ

قَلِّبي على نارِ الأوجاعِ

حُرقَةَ الرَّحيلَ

"لاَ تَهْتَمُّي لِلْغَدِ

لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ

يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ"

لا تَجزعي هي ذئابٌ عابرةٌ

لا تُتقِنُ غير العِواءِ

في أمانٍ أنتِ

بين أوراقي

وبَعضٍ من الأشجانِ

في أمانٍ أنتِ

لا تَفزعي؛ أسواري شاهقةٌ

لا دَخيلٌ يتسلَّلُ

ولا ريحٌ تَعبُرُ

اِحرقي المزيدَ من أنفاسي

ونامي في دَعَةٍ حتى الصَّباحِ

تعالي في كُلِّ الشِّتاءاتِ

كي تُصبحَ دافئةً كُلَّ الشَهقاتِ

أنا نبيذُ الأيام المُعتَّقِ

فاشربيني

حتَّى الثُّمالةِ

أنا بوحُ القصيدةِ

فالتهمي حُروفي ومنها أبداً

لا تَشبَعي

*

يُخجِلُني أنَّ ما تبقى منِّي

لا يروي

ظمأَ السِنينِ العُجافِ

يُخجِلُني أنَّ ما تبقَّى مِني

هو قليلٌ من الفَرحِ

وهضابٌ من الأحزانِ

أوقدي من جَذوةِ التَّوقِ

سيجارتَكِ الأخيرة

وانفثي دُخانَ غيابكِ

فوق رُوحي المُنهَكةِ

أنا حَطبُ الأيامِ الغابرةِ

أنا رَمادُ النِّسيانِ

الَّذي تَبقَّى

بعد مُوسمِ حَصَادِ الغيابِ

*

في عينيك اشتياقُ النَّحلِ

لتقبيلِ وردةٍ

وبوحُ العنادلِ

لشجرةِ التُّوتِ العتيقةِ

لماذا عندما تأتين لستِ أنتِ؟

تأتينَ مثلَ العنقاءِ

تأتينَ كما انبثاقُ الرَّبيعِ

واِنبلاجِ الصُّبحِ

مثل عناقيدِ الَّلهفةِ

مثل طَعمِ الفَرحَةِ

في عيونٍ دامِعةٍ

تتلألأُ بالنُّجومِ

وتسبحُ في حبَّاتِ المَطرِ

*

عندما تأتينَ لَستِ أنتِ

الَّتي كُنتِ في أخرِ مَرَّةٍ

في كُلِّ مساءٍ تُصبحين أجملَ

تصيرين أنقى

مِن غيرِ أقنعةٍ

مِن غيرِ وجوهٍ

غير وجهِكِ الأوَّل...

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

لامست أشعة الشمس زجاج نافذتها في الدور الثالث. فتحت عينيها. ها هو الصباح يلوح شابًا طريّ العود غضّ الاهاب. تحرّكت في سريرها. اغرتها نعومة شرشفها بملامسته. لقد حرصت منذ انتقالها للإقامة في نوف هجليل، قبل ثلاثة أعوام، على استبدال شرشفها قُبيل استلقائها وإغماض عينيها كلّ مساء تقريبًا. هي لا تذكر أنها خرقت هذه العادة، إذ أنها رهنت بها سعادتها المنتظرة. منذ اليوم الأول لانتقالها هذا قالت لنفسها " سأغيّر الشرشف.. ربّما تغيّر حظي". اغمضت عينيها.. كانت أشعّة شمس الصباح تبعث فيها الحياة المُغادرة منذ تركت بيتها في الناصرة وجاءت للإقامة هنا بحثا عن الهدوء والاستقرار.. بعيدًا عمّن ينغّص عليها حياتها، بما فيه بناتها المشغولات الثلاث وابنها .. وحيدها العاقّ. لقد حاولت أن تتقرّب منهم جميعًا فتردّدت عليهم في بيوتهم ضمن زيارات.. تعمّدت أن تجعلها قصيرة.. كي لا يملّها أحد منهم. في البداية رحّب أبناؤها بها واستقبلوها أحلى استقبال، لا سيّما عندما كانت تستخرج ما انتوت إهداءه لهم من الأوراق النقدية. هي ما تزال تذكر تلك المرأة الثقيلة عندما تناقشت معها حول محبّة الأبناء لأهاليهم، وما تزال تذكر جيّدًا عندما امتدحت هي ذاتها أبناءها وانتقدت محدثتها في المقابل .. ابناءها. هي امتدحت لحُسن الاستقبال، ومَن قُبالتها انتقدت لسوئه.. وكان لا بدّ من إجراء الرهان بين الاثنتين. الرهان قضى بأن تتوقّف حضرتها عن إهداء أبناءها. ابنها الوحيد وبناتها الثلاث الأوراق النقدية الجديدة خلنج. لترى ماذا سيحصل فيما بعد. للأسف الشديد خسرت هي الرهان. وكان لا بُدّ لها من ان تلحق مَن راهنتها في مسارب الوحدة وبيوت العناكب المُعرّشة. غير أنها لم تتمكن من مرافقتها طوال الوقت، فقد لمست فيها نوعًا غريبًا من القسوة.. حاولت تبريره بما اتصفت به تلك المرأة من تفكير واقعي..، غير أنها عندما اكتوت بنار ذلك التفكير، انصرفت عنها غير آبهة. يومها قالت لنفسها الوحدة خير من مرافقة مَن يتسبّب لك بالمضايقة. وعادت إلى بيتها لتنام على سريرها وشرشفها المغسول جيدًا.

شعور طاغٍ بمحبّة الحياة، في ذروة مشوارها الحياتي، بعد انفصالها عن زوجها، الشيخ المُرهَق والمُرهِق، وفشلها فيما سبق وراهنت عليه، داعب مُخيّلتها.. ربّما كان ذلك بسبب ملامسة أشعة الشمس الدافئة في يوم خريفي من أيام تشرين الأول. في الامس استمعت إلى أخبار مناوشات حدودية.. أثارها ذلك. غير أنها لم تهتم به كثيرًا. أما الآن في هذا الصباح المُشعّ، فقد خطر لها أن تستمع إلى الاخبار. مدّت يدها إلى ترانزستورها الصغير، لتفاجأ بأخبار غير متوقعة، ها هي تستمع جيّدًا.. الحرب في حالة تصاعد. والمسؤولون يطلبون من السكان التزوّد بالمواد الغذائية الكافية مدة أسبوع على الأقل. الأوضاع آخذة بالتأزّم إذًا.. فماذا عليك أن تفعلي؟ انهضي يا امرأة.. انهضي وتوجّهي إلى المُجمّع التجاري.. لتشتري ما نصح به الاعلام الرسمي. صحيح أن تجارب سابقة اثبتت أنه لا أهمية لمثل تلك التوجيهات في فترة الحرب.. لكن صحيح أيضًا "أن مَن احترص ما انقرص".

بعد أن قامت بطقوسها اليومية الصباحية من دخول الحمام. الاستحمام. تناول حبة أبو كادو. الوقوف في النافذة المُطلّة على الشارع المُشجّر الوحيد. توجّهت نحو باب شقتها.. فتحت الباب.. أغلقته وراءها ونزلت الدرجات بسرعة غير عادية. استقبلها الشارع على غير عادته بنوع من الحركة. ذلك كان واحدًا من أيام قليلة ترى فيها حركة في الشارع. كان جميع من رأته من الجيران يتوجّه على الاغلب إلى المجمع التجاري في الطرف الآخر من النوف. جرى الجميع وجرت هي معهم انتقلوا جميعًا من شارع إلى آخر. بعضهم توقف في المحطّة القريبة.. استقلّ الحافلة العامة. هي فضّلت أن تقوم اليوم بما لم يقم به الكثيرون. ستنطلق راجلة على قدميها. ستُمتّع أنظارها بما حفلت به حفاف الشوارع من أشجار وورد. وانطلقت سائرة على قدميها القويتين الثابتتين.

استوقفها في أحد مقاطع شارعها الطويل، تحت شجرة منزوية هناك في أحد الأركان منظر غير متوقّع. فتحت عينيها وأغمضتهما. إنها ترى تلك المرأة الما تتسمّى، مُراهنتها وهادمة عُشّ أحلامها، تقف هناك بكامل روائها وبهائها. لماذا لا تنطلق تلك نحو المُجمّع التجاري، اسوة بسواها ممن أرادوا درء معانيات الحرب. ما الذي جعلها تقف هناك في ذلك الموضع الخفيّ من الشارع؟.. هي لا بدّ أن تعرف، وتسلّلت عبر شارع جانبي، ضمن محاولة سخيفة.. هي ذاتها تعرفها أكثر من غيرها، لمفاجأة تلك المُراهنة الفظّة. هي لا بدّ أن تعرف ما الذي دفعها لأن تقف هناك وما سرّ تجمّلها وفوح عطرها في كلّ مكان.. خطت خطوة وأخرى باتجاه تلك الواقفة هناك .. تحت تلك الشجرة الوارفة. متعمّدة الا تراها قرينتها تلك. وقبل ان يظهرها المنعطف الخفي. فوجئت بما لم تكن تتوقّعه من تلك الواقفة مثلها على حافة السبعين. ما فوجئت به كان اغرب من الغرابة. شاهدت تلك المرأة ترسل ابتسامة نحو أقصى الشارع.. ابتسامة صبيّة في العشرين.. وفي المقابل شاهدت شابًا معافى مهندم الثياب، يجرى نحوها.. فيما هي تتحفّز لالتقاطه بين يديها المفتوحتين على وسع الحياة.

ما شاهدته من موقعها الخفي ذاك جعلها ترتدّ على عقبيها.. وتبتعد عن ذلك المنظر غير المتوقّع.. مفكرة في تلك القرينة الشبيهة بها في كلّ شيء إلا في أمرين اثنين لا ثالث لهما.. واقعيتها.. وذاك المنظر المثير... لذا لم تجد أمامها من بُدّ للانطلاق في الشارع ذاته على غير هدي.. حاملة في عينيها الجميلتين رغم مضي الزمن المفاجئ، صورة لذاك اللقاء الحميم بين قرينتها المسنة وذاك الشاب المهندم المعافى.. في انطلاقتها تلك استولى عليها ذلك المنظر مُنسيًا إياها أخبار الحرب وانطلاق صفارات الإنذار.. بل ما وجّهه المسؤولون للسكان مجتمعين من أهمية التزوّد بالمواد الغذائية استعدادا لتصاعد الأوضاع.. ها هي تتوقّف على دوي صفارة الإنذار مُعلنةً التصاعد غير المسبوق للحرب.. وكان لا بُدّ لها من الجري في الشارع فيما يطرق باب خاطرها سؤال ومشهد.. السؤال إلى أين ستذهب.. والمشهد شاب معافى وحَسن الهندام.. يقترب منها و.. تبتعد عنه.. شدّت على ما تبقّى في فمها من اسنان قائلة لنفسها.. لقد بدأت الحرب..

***

قصة: ناجي ظاهر

أنا خطّاء

ليس هناكَ من يرجمُني

في جزيرةِ شياطينَ وأحجار،

يمضونَ أيّامهم

في حربِ رجمٍ لا تنتهي

يبحثونَ عنّي

وأنا بينهم

أقهقهُ

يصمتونَ ويلتفتون،

وحين يغرقُ صدى القهقهات،

يعودونَ إلى حروبهم.

2

أتطهّرُ بحجرٍ،

ليزدادَ اختفائي

أنامُ كثيراً على وسادةِ ضميري الناصع،

وأصحو قليلاً مشغّلاً لماكينةِ مهنتي الجديدة،

صناعةُ الحجرِ الأسود

وتدويرُ القهقهات،

الكلُّ يبحثونَ عنّي،

وأنا بينَهم أغنِّي وأحبُّ وألعب،

فيما هم يزمجرونَ كارهينَ متجهّمين،

مناماتُهم كوابيس،

ومنامتي فجريَّةُ اللون.

3

إتّحدوا على رجمِ أصداءِ أغنياتي

فارتدّتْ عليهُم سخرياتٍ صفراء،

عَزَموا على مغادرةِ الجزيرة،

فشكّلتُ أسماك النقاءِ جداراً ساحلياً

يصدُّهم عن الهزيمة.

4

أوعزتُ لترابِ الجزيرةِ،

أن يغرزَ أقدامَهم

كي يصبحوا تماثيلَ رجمهمِ الأزلي

جاءَ الأولاد،

وصنعوا منهم لعبةَ الخطّائين،

الذين لا يكفّونَ عن الرجمِ

ولا يملّونَ من مباراةِ الأخطاء،

صانعُها الأمهرُ ملاكٌ خفي،

مصنوعٌ رداؤهُ من حليبٍ أزرق،

ويشعُّ رأسُه بشجرةِ الإيمان،

وتغرسُ أقدامهُ بذورَ الملائكة.

ولكن ها هو يفزُّ من نومهِ

على وقعِ كلماتٍ تَرجُمُ

مسلسلَ حياتهِ الطويلِ الأخطاء.

***

شعر: باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

رواية مهجريّة قصيرة

قد تبدو حكاية الرجل الطفل أو الطفل الرجل غريبة إلى حدّ ما

وربّما يكون هناك خطأ ما

في التشخيص، في العلاج الذي لم يكن له من داع

أمّا البداية فقد حدثت هناك بعيدا على الأرض التي اضطربت منذ بدء الخليقة ومازالت تضطرب إلى الآن.أرض تعج ببشر متباين وألوان شتى وأفكار وأزياء مختلفة تسع العالم كلّه.

فثمّة

السجلات القديمة تثبت أنّ مايعيشه الرجل الطفل والطفل الرجل من كوابيس هي ليست مصادفة.. شهادة ميلاده التي قرأها الإنكليز خطأ صحيحة مائة بالمائة، فقد ولد عام (1988) في العراق مدينة كركوك.. ولم يكن كاذبا في ادعائه..  غالبيّة الذين جاءووا إلى بريطانيا لجؤوا إلى الكذب، لقد كان صريحا للغاية.لا يخجل من أيّ شئ.. أيمن سردار

هذا هو اسمه

والده الدكتور (سردار عبد الرحمن كردي) اشتغل في قصر صدام حسين.. عمل طبيبا في كلية صدام والقصر الجمهوري، لم يكن مرغما فما ذلك إلا لأن الأب الطبيب الحاذق ينتسب لعشيرة كردية تُعْرَفُ بولائها لحكومة بغداد

ليسمها أغلبية الكرد ماشاؤوا..

انتهازية

خيانة

 (أيمن) نفسه عاش معظم حياته في بغداد، في العطل يرافق أمه إلى بيتهم في كركوك، وخلال عطلات المدرسة.كان يذهب إلى مدرسة خاصة تؤوي أبناء الذوات ملحقة بالمشفى حيث يعمل والده، ولكونه الابن الأصغر بعد ثلاث أخوات فإنّ والده الطبيب المشهور يحلم أن يصبح ابنه الوحيد طبيبا مثله .. يرث مهنته على الرغم من أنّه سمعه ذات يوم يسرّ أمّه أنه يحيل إلى الخارج للعلاج أي مريض من أهل تكريت أو عشيرة الرئيس وإن كان ما يشفيه من جراحة سهلا يسيرا خشية من التبعات..

كان الطفل الرجل يفرح حين يسافر مع أمّه وأخواته إلى كركوك في العطل.. فيسمع حكايات تتكرّر على مسامعه. عن الدببة التي تعيش في التلال والأساطير التي تخص عيون المياه.لم تكن تلك الأساطير والحكايات الغريبة مفاجأة له، بقدر ما بدا سِنّهُ مفاجئا له، حيث أدرك، وهو في مرحلة الابتدائية والثانوية من تلاميذ المدرسة زملائه، أنّه يبدو أكبر من عمره، يشعر أنّه رجل، في الوقت نفسه وجد في زمن الحصار كلّ شئ يخطر بباله، الموز الذي لايراود الناس في الأحلام، والتفاح، والشوكولاته وجدها في المدرسة، قد تكون بأذهان الناس خرافة مثلما تختلق أذهانهم خرافات عن حيوانات مركّبة غريبة.

مدرسة القصر

مدرسة الرئيس

حلم أبوه أن يتخرج ابنه فيها ليصبح طبيبا مشهورا مثله، ولم يستمرّ الحلم طويلا كأنّ الحياة تأبي أن تبقى على نمط واحد، من كان يصدّق أن الدولة العاتية القويّة التي بسطت يدها على الجميع تتلخّص بدقائق محدودة

تنهار

أنت وحدك الطفل الكبير والكبير الطفل الذي جئت بعد أربع أخوات وكنت في زمن شحيح على الناس بالخبز والعدس تأكل الموز والتفّاح حتى أخذ كل شئ ينهار في دقائق فيصبح والدك المتهم بالعمالة للنظام صريعا على يد إحدى التنظيمات الشيعيّة، وزوج أختك الكردي يسقط برصاص تنظيم خفيّ والتهمة نفسها.

قد تكون هي الخرافة وحدها

فهاهو يبدو أكبر من عمره، وحين يسافر إلى كركوك، في عطلتي الربيع والصيف يسمع عن أساطير الشمال.. كركوك لنا نحن الأكراد.. وجانبه العربي يقول ولنا نحن العرب .. ليذهب التركمان إلى الجحيم.زمثلما هجّر السيد الرفيق بعض المشبوهين إلى إيران يمكن أن يطرد التركمان إلى تركيا.. في نفسه تلك الرغبة، والخرافة التي ورثها عن السلاسل الجبلية تؤيّده

ربمّا..

وهؤلاء الذين لايعرفون الرحمة بل الزّهو اختلفوا في الطفل الرجل واالرجل الطفل الأكراد يعدّونه عربيّا والعرب يرونه كرديّا، أمّا أصعب اللحظات التي عاشها فهي يوم قتلوا صهره زوج أخته الكبرى.. ساعةً حرجة .. مجرد أن أطلّ برأسه من الباب .انطلقت نحوه رصاصة نثرت مخّه،، اختفى القتلة، بعد أن رموا عند عتبة الباب حيث الدم ورقة كتبوا عليها القتل جزاء عملاء العرب.. الموت لعملاء العرب.. بعدها بيومين، جاءت رصاصة لصدر أبيه من قاتل يصرخ نحن الشيعة .. الموت لخدام صدّام

لكن

مع ذلك

مع كونه شبيها بالأسطورة خاف ..

الرعب..

تراجعت القهقرى، عشت أغلب حياتك في منطقة عربية تتحدث اللغة الغربية بطلاقة، وتتلكؤ .. تتعثر في لغة أبويك، حتى إنّك عندما جئت إلى بريطانيا ملأت طلبك بالعربيّة..

خطأ فادح لاشك.. فكلّ ما حوله يكاد الآن ينكره.. قبلها، وهي مقدمات كانت خافية عنه، فجأة شعرت بضيق في التنفّس.الدنيا لاتسع.لا يكاد يطيق الهواء.سأل نفسي هل هي موجة ربو؟ لم أكن يعاني من قبل أيّ مرض في الرئتين، البرد نفسه تعود عليه وهوصغير.. عاش في منطقة أكثر برودة ولا مشاكل عنده في التنفّس..  غير أن الوضع الجديد المفاجئ غيّر كل شئ في حياتي وجعلني أنبش الماضي ..

حتّى حين اغنالوا والده وقتها لم يهاجمه أيّ كابوس

الخوف

الرعب

من دون كابوس

المشكلة بدأت سهلة يسيرة، إحدى الليالي أوى إلى الفراش، بعد نهار عمل روتيني.. كنت طبّاخا في معمل لحلوى (التوفي) المدوّرة، و (النوغا) وهو عمل حصل عليه بعد أنّ شكّ فيه الجميع.. ظنّوه كبيرا ومازال طفلا..

القانون البريطاني يقول حين تصبح رجلا عليك أن تتخطى سنّ الحادية والعشرين.. الرجولة الكاملة، هذا يضحكه كثيرا، الآخرون مقتنعون أنّه فحل..  فحل تماما، مع ذلك يعرف نفسه تماما، ولا داعي أن يتكلّم بالتفصيل لكنّ القانون نفسه لم يقرّه طفلا.لا يصدقون أنّه في السادسة عشرة من عمره مثلما لا يصدّقون أنّ هناك ثقلا يجثم على صدره قبل ظهور السيدة (آيفي) وقبولها أن تتبنّى هذا الشاب الكبير السن الذي لايبدو طفلا.

لا يكذب حين يقول إنّه جاء إلى بريطانيا متسللا قبل ثلاث سنوات وحده من دون الرجل الكبير الذي اكتشفه الآخرون.. يحقّ له أن يضحك كثيرا .. الإنكليز مهما كانوا أذكياء فإنّهم يخطؤون.. وإن يظنّهم الآخرون ملائكة لايخطؤون في تقديراتهم..

من دون لَبْس

قبل أن تداهمه الكوابيس قبل عام وأكثر بقليل كان عمره ستة عشر عاما.هناك في العراق عاش.. بين بغداد وكركوك.. يفتخر أنّي كردي، ينتسب إلى عشيرة زيباري التي هواها مع عرب العراق، أبوه عمل في الطبابة الخاصة بالرئيس وكبار المسؤولين ..

في أوراق قدمها إلى السلطات البريطانيّة:ولد في كركوك أمّا معظم أيّامه فقد عاشها في يغداد مع العرب:

هذه ياسيدي المحقق نبذة عن حياتي.

الدكتور النفساني الذي ذهب إليه طلب منه أن يعيد قصة حياته، الوحيدة من دون هذا العالم الغامض التي سألته في الوقت المناسب هي السيدة (آيفي) .

قالت انس الماضي.أنت هنا تبدأ حياة جديدة:

والطبيب يقول تكلم معلومات لابدّ منه

حسنا هناك معلومات تخصّ الرجل الطفل أو الطفل الرجل، فقد تغيّر كلّ شئ، وانتهى عهد الدلال، تهاوى حلم أبيه في أن يصبح طبيبا يخلفه في مهنته، ففي أيام معدودة تغيّر الوضع تماما، فما كان عليهم إلا أن يرحلوا إلى كركوك.في بغداد استهدفت، كما يدعي، ميليشا شيعيه والده الطبيب الذي كان متعاونا مع الحكومة السابقة، ويكفي أنّه طبيب في القصر الجمهوري، وحين انتقلوا إلى كركوك استهدفت ميليشيا كرديّة صهره زوج أخته الكبيرة.كان الخوف يراوده بشكل لا مثيل له، وهو طفل في بغداد عاصر الغيلان والجن، والخرافات العربية منذ ولادته إلى أن كسر الامريكان الحصار واغتيل والده، وفي كركوك خلال إحدى العطل الصيفيّة تحدّثت التلال عن ولادته هو بالذات..  هناك نذر عليه أدّته أمّه في حينها وظنّت أنّها استوفت نذرها أمّا بقايا النذر الدأئريّة فظلّت عالقة بذمتعه هو..  غير لأنّ الأمّ نسيت أو تناست أن تخبره عن واجبه نحو النذر.. والواقع يقول .إنّها خافت بعد أن ولدت البنت الرابعة أن يتزوّج عليها زوجها الطبيب امرأة من أجل أن يولد له ذكر يرثه في المال والعلم، مهما يكن وعي الرجل ومنزلته سواء أكان من الجنوب أم الشّمال فإنّ فحولته ترفض أن يبقى أبا لبنات. الجنوب والشمال يدفعانه ليبحث عن وريث، في مثل هذه الظروف تحركت مدفوعة بأملٍ ورجاءٍ أم البنات السيدة (روشنا) فبدأت بالبخور والنذور والأولياء الصالحين، الولي الصدّيق حافظ القرآن (دلشاد محفوظ) دلّها على طريق الماء والجنّ الخيرين، هناك نبع صغير في مشارف كركوك على بعد مسافة يسيرة، ستجد عليه أم البنات أعلاما وبعض النساء العاقرات اللائي يأملن البركة والخصب.كان الشيخ (دلشاد محفوظ) عزيز النفس يزجي نصائحه للحائرين والحائرات يرفض أيّة هديّة، ولا يدلّ جميع من يطلب النصح والبركة على مكان واحد، هناك من تجد بغيتها في العين، وآخر يجد ضالته في مرقدٍ لوليّ عند الحدود، وآخر لا ينفعه إلّا أن يهاجر للجنوب فيقف هناك عند قبرٍ مهملٍ فيه عزاؤه، في حين يجد شخص ما حلّا لعقدته في البحث عن حقل بطنج أو زعفرانعند قمّة أحد التلال.المطالب شتّى وذوو الحاجات كُثْرٌ مختلفون، ومن حسن حظّ السيدة (روشنا) أنّ هناك نبعا صغيرا في أطراف مدينة كركوك تحفّه نباتات البطنج ذات الرائحة العطرة، في ذلك المكان الذي أشار إليه الشيخ مارست أمّ البنات طقوسها ..

على ماء النبع الجاري

وبين الأعلام الخضراء

مارست طقوسا لابدّ منها

خطت سبع مرّات فوق العين السائلة وهي تردد على بركة الله وباسم الله ليكن المولود ذكرا قال لها الشيخ سبع في سبع .. 49 وأربعين مرّة نسخاً لسموات الله السبع والأرضين فوق العين الجارية من أجل مولد ذكر مرتقب.

كي يولد الطفل الرجل أو الرجل الطفل

بعدها

تقطف من بطنج يحفّ بالعين حزمة تغلي منها كلّ يوم قبضة في الصباح على الريق .. ماؤها وحده لا تضيف عليه سكرا تكرعه حين تخفت حرارته دفعة واحدة

سبعة أيام هي وتحلّ البركة..

وعليها

مادامت حيّة أن تزور مقام العين كلّ عام..

ولم يكن قول الشيخ هراء

ولا تصرّف أمي عبثا

في العام نفسه حلت بركة السماء وحملت السيدة (روشنا) ، كان وزن المولود مذهلا، وزنه يفوق وزن أترابه المواليد الجدد، ولا مرض يعتريه، غير أن الأمّ التي كانت مذهولة بطفلها، وقد اطمئنت بعد قلق إلى أنّ زوجها الدكتور لن يفكّر بالزواج بعدما تقّق حلمه وإلاّ لكانت كارثة فربما كان يتقدّم إلى سيدة من عشيرة الرئيس أو عائلته الأقربين، من هؤلاء الذين يرسلهم إلى الخارج ليجروا أبسط العمليات هناك.. غير أنّها نسيت أن توفي بكامل نذرها.. كان عليها أن تذهب كل عام لتخطو الخطوات نفسها وتعيد العد ذاته وسط الأعلام الخضراء..

ففي السنوات القادمة بل هي أقلّ من بضعة أعوام تغيّر فيها كلّ شئ..

الطقوس انقطعت

والفوضى عمت

ما باليد حيلة ولم يكن هناك من تستشيره..

التلال التي تحيط بالمدينة من جانب الشرق، احتلها مقاتلون نظاميون، يسندون جيشا كبيرا اتجه نحو الحدود.. العين الصغيرة اختفت وقد تكون جفت، ولا أحد يقدر من الناس الآمنين والنساء الباحثات عن أمل، أن يصلوا المكان بل من يفكّر بالعين

شيخ الطريقة الناصح العفيف مات..

الخرافة نفسها ضرب عليها الزمن ستارا من النسيان

وتمتمت أم أيمن:سيأتي الوقت الذي تظهر فيه العين، ويظهر وريث الشيخ الزاهد، فأعرف منه ماعلي أن أفعله بشأن الذي يفوتني!

عندئذٍ انطلق لسانه، عن خوف وهو يرى مصرع أبيه وصهره:

- أمّي يا أمّ أيمن قررت الهجرة.

زوت مابين حاجبيها، وتساءلت بشبة اعتراض:

- الهجرة إلى أين.؟

كان يرى الحزن يخيم على العائلة جميعها والعار يلاحقها من عيون السلطة الجديدةفيزداد هاجسه بالخوف

- لا يهم إلى أين.. مع أني أفكر في بريطانيا.

بريطانيا؟

نعم لا صديق لنا لأنّ وظيفة أبي جعلت الجميع في هذه الظروف يعادينا، العرب يروننا عائلة خدمت الدكتاتور، والكرد يروننا جواسيس للعرب أنتن نساء لكنهم سوف يستهدفونني.

- لكنك ولدي الوحيد ومازلت صغيرا.

نعم هذا هو المطلوب عمري 16 عاما أنا طفل على وفق قانونهم ما لم أبلغ، هناك شباب عرب وكرد هاجروا فلم لا أفعل مثلهم .. لا أريد أن أموت .. وعندما أستقر أتدبر أمركن!

ولم يكن أمام السيدة (روشنا) إلا أن ترضخ لما تطلبه عصابات التهريب الكردية التي تزج بالشباب للهجرة.. ابنها الذي ولدته بملامح النذور منع من أن تكون لها ضرّة والآن عليها أن تحميه وتوافق على هجرته قبل أن تخطفه رصاصة فتفقده إلى الأبد..

لقد رضحت تماما لما كان يجب أن يكون!

وربما تكون هي الخرافة نفسها جاءت به إلى هذه الجزيرة البعيدة، فأصبجوا يشكّون فيه.لا أحد يريد أن يصدّق ولا يرغب في أن يكذب مثلما يفعل الآخرون.استقبلوه في معسكر الرجال مثلما يستقبلون أيّ لاجئ ثمّ تشككوا فيه وهو الرجل الذي يقول عن نفسه طفلا.خلال الأيام الأولى التقى في المعسكر بلاجئين مثله من العراق والصومال، وبعض المغاربة من الذين عبروا المانش.

كانوا فرحين بالعالم الجديد

يتلهف أي منهم إلى أن يقرأ في يوم ما اسمه على لوحة الإعلانات فيعرف أيّ يوم تُجرى له مقابلة كي مع الرجل الرسميّ، كان يحلس في الممر على كرسي خشبي ينتظر دوره وبجانبه فتاة في الثلاثين سوداء كالحة السواد يبدو أنها إفريقية أو من الكاريبي.التفتت إليه تسأءل بلغة إنكليزية ذات لكنة محببة:

- أنت أوروبي؟.

كان يرى بعينيها بعض الفضول:

- أنا ؟من أيّ بلدٍ تظنين.

- بلغاريا.. المجر..

- على أيّ أساس تعتقدين أنّي أوروبّي؟

- شكلك أشقر أبيض ومن يرك يظنك تعمل في الصليب.

- أبدا أنا من العراق!

قالت بلهجة عربيّة ثقيلة:

يعني تتكلم العربية.

نعم.. أنا عراقي أسمي (أيمن) ولا أعرف إلا العربية والإنكليزية وبعض المعلومات البسيطة عن الكردية وأنت؟

- (نوررو)

- من أين؟أثيوبيا؟

- من الصومال.

تشرفنا!

وقطع عليهما الحديث موظف أطلّ من إحدى غرف الممر الطويل نادى باسمه فاعتذر منها بأدب وتمنّى لها حظّاّ سعيدا، استقبله صاحب ملفّه مرحِّبا، وبسط يده نحو كرسي أمام الطاولة، فجلس، والرجل يطيل النظر إليه ثمّ انكشفت الدهشة عن قسماته:

- (أيمن) اسمي هنري .. كُلّفت بمتابعة قضيتك هل هذا كل ماتملكه من أوراق؟

- نعم ياسيدي قدمت لكم جواز السفر استخرجه لي أبي زمن النظام السابق، والجنسية وشهادة الجنسية، وأصرّ على أنّها صحيحة.

- يعني ليس هناك من وثيقة مزوّرة.

- أبدا .

سأل السيد هنري بعينين ثاقبتين ووجهٍ يكاد يخلو من الملامح:

- واثق أنت من كلامك؟

نعم بكل تأكيد .. أنا كردي أبي ناصر النظام السابق، الشيعة قتلوه، والأكراد قتلوا زوج شقيقتي، فهربت خوفا من الانتقام لديكم في الوثائق أنّ أبي كان طبيب القصر، كنت في أرقى المدارس وكان أبي يحلم أن أصبح طبيبا فأكمل مشواره.

- كل ذلك صحيح لكن بغض النظر عن الوثائق هناك نقطة حساسة عندنا نحن الشرطة وعند الأطباء تحتاج إلى بعض الوقت.

- لكنكم لاترحلون الأطفال والقانون يعامل من تحت العشرين طفلا أليس كذلك؟

- صحيح لكن المشكلة في شكلك تبدو في سنّ الخامسة والعشرين.. جسمك وقسمات وجهك..

فانتفض صائحا:

- غير معقول هذه تهمة تلاحقني أينما ذهبت!

- هدأ قليلا .. ستبقى في معسكر اللاجئين ليتم عرضك على لجنة طبية تقرر إن كنت تحت سن العشرين ويمكن أن تستأنف .. مرة وأخرى لاتخف.. لن نرحلك إلى بلاد القتل.

ردّ برجاء لا يخلو من توسّل:

- ياسيدي قد يطول الوقت ويتضخم ملفي فهل أبقى أعيش في المعسكر؟

- لا أدري كم يقتضي الوقت حتى يُبَتَّ في قضيّتك مع ذلك يمكنك أن تحصل على استثناء للعمل الجزئيّ، القضية تحتاج إلى بعض الوقت.

ثمّ

خرج من الغرفة حيث الدهشة والحيرة ترتسمان على وجهه، طفل رجل أكبر من عمره بعشر سنوات.. يعيش في مجتمع خاص، وفي مدرسة خاصة، طفل بامتيازات رجل، هل يذكر أنّه لعب مع أقرانه الأطفالمنذ كان في الروضة، والمدرسة الابتدائيّة، حدائق القصر والمدرسة الخاصة مليئة بالمراجيح وألعاب الأطفال، يزهو والده أنّ ابنه وُلِدَ بشكل مذهل، وزنه كبير وجسده ضخم، ولولا مهارة اللجنة الطبية لاحتاجت السيدة (روشنا) إلى عمليّة قيصريّة.. هل ترى هو النبع الذي جعله يسبق زمنه بعشر سنوات؟

حين وصل نهاية الممر سمع بابا ينفرج، التفت فرآى (نوررو) فتباطأ لحظات حتّى حفّت به، فتوقفت واتسعت ابتسامتها له:

- وجهك يتهلل بالبشرى؟

- أوراقي سليمة سأنتظر الإقامة!

- مبارك؟

شكرا لك ماذا عنك؟

قيد الدراسة..

إن شاء الله تحصل عليها بأسرع وقت يارب!.

صمت

دهشة

لايريد أن يفضح نفسه أمامها.. ليست مثل زملائه التلاميذ تعرف عمره، فتراه كبيرا وتعرفه صغيرا، ستة عشر عاما.يرى في عينيها شيئا ولو عرفت حقيقته لتحاشت اللعب معه لا لأنّه كبير، عكس ما حدث له في الروضة أو الابتدائيّة والثانوية التي كاد ينهيها فيما لو جرت الأمور على ما هي عليه، فيحصل على درجة عالية ليدخل كلية الطب.

رغبته تتعالى في أن يخفي كل الحقيقة..

ويمزّق كلّ شئ

رغبة

جموح

ليست هناك من رائحة عطر مثيرة يستافها تخفي رائحة جسدها الشبيهة برائحة العرق الحامض.

يضحك..

هل يفتتح فحولته معها، التقاها مرات في باحة المعسكر، نظرت إليه نظرات ذات معنى، حركت فيه أحاسيس غامضة، وحين تحدث معها في الممرّ لم يستفْ منها رائحة صنان كريهة.

هناك رائحة غريبة.

يضحك

ليست عنصرية

ولا باراثايد

أمّه تناقلت مع أبيه باللغة الكردية نكتة سمعتها من صديقاتها عن عضو قيادة قطرية سوداني كان يستحم صباح كلّ يوم بالحليب كي يطرد رائحة كريهة تنبعث من جسده.هكذا أشيع عنه.هناك رائحة تنبعث من جسدها أشبه برائحة البخور وأقرب للخشب المحروق، مهما يكن فالصوماليّة (نوررو) تبدي اهتمامها به، وبمناسبة حيازتها الإقامة دعته لتناول الآيس كريم والمعجنات في كافتريا (كافكس) سألها وهو يتطلع في عينيها:

هل ضايقتك المليشيات في الصومال فدفعك الوضع للهجرة؟

عضَّتْ على شفتها اليسرى، وقالت بغنج:

أبدا ليس بسبب الحجاب الذي يفرضه الإسلاميون، ولا الفوضى، هربت لأن أهلي فرضوا عليّ الختان.

خمّن الآن الطفل الرجل السبب في منحها الإقامة دون تأخير.. الإنكليز وفلسفتهم.. ، وقد سمع عن ختان النساء، وشمّ رائحته في بعض مناطق كردستان، قطع البظر، أليس كذلك، وخرج عن تساؤله الصامت، وعادت إليه سذاجة الطفل:

هل جميع النساء يختن؟

معظم العائلات يعدّون العمل سنة محببة.. معظم إفريقيا..

الحمد لله أنك وصلت إلى هنا..

كان عليّ أن أخضع لتلك المراسم في سن الثانية عشرة لكن سوء الأوضاع..  والقتال، ومرض أمّي أجّل المراسيم حّتى بدا إخوتي ومعهم زوجاتهم يتذمّرون (وخرجت عن حماسها قليلا، فسألته)

- أليس عندكم مثلنا؟

- أظنه ذلك في المشرق نادرا ربما في السعوديّة لكن أخبريني ماذا يحدث لو لم تفعلي؟

- يعدون التي لا تفعل شؤما متمرّدة ..

بحث عن أيّة كلمة:

- لا أدري.. جنون..

وقالت قبل أن يغادرا:

- خلال يومين تجد البلدية سكنا لي .أظنه بانسيون.هل تساعدني في شراء الأثاث ونقله؟

.- بكلّ سرور

لعلها ترمز إلى معنى آخر، وهو في فورة الشبق، ليست هناك من رائحة كريهة تبعده عنها، ربّما أخفتها بطريقة ما.. إفريقية خالصة تفصح رغبتها عنها، أشقر.. مثير .زفي عنفوان رغبته، قد تكون أشبه بلعبة الأطفال.. في الصف الثالث ظنّه أحد الطلّاب الجدد مدرسا، ولم يجرؤ أي من رفاقه التلاميذ أن يدعوه للعب معه خشية من أن تثار بعض الأقاويل.

فليحتفظ بالسرّ.

في السابعة عشرة من عمرها، ومن حسن حظها أنها هربت ليكن كذلك وليكذب عليها .ليضفي على نفسه عمرا أكبر.. فهناك لعبة جديدة يمكن أن يمارسها بعطر إفريفيّ يفوح رغبة وعطرا لا يقرف منه.

بعد يومين من لقائه (نوررو) استدعاه موظف الصليب وزوّده بأجرة نقل ومعها عنوان المشفى الملكي، فصعد سلالم ودخل مختبرات.. كشفوا عن عورته، وفتحوا فمه يعدّون أسنانه، مرروا أجهزة على جسده وعضوه التناسلي..

التقرير الطبي نفسه غالط الحقيقة في البدء

عمرك 21 عاما

هكذا ورد التقرير إلى إدارة الإقامة والشرطة ومكتب اللاجئين الذي يقيم فيه.

ووقف أمام القضاء هذه المرّة لم يكتفوا بإنكليزيته التي يخاطب بها الشرطة والصليب اللغة التي تعلمها في مدارس القصر الراقية، أحضروا له مترجما .. كردي يتحدث اللغة العربية أفضل بكثير من لغته الأمّ، لم يخبر أحدا أنّه كردي.. كان الجميع يظنونه عربيا ومن لا يسمعه يتحدّث العربيّة يراه قادما من شرق أوروبا.مثلما كان في المدرسة يتحاشى اللعب مع أقرانه الصغار، تفادى هنا الحديث.. نفسها (نوررو) أخفى عنها عمره وعرقه.. والقاضي يتطلّع فيه ويعلن عن تأجيل الحكم..

وقد عاد إلى مركز الصليب، ليطلب منهم أن يمنحوه تصريحا يمنحه حقّ البحث عن عن عمل..

ولا يدري أهي ثغرات القانون البريطاني أم شفقة الموظفة إذ سرعان ما دلته على وكالة ترغب في عمال، وقد آوته الوكالة..

معمل البطاريات

هي المرة الأولى التي يمارس العمل فيه

في سن السادسة عشرة تملأ جيبه النقود..

سيحدث نورو عن عمله الجديد..

لا شكّ أنّه تململ بعض التململ من جلوسه المبكر الساعة الرابعة ثم يقطع الطريق من مركز الصليب إلى الوكالة فيجد حشدا من الرجال والنساء الأجانب .. بولندا .. بلغاريا.. لاتفيا.. أكراد .. سودانيون.. بريطانيا عالم مصغر ينفتح عليه بشكل آخر

لا يراه طفلا..

رجل يلتقط البطاريات الصغيرة من على مسطبة تتحرك باتجاه أنامله فيعبؤها بكيس ثم يضعها على مسطبة أخرى، يحصد بعض النقود، يضيفها إلى منحة الصليب، وفي يوم آخر تبعثه الوكالة إلى معمل أجبان..  يحرّك مع آخرين وآخريات الرغوة، في حوض كبير، ويشتم رائحة كريهة، يتهامس كرديان بلغتهما أنها رائحة كريهة، أيّ جبن هذا، فيردّ الكردي الآخر، كيف يأكلون هذه العفونة.. آه ياجبن كردستان ولبن أربيل، أهذا جبن أم جيفة.. يبتسم أحدهما بوجهه، ويسأله:

Which country are you from؟

يردّ بالعربيّة:

من بغداد

يتساءل الآخر:

عملك هنا دائم؟

يردّ بملل

Part time

ويسكت..

وخلال عطلة نهاية الأسبوع التقى (نوررو) التي لملمت أشياءها لتغادر مقرّ الصليب إلى عنوانها الجديد في (هايسن كرين) ، فاقترح عليها أن يرافقها ثمّ يذهبان لشراء بعض السلع الضروريّة، كانت (نوررو) ترغب في أن تبتاع كل لوازم الجناح الذي سكنته في الطابق العلوي من محل شرقي يتاجر بالقدبم كي توفّر بعض النقود إلى أن تعثر على عمل ما..

ولم يكن المحل الشرقي بعيدا عن مكان سكنها..

ابتاعت معظم ماترغب فيه من أثاث وطبّاخ كهربائي صغير ذي عبنين، والتفت إليه وهي تقول:

- مارأيك أن تتغدى عندي غدا..

اغتنمها فرصة:

- شكرا لك لكن

راوده خيال أنّ الدعوة لا تخلو من معنى، كان عليه منذ البداية أنّه ليس مراهقا، رجل خبير بطيّات الأمور:

- سأعمل لك أكلة صوماليّة.

راحت الساعات تنبسط أمامه، راودته نشوة، هي المرّة الأولى التي ينفرد بها بامرأة، وقد حمل لها باقة ورد وقصد بيتها مبكرا.. الساعة العاشرة كأنّه يتعجل اللقاء.هناك مسحة من الذوق والنظام في ترتيبها البانسيون نسي الرائحة القديمة، ووضع الورد بين يديها، وقال مجاملا:

- ذوقك رفيع

- شكرا

بقيت كفّه في كفّها، واجتاحته رعدة خفيفة، عالم يراه جميلا من خلال قشعريرة في كتفيه، فتركت الورد على المنضدة الصغيرة، واتجهت به إلى خانة المطبخ:

- اشتم رائحة الطعام المعطّرة بالبهارات !

ماهذا؟

- عملت لك رزا باللحمة أكلة صومالية (وأضافت بخليط من العربية والإنكليزية) رايز بالبهار والزعفران نضيف إليه الخضار، وضع يده على كتفها:

يبدو من رائحته أنّه لذيذ

- هل أعمل لك قهوة أم شايا؟

- شاي لو سمحت!

أزاحت يده عن كتفها برفق، واقصدت الطبّاخ بقيا لحظات بين الصمت والتطلع في الجدران وسقف المطبخ الصغير الذي يفصله ستار خفيف عن صالة الاستقبال.

لاتقلق الطعام على نار هادئة جدا جدا..

وعادا إلى الصالة.. ينعمان بقدحي شاي، وقال وهو يلتصق بها:

ذوقك رفيع الأشياء القديمة تنفعنا إذا ماعرفنا أن نرتبها على الأقل توفر علينا كثيرا من النقود.

أنا لا أهتم للنقود أريد أن أعيش لكن علي أن أقتصد حتى أعثر على عمل.

فالتصق بها أكثر وقد فقد الزمام على مشاعره زاده هيجانا أنّه تحسس عمره من جديد.. أنت في السادسة عشرة.. لا تصدّق الإنكليز مثلما صدّقت أصدقاءك الصغار في المدرسة.. جسدك كلّه يلتهب..

التصق أكثر

جسده احتك بها

وطغت رائحة البهار والرز على راحة امرأة سوداء خيمت في ذاكرته طويلا، فاحتظنها على الأريكة..

التقت الشفاة بقبلة طويلة

ثمّ

ترنحا إلى غرفة النوم..

كان كلّ شئ يرتعش ويتهدّج

الفراش

السرير

صوته

آهاتها..

تقطع ظهره بفخذيها

وتسترخي..

يستلفيان على ظهريهما رأسها على ذراعه اليسرى، وساعدها على جبينها.

لايهمه أيّ شئ.. ولا يعنى بماض لا يعرفه لكنّ الفضول يدفعه لاقتحام شئ مبهم:

هل كان زوجك متفقا مع أهلك في قضية الختان.

أنا لست متزوجة..  (رفعت يدها عن جبينها) آه لم تجدني عذراء.. لا تستغرب أنا فعلته عمدا بأصبعي .. وهناك مثلي من يفعلن ذلك!

معقول

طبعا من باب التحدي

فضمّها بشراسة وعاود التقبيل

حصان جامح.. امرأة متمردة

قوّة رهيبة

فعلها أكثر من مرة.. كانت تصرخ وتتأوه وتقبض عليه بكلتا يديها ورجليها.. تتشبّث به.. ثلاث مرات أو أربع. يتباهى مع نفسه.. يثبت أنّه رجل في طفل.. طفل رجل وحين سكنت بين يديه قالت بغنج:

ألا نتغدّى

مثلما ترغبين..

حياة مختلفة تماما

أوّل لقاء له مع فتاة سوداء تظنه رجلا

ومعها يرى نفسه ولو من باب الزّهو رجلا

على مائدة الطعام قالت له:

مارأيك أن تأتي هنا تبيت عندي بعد أن تفرغ من الشغل .

فراوغ قليلا:

مارأيك أن تعملي عملا مؤقتا معي عن طريق وكالات التشغيل حتى تجدي عملا دائما.

أفضل أن أبحث عن عمل دائم..

كان يحسب حساب المبيت عندها.. ربما يمثّل له راحة أكثر لكن معسكر اللاجئين الذي يبدو غير مريح قريب من مركز المدينة على بعد خطوات من كل مكاتب التشغيل تتعامل مع العمالة المؤقتة، وتنقلهم إلى المعامل، ولو سكن معها لاضطر أن يمشي تحت المطر والبرد فأيّة ساعة يصحو قبل الفجر ليكون في حافلة العمل الساعة الخامسة.لا يهم.القوة والشباب.المراهقة واللهفة .. ثلاث مرات ومازالت لفيه جذوة.. :

على فكرة أمس انتهى عملنا في معمل البطاريات، وسنبدأ غدا كما وعدتنا الوكالة في معمل البيتزا!

فقالت وهي تدس في فمه لقمة من رز ولحم يتلألؤ بالزيت:

البيت بيتك أي وقت ترغب تعال.

كانت الأمور تسير لعينيه سهلة يسيرة، وبدت الحياة مع (نوررو) غير معقّدة.. ابتاعت هاتفا نقالا تركت رقمها عند أيّ مكان تزوره تسأل فيه عن عمل، المعامل، والمدارس الشرقية، ورياض الأطفال، وابتاع هاتفا يساعده على الاتصال بها، وفضّل أن يبقى عندها ليلتي نهاية الأسبوع والليالي التي يعرف أن لا عمل يعقبها فيظلّ نائما إلى الصباح .

لا رائحة قطّ تبعده عنها

كانا يخرجان معا

يتنزهان في حدائق فورست فيلد

أو

يهبطان ماشيين إلى وسط المدينة

أحسّ أنّه قريب منها

واحتفظ بسرّ طفولته لنفسه

وقد مرّ الشهر الأول..

انتظر قرار البتّ في عمره.. الزمن الذي يعيشه لا الذي يراه الآخرون

Age assessment

ماذا لوخانه القرار، وقد رؤوا أعضاءه وفحصوا كلّ جسده

لم تخضّ (نوررو) معه أيّ حديث سياسيّ غير أنّها بعد مرور أكثر من شهر بدأت تتغيّر.. لقد حصلت على عمل منظّفة في معملّ لذبح الدجاج الحلال

وبمرور الوقت

بين ساعات وأيّام وأشهر

لاحت مسحة قلق على وجهها، العلامة تلك رسمت، في البدء، بعض الضجر على ملامحها السّاذجة البريئة، يمكن أن يراه شعورا بالغربة والحوف مثل الحوف الذي يعتريه حين تلوح بفكره واقعة اغتيال والده.

شعور يمكن أن يتساوى فيه الجميع وإن اختلفت الظروف والأحداث..

في بيتهم ببغداد يقف الدكتور البارع في حديقة منزله، تتابع نظراته شجرة زيتون علا أوراقها بعض غبار شفاف ثمّ تابع نخلة تخطّى علوها السياج بمتر، ومابين الزيتونة والنخلة صرخ صوت ففز الأب، وسقط في مكانه

رصاصة اخترقت رأسه..

خافت الأم وغادرت إلى بيتهم في كركوك.. كانت تفخر أيّام الحصار أنّ لها بيتا هناك.. كركوك ليست للتركمان وحدهم.. والبيت الثاني لم يوفّر لها الأمان .. الأكراد .. هذه المرّة .. وقد سقط صهره.. كوابيس ارتسمت أمام عينيه.. في أعماق نومه يختنق.. يشعر أن يدا تقبض على نصف وجهه فلا يقدر على الكلام.

يقتله الخوق..

وقد سبقته في الكوابيس

بعض الليالي يشعر أنها تستيقظ عطشى.. متعبة.. حين ينام معها يؤدّي العمل مرّة أو مرّتين فتستلقي هادئة جنبه.. تلتصق به لكنّه استيقظ على حركتها ذات ليلة.. أنفاسها راحت تتهدّج.. مسكت ذراعه.صرخت جحيم.. جهنم.. فربت على كتفها وضمّها.. ، وقد تكررت الحالة .. قالت له إن الطبيب الإنكليزي لا يمنح مرضاه حبوبا منوّمة.. وتُضْطَرُّ أن تسأل صاحب الصيدليّة الشرقي.. ونجحت في مسعاها.. كانا يلتقيان.. يمارسان وأحيانا وهي في نشوة الهدوء والسعادة تنام على ذراعه فتنسى المنوّم.. سألها أن تحاول النوم من دونه، واعترفت له أنّها لاتقدر على أن تنام بغير الفاليوم خلال الليالي التي لايبيت فيها عندها، وعندما حضر نهاية الاسبوع بدت فرحة.هادئة..

كأنّها ترغب أن تقول شيئا وتتردد..

تحدثت في البدء عن سعادتها في العمل.. كيف يذبحن الدجاج وينتفن الريش في الماكنة، ثمّ يأتي دورها فتمسح أمكنة الدماء وتنظّفها.كانت تتحدّت عن الذبح والدماء برقتها المعهودة وسذاجتها وكأنّ شيئا لم يكن..

بدأت تتحدّث معه بلغة أخرى

فيها بعض الخوف والتردد

وسألته ذات ليلة:هل مايفعلانه خطيئة؟

كان قد مرّ على علاقتهما أكثر من تسعة أشهر.خلالها اشتغل في معمل للبيتزا ثمّ بضعة أسابيع في مكان للحلويات.. في آخر لقاء طلبت منه أن ينام في الصالة على الكنبة، فظنّه أمرا يخصّ النساء، غير أنّ التغيّر لم يطرأ عليها فجأة بل بعد فترة من عملها في مذبح الدجاج.. لاينكر الطفل الرجل أنّه تعلّق بها.. أوّل أمرأة تفتح شهيته، جعلته يدرك رجولته .الآخرون اتهموه بها.. فقطعوا عليه طريق الطفولة، فجاءت (نوررو) لتزيده توغلا في رجولة أخرى لاينكرها ويفخر بها من غير أن تقضي على مستقبله.

لذة متناهية

بهجة

فرح

مع ذلك لاحت عليها علامات القلق، والبكاء خلال الليل وهي نائمة جنبه، وفي الأيّام الأخيرة وجدها تتوقّف عن تناول حبوب الفاليوم.سألها وهويبتسم بلطف:

بماذا تفكرين؟

سألتك قبل أيام هل ما أفعله هو عين الصواب؟

هل أنت نادمة على هربك من أهلك؟

لا أقصد هذا لكنّي أراها فرصة أخرى الله منحني فرصة فلماذا لا أستغلها.

وسكت.. قبَّلها فشعر بدفءٍ وبرود يسري في شفتتيها.هل وجدت عشيقا آخر؟ربما تأثرت بالإنكليزيات اللائي يغيّرن أصدقاءهن بين حين وآخر:

أقول.. ربما.. ندمت لأنّك انتهكت طقس الختان.

لا أبدا يقول أهلي والناس إنّه سنّة.. الوثنيون في إفريقيا والمسيحيّون يفعلون ذلك.. لعلّه يقلل من شهوة المرأة..  (هزّت كتفيها) طظ في أن تبقى الوضع أكثر تعقيدا..

الطفل لا يفهم.. التفاصيل

سوداء مفعمة بالشّهوة..

تفوح منها الرغبة.. بهذه الصورة عرفها..

كلّ شئ في طريقه إلى أن يتغيّر

كان كلّما زارها وجد عندها شيئا جديدا.تتحدّث بالحلال والحرام.تمنحه نفسها بمنّة أو على مضض، قالت له وهو في إحدى تجلياته بعد أن انتهبا إنّ صديقتها الباكستانيّة في الملحمة تصحبها كلّ جمعة إلى الصلاة في مسجد الصحابة.هناك صوماليّات، وآسيويّات، العدد قليل لو قارنّاه بعدد الصوماليّات في برمنغهام، كلهن محجّبات يبحثن عن الدين الصحيح، وهي هداها الله دلّها إلى أن تهرب من أهلها لحكمة، لم تمنع نفسها عنه تلك الليلة، كانت تصرخ وتتأوه تحته وتختار الوضعيّة التي تريد، نامت هادئة لا تشعر بقلق، صحا منتصف الليل يقضي حاجته، فوجدها تتنفس مثل الملاك البرئ، وجسمها يضفي تحت المصباح الخافت بريقا ينثر في الغرفة دفئا ونعومة:

لا آخر في حياتها

إذن هو تأنيب الضمير.. هكذا خيّل إليه فاطمأن إلى سلوكها.أزمة تجتازها، وفي اللقاء الأخير تحقّقت معجزة الحلم القديم الجديد، اليوم نفسه بشرى له وعلامة غريبة في الوقت نفسه إذ حالما أقلّته بباب وكالة التشغيل حافلة العمل الساعة الرابعة من عصر يوم شتويّ ثائر البرودة وانحدر مثقل الخطوات نحو معسكر اللاجئين، هناك كانت المفاجأة بانتظاره

مفاجأة وليست هي بالمفاجأة

عالم جديد

دنيا جميلة الملامح

غدا لن يذهب إلى الوكالة فتقله الحافلة إلى معمل ما

لوحة الاعلانات على الحائط عند باب الاستعلامات تشير إلى اسمه وأسماء أخرى لاتعنيه.. تصريح الإقامة.. هو ليس برجل.. طفل.. القانون البريطاني يعدّه طفلا، دفعته الفرحة، والحميّة، والنشوة إلى باب الاستعلامات ليستقبل الموظفة على انفراد.هاهم الإنكليز يحققون طفولته التي فقدها في العراق، لاتعنيه قط رجولته، لاتحتاج إلى برهان، صحبته الموظّفة العجوز إلى أحد الممرات قائلة:

هذا كلّ ماقلته عن نفسك صحيح.أنا مناوبة والموظف الذي لديه ملفّك يباشر غدا.. سيحيل أوراقك إلى وزارة الداخليّة ذا كل ما أقوله.

خرج من المعسكر، مهما يكن فهي أولى بسماع الخبر. لم يبال ببقايا ريح لافحة تميل إلى الانجماد، خلّف شارع لندن وراءه، وقصد أشهر محلّ حلويات.لن تعوزه النقود بعد الآن، ابتاع حلويات راقية ثم! استقل الحافلة إلى (هايسن كرين) .. ليست هي المفاجأة .. لن تكون هناك مفاجاجآت بل أمور غريبة تقع عليها عيناه.

نقر بأصبعه على الباب، انتظر دقائق، وظنّ أنّها خارج البيت.. سينتظرها على الدرجات حتى تعود وفي خضمّ صمته تحرك مصراع الباب، وأطلت عليه..

كانت هناك كوفيّة عريضة تغطّي رأسها..

- معذرة كنت أصلّي

- قبّل الله

- جئت أخبرك أنّي حصلت على الإقامة.

- مبارك لك.

=تفضّلي هذه حلوى بالمناسبة

فأطلقت حسرة طويلة وقالت:

- تصوّر أصبحنا نفرح ونحتفل حين تقبلنا بلاد الشرك !

- ألم تفرحي يوم منحوك الإقامة؟

فقالت بلا مبالاة:

- كنت على خطأ

خيّل إليه أنّ هناك امرأة أخرى غيرها تتحدّث.. ليست (نوررو) التي يعرفها، امرأة كبرت سنوات فبدت عليها الجدّ ورزانة مفتعلة لا تليق بها:

- ياعزيزتي هل أنت نادمة على أنّك هربت من أهلك.

- كنت طائشة حتى قيض الله لي الأخوات في الملحمة الإسلاميّة وأنرن طريقي، بدأت أباشر معهن الصلاة في المسجد وأنصت لهن من باب الفضول حتى اهتديت والحمد لله.

فقال ممتعضا:

- ألم يكن في الصومال محجبات تنصتين لهن.

- كانت هناك غشاوة على عيني فقضى الله أن يهديني هنا.

فاقترب منها وحاول وضع يده على كتفها، فابتعدت .. تراجعت إلى الوراء وهي تقول:

- أرجوك إنّه ذنب عظيم.

المرأة الأولى في حياته.. يالسخونتها.. ورغبتها في الممارسة.. في هذه اللحظة هزته مشاعره فاهتاج هياجا صارخا:

- هل تعنين ماتقولينه

فأحكمت غطاء رأسها، وقالت:

- تستطيع أن تبيت في الصالة إذا أحببت .أنت الآن مثل أخي.

اقترب منها يخاول أن يروّض هياجه:

- نوررو ما الذي غيّرك!

فابتسمت:

- امتلأ قلبي بالنور.. كل مافعلناه حرام.. حرام.. زنا.. إلّا في حالة واحدة؟

- الزواج ؟

- ليس الزواج وحده.. جريمتنا كبيرة.. طاوعني .تزوّجني ثمّ نرحل نحن الإثنين إلى سوريا أو العراق.. نترك بلاد الكفر والزندقة فإن انتصرنا نكون مسحنا ذنوبنا وحصلنا المغفرة من لدن رب رحيم وإن قتلنا نكون شهيدين!

تلاشت رغبته

الخوف يعود

الرهبة

الطفل بكبر في ذاته

يشعر باختناق..

صرخ فيها بهمس:هل جننت؟

فقالت بتصميم:

بل هو عين العقل

لاتراوده الكلمات

أصيب بخرس

أشبه مايكون شلل في الوجه

تنمّل يعيق شفتيه عن الكلام

تراجع وسط الصمت إلى الخلف

تراجع كخادم في معبد يرجع القهقرى أمام سيده الإله..  عجز عن قول أيّ حرف فأحسّ انّ ظهره اصطدم بمصراع الباب حتّى استفاق على قولها:

- فكّر جيدا بما قلته لك وتعال معي تربح الدنيا والآخرة لكن لاتغب طويلا وإلا فلن تجدني!

وحين انحدر إلى السلم انفجر فجأة بالبكاء.. تهدجت أنفاسه.. تقطعت ورغب في أن يصرخ.. لقد هرب من الموت أمّا المرأة التي منحته جسدها فقد دعنه بتصميم إليه.. عالم متناقض لايفهمه.. بريطانيا التي لجأ إليها أخطأت فيه ظنّته كبيرا ومازال طفلا.. صبيّا.. وكأنّه لا يدري كيف وصل إلى المعسكر.خطواته لم تتعثّر في البرد، وحين ارتمى على فراشه نام نومة عميقة..

مائة عام..

ساعات.. أشهر ..

 واستيقظ يكلّل فرحته الجديدة شعور بالفراغ لفقدان (نوررو) لن يراها حقّا..  قد يقرؤ عنها في الجرائد.. يرى صورتها بالحجاب.. هناك ضجّة بدأت تثور في الصحف عن مسلمات بريطانيات تحجبن وغادرن إلى العراق وسوريّة.. ناس ترحل إلى الموت وآخرون يهربون منه وفي ذهنه أن يتصل بأمّه.. طريقة ما .. لعلّه في يوم ما يقدر أن يعرف عن أخبارهنّ..

واستقبله بابتسامة مسؤول المكتب الكهل الأربعيني:

صافحه وقال بابتسامة:

- مبارك لك لقد حصلت على الأمان أخيرا.

- قلت لكم مذ البدء ياسيدي إن عمري ستتة عشر عاما وأوراقي كلّها صحيحة ..

- لا بأس هناك الكثيرون يبدون بملامح كبيرة أحيانا المظاهر تخدع.. الآن دعك مما مضى

فتساءل بقول إنكليزي مشهور:

- what is the next

- نعم.. هذا صحيح.. لغتك الإنكليزيّة سليمة الحياة هنا في المركز ودراسة كورس نفعتك..

- أنا ياسيدي درست في العراق في مدرسة راقية ابدأت اللغة الإنكليزيّة فيها من السنة الأولى وكان والدي الطبيب ينوي أن يجعلني أرث مهنته فيرسلني إلى أوروبا ..

- رائع الآن المجال أمامك واسع إمّا أن تدرس وتشتغل عملا جزئيّا..  هناك عوائل تتصل بنا تتبنى الذين لم يبلغوا سنّ الرشد.. حسب القانون، لديّ قائمة بثلاث عوائل سنتصل بسيارة إذا أحببت لتقلك إلى أحد البيوت.

- مالذي ترتأيه؟

- لا فرق لديّ إمّا أن تتصل بمكتب العمل ليوفّر لك سكنا وغالبا مايكون مشتركا مع آخرين .أو تذهب إلى إحدى العائلات التي ترغب في تبنيك..

- مازال لم يستقل بعد..  (نوررو) التي أيقن أنّه فقدها الوحيدة التي رأته كبيرا .انفعلت معه .. ولا تدرك سرّه .. هيئته تخدع الآخرين:

قال ببعض انكسار ثمّ استدرك:

- هل لي أن أعرف عن العائلة التي تتبناني؟

- سيدة محترمة اسمها Ivy ..

شدّه الاسم فقاطع:

- لو تهجّيته !

Ivy تعيش في قرية (west spring) في أطراف (Bull Well) لديها ابن قتل في حادث دراجة نارية، بنت تزوَّجت وهاجرت إلى استراليا وابن يعيش مع زوجته في أمريكا، والسيدة (آيفي) تعيش في الطابق الأسفل أما أنت فيمكنك أن تحتل الطابق العلوي من المنزل.

توقف السيد مدير المكتب عن الكلام، وتطلّع في وجه أيمن لحظات.:

- ماذا قلت؟

قال من دون تردّد:

- ذلك أفضل لي!

- إذن يمكنك أن تجمع حوائجك، سأتّصل بالسيدة جولي، فأخبرها ..

قصد غرفة تذكره بمعسكر للجيش أو قاووش مشفى .. أسرة تمتدّ مسافة، أناس تضحك، وتتذكر، عوائل منعزلة، وأطفال يلعبون في الباحة، وآخرون في قاعة الدرس يتابعون كورس اللغة الإنكليزية، يعرف كلّ منهم الآخر ولا يعرف.. يحترمونه رجلا وهو طفل، ولو عرفوا أنّه هرب خوفا من النظام الجديد لاستفزّوه، وربما عاملوه بخشونه، أو ضربوه، أمّا الآن وقد رجع طفلا في السادسة عشرة من عمره فلا يخشى شيئا. الزمن نفسه خسر الرهان معه.

راحت السيارة تنهب الطريق به إلى حيث مقرّه الجديد.عالم آخر يأمل أن ينسيه فترة الشّهور التي قضاها مع (نوررو) ياترى هل تنتظره الآن لتسافر به إلى أرض الموت؟

هناك أكثر من احتمال..

ربما تضعف

تخاف

تنكسر

فتلغي فكرة العنف التي راودتها..

توقفت السيارة أمام بيت فخم.. يبدو أن صاحبته ميسورة.. في الباب كانت تقف السيدة (آيفي) ، امرأة في الستين من عمرها، تبدو في السبعين، ابتسامة على وجهها المجعد المدور تخفي مسحة القلق من عينيها:

- أنت أيمن؟

- نعم

- قل لي نعم Mum هل يزعجك أن تناديني يا أمي؟

- شئ جميل أن أقول لك يا أمي.

Touch woo أنت رجل

اقتادته إلى الصالة فوقع بصره في الواجهة على صورة لرجل ذي شارب كث، خيّل إليه من ملامحه أنّه ابن خير.. أرستقراطيّ.. ابن نعمة كأبيه الدكتور، وثمّة صورة لولدين وفتاة .. وصورتها في الثلاثين من عمرها، وعلى الفاترينا بعض التحف..

- إجلس

قصدت الهاتف، واتصلت بمكتب اللاجئين، والتفتت إليه:

جائع ؟

I am ok thank you

في مثل هذا الوقت أحب أن أتناول القهوة هل تحب أم أعمل لك كاباجينو؟

قهوة أفضل بسكرّ ملعقة واحدة.

دخلت المطبخ، كأنّها تركته ليتآلف مع الصالة والدهليز وأجواء البيت، شعرت بالاطمئنان إذ لم تعد وحدها.منذ كتبت وصيتها وهي تتحاشى أن تقذف نفسها في دار للعجزة.ذلك فظيع، وجود الطفل الرجل يمنح البيت طعما آخر، فلا تخاف أن تموت في سريرها فيستدلون على جثتها بعد بضعة أيّام.. وعادت تحمل صينيّة القهوة، وجلست وهي تتساءل بلطف:

- من أيّة مدينة أنت؟

- بغداد..

- أووه هناك الوضع صعب.

عقّب بعدم اكثراث:

- كلّ الأمور تسير نحو الفوضى.

- وأهلك؟

- تركت أمي وأخواتي في كركوك.

- أنا مثلما أخبرك السيد جفري .. أسكن وحدي، ابني الأكبر في أمريكا، وابنتي في استراليا..

سكتت، وأشارت إلى صورة الشاب على الفاترينا:

- حادث دراجة نارية

ورفعت أمام عينيه سلسلة مفاتيح:

- هذه صورته أيضا، معي أينما ذهبت.

أشعر بالأسف الشديد.

- أظنّه لو كان حيّا لما تركني وهاجر بعيدا..

- هل يتصلان بك.

- (لوك) و (أليس) بين حين وآخر ربما (أليس) أكثر حين يتصل أحدهما وأنت في المنزل سأعرّفكما ببعض . (وابتسمت كما لو أنّها تتردّد) حين يصبح عمرك في الحادية والعشرين كما أنت عليه الآن أي بعد خمس سنوات سيخيرونك بين أن تبقى معي أو تغادر البيت.

- سأكون عند حسن ظنّك.

ونهضت تفتح باب المخزن القريب من الدهليز، استلّت منه عصا وقالت:

معي هشاشىة عظام والتتهاب في العمود الفقري، وإلّا لما شملني التقاعد المبكر وقانون الإعاقة من أجلك سأصعد الدرج أريك غرفتك.أنظر الطابق الأسفل فيه الصالة وغرفة نومي، وغرفة الصغير (لوك ) وفي الأعلى غرفتان..  خصصت لك واحدة!

كان هناك نور خافت يطغى على المكان بعث فيه بعض الكآبة على الرغم من شعوره بالارتياح، استندت إلى عصاها، ومسكت باليد الأخرى الحاجر:

هل أسندك؟

أنا بخير شكرا

تبعها وقد استغرفت وقتا في الصعود، ووقفت مبهورة الأنفاس:

نادرا ما أستخدم الدرج:

غرفتك هذه.. أقرب إلى الدرج.. عندك الغرفة الأخرى.. كانت ل (لوك) ..  والثانية التي جنبها ل (أليس) أما غرفة (ريك) فهي تجت جنب غرفتنا (وأشارتت بيدها إلى باب في الواجهة) الحمام والتواليت بإمكانك أن تستخدم المطبخ الصغير في هذا الطابق.

لم يكن البيت من خلال اللمحة الأولى ليقل فخامة عن المنزلين في بغداد وكركوك، فقال مجاملا غير منبهر:

- أنا سعيد جدا شئ رائع.

- إسمع جيدا

أردفت وهي تسبقه إلى الغرفة:

- مادمت عرفت عنك الكثير من مكتب اللاجئين، أقول لك، أقدم لك نفسي لتعرف مع من تسكن، من هي أسرتك الجديدة، أنا كنت رئيسة قسم في مديريّة الضرائب، وزوجي (أندرو) الذي توفي بالسرطان قبل ثلاث سنوات كان مديرا لمجموعة بنوك باركليس في نوتنغهام.

- نعم Mum

- الآن أتركك لترتّب غرفتك.. وسأدعوك الساعة الواحدة لتناول الطعام؟ يمكنك أذا أحببت أن تطبخ وحدك هنا في الطابق العلوي، هل هناك طعام خاص بك؟

- لا أبدا؟

- ماذا عن لحم الخنزير؟

- لا تفكري بذلك أنا لست متدينا لكني لم أتعود على أكله بإمكانك أن تخبريني بذلك حين ترغبين.

- إذن إرتاخ بعض الوقت.

وهبطت، فوقف لحظة وسط الغرفة ثمّ اضطجع دقائق على السرير.قرية هادئة ناعمة.. رآها حين عبرت به السيارة المنعطف من الطريق العام، حياة جديدة يمارس فيها شعوره الحقيقي.. لعلّ الهدوء يساعده على أن يجد طريقا يتصل بأهله ذات يوم.كلّ شئ تغيّر .. الخراب يبسط ظلّه.. لابريد يمكن أن يلجأ إليه ليبعث رسائل إلى أمّه.. ولا هواتف منزليّة.. كم تطول مدّة الفوضى.. وتساءل هل تصرف الدولة الجديدة راتب والده التقاعديّ لأمّه؟كيف يرسل لها حوالة حين يعمل.

قضايا تشتت في ذهنه ربّما يلمّ شتاتها ذات يوم..

لكنه مع ذلك ينظر لكثير من الشواهد الغائبة عن عينيه بأمل.. هناك ريبة تراوده.. ريبة الطفل.. وثقة الرجل.. وحين ضمتهما مائدة الطعام وكان عليها شرائح من دجاج وبطاطا قالت له السيدة (آيفي) بعد أن ننتهي من الغداء سآوي إلى مخدعي، أظنّك رتّبت ملابسك في الخزانة، الساعة الرابعة سآخذك في نزهة .. نمشي في شارع القرية، وأدلك على معالمها وأريك موقف الحافلة، لتذهب غدا إلى مكتب العمل، ينظمون لك مساعدتك، وساعات عملك، ثمّ تقصد المدرسة لتسجّل في أقرب وقت.

أنا كنت أرغب أن أكمل دراستي لأصبح طبيبا .. أما الوضع الآن فقد اختلف.

فقالت وهي تزيح نحوه وعاء السلطة البللوريّ:

حسب رأيي أقترح أن تدخل (collage) لتصبح ذا خبرة في ميكانيك السيّارات؟

فردّ شبه مقتنع:

فكرة رائعة..

Skill and much money

لا يدري لِمَ يشعر، على الرغم من كلّ الامتيازات، والدفء والنعومة، ببعض الكآبة.. تخطر في باله (نوررو) وشبح الموت، اغتيال والده في بغداد، مصرع زوج أخته في كركوك، شكّ الإنكليز به.. جعلوه كبيرا فأعادوه صغيرا.. هناك شئ غير طبيعي، يبدو وهما، لا يستطيع أن يفهمه لأنّه طفل، ويعاني منه الرجل ذو الحادية والعشرين، في مثل شكله الآن، سيخيّرونه إذا كان يرغب في أن يبقى مع السيدة العجوز (mum) أو يغادر إلى سكن يستقل به.. لقد خرجت معه تمشي على عكازتها، ولم يكن شارع القرية بعيدا عن البيت.. كان الجو باردا.. والقرية يصبغها قتام ضبابي مشوب بحمرة.. يبدو كل مظهر في هذا الفصل قاتما.. ربما أكثر قسوة من الشتاء.. ، وفي ساعة القيلولة بعد الظهر شعر بالنعاس ودخل في خدر أشبه بالنوم، وخيل إليه واليقظة تدبّ فيه فجأة أنّ ثقلا ما يجثو على صدره.

صخرة ثقيلة

لكمة تتجه نحو صدره

ألم في الضلوع

فانتفض يلهث.

أنفاسه تتلاحق فأيقن أنّه عاش كابوسا لايتذكره، أشبه بكوابيس (نوررو) هل جرت إليه العدوى.. فغادر الفراش إلى ثلاجة المطبخ الصغيرة، كرع جرعة ماء وعاد إلى السرير.. كانت النافذة المطلة على حديقة البيت الخلفية نصف مشرعة.لم ينم وحده منذ قدم إلى بريطانيا.. قاووش اللاجئين والنوافذ العلوية التي يشبهها بعضهم بقاووش الجيش:

= اسمك؟

= أيمن سردار.

- كردي؟

ينكر، لا بدّ أن ينكر:

- أنا من بغداد.

- أنت؟

- اسمي قدرة.. من السليماتية؟

- هل لديك مشكلة؟

- لا .. أبدا كردستان تحررت لكن جئت أبحث عن المستقبل هنا في بريطانيا لايطردون اللاجئين:

- وأنا كذلك اخترت هذا البلد لأنّهم لا يطردون أحدا.!

هدوء .. صمت..  مع ذلك يشعر بالأمان، ويظلّ يتساءل:هل هي عدوى من (نوررو) المدى أمامه واسع، طيور نوارس تقطع حقلا، وغربان تتطاير بين أشجار المنتزه فتهبط على الأرض تلتقط الحب وترجع تطير، وكان صوتها يدعوه:

Yes Mum

يلتفت إلى أنّه قضى القيلولة من دون أن يغيّر ملابسه، كانت السيدة (آيفي) تبدو أنيقة وهي تستند إلى عصاها، بدلة رماديّة، تناسب تسريحة شعرها القصيرة، وأحمر شفاه شفاف.

مهيبة ..

تثق بنفسها كثيرا على الرغم من أنّها لا تريد أن تموت وحيدة في منزلها..

- الجو يميل إلى البرودة.. هل عندك مايكفيك من الملابس؟

- لاتقلقي لديّ مايكفيني.

- هنا القرية صغيرة.. لا غريب فيها، فأيّ من يلتقينا يعرف أنك ابني فقد أخبرتهم من قبل.كان لا بدّ من أن أخبرهم هل يزعجك ذلك؟

قال بابتسامة يغطّي خجله:

- بالعكس.

- هم يعرفون أنّها مشية اعتدت عليها كلّ يوم تريح ظهري وتجعل الدم يسري في ساقي.

قادته إلى الطريق عبر البوابة الرئيسية، دلتّه على موقف الحافلة، واتجهت به نحو البحيرة.كان هناك عند الحافة غير بعيد رجل في الخمسين يرمي بالطعام إلى الماء فيلتم أمامه أَوْزٌ شَرِهٌ، أشارت إليه السيدة (آيفي) بالتحيّة واجتازا سيدة ترمي كرة إلى مسافة بعيدة فيجري نحوها كلب ضخم يلتقطها.حيت صاحبة الكلب وواصلت مشيها البطئ.

ظنّ أنّهما _ الرجل والمرأة- لمحاه من طرف خفيّ، وساورت كلّ منهما ابتسامة خفيّة.

هل رأياه رجلا في السادسة عشرة من عمره؟

لا يشكّ.

ولايشعر بالضّيق..

- هنا أجلس في طريق الذهاب أستريح قليلا حين اشعر بالتعب:

جلست فجلس بجانبها وأشارت إلى البحيرة:

- أجمل ما في قريتنا البحيرة، والمنتزه، وبعض الكهوف التي يقال إنّ المقاتلين لجأووا إليها خلال الحرب الأهليّة بين الجمهوريين والملكيين.

تحبّ الكلام لكنّها ليست ثرثارة، مرحة..

تكره الصمت..

ماهسته أن يجيب وليس هناك عنده من قول:

نعم

- نهضت تستدير باتجاه نهاية المنتزه، تاركة البحيرة وراءها والمنتزه عن شمالها وقصدت فراغا يتوغل في عمق مفتوح يحطيه سنّ صخري غير عال ينتهي ببعض التلال وأرض متموجة.

بيوت وهمية..

على شكل اسطوانات من سمنت، أيّ منها لايبعد عن الآخر كثيرا، ولو نمت مثل أي كائن حي لأصبحت مرابض للجيش ومستودعات للذخيرة.

أشارت بعصاها إلى المكان، وقالت تبتسم:

- لابدّ أنّك سمعت بالجن..

- طبعا طبعا!

- هذه هي قبور الجنّ.

فنطق الطفل فيه متساءلا:

- قبور الجن؟ أراها صغيرة غير واسعة؟

- الجنّ ياولدي طويل أكثر مما هو ثخين يمكن إنّ يغور عميقا إلى بعد سحيق في الأرض.

خطفته لحظة صمت، واستثارت الأجواء طفولته، فقال:

- منذ متى بنيت هذه الشّواهد؟

- أووه إنّها قديمة جدّا، وقريتنا ألفتها .هم ألفونا أيضا وأرى أنّهم لطفاء، ليس هناك من غريب بيننا، فهم لا يحبّون الغرباء، وأظنّهم الآن عرفوك!

ابتسم في سرّه وسألها متعمّدا لا عن فضول:

- هل تعتقدين حقّا بالجنّ يا أمي؟

- لا عليك من هذا المهم أننا في القرية ورثنا أبدا عن جد هذه القبور فلا قيمة لرأيي!

لقد جاء إلى هذه الحياة بنذر.. زيارة نبع، طقس لذيدة، أعلام خضراء، وخطوات سبع، كما قالت أمّه،، هناك حيث الحرّ والشمس الساطعة والدفءذهبت ذات يوم إلى العين بمشورة رجل صالح، عبرت واستسلمت للطقوس المحيطة بالماء، هل يشكّ في وجوده لولا عالم الخفاء، وهنا في هذا الجوّ الضبابي البارد يقابل عالم الخفاء بصيغة أخرى.. الجن والأرواح هاجعون تحت الأرض!

وقد رجعت به إلى البيت، عرف الكثيرة عن القرية وأمامه الكثير، يبدو أنّها امرأة طيبة، يشعر أنّه يحتل الابن البديل الذي يكتشف موتها، قالت له إنّها واثقة من أنّها ستعيش إلى أن يصبح في سن الحاديّة والعشرين، ولا تراه يرغب في الالتعاد عنها، وفي قرارة نفسه أنّه لا يجبّ أن يستيقظ فيجدها ميتة عندئذ ستفتح البلدية والمحامي وصيتها فيذهب المنزل لوريثيها فيبدأ رحلة جديدة في البجث عن مأوى آخر.

وحين آوى إلى فراشه، شعر بخفة في جسده، لكنه استفاق منتصف الليل على زوبعة في صدره شلال بارد نقي يتدفق فجأة من أنفه إلى رئتيه، وحين نام كرّة أخرى اقتحم صدره التيار العارم.. فجلس متضايقا.ولم يذكر شيئا للسيدة () بل أنهى فطوره على عجل، وكلماتها تلاحقه:

تلفوني معك إذا احتجت أي شئ اتصل بي.

مرّ على مكتب التشغيلثمّ صعد بإلى شارع (ميرميد) ليكن ميكانيكا أو طبيبا .. لعلّه يجد في دراسته فيقدر أن يجتاز الثانوية بكفاءة ليدخل كلّية الطب أو الهندسة وإلّا فليجرب حظّه ممكن في أسوأ الأحوال أن يصبح ميكانيكيا ا خبرة في السيّارات مثلما اقترحت عليه أمّه الجديدة..

كانت المدرسة خليطا من إنكليز وشرقيين وبعض الأوروبيين، تلميذات وتلاميذ ذوو أعمار مختلفة ضاع حجمه وعمره الحقيقي بينهم..

لم ينظر إليه بعمره الحقيقي إلّا أمّه وهذه المرأة التي تبنته

أما أبوه فقد أراده أن يصبح طبيبا مثله

وفي المدرسة منذ الشهر الأوّل، اكتشف أنّ الميكانيكا أقرب إليه

يمكن أن يحوز على مغدل عال لكنه لايرغب في مهنة أبيه

ومع تقدمه في الدراسة راودته الكوابيس بصورة منتظمة:بتساءل:هل هي عدوى لا علاج لها انتقلت إليه من (نوررو) ، قبل يوم سألته السيدة (آيفي )

- هل عثرت على صديقة؟

قال بخجل:

- لم يجن الوقت بعد.

- لا تتحرّج حين تصبح لك صديقة تستطيع أن تدعوها إلى المنزل.

وفي اليوم التالي، بعد نهاية الحصص الدراسيّة، غيّر طريقه، استقل الترام إلى (فورست فيلد) ، هبط في المحطّة، وانحدر يسارا باتجاه (هايسن كرين) ، لو وجدها لدعاها الى مسكنه الجديد، صعد درجات البناية، وضغط على الجرس، مرّة وأخرى، انتظر قليلا، تذكّر أنّها أخبرته أنّها أجرت البانسيون من هنديّ يملك محلّ حلويّات غير بعيد فاتجه إلى المحلّ، انتظر قليلا حتى فرغ البائع من ترتيب علبة لأحد الزبائن، ابتسم الآخر بوجهه، فقال من دون مقدمات:

إنّي أسأل عن (نوررو) الصوماليّة هل مازالت تقيم هنا.

بان انزعاج على وجه البائع وضيق:

لا أدري لقد تركت السكن.

منذ متى؟أنا كنت معها في الكامب.

لا أدري قبل أن تنهي الشهر .

غادر وعلى وجهه ملامح ضيق وانزعاج، فكّر أن يقصد معمل السلطة الصغير الذي اشتغلت فيه مع نساء باكستانيات، حثّ خطاه إلى أعلى (هولند ستريت) وعبر المنعطف جهة اليمين، إلى فسحة صغيرة تطلّ عليها بناية ذات لون بنّيٍّ فاتح واجهته غرفة الاستعلامات، وموظفة شرقيّة ذات حجاب ذي زرقة تستطلع وجهه:

- نعم هل من خدمة؟

- إنّي أسأل عن (نوررو) الصومالية؟

أجابت وعي تتطلّع فيه بريبة:

- الأخت (نوررو) تركت العمل منذ بضعة أيّام.

- هل غادرت بريطانيا أم نوتنغهام إلى مقاطعة أخرى؟

فأفصحت عن برمها بلهجة أقرب إلى الفظاظة:

- ولماذا تسأل عنها؟

- كانت معي في الكامب وهناك أمور أبلغها لها.

- أظنّها سافرت خارج بريطانيا.

- متأكدة؟

فعادت إلى طبيعتها:

- ذلك الذي أعرفه لا أكثر.

لماذا يسأل عنها؟

الرغبة أم الفضول؟

أم كونها المرأة الوحيدة التي ظنّته رجلا فمنحته نفسها.

معها لا يحب أن يكون طفلا.يلعب لعبة الرجولة، بوضوح أكثر مما يمارسها مع الآخرين.. لكنّ اللعبة نفسها يمكن أن يؤديها مع امرأة أخرى.. يلتقطها أو تلتقطه من مرقص .. الشارع..  في المدرسة سجّل حضورة اليومي ونباهته في سرعة التعلم.. سيحصل على شغل ووظيفة، ويتغيّر العالم فيجد وسيلة، يعرف من خلالها عنوان أمّه وأخواته، صحيح أنّ العنف بدأ يتصاعد، ومن حسن حظه أنّه وصل إلى برّ الأمان، لكنّ هناك بعض التفاؤل.

في المساء وهما على مائدة الطعام، أفصح عن رغبته:

- أمّي هناك تلميذة معنا في المدرسة أصلها بولندي هل أستطيع أن أدعوها؟

- ما المانع؟يمكنها أن تبيت عندنا عطلة نهاية الاسبوع.

- ما اسمها؟

- بوجانة.

كانت في التاسعة عشرة من عمرها، أكبر منه بثلاث سنوات، جاءت إلى نوتنغهام مع دخول بريطانيا الاتحاد الأوروبي، تعلمت اللغة بشكل مذهل، واختارت مدرسة الميكانيك.. مثل (نوررو) لا تعرف عمره الحقيقي، استلطفها من أوّل يوم، قرأ في عينيها رغبة، لكنه لم يكن قد نسي (نوررو) بعد.. السحر الأسود ورائحة سمع عنها فأزعجته، ورائحة جسدها المضمخة بعطر شرقيّ أفريقيّ، بجهل نوعه، صحيح أنّ هناك رائحة خفيفة بين إبطيها تؤذيه:

بحضور أمّه يسأل والده الطبيب:

- لماذا ذلك الرجل السوداني يستحم بالحليب؟

تضحك الأمّ ويبتسم الأب:

- لا تتحدّث بذلك مع زملاء الدراسة؟

- هم يتندرون عنه!

أسمع يا ولدي، الأفارقة والسود في أجسامهم غدد تفرز العرق فيؤدّي إلى تجمع البكتريا في الأجزاء الحسّاسة من أجسامهم، فيظنون الحليب يطرد الرائحة.

فتقول أمّه ضاحكة:

- لكن المغنية صباح بيضاء شقراء مثلنا نحن الأكراد يقال إنّها تستحم بالحليب !

- لله في خلقه شؤون!

وتضيف أمّه التي عرفها تفضّل عطر (كلامور) الفرنسي، وتفتخر أنّها لو بقيت من دون استحمام شهرا لما انبعثت منها رائحة كريهة:

هناك بعض البيض أيضا لا تطاق روائحهم!

لو كانت (نوررو) حاضرة.. أووه لم تشغل بالك.. ستظل ذكرى ممتزجة برائحة إفريقية ساحرة..  ولعلها الآن تمارس عمليّة استشهاديّة في العراق أو سوريّة..  (بوجانا) تجربة أخرى لا تدرك الزمن الذي غزاك بشكل مفرط، لا يخشى أمّه الجديدة.. لا يظنّها تتطرّق إل عمره وخصوصياته.. ما يضرّ صديقته البولنديّة أن يكون في السادسة عشرة أو في الثلاثين، وقد التقيا بعد الظهر تجولا في (برود مارش) ، وقضيا وقتا ممتعا، استقلا بعدها الترام ثمّ الحافلة إلى القرية..

يزهو

يفتخر بأمّه الجديدة

يتكلّم بعفويّة عن القرية

وعند االمساء تضمّ الثلاثة مائدة الطعام.. طعام إنكليزي بحت..  (لزانيا) وسلطة.. ودورق نبيذ أحمر.. ولم يكن الكحول غريبا عنه، وقد ذاق بعضه، كان والده يتلقى زجاجات الويسكي والبراندي الفاخر هديّة من بعض المسؤولين الذين يعالجون عنده، ووجد والده يشرب باعتدال نهاية كلّ أسبوع، وذاق أيمن البيرة وقليلا من الويسكي، الطبيب الخبير أسجى له نصيحة جرّب كلّ شئ ولا تدمن على شئ، مع ذلك فقد استهواه النبيذ فشرب عند الأكل، تحدثت أمّه على المائدة وثرثرت عن مواضيع مختلفة:

أبنائها البعيدين

الطبيعة

منازل الجنّ، الذين لا يعرف أحد من أين جاؤوا وسكنوا طرف القرية الجنوبيّ..

قصة حبّها لزوجها

زواج الابن الأكبر من أمريكية ورحيله إلى بلد زوجته.

هجرة ابنتها المهندسة (أليس) إلى استراليا

كيف اختلّ توازن (ريك) عند المنعطف فانقلبت الدراجة به..

وقاطعت البولنديّة بلطف، لتبدو أنّها تهتمّ بحديث السيدة (آيفي):

هل يزورانك؟

فابتسمت وقالت:

أنا زرتهما:البنت ثلاث مرّات:البنت مرّتين و (لوك ) مرّة؟

فابتسم أيمن وتساءل:

أي البلدبن أكثر:أمريكا أم استراليا؟

فحكّت طرف فمها بإبهامها وقالت:

أستراليا حارة، ولها طابع خاص يختلف عن كلّ القارّات، أمّا أمريكا فهي صاخبة كما لو أنّها تسابق الزمن، والحقّ إنّي أرغب الهدوء، لا أحبّ المدن الصاخبة!

ثمّ

قدّمت بعد العشاء الجبن، والشراب الإيرلندي، الجوّ الدافئ والهدوء والسكر دفعاه لأنّ يجرؤ ويقبّل (بوجانا) أكثر من مرّة، وحين دقّت الساعة التاسعة والنصف اعتذرت سيدة البيت قائلة إنّها لا تستطيع السّهر أكثر، وتركت لهما حريّة الخيار في أن يراقبا التلفاز أو يأويا إلى الفراش وحالما أغلقت الباب خلفها، ضمّ (بوجانا) إلى صدره وهمس في أذنها:

هيا لنصعد..

وانحنى عليها يحاول حملها، فأطلقت ضحكة خافتة، وقالت:

صحيح إنّك قويّ لكن لاتغامر

فوضع يده على كتفها

وصعدا الدرج

رغبة جامحة يثيرها جسدها الأشقر اللامع..

شعرها ورائحة الصابون الناعمة المثيرة

يقبلها طويلا ويمسح شفتيه على خديها

تلهث.

ليست هناك من رائحة غريبة..

يداعب إبطيها بأرنبة أنفه ويحرّك شفتيه عليهما:

لا يتقزز

يروح في نشوة غامرة تتجاوز كلّ الحدود..

يسترخي على صدره.فتمرر أناملها على سرّته، ويظلّ يداعب حلمتيها..

ومرّة أخرى يتحرك فيه الرجل الطفل، والطفل الرجل..  .. فيرتقي.. ثانية.. تتجاوب معه بإفراط وتهدأ بعدها..

تندفع لمواضع حسّاسة بجرأة مفرطة لم يعهدها من قبل عند الأولى

يهدأ

يتهامسان

يتحدثان عن جمال المنزل والسيدة صاحبته.فلا يشعر إلاّ والنعاس يداعب عينيه..

يروح في رغوة لزجة من النعومة

فيغيب..

وترقد بجانبه ثمّ يتردد شخيرها الخفيّ فلا يحس به

لكنّها استيقظت بعيد منتصف الليل على صرخة

صرخة حادة أعقبتها همهمة ففتحت عينيها لتجده جالسا وقد أزاح الغطاء عن صدره.

 كان يلهث

 يتنفس بعمق

ماذا؟

تعاني من ربو!

لا .. كابوس

كأنّه في سباق مع الهواء، فنزلت عارية من السرير ودخلت المطبخ وعادت بكأس ماء

كرع مافي القدح، وهمست بصوت خفيّ:

هي المرّة الأولى.

بل سبقتها نوبة قبل أيّام.

وفي الصباح عندما اجتمع الثلاثة، سألته البولونيّة متعمدة:

كيف تشعر الآن؟

بخير .

فتساءلت سيدة البيت:

هل من شئ؟

شعرت بالهواء يهجم على رئتيّ دفعة واحدة، هواء بارد لذيذ لم تتحملاه لنعومته رئتاي، وكانت شفتاي لا تقدران على الكلام .

كابوس، وعليك ألّا ترهق نفسك.

قالت سيدة البيت وعقبت بوجانا:

لقد كان نائما مثل الملاك !

واتفق مع أمّه الجديدة أن تأتي (بوجانا) عطل نهاية الأسبوع والعطل الأخرى، واعتذرت له في المدرسة أنّها لا تستطيع أن تدعوه إلى سكنها ادعت أنّها تسكن في شقّة من ثلاث غرف مع عائلة بولندية، زوج وزوجة يعملان في يعملان في معمل للدباغة كانا قد عثرا على الشّقّة قبلها، لم يخطر في باله أن يزورها في مسكنها ويقضي هناك ليلة معها.. سوى أنّه شعر بتغيّر في سلوكها.. لاح قلق على قسماتها وشرود.بعض النرفزة والعصبية، اعتذرت عن زيارة المنزل في عطلة نهاية الأسبوع، ومرت أيّام لم تراوده الحالة، الأيام عادية، سيدة المنزل ذكرت له أنّها سجلت انطباعا مريحا عن بوجانا، وقالت إن الأوروبيين الشرقيين، أقرب بكثير إلى شعوب غرب أوروبا من وافدي الشرق وأمريكا اللاتينيّة، أمّا الكابوس فلم يهجره، راوده مرة خلال الأسبوع الذي غابت فيه بوجانا,الهواء الناعم الذي يهحم دفعة واحدة وانحباس فم.. ، فيفزّ، تعقب جلوسه في الفراش: صرخة

وفي الأسبوع التالي راوده الكابوس نفسه.

هل هي عدوى السحر الأفريقي الأسود !

لِم لا يعدّه مرضا..

التعاب رئتين

ربو..

كلّ شئ محتمل

زار الطبيب، وأجرى فحص الدم والرئتين، أبدت الأشعة والفحوصات سلامة بدنه، ولم يخف الوضع عن سيدة المنزل، كان يستغلّ جلسة العشاء للدردشة معها، فتتقبّل حديثه رصدر رحب:

- أمي استلمت اليوم نتيجة الأشعة والتحليل ليس هناك من شئ.

- جميل جدا.

قال بتردد:

في البدء ظننته ربوا أو حساسية الرئتين..

- إذن هو الكابوس

فصفنت برهة وسألت:

- ماذا عن (بوجانا)

- آمل أن تكون أنهت أشغالها التي منعتها من أن تأتي الأسبوع الماضي على أيّة حال سنتحدث اليوم.

قصد المدرسة، بصدر منشرح بعد أن اجتاز في الليل حلما متعبا.لايسميه كابوسا فلم يرافقه اختناق،، حلم بنهر عميق صافي المياه، وهناك عثر على شخصين يتحدى كلّ منهما الآخر.يشعر أنّهما تراهنا عليه، كلٌّ منهم يدعوه، لا يدرك لأيّ شئ يدعوانه، أراد فضّ النزاع بينهما، فزجراه، وأمره أحدهما أن يظلّ مكانه.. احتدم الشجار بينهما، فأخرج كلّ منهما بندقيّة، وطلب من الآخر أن يغوص في الماء ثمّ يطلقان النار على بعضهما، أيهما كان الأسرع في الرماية، قتل الآخر عندئذٍ يخرج من المياه.

وقف ينتظر طويلا

مبارزة جديدة

لعلّه جاء ليصبح حكما

أو

لعلّ الذي يقتل صاحبه يخرج إليه فيدعوه إلى المبارزة إمّا على الأرض أو يغطّ معه في النهر.

عن عمد ضغط على أنفه بسبابته والإبهام.. حبس أنفاسه .. ليرى كم يطول نَفَسُ من يخرج، بقي ينتظر فترة طويلة.. دققيقة .. دقائق.. كسر محظورا فرضاه عليه قبل الغوص، قترب من البحيرة يتطلع في الماء الصافي فلم ير شيئا إذ انقلب لون الماء إلى حمرة داكنة..

كان يتذّكر الحلم من بدايته إلى النهاية، فهناك أحلام كثيرة راودته لا يتذكّرها حالما يصحو، وتجد ستارا في طول النهار لتتلاشى من ذاكرته، وفي مدرسة الميكانيك، التقى (بوجانا) ، انشراح عميق يلوح على وجهها وقلق، وحين سألها إن كانت قد فرغت من شغلها الخاص لتقضي في المنزل عطلة نهاية الأسبوع، وأضاف بانفعال مفرط:

سنخرج إلى سوق الفلاحين، هناك يتركون البضاعىة في الهواء الطلق، فنشتري الفاكهة والخضار الطازجة!

فانتابها بعض الإحراج:

- سأشرح لك في فرصة الغداء بعض الأمور

وفي الفرصة الطويلة، وهما يتناولان طعامهما، بادرته:

- أنا آسفة علاقتنا رغم قصرها كانت رائعة ولو لم تكن هناك ظروف لما فرّطت بك.

فاجأته صراحتها، فاندفع:

- ماذا تعنين؟

أبدا اقول لك بصراحة أنا امرأة متزوّجة، زوجي أنهى الجامعة قسم اللغة الفرنسية، كان يرفض فكرة السفر، ويأمُل أن يعمل في وزارة الخارجية في السلك الدبلوماسي، والترجمة، بينما كنت أصر على الهجرة إلى بريطانيا، أنا هنا في بريطانيا منذ سنتين أعمل في معمل الدباغة عملا جزئيّا.. مع شريكيّ في السكن، تعلمت اللغة من الصّفر، وبدأت دراسة الميكانيك، قلت بولندا لا تنفعنا هنا الظروف من جميع النواحي أفضل بكثير للأجنبي من بلده وبقيّة دول أوروبا..

ا- لواقع هنا الفرص كثيرة.

فازدردت قطعة يطاطة مقلية، ورشفت عصيرا، واسترسلت.

- ظلّ زوجي يرفض، وقبل شهر تقريبا زرت بولندا، فالتقيته وحدث بيننا في شقتنا مايحدث بين أيّ زوجين، مع ذلك حذرته، إن لم يأت إلى نوتنغهام فأرى أن يتمّ الطلاق!

إلى هذه الدرجة هو متعلّق ببولندا؟

- نعم لاتنس أنّه يساريّ، أبواه شيوعيّان.

فهزّ رأسه، ورشفت جرعة ماء وواصلت:

- لقد عدت وفي بالي الطلاق، وشعرت أن هناك علاقة تشدني إليك، وفي بداية الأسبوع الماضي أحسست بشئ ما، دوار، وغثيان، فجاءت نتيجة ذهابي إلى الطبيب أنّي حامل.

غريبة!

- نعم مفارقة غريبة جعلتني أتصل فأدرك أن لقاءنا الأخير أسفر عن حملي!

فقال بسذاجة طفل برئ يسمع حكاية مشوّقة:

- هل اقترح عليك الإجهاض؟

- لا أبدا، ولو صرّح لي بذلك .. لرفضت بل ازداد تعلقا وعيّر فكرته عن البقاء في بولندا.

فخامره يأس لفقدانها السريع:

- معك حقك هنا المستقبل مضمون.

فقالت بصوت يملؤه الدفء:

- أرجوك افهمني حين التقينا وقتها كنت واثقة من أن زوجي يرفض اللحاق بي وأننا على وشك الطلاق وحين يحدث أستطيع أن أدعوك إلى المنزل فأقدّمك إلى شريكيّ في السكن .. لكنّي الآن أمّ هناك جنين في أحشائي منه، وسوف يلتحق بي في بضعة أيّام فهل يمكن أن أكون لرجلين.!.

فقال ببراءة:

- كل ما أقوله إني آسف لافتراقنا بهذه السرعة.

هو رجل يفقد صديقة دمغت بنشوتها رجولة حلّت فيه قبل الأوان.. ثاني امرأة تمنحه جسدها، وهو طفل يفارق لعبة ثانية.. دمية يكاد يبكي لأنّه فقدها ولم يحطّمها..  فهل تهجره الأحلام القبيحة والكوابيس بمثل هذه السرعة، وفي البيت انتبهت السيدة (آيفي) إلى تغيّره المفاجئ، قرأت في عينيه صمتا، وخفوتا في نغمة صوته، فقالت تزُيحه عن يأسه:

- هل تأتي (بوجانا) عطلة نهاية الأسبوع، إذا جاءت يمكن أن نخرج نحن الثلاثة في نزهة.

فردّ بصوت خافت:

- لن تأتي بعد الآن!

- تشاجرتما؟

- إنّها تفكّر بدعوة صديقها السابق والزواج منه!

- إذن إنس الموضوع، وفكّر بغيرها !

ومثلما توقّع، غادرته (بوجانا) ولم يتركه الحلم، الليلة الماضية كان حلما، .حاول في الصباح أن يتذكّر، فلم يقدر، وعجز عن التركيز في المحاضرة ودرس التطبيق العملي.شرد ذهنه عن كلّ شئ إلّا حلما يحاول أن يقتنصه، ولحظت سيدة البيت تشتته فتساءلت:

- هل مازلت حزينا من أجل بوجانا؟

- ذلك موضوع ابعد مايكون عن تفكيري.

- إسمع ياولدي حين كنت في الرابعة عشرة من عمري أحببت، قبل زوجي، شابا معي في المدرسة، كنت في غاية السعادة.. ليست هناك أجمل من أن تصبح المراهقة سيدة فيظلّ الشاب المراهق الذي يحوّلها إلى سيدة في ذاكرتها. ثمّ افترقنا بعد سنتين.. وأصبح لي صديق آخر..  وافترقنا ولم تنقلب الدنيا ثمّ تزوجت وعشت دهرا مع أ (ندرو) الذي أحبه حتّى توفي.

- هذه هي الحياة..

- سنزور قبره معا وقبر أريك ليس الآن طبعا أتحبّ ذلك؟

- بلا شكّ

وفي الليل آوى إلى فراشه، ونام نوما هادئا، لايتذكّر أيّ حلم، وقبيل الفجر شعر بثقل ما يحثم على صدرم، وموجة ريح باردة تقتحم رئتيه، فخشي أن يعود إلى النوم ثانية، ظلّ يتقلب في فراشه، وهو يشعر بوهن أو وهم يحاصره، يدرك غموضا يعتريه، تيقّنَ أنّها عدوى أصابته، عدوى الكوابيس والأحلام، فلا علّة تعتريه، ولا نقص في بدنه الذي يسابق بالقوّة الزمن.. والغريب أنّ - حين يحلّ النهار يبدو كلّ ئ هادئا ومسالما، يتنفس بهدوء، العالم يجري من حوله ناعما، السيارات، القطارات حركة الناس وجوده في المدرسة، علاقته مع (بوجانا) التي رجعت وكأنّ شيئا لم يكن فمن أين جاءت صرعات الليل، ولم ينقلب الهدوء الوديع الساكن إلى وحش مرعب يقضّ مضجعه بشكل زوبعة باردة تغزو رئتيه؟وليس بيده شئ سوى أن يلوذ بسيدة البيت:

- الآن يا أمي لا أظنّ الكوابيس تهجرني.آمل .. ذلك، الكوابيس التي كانت تعتري صديقتي الصومالية فتجعلني أهبّ من النّوم فأراها بأسوأ حال هي نفسها التي تجتاحني.

ففكرت قليلا، وتساءلت:

- وماذا حين كنت في العراق؟

- لا أظنّ على الرغم من أنّي رأيت أبي يسقط يُعدم أمامي وهي يسقي الحديقة، .

فابتسمت قائلة:

- لا أريد أن أعيدك إلى الماضي البائس أنا الآن أذهب كلّ أسبوع إلى قبر ابني وزوجي قد أصحبك ذات يوم، فلا أريد أن أذكّرك بالموت، وأنت هارب منه، لكنّي أريد أن أعرف كيف ولدت لعلّ ذلك يلهمني أن أساعدك.

فنفث الهواء وقال:

- ولدت بعد ثلاث أخوات، الرجل الشرقيّ يظلّ في شوق إلى وريث ذكر يحمل اسمه، وكانت أمّي تخشى أن يقترن أبي بغيرها، فذهبت إلى ولي، أشار عليها أن تذهب إلى عين في أطراف المدينة .. نبع تخطو فوقه عشر مرّات وتشعل البخور،، وبتلك المعجزة وُلِدت.

- وهل هناك من شرط شرطه عليها؟

- نعم .أن تفعل تلك المراسيم مدى الحياة لكن الحرب الأولى وحرب الخليج وانتشار الجيش والشغب، وربما اختفاء العين نفسها حالت دون أن تكمل أمّي النذر.

فأطلقت ضحكة ساحرة بعثت في نفسه ارتياحا، وقالت:

- النذر والعدوى.. لم تكمل أمّك ماعليها.. وشملتك عدوى السحر الإفريقي من صديقتك الصوماليّة، لا تنس أنّ أمّك (آيفي) بنت قرية تضم مقابر الجنّ، وإنّي أؤمن بعالم الخفاء.

ففغر فاه متعجبا:

- هل تساعدينني.

- إسمع.. سجّل في ذاكرتك نحن الآن نقترب من نهاية شهر أكتوبر .. هل رأيت شجر اليقطين يغزو المحلات التجاريّة في هذه الأيّام؟

- نعم.

و- هل سمعت بالهلوين؟

- نعم يا أمّي

كلّ سنة يصرف الناس هنا مليون يقطينة تصوّر مليون يقطينةفي احتفاليّة الهلوين تذهب في محاربة الأرواح الشريرة، يتفادى بها الأحياء الأرواح الشريرة والجن! قد تكون لعبة لكنها لعبة لذيذة، لا تضرّ إن لم تكن تنفع، نحن نحارب الخفاء بالنكتة والوجوه الغريبة، غدا تذهب إلى المدرسة وكأنّ شيئا لم يحدث وعند رجوعك تبتاع يقطينتين، واحدة للبيت وواحدة تضعها بيدك بين قبور الجنّ!

وتنفس في صدره الطفل ذو الستة عشر عاما، فتساءل:

- هل أنت متأكّدة من ذلك؟

- عيب ياولد لا تقل هنا في هذا البلد الناس لايحبّون هذه العبارة يمكن أن تسأل بصيغة أخرى..

فاستغرب لزجرها المفاجئ:

- بأيّة صيغة أسأل إذن؟

- Are you ok with that وتذكّر أنّك محظوظ لأنّ لك أكثر من أمّ، واحدة هناك، والآخرى معك الآن!

ومن غريب المصادفات أنّ الوضع اختلف تماما، شعر بارتياح تام لما سمعه، بعض الأمور لانصدقها لكنّها تبعث فينا الراحة، أو لا نصدّقها إلى درجة أنََّنا نؤمن بها، ربّما تكون الخرافة الأقرب إليه فمايزال طفلا، وقد تكون صديقته التي لن تتركه، وإن بدا شابا تخطّى العشرين من عمره، وهناك احتفاليّة تنتظره، م يتكاسل، ذهب إلى المدرسة، والتقى المدرب وزملاء الصف، تحدّث مع (بوجانا) وبقية المعلمين، وحين انتهى درسه، خرج إلى أقرب سوبر ماركت، وجد اليقطين أمامه، ابتاع اثنتين ذواتي حجم وسط كما أوصته أمّه، وفي المساء أرته كيف يمارس السحر المضاد، أحضرت، قلما ذا حبر سائل أزرق شمعتين، وسكينا حادّة،، حفرت الجمجمة، من أعلى الهامة اقتطعت الجزء المدوّر، فكان على شكلّ قبعة.. ومدت يدها إلى الداخل فأخرجت حشوة وبذورا كثيرة ألتقتها على في وعاء جانبيّ..

رسمت دائرتين بمستوى واحد

اسفلهما خطّت دائرة أخرى

تحتها هيكل لزورق ذي نتوءات

وحفرت دارتين متقاربتين

ثمّ دائرة كانت الأنف

وقالت السِّكِّينة كلمتها الأخيرة لتكون فما على شكل نصف دائرة ذات أسنان.

شبح

روح قبيحة

شيطان

وضعت الشمعة داخل الجمجمة، وقالت

كلّ سنة أنحتُ العينين، والفم والأنف على شكل مثلثات، هذا العام تركت المثلثاث لك فالمعروف عنها منذ زمن الفراعنة تقضي على الأرواح الشريرة .

فتح الجمجمة من أعلى، فكانت قبعة، ومد يده إلى الداخل، فأخرج الأحشاء والبذور، وقال:

في العراق يغسلون بذور اليقطين ويملّحونها ثمّ يقلِّبونها في المقلاة على نار هادئة ليكرِّزوها للتسلية أو مع الشاي.

- لا تتعب نفسك تجدها جاهزة في المحلات.

فلم يعترض، وقالت محذّرة من الخطأ:

- اجعل قاعدة العينين للأعلى، وقاعدة الأنف للاسفل، وأجعل الفم مثل زورق وانحت.. نصف دائرة مثل الزورق ولا تنس الأسنان.

لن أخطئ فقد تابعتك باهتمام (وقال بلغة الأطفال) هل يمكن أن يكون الفم مثلثا؟

وأطلقت ابتسامة واسعة:

عندئذ لايقدر أن ينطق ! (وأضافت) لابدّ أن تكون هناك دائرة هي القبّعة ونصف دائرة للفم!

راح ينحت مثلثات العينين والأنف، وقوس الدائرة والأسنان، السِّكِّين تسري بيده خفيفة، ناعمة، حتى نحت اليقطينة، فأصبحت وجها رأسا لشخص مشوّة ذي قبعة، تشع عيناه شررا ينطلق نحو عالم الخفاء.

ممتاز

قالت أمّه

وأردفت:الآن بدأنا الخطوة الأولى سيبقى الشبحان هنا ثمّ يغادر أحدهما..

كان يشعل شمعة الجمجمة كل ليلة، فيقرأ في العينين نورهما القوي لكنّ الشئ العظيم الذي أَسَرَهُ أنّه لم يعد يشعر بأيّ حلم خفيّ يداهمه، ولا يحسّ بذلك الهواء البارد الذي اعتاد أن يقتحم رئتيه، وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر، وكانت ليلة باردة، غائمة، خرجت إليه أمّه من غرفتها، وفي يدها علبة كبريت وشئ ملفوف وضعته على المنضدة، رفعت القبعة عن رأس الشبح وأشعلت الشمعة فشعت من عينيه نظرات صارمة، عادت إلى الأريكة بعد أن وضعت الجمجمة على منضدة من المعدن مدورة، وقالت والابتسامة لا تفارق شفتيها:

- سأتأمّل اليقطينة وأنا جالسة على هذه الأريكة من هذه المسافة أجمل.

فقال مثل طفل صغير:

- نعم هذا أجمل

وقدمت إليه الكبريت، فأشعل شمعة اليقطينة الخاصة به:

- الآن يمكنك أن تخرج إلى مساكن الجنّ تحمل اليقطينةّ وتضعها هناك، ضعها في أيّ مكان حتى تؤدّي نذرك وتطرد الأرواح الشريرة كما كان القدامى يفعلون.

- ألاتأتين معي؟

- ماذا هل تخاف؟

فتحركت في نخوة الرجولة التي يراه فيها الجميع:

- أنا أبدا

فابتسمت ثانية:

- إذن خذ هذا القناع إِنَّه قناع (أرك) كان يلبسه كلّ عام في مثل هذه الليلة، حين تصل إلبسه، تأمل اليقطينة وعدّ عشر مرات ثمّ عد إليّ لنتاول العشاء.

التقط القناع من يدها، وحمل اليقطينة ذات العينين اللامعتين الصارمتين، كانتا تتحركان مع الريح وتبعثان تحديا ما باتجاهات مختلفة، شعر ببعض الرهبة والخوف، في الوقت نفسه لم يراوده الخوف حتّى وصل منازل الجنّ، فوضعها في بينها لبس القناع وتراجع إلى الخلف، ويعدّ .. 1 2 3 لم يشعر بالبرد، لكنه راح يعدّ ويتأمّل الجمجمة ذات العينين اللامعتين وسط رهبة الليل وحشرجة الظلام!

***

د. قصي الشيخ عسكر – روائي مهجري

................................

انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة يوم 26\10\2024، وأكملت تصحيحها 2\11\2024 مدينة نوتنغهام

دُرُوبٌ ضائعَةٌ

وَهْيَ  تَمْشِي جَنْبَهُ مُبْتَسِمَةْ

فَجْأةً قَالَتْ لَهُ مُسْتَفْهِمَةْ:

ما دَهاكْ؟

ما الذي قَدْ حيَّرَكْ؟

إنَّ خُطْواتِيَ تاهَتْ

و أنا أمشي مَعَكْ

و خُطاكْ

وَهْيَ تَبْدُو نادِمَةْ

جعلتني أسألَكْ

هَلْ هُوَ المشيُ الطويلْ؟

أَمْ هُوَ العبءُ الثّقِيلْ؟

نَحْنُ جاوَزْنا دُرُوباً، و دُرُوبْ

لَمْ نَعُدْ نَذْكُرُها

فآسْتَطَالَتْ

و تَمَادَتْ

كَتَمَتْ عَنْكَ وعنِّي سرَّها

فإلى أينَ نَسِيرْ

وخُطانا

في رمالِ الوَهْمِ ضاعَتْ

و متى سَوْف نَؤُوبْ

لِدُرُوبْ

قَدْ عَشِقْناها معاً

و أَضَعْنَاها سُدَىً

***

دُرُوبٌ مُتَقاطِعَةٌ

عِنْدَمَا اِسْتَبْدَلَ دَرباً بِسِواهْ

لَمْ يَجِدْ فِيهِ اَلَّذِي كانَ يَراهْ

في دروبٍ سابِقَةْ

مِنْ جُسُورٍ  و مِياهْ

وَ نَبَاتٍ وَ بَشَرْ

فالدّروبْ

بَدَّلَتْ أَشْكالَهَا

وَالجُسُورْ

غيَّرت أَلْوانَها

*

بَعْدَ أَنْ أَتْعَبَهُ المَشْيُ توقَّفْ

عِنْدَ دَوّارِ دُرُوبٍ تتقاطعْ

وَهْوَ لا يَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ يَعُودْ

حِينهَا اَلْغَيْثَ اِنْهَمَرَ

فمشى تحتَ المَطَرْ

دونَ أن يَدْرِي إلى أينَ يؤوبْ

***

شعر: خالد الحلِّي

تزرعين حُبَّكِ في الصباحِ،

وتقطفينهُ ليلاً

كنجمٍ وحيدٍ

*

أرسمُك قصيدةً،

وأمزجُ الشوقَ بصمتِ اللقاءِ.

*

تُمنحينَ قلبي نبضًا

ثم تسكتيه كريح في خريف

اظل اراقب عينيك

تأخداني

حيث اريد او لا اريد

تتركاني

وحيدا

انتظر القصيدة

*

أنتِ التي تُديرُ ظهرَها للسكينة،

وتسقيني من كأسٍ لن ينتهي،

أغرقُ في صدِّكِ وأشتاق،

وأكتبُ على قلبِكِ:

هنا منفى عشقي.

*

تُعطينني نصفَ ابتسامةٍ،

وتتركينَ النصفَ الآخرَ

أبحثُ عنهُ بينَ كلماتِكِ،

كأني أبحثُ عن حُلمٍ

*

انت القصيدة التي اكتبها

كل يوم لكنها لم تكتمل

*

في صمتِكِ

جواب

وفي صدِّكِ

انتظار

*

هل ستفتحين بابكِ؟

أم تتركينه مواربًا

لأحيا بين (أريد) و (لا أريد)؟

*

يا نضجَ العمر،

يا حكايةً ترفض النهاية.

*

أحبُّكِ بين (أريد) و(لا أريد)،

فأنتِ شاسعة البحر

أحبُّ الضياعَ فيه

***

جاسم الخالدي

ها انت وحدك كالضباء

تركض في الهجير

غضبان يسبق حاله بعد العزوف

من النفير

ومن الخنازير التي كانت تجوب المكتبات

لأنها صوت الحروب

هل صح قول الحق في رؤيا أشارت بالنذير؟

واقام ثالوث الجريمة في تعابير الشعارات الجديدة

ومآدب القتل على الأفواه قفلٌ من حديد

اسفي عليك ومن سباك

باع الوفاء بلا تَبَصّر أو بصير

خدع المواقف في الشهود

مُنجّم الفتوى شذوذْ..

لكنَ من قال لنا

لا بد أن يَصح حالها الصحيح

ينكشف الغطاء عنْ عقولٍ نتنةْ

بدون لمسة المصباح يظهر العفريت في الجوار!

وعقارب التلوين اعداد السبايا من نساء المحرقة..

ألا ترى الوديانْ ما حلّ بها؟

دهليز منْ فراغ

تقطنه الاشباح بالصراخ والتفخيذ

وجفت الانهار في سقم الخطاب

وما بقى من شجرٍ بلا قطاف

صار الدمار كأنه الميعاد في القدوم

سار السقام محاصر اً مدن الخواء

وارتجفتْ مواسم العقر الزحام

ثم أصيبت بالجفاف

وانت ساكتٌ سكوت لوثة العنقاء

يا وطني الخنساءْ

الحزن يقتلك الفداء

ومن السبايا في الخيام..

وتعددت من الغباء

أسئلة الجواب في السؤال

تعيد حلماً لا يعاد

تريد سلماً لا يكون

وتعيد ثانية الفصول

ثانية وتحتمي بعود

وتهجر الموعود

وتنشد الموال يا مقرود

فصلٌ يعود

جوعٌ يسود

ننتظر الموجود في المنشود

تردد الموعود في الوعود

مواسمٌ فيها اليباس من اليباس

او ان تريد

تصارع الفراغ بالفراغ

أو ان تقومْ تبغي التخلص من قيود

من حالها؟

ــــ كيف يكونْ؟

شق الطريق دون معولٍ ويدٍ من الحديد

أرأيت أنك في الهجير

كفارسٍ بلا حصان

يصيح بالقوم النهوض

إلا مكان الطلسم المرسوم في الحدود

إلا خروج الاقتحام

وتعيد صوتاً في الحمى

يفرحه المقام

ها انت في بلد السعير

خربان من كل الجهات

عطشان يلبسه الجفاف

وكما يقال..

من سيئٍ  لأسوأ المصير

قد شُيْدت فيك المواقع من تراب

أماكن المكان والزمان

حيث الحضارات التي تُعلم البشر

تلك المواقع في الأثر

هي انهيارٌ ودمار

وعودة السراب للأفكار والغياب

بلا ثيابٍ أو ستارٍ فارضاً حجاب

يناطح السحاب

ويغسل الصحاب

من دمهم مصاب

أرأيت كيف التَصّنع والتَبضّع بالمزاد؟

أرأيت من كل الشعارات اغتراب؟

أريت أنك وحدك المطحون في المطاحن؟

وانت هاجرٌ مهجور في المخازن

والناس في سنن القوانين الفساد

يصارعون

كل خفافيش الظلام

يطالبون

ان يرحل الوباء

يتمسكون

تشرينْ هو الصواب

وعلى الجوانب من سجودْ

" سقط المتاع" يتغامزون!

والكذبة التلفيق خدعة التشويه غايات لها الرذية والسقوط

والناس في ذم قوانين الفساد

يتظاهرون

ويرفضون الموبقات

ويصرخون

تشرين هو الصواب

بالصد يرفع ساعديك

شرف التبصر والتحدي عالياً

حتى ترى كل الجموع كطلعة النخل الطويل

وينتهي ليل العبوس

وتغتني كل النفوس

***

20 / تشرين الأول / 2024

وطن
يربي فينا القسوة
وطن
يُعلم الموت
نُطق أسمائنا
وكل لافتة محاصرة،
*
إن سألته
عن معنى حُب
أمر حنينك المغادرة،
وإن قلت وما الرغيف
كان جوابه مجزرة،
*
وقال أحد الناجين
سآوي إلى بحر
يعصمني من موتي،
وأخذ ما يحب،
قبلة جبين أمه،
ولم ينس
حقيبة يأسه وهاجر،
*
مضى يطارد عمره
من قاطرة لقاطرة
ضحك، فرح،
نسي، بكى،
أنجب، وكَبُر
*
وليلة حتفه
أوصى بجثمانه للرحيل
وما حوله يبكي
ما تذكر
إلى متى يا وطني
لست إلا مقبرة
***
فؤاد ناجيمي

تكتبُ تلك الصبية في درس التعبير موضوعا لا أعرف فحواه لأني منحتهن حرية اختيار الموضوع الذي يكتبن فيه ، شدتْ انتباهي دون الأخريات، كانت تكتب قليلا ثم تتنهد بحرقة شديدة ثم تعاود خفض رأسها نحو دفترها وأخيرا انفجرت باكية وغطت وجهها بمنديلها وأغلقت دفترها.
اقتربت منها ومسحت على راسها وقلت لها هامسة أي موضوع بهذه الحياة لا يستحق منا دمعة واحدة.
قالت: ـ أحيانا نحتاج الى رقود طويل كي ننسى ما يستحق ان نبكي من أجله سحبتُ الدفتر من أمامها وأخبرتها ، انه بإمكانها تأجيل الكتابة الى درس آخر.
قالت:ـ لكني انهيت كتابة موضوعي.
قلت:ـ اذن هذا جيد أنت فتاة مجدة وعليك ان تكوني قوية كذلك ، وخطك جميل وهذا يدل على قوة شخصيتك.
نظرتُ الى ساعتي وقلت:ـ ارجو المعذرة ان الوقت على وشك الانتهاء ثم توجهت للجميع وبصوت مسموع قلت:ـ
الانسان الضعيف لا ينجح في مراحل حياته القادمة اذن علينا ان نكون أقوياء ونمتلك ارادة صلبة ثم ان البكاء يليق بطلاب الأول الابتدائي وليس الأول متوسط اليس صحيحا يا ابنتي وأشرت اليها بيدي، ابتسمت ثم قالت نعم صحيح ولن أكررها مرة أخرى.
جمعتُ دفاتر طالباتي وخرجت بعد انتهاء مدة الدرس دفعني خوفي على مشاعر هذه الصبية ولمعرفة ما الذي تخفيه بروحها الغضة وما الذي كتبته وكان سببا لبكائها بحثت عن دفترها من بين الدفاتر.
فوجدتها قد كتبت.
أمتلك ذكرى عن أبي لا تمحوها السنون عانيت من أوجاعها أياما صعبة للغاية وأنا ابنة الخمس سنوات.
والدي كان يحب أمي ولم أسمعهما قد تشاجرا في يوم ما ولو لمرة واحدة أمي كانت تحمل أعباء الدار وتشرف على مراجعة دروسنا وأبي منهمك في عمله وحين يعود للدار تحاول أمي أن تحافظ على هدوء المنزل من أجل راحته وتقدم له وجباته من الطعام في موعدها.
لكن لا أدري ما الذي جعل أبي يتصرف بهذه الطريقة البشعة معها والتي غيرت مجرى حياتنا وغيرت نظرتنا له كأب حنون، أليس في ذلك ما يثير الدهشة.؟؟
فان كانت أمنا قد قصرتْ معه في أمر ما فما ذنبنا نحن الأبناء ليضع هذا الحاجز بيننا وبينه.
وبالتأكيد ان كل طفل يحب أمه أكثر من أي انسان آخر ولا يمكنه ان يراها حزينة..فهو يحزن لحزنها ويفرح حين يراها فرحة، هذه سنة الحياة وقانونها الذي لا يتغير.
نعم لا يمكنني ان أنسى هذا المنظر دائما وكأنه عشعش في تلافيف مخيلتي ليت هناك دواء للنسيان.
أتذكر سيارة حمل محملة بغرفة نوم جديدة وكنت وقتها العب مع صديقاتي أمام باب دارنا وخلفها سيارة أخرى (تكسي) تجلس بداخلها سيدتان وكان أبي يجلس في المقعد الامامي وقفت السيارتان أمام باب دارنا هرعتُ مسرعة وناديتُ أمي وحين حضرتْ لم تتحدثْ مع أبي لكني فهمتُ من ملامح وجهها ان هناك أمرا مزعجا أحزنها وأعتصر روحها بقوة لا تصدق.
أتذكر أمي وحزنها العميق وامتناعها عن الطعام لعدة أيام حين علمت بزواج أبي من امرأة أخرى وقد بنى لها بيتا صغيرا في الطابق العلوي لدارنا،وكانت تعتقد أمي أن هذا البناء لفك تكدسنا نحن الأبناء ذكورا واناثا في غرفة واحدة
إلا انه عاد ومعه زوجه الجديدة وأختها، وأختها هي من تبرعت وبجرأة عالية بإخبار أمي بالموضوع وانه حدث قبل عدة شهور ويتوجب عليها ان تتقبل الأمر وتبارك هذا الزواج، وفعلا قامت بترتيب الأثاث وهي صامتة.
مرَّ اسبوع كامل وقد وصلنا لقمة اليأس والألم نحن الأبناء
لكني كنت أراقب أمي خلال هذه الفترة فسمعتها تجهش بالبكاء في خلوتها عدة مرات.
كلهم كانوا في حالة صمت الا أنا آخر العنقود وقفت أمامه وبجرأة عالية واجهته رغم طبعه الذي يتصف بالحزم والتجهم، وقفتُ أمامه وقلت:ـ أبي أنت ظالم
وهذا اصطلاح سمعته من جارتنا وهي تواسي أمي...
فحزن حزنا شديدا وحاول ان يضمني الى صدره لكني هربت منه ونفرته حتى موته المفاجئ والمبكر بذبحة
قلبية.
لكني شعرت فيما بعد بندم يضايق روحي الى يومنا هذا..
***
قصة قصيرة
سنية عبد عون رشو

الثعلبُ الأُوروبيُّ الخبيثُ

قرَّرَ أَنْ يبدأُ وليمتَهُ الجديدة

بفنجانِ قَهوةٍ

{ربما هيَ إسبيرسو}

موهِماً نفسَهُ الماكرةْ

بإحتلالِ فيروز

أُمّنا الكونيَّةِ الصابرة؛

على قَهرِ هذا العالمِ

المهووسِ بالقتلِ والدَمِ

والحروبِ والأَوبئةْ

*

يالَها من كائنةْ

يالَها من ملاكْ

كأَنَّها قدّيسةٌ وكاهنةْ

تحرسُنا منِ الهلاكْ

بصوتِها ونورِها

تطردُ عنّا الذئابْ

والخوفَ والوحوشْ

وملوكَ العروشِ

ومن ظلامِ الأَزمنةْ ".

*

هكذا يقولُ حكيمٌ أعزلٌ

وخائفٌ وحزين

بالكادِ يَقْدرُ أَنْ يتنفّسَ

هواءَ اللهِ الشحيح

تحتَ أَنقاضِ بيروتَ

الطاعنةِ بالدمِ والفجيعةِ والخراب

والقاااااااادمُ

آآآآآآآآآآآآآآخ

طرررررررر

*

هكذا تَصرخُ إمرأَةٌ

جريحةٌ

وحزينةٌ

وغاضبةٌ

لكنَّها مازالتْ

برغمِ الطعنات

والغدرِ والخيانات

والزمنِ الملعونْ

تحتضنُ الناسَ

والبحرَ والارزَ

وشجيراتِ الزيتونْ

ومازالتْ ....

رغمَ الجرحِ الراعف

ونزيفِ الموتْ

هيَ بيروتْ

بيروتُ التي دائماً

لَنْ تَسْقُطْ

ولَنْ تُكْسَرَ

أو تُقْهَرَ

لأَنَّها عنقاءٌ أَبديةٌ

دائماً تنهضُ

من رمادِ الحرائق

والعواصفِ والحروب

وتظلُّ بيروتْ

فيروزَنا الصابرةْ

وأُمَّنا الشاعرةْ

التي لاتَفْنى أَبداً ؛

لأَنَّها: {جميلةٌ

وقويَّةٌ جداً} ونادرةْ

هذا ماقالَهُ الثعلبُ المُتَشاطر

في أَوّل ِالحكاية

فضحكتْ فيروزُ

ضحكتَها الخجولْ

وضحكتْ بيروتُ

منْ هَوْلِ الفضيحةِ والذبولْ

وضحكَ البحرُ وكلُّ كائناتهْ

وضحكَ المرفأُ والميناءْ

وضحكَ اللهُ مع الملائكِ

حتى همَتْ دموعُهم

وفاضتِ الأرضونُ والسماءْ

نهراً من الدموع والدماءْ

ولم تَكُنْ فيروزْ

أَرملةً خائفةْ

ولمْ تَعُدْ بيروتْ

وحيدةً نازفةْ

والثعلبُ المُتَشاطِرْ

مهما يَكُنْ ماكرْ

قَدْ أَصبحتْ لعبَتَهُ

واضحةً ... فاضحةً

وحظُّهُ كعقلهِ

منكسرٌ .. مندحرٌ

"منشكحٌ" ... مُنبطحٌ

مُنفعلٌ ... مُتفاعلْ

لكنَّهُ ياخيبتَهْ

يظلُّ مفعولاً بهِ

ولايكونُ يوماً فاعلْ

ولمْ يَكُنْ ذكياً

ولمْ يَكُنْ نبياً

أو عارفاً وشاعراً

أَوعاشقاً زكيّاً

وإْنَّما ...

كانَ مُجَرّدَ ثعلبٍ

وكانَ يَلعبُ لعبةً

معَ أُمّنا الصابرةْ

وفيروزِنا النافرةْ

وكانَ يحلمُ

بإنتدابٍ سافرْ

أَو بإحتلالٍ كافرْ

لكنّهُ ماكانَ بالشاطرْ

وإنَّما كانَ مُجرّدَ ثعلبٍ

غبيٍّ و فاشلٍ ومُتشاعرْ

وحظُّهُ طاحَ بوحلِ المَرْحَلَةْ

لأَنَّهُ إضحوكةٌ وواهمٌ ؛ مُتشاطرْ

يُريدُ أَنْ يَجتاحَ بيروتَنا

يُريدُ أَنْ يَحتلَّ فيروزَنا

ويُعيدَ مجدَ الإنتدابْ

ويُبيدَ فردوسَ الخيالْ

ويَسْبي سيدةَ النجومِ

والأَرزِ والغناءْ

ويُشِيدَ مُقبرةَ

ا

ل

غ

ي

ا

بْ

في هاويةِ الموتِ

و

ا

ل

ف

ن

ا

ءْ

***

سعد جاسم

لا الشَّوقُ قَرَّبَهم إذ بانوا وافترَقوا

لا اللّيلُ رَقَّ لِشمعٍ بات يَحتَرِقُ

*

والفَجْرُ مُنبلِجٌ لِلْمُحْتَفِينَ به

هَلَّا أفادَكَ طولُ السُّهدِ، والأرقُ؟!

*

ولن يَمَلَّ ركوبَ البحرِ، راكبُه

فلن تُرَوِّعَه الأمواجُ والغَرَقُ!

*

يا مَنْ تَنُوءُ بِذَنْبِ الوَجْدِ، يُرْهقُكَ

تاللهِ ما ظَلَم العُشّاقُ إذ عَشقوا!!

*

لازلتَ تُنشِدُ أبياتا مِن الغَزَلِ

لو أَمطرتْ لهَمَى مِن وَدْقِها الشَّبَقُ

*

واخْضَوْضَرَتْ بِرُبَى أطلالِهم قُبَلٌ

فَاقْطِفْ هُنا عَلَنًا ما كُنْتَ تَسْتَرِقُ

*

واغْنِمْ لَذِيذَ حياةٍ سَوف تَنْصَرِمُ

حُثَّ الخُطى فَقَرِيبا تُقفِرُ الطُّرُقُ

*

والشَّيبُ يُولَدُ مِن سِنينَ قد أفَلَتْ

ونُورُ عُمرِكَ قَدْ يَلُفُّه الغَسَقُ

*

لا تَلْحُ عُودَ شُجَيرةٍ ولَوْ قَدُمَتْ

لن يَنْعَمَ الغُصْنُ حتّى يَنْعَمَ الوَرَقُ*

***

شعر: د. المنتصر العامري

..............................

* اقتباس لبيت غير منسوب ورد ذكره في لسان العرب كما يلي:

"أَنشد سيبويه:

واعْوَجَّ عُودُكَ مِنْ لَحْيٍ ومِنْ قِدَمٍ

لا يَنْعَمُ الغُصْنُ حتى يَنْعَمَ الورَقُ"

أُقَلِّبُني بَيْنَ الْمَواقِعِ

أَرْدأَ الرّياحَ الّتي تَرْخو بِأَخْفى الْمَكامِنِ

فَأُسْهِمُ في دَفْعِ الْهواءِ

وَخَلْطِهِ

أَؤُزُّ

انْتِهازِيّاً

يَعيشُ مُبَصْبِصاً

دُمىً

تَرْتَمي لِلْمِنْبرِ الْعَبْدِ

واثِقاً

يُفَرِّغُ أَوْثاناً مِنَ الشّكّ

ثُلَّةً

مِنَ الْآخِرِينَ السّابِقينَ إلى التّظاهُرِ الْشّائهِ الْبالي عَلى الْعَقْلِ نِحْلَةً

وَخَبّاً

يَقودُ الْمَيِّتينَ لِنُهْزَةٍ يَخالونَها

الْفَتْحَ الْمُبينَ

وَهَلْ دَرَوا!

***

البشير النحلي

 

نسر الوقت الجميل

لمع جناحيه

مسافرا صوب

حدائق وبساتين

البهجة الخضراء

والامل الاخضر

حاملا في قلبه

نجوما

شموسا

واقمارا

نرجسا بنفسجا

واقحوانا وينابيع

مسك فضة بيضاء وعنبر

مطاردا العناكب

الجرذ والجراد

وعازفا على

سنطور قلبه

لحن الخصب

لحن البهاء

ولحن الازدهار .

***

سالم الياس مدالو

 

رمادي إيقاع الضوء يا سلمى

رمادي إيقاع قدميك في بلاطة قلبي

رمادي إيقاع النهارات

وبستان شجر اللوز

رمادي سرد الأموات بين الأنقاض

وبين شقوق المخيلة

رمادي أنين الريح

الزارب من حنجرة الشرق

رمادي وجه الماء الهالك

رمادي شجر اللوز وأبراج الكنائس

الفجر المتجمد

يطل من الشرفات المتفحمة

إنها تمطر تمطر دون هوادة

بالجثث فوق رؤوسنا

بالتوابيت والوحل والخيانة

بينما صلواتنا المتعفنة

معلقة في الهواء

موتنا واضح وغزير

العربات ملآى بالأشلاء المكدسة

والمصادفات البائسة

القناصة يفترسون الأفق

يفرغون عيون الموتى

من الذهب والحنطة

مازلت أحبك يا سلمى

أحب  صوتك المليء بالبرق والعواصف

كثبان الغضب وزمهرير اللبؤة

شوارعك المزدحمة بالنور والبركات

برائحة الدم وآهات القساوسة

نحيب الحصان الأشقر

شمسك التي تطلع

من تحت الأنقاض

مدججة بآلاف الفراشة المضيئة

آه يا سلمى

الوطن مليء بالدسائس والعميان

بالخناجر المضرجة بالدم

القوارب المهشمة

تملأ قاع الكلمات يا سلمى

والمجاعة ترمي شباكها في الحواري

العار يضرب رقابنا

في الساحة

أمام الطوابير المزينة بالجثث

أحبك يا سلمى

أنا حامل الدلو  المقدس

في البهو الرمادي

بعينين شبه عمياوين

بأجراسك العذبة

أرتق ثياب المستقبل.

***

فتحي مهذب – تونس

مثلُ نجمةٍ تهرقُ وجعَها وتنطفئُ بعيداً، تنبتُ أزهارُ الدفلى على يدي

التي تُعتق الأضاحي على أعتابِ أسمكِ، يا قاموسي الذي أطلقَ الكلماتِ وألقى لغتَه في بئر جحودكِ الذي تبرّأ منكِ، لا حدسٌ يجيءُ ولا منفى يضمُ أسايَ, يا بلبلي الذي يغرّدُ بعيدا

عن الشجرةِ ويأنسُ بظلّها، يا خزفي المتناثرُ في الطرقاتِ

التي تقودني اليك بلا سبب، وتتركني هناك بلا سبب،

كيف لي أنْ أسألَ اوراقَ الأشجارِ المتساقطةِ عنكِ؟ ولا طريقٌ يقودنُي الى صوامعكِ البعيدة, كيفِ لي أنْ أسألَ الينابيعَ عن عذابكِ؟ وهو شوكي المزروعُ في الطرقاتِ التي تأخذنُي الى حيرتي بكِ، وأنتِ واقفةُ في بابِ قبري تنظرين أليّ،

بيدكِ مزاميرُ النساءِ كلِها، ونبيذُ شقائي الذي توزعينه على المآرة،

رأيتُ حبّي يقطرُ دماً على أعتابِ توريتكِ، وأنتِ تمرّغينه بالجحود وتلقينَ دماءه للعشب،

حتى بكتْ عليه أشجارُ الخريفِ الموحشة،

لم تعدْ الغزالاتُ تشتهي العشبَ، فناحتْ على قطراتِ دمّي التي تسيلُ على أعتابِ قلبِك،

ها هيَ نجمتي تُهرقُ وجعَها وتنطفئُ بعيدا، ولا أملٌ هناكَ غيرَ اللفائفِ التي تقودنُي اليكِ، أنا وعيناكِ والمنفى واسرابُ الطيور التي تلاحقُني كلمّا احلمُ بكِ،

حيثُ يتيهُ القمرُ بعيدا في فساتينِك التي صارتْ كفناً لحيرتي ، كيف حوّلتِ مهمازي الى مشنقة؟ وقصائدي الى مقبرة لحبِّك؟ وأنا ألوّح بيدي أليك، يدي التي أدمنت رسم أسمك على الهواء, وأحتراف مسح الدموع دون مناديل،

دعِ الكمثرى تنضج وحدهها دون قطف، فلم تعد للينابيع حكاية غيرك، ولم أعد أستهوي الجلوس على حافة النهر الذي يحتفي بوجهك،

دعينا نشيّع حبَّنا سويا بلا خجل, ونترك العصافيرَ تحمل نعشَه الى أعشاشها،

فقد أندلقَ طعم القبلاتِ التي أستلّها جحودك من بين أسناني ونثرها في العراء،

لم يعدْ بيننا غيرُ الطريق الذي لا ينصاعُ ليْ، غيرُ الذكرياتِ التي جفّ حبرُها وتلاشتْ

على الحائطِ الذي كنّا نتكّئُ عليه،

غيرُ الغيومِ التي تحملُ دموعَنا بعيدا وتنثرها فوقَ التلالِ التي كنّا نحلمُ بالجلوس عليها،

هذه وصيتي وبقايا طحالب حبِّك عالقةٌ على جدرانِ قلبي,

لم يعدْ بيننا غيرُنا، غيرُ أسمائنا التي أندلقتْ في بئر لؤمكِ، وأنت تنظرين اليه، وتضحكين بلا خجل.

***

رسول عدنان - شاعر وناقد عراقي

خَــتَــمْناها فُــصُولَ الْــعَنْتَرِيَّةْ

وَأَسْــدَلْــنَا  سِــتَارَ الْــمَسْرَحِيَّةْ

*

وَمِــنْكُـمْ  نَــسْتَمِيحُ الْآنَ عُــذْرًا

أَيَـا  أَذْنَــابَــنَا لَــكُــمُ الــتَّحِيَّةْ

*

قُـوَانَا فِي الْوَغَى خَـارَتْ سَرِيـعًا

فَــفَـعَّلْنَا خِــيَــارَ الْــمَــزْهَرِيَّةْ

*

طَــوَاحِينُ الْــهَوَى لَمْ تَجْدِ نَفْعًا

وَلَا نَــارُ الْــحُرُوبِ الْــهَامِشِيَّةْ

*

أَمَـــا آنَ الْأَوَانُ بِـــأَنْ نُــجَازَى

عَــلَى جُــهْدِ الــتِّجَارَةِ بِالْقَـضِيَّةْ

*

فــنَشْكُـرُكُمْ عَــلَى هَــذَا التَّـفَانِي

لَـقَــدْ كُــنْـتُمْ لِــغَــايَتِنَا مَــطِيَّةْ

*

مَــصَــالِحُنَا نُــحَقِّقُهَا بِــحِرْصٍ

وَلَا عجباً إِذَا كُــنْـتُمْ ضَــحِيَّـةْ

*

فَــلَــمْ نُــجْبِرْكُمُ كَــيْ تَــتْبَعُونَا

تَــطَــوَّعْتُمْ لِــخِــدْمَتِنَا هَــدِيَّــةْ

*

فَـــلَا  لَـــوْمٌ وَلَا عَــتْبٌ عَــلَـيْنَا

إِذَا  كُــنْــتُمْ جَــمَـاهِيرًا غَــبِيَّةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

يا سيد البسلاء ونغمات الوجد في ابتلال الروح في المرأة  وعسجديات  القمر المستنار

تكتمل رؤاك والجسد الموشى بالمسك والكافور وعبق النرجس، والطيون  وبسمات عيون الغار

نسيمات الجسد الفتان تسبح في طيات التاريخ وكتمان المودة وتلابيب الغرام في تناهيد التراب

يا سيدي أنت في بسمك نقرأ ابتهالات الموجوعين يرتلون القران على شرفات الأقصى والقباب والقاشان

بصيلات شعرك هي حبيبات الرمل اللامع في محيط المرقد الشريف في الكاظمية والنجف الشريف وكربلاء العطاء

هي الماذن في فتح مكة تنسج رسمك الوضاح يبتنيك موسى بن نصير شارة لفتح الله والخلصاء

هي القباب والأسباط وطريق الالام وباب الأسباط ومعراج النبي يرددون صيحات اللقاء بالسيد السعيد شهيد النقاء

يا أنت يا يحيى يا صنو عروبتي ومخيمات العز والنشامى في معان وبغداد وحواري اليمن وصنعاء

يا ابن الصحابة الفاتحين لخيبر وبني قريظة والقينقاع تسيل من نفوسهم اهات الزمان وعرى الاهات

ترى وسمات الشمس ونهدات الأقمار وأسراب النجوم تضيء من وجنتيك والجبين الأغر تنبع منه الأنهار

هي نسمات الجسد السرمدي يتبارك بها حملة البنادق الثائرين والعارفين بأمر الله في تسارع لحظات الوجدان

غبار يتناثر في المكان يحمل على جناحيه صورة الوطن المعنى في نغمات الوجد وابتلال الياسمين

يطير الغبار يصفق بجناحيه يحمل صورة يد تتدلى تحملها الأجيال أوسمة في خلد الفاتحين إلى ظلال

كم هي حالات الزهو مبصرة فرائس الجراح تتناثر خارج أفق التلاقي وامتدادات  الخريف إلى اليقين

مدارات الجسد قد تتسع لمدارات الروح تذبح في اتساع أفق الرماد وتحنان السائلين إلى البروج

يا رماد الغبار كنت جمرا ولم تزل تحمل في تثنيات المدار جسدا يوقد الأيام غزة وتناغيم فداء العظماء

منائر الأيام تخفت في ظلالها أصوات الجياع تركض في عمق البحر ترى غزة معلقة في الغمام

حالات الوصول تلتمع  منها خصلات الشعر الباسم كما لو أنها تحفظ بسمات الروح فيه عن ظهر قلب

لا وطن للنوح في صدره العامر بالايمان ومحبة الغلاف وغزة وعسقلان والمسرى الجريح والظلال

يا وطني شباك ممزقة ترتديها نهمات جراح الشمعة تغرقها حالات البحر الغافي ترتبك ولا تعي تدابير الكون

ذراعي ألممزق أرصفة متحركة يعبر عليها المدافعون عن عبق التراب وخلجات القلب في زهو فوح البرتقال

تتساقط عيون القذائف على هامة تسجد لله شوارع المدينة تحاط بكل الذين تساقطوا في ارتقائهم إلى السماء

عيناه عبر نافذة المنافي عصفور يرمي نظراته الهائمة وراء فضبان الوطن المسجى في حدقات الجنان

بيده يدق غرابا سابحا ينقل صورة التلاقي في حالات العناق وجراح خطب الجنرالات في الاذاعات

حربه يفقهها الذراع لا يفقهها سلطان تربع على عتبة النهب والسلب وارتعاشة الجسد من نياشين السحت المراد

جندي متمرس في فنون القنص وهمهمات الغصيان لأوامر جنرالات لا يفقهون في دنا الأيام وهزهزات الفوهات

ظل للتراب وفيا لا يعرف الظل ولا حالات انكماش الضوء وسحب الأماني تغني لها طرائق دروب العاديات

سيد في سيادة النفس يمضي في مهمته تختلسه النظرات تقلب صفحاته قلوب اليافعين واليافعات

ينسل مسرعا حول دندنات الزحام يرسم خطو النصر تلكزه  الذكريات بحذر وسط حشود الانعتاق

ذات صباح ذات مساء مغبر يطوف المطر شوارع مدينتنا لنرى انحناءات خطوات الزمن العضال في تباريح الأيام

صبره وثبات في المكان في معمعان القنص ترى بصيص الانعتاق نراها مزهرة كسنابل في رجرجات الرياح

يبسم بسمته ترسم نبضات الحياة الشاسعة تعني لنا شيئا جميلا وتعني له ضغطة مقصودة على الزناد

قد تكون هالته حالات الخذلان من المحسوبين على نخب ثمنها شسع نعل ثائر تربى في جباليا وجنين والباذان

يتعالى الهتاف من فم الرصيف المندلق هتافا بحب خطوه الباهي والغيوم الباسلات في زمن القحط والغناء

هولاكو يتربع على عرشه تراه مرتبكا هلعا من ذراع معصوبة تهش على المسيرة بعصاه بعد أن نهنهه الجراح

بين يديه حشد من المهنئين ببسالته والثبات على استمراية الفداء في حالات نزف الخلاص من خنوع في الحياة

نرى وطنا مبللا بحبيبات المسك المتدفق من جراح نازفة تنهبها عيون الخنوع وسنابك أروقة خيول المغول والتتار

كتاب فيه صفحات مجد معطر بنغمات جراحه المتدفق مهابة وحبا لحبيبات الرمل في رفح واقانيم البرتقال

جندي يحرسه جيش يرتبك أمام بناية مهدومة فيها بقايا من نفس القسورة وحيدرة وخالد والقعقاع

غجلات تتسارع تتساقط قذائف الخوف على جسد مسجى يلتصق بالأرض وغصون المجد ونغمات الأفنان

يبصر الجنان فوهة تترصده لم يفترق  ورفاق الدرب تتقاطع الشوارع في أفئدة الماشين إلى دروب الخلاص

وجميزات غزة واريج البرتقال ينشدون لوعة النصر وخير مقال

لعمرك هذا ممات الرجال

ومن أراد موتا شريفا  فذا

وتنتشر الفرحة في قلوب الرجال في غزة والضاحية وجنين وصنعاء وتردد قول ابن عباد في خطاب بجير،،،

(ذات يوم ستكون بطولاته خير ما تتسلى به في لياليك) والناهدات من العرب والماجدات يتوشحن برسمه الباسمات

نقرأ في العاجل آخر  نبض له في حياة الدنا تتلقفه يد الله تمسده تبني له مجدا في الدنيا تفوح منه روح العطاء

ترى القصور والزبرجد وانهارا من العسل المصفى وحور العين يرشرشن  له الدرب بالكافور والمسك المذاب بالحناء.

***

نادي ساري الديك

21/10/2024م.

........................

اليه وهو يلملم ذراعا هشمتها الشظايا يهش بعصاه على مسيرة ملؤها ضغينة وعذاب

 

خرج قشّوع ابن المرحومة قشّوعة من البيت صافقًا الباب وراءه. توقف لحظة بعدها انطلق مثل صاروخ مصوّب بدقة نحو هدف محدد جيدًا. كان يعرف إلى أين سيذهب، ولم تكن الأمور واضحة له بمثل ذلك البهاء والرواء.. من قبل.. كما هي الآن، سنرى أيها الأصدقاء مَن يعرف أكثر ومَن يحبّ أغزر. تريدون أن تضحكوا.. أتقبل هذا منكم. لكن سترون مَن سيضحك في النهاية. لقد تركت لكم الضحك في البداية لكن الآن.. سأريكم الزمباع من أين يُباع، وسوف أعلّمكم درسًا لن تنسوه ما دامت هذه البلاد ترفع رأسها وترد الطامعين عن حياضها. في الامس التقى قشّوع بهم. هم مجموعة من الشباب التائه.. الباحث عن سخريات القدر وملذات الحياة العابرة. غنّى لهم فبدت عليهم علامات.. داخلها شيء وخارجها شيء آخر مختلف. تلك الألاعيب لا تنطلي على من هو مثل قشوع ابن المرحومة قشوعة المعروفة المشهورة برصانتها في طول البلاد وعرضها. في الامس ذهب إليهم هناك في دكانهم كابي الأضواء بالصدفة وغنى لهم بالصدفة. أما اليوم فإنه ذاهب إليهم بالقصد. إنه ذاهب ليقتصّ منهم. وليريهم أن ما آمن به وتعلّق به أولًا وقبل كل شيء، يستحق التقدير ومِن شانه أن يجعلهم تلاميذَ في مدرسته الخالدة لا رجالًا ساخرين منه ومن تراثه الرائع. ليتحضّر الآن وليدلف إلى دكانهم الغامض. ليخترق أضواءهم الخفيفة. وليجعلها أسطع من الأقمار في سماء صافية. هم اتفقوا معه على أن يغني لهم ولأصحاب لهم مما جادت به ذاكرته الشعبية الوطنية الواعية. وهو قَبِلَ ضمن محاولة منه لإقناعهم بما ارتكبوه من حماقة عندما سخروا واظهروا علامات الرضا. لقد قبل ان يدعو إلى تلك الجلسة مَن يسخر منه ومن أغانيه الخالدة في السرّ ومَن يقدّره في العلن.

انطلق قشوع في الشارع المؤدي إلى حانوتهم ذاك. انطلق يغذّ الخطى، كأنما هو متوجّه إلى معركة يُدرك تمام الادراك أنها ستكون رابحة. ألم تدعُه والدته المرحومة الذكية باسمه القريب من اسمها محبةً وأملًا؟ ألم تكن هي أول مَن طرب لأغانيه الشعبية المُعبّرة؟.. ألم تشجّعه على أن يحفظ كلّ أغاني فلسطين من جدة صديقه اللزم.. أحمد العربي؟ ألم يفتح عينيه وقلبه لتلك الأغاني فيتحوّل إلى موسوعة غنائية متنقلة.. تطرب الحوادي والركبان. قدّرها مَن عرفها جيدًا وسخر منها مَن لم يُدرك قيمتها. انطلاقة رجلنا الهُمام في تلك اللحظة كانت جدّية وجادة .. وها هو يقترب من هدفه.. ليصطدم بما لم يضعه في حسابه. ها هو يتوقّف بطلب من صاحب الحانوت الفاصل عن ذاك المدعو اليه بسبعة حوانيت؟ .. إلى أين أنت منطلق بكلّ هذا الحماس. جاءه صوت صاحب الحانوت.. فردّ بثقة بطل شَهِدَ له القاصي قبل الداني.. إلى تلك الحانوت.. الصوت المنخفض الاجشّ جاءه هذه المرة من صاحب الحانوت ذاته.. لقد قرّر داعوك أن تكون الجلسة الغنائية اليوم هنا في حانوتي.. أدخل.. أدخل.. تفضّل والله الا تتفضل.. دقائق وسوف يأتون إلى هنا.. وقال بفم ساخر الآن في هذه الساعة سنخلّد ذكرى الوطن وسوف نرفع راية مَجده الخفّاقة. قبل أن يوجّه قشوع سؤالًا استفسارًيا إلى صاحب مُحدّثة الحانوت.. كان رفاق الحانوت الداعون يتوافدون واحدًا تلو الآخر.. كأنما هم يتوافدون إلى عرس لا عريس فيه.. الا الوهم. اتخذ كلّ منهم مقعده وسط نظرات التقدير في الظاهر والسخرية اللاذعة في الباطن. فيما اقتعد قشّوع مجلسه القديم العريق متوسّطًا المجموعة مثل ملك..

رفع الضيف المغني قشّوع رأسه بشمم وإباء وسط نظرات الجمع المنتظر غناءه. ران الصمت على جميع أغراض الحانوت.. ابتداءً مِن الأحذية المنتشرة على كلٍّ من رفوف الدكان، انتهاء بالكؤوس التقديرية، مرورًا بالكاستيات الملأى بالأغاني المُطربة. استفز الصمت المُخيّم مجموعة الحاضرين.. خاصة أولئك الذين دعوه آنفًا لتلك الجلسة.. وتدخّل صاحب الحانوت البعيد عن حانوتهم بسبعة محلّات.. قالوا جميًعا إلى متى سننتظر؟.. ألا تريد أن تغنّي لنا؟.. وتشاطر أحدهم قائلًا اطربنا يا حضرة المغنّي مثلما اطربتنا في الأمس.. مع ولعه بالأغاني الشعبية المُعبّرة ورغبته المّلحّة الهائلة بأن يخلّد تاريخه الشخصي أولًا وتاريخ مجموع شعبه بصورة خاص، تماسك قشوع وقام بتغيير الموضوع.. وكي يكون مقنعًا راح يتحدّث لهم عن تاريخ الأغاني الشعبية في بلاده.. كان ما قدمه مجهولًا لهم جميًعا تقريبًا.. ولولا نُتف من المعرفة أدلى بها عقلاؤهم، لفرعن قشّوع عليهم ولرأى أنه وصل الى مبتغاه بسرعة صاروخ مصوب نحو هدف محدّد. غير أنه واصل حديثه مُفحمًا إياهم ومقنعًا سأخرجهم بأنهم أولى بالرثاء من المديح وأقرب إلى الجهل منهم إلى العلم..

تحرّك قشّوع في مجلسه تحرُّك ملك عرف قيمة ما يمتلك.. كان ذاك واحدًا من الامتحانات التي كان لا بدّ له من النجاح فيها.. صحيح أنه قصير القامة لكنه يرى ويسمع مِن بعيد.. بعيد.. الطبيعة حرمته من شيء وجادت عليه بأشياء.. شكرًا لكِ جدة صديقي.. شكرًا لكِ على ما فضت به عليّ من معلومات تُعمّق معرفتي.. وشكرًا لذاتي لأنني طوّرت وتعلمت وشغفت.. تمعن قشوع في وجوه مّن أرادوا أن يجعلوها قعدة سخرية.. شعور بالقوة انتابه.. لقد حوّلتهم كلماته إلى تلاميذ قاصرين لا يستحقون نصف علامة لأن ينجحوا.. في امتحان أرادوه له.. فانقلب السحر على الساحر .. وها هم يفتحون أفواههم ويُرخون شفاههم.. منبهرين به وبما جاد به مِن معلومات جمعها أولًا من فم تلك الجدة الفاضلة، ومن مصادر المعرفة بالأغاني الشعبية الوطنية من ناحية أخرى.. لفت ما هو به من زَهو واعتزاز بالذات كلّ مَن أحاط به.. فقرّب الجميع كراسيهم منه.. حتى تلاشى البُعد فيما بينهم.. فبدوا مثل رجل واحد .. ضغط الجميع بأجسادهم على ضيفهم الكريم.. وتوجّهوا إليه طالبن منه.. بلسان كاد يكون واحدًا أن يغنّي لهم مجتمعين مثلما غنّى في الامس.. غير أنه انتفض مثل نِسر توقّف على أعلى ذروة في جبال بلاده.. وهتف بهم طالبًا منهم أن يحرّروه الآن.. فقد قدّم لهم الكثير على أن يغنّي لهم في القعدة القادمة..

توقّف المحيطون حول المغني الرائع قشّوع.. فبدوا كأنهم لهبٌ تمنطق بالحديد.. وكان لا بُدّ لهم من أن ينفضّوا حوله.. منتظرين القعدة القادمة.. أما قشوع صاحب الصوت الشجيّ فقد خرج من دكانهم ذاك وعلى لسانه معلومات غزيرة وفي قلبه أغنية أبى أن يُطلقها إلا أمام من استحق الاستماع إليها فعلًا لا قولًا فحسب.. خرج المُغنّي إلى الشارع المحاذي.. "ما أجمل الأغاني عندما تكون بحجم الوطن"، قال.. فبدا له الشارع في أ أطيب حالاته.. وانطلق عائدًا إلى أغانيه وإلى تلك الجدة.. شاعرًا انه يوجد هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

مع ترجمة للانجليزية

للاديبة السورية الناقدة: فاطمة عبدالله

***

وبعد غيابٍ طويلِ التقينا

وحين التقينا

أطيارنا رَفْرَفَتْ بالبكاءْ !

*

ظل ما بيننا صمتنا برهةً

وابتدأ طيرها

يَنحني للوصولْ

*

وبدتْ بسمةٌ

بعد صَمْتِ الأُفولْ

حُسْنها عَبَقٌ

من عِقْدِ فلٍ أضاءَ المكانْ

وطيري أنا

كالجريحِ ارتمى

في حُضنِها باحثاً عن أمانْ  !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

............................

A rose...in the winter fog!

After a long absence, we met

And when we met

Our birds fluttered in tears!

*

There was silence between us for a while

And her bird began

It bends to reach.

*

It appears a smile

after the  silence faded

Her beauty is a fragrance

From a  jasmine necklace which enlightened

The place

And my bird

Like a wounded man, he fell

In her arms searching for safety!

***

The poet Muhammad Thabet Al-Sumai / Yemen

Translated by Fatima DL.

 

جئتُ قبل وقت

المغيبِ بعشرين

دقيقةٍ

إرتديتُ صمتي

وتلحفتُ بعُزلتي ..

جئتُ لأتأمل الشفق

وهو يتباهى بإحمرارهِ

في كبد السماء ..

*

الشاطيءُ هُنا مليءٌ

بالأصداف و أنا فارغةٌ

من كل شيء ..

*

حتى عقلي المُزدحمُ

بالضجيج أفرغتهُ

قبل عشرين دقيقة ..

*

أغمضتُ عيناي

وأنا تحت الشفقِ

*

فتورد قلبي

وأبتهجت مُهجتي ..

*

لمحتُ طيفاً

سمعتُ صوتاً

يناديني : يا أنت

فنظرتُ بتعجبٍ

من حولي فلم

أجدُ أحداً سواي ..

*

أما عرفتني؟

أنا شفقكِ الأحمر

تعالي إلىَّ وأبتهجي

وأرقصي

في كبد السماء ..

*

قبل أن أُغادر

طيفُكِ النقي

عانقيني يا فؤادي

وأجمعي روحكِ هُنا

و أمتزجي مع

إحمرار السماء

ثم غادريني

غادريني

قبل أن ينطفأ

المغيب !

***

أريج الزوي

على امتداد النظر كانت المنطقة مهجورة، وقاحلة، لم يكن فيها  قائم سوى قبري الذي زرته كشبح بعد دفني فورًا. كانت السماء منخفضة، والأفق مغطى بالضباب الأصفر، وساد هناك صمت حزين، فلم أر وجوه الدفانين؛ لأن الغشاوة التي كانت تغطي عيني، قد حجبت ملامحهم.

جلست أمام ضريحي ونظرت إلى اللوحة المصنوعة من الإسمنت، والمحفور عليها اسمي وتاريخ ميلادي ورحيلي إلى عالم الخلود. مدونة قصيرة لا تلفت الانتباه ولا تولد الحماس؛ فهو ليس إلا اسمًا كغيره من الأسماء التي اختفت في غياهب السجون وكوارث الحروب والصراعات الطائفية والتصادم الديني والعنصري، هؤلاء ايضًا كانوا يحملون يوم ميلاد ويوم وفاة.

كانت تلك… لحظات مؤلمة وقاسية، ملآن بالجراح العميقة تركد تحت وطأة اليأس من ركام الخيانة والخداع. بدأت أتحدث مع نفسي، وأنا أعلم أن صوتي لن يسمع الآن، هذا الصوت الذي كان حيا قبل ان ينقطع عنه الهواء، مكتومًا على الرغم من السماح له بالصراخ.

وبينما كنت أحدق إلى اللوحة، نشأ حاجز من عدّة خطوط مرئية التي كانت تمر بشكل متوازي أمام العينين، عموديا وأفقيا، ولكن يصعب التقاطها أو إزالتها، لم أعرف مصدرها؛ لأنها كانت تتسرب من بوابات غير مرئية. بدأت هذه الخيوط تتشابك حتى أصبحت شبكة عنكبوت شائكة، يوحي المشهد بتعقيدات الحياة ومعاناتي عندما كنت ولا زلت أتنفس.

طفقت أقارن نفسي بجثتي الهامدة تحت التراب. لم أجد أي علامات واضحة على الاختلاف. الحياة عبارة عن قيم وأسس ومبادئ، وقد دُفنت تحت التراب، أمام عيني، ولم أتحرك ساكنًا، لأنني كنت حينها مشغولاً بالاستماع إلى الوعاظ والكهنة وهم يتحدثون عن أهمية الموت في حياتنا؛ ففاتني القطار ولم يبق أحد على أرض المحطة في انتظاري.

هل رأيت يا جثتي كم أنا بائس؟ كانت السماء تذرف دموع الحسرة على محنتي، وتحرك الرياح الأشجار لتهز أغصانها، عسى ولعل حفيف أوراقها يوقظ في داخلي الألم، وقد فقدت الأمواج طاقتها وهي تندفع إلى الأعلى بكل قوتها، لتحذر من قدوم الخطر، والأفق ما زال شاحباً من الحزن والأسى.

وبينما سفينتي كانت تغرق، فبدلًا من أن أطلب الخلاص، أصرخ: "هيهات أن أكون شخصًا ذليلًا وخانعًا"، بل ممتنًا لنعمة القوم الذي أنتمي إليه.

***

كفاح الزهاوي

مَعَ خيوطِ الفجرِ انطلقتْ بنا سيارة الجيب السوداء الحديثة ذات السبعة مقاعد، بَعد تجهيزها بمعدات واحتياجات السفر، السيارة تَسير عَلَى الطريق الأسفلتي الحديث (ذي الاتجاهين) بمعدل يتراوح بين (80 إلى 120) كم في الساعة، جلست ُ بالمقعد الأمامي بجوارِ السائق، هذا هو اليوم الأول من عملي كرئيس للجنة (تدوين المعلومات بشكل حيادي للأماكن المهمة لجبهات القتال والمعارك لأيام زمان؛ خوفاً عليها من الاندثار والتشويه والنسيان).

قبلت العمل بهذه الوظيفة، بل المهمة والتي استقبلتها بفرح كبير؛ فلكم وددتُ وتمنيت أن أوثق شيئاً عن تلك الأماكن ووصفها وتسجيل أسماء من معي في حينها لكن الخوف من التدوين والتصوير قد منعني من ذلك؛ فمثل هكذا تصرف ممنوع منعاً باتاً في تلك الفترة، ومن يقدم على هكذا عمل يعرض نفسه لعقوبة الموت المؤكد.

مَعي في اللجنةِ يعمل موظفان، أحدهما كان ضابطاً بالجيش برتبة (رائد) متقاعداً حالياً، وسبب أحالته على التقاعد اصابته بإحدى المعارك العسكرية منذ سنوات عديدة خلت، بانفجار لغم، مما أدى الى إصابة بليغة في ساقه اليمين، والأخر رجل في الخمسين من عمره، ذكي كثير النشاط، يعمل بجد بمجال تخصصه البيئي، ويحمل مؤهل تخصصي جامعي بذلك، كان يجلسان بالمقعد الذي خلفي، فيما جلس معنا بالسيارة بهذه المهمة (شخصان) من الحرس الخاص مدججين بالسلاح، وشخص ثالث (مصور فوتوغرافي) يحمل أله التصوير معه للتوثيق.

أنتهى الطريق الاسفلتي، وبدأت السيارة تسير وسط طريق ترابي صحراوي، أخبرنا السائق أنه يعرف الطريق جيداً، والطريق مؤمن ومكشوف من الألغام، فلا داعي للقلق، كان يتحدث بثقة تامة، وكأنه يسير على طريقٍ مألوفٍ له، السيارة تشق الطريق الصحراوي، والأفق يمتد إلى ما لا نهاية؛ فلا شيء غير السراب أمامنا يتلألأ على حبات الرمل.

رأسي يدور في دوامة فلك عصف الذكريات، لم تزل النُّفُوس محطمة تأنُّ، من هول وجع وآلم سنين العبودية المفرطة بقسوتها، فقد أصابها بمقتل اليأس والإحباط، أضحت مأزومة مهزومة خاوية، كخرائب الحروب المهجورة، يستوطنها الحزن والدمار، وأثار حقول الألغام، جهد ما تبقى من عمل مضنٍ لمصابيح الأرض الحرام، وذكريات حياة الضيم والصبر، والخوف، والموت، والظلام، والجوع.

بعد أكثر من ساعتين من السير المتواصل ونحن في هذا الطريق، بدأت تنكشف أمامنا على مرمى البصر (سواتر ترابية وبقايا مواضع وأطلال أبنية نصفها في باطن الأرض ومعدات عسكرية متروكة، وأبعد منها أماكن تحيط بها بقايا أسلاك شائكة) نظرت بالخريطة التي بيدي، طلبت من سائق السيارة التوقف في هذا المكان، ترجلت من السيارة، وهكذا فعل الجميع بعدي.478 ream

 امتد نظري إلى أقصاه يمسح المكان كالرادار

صمت مترامٍ بلا أطراف أو نهايات معلومة

وبقايا اسلحة حطام، كأنها سفينة غارقة في رمال الصحراء

قُحُوف آنية بالية وَ(قِصَاع) طعام

ورميم عظام، وخوذ جنود مثقوبة من الأمام

وشظايا متنوعة الاحجام

وأطلال ملاجئ لغرف كالجحور

مصنوعة من الواح من الصفيح والتراب والطين والخشب

وخنادق ومواضع شقية.

عجيب، كيف كنا نعيش في هذه القبور المهجورة؟

الأرض جدب، خلا المكان من الحركة والضجيج والدبيب، لا أنهار لا زرع لا ضرع ولا طير.

أتحدث مع نفسي كالمجنون، بصوت عالٍ (رباه) هنا في هذه المواضع دارت فواجع لا تعد ولن تُحصى لحوادث الدهر.

أنها رحى حرب ضروس دموية بربرية

أزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح البريئة

وأرهقت على اديمها أنهار من الدماء الزكية

وتحطمت من خلالها ملايين الأحلام الوردية

يصنفها اليوم محللو السياسة والتاريخ بالحروب الدموية العبثية!

رغم السكون الرهيب الذي يحف بالمكان، لكن لم يزل رعب الموت يعشعش فيه.

على عجلٍ أخرجت من حقيبتي قلماً ودفتر مذكرات جديد: وبكلمات كبيرة واضحة بدأ القلم يدون:

سأكتب بدفتري بعض ذكرياتي من جديد عن هذا المكان الفريد، في الصفحة الأولى دونت فقط هذه العبارة:

(أكتب بقلب مكلوم، وصراخ ألم مكتوم)

سريعاً سرح عقلي يحدق ويذوب بعمق بذكريات الزمكان، وراح يسترجع شريط الذكريات المخيف، الذي يرافقني كل هذه السنين الطوال، وجوه رفاقي الجنود، المعفرة بالوجع واللوعة والتراب، بعيونهم المفزوعة اليقظة القلقة الراصدة للعدو، خلف ساتر التراب أو اكوام الحجر، فيما كانت الأيادي متهيئة للضغط على زناد المنون، وهي تقارع الموت بالموت، أجسدنا التي كانت ترتجف في المخابئ والملاجئ كالجثث محبوسة النفس عند اشتداد تبادل القصف الثقيل.

رباه، أَي قلوب كانت لنا ونحن نتحمل بجلد رعب الليالي المظلمة، وخطر اقتراب خطوات الموت في الليالي المقمرة، كم أخافنا نور القمر، فهو يكشف حصوننا ويعرضنا لشديد الخطر.

توقف القلم عن الكتابة، وأصخت السمع لأصوات اعرفها جيداً رافقتني لسنين طوال، أزيز الرصاص، ودوي المدافع، هدير الطائرات، ها هي تتداخل مرة أخرى برأسي مع أصوات أنين، وتوجع وَاستغاثة ونحيب.

لمْ يبرح الذاكرة أوامر القادة الضباط النزقة المتكررة

الآمرة الناهية الحازمة الصارمة:

- عليكم اليقظة والحذر

ممنوع المجادلة والاحتجاج

يتحدثون كأن بداخلهم ألف حجاج!

كان حديثهم هذا يزداد صرامة وحدة في المواقف الخطرة والشديدة الحذر، وخصوصاً عند التنويه من هجوم متوقع!

كان القائد (الضابط) يبلغنا التحذير متوتراً كالموتور رافعاً يده اليمين صوبنا، مهدداً بأصبع السبابة، فيما عيناه ترتعب من هجوم مرتقب.

نعرف حالاً أن هجوماً وشيكاً جديداً سيقع، لا بل هو أقرب الينا من حبل الوريد.

جلست على بقايا دكة من الطين أمام مواضع شقية في الأرض (حفر) خلف ساتر ترابي، والتفت الى المجموعة التي معي: - الرجاء أصغوا إليّ سأحدثكم عن هذا المكان.

وأنا أشير بيدي الى بقايا حائط لغرفة بجوار الحفر:

- في هذه الزريبة كنا ننام ونأكل ونتألم ونحلم، في الليالي المرعبة بهجوماتها المتكررة، كنا نجلس ونتكور على أنفسنا متيقظين من الهلع، وعندما يأخذنا التعب والنعاس، كنت أنام بعينٍ واحدةٍ، حيث يستقر في العين الأولى الخوف، فيما يستقر بالعين الأخرى القلق، وكلما يزداد هدير المدافع وأزيز الرصاص، كنت أقول لصحبي بالموضع، جاء الذي يأخذ بأيادينا، جاء مسرعاً ليقرب أيامنا وأحلامنا وآمالنا الى المقابر!

- هذا المكان من أكثر الأماكن تعاسة، التي خدمت فيها، مكثت بهذا المكان ردحاً من الزمن، كانت أيامه متخمة بالمخاطر والموت، هنا لا وقت للتفكير بالفرح والتأمل والأحلام، كان الخوف من رعبِ الموت يداهمنا في كل لحظة، التشاؤم والسوداوية تسيطر على الجميع، الكآبة واضحة على الوجوه، حتى الأغاني والموسيقى المنبعثة من المذياع لا تسعفنا، لا نصغي لها، نصغي لبعض أغاني ومواويل الحزن، والحنين، والشجن، والبكاء، والوجع.

توقفت لحظات عن الكلام، وسحبت نفساً عميقاً، وتبعته بزفير أطول، كأني أطرد حالة الانفعال والحزن الذي تملكتني في هذه اللحظات، ثم حدثتهم من جديد بأعصاب أكثر هدوءاً:

- سأقص عليك هذه الحكاية: ذات ليلة مظلمة، السحب الرمادية المحملة بأطنان الماء، تجري مسرعة، برق ورعد، يرعب النفوس، تندلق من خزانات السماء انهار من المطر؛ المطر ينزل مدراراً، رائحة العفن في الموضع تزكم الأنوف، الطريق الى المراحيض لم يكن يعبد كثيراً، لكن الظلام حالك، خارج الموضع الذي نقيم فيه، أحد الجنود، يخرج للمرحاض. بعد لحظات نسمع صراخه، طالباً المساعدة، خرج له من يستطلع الأمر، ليجد رفيقنا بالسلاح، يستغيث، جاءنا وهو مسرفناً بالماء والطين، أخبرنا أنه تعثر بالدرب وسقط في حفرة مليئة بالوحل!

ونحن في مثل هذا المكان الخطير الحقير البائس التعيس، في الليل وكلما حلت عتمة الظلام، وتذكرت جور قسوة قوانين العبودية في الجيش؛ يجافيني النوم، فيتأجج في القلب صراخ عنيف يصعب البوح به، فهنا قمة الممنوع وغير مسموح به أن تتذمر سواء كان ذلك بالحديث أو حتى بالتلميح، فهنا الجميع في قمة الحذر نخاف بعضنا من البعض، ففي كل مكان زرع ضعاف النفوس من الوشاة وكتبة التقارير الحزبية، فقط مسموح لنا أن نكثر من الدعاء ان ينصرنا الله على أعدائنا الظالمين!

في جوف الليل عينايّ ترصد صحبي في الموضع الذي يجمعنا، أردد مع نفسي: هل فعلاً هذا قدرنا الذي كتب علينا، أن نكظم غيضنا ونجتر الصبر صاغرين؟

فأردد مع نفسي وأنا أسيرٌ مكبل في عتمة الظلام وقيود قوانين الظلم وهاجس الرعب الذي بسط سلطانه علينا فيأتي الصوت همساً ضعيفاً مرتجفاً من جوف قلبي يا لحظنا العاثر التعيس، فيما صوت قرض الفئران التي تشاركنا المكان، يوقظني من رحلة الضنك والخيال.

أستوقفني أحد زملائي في اللجنة ضابط الجيش المتقاعد، أود ان أسألك سؤال شخصي.

- أجبته تفضل، على الرحب والسعة.

- ماذا تعتقد وتقيم الحروب؟

- اجبته وعيناي تحدق في عينيه من وجهة نظري: إنَّ كل أنواع الحروب قذرة مدمرة؛ كان سؤاله كوخزة خنجر في قلبي.

- سألني مرة أخرى وكيف ذلك؟

- الحرب يا زميلي العزيز، صِنو الشر والخراب، أنها الويل والهلاك، وتتسبب بإزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات، وإلحاق الأذى بالمدنية والمدنيين، وتشيع التخلف والجهل، وتعمل على تعميق الانقسامات وتشجع على الكره والبغض في النفوس والمجتمعات، وهي انتهاك صارخ لحقوق الانسان؛ وأن أسوء وأخطر شيء في الحروب هو تبريرها، والدفاع عن مفتعليها؛ إجابتي له أنهت المحادثة.

توجه زميلي (الضابط) لتكملة مهمته، أخذ منظاره العسكري ووقف على الرابية القريبة يمسح المنطقة ويدون معلوماته.

- أرجو التقيد بالتعليمات، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب من بقايا الاسلاك الشائكة التي أمامنا، أنها حقل للألغام، أنها مناطق شديدة الخطورة، انها عملت في زمن الحرب، لمنع تسلل العدو وأعاقه هجماته، واحتمال كبير لم يزل قسم من هذه الألغام فعال، وتكون أخطارها جسيمة، تحدثت بصوت مسموع موجهاً كلامي للجميع.

بدأت ُالعمل (أنا) وزميلي (الاختصاصي في البيئة) كمنقب حاذق للآثار، بقفاز وملقط، نلتقط اللقى ونجمع ونحصي ونصنف بعض بقايا مبعثرة من الحطام، الملقاة أمام ناظرينا، ننتقي بحذرٍ بعضها نرقمها، ونحفظها بأكياس شفافة، وأدون على كل كيس منها ملاحظاتنا عليه؛ وأنا أرزمها في الصناديق كنت أردد مع نفسي:

من يرممها ويعيد لها، البهجة والحياة

والعقول مخدرة، تسير في التِّيه.

استيقظت من نومي فزعاً مرعوباً، على صوت ارتطام مخيف هزني بعنف، أرتطم رأسي في الكرسي الذي أمامي، فتحت عيناي مذعوراً، كان صوت زوجتي يهمس بأذني وهي تقول:

- وصلنا المطار، الحمد لله على السلامة.

في صالةِ انتظار الحقائب، وقبل أن أستلم حقائب السفر، جلستُ على إحدى المصاطب، وعلى عجلٍ أخرجتُ دفتر المذكرات والقلم، وبدأتُ أدون هذا الحلم الحقيقي.

***

يَحيَى غَازِي الأَمِيرِيِّ

كتبت في مالمو أكتوبر/تشرين1 - 2024

.........................

تعريف لبعض الكلمات التي وردت في النص

- مصابيح الأرض الحرام: لقب يطلق على جنود الهندسة العسكرية الذين يعملون بزراعة حقول الألغام.

- القِصاع: جمع القَصعة والقَصعَة ُوعاءٌ للأكل مصنوع من المعدن مخصص لأكل الجنود والمراتب دون الضباط.

ملاحظة: اللوحة الفنية بريشة الفنانة التشكيلية ريام الأميري.

ما بيـنَ مَظهــرِ أَحــوالي ووجـــداني

مسـافــــةٌ بين تابـــــوتٍ وبـركــــان

*

مـا كـانَ أَكــذبَ مـرآتي، وقـد عَكَستْ

طبائـــعَ البـردِ عن أَعمـاقِ نيـــراني

*

إِنّي لأَعجــبُ ممَّـــا فيَّ مـن عجــبٍ

أَرضَى بموتٍ، ونبضي مِلءُ شرياني

*

عَـــلامَ أُســـلِــمُ أَنـــدائـي إِلَى جَـدَثٍ

قَـفْـرٍ، وأُودعُ لحني بين أشـــــجانِ؟

*

مـالـيْ وثِـقــتُ بميــزانٍ يُضيِّــعُ لـيْ

حَقّي، وفي شِرعتي عدلي وميـزاني؟

*

زيــفٌ بـزيــفٍ، ودربٌ لارجــاءَ بـــه

غيـــرُ السَّـــرابِ، وبهتـــانٌ ببهتـــانِ

*

تَعـبـتُ من غـابـةٍ حمـراءَ مُفـزِعـــةٍ

بكـلِّ ذئـبٍ معي في شــكـلِ إنســـــانِ

*

إِلامَ أزرعُ قـــولاً مـن ملائــــكــــــــةٍ

فيهــا، وأَحصـدُ أَفعـــالاً لشــــيـــطانِ؟

*

إِنِّي سأَنفضُ صمتَ الموتِ عن لغتي

وحـدي، وأَخرجُ من قبري وأَكفـــاني

***

شعر عبد الإله الياسري

أغسلُ وجهي بأسمالِ الذِّكرى

عميقاً أغوصُ

في كُهوفِ العَتمةِ

وأغفو هُناك

على صدرِ آمالٍ كاذبةٍ

*

أخبرتني العَرَّافَةُ

ذاتَ عُمرٍ

أنَّ كُلَّ الخيباتِ

ستُزهرُ بَراعمَ جُلنارٍ

وبيلسان

وأنَّ كُلَّ الأوجاعِ ستثمرُ

تيناً وزيتوناً وصباراً

وأن وَجهاً عَشِقَتهُ

شَمسُ حُزيرانَ

واختبر مَعارِكَ الجيرانِ

سيَحكُمُ ذاتَ يومٍ

جميعَ المَمالِكِ

*

وسوف ينبُتُ لِكُلِّ أطفالِ الكَونِ

أجنحةً من زُهورِ الأُقحوانِ

وعلى جَبهاتِ الحَربِ

سيُفتَتَحُ مَقهىً

ترقصُ فيهِ

حتَّى أوَّلِ سَاعاتِ الفَجرِ

سالومي ابنةُ هيروديا

*

رَمت تلكَ العَرَّافةُ

من جديدٍ أحجارَها

وتابعتْ قَصَّ الحِكاية:

سيختِم السَّيافُ، يا سيِّدي

بالشَّمعِ الأحمرِ

سيفَه البَتَّار

وستُصبِحُ كُلُّ السَّنابِلِ

أشجارَ سَرْوٍ

تُغازِلُ بِسِرِّيَّةٍ جَسدَ المُزنَةِ

عندما يَغيبُ عَنها المَطرُ

*

وحينما تَهرَمُ الشَّمسُ

ستُنيرُ اليَراعاتُ

وَجهَ البَريَة

وفي الزَّنَازينِ

ومن غيرِ شَفقةٍ

سوف يُحبَسُ أهريمان

وجندُ الشَّياطينِ

وستُغلِقُ جمعياتُ النَّخَاسين

أبوابَها

وسَيعتزِلُ الغُزاةُ

ويُطلَقُ سَراحُ السَّبايا

وستُزيَّنُ السَّاحاتُ بالورودِ

وبِصُورِ الزَّعيمِ المُفَدَّى

وفي الأرجاءِ ستَتَعالى

زغاريدُ الفاتناتِ الغِيدِ

*

مَن أخبرَ العَرَّافةَ

ما يَحمِلُ للإسكندَرِ الغَدُ؟

ولِمَ فاتَها

عن المآلِ والخواتِمِ

أنْ تُخبِرَهُ؟

كُلُّ العَرَّافاتِ سِيَّانِ

إنْ كَذَبوا أو صَدَقوا

وسيرِسُ في يدَيها

الحَلُّ والرَّبطُ

*

دَعوا كُلَّ السَّتائِرِ مُسدَلَةً

لا تُوقِظوا النُّورَ

فَحِدادُ الشَّمسِ

سوفَ يَطولُ

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم السويد

........................

مفردات:

 أهريمان: إله الشر في الديانة الزردشتية.

سيرس: هي شخصية من الأساطير اليونانية وهي ساحرة وابنة إله الشمس هيليوس.

الإسكندر: من أهم القادة العسكريين والفاتحين عبر التاريخ مات وعمره 32 عاماً.

سالومي ابنة هيروديا: زوجة هيرودس فيلبس، هي التي رقصت في حفلة عيد ميلاد هيرودس أنتيباس، عمها غير الشقيق، فسرَّته، ووعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها؛ وبناء على مشورة أمها طلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق؛ لأنه كان يوبخ هيرودس أنتيباس، قائلًا له إنّه لا يحلّ أن تكون له زوجة أخيه.

عندما جاوز عتبةَ العمارة

تقدّم خطوة على الرّصيف

فزلّت قدمه

مِن وقتئذ

لم يدر كيف صار يسيرُ على رأسه

*

يا عجبا

أصبح يرى النّاس مثلَه

يسيرون وأرجُلُهم مرفُوعة

في الهواء

*

الأشجارُ أيضا

أضحت مقلوبةً على رؤوسها

جذورُها تشابكت مع النّوافذ

أوراقُها تناثرت على الشّرفات

والسّطوح

*

سيّارةٌ

رَفّافةُ الأضواء

عاويةٌ

مَرقتْ مُسرعةً

صَدمته

لم يشعُر برأسه

عندما اِنفصل عن كتفيه

ثم تدحرج على الرّصيف

*

رأسُه صار كرة

تتقاذفها الأرجل

في كل رَكلة ألمْ

حتى صاح المارّة :

ــ هدف...هدف...هدف !

حينذاك صفّر الحَكمْ

*

أفاق مذعُورًا

تحسّس رأسَه على المخدّة

فإذا المخدّةُ

تَقطُر بالدّمْ !

***

سُوف عبيد - تونس

ستعبرين

تلكَ المسافةَ بين أناملِكِ

وبينَ صورتي الملقاةِ منسيَّةً

وبينَ مفاتيحِ الهاتفِ المحبوسِ في كفَّيكِ

*

ستكتبين لي

حروفًا حُبلى تنوءُ بحملِ المودَّة

ستتخيلينني

غافيًا وفي يدي وردةٌ مختلفة

مهجورةٌ منكِ

وردةٌ خلقتها لكِ أفكاري ومتاريسُ تحجبُنا عن بعضِنا معًا

*

وستعرفين أنَّني

أتسللُ كلَّ ليلة

أقفُ على فراشِكِ طيفًا

لأتلوَ لكِ صلاةَ الراحة

وأطلَّ على نوافذِكِ نسائمَ من تشرين

وأطرقَ أحلامَكِ

وأختبئَ بينَ الصفحات

لتقرأيني يا ناريَّةَ العينين وبيضاءَ القلب وسوداءَ الغياب

*

ستعرفين أنَّني في كلِّ الشرفات

وأنَّني لمسةٌ من أقداحِ الخمر وفناجينِ القهوة وصحونِ الحلوى التي تصنعين وتفضِّلين

*

وستُقبلينني كثيرًا لو رحلت

ثم تبكين فراغًا راح يأكلُنا معًا

مقيَّدين، أنا وأنتِ

بكلِّ حمولةِ غضبِ الرب

بكلِّ تقاليدِ قبيلتِنا البربريَّة

بأطواقٍ من سنواتٍ سبقتْ قدرَنا الذي لم يُكتب

ولكنَّنا في النهاية

وجهانِ لقمرٍ واحد

وجهُكِ مشرق

ووجهي يأفُل لو تقتصدين

*

جنِّيَّةٌ إنسيَّة

أغازلُكِ بلا عنوان ولا نيَّة

أحييكِ صديقةً قريبةً بعيدة

حاضرةً كالنعاسِ الجاثمِ فوقَ جفني منهزمًا

غائبةً، كعادتِكِ

مثلَ حلمِ الأطفال بقطعةِ حلوى شهيَّة

ناعمةً كزَغبِ النور

كقبلةٍ مسروقةٍ في الظلام

*

صديقتي

لا تضعي لقصائدي عنوانًا

فأنا رجلٌ من عَرَقٍ وجبينٍ وكرامة

أخافُ على سترِ كلماتِي منكِ

وأخشى أن تطلعَ الشمسُ على أسراري

*

فخذي منِّي

وهبيني مجنونًا

ضلَّ الدربَ فاهتدى لعالمٍ وحده

بينَ الحضورِ والغياب

يقفُ مردِّدًا تمائمَ الودِّ الصافي

*

يا طاهرةَ الروح

اغفري لي بَوحِي

وتبنِّي قلمي

سفرًا طاهرًا

يقتاتُ على ذِكرَاكِ أو مَرآكِ

بلا عنوان

ولا دَنَسٍ أو قصدٍ رثٍّ أو مضمر

***

أيمن الناصح

بين نار ونار

ثمّة اختبار

إمّا أن نقفز من إحداهما

ونهوى بالأخرى

وأمّا أن نمكث وننظر أيهما أسرع بالتهامنا!

***

ألسنة تتطاير

وشرر

يتقاذفة

لفح نار

ضاقت به

واختار أجسادنا

موطنا له

*

نار

تبدو رحيمة

حين تدنو من أجسادنا

لن تدع لنا حيرة البحث عن مفرٍّ

فتنقضّ

مطبقة فكّيها

ليصطبغ الفضاء

بسواد

خلفتها حفلة شواء

لنار

كانت رحيمة

رحيمة جدا

*

لكنها

تبقى عصيّة

وقد آثرت التحليق

فكرة

أنسلت بهدوء عن جسد

عوّل على فكرة

ولّادة

لأفكار

تعشق التحليق

بعيدا عن ألسنة النار

*

من رحم

نار

اضطرمت أعمار

للتوِّ

أطلقت للريح صهيلها

لتبحث

عن تراب

خلّفه

صهيل لحوافر متقهقرة

***

ابتسام الحاج زكي

فهمت كل شيء متأخرة جدا، لكن لم يكن القدر ليتركني قبل أن ينهي معي دروسه العظيمة ..

ها أنا ذي ممددة فوق السرير، وقد نخر السرطان كل جزء من أحشائي..لقد استاصلوا أجزاء من امعائي ومعدتي

لطالما عانيت من تخزين مشاعر الغضب والحزن في تلك المناطق داخل بالذات، كنت أظن أن الحزن شيء منفصل عن الجسد المادي ولا يؤثر على جودته وقوته..

كنت أحرق نفسي بدل احراق هذا العالم، الذي سيفنى عندما تفنى نفسي، إنه ليس له وجود فعلي الا بوجودي

كم كنت غبية، عندما حملت هذا العالم داخل صدري، وتركته يلعب بأنفاسي..

كم كنت ساذجة عندما اعتقدت أن الحب يمكنه أن يغير شيئا في من حولنا، وان العطاء المبالغ فيه يمكنه أن يلف أحبابنا ببعض العواطف الشفافة..

في ذلك اليوم تجمع حولي الأحبة وبعض الأصدقاء، وكان هو يجلس عند طرف السرير إنه "المعلم"، يلمس قدمي بكل حنان، وعيناه تملأهما الدموع، لكن لا اظنها ستنزل قريبا، لقد كان ومازال لهذه اللحظة الدرس الأعظم الذي تعلمته بصعوبة، لم أكن لأفوت هذه الفرصة واستمتع بهذه اليقظة والإستنارة

كان يجب ان نفترق من أول يوم التقيا فيه..

أتذكر ذلك اليوم جيدا، كان شابا طموحا، وسيما، ابن بلدي، وأنا الفتاة المغتربة ذات الخبرة الكبيرة في التعاملات الإدارية في روما ..

لا انكر أنني انجذبت اليه من أول لقاء، وقلت في نفسي "اخيرا هذا هو حلم حياتي "..

ساعدته في استخلاص أوراق الإقامة، فقد كان مهاجرا سريا، فتحته له باب منزلي، قدمت له نفسي دون أن اشعر بأي عار أو خوف من ردة فعل أهلي بالمغرب..

مرت الشهور وبدأ ينبت لعصفوري الصغير ريش، كنت أشعر في أعماقي أنه أوشك على الطيران، كنت أعلم أن هذا التحليق سيكون بعيدا جدا عن سمائي..

شعرت بخوفت شديد لمجرد الفكرة..

فقررت أن أغامر مغامرة كبيرة، أضمن بها رباطا ابديا بيني وبينه..

حبيبي ! أنا حامل

تسمر في مكانه، كان للتو قد نهض من مائدة الطعام، لازالت آخر لقمة في فمه لم يكمل مضغها بعد..

اصفر لونه، تعثرت الكلمات داخل حنجرته، إلى أن ابتلع كل شيء دفعة واحدة، ولم يستطع النطق ولو بكلمة واحدة..

وظهر الرجل الشرقي الخائف والمنهزم والذليل بشكله الطبيعي..

كنت أراقب عينيه الممتلئتان بالدموع كما رايتهما اليوم، لكن مشاعري تجاهها مختلفة ..

أنا أراه اليوم "المعلم" إنه من أولئك الذين لا يستسلمون حتى يفهم التلاميذ الدرس جيدا ويستظهرونه أمامه ..

لقد كان دائما يحاول هجري وأنا أمسك به وأسجنه داخل عالمي المتخيل..

لكن وقتها انا أيضا كنت شابة، ولدي الكثير من الجرأة والتحدي..كنت اظن أنني أدافع عن حبي..

لكنه كان هجوما ضدي، دفع ثمنه جسدي واطفالي ..

اتصلت بعائلته في المغرب، كنت أعلم أنهم اناس محافظون ولا يرضون بهذا العار الذي ورطهم به ابنهم الملتزم..

ضغطوا عليه ..فتزوجنا

كانت الحياة بيننا مثل ساحة معركة، هو يريد الفرار وأنا ألزمه بمسؤوليات جديدة..

عشرون عاما لم تهدأ فيها أنفاسي يوما، لم اذق فيها لحظة سلام ..

عشرون عاما وأنا مصرة على أنا هذا المر الذي أشربه حلو، وأن الحب يغفر كل الذنوب..

إنه يجلس أمامي الآن، ويدعو لي بالرحمة.. ليرتاح هو من حملي الثقيل..

لا أنكر أن ما حصل كان جنونيا، كيف استطعت قص جناحيه دون وعي مني، لو عاد بي الزمن لتركت له هذا العالم منذ أول لقاء، لو تتاح لي الفرصة لحياة جديدة لاخترت حب ذاتي ..

***

بقلم الكاتبة سلوى ادريسي والي - المغرب

 

هُوَ لَا يَدْرِي الَّذِي تُخْفِيهُ عَنْهُ

وَهِيَ لَا تَدْرِي اَلَّذِي يُخْفِيهُ عَنْهَا

وَأَنَا أَدْرِي الَّذِي لَا يَدْرِيَانْ

و الَّذِي لَا يُبْصِرانْ

غَيْرَ  أنّي لَسْتُ عارِفْ

كَمْ سَأَبْقى

حائراً  بَيْنهُما

لَيْسَ عِنْدِي مِنْ جَوابْ

مَنْ أتَانِي بِهِما؟

= 2 =

لَمْ يَكُونا يَعْرِفانْ

كَيْفَ صارَ الوقتُ رَمْزًا

كَمْ سَيَبْقى الرّمزُ  لُغْزًا

مَا اَلَّذِي يُخْفِي اَلزَّمَانُ

لَهُمَا، أَوْ عَنْهُمَا

= 3 =

خَيَّرَانِي

بَيْنَ أَنْ أَكْتُمَ صَوْتِي أَوْ أُسَافِرُ

قُلْتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ أَغْدُرَ وَقْتِي

وَمَكَانِي

وَسَأَبْقَى

فَاتِحًا لِلرُّوحِ أُفْقَا

أَرْغَمَانِي

أَنَّ أُصِيخَ اَلسَّمْعَ قَسْرَا

فَاجَآنِي

عِنْدَمَا رَاحَا يُعِيدَانِ عَلَيّْ

بَعْضَ مَا كَانُوا رَوُوهْ

مِنْ خُرَافاتٍ زَمانٍ،

لَمْ يَكُنْ يومًا زَمانِي

رَغَّبانِي

أنْ أسافِرْ

فاَحْتَجَجْتُ

قُلْتُ لَا أَرْضَى اَلسَّفَرْ

نَوّمانِي واقِفاً

أَيْقَظانِي خائِفاً

نَوّمانِي مِنْ جديدْ

صَحّياني راجِفاً

بَعْدَ أَنْ نُمْتُ، وَجَاءَ اَلصُّبْحُ،

كَانَا رَحَلا

تَرَكانِي في اِنبهارْ

وسؤالي يتشظّى

فوق مرآة اِنتظارْ

أين وقتي ومكاني

وأنا مستلبٌ بينهما

أَسْفَحُ الأيّامَ

قربانَ اِحْتِراسٍ مِنْهُما

***

شعر: خالد الحلّي

 

خَفَقَ القَلبُ

فَأَسْلَمتُ زِمامي لِصَهيلِ الذِّكْرَياتِ

رَكَضَتْ بِي لِلمَواعيدِ نَجِيباتُ القَصَائِدْ

بِيَقينٍ دنفُ الوَجْدِ بِأَنّي..

لَمْ أَجِدْ غَيرَكِ يَرفو

من وجيبِ الروحِ يا روحي جَنحًا من خُزامى

لِحِوَارٍ

ضَفتاهُ:

تَرَفُ القَلْبِ

وأَحلامٌ تَطيرُ

كَيْ أَطير

لأَشُمَّ العَبَقَ المِنْثال مِنْ أَردِيَةِ اليَومِ المُبارَكْ

طَرَفَاهُ:

نِعمَة الأَوَّلِ مِنْ أَيَّارَ نذرَ العافِيَةْ

وانحِناء الأفق كَي يَلثمَ ما بَينَ يدَيْنا مِنْ كَلامْ

**

مُشْرِقًا كانَ النّهارُ

وأَنا كنتُ اغترفت مِنْ بهاءِ الفَجْرِ عِطْرًا

لمَساءٍ تنثني فيه القَوافي

فتنَةً خَضراءَ ما بينَ يَديكِ

وَمِنَ الشَّمْسِ لِعَيْنَيْكِ استَعَرتُ

كُحلَ ضَوْءٍ وفَوانِيسَ سَهَرْ

**

رُبَّما كنْتُ قَرِيبًا مِنْ نَدى النّجْمِ على خَيْطِ المَساءِ

عاقِدُ النِّيَّة أَنْ أَغْزِلَ مِنْ صَفوَةِ زَهْرِ الأُقْحُوان

تاجَكِ الدُّرّي يا عُرْفَ صَلاتي

لِأوَشِّي بِالمَديحِ

خُطْوَةَ الوَجْدِ النَّبِيلَةْ

وطُقوسًا مِنْ تَراتيلِ الهُيامِ

قَبْلَ أَنْ أنثرَ مِنْ زنبَقِ وَجدي

ضِحكةَ الدّهشةِ مِن وَقعِ رُؤاكِ

قَبْل أَنَّ تصحو على أَهدابِ صمتي

شَهْقَةُ النشْوى على عَيْنِ المَكانِ

لِيَظَلَّ الكونُ ظِلَّيْنا اِتِّقادًا

لغَدٍ تكمِلهُ نجوى الأغاني

وازدِحام الأمنيات

***

طارق الحلفي

تورنتو

غابةٌ خرسانية

أَشجارُها:

ناطحاتُ سحابٍ

وأَبراجٌ شاهقةٌ

تُشاكسُ السماواتِ

بالموسيقى والنساءْ

*

تورنتو

وطنٌ لملايينِ المنفيين

والفقراءِ والعشّاق

وملاذٌ للهاربينَ من حرائقِ الحروب

والموتِ المجاني

والجوعِ والأَوبئةِ

وجنرالاتِ الدمِ والفضائح

*

تورنتو

غابةٌ شاسعةٌ وغامضة

أَحياناً تأخذُ شكلَ مدينة

مُكتظةٍ بالاسرارِ والصبايا

والشعراءِ والمجانينَ والعباقرة

وأحياناً تغدو فردوساً ساحراً

يأخذُ هيأةَ قوسِ قزح

وكرنفالاتِ أَعيادِ الميلاد

وكذلكَ فهي تُصبحُ أَحياناً

مُتحفاً مُكتنزاً بالتواريخِ والذكرياتِ

والاشياءِ التي تفوحُ بالروائحِ

العجيبةِ وتحتشدُ بالكائناتِ الغريبة

*

تورنتو

مدينةٌ بلا ضفاف

وهي مسكونةٌ بروحٍ صاخبةٍ

ومجنونةٍ تهيمُ بالحُبِّ والعُطرِ

والحرّيةِ والخمورِ والبناتْ

وهي أُنثى بذاكرةٍ خرافية

لاتنسى أَبناءَها وعشاقَها

ومجانينَها وسحرتَها

وشعراءَها ومهرجيها

ورواتَها وروائيها

ونساءَها الفاتنات

*

تورنتو

مدينةٌ مفتوحةٌ القلبِ

والأذرعِ والغاباتْ

تورنتو

مملكةٌ شاسعةُ الأَبعادِ

والآفاقِ والسماواتْ

تورنتو

مدينةُ الاحلامِ

والنساءِ والحياةْ

***

سعد جاسم – كندا

........................

* تورنتو: هي العاصمة الاقتصادية لكندا؛  وتُعَدُّ من كبريات مدن العالم .

 

إعرف نفسك..

أبحرت كثيرا يا باوسانياس..

كل مراكبي غرقت في محيط الضباب..

محكوم علي الدوران العبثي

خارج القلعة ..

يا سقراط البهي

كم حاولت إدخال أصابعي في حلقي..

لعلي أصل إلى العش الهلامي ..

لعلي أسحب روحي من ذيلها..

فأطلقها في سقيفة بيتي..

لترتاح قليلا من أغلال الجسد..

وتحط على حافة المزهرية..

لكن لماذا ترتد إلي أصابعي

ملطخة بأطواق الدم..

تكسوها كدمات زرقاء...

كما لو أن ذئبا ماكرا عض تلافيفها

بشراهة مفرطة..

في حديقة رأسي يغرد متصوفة كثر..

طيور لا ترى إلا بباصرة السمع..

كلما أقترب كثيرا..

تفر باتجاه الغيوم ..

كما لو أنها زمرة نوارس

تدق نواقيس الخطر ..

كلما هاجمتني الموسيقى

بعذوبة فائقة ..

قلت روحي تحاول الهروب

من الباب الخلفي.

***

فتحي مهذب

عندما عَادَ من مِيلانو كانت ذَاكرتُه لا تزال تَختزن تلك المشاهد التي عَبَرتْ إلى وجدانه مباشرة وأرضتْ ذائقته الفَنِّية ونزعتْ بها نحو رِحاب الجمال وسحر الإبداع الانساني في أروع تجلياته، وحَقَّقتْ له درجة قُصوى من الاسْتِمتاع بِجَماليات يَعزُّ وُجُودَ مَثيلٍ لها في هذا الزَّمن الذي تلوّثَ بالغُبار والإسْمنتِ واعْتَرتْه مَثالب القُبح والسوداوية، لقد وقف مُتهيِّبا أمام لوحة العشاء الأخير الجِدَاريّة لليوناردُو دافنشِي بِدِير سانتا مَاريّا، يتأمل تعبيرات وجوه المسيح وحوارييه الاثني عشر، وجوه كان بعضها كان يحمل ملامح بريئة كَوَجْه يُوحنا، ووجوه البعض الأَخر كانت ترتسمُ عليها علامات الغدرِ كَوجه يهوذَا الإسخريوطي خائن يسوع، الذي باعه لبيلاطس البَنطي الحاكم الروماني، وكان سببا في صلبه(أو من يشبهه) بالقدس، وعندما غادر الدير كانت أصداءُ المَاضي تَحُفُّ خُطاه وروحه تحلّق في رحابه متماهية مع عِبقِه الذي كان يتنسَّمه في الهواء، فتسري في جسده رعشة انتشاء وشعور بالسعادة، ظلت ترافقه حتى وَجدَ نفسه أمام تمثال ليوناردو دافينشي الشامخ مُحاطا بتلاميذه الأربعة يتوسّط ساحة ديلا سكالا، وجموع الزوار الحاضرين مأخوذين مثله بجمالية المنظر الذي يسافر بهم إلى الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما أزاح ملك إيطاليا فِيتُوريو إيمانويل الثاني سِتار تدشين هذه التحفة الفنية، تكريما لدافينشي عبقريِّ عصر النهضة الذي جاء لِيطوي صفحة العصور الوسطى المُظلمة، ويفسح المجال لإحياء الفكر الكلاسيكيِّ للإغريق والرومان، وترسيخ مفاهيم جديدة مثل الانسانية والإصلاح الديني والواقعية في الفن، كل هذا مرّ بخاطره وهو يجلس على واحد من المقاعد الرُّخامية المنتشرة في محيط الصرح السَّامق الذي يَحتضن التمثال، تساءَل:" هل حقا عُمْرُ هذه التُّحفة قرن ونصف، وكيف تَأتَّى لها أنْ تصمد أمام عوادي الزمن وتقلّبات الطبيعة؟ " تَذكَّر فجأة عملية تدمير تماثيل بوذا بوادي باميان بأفغانستان بمعاول ومتفجرات طالبان، ماذا كان يَحُلُّ بتمثال دافينشي لو كان الحل والعقد بيد المُلّا عمر؟ تَجاوز هذه الفكرة، وقام من مكانه وأجنحة الأفكار المُتهاطلةِ على دماغه تُحلِّق به بين الأَزمنة المُتَواترة ومواطن الخيال الخلّاقِ، قادته قدماه إلى 1824 MARCHESI PASTICCERIA لتناول وجبةِ إفطار بصالون الشاي بالطابق العلوي، مستمتعا بعبق القرن الثامن عشر الميلادي . ومُتِلذّذا بوجبة تقليدية إيطالية أصيلة، بدا له العالم بشكل مختلف وأحس بأنه يتجاوز ثقل السنين واحباطات الأيام الماضية، اتصل بزوجته وأخبرها بأنه قادم في اليوم الموالي، وأنه كان يتمنى حضورها معه، وردَّت عليه بأنّ ظروف عملها حَرمتْها من مُتْعة الوُجود صُحبته ولقاء ابْنهما المقيم بمدينة "كومو" صُحبة زوجته، أنهى المكالمة ثم غادر المكانَ.

دفعَ به خَطْوُه التَّائه نحو غاليري فِيتوريو إيمانويل الثاني، المُركّبُ التِّجِاريّ الضَّارب في عُمق التّاريخِ، حيث يحضر التَّرفُ المِعْمَارِيّ الذي يجمع بين الثقافة والفنّ والتسوّق، وفخَامة القَرن التّاسع عشر بِجماليّة مَبانيه وروعة معالمه الحضارية، فَكّرَ" أن حِكمة الحياة تقتضي أن نعيشَ لحظاتها بشكل يرضي ذَائقتنا ويُحَقّق لنا مُتعة الرُّوح والجَسد في آن واحد ما دمنا مُقبلين ذَات يوم نجهله على تَجربة الموت التي تَعْنِي الفناء المادِّي، ونهاية الحياة بما لها وعليها، وليس أمامنا سوى انتظار النُّشّور " تَوقّف فَجْأَة عَن التَّفكير وهو يَجد الزّوار مُجتمعين حول فُسَيْفساء الثَّور يُمارسون طُقوس جَلْبِ الحَظّ، اِنْدفع نَحوهم بِجرأة لم يتعوّد عليها من قبل وهو يَرطُن باللغة الفرنسية:"اِسمحوا لعمكم عيسى بأن يجرب حظه "،أَفْسَحُوا له الطَّريق فَوضَع قدميه على خِصْيَتي الثَّور ودار حول نفسه ثلاثاً، وتمنّى الصِّحة والعافية وسِعة الرّزق لِنَفْسه ولأسْرته، ولَعَنَ المُلّا عمر وبن لادن والزّرقاوي والبَغدادي وبن بطوش، ثم أخلى المكان لغيره، كان وجهه يستقبل بَياض الأشِعّة المُتسربة من السقف الزجاجي فَيُطْبِق عينيه ويَتَحوّل لون البياض إلى اِحمرار طَيْفي، وتَغمره موجة مُتصاعدة من الأحاسيس مُطوِّقة رُوحه بِفرح لذيذ يَتجاوز المَعقول، وتَراءى له العالم غريبا،مثيرا وحافلا بأسرار كونية تـأخذه نَحو زمن راقصٍ ومتحَرِّك يَتأرجَح بين الماضي والحاضر، تذكّر فجأة أمّه التي رحلتْ ذات مساء شَاحبٍ، كانت دائما تُربِّتُ على كتِفه وتقول بصوت عذب:" ابتسمْ يا ولدي للدنيا تبتسمُ لك"،كانتْ متفائلة حتى في لحظات مرضِها، وتُحاول أن تُشعرَ منْ حولها أنّ الحياة يجب أن تُعاش حتى أخر رمق، عَبرَ الذكرى وتجاوزها، ثم غادر المكان.

اختار أن يقضي ليلته الأخيرة بميلانو بفندق صغير غير مصنّف وسط المدينة، أصرّ ابنه أن يدفع ثمن الإقامة به أيضا رغم تكلّفه بتذكرة الطائرة ومصاريف الرحلة التي امتدت أسبوعا، قال لاِبنه وهو يُعانقه مودِّعا:" يبدو أن رضى الوالدين قد استنزف ميزانيتك أيّها الابن البارّ" ضحكَ الاِبنُ ومعه زوجته وقال: " رضى الله من رضى الوالدين، الله يَسْمَحْ لِينَا منكم أَسِّي عِيسى".

كان الفندق قريبا من ساحة لويجي دي سافويا، وقد تَعمَّد اختياره، حتى يستطيع أن يستقل الباص الذي سينقله لمطار "ميلانو بيرغامو" في فجر اليوم الموالي، للعودة إلى بلده.

في تلك الليلة حلمَ بأشياء جميلة ورأَى صُورا متداخِلة تربط بين الماضي والحاضرِ، رأى وَجْهَ وَالدِه وَضِيئا وهو يُخاطبه بِصوت تَشُوبه نبرةُ حنان: "أنت ولد بارٌّ، ولم يخبْ قط ظنِّي بكَ"، تلاشتْ صورة والده لِتحلَّ مَحلّها صُورةُ زوجته في فترة شبابهما مَدّتْ له يدها ثم اِنْطلقَا نحو الأفق كانت هناك الشمس بلون أرجواني تُعانق البحر، وكانتْ هناك أيضا نَوارس بيضَاء تحلّقُ في اِتجاهات متباينةٍ، قالت له: أنه الحَبيب الأوّل والأخِر ولن تستقيمَ الحَياة دونَ وجُوده، تغيرت الصُّورة فجأة ووجد نفسه يَمتطي زورقا مطَّاطيا بِمحرك دِيزل وهو يخوض عُباب البحر.

 استيقظ على صوت منبّه هاتفه الذكي معلنا بأن ساعة الرحيل قَد أزفت. تَوضّأ وصَلّى، ثم اِرتدى بدلته وحرص على وضع ربطَة عنق جديدة اَهدتها لهُ زوجة ابنه، ووقف ردحا من الوقت أمام المرآة لتسوية قُبعته الأُوربية على رأسه، ولم ينْس رش بعض العطر على ثيابه قبل أن يغادر غرفة الفندق وهو يَجرّ حقيبته.

كان غبش الليل يخيم على أجواء المدينة، وقد خالط بياض الفجر بقية ظلمته،

وكانت أضواء مصابيح النِّيون تبدو شاحبة وهي تختلط بالضَّباب المُنتشر، أحسَّ بهواء رطب يلفحُ وجهه وهو يتجه نحو موقف الباصات، وفيما هو يَسُتحثُ الخطى شعر بيد تُربت على كتفهِ التفتَ، وجد نفسه أمام كهلٍ بلحية كثَّضة ولباسٍ مُهملٍ، كانت ملامحه تشي بأنه ينتمي إلى المنطقة المغاربية، وهو في حالة سكر طافح، كان يَرطن بلغة إيطالية تُخالطها لغة عربية دارجة، طلب منه سيجارة فاعتذر له، وأخبره أنه لا يدخن، مضى الكهل إلى حال سبيله وهو يترنح، وتابع سيره، ليست المرة التي يصادف فيها مثل هذه الحالات فهي كثيرة ومتعددة، كثيرون هم الذين دخلوا بلاد "الطاليان" بعقود شرعية، وكثيرون أيضا الذين دَخلُوها راكبين موجَ البحر وعبابه، كلهم كانوا يلهثون خلف الحلم الإيطالي1 الذي تحول فجأة إلى كابوس بالنسبة للبعض، فصارت الشوارع والساحات وأبواب الكنائس مأوى لهم، يَعِيشون دون أوراقٍ ثبوتية بلا غاية أو هدف.

عندما ركب الباص كان لا يزال تحت وقع مشهد الكهل المتشرد، الذي يبدو أنه ترك خلفه أُسْرة تنَتظره واِختار الضِّياع في بلاد الفِرنجة، اِختلطت الأفكار برأسه، ومرّت بِخاطره قولة الكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا:

"إن كل الناس دون استثناء يستحقون الشفقة إن لم يكن لشيء إلا لأنّهُم أحياء".

"كلنا في حاجة للشفقة لأننا أحياء، فمن يُشفق عَلى منْ في هذا العالم التي تختلط فيه المفاهيم؟! ربما الأمْوات الذين نلجأ لأضرحتهم أحيانا للتفريج عن انفسنا وتفريغ الهموم الجاثمة على صدورنا" هكذا فكّر، ثم حَمْدلَ وحوْقلَ.

في الطّائرة أخد مكانه بجانب شابّ في عمر ابِنه، تبادل معه التحية ثم أنتظر اقلاع الطائرة ليَستسلم لسُلطان النّوم، عندما أفاقَ مِنْ غفوته اِنتبه إلى أنّ الوقت المُتبقِّي للوصول إلى مطار محمد الخامس هو في حدود السّاعة والنصف،

الوداع الطُّقوسي الذي عاشه هذا الفجر بميلانو ترك في نفسه شعورا مؤثرا لأن الكهل المدمن على الكحول الذي قابله هذا الصّباح ذَكَّره بشقيقه الذي كان يعيش بجزيرة صقلية، بدأ حياته مَيسورَ الحال يَكسب أموالًا طائلة لكنه سقط في المحظور وتعامل مع عصابات المافيا التي تنشط بالجزيرة، وما لبث أن غرق بين براثين الإدمان، أدمن شرب الكحول واستهلاك الكوكايين، ثم انتهى به الأمر نزيلا بأحد المراكز المتكفلة بالمدمنين، وفي ليلة باردة خرج يبحث عن نفسه ويحاول إعادة ترتيب أورقه، لكنه عبر إلى العالم الأخر، واُكتشفتْ جثته جامدة على مقعد جرانيتي في صباح اليوم الموالي.

توارت هذه الذكرى وتلاشت وعيناه تحتضنان كتل السحاب المتسارعة عبر نافذةِ الطائرة سَابحةً في السماء اللَّازُو رْديّة اللون، يُمكنه الأن أن يهنأ بلحظة سكينة ولا يَهُم ما ستحمله الأيام القادمة من أحْداثٍ ووقائع، فَدوْرَةُ الزَّمن ثاَبِتَةٌ ولا شيء يُمكنه أن يُبدِّل في مَسَارِها لأن الحَياة مبنية على التِّكرار رغْم التَّفاصِيل البَلهاءِ التِّي تَبْقَى مُجَرّد تَحْصِيل حَاصل، مَادامتْ النَّتِيجةُ واحدة والسِّياق بِكُلّ دلالاته يَنْتَهِي إلى نُقطة نِهَاية لَا مَحِيد عَنْها.

***

قصة قصيرة 

محمد محضار 25. أكتوبر 2024

...................

1- الحلم الإيطالي تمت استعارته من عنوان المجموعة السردية الواقعية للصديق الإعلامي الشرقي بكرين

في نصوص اليوم