نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: عضّة كلب.. رواية انشطاريّة

تقديم: هناك نوع من البكتريا تستطيع أن تنشطر إلى مالا نهاية، وهي بهذا السلوك تضمن الخلود، لقد فكرت كثيرا في رواية تنشطر فوجدت أن قصّة الومضة يمكن أن تلد قصة والقصة تلد قصة طويلة والمجموع بالتالي يؤلّف رواية أو رواية قصيرة ولابدّ في حالة الانشطار هذه أن يحتفظ الحفيد - حفيد الومضة -  ببعض سمات أبيه وجدّته، يتجلّى ذلك في بعض مقاطع من السّرد والحوار.

***

المهرّج

قصّة ومضة

تذكّر، وهو يشعر بقوة خارقة رهيبة، عضة كلب هجين له وهو طفل، فأدرك أنّه الآن، في هذه اللحظة، يمكن أن يحرّك يده اليمنى فيتحوّل المشاهدون إلى كلاب، وعندما فعل، وصاروا كلابا عجز عن أن يعيدهم إلى صورتهم الأولى.

الانشطار الأوّل:

القصة الطويلة

أنا والجار والكلب

ربما هناك خطأ ما..

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب.. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت 2 المقابل لبيتي، كان منزلي على وفق التصنيف البلدي، يحمل الرقم السابع، بدت علاقتنا طيبة جدا. فالجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا يتطفل

ويقابل الجميع بابتسامة ودودة

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل ّيوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فألقى الكلب نظرة خاصة عليّ وزمجر بوجهي.. كاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. وظلّ يصيح:

That’s shy T

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ وينسجم مع رائحة بدني.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة. ثمّ أخذت أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح مهتاجابطريقة شرسة، ويوازي خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعر الأمر قليلا من الاهتمام في الأيام الأوّل حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة..

مصادفة ذات يوم ترجّل جارنا من السيارةكان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشدّ حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة، في هذه اللحظة، تململ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، ونطّ من الباب الخلفي إلى الأرض.

كـأنّه اغتنم فرصة لا يودّ أن تضيع..

رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنّه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدٍّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد ولعلّي أقرؤ ذاكرته البعيدة..

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذائي وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كلّه، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمد رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok? هل من شئ؟

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

- لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

- نعم نعم اطمئن

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي.. أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفضل المعطف الثخين، و حثّني فيما لو كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت أن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سألني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعد دقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

- التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

- لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

- إذن قهوة بالحليب.

- الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

- السكّر أم ماذا؟

- أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

- أنا أفضّل القهوة من دون حليب أو سكر.

- بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جرّبه له طعم حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

- عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

- لا شكر على واجب بالمناسبة أودّ أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

- لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

- كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كلّ يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

- أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع ربّما رائحتي لا تعجبه!.

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

- إنّه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضهم وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادرها، وما عليّ إلّا أن أجاريَه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

- أنا معك.. صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

- قلت من أي بلد أنت؟

- من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

- تذكّر.. هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر ؟هل قتلت أحدا كلبا أو بشرا أو آذيت؟.. تذكّر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

-  حسنا سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف:

- ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

-  أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

- مجاملة.. مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهم يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم:

- وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنّه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

- لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

وجدتها لعبة.

حقا إنها لعبة مثل شريط سينمائي تختلط فيه كلّ مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط.. ولا الطيور الجارحة والحمام.. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها، والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم قط.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي الكلب أنمار حارس بستاننا الكبير.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الواسع فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطة تعجبني أكثر من غيرها جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن.. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد.. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها-  حالما يخيم الظلام -  بعض الرجال من أقاربنا ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا - حالما تفرغ من الخبز في التنور-  ألقيه أمامه فيهزّ ذيله ويلتهمه بشغف.

أُحسّ أنه يبتسم لي ويضحك..

منتهى الخيال.. في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث.. تتكلّم مثلنا نحن البشر.. ، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي تتواصل بالأصوات والإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البرّ وعاد معه كلب ضخم ذو ملامح شرسة ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما.. بقدومه أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة للمزاح واللهو.. أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا أوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض الكلب الجديد الذي لم يجد أهلي له اسما بعد وراح ينبح نباحا حادا

قرأت غضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يحيطونني

أنا في حضن أمي التي أخذت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

البيت القلعة كلّه يتحرك

بعض الأمان يخيّم حولي

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلفُّ به زندي الممزق وخدي. أثر الناب أسفل العين.. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمتّ. يحمدون الله على أنّي أستديع الرؤيا.. وأهل البيت يلهجون بأضحيَة مقابل البلاء.. شكرا لله على دفع الشرّ، لم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فك الخروف الضحية الذي عملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

هل حقّا قتله؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني بنفسه، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكَلَب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك هل هناك بيت في نهر جاسم لا تسمع فيه نباحا يشتت ظلام اللصوص.. الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح كما يقول أبي؟ وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة) كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة، تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلبه قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود:

- هل وجدت ضالتك؟

- هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

- لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. أسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها في الوقت نفسه أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

- ليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب T

قبل أن أعترض واصل:

- أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آذاك.

أضحك في سري لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود.. السرّ أنّ الفيل أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. مخلوق رقيق لا يأكل القاذورات العيب فيه ضعفه.. عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لكنت أختار جسد ملك. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة - حسب شهادة علم عاصرني-  مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة..

قلت معترضا:

- افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

- مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أيّ اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

- كلها حوادث عابرة.

- هذا كل شئ

- ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

- لم أبادر أحدا بأيّ أذى عن عمد

- ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

- سأحاول أن أتذكر

- عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

- حسنا إلى لقاء.

3

كان علي أن أكمل اللعبة التي بدأتها. أستطيع أن أتوقف في أية لحظة تعجبني لكني أجد لذة في المضي بعيدا معها.

تشاجرت

ضربت أحدا

ضربني

زوايا مخفية مظلمة.. حالكة الظلام في حياتي لا أرغب في أن أكشفها لكي لا أدان.

في الحرب كنت أطلق النار. ربما قتلت. رصاصتي أحدا وربما طاشت، ولا أظنّ أن الجندي أو الضابط الذي قتلته يعرفني حتى يلتقيني في حياة أخرى

أجمل شئ في الحرب أنّ القاتل والمقتول لايعرف أحدهما الآخر

وقد لايفهم أحدهما لغة الآخر فلا انتقام في حياة تالية..

إذن فصل الحرب يُمكِنُ أن يطوى فلا أحد يعرف في أيّ حياة جديدة له من قتله ولا قتل من. وقد جاءت هذه المرّة من رحلتي الطويلة.

هناك شخص أمامي.. شاب مزعج.. وسيم الصورة بذئ اللسان. كنا في الصحراء.. خليط من مصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض المشارقة نشتغل في تعدين الحديد

نأكل ونشرب وننام..

نلعب الورق

كلّ منا يحسن ويسئ الظنّ بالآخرين.

أمّا مسؤولنا فكان من أهل البلد، كنت أتودّد إليه، مدفوعا بخوفي من المجهول، وكان معضم الذين معنا في القاووش يظنونني جاسوسا للسيد المدير الذي يؤمن بقائده وفلسفة البلد العنفية..

التعالي.. والغرور

كنت أشعر بالذنب وأحيانا بالضعة، وكان أكثر مما يزعجني أن أرى ذلك الشاب، يحكي حين يتحدث مع الآخرين بالألغاز. يلعن يوما جاء فيه الى بلد ليس من شئ فيه سوى النقود. أناس لايقدّرون إلا من يتمسّح بهم. طيشه الزائد عن الحدّ جعلني أفسّر أقواله لمزا بي.:

تحيّة الصباح التي يلقيها أحدنا على الآخر

 سلام الطريق

أيّة حركة أو إشارة وكلام أجده لمزا مبطنا يشير به إليّ.

لا أنكر أنّه وقح

صريح

ثرثار إلى حدّ الغثيان.

وقد اضطررت في أحد الأيام ونحن نقف في طابور لاستلام وجبة الغداء إلى الشجار معه.

أيّ سبب

كان يقف خلفي في انتظار دوره، فتراجعت إلى الخلف متعمدا فسقطت الصينية من يده وتناثرت الصحون على الأرض. فصاح بي صيحة تردد صداها بين الجدران.

لا أعرف.. واثق من نفسي أنّي لا أقدر على أن أبتكر شيئا خارجا عن موهبتي.

قلت:

- لاتزعق مثل الحمار..

شعر بإهانة ثقيلة، وصاح:

- خسيس

- قذر

- جاسوس

عندئذٍ

والكلمة الأخيرة استفزّتني كثيرا

سقطت في غضبي، نسيت كلّ شئ..

اندفعت نحوه، وهويت بصينيّةٍ أحملها بين يديّ على رأسه، بكلّ قوّة هويت على رأسه، فتمايل ثمّ ترنح، لم يتدخّل العمّال ممن كان حاضرا من أهل البلد أمّا العمّال الأجانب فقد تزاحموا حولنا، سحبوني إلى الواجهة.. وأخذوه إلى زاوية بعيدة..

كان الأجانب الذين أعيش معهم في القاووش، ينفردون بنا.. يلوموننا نحن الإثنين.. يهمسون في حديثهم أنّ البلد لا يتحمّل أيّ شجار سوف تنتشر عدوى التمرّد من الأجانب - وإن كانت تافهة - إلى أهل البلد.

بعد ساعة استدعى المسؤول خصمي ثمّ طلب مقابلتي.. قلت له إنّه يثرثر ويستفزّ، يتهمني بصفات لا تنطبق عليّ يظنّ أنّي أرفع التقارير إليك عن العمال، إنّه استفزّني إلى حدّ بعيد.. ومع الخشونة المعهودة عن المسؤول بحقّ الأجانب فإنّه تعاطف معي، كان شبه مقتنع بأقوالي، فالتفت إليّ وقال ببعض الزهو:

- لا عليك سأنقله إلى العنبر الثاني وسيعمل في صهر المعادن.

بهذه الصيغة انتهى فضّ النزاع

وقد

سمعنا ضجة ذات يوم في عنبر صهر المعادن، فعلمنا أن خصمي تعرض لحادث في رجله وتناثرت أخبار هنا وهناك تروي أنّه فقد ساقه.

إسفت..

أسفت جدا.

ولم ألم نفسي.

كنت فقط أستردّ كرامتي.

4

مرّ على حديثنا في الهاتف بضعة أيام، ثم استقبلني السيد مارتن في بيته، قبل لقائنا أخبرني أنه أرسل T إلى بيت أخته إذ سوف يغادر إلى لندن بضعة أيام. الحق لم أرتح للفوضى التي رأيت عليها الصالون.. بقايا لوز وفستفق على الطاولة المستطيلة وثمة علبة كوكا كولا وقنينة بيرة فارغة.

فوضى

إهمال

عبث

وأجمل مافيه أنه يتجلّى في تمثال لبوذا من الفخار اللماع ينتصب على منضدة صغيرة جنب التلفاز بيديه المتشابكتين وعينيه اللتين تشملان العالم بلمحة وادعة بعيدة.

كأني شممت رائحة الكلب، أو هو إحساسي الخفي، لا أشكّ بأنفي، وعليّ أن أقتنع أن في الببيت رائحة حيوان لا أرتاح لها..

كان يعود من المطبخ بالقهوة وعلبة من حليب اللوز:

شكرا أشربها سادة

قل ماهو الجديد؟

تذكرت حادثة لي مع شخص.. شجار ضربت فيه شابا بقسوة

رائع لعله البداية.

متى حدث ذلك؟

منذ أكثر من عقد في إحدى الدول العربية.

تناولت رشفة من الفنجان على مضض أو مجاملة فقد زكمتني رائحة البيت والكلب:

- هناك حيث جعلتني رمال الصحراء أخرج عن طوري.

بدا مهووسا بالتفصيل:

ماهو سبب الشجار؟

كان ذلك الشاب ينظر إليّ بنظرات الاحتقار يظنني جاسوسا أراقب العمّال وحين نكون في مجموعة نلعب الورق ونتسامر يروح ينظر إليّ نظرات غريبة ويتحدّث بالألغاز حتّى جاء يوم فقدت قدرتي على الصبر فهويت على رأسه بصينية الطعام وبسبب الشّجار نقله المسؤول إلى مكان ذي خطورة، وفقد رجله.. (ومن دون أن ألتقط نفسي) ماذا ترى؟

Fantastic-

استغربت من انسجامه مع القصة:

- حقيقي؟

- طبعا.. لعلنا نعثر في قصتك على السبب

- ولم هذه الحادثة بالذات؟

 - هي الأقرب للواقع، راح يضيّق حدقتي عينية، كما لو كان يستعرض الواقعة:وما الذي عرفت عنه فيما بعد؟

- يقال إنهم رحلوه أو طردوه.

- نسيت أن أسألك عن اسمه هل تتذكره؟

- رشاد أنور

=فتمتم بعدي بلهجته الإنكليزية وهو يفتح شدقيه مع الحروف فيتقلص مع حركة فمه خدّه الأيسر:

Rashad Anwar-

- حسنا ياسيدي سأكتبه لك

- لو سمحت.

كانت هناك احتمالات تجعلني أظنّ اللعبة لا تطول فصاحبي مثل محقق قدير تتبع الحادثة بصيغة تناسب أفكارا تجول برأسه،، وصاغها حسب رغبته، هاهو يتأمل كلامي ويردد بصوت مهموس رشاد أنور:

- هذا كلّ مالدي فهل تجده يستحقّ التأمّل.

- طبعا اسمع ياصديقي أنا يهمني كلبي. إنه بمثابة ابني. قد يرحل أبناؤك إلى بلد بعيد، وربما تنفصل عنك زوجتك. الكلب عندي مثل الابن بل إنّك حين تتركه في مكان بعيد تجده يعود إليك.. وفي مبدأ التناسخ أن الأرواح الشريرة تدخل بعد الموت في مخلوقات أقل منها، عقابا لها، لكي تتطهر وأظن رشاد أنور دخل في جسد T.

قد أسخر من نهاية اللعبة، وربما تعجبني، هناك واقعتان في حياتي واحدة مع كلب كاد يقتلني والأخرى في أوروبا مع كلب يبدو هادئا مع الجميع ويرحب بكل من يلتقيه ويتنرفز حين يراني، والأدهى نظراته ذات المعنى الغامض لي:

- لا أعرف ماذا يجول برأسك فهو مجرد افتراض

- إسمع ياصديقي حين أعود من لندن يرجع إلي T سأخاطبه باسم رشاد أنور وأرى أي انطباع يطرأ عليه؟

- أنت تجعلني أشك في أني أنا أو أنت بمستوى كلب أو

فقاطع بضيق:

- أو حشرة قلها ولا تتردّد لِمَ لا الطبيعة حسب مبدأ التناسخ تعاملنا من دون فوارق قد ننسى جميع حياتنا الماضية ونحن نعيش حياة جديدة هناك بعض الاستثناءات نتذكر فيها بعض الماضي مثل حالة رشاد أنور.

أضحك في سري في الوقت نفسه أعترف الآن أني انفعلت وكان الأجدر بي ألا ألجأ إلى العنف

ضربتُ رشاد انور وبسببي بتروا رجله وطردوه.

أصبح كلبا وبعد سنوات التقاني فعضني

والكلب فرخ الذئب.. أيّه روح هي عادت إلى الحياة من جديد فتذكرت ماضيها؟

وبعد سنوات أموت فتحل روحي في كائن آخر:من سوء حظّي إني أقرف

أقرف الآن على الأقل من أن أصبح قطّا يأكل فأرا

نمرا يفترس خنزيرا

أو أسدا ألتهم فرخ الذئب الذي هاجمني عندما كنت طفلا

حيرة فاقعة باهتة

أصبح الحديث معه مملا.. النهاية بهذا الشكل لم تعد تعجبني فنهضت مستأذنا وبسطت إليه يدي

- الآن علي أن أغادر

- وأنا سأرى إذا ثبت حسب قراءتي أنّه رشاد أنور فسأبعثه إلى منظمة الرفق بالحيوان لأنني لا أرغب أن أعيش مع حيوان يتذكر حياته السابقة !

فتساءلت باستغراب:

- هل تتذكّر المخلوقات حيواتها السّابقة.

- بعض الحالات النادرة نعم وربّما منها حالة رشاد أنور.

شدّ على يدي فغادرت وقد اكتشفت أني كنت على خطأ فاللعبة التي ظننتها جميلة مليئة بالفنطازيا أصبحت مملة في نهاياتها لاطعم لها.

29\5\2023

الإثنين

انتهيت من الكتابة الساعة 11 ليلا

***

الانشطار الثاني

المتحوّلون

مع ذلك فقد اتصلت بالسيد مارتن بعد أسبوع

ربما هناك خطأ ما…

خطأ في أّنّي أخفيت عنه حقيقة خجلت منها، وخفت..

لا أريد أن يكرهني الناس بمختلف أشكالهم وألسنتهم إذ يرونني صاحب موهبة تستطيع أن تتلاعب بهم

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت ذا لبرقم 2 المقابل لبيتي، كنت أسكن في المنزل السابع على وفق التصنيف البلدي، وبدت علاقتنا طيبة جدا. الجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا ينطفل

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل يوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فزمجر الكلب بوجهي وكاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. كان يصيح:

That’s shy T-

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها مع أيّ أحدٍ من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ.

لحدّ الآن تجاهلت الماضي القديم، فأنا بحكم الخبرة أعمل في سرك، شغلي بالضبط الأول مع الكلاب والثانويّ مروض أسود، أجعلها ناعمة أمامي، ذليلة.. حالما أرفع سوطي وأثبت عينيّ بعيونها.

موهبتي التي ضمرت بمرور الأيام.

لا أظنني أختلق أو أدعي زورا هناك أعضاء إذا لم تستخدمها تضمر، إما تتلاشى قوّتها أو تختفي، يداك.. رجلاك.. عيناك يمكن أن تتعطّل حين تهملها، وقد أعرضت عن مهنتي التي كادت تسبب لي المشاكل من جديد حتّى جاء كلب الجيران فأحيا الماضي البعيد جدا..

كأنّه استخلصني منه!

اصطفاني..

أحياه في الوقت الذي أظنني فقدت فيه موهبتي ولست أتذكر منها أيّة لمحة.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة الأمر الذي دفعني إلى أن أجيد فنّ السيرك والتعامل فيما بعد مع الحيوانات غير الأليفة. ثمّ أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح بطريقة شرسة، ويتتبع خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعرالموضوع في البدء قليلا من الاهتمام حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة ظهرت بعد أن ماتت موهبتي أو هو من سلالة كلب عاش قبل عشرين عاما فزمجر بوجهي لأنّي عجزت أمامه فلم أعده كما كان. ؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة

مصادفة

ذات يوم ترجّل جارنا من السيارة كان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشد حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة في هذه اللحظة، نطّ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، وجرى من الباب الخلفي إلى الأرض. رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد

يعرفني حقّ المعرفة

نظرته

التفاتته إليّ

هل أقرؤ في وجهه بعض السخرية؟

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذاني وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى.. أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كله، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمدّ رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

نعم نعم اطمئن.

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفعل المعطف الثخين، و حثّني فيما كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت بأن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سالني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعدها بدقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

إذن قهوة بالحليب.

الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

السكر أم ماذا؟

أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

أنا أفضل القهوة من دون حليب أو سكر.

بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جربه له طعم

حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

لا شكر على واجب بالمناسبة أود أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كل يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع، (وأردفت من دون توقّف)عجيب أمر يثير الدهشة حقّا.. والحق أقول لك إن مهنتي السابقة مروض أسود في السيرك!

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

آه حقّا.. عملتَ في السرك؟

بضع سنوات!

هنا في بريطانيا

- لا في الشرق

لم أدخل في تفاصيل عن هربي من السيرك، كان ينظر إليّ بدهشة:

إنه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضها وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادر، وما علي إلا أن أجاريه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

أنا معك صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

قلت من أي بلد أنت؟

من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

تذكر هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر هل قتلت أحدا ؟ كلبا؟ أو بشرا ؟ أو آذيت تذكر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

يا عزيزي سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف.

ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

 أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

مجاملة مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهمٍ يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم، ولم أنس قطّ أنني مارست الموهبة الوهم ذات يوم فقلبت المشاهدين إلى صورة أخرى لبشئ الوحيد الذي أخفيته عن نفسي والآخرين ئلا أدين نفسي باعترافي..

وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

إنّها لعبة جديدة تفرض نفسها عليّ

 مثل شريط سينمائي تختلط فيه كل مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم، وأقرف من سلوكهم.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي أنمار.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الكبير فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطّة جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أقول اعترافي بغض النظر عن تلاعبي بالجينات لا عن بحث علمي ولفائدة ما بل مجرد هواية اكتشفتها وأنا أمارس مهنتي في السيرك. فأيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها- حالما يخيم الظلام-  بعض الرجال ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا حالما تتم الخبز في التنور ألقيه له فيهز ذيله ويلتهمه بشغف.

أحسّ أنه يبتسم لي ويضحك

منتهى الخيال..

في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي أصوات وإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البر وعاد معه كلب ضخم ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما. أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا اوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض وهو ينبح نباحا حادا

قرأت عضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يجيطونني

أنا في حضن أمي التي راحت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

أهل البيت القلعة كلهم يتحركون.

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلف به زندي الممزق وخدي. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمت. ولو كانت في عيني لعميت.. هكذا يقولون.. وما علينا إلا نذبح أضحية شكرا لله على دفع الشرّ، ولم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فكّ خروف، نحر فرحا بسلامتي وعملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني.. يطرد الشرّ، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكلب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك لم يخل بيتنا تماما من كلب، هناك الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح وهل هناك بيت في نهر جاسم يخلو من كلب كما يقول أبي؟وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة)كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلب قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود؟هل وجدت ضالتك؟

هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. اسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها لكنني أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

Tليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب

قبل أن أعترض واصل:

أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آنذاك.

أضحك في سري.. لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود في الوقت نفسه أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. رقيق لا يأكل القاذورات لكنه ضعيف عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لرحت أختار جسد ملك.. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة. ربما هذا هو الدافع الذي جعلني أفجّر هوايتي في لحظة ما

أغتنم الضحك

والتصفيق

والاستحسان

فأتلاعب بالآخرين من دون أن يحسّوا..

قلت معترضا:

افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أي اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

كلها حوادث عابرة.

هذا كل شئ

ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

لم أبادر أحدا بأي أذى عن عمد

ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

سأحاول أن أتذكر

عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

حسنا إلى لقاء.

3

حدث ذلك بعد حرب الخليج الثانية

قبل أن تسير بي الأحداث إلى مسائل معقدة ترآى لي ذلك اليوم البعيد بصورة سفر على أمل أن أحيط بالعالم والناس، وفي السفر اكتشفت موهبتي..

لقد جعلتني موهبتي، في حبّ الكلاب والخوف منها، أهاجر

أحبّ السفر

وأتعلم مهنة تجعلني لا أبتعد عن الحيوان.

من حسن حظيّ أني وجدت وظيفة صباغ ومنظف على متن أحد البواخر، المهنة تدعونا لأن نعشقها. حين ترسو الباخرة في ميناء ما، أجلس فوق الماء علىكرسي خشبي معلق أكشط الزنجار عن الحديد الملاصق للماء وأصبغ الخط العائم فوق الماء. وإن فرغت من عملي أغادر الماء إلى الداخل. مهنة سهلة جدا، يقال أنها غير مريحة، فالصباغ على البواخر يقضي عمره مع البحارة لايستقر على بر من البصرة إلى الهند ومن الهند إلى اليابان، لامكان. متى يستقر عامل البحر ويتزوّج؟لا أرغب أن أجعل الأمور أصعب مما هي عليه.

بعد رسونا في اميناء بومبي سمعنا بالحصار. معنى ذلك أننا لا يمكن أن نعود، أو يمكن أن نعودبعد فترة، كل يتصرّف حسب هواه، لم نعرف كيف تسير الأمر فقبطان الباخرة ومساعده غادرا إلى بلد أوروبي يطلبان اللجوؤ،. كان معي نقود تكفيني لأكثر من شهر. عملة صعبة.

ولا أفكر باللجوء

لا أعرف هل سيرسلون أحدا إلينا يعود بنا.

للوهلة الأولى

أصبنا بالصدمة

نزلت إلى الساحل أفكّر في مصيري، هل أقتطع تذكرة وأعود إلى البلد. رحت أتجول في المدينة أغيب مع عالم الحيوانات. زالمطاعم الشعبية، البائعون المتجولون، مرقصو الأفاعي، القرود السائبة، ليست هي المرة الأولى التي أزور فيها الهند، فما بين حربي الخليج الأولى والثانية زرت على نفس الباخرة ميناء بومبي.

وقد شخص أمامي سرك مفتوح/مدخله سهل فيه مروض أفاع يجلس أمام قفص مغلق بداخله أسد ومدربه. وقفت أمام المدرب الذي كان يغازل أفاعيه: سألني:

هل من أمر؟

وأاندفع مدرب الأسود من داخل القفص:

العرض يبدأ في المساء.

فعرفت أنّه هو الذي يملك القرار:

هل يمكنك أن تدربني؟

فقال الآخر الذي سكنت الأفعى في حضنه:

من أي بلد أنت؟

العراق البصرة..

فهتف الاثنان بحماس: أناس طيبون!

أزاح مدرب الأسود الحاجز الحديديّ ثمّ خرج من القفص، وقال بابتسامة واسعة:

كان جدي أب أبي يعمل في البصرة بائع توابل في سوق تسمونه سوق الهنود.

فتجرأت لأقول برجاء:

االبلد أصبح في حصار، ولا أريد أن أعود من دون شئ، هناك رغبة لديّ في أن أعود ومعي حرفة لذيذة تنسي الناس همومها وتدر عليّ بعض المال، سأتكفل بطعامي، وأعطيكم مايفيض عن ثمن التذكرة مقابل تدريبي على بعض مالديكم.

فتأملني صاحب الأفاعي:

الأفاعي موجودة في كل مكان، يمكن أن تتقن التعامل معها.

ورفع مروض الأسود يده فصمت الآخر ثمّ ربت على كتفي: سأعلمك التعامل مع الأسود لكنك لن تستفيد منها. إنّك لن تأخذ إلى بلدك أسدا أو فيلا الحيوانات الأليفة السائبة في كل مكان ولن تكلفك معيشتها شيئا.. مارأيك؟

منذ اليوم الأول بدأت مع الفرقة الطيبة عملي. عرفت أنّهما أخوان ذو الأفاعي (لاهار) وأخوه مروض الأسود ومرقص القرود والكلاب (جامار) أصبحا صديقي، كانا متدينين يذهبان إلى المعبد وقد صحبتهما مراتِ فرأيتهما يسكبان الحليب على تمثال وتماثيل يععبدانها، كنت أتحدث معهما بإنكليزية بائسة، ولا أعرف هل يعبدان بوذا أم إله آخر، ومن حسن حظي أني صاحبت جروا صغيرا لا صاحب وجدته في الطريق ينظر إليّ نظرات بريئة لا تخلو من انكسار.

عشت ثلاثة أشهر في السرك، أكلت طعامهم، ونمت في المكان نفسه تعلمت منهم أشياء كثيرة، مانوا بحدود خمسة. رجل آخر في حدود الستين لا يتكلم كثيرا.. شغلته أن يقف أمام أمام أيٍّ من النظارة فيخرج من جيبه شيئا ما قلم رصاص.. عملة معدنية.. منديلا.. وأكثر المشاهد سخرية ساعة طلب من أحد الواقفين أن يسحب سحاب بنطالة فأخرج منه لباس سبدة.. تعلمت من السيد (ابهير) خفة اليد، مع ذلك كنت بالكاد أتفاهم معهم بلغتي التعبي، وحين مرّت أربعة أشهر على بقائي في السيرك خشيت أن آتي على بقية نقودي، فعزمت على العودة.

قال لي جامار وهو يشد على يدي:

الجرو (زان) تعلق بك، سيفتقدك. زإن الكلاب أكثر تحسسا من البشر.

فضحكت وقد أشرت إلى الجرح تحت حاجبي:

إن لم يكن فرخ ذئب!

في تلك اللحظة راودني خاطر السندباد الذي حالما يستقر في بلد يحنّ إلى بغداد، ليس هو الحنين، ولا الرغبة في العودة، فالهند عالم فسيح، دنيا مبسوطة يمكن أن تلهو بها عن أيِّ مكان كان إلّا أن السندباد كان يسافر ويرجع عبر البحر أما أنا فقد سافرت يسفينة وسوف أعود إلى بلدي بالطائرة.

هذا هو الفرق!

لقد قدمت بمهنة جديدة تجعلني أكسب بعض النقود في بلدٍ يكاد يموت جوعا.

4

هكذا عدت إلى البلد بآية أخرى

لم أتعب نفسي فأبحث في رمال الزبير عن أفاع لجأت إلى السِّحر في خفّة يدي والكلاب. ووجدت ضالتي أيضا في الكلاب السائبة التي تعجّ بها مدينة البصرة. صادقت جروا جميلا بياضه مشوب بحمرة خفيفة. أجعله أمام الناس يمشي على رجليه، أو ينبح نباحا خفيفا.. ولم أنس أن أخيط له بدلة صغيرة ذات هيئة فيل صغير أدفعه يمشي، ويسادير ثمّ أنزع البدلة عنه فيقف على أربع، يستقبل تصفيق الناظرين ويحيهم بوقفة على رجليه من دون يديه وينبح نباحا خفيفا لينتهي عرضه.

يقف في مكانه..

فألف بعدها بين الحشد لأختار متطوعا يقف أمامه فأضع تحت حزامه خيطا رفيعا ثمّ أسحبه فتقع الأبطار على لباس داخلي أنثوي..

تصفيق وضحك

والناس في الختام يلقون في قبعتي النقود.

كان الحصار خانقا

مرعبا

مثل طاعون

مرض خبيث

جرب ينهش جلودنا

مع كلّ تلك البشاعة أرى الناس يعرعون بعد كلّ عرض إلى قبعتي فيلقون فبها نقودا.

لا أدري

هناك من يفضّل أن يستغني عن وجبة الطعام فيلقي بنقوده في قبعة المهرج.

ازدادت شهرتي، وازددت حضوة، دوائر الدولة الحساسة تجاهلتي. لم يطالبني أحد برشوة، الدولة لا تشكّ في ودائرة الأمن تجدني حدثا يشجع الناس على تحدي الجوع والحصار. كنت أقيم عروضي الغريبة في الهواء الطلق افي الساحات وعلى الأرصفة العريضة.. والحدائق.. والأسواق.. انتقلت من بلد إلى ولففت المدن، فأحبني الناس وأحبتني الدولة حتّى جاء يوم شعرت فيه بشئ غريب.

قوة رهيبة.

تجلى ذلك في يدي ونظراتي قسمات وجهي.

الجرو الصغير واقف كالتمثال جنبي.

تذكرت فرخ الذئب وعضاته

القرية

وليف النخلة الذي فركوا به جرحي

ضحكت فغرق الجمهور في التصفيق والصفير

عندئذ

تجلّت قوتي الرهيبة

تجمّد وجهي

 و

حامت

نظراتي بين الجمهور

لفّت

فعرفت أنّ قوتي الغريبة يمكن إن تحوّل الجمهور الواقف ومن ينظر إليّ من العابرين

إلى كلاب

كلاب حقيقية تنفي كلّ ماقيل من علاقة البشر بالقرود

فحركت يدي اليمنى:

واحد

إثنان

ثلاثة

فجأة

تحوّل المشاهدون إلى كلاب:

الرجال

النساء

الأطفال

الكهول..

راحت الكلاب تنبح بشكل عفويّ فوضويّ..

بعضها يزمجر ويتطلع في ّ بلغة التهديد بصوت أميِّزه قريب الشبه من زمجرة فرخ الذئب.

ولكي أتدارك الأمر

فأجعلهم يشعرون بالإهانة سارعت لتدارك الأمر. يمكن أن يحسَّ كلُّ واحد منهم - لو سارعت وأعدتهم إلى طبيعتهم الأولى-  أنّه مرّ بلحظات غاب فيها عن الوعي. ليس هناك أمامي من حلّ آخر..

رفعت يدي اليمنى وطوّحت بها في الهواء.

مرّةً

ثانيةً

أخرى

بقيت الكلاب تنبح جذلة

وبقيت منها مجموعة تزمجر وتعوي عواء مرعبا.

ربما هي يدي اليسرى. قلت مع نفسي، فرفعتها

وطوّحت بها

كما فعلت من قبل باليمنى

لكن

كلّ شئ مضى خارجا عن إرادتي

الجرو الذي تبنيته غادر مكانه واندس بين الكلاب المتحوّلين كَأَنَّه لايعرفني

في هذه اللحظة الحرجة تجلت لي حقيقة حادة كالشفرة:أقدر أن أحوّل الناس إلى كلاب بحركة من يدي لكنّي لا أقدر أن أعيدها إلى صورتها الأولى.

ماذا عليّ أن أفعل سوى أن أداري على جريمتي.. أهرب.

ابعد

أتلاشى

أخشى أن تنتقم منّي بعض الكلاب، فيها من أراه سعيدا يرغب في أن يتمسّح بي، والأخرى تهمّ بمهاجمتي لتنتقم.

الهرب

الهرب

تركت كلّ شئ ورائي.. أطلقت لساقي العنان فكانت الكلاب تركض خلفي، لابدّ من أن أجري، أقفز ساقية، أعبر إلى حقل

أصعد شجرة

فأضلل الكلاب

وأخشى من دوائر الدولة نفسها. المسؤولون الذين استسنوي ووجدوا فيّ صورة تشيع البهجة والفرح في وقت الكآبة واليأس، يرونني الآن بعد العرض الأخير مجرما.

أهنت الجنس البشري كلّه. ز

دنّست العالم كلّه.

لم تبق أمّة من الأمم على الأرض إلا وتدينني.

وجدت نفسي في هذه الدنيا وحدي.

تخفّيت

لبست أكثر من اسم

زوّرت..

ثمّ خرجت إلى بلدان أخرى

أواجه العالم

لأنسى هوايتي الأولى، فخرجت إلى بلد آخر، بصيغة أخرى..

5

ظلّت قضيّة السيرك تطاردني

إذ أنّي بعد الصحراء قدمت إلى بريطانيا، أظهرت جميع أوراقي، وأغلقت ملف السيرك وخفّة اليد، عملت صباغا في البيوت بدلا من الرحيل الدائم، لا أريد أن أتذكّر الكلاب والجرو المحبوب (قوس قزح) الذي عمل معي في البصرة وبقية المدن. فقد أقسمت على تفسي أن أبدو بشخص آخر.

لعلّ الذي دفعني هو عامل الخوف

الخوف من الضمير

من أهل بلدي

من العالم كلّه الذي انتقمت منه بحركة من يدي.

قد يتهمني أخد بأنّي رأيت نفسي أفضل من الجميع فحولتهم مإن لم أتعمّد الإيذاء إلى حيوانات.. لايهمّ نوع الحيوان.. فيل.. أسد.. نمر.. كلب كما حدث فعلا.. المهم حسب رأي الآخرين أنّي لا أقدر أن أحوّل نفسي عنئذٍ يميل ميزان العدل إلى إدانتي.

لذا

عليّ أن أعترف..

أعترف إل من يصغي إليّ ويقرّ بفعلي ولا يراني أهلوس..

أدرت قرص التلفون، وكنت خلال لحظات أتحدّث مع السيد مارتن:

- هل من جديد.

نعم كدت أنسى أو نسيت.. أو خفت أن أقول الحقيقة ولعلك تسمعني.

كان في منزلي بعد دقائق، فرحت أشرح له ما أخفيته عنه وعن العالم وسرّ انتحالي اسما ولقبا آخرين. كان ينصت إليّ باهتمام، والدهشة تعلو قسماته، وفي آخر المطاف، خاطبته برقّة متناهية:

- سيدي الآن ارتحت.. نفثت كلّ ما يجول بنفسي أمامك، فهل تصدّقني؟

فهزّ رأسه جادا، وقال:

- أتدري ماذا فعلت؟

- ألا تظنّها جريمة؟

- أبدا لا.. إنّك اختصرت الزمن من حيث لا تدري، وعكست فلسفة التناسخ؟

- كيف لم أفهم قصدك؟

- حينما تموت تحلّ روحك في وليد جديد.. باختصار الماضي يدخل في الحاضر أمّا أنت فقد جعلت الحاضر يتداخل في الماضي..

- يعني أنا لست شريرا.

- قطّ لا وما عليك إلّا أن تمارس هوايتك عد إليها.. واستجمع قواك الخفيّة.. أنظر.. غدا السبت في مركز المدينة يحقّ لكلّ إنسان أن يستعرض.. إذهب إلى هناك وسأمون مع الحاضرين لأراك تمارس هوايتك ولا يهمّ بعدها أن تعيد الأحياء إلى ماكانوا عليه، ولن أخاف أن أكون مع الناس..

ونهض يستأذن باإنصراف، وشدّ على يدي قائلا:

إلى اللقاء غدا لتكن هناك الساعة العاشرة..

أغلقت الباب خلفه، واسندت ظهري على المصراع ألتقط أنفاسي.. والرغبة تراودني في أن أذهب غدا إلى السّاحة العامة في مركز المدينة لأمارس هوايتي من جديد، فلن أخشى بعدُ من أن يدينني أحد إذا ما انقلبت بفعل تأثيري الأشياء إلى صيغة أخرى!

انتهيت من كتابة الانشطار الثاني صباح الخميس 5 \6\2025

***

مهرج السيرك

قصة ومضة

بقف مهرج السيرك وسط الساحة العامة.. يتجمهر حوله المارة.. يحسّ أنّ موهبته تسطع بقوّة أكبر بعد سبات عميق.. بستطيع أن يحول النظّارة إلى حيوانات وطيور.. يسألهم بلكنته الغريبة إن كانوا يرغبون أن يجرّبوا حياة جديدة فيتفجرون بضحك متواصل. فيروح يحرك يدع وبواصلون الضحك.. . .

***

د. قصي الشيخ عسكر

 تمّت الرواية مساء الأحد

8\6\2025

في نصوص اليوم