نصوص أدبية

مامند محمد قادر: الوجه الذي لم يكن مألوفاً

دخل المبنى كما يدخل الناس، عاديا ً، يحمل سيرة ذاتية ومظلة، استقبله موظف صامت اشار بحركة رأسه الى المصعد، وقال: " الطابق الخمسون، المقابلة هناك ". ابتسم، شكر الرجل، دخل المصعد، ضغظ الزر، بدأ الصعود. في الطابق العاشر، دخلت امراة بزي أنيق. نظرت اليه مبتسمة وقالت: " انا في الطريق للطابق العشرين. اجابها بلطف: انا متوجه للطابق الخمسين. لم يتوقف المصعد في الطابق العشرين، ولا في الثلاثين. الأزرار التي ضغطها لم تضيء، والشاشات الرقمية تعثرت وأظهرت أرقاماً غير مفهومة. مرت ساعات، ثم أيام. ولبرهة لاحظ أنَ المصعد قد امتلأ بناس آخرين.

-  عجوز ذات انف معقوف، تنظر اليه بصمت وبنظرة عميقة وكأنها تعرفه من قبل.

-  طفل صغير يحمل طائرة ورقية مصنوعة من ورق خفيف، يحاول اللعب في مساحة ضيقة.

-  شاعر يجلس على الارض، يكتب كلمات غامضة على جدران المصعد بحبر ازرق.

-  رجل يهمس صلوات بلغات لا يفهمها احد.

-  امراة تغني أغانيها بصوت خافت تملؤه الحزن.

مع مرور الوقت تحوَل المصعد الى عالم صغير، حيث ولدت طقوس خاصة، وتشكلت طوائف، ونُظِمت جداول لأوقات الاكل والنوم. الأمل اصبح شيئاً معدوماً، والخوف مخيم على الجميع. محاولات كسر الباب كانت كثيرة، لكن جميعها باءت بالفشل. سأل احدهم الرجل في لحظة يأس: " الى اين انت ذاهب ؟"، اجابه بجدية: " للمقابلة، في الطابق الخمسين." ضحك الآخر طويلاً، ثم اشار الى سقف المصعد وقال: " هذا هو الطابق، كل ما فوقك ظل." مع كل يوم، بدأ الرجل يفقد احساسه بالزمن، نسي اسمه، نسي لماذا صعد في البداية. في يوم ما، استيقظ ليجد في المرآة الصغيرة انَ وجهه اصبح غريباً، مجرد ظل بلا هوية. في لحظة صمت عميق، فهم شيئاً بديهياً: المصعد لم يكن مجرد وسيلة للوصول الى طابق ما، بل كان عالماً بحد ذاته، رحلة لا نهاية لها من الانتظار. ابتسم الرجل، لم يعد يهمه من هو، او الى اين يتجه، لكن الذي تيقن منه هو انه حبيس مصعد لا ينزل ولا يتوقف ابداً.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

* شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في نصوص اليوم