نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: حيث تنام الأرواح

سكنت في مدينة الطائف، وبالتحديد في إسكان القوات المسلحة بحكم عمل والدي في الخدمة العسكرية؛ تلك المدينة الباردة، الهادئة، الباهتة، كأنها مبنية من رمادٍ متماسك. ما إن يحلّ المساء حتى يهبط معه ذلك الاكتئاب الكثيف… شعور لا يأتي من الداخل، بل من الهواء نفسه، من رطوبة الجدران ومن صمت الشوارع الفارغة. وحتى حين تشرق الشمس لا تجلب معها الحياة، بل تُلقي بوهجٍ متطرف، حارّ، غاضب؛ شمس لا تُنير بل تُعاقب، كأنها الوجه العاري لأرواح الناس من حولي. ولدتُ بطبيعة شاعرية—بطلة صغيرة ترى العالم كقصيدة غير مكتملة.

أذكر أن جحيم الوعي، وابتلاء السؤال، والمعضلة الوجودية… بدأت معي منذ التاسعة. كنتُ أحاول فهم العالم، تفكيك لغزه، وكنت أدفع ثمن كل سؤالٍ حقيقي بالتوبيخ من معلماتي بالمدرسة ووصف اسئلتي بالخطيرة وكأن امتلاك عقلٍ يقظ في ذلك العمر جريمة أخلاقية. وبسبب تلك الطبيعة العطشى، ظللتُ أبحث عن أي جمال يمكن لحواسي أن تتشبث به:

كنت أذاكر في الحديقة الصغيرة خلف المنزل، أراقب أوراق الزهور، عناقيد العنب المتدلية، شمس العصر وهي تتسلل كخيطٍ من ذهب عبر فوضى أغصان شجرة الجهنمية بزهورها الوردية. كنت أحاول سرقة لحظة جمال قبل أن تلسعني تلك الشمس الهوجاء المتطرفة، وتعيدني إلى حقيقة المكان الذي لا يحتمل الجمال ولا الخفة ولا البراءة.

وفي فترة العصر كل يوم، عند الرابعة مساءً تحديدا… يتكرر المشهد ذاته: تهب ريح مفاجئة، قوية، تهزّ الشجرة بعنفٍ غريب وكأنها تحاول اقتلاعها. كنتُ أركض مرعوبة إلى والدي، وبمجرد أن يخرج… يسكن كل شيء. تهدأ الريح، وتهدأ الشجرة، وكأنها لم تكن تثور إلا عليّ وحدي. أعود إليها ألمس جذعها، فتأخذني قشعريرة باردة وقوية جداً في النقطة نفسها كل مرة. تكرر الأمر كثيراً… حتى لم يعد يصدقني أحد.

مرت السنوات، وانتقلنا لمدينة جدة ودفنتُ تلك الظاهرة مثل ذكرى مشوهة. حتى استيقظت ذات صباح قبل عدة أشهر من حلمٍ عجيب… رأيتُ نفسي أقف تحت الشجرة نفسها، في الفناء نفسه قبل عشرين عاماً.

كان أمامي شاب ببدلته العسكرية، في منتصف العشرينات أو بداية الثلاثينات.

نظر إلي بحزنٍ  وقال:

“أنا متّ هنا.

كان لدي طفلة رضيعة… ولم أهنأ حتى بحملها.

كنتُ أحاول التواصل معكِ، لكنك كنتِ جبانة.

لم تسمحي لي.

أنا غاضب من الطريقة التي أزهقت بها روحي من الدنيا… لماذا أنا؟ قبل أن أعيش حتى؟ قبل أن أرى ابنتي تكبر؟ لماذا لم يعاقب ذلك الشخص؟"

ثم بدأ يبكي…

وبكاؤه كان ثقيلاً، كأن كل قطرة هي جملة مبتورة من حياة لم تكتمل.

استيقظتُ وأنا أحمل صوته في صدري كجرح قديم أعيد فتحه.

وقفت أتجهز للعمل.

وعندي عادة قديمة حين أضع مكياجي صباحاً:

أفتح مكتبتي الموسيقية، وأترك هاتفي يختار لي المقطوعات بلا تدخل.

وفي ذلك اليوم اشتغلت مقطوعة “Where Spirts Sleep” "حيث تنام الأرواح" للعازف إيريك هيتمان … ولم تكن الصدفة وحدها المرعبة، بل أن الصورة المرافقة للمقطوعة كانت شجرة كبيرة… تشبه شجرتنا القديمة .

لم أشعر بالخوف.

الخوف آخر ما يمكن أن يخطر لي.

الذي شعرت به كان شيئاً أعمق…

وجعٌ يشبه الاعتذار المتأخر.

ماذا لو كان ما رأيته حقيقياً؟

ماذا لو كانت تلك الريح…

وتلك القشعريرة…

وتلك اللحظة التي تسكن فيها الشجرة حين يرى والدي…

هي محاولته أن يقول:

أنا هنا.

سؤالٌ بلا جواب…

وتركة ثقيلة حملتها عشرين عاماً دون أن أدري.

***

لمى أبوالنجا – كاتبة وأديبة من السعودية

في نصوص اليوم