نصوص أدبية

محمد سهيل احمد: البوق واهب السعادة

في ذلك النهار كان امام البيت الواطئ السطح الذي يرفرف على قمته علم تمزقت أطرافه. طلع عازف البوق من بين الحشائش التي ترتعش عند حدود البستان وجعل هيكله يظهر شيئا فشيئا. ظهر شعره الأشعث أولا ثم الأزرار النحاسية التي تلتمع على كتافيات سترته الخاكي وذراعاه وهما تختلطان بالعشب. بينهما يضئ البوق الذهبي اللون وهالة من انعكاس الشمس تتراقص على الأرض المنحدرة الى الطريق الترابي أمام البيت. التفتَ الى الوراء حيث المروج التي داست مسالكها قدماه وهو يعزف ملقيا ظله من القناطر على صفحات المياه تحت سطوع الشمس. مضى سرب الأطفال الذي تبعه بعيدا بعد انْ توقف عن العزف لدى اقترابه من البيت.

تردد لفترة غير قصيرة في التقدم موجها عينيه صوب مظلة الباب التي تبرز قليلا. عليها غزالة بوضع القعود، حشي جلدها بالقش الذي اندلق من شق في بطنها على حافة المظلة. في موقع العينين فجوتان لوزيتان. يتفرع احد قرنيها الى ثلاثة فروع. لم يفطن الى وقفته الغريبة حيث بدت كتفاه وكأنهما تستديران الى أمر غير مؤكد. ظهرت فتاة سمراء ذات ثوب اسود. اندفعت أول الأمر عبر فتحة الباب. تراجعت خلف الستارة المعلقة على حبل بين جداري المدخل. اتخذت من الستارة عباءة. لم يظهر سوى الوجه

الذي علاه مزيج من الاستفهام والخفر. تراجع حامل البوق في شبه تعثر:

ــ توهمت انه بيت آخر..

ــ جئت تسأل عنه إذنْ؟

ــ هذا هو البوق..

ــ ولكنه مات. جاءوا به من الجبهة..

ــ ماذا تقولين؟ آه.. هكذا فجأة !

ــ انه ليس هنا..

ــ إنّ ما فات قد فات.. معذرة..

كانت عيناها مسبلتين. لعلها لم تكن تصغي اليه. أخيرا ارتعشت شفتاها..

ــ أنا نفسي في قفص. وليس لي ان أصل السوق.. هل تبيع أقمشة؟

ــ كلا..

ــ تعاويذ؟

ــ كلا.. ليس عندي سوى هذا البوق..

ــ من المؤكد انك تستعمله في الأعراس..

ــ أعراس؟ أية أعراس؟ انه يسلي الروح ويسكن الأعصاب..

ــ أتعرف زوجي؟

ــ كان رفيق طفولتي..

ــ لم اركَ في محلتنا..

ــ آه.. ربما. النساء لا يخرجنَ إلا نادرا..

ــ هل أنتَ قارع الطبل في رمضان؟

ــ نادرا ما كنت كذلك..

تراجعت قليلا. الشحوب يعلو وجهها، إمَا لأن الوجه في وضع يسمح بمرور الضوء عبر صفحتي خديها ــ يظهر ذلك من الأخدود الذي يبتدئ من تحت صدغها مارا بوجنتها ــ او لسواد ثوبها اضافة لقتامة مدخل البيت. فكر حامل البوق في وحدته وهو يعزف بدون كلل او التفات لتساؤل العابرين، وكأنه قدم من اللا مكان وقد أخذت أخباره تنتشر في هذه المدينة الصغيرة. الا ان الناس لم يعرفوا الكثير عن هذا المخلوق الذي كان الحنين يقطر من بوقه. قال بعضهم انه شوهد لأول وهلة عندما قدم على فرس بلون الحليب ولم يكن يحمل بوقا او أي شيء من هذا القبيل في حين كذبهم آخرون قائلين ان هذا الأمر مجرد مبالغة فهو ليس أكثر من صعلوك متشرد اعتاد ان يبيع الكتب في عربة بسوق المدينة في حين ذكر غيرهم انه كان يرفض نداء الذين يستوقفونه طالبين ان يعزف لهم لقاء بعض النقود، ورفض أيضا عروضا من عازفي فرقة الأعراس للانضمام اليهم وأجاب في كبرياء: ــ انا لا اعزف غير لغة العشب والأقحوان !

كان حامل البوق يرى في الليل او في النهار وهو يعزف لوحدته مجتازا الطرقات. يلف المدينة الصمت وتستكين الريح وتصغي النساء خلف الشبابيك للنحيب الآتي من الفوهة النحاسية. وهن ينتظرن بدون كلل، متوحدات في ظلام الغرف مع كسرات من الخبز والشاي وقد نسين منذ زمن بعيد وقع قطرات المطر على الوجوه. في الصباح يجده المارة نائما في حديقة مكتب البريد حيث ينام الشحاذون متوسدا الأعشاب محتضنا البوق الذي تجمدت على صفحته قطرات الندى كما لو أنها دموع البارحة.

لم يسبق لي وأنْ حدّثت أحدا عن نفسي. في إمكان أي واحد ان يمسك بوقا ثم يخرج به الى الشوارع منشدا للحزن والبهجة. في البداية لم يكن البوق يعني لديّ اكثر من كونه آلة. توهمت انني لم اكنْ حزينا وما كنت اعبأ بأن أضيف الى السعادة شيئا. كثيرا ما صدمني صوت ارتطام البوق الأجوف بخشب المنضدة وأنا القيه عليها. لقد كنت انفخ في الفراغ. كنت أوغل في الوحشة.. الصحراء.. الصحراء.. انه الزمن الذي يمضي غير آبه لخسائرنا. قررت انْ أجرب يومي. سرت طيلة النهار في الحقول معانقا أصوات تساقط الأوراق على الأرض وأزيز النحل والأحجار التي يكتشف فيما بعد أنها ظلال طيور. هكذا بدأ الأمر. ليس إلا العزف لهذا الربيع وذاك الذبول. عنّ لي يومها ان أستريح قليلا. كان يوما لا ينسى. توقفت عن العزف. ركضت بأقصى ما استطيع في غابة العشب ثم استلقيت على الأرض وأنا الهث. لقد كنت أحمق ويائسا ومبتهجا بدون حدود. قطفت زهرة بيضاء الأوراق ودسستها في فوهة البوق وطفقت انفخ والأوراق تتهافت كالريش على صفحة ماء الجدول فكان يأخذها بعيدا. خلعت ثيابي وانحدرت معانقا مياهه. في الماء اكتشفت ان يومي كاذب ولكنه مليء بالحياة. أجل.. حياة بلا قيود. كنت خائفا من هذا الاندفاع. ما أصعب البدايات ! يجب التطهر جيدا من الآثام.. هل هذا ممكن؟ إنني اعزف حقا.. ولكن هذا لا يكفي. سأتوقف منذ اليوم عن العزف لنفسي وحسب.. العصافير لا تفعل ذلك حينما تسقسق. إنها تدرك بغريزتها ان هناك من يصغي إليها.. الوحشة تسقط أمطارا لا مناص من السير تحت وابلها، تلك الزهور التي تزدهر في القلب وتذوي.. الوحشة في كل مكان. في البساتين المهجورة إلاّ من الملح والعاقول.. في المدينة حيث الأضواء والحلي المتحجرة خلف الزجاج ودويّ الآلات ثم الصمت بغتة في الليل. مَن ْ اذن يغني للمدينة التي توشك روحها على الاندثار؟ المدينة التي أضاعت أعيادها واتشحت بثياب الحداد؟ المدينة التي خرّبت ألف مرة ومرّة؟! من الذي يستخلص الدموع من المحار، من يعزف للجنود في المحطات والعائدين من الجبهة والذين لم يعودوا، للشحاذين وللشهداء والنساء الوحيدات في البيوت؟!

يحلّ الصمت من جديد. يلتمع الضوء في عيني الفتاة. تمرّ عربة يجرها حصان هزيل مثيرة تراب الطريق، يسعل حامل البوق متراجعا:

ــ لم ألاحظ غزالتكم هذه جيدا..

يتراجع القهقرى بنصف خطوة. الفتاة ماضية في رفع رأسها محاولة ان ترى الغزالة ولكنها لا تستطيع اما بسبب المظلة او لانبهار عينيها بضوء الشمس وقد بان حامل البوق أطول منها قامة لأنه كذلك أصلا ولأنه في مكان أعلى، وصارت قمة رأسها أعلى من حافة كتفه. أخفضت رأسها:

ــ حسبتكَ تتحدث عن غزالة حقيقية..

ــ انها غزالة على اية حال..

ــ هل تحزن الغزالة والأسماك والطيور والبيوت؟ كان عندي زوج من البلابل.. حين رحل الذكر ماتت الأنثى كمدا.. اجبني ايها الرجل..

ــ لا تحسبي ان للقلب قدرة على ذلك.. انما البشر مختلفون.. حين يفقد الأنسان عزيزا عليه يستعيده بشكل ذكرى او يحتفظ له في القلب بركن.. ثم يفتح شبّاكا على يوم جديد..

ــ كلا.. هذا لن يكون.. هذا قلب من ورق..

ــ أوراق الأشجار الساقطة لن تعود الى الأغصان.. الماضي عزيز علينا ولكنه لن يعود..

مسحت الفتاة وجهها بكفيها وكأنها تنهض توا من النوم:

ــ ماذا تريد أيها العازف؟ سأحدثك عن أوقاتي اذن.. ربما يمكن للهم ان يزول.. لحظات ثم بعود.. انني اخرج.. ليس أبعد من المخبز.. اليوم ماذا؟ الخميس أم الجمعة؟ البارحة وقفت في غرفتي امام خزانة الثياب.. أخرجت ثيابي كلها وأنا اشدهّا الى صدري وأملأ رثتيّ بروائح تصعد الى رأسي فأتذكر صباحات اتفقنا صدفة على ان نبتهج فيها.. كان ذلك في السابق.. حين كان الخوف يملأ قلبي لتأخره في الجبهة.. كنت اخرج الحلي.. لقد كنت اعرف انها خاصة بالفرح لكنها لا تهبه.. لا ادري ما أصابني في الأيام الأخيرة.. البارحة استيقظت.. عند منتصف الليل ثم اغمضت عيني من جديد.. ليس لكي احلم.. انني افقد التآلف.. رحل وتركني لوحدتي !

ــ ليت البهجة شيء امسكه.. ليتني منحتكِ بوقي..

ــ كيف.. أتمنح ما أنت بحاجة اليه؟

ــ يمكن لاثنين انْ يكونا بحاجة الى شيء واحد..

قالت في صوت خافت: ــ لا أريدك ان تغضب.. انت تعرف قيمة القلب الحقيقي.. انه لا يعشق مرتين !

افلت الرجل البوق من يده. انحنى ليلتقطه وهو يقول في اجلال:

ــ انني افهم ذلك ايها السيدة الوقور.. معذرة.. لابد ان الرجل يختلف عن المرأة.. ولكنني سأمر من هنا كل يوم.. ارجو ان لا يسيئك ذلك..

ــ أنا أعرفك منذ زمن طويل.. لم اشأ انْ اخبرك بذلك.. لتمرّ من هنا كل يوم.. ولتكنْ انتَ امتحانا لقلبي..

همس متسائلا:

ــ ما الذي افعله الليلة او بعد سنين من حياتي..؟

ــ انني لا أسمعك.. بم تغمغم.. أأنت شاعر؟

ــ آن لي ان انصرف.. ولتعلمي يا وفية القلب ان ذكراه محفوظة عندي

ايضا.. وسأعزف لكليكما بنفس الدفق الذي امنحه حين اعزف لوحدتي.. مع السلامة.

استدار حامل البوق مبتعدا. تسلق الربوة التي تمتد عند حافة البستان كحاجز. أغلقتِ الفتاة الباب بهيكلها النحيف وتراجعت الى الداخل ببطء. أدنى هو البوق من فمه. رفع فوهته صوب الفضاء. اتجهت أصابعه الى مفاتيح العزف.. توغل في الأعشاب مالئا الجو بالنغمات.

***

قصة: محمد سهيل احمد

في نصوص اليوم