نصوص أدبية

نصوص أدبية

يَنحرُ القرابينَ

يَسِفكُ الدمَ

يَحرقُ البخورَ

يَمسحُ الصنمَ

يَسجدُ..  يَبتهلُ

**

شاعرُ القصرِ

فارسُ القوافي

لا يُشقَ له غبَار

في حلبة الشعراء

**

شاعرُ القصرِ

مُهرِجُ الملكِ

طبالٌ في الجوقةِ

يُقبِلُ يدَ سيدهِ

لا يَرفع أبداً عينيهِ

لنصفِ قامتهِ

يَنظرُ اليهِ

مِن تحتِ حزامهِ

لأسفلِ قدميهِ

يَمسحُ نظراتهِ

بسوادِ نعليهِ

فيرى فيهما صورتَه

مقلوبة شوهاء

**

يومٌ سيأتي

لا يتوقعهُ

كالصدمةِ

يصبحُ فيهِ

مخصي َ الصوتِ

بين حريمِ

السلطانِ

***

صالح البياتي

لا زلت أتقن فنون الصمت

حتى الوجع المفرط

وبحة صوت

*

أمثلُ دور التوراي

خلف خطوط الورع

واشحذ نصل خاصرتي

بصبر قديس

*

نحن الموبوئون بحب الأرض

ما أكثرنا عند الهتاف للوطن

وما أسوءنا ونحن نتنكر

لرعاف دمائنا على خطا الثائرين

*

اتقبلنا يا الله

ونحن المتواطئين مع كل فكرة

لذبح نبي

او ذم ولي

*

نحن الجياع

ما اكثر الجياع والرعاع

على خارطة الوطن

أترانا نحترف بيع موانئه

لترسو بيها يخوت الدعارة

*

ام لازلنا نيام نغفو على بركة دم

ونشحذ نصل اوجاعنا

بإرادة لاتلين .

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

قصص قصيرة

1ـ شهرزاد تحكي

نضب معين الحكاية يا مولاي وجف مني الخيال..

قالت شهرزاد..

وما العمل إذن؟

رد بغضب شهريار..

تحرك في ركنه البارد «مسرور» الذي أكلته الشيخوخة وصدئ سيفه. نظر بعينين دامعتين من الرمد، وقال بصوت مبحوح ممزوج برعشة واضحة:

رأس من هذه المرة يا مولاي؟

ابتسم شهريار حين سحبت شهرزاد نسخة من كتاب «ألف ليلة وليلة» من تحت وسادتها وشرعت تحكي حكاية الليلة الأولى بعد الألف وواحد..

بلغني أيها الأمير السعيد ...

**

2 ـ الباب الكبير

كان الباب الكبير مواربا..

كنت أتلذذ وأنا أسمع صريره كلما انفتح أو انغلق..

كنت أعلم، ولست الوحيد في القرية، أن هذا الصرير يعني أنها دخلت البيت الكبير أو خرجت منه..

صريره اللذيذ يجبرني على الالتفات.. أقصد يجبرنا على الالتفات..

هي تتلذذ بتعذيبنا بصرير الباب الكبير انفتاحا وانغلاقا..

ونحن نتعذب لأننا كُثر ننتظر مرورها كالحلم الهادئ..

كنت أتجنب تجمعاتهم.. وأكتفي بالاستماع إلى الصرير وأتخيلها بين ذراعي أخيط على مقاسنا، هي وأنا، حلما يجمعنا بعيدا عن الأنظار..

**

3 ـ سأخرج إلى الشوارع عاريا

«سأخرج إلى الشوارع عاريا.. سأتبول في الطرقات.. سأترك شعر جسمي ينمو ويكبر»

أفرغ ما تبقى من كأسه في جوفه دفعة واحدة ومسح القاعة بعينين حمراوين ناعستين..

بالكاد وقف مسنودا على طاولة، نظر إلى العيون التي ترمقه ذاهلة متسائلة بفضول..

«نعم سأخرج إلى الشوارع عاريا.. سأتبول في طرقاتكم سأعلق على صدري كل التمائم.. سأكفر بالحب والصداقة.. سأكفر بالإنسان»

ضحك حتى سقط أرضا..

حمله زبانية الحانة ورموه خارجا..

الوقت ليل يزيد عن منتصفه.. أحسَّ بنسمة برد تداعب جسمه المنهك والمخمور، فتح عينين ثقيلتين ورأى الناس عرايا يتبولون في الطرقات والشوارع وقد نما على أجسادهم شعر كثيف،

بعضهم يحمل قرونا والبعض الآخر تدلت ألسنتهم يلهثون كأنهم لتوهم قطعوا مسافة كبيرة عدوا، وآخرون يعوون ويصيحون بأصوات منكرة مخيفة يخدشون الأبواب والحيطان بأظافرهم.

تملكه الخوف من هول ما رأى، تحسس جسمه فتأكد أنه بكامل ملابسه، عاد إلى الحانة وطلب فنجان قهوة مُرة لعله يستفيق من كابوسه.

**

4 ـ الغراب

لم يصدقه أحد رغم أنه أقسم بأغلظ الأيمان أنه رآه، كما وصفته الكتب المقدسة.

اتهموه بالخرف والجنون والخروج عن الدين.

أقْسم أنه رآه في الحلم في اليقظة، لا يهم، رآه ويقسم على ذلك، أسود كالليل المظلم لا نجم في سمائه، ينبش القبر القديم، يُخرج رفات القتيل.

نفس الغراب، وقف أمام رفات الرجل المؤمن الهادئ، بمنقاره جمع العظام، وقف حائرا لأنه لم يجد عظام اليد.

***

عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

الدار البيضاء في 01 غشت/أغسطس 2025

........................

⃰  من المجموعة القصصية. مذكرات جسد آيل للسقوط. عبد الهادي عبد المطلب. الناشر سوماكرام 2016

 

عَصِيّةٌ، على الترجُّلِ عن ظلها،

على الانحناءِ لفكرةٍ مشروخةٍ تُعيدُ تدويرَ النخاسة بلغةٍ حداثيّة،

على القوالبِ التي تنحتُ النسوةَ من طينِ الطاعة،

والتكيّفِ مع سقفٍ مُنخفضٍ للحلم .

على السيرِ في مواكبِ التصفيقِ

لأصنامٍ تُطْعِمُ الفقراءَ بالوهمِ وتغسلُ يدَيْها بالمسكِ المُهرّبِ من دمهم.

*

عصيّة،

على البكاءِ أمامَ جمهورٍ يطلبُ الدمع كمشهد ترفيهي،

على الصمتِ حينَ يُغتَصَبُ المعنى، وتُغتالُ النبوءاتُ في مهدِ حروفِها،

على أن تكون مجازًا حينَ يُطلَبُ منها أن تفررِغَ ذاتها في استعارةٍ عقيمة.

*

عَصِيّةٌ،

على قَولِ ما لا تؤمنُ به،

على كتابةِ قصيدةٍ تبرّرُ نُدوبَ التاريخِ أو تُعقّمُ الذاكرة،

وعلى تلميعِ الظلالِ المُتَعبةِ بطلاءِ النسيان.

*

عَصِيّةٌ،

كحرفٍ نافرٍ في قصيدةٍ مَرَجِيّة،

كأنثى ترفضُ أن تكونَ فاصلةً في جملةٍ ذكوريّة،

كنخلةٍ تنبتُ في أرضٍ مالحةٍ وتُصِرّ أن تثمر.

على مصافحةِ الوقتِ الذي يَسلُبُها اسمها

ويُهدي إليّها رقمًا في ملفِّ الإحصاء.

*

عَصِيّةٌ،

وتملكُ شجاعةَ النهوض كلّما ماتت قليلاً،

وتكتب ذاتها، كما تريد،

بلا وصاية،

بلا مُلقِّن،

بلا عذرٍ يجعلُ من الخنوعِ سردًا مقبولاً.

***

مجيدة محمدي

 

مَنْ يَمْنَعُني

أنْ أخطفَ مِنْ عَينيكِ النَّظْرَةْ

أن تُبْحِرَ في عينيكِ

زُرْقة بحري

فَتَلْمَعُ شُهْرَةْ.

أنْ أمتصَّ رحيقَ الزهرةِ

من شفتيكِ

وأصْنَعُ خَمْرَةْ.

أن أغسِلَ وجهَ العَالَمِ

بين يَديكِ

بِسَبْعِ لُغاتٍ

قبل صباحِ الفيس

وبعد مساءِ الواتس

وأقبلُ عُذْرَه !

*

إنِّيْ أَزْرَعُ في رِئتيكِ هَوَايَ

كي يَتَنَفَّسَ

صُبْح الآتي إلى دُنياهُ

حياةً أنقى...

حيث اللابارودَ...

ولا أشلاءَ على الطُرُقَاتِ

ولا نَعَرَاتٍ تُوْرِدنا

في أسوأِ بُوْرَةْ!

فأزيحي وشاحكِ وانْتَصِري

لا تنتظري

فالدربُ إلى الأسمى

صَخْرَةْ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

من عتمةٍ تشبه قبر الأيام، أخرجُ إلى عالمٍ فسيح... أتلّمس وجعي، وأحاول أن أفرد على قلبي غيمة ماطرة، أمسّد أجنحة أحلامي وشغفي، وأحلّق في فضاء المنافي- ربما - لأنسى العناء الأول.

شهران ونصف الشهر تقريبًا، كانت فترة بقائي في المخيم المخصص لمقدمّي اللجوء.

جنسيات مُختلفة، معظمها من دول أفريقيا، ونسبة غير قليلة من سوريا والعراق واليمن وروسيا وباكستان وإيران، وربما هناك من بلدان أخرى، لكن هؤلاء ممن كانوا يقطنون ذات المبنى الذي أنا فيه.

جميعنا نعيشُ في شققٍ مشتركة، بعضها مقسّم للعائلات، والبعض الآخر للعازبات والعزّاب، تحيط بها أسيجة مُشيدة من الخرسانة، وتعلوها الأسلاك...

هل أنا أمام فرحة صعبة لا تثمر في المواسم؟

هكذا خُيّل إليّ عندما رأيت عدد اللاجئين في هذا المخيم الكبير.

الآن أنا قِبالة مصير مجهول، أتفحّص ملامح مستقبل لا يُرى.

شقّتنا تتكون من ثلاث غرف وصالة صغيرة ومطبخ وحمّام، تسكن في كل غرفة فتاتين، أو سيدة وأطفالها.

تشاركت الغرفة مع امرأة عراقية من بغداد تُدعى "بلقيس"، أما الغرفتان الباقيتان، واحدة كانت تشغلها سيدة إيرانية مع ابنتها الصغيرة، والأخرى فتاتين:" جالا الإيرانية"، و"رشيدة المغربية".

توطدّتْ علاقتي مع السيدة "بلقيس"، بحكم أنها معي في نفس الغرفة، امرأة جميلة، حنونة، تتندّر وتضحك كثيرًا، تراعي أوقات نومي، لا تدعني أفعل شيئًا:

ـ عيني... أنتِ رقيقة وناعمة، ما تتحملين، أنا معتادة على حياة المخيمات، ( ثم همستْ ):

قبل أن أجيء هنا كنتُ في أتعس مخيمات اليونان.

ـ ولماذا لم تبقي هناك؟

ـ اليونان لا تمنح إعانات جيدة، وفرص العمل المعتبرة للاجئين، تكاد تنعدم.

ـ في كل الأحوال أعتقد أن اللاجئ يتخذ من اليونان ممر للعبور؛ لينطلق منها إلى باقي دول الاتحاد الأوربي.

ـ بالضبط، ودائماً ممرات العبور غير آمنة!

في الشقة التي تقابلنا، كانت تسكن مجموعة من الفتيات السوريات؛

"هيا " الجميلة، فتاة سورية مسيحية، في غاية الأدب، أغلب أحاديثها عن كلبهم " توبي" الذي تركته مع أمها وأخيها هناك، و"لمى" الرقيقة، من أكراد سوريا، فتاة مثقفة، ناضجة، هادئة، قليلة الاختلاط والحديث، و"عوفة" البيضاء الفاتنة الناعمة، ودودة وحنونة جدًا.

عندما نجتمع ونتحدث، أكاد أشمّ رائحة المتفجرات المفخّخة، أو قصف القنابل الطائشة، أو الرصاص الأرعن في يوميات الحرب ذات الظل النزق، ذلك الظل الذي بسببه صرنا هنا تحت خيم المنافي.

أما الشقة التي تقع تحت شقتنا في الطابق الأول، فكانت تقطنها فتاتان من السودان، وسيدة من إرتيريا مع ابنتها الصغيرة، والغرفة الثالثة فتاتان من جيبوتي وأثيوبيا.

"ريحانة" ابنة السيدة "حياة" الإرتيرية، طفلة لطيفة جدًا، محبوبة جدًا، كانت تضحك جميع أساريرها عندما تشاهدني وأنا أنزل السلّم، فأحضنها وأقبّلها، ثم أمضي.

"حياة" سيدة إرتيرية من قبيلة تُسمّى "تغري"، لديها موروث شعبي، وحكايات الحروب الأسطورية والأحاجي، أحبّ حديثها.

كانت تعيش على هامش الحياة، في بلد لا تجد فيه وسيلة للرزق، فتبدو الدنيا أقرب لكابوس، أو ربما أقرب لنوع من الموت الذي يبدو كالحياة في مفارقة مدهشة، الموت الذي خطف زوجها من على أحد قوارب العبور إلى أوروبا، ليدفن في مقبرةِ أعماق البحر.

تنقلت من بيت الى بيت، ومن نزوح الى آخرٍ، حتى استقر بها الحال مع أبنتيها في تجمّع للنازحين بالقرب من الحدود السودانية.

ففقدت أبنتها الكبرى بسبب حمّى شديدة أصابتها.

عندما تتذكرها تبكي بحرقة:

ـ ليت الحمّى عرفت طريقها إليّ وتركت ملاكي بسلام.

أبكي معها...وأركض صوب النجاة، وأنا متسمّرة في مكاني.

أبحثُ عن جنّة الخيال؛

لعلّي أجد سماء أوسع من جلابيب السواد التي تغطي أجساد الأرامل.

تتحدثُ "حياة" عن بلدتها الفقيرة، وسحر "نهر القاش" الغنّي بالأسماك، فيغمرني توق لصفاء شطنّا القديم.

تناديني: "ميدي" فأقول لها:

ـ ميّادة يا حياة، اسمي ميّااادة

فتضحك.. وتقول بلهجتها: ميدي سهل وسِمح.

تضحك، ونضحك، ويضحكون...

الجميع هنا يضحكون، لكننا ما زلنا نتلّمس خطواتنا وسط دروب الخوف والقلق والترّقب، لم تنته الحروب بالنسبة إلينا، لم يُقتل الفقر، لم يُفنى القمع، لم تتوقف قوافل التهجير والموت؛

إذن أيام السلام والفرح لم تبدأ بعد، غير أننا ننتظر! وكأنّ أجنّة الحياة تجمّدت داخل الأرحام تخشى صرخة الولادة.

أخبرتني "بلقيس" أن عيد ميلاد "ريحانة" اقترب، وتودّ أن تفاجأ أمها في عمل حفلة تجمعنا، لتفرح الصغيرة.

اجتمعنا في شقّة حياة؛ وتقريبًا كل مجموعة تشاركت في صنع طبخة لذيذة، الفتيات السوريات صنعن صحن التبولة وصينية الكبة المشوية، البنت السودانية صنعت صحن العصيدة اللذيذ، وبلقيس طبخت أجمل دولمة، أما جالا ورشيدة فخبزن الكيك، وصنعن الحلويات.

وبدلاً من أن نكون نحن صاحبات المبادرة والمفاجأة، باغتتنا حياة الرائعة بإعداد ألذّ وأجمل الأطباق الإرتيرية، والتي أتذوقها للمرة الأولى...

أشارت إلى صحن كبير، وقالت:

ـ هذا نسمّيه أرز الجولاف، ويُعدّ من أشهر الأكلات في إرتيريا، حيث يتكوّن من الأرز، وقلب البندورة، والفلفل الأحمر، الملح، والبصل.

وذاك صحن الدودو، ويتكوّن هذا الطّبق من الموز بشكل رئيس، مع طبق متوسط من شقف اللحم...

كانت ريحانة فرحة جدًا، قضينا أمسية لن تُنسى، غنينا ورقصنا، وتندّرنا.

وهكذا مضت فترة بقاءنا المؤقت في هذا المخيّم.

وبعد أن أتممنا كافة الإجراءات، من فحوصات طبية، ومقابلات قانونية؛ لمعرفة سبب لجوؤنا هنا، تم فرزنا وتوزيعنا على مناطق ومدن مختلفة، فتفرّقنّا...

نعم تفرقنا وكأننا وريقات زهرة عبثت بها الريح، فرفعت كل وريقة إلى مكان مختلف.

يبدو كُتب علينا هذا الشتات والتنّقل، فقد انسجمتُ مع جميع الفتيات، اعتدنا على بعض، نساعد بعض، نخّفف عن بعض، نواسي بعض، وأكون مطمئنة جدًا، وأنا أثرثر بأسراري لجارتي الأرتيرية الغريبة، لأني متأكدّة أنها لم تعرف النميمة.

وكان نصيبي مدينة صغيرة في ذات المقاطعة، حيث تبعد عن مكان المخيم ما يقارب الستين كيلومتر.

هنا في هذا المبنى والذي يطلقون عليه مسمّى (الهايم)، وهو بمثابة سكن الإقامة الدائم، أتقاسم غرفة كبيرة بملحقاتها، وذات شرفة تطلّ على الفناء الخلفي للمبنى مع فتاة أخرى من الطائفة الإيزيدية.

وهي ديانة كردية بامتياز حسب ما ذهبت إليه غالبية آراء المؤرخين، وبكل الأحوال هذا الأمر لا يهمنّي كثيرًا بقدر ما يهمنّي عدم تعصبّها، أو تدّخلها في ديانتي وخصوصيتي... هذا ما كنتُ أتمناه.

ولأنها لا تتواجد دائمًا؛ فأشعر أن مَنْ يقاسمني السكن بشكلٍ يومي وحقيقي، هو الشبّاك والجداران المتقابلان!

"ناريمان" أو نارو.. كما تُحب أن أناديها، فتاة جميلة، قلت لها ما معنى اسمك؟

ـ الفتاة الجميلة، ونارو يعني الوردة.

قلتُ لها:

ـ وأنتِ فعلا مثل الوردة.

كنتُ ألاحظها كل يوم ثلاثاء وخميس تجلس عند الشباك، وتأخذ بيدها شمعة، وتبدأ بالدعاء: "يا مالك فخرديين هاوارمه تو"

سألتها بتودد عما تتمتم به، قالت هذا دعاء للشفاء.

طلبتُ منها أن تحدثني قليلًا عنهم، لأنني لا أملك معلومات كافية، نظرتْ إليّ وابتسمت، ثم قالت:

ـ باختصار نحن أقلّية لدينا طقوس مشتقة من دينكم، مثل الصوم والصلاة والحج، غير أنها تختلف في مضمونها، بمعنى قبلتنا ليست الكعبة وإنما الشمس، ونحجّ إلى وادي "لالش " شمال غرب الموصل على الأقل مرّة واحدة خلال حياتنا، ونبقى هناك سبعة أيام، ولدينا كتابان مقدّسان، هما "مصحف رش"، وكتاب "الجلوة"..

أما أعيادنا فمختلفة بالطبع عن أعيادكم، عندنا مثلًا عيد الأضحى اليزيدي، وعيد رأس السنة الجديدة، عيد السبعة أيام في سبتمبر، عيد الجمعة الأولى من ديسمبر ويأتي بعد صوم ثلاثة أيام متتالية.

ضحكت، وقلتُ لها: في زمن الفتنة يا عزيزتي وهذا الدمار، صرنا نبحث عن أي عيد أو مناسبة لنبتهج.

ـ صدقتِ، ستعود الأمور إلى طبيعتها، لابد من ذلك.

ـ نأمل هذا، ولو أنني أراه بعيداً!  وهل تعيشون في الشمال فقط؟

ـ نعم، في منطقتين من شمالي العراق، أحداهما مدينة "شيخان" شمال الموصل، والثانية في "سنجار".

ثم تنهدتْ وقالتْ: آه سنجار... سنجاري... التي صارت فيها مجازر لبنات طائفتنا.

شعرتُ بحزنٍ كبير، لأنني تذكرت ما فعلته منظمة "داعش" الإرهابية بتلك الفتيات.

وندمتُ لتذكيرها بالمآسي والأحزان، فأحببت أن ألّطف الجو:

ـ يقولون لا تأكلون بعض الخضروات.

ـ نعم بعضها.

ثم صمتت وتعمقت في التركيز إلى الفضاء خارج المكان، وكأنها تسترجع البعيد.

قلتُ مع نفسي، لابد أن أصمت أنا أيضًا، فيبدو أنها لا تحب أن تتحدث أكثر.

ثم نهضتُ وحضّرت كوبين من الشاي الأخضر...

بمرور الأيام أصبحنا قريبتين من بعض أكثر، صرنا نخرج للتسوق سويا، أو للتنزه، ونشاهد بعض البرامج معًا، نواسي بعضنا أيضًا.

ذات ليلة سمعنا صراخًا، نصحتني ألا أفتح الباب، أو أخرج وأرى ما يحدث، أو أتدّخل:

ـ لا تفعلي هذا أبدًا، سواء بقيتِ هنا، أو انتقلتِ لمكانٍ آخر.

قلتُ بدهشة: عجيب! لماذا؟

ـ طبيعي جدًا هذه الأمور تحدث بين أفراد العائلة هنا، أو بين شخص وآخر، والتدخل قد يجعلكِ متهمة بشيء لمَ تفعليه، ثم هذا الصراخ ستسمعينه كثيرًا.

ـ كيف؟

ـ الغرب وما يدّعون به من إنسانية، عبارة عن فقّاعة كبيرة، المنتصر من خرج من تلك الفقاعة وهو سليم العقل والنفس.

يا عزيزتي قبل فترة جاءت الشرطة المجتمعية، وأخذت ابنة هذه العائلة بحجّة أنّ الوالدّين غير منسجمين، وقد أصاب الأم ما أصابها من هلع وحزن، وهذا حالها منذ ذلك اليوم.

هل رأيتِ الانسانية العالية هنا كيف يفرّقون بين أفراد العائلة الواحدة؟

البنت عند عائلة أجنبية، والولد دعيه يعيش كامل حريته من دون أن تتدخلي، وبعض النساء انفلتن إلى أبعد الحدود، حدود صادمة لنا نحن في الشرق...وهكذا.

ـ النساء؟ قلت باستغراب واستفهام، ثم أردفتُ:

وماذا تريد المرأة أكثر من وجود زوج يحميها؟ أنيس يبدد عنها برد الغربة والابتعاد عن الأهل والوطن؟ خاصة ونحن في بلاد غير بلادنا.

ـ أووه، ماذا تقولين! نساء كثيرات غدرن بأزواجهن بعد لمّ الشمل والقدوم إلى أوروبا، حقيرات، والله أمر الترحيل قليل بحقهن.

هيا... هيا لنخلد إلى النوم أفضل، ستعيشين هنا وترين العجب العجاب.

أويت إلى فراشي والنعاس قد غادرني، أتقلّب،

أفكّر،

أنهض ثم أعود،

بينما نارو غرقت في النوم...

نارو كانت مخطوبة لشاب مدمن مخدرات، ولم تكتشف إدمانه إلاّ في فترة الخطوبة، كان يعاملها بسوء، يضربها بسبب غيرته عليها وشكّه الدائم وحبّه لأن يتحكم بحياتها.

في أثناء فترة سيطرة "داعش" على المنطقة، استطاعت عائلة نارو الفرار إلى ألمانيا، تاركة إياها مع أثنين من أخوتها في سنجار، وبعد فترة من الزمن تمكنت نارو وأخوتها الهروب والسفر إلى إيطاليا، فألمانيا.

ثم لحقها خطيبها.

ازدادت المشاكل بينهما ولم تتحمل تصرفاته، فتم الانفصال بشكل رسمي، ومع انتهاء العلاقة؛ انتحر خطيبها، لتبدأ مرحلة عداء بين العائلتين.

عندما تكون معي نارو، لا أشعر بوحدة كبيرة، فهي طفلة كبيرة:

ترقص.

تغني.

تجلس وتضع الميكاب من دون أية مناسبة.

تحب شرب الشاي بشكل مفرط!

لكن عندما تسافر إلى المدينة التي يقطنها والداها وأخوتها، أشعر بفراغ كبير.

وحشة...وحدة... غربة بكل صورها.

تداهمني تقريبًا كل ليلة حمّى الحنين وحُرقة الحُزن والحب الشديد لدياري، اشتاق حدّ الهذيان لنفسي التي تركتها عند عتبات آخر محطة، قبل أن تطأ قدمي قارة أوروبا.

لكني كنتُ أواسي روحي بغدٍ مأمول.

سألتني نارو ذات نهار :

ـ هل لديكِ زوج أو حبيب؟

اختنقت... طَفرتْ دمعة من عيني عنوة، وقلت لها:

ـ كان.

فلم أجرؤ أن أقول لها الحقيقة.

ـ يعني تم الانفصال، أم مات؟

ـ لا هذا ولا ذاك!

ـ هل هذه حزّورة؟ كيف لا هذا ولا ذاك؟ أين هو الآن؟

ـ نارو..إذا لا يوجد في قلب المقابل أي فراغ، فكيف سنشغل حيزًا فيه؟

ـ يعني مازال موجودًا في الحياة.

ـ نعم موجود... إلا أنه بعيد، بعيد جدًا.

هل تعلمين؟ اكتشفت حقيقة جميعنا غافلون عنها، لو ندركها لسارت حياتنا بشكل جيد، وربما من دون ألم كثير، هي أننا لا نشكّل الأهمية التي نعتقدها عند أحد، إن لم تربطنا به رابطة رسمية، أو رابطة قرابة ودم، وحتى هذه أصبحت لا تشكّل أهمية عند بعضهم أمام مغريات الدنيا.

كنّا جالستّين في الشرفة المطّلة على الساحة الخلفية للسكن، الطقس بارد وتتساقط بعض الصفائح الرقيقة جدًا من الثلج وكأنها قطع من القطن الأبيض الخفيف.

قالت نارو: سأذهب لإعداد كوبين من الكاكاو، الأجواء تساعد على التمتع بشرب السوائل الدافئة.

ـ ممتاز، واجلبي مع الكاكاو قطعة الكيك التي صَنعتها جارتنا أم إرسلان

بقيت أنظر لهذا الثلج المتساقط، وفي روحي جمرة موقدة لن يطفئها أي جليد.

بدأتْ تتقافز أمام شاشة عيني كل الذكريات... الأحاديث... الوعود... الأحلام التي رسمناها معًا ذات صِبا... الغد الباسم الذي كان يحدّثني عنه...

لا أدري كيف تغير كل شيء؟

الحرب؟

التقاليد؟

خطأ وخطيئة مَنْ؟

افترقنا ولم نفترق... فقلبي مازال وديعة عنده.

شعرتُ أنّ هذه الدنيا سجن كبير، بلا قضبان ولا أسقف، " مستعمرة عقابية" ندخلها وكلٌ منّا يدفع ضريبة وجوده من دمه وتعبه وعمره وراحته وطموحه.

خيرنا مَنْ يبتعد عن شرورها، وأقصد هنا يبتعد عن أصحاب القلوب القاسية، الوجوه المتعددة، الكاذبين، المتلونين، المتصنعين، المتملقين، المستشرفين، الخاوين...

في هذه المستعمرة اتخاذ العزلة صفيّا... أسلم من اتخاذ الوهم صاحبا.

ـ وهذا الكاكاو الساخن لأجمل ميّادة.

ـ حبيبتي نارو، شكرًا.

ـ أكيد سرحتِ بأفكاركِ بعيدًا مع هذه الأجواء.

ـ نعم أكيد.

ـ كوني متفائلة، أغلقي نافذة الماضي، غدًا سيصبح لكِ هنا وطن ومستقر وحياة وعمل.

ـ وطن!

الوطن بالنسبة لي رجل صادق يحتويني، حبيب احتّلُ مشاعره وأجوبُ جهاته الأربع من دون شريك، أطير في سماء حياته من دون خوف، رفيق يقودني من يد قلبي لنعبر ممرّات الجليد والنار سويًا، حتى نصل أقصى الشوق.

ـ مخطئة جدًا... الوطن بقعة أرض توفر لنا الأمان والانسانية، والباقي نحن نحققه بإرادتنا، على أي أساس أرهن حياتي على وجود رجل؟ مخطئة يا ميّادة، قال الوطن رجل!

حبيبتي، أيُة دقيقة تمضي لن تعود مهما فعلنا، قطار العمر لن يتوقف إلاّ بمحطّة واحدة في نهاية الرحلة، لذا لا تنتظري شخصًا غائبا في الصعود معكِ ومرافقتكِ برحلة العمر هذه.

يبدو لي أن كلام نارو منطقي جداً، فلم يكن الحبيب الذي انتظرته سوى طيف، مرّ عابرًا ذات حلم، ولم أجد سوى وحشتي في هذه الدنيا.

أحسّ أنَّ كُل منافي أوروبا الآن، تهمس في إذني بصوت شجرة صنوبر واحدة:

الجذور القوية تتمسك بالأرض، لن تقتلعها الرياح؛

غير أني مرغمة تركتُ جذوري هناك، فهل ستقتلعني عواصف المنافي؟

تركتُ ورائي كل شيء.. وهو أمامي كل شيء...

هذه الليلة كان الجو باردًا جدًا، وسبقتها ليلة أَمطَرت السَّمَاءُ وابلاً من بلورات الثلج، وكأنها تساقطت من عين الله، جمعتها في كفّ يدي، وتوضأت بها، ليغادرني حبه، وطيفه، وكأنهما خطيئتي الكبرى التي سأتوب عن ارتكابها مرة أخرى.

اتجهتُ للركن الذي اعتدتُ الصلاة فيه، وسلّمتُ أمري للذي فطر السموات والأرض، وبين السجدتين نادتْ جوارحي أجمعها:

اللهم قرّ عيني بلقياه.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا ـ شتاء ٢٠٢٢

مجموعة/ عواطف على لائحة الاغتراب

 

آآآه يا سليل الوجع، ومهد الجذور، ليت يتسع قلبك لنبض تفقدي، كي تسمع ملأ تصدعي القابع في مرآة نسيانك، لـــو تسترق ومضة أصغاء لا تعشوه غطرسة عقل باستحواذ أبكم، لنتذوق نكهة الوعي من كأس وجدانِ، عفوا يا جذع النسب بتوأم أنفاسك، عفوا ياسيف اقتناصي على ربوة ملاذاتك، لِمَ تقضم براااءة براعمي بأنياب الصمم!، تسفك رحيق آهاتي قرابين منفى!!، متناسيا حتمي بنات جيناتك؟، تتكسر ربيع أغصاني بعواصف خذلان!!، تقطف شذا وجودي نزاع تمرد، قبل أن ينبس لسان تلعثمي استعباد جهالة!، تخنق بتلات برائتي فأغدو أشجار أنين ذاوية!، حتـــى تتساقط أوراق حتفيّ من زُغب الذاكرة، أنسابُ عشتار خطايا من صُلب مساماتك!، وعلى حين ذهولٍ تدوف عجينة عمري عرائس غفلة، بيد غريزة ضيزى، تُهدى لمن تشاء زنابق صبا، بخس بضاعة بعقد بياض فاحم، تُبيح ديباج روحي سبية مشاعر!!، تبيع حياء صمتي بما ارتأيت من رياش طفولة غضة، أي تهمة تغزو دمية أحلامي صفقة ضلال!، لو تسأل عن شهقاتٍ باكية!!، أي هشاشة عذرتسلب أنفاس براءة شهادة تبعُل غصات ثكلى، تطوي كل ترافة أيامي في قارورة عتمة، كي تخنق أسمي المحظور بعيدا عن أجيال ظلالك!!، متى تنفض غبار التوجس ويَغلبُك العتب، ألا تعلم هوية الجلاد نعيق غاصب؟، فكيف لبراءة غيمة تنجب صهيل المطر بقحط برق من بُخل رعد قاحل، أرضي جدبة الفرح، تنبت ثمار حزني في حقول أنسابك، طالما مؤودة العمر في غمرات أحداقك، أنا ضراوة يُتم آجل.. عاجل، أنا لقيطة ملاذ مستترفي عباءة السلع، أنسية لم يعطرها نثيث العشق يوما منذ خفقات الطلق، أنا القاصر لست زلة مطر، بل من فرط الضياء مزن سماء، لو تتمهل لأنهل من منحل نضوجي، أنا القاصر بما أطعت رهينة.

***

إنعام كمونة

  2/8/2025

 

(مجموعةُ نصوص وومضات أدبيّة)

-نومُ العَوافي هبّهَا يَا رّبَّي!.

وَشارعكِ وحدي أمشيه ليلاُ في غُربتي

أدسُّ يدي في جيبيَّ وأمضي سائرًا...

ومَا المُضيّ؟ سوى خطوةٍ!

فأنَا كُلِّمَا تسكعتُ بِي إليكِ واستنشقتُ هواء درُبُونتكِ...

أتطلعُ  تَارةً إلى مَظانكِ..واستودعكِ أحلامي..

وتَارةً أُخرى إلى السّماءِ بِالدعاءِ :

هبّها يَا رّبّي نوم الهنا والعوافي!.

**

لعلَّ جمرة فيها تعيد الوجِد إليها..

لو نفحتُ في نارِها لانارت…

لكنّني سأنفخُ فِيمَا تبقى مِن رمادِها...

فلّعلَّ جمرة فيها تُشعِّلُ حطبها

وتعيد الوجِد إليها!

عساها تَتسخَى عليَّ

فتعيدُ تَسخِين دلّة قهوتها

فتقرأ لي فنجان حظها

وتفصح ليَّ عمّا مكنونٌ في داخلها.

وبهذا أكونَ قد أخذتُ بيدها

وأغدو دالّتها على ضالتِها.

**

بلادي وبوصلةُ شَعرها

أما زلتِ تُسرّحينَ شَعركِ

على صخرةٍ قبالة أمواج الشواطئِ؟َ

فقط دعيه حُرًّا.. طليقًا..

سَرحًا.. مُسدلاً على كتفيكِ..

عسى كُلّمَا حركتهُ الرّيح...

يكونَ دليلّيّ نحوكِ

فأعرفُ الدربَ إليْكِ!.

**

وفيَّ متسعٌ لِناركِ

يَا دجلة الفرات... أغيثيني مِنكِ

أنا يوسفُ إبن ذلكَ الرجل النبيل

أبي؛  الذي انتقل إلى الضّفةِ الأخرى مِنَ الحياةِ

في الثّمانيّةِ والأربعينَ شبابًا

ولمْ يعد حتّى الآن -عليه كُلّ المراحمِ-

ربّما طابت لهُ الحياةَ في دارِ البقاءِ مع الأبرارِ والصدّيقينَ.

وأمّي أمدَّ الله في عمرِها

رغم أنّها ارضعتني حليبّا بغداديًّا كثف الدّسامة

غيرَ أنّي لمْ أنجُ مِن هشاشةِ العظام في غربتي!.

فعلامَ كُلّمَا مشيتُ بِي إلَيْكِ مُتعبًا

وجدتُكِ معتصمةً بحبلِ الهودجِ الّذي يربطكِ بي…

ولماذا كلّما حذرتكِ مِني بِالقولِ احذريني …

تجيبني بحرفِ (الهاء) (ها ها..)

تنبيهًا أو أستفهامًا!

ولكن هذه المرّة سأنتصرُ لكِ وأتركني وديعةًعندكِ

عسى اللاّ تسيئينَ الظنَ بِي!.

فمن يدري عساكِ تكونينَ مُنصّرةً ليَّ

وتكونينَ لي وطنًا في منفًى!.

ولكن تذكّري في داخلي اغترابٌ يحترقُ

فيه متسعٌ لناركِ…

لعلّ حرائقكِ تشعُ أضواءها في ظلامي

وما الغريبُ في الأمرِ

أوَلستُ  المشتعلُ بكِ منذ أمدٍ!.

**

بعد أن همدَ لهيبُ النّيرانِ

ليلٌ موحشٌ والأجواءُ حولي مُملّة رتيّبةٌ بعض الشيءِ

والطّريقّ فارغّة إلّا مِنّي!

هُناكَ سألتُ نفسي:

أ أمضي في رحابِها أمْ لا؟

فجأةً.. وجدتُ ظلّاَ لكائنٍ آخر يتعقّبني

وتناءى إلى مسمعي صوتًا:

يَا صاح... يَا صاحَ...

كُلّمَا ناديتُ إيّاكَ أجدني أُناديني..

فمَا الأمرُ؟!.

مددتُ رأسي متلّفّتًا في الفضاءِ والعتمةِ

محاولاً الاصغاء واقتفاء أثر الصوتِ لعلّيَّ أعي مَا تبقى مِنْ صدى...

ومَا يترددُ مِنْ كلماتٍ.

وإذا بِها بنيرانٍ تُلقي نظرةً على رمادِهِا الأخير!.

**

أنَا والشّامُ قصّةُ حُبٍّ لم تكتملْ

مَا مِنْ مرَّةٍ جاءتني العواجل فِي التّلفاز عن الشّامِ

إلاّ واتضورُ ألمًا وأتسألُ:

عن حالِ جرمانا ...معرّة صيدنايا

باب توما... والقصاع ...مشروع دمر... وألخ.

فتسألني:

أينَ كاهنٌ عراقيٌّ كانَ يُصلي ويكتبُ هُنا. وتزيد:

مَا الذي فيَّ فيكَ مَا زالَ حيًّا فيكَ؟!.

**

مقطوعةٌ صوفيّةٌ

يَا رّبُّ...

وجئتُ أرنمُ لكَ

أَوَليسَ بعض الترنيم شعرًا؟!.

وقصدتُكَ مُصليًّا في ليلٍ أهيمٍ..

أوَليسَ بِالشِّعرِ يقولُ المرءُ ويُصلي  مَا يريد

وبلغةٍ معبّرةٍ ومختلفةٍ؟!.

**

حرير رموشكِ

في زُكامٍ صيفيٍّ ومغصِ أمعاءٍ

دعيني أدربُ العينَ..

كيفَ تغمضُ الأحداق عليكِ؟!.

وكيفَ أسنُّ مِن رموشكِ وأنسجُ

طورًا مشطًا... أُسرّحُ فيهِ شِعركِ

وطورًا آخر شال حريرٍ لكِ!.

**

مقطوعةٌ شِعريّةٌ/ دائمًا هُنالكَ شيءٌ جديدٌ

وأنَا أجوبُ بالقلمِ المدنَ الأمريكيّة في اغترابي

سأختارُ المرور بِهذا الشّارعِ العتيقِ البلاطِ والكتابة فيه!.

بِه مناظرٌ آخاذة منكِ وتآسرني!

أجل ساجلسُ في مقهًى  قبالته  وأكتبُ...

فأنَا كُلّمَا آتيه أو أزوخُ مِن مشاغلي في أزقةِ الغُربةِ

أجدُني أحتسيها في مقاهيها الأدبيّة وطبيعتها الخلاّبة

رشفةً... رشفةً.. تأمّلاً تأمّلاً...

أجلسُ قُبالة قلمي أتدارسُ أمرها..

ربّما لأنّها الظلُّ الآخر لكلمتي

أمْ لأنَّ كتاباتي مَقضْومة بِشفاهِها!.

**

وبقى عطرُ الهيل

لقد زاروا المكانَ الّذي أحبّهُ…

فكم مِنْ مَرَّةٍ وَمرّةٍ كنتُ ارتادهُ للكتابةِ والتّرويح عَنَ النّفسِ.

هُنالكَ استمعوا إلى موسيقى لطالما استمعتُ إليها بِصحبتهم…

وأحتسوا قهوةً عربية بالشّكرِ وفتحوا الفنجان في غيابي!

هذا مَا كانَ باديًّا للعيانِ فِيمَا راسلوني بِه كتابةً وصورًا.

لقد عادوا في الغروبِ إلى  ادراجِهم

وبقى عطرُ هيل قهوتهم في فمِ الصورِ!.

***

الأب يوسف جزراوي/ أمريكا

 

تعي موتي ولا تستلُّ سيفًا؟

ولا تُذكي هياجًا أو حَراكا؟!

*

ومِن طُرُقاتِ بيْتكَ مرَّ جُوعي

الذي يقْتاتُ يأسًا من ثَراكا

*

ومن يدري؟ أما كانَ انكفى لو

سمَحْتَ لهُ بشيءٍ من حَساكا؟!

*

ومُنشغلًا و مُنفعلًا أراكا

بما لمْ يُرْدِ في الدُّنيا عَداكا

*

ومُبتذلًا و مُنحنيًا ليصفوْ

زمانٌ مدّ إذ مدُّوا عِداكا

**

ومُغتربًا ومُتّبِعًا ليعفوْ

غروبٌ لا يرى خصمًا سِواكا

*

ومُشتغلًا ومُجتهدًا ليهدا

جليبٌ أمْنُهُ يعْني فَناكا

*

أيا ذاتَ الدّمِ الجاري بنَفْسي

مَن المجروحُ إذْ هدَروا دِماكا؟

*

أيا حدّ الرّجا من دونِ ربّي

مَن المرجوُّ إذ هدَموا رَجاكا

*

أيا باسًا به اسْتَقْوَتْ قُوايا

مَن الإعصارُ إذْ خارتْ قُواكا

*

أيا صوتًا به يعلو ندائي

مَن الرعّادُ إذ كتَموا نِداكا

*

أيا نورًا بهِ يُجْلى طريقي

مَن البرّاقُ إذ أخبَوا سَناكا

*

أخيْ في اللهِ و الإعْرابِ جُوعي

ترعْرَعَ في حِمى نهَمٍ دَهاكا

*

وغمّي أصلُهُ غمٌّ سَباكا

و موتي أصلُهُ موتٌ طَواكا

*

أخي في الأرضِ والتّاريخِ صوْتي

تخلّقَ في صدى صمتٍ عَلاكا

*

وسهْمي عُذْرُه سهمٌ رماكا

وردِّي أمْسهُ ردٌّ رَداكا

*

أخي صدّقتَ أنّي ما أرادوا

بجوعٍ عينُهُ تَرعىْ حَشاكا

*

أخي صدّقتَ أنّي ما أرادوا

بنارٍ دخْنُها يُخفي سَماكا؟!

*

وأنّ مدايَ ما يرجونَهُ في

رسومٍ عرضُها يُلغيْ مَداكا

*

وقد صدّقتَ أنّ دمي سيُغني

وُحوشًا في دَمي ذاقتْ دِماكا؟!

*

وأنّ مَنيّتي تعْني بقاكا

وأنّ خصاصَتي تعْني ثَراكا

*

أخيْ أنا لسْتُ غزّيا إذا ما

المعاني أسْقَطتْ كوني أَخاكا

*

أنا الخيلُ التي حمَّلْتَها ما

بهِ صارتْ يدَ الدّنيا يَداكا

*

تركْتَ الخيلَ في الأصقاعِ قالتْ

دميْ في اللهِ يابن أبي فِداكا

*

أنا البيْتُ الّذي أنْشَدْتَهُ لل

دُّنى فغدا هوى الدُّنيا هَواكا

*

عزلْتَ البيتَ عن دُنياهُ  غنّى

أسايَ أساكَ والمرْجوْ هَناكا

*

أنا الهدْيُ الذي علَّمْتَهُ لل

ورى فغدا بهِ يخْطوْ خُطاكا

*

جعلْتَ الغيّ من ذا الهدْي صلّى

ليُرفعَ عنكَ ما أعيا هُداكا

*

أنا الأيديْ التي سَبَقتْ سواها

مُلَبّيةً لكي تُعلي بُناكا

*

وحينَ علا البناءُ غَدا بَقاها

بِداركَ عائقًا يُبطي رَخاكا!!

*

فما اعْتَرَضتْ ولا انْتقَدَتْ ولكنْ

بخيرٍ لم تزلْ  تروِيْ سَخاكا

*

ألبّيك التي لم نحيَ إلا

بها هذي أمِ الموتُ اشْتَراكا

*

أفي لبّيكَ تخشاها الدُّنى أم

بأخرى تحتها ذلٌّ أراكا

*

"فلا أخزاك في الدّارين ربّي"

دعائي فادّكرْ واقبَلْ أخاكا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أركض..

وفي عيوني تذوب ملامحك

مع أول عاصفة..

فتجدني أجمع شظايا القلب

أصغي لصوت الزجاج..

وفي البال واحة غناء

أضناها النحيب،

كلما اقتربت..

تبددت في زفرة الرمال

والظل الممدود على الطريق

كان وشما لحلم لم يولد بعد..

أناديك،

ولكن لم يكن سوى رجع صدى

تنحت اسمك على مرايا الغياب

أجلس على حافة البكاء

هناك كوب مكسور

ما زال يحتفظ

بطعم قهوتك الأخيرة..

فلمحت ابتسامة المنتصر

وتركت الهزيمة خلف ظهري..

لم تكن سوى قناع أنيق

لأنني كنت المسرح..

وها أنا ذا أخلع ظلالك من ذاكرتي

وعلى الشفاه كلماتي تختنق

كي تلد دمعة.. أغسل بها وجهي

فكنت بطلا في مسرحية الشوق

لكن النص مكتوب بمداد الخديعة.

***

د. وليد خالدي/ الجزائر

 

وَلَـيْـتَ الـصَّـحْنَ كَـانَ مِـنَ الْـفَلَافِلْ

لَـجَـنَّـبَنَا الْـكَـثِـيرَ مِـــنَ الْـمَـشَاكِلْ

*

وَلَـــمْ نَـلْـجَـأْ إِلَـــى الـتَّـرْقِيعِ حَــلًّا

وَنَـقْضِي الْـوَقْتَ فِـي هَـرْجٍ نُـجَادِلْ

*

رَجَــــاءً يَـــــا أَكَــابِــرَنَـا رَجَــــاءً

ضَـعُـوا حَــدًّا لِأَصْــحَـابِ الْـمَـهَازِلْ

*

إِذَا مَـــا الْــغِـرُّ ظَـــلَّ بِـغَـيْـرِ لَــجْـمٍ

سَـيَـقْـصِـفُـنَـا بِـــــآلَافِ الْــقَـنَـابِـلْ

*

وَنُــصْــبِـحُ مِـــثْــلَ دَلَّالٍ بِـــسُــوقٍ

يُـعَـلِّـقُ فِـــي فَـضَـائِحِهِ الـجَـلَاجِلْ

*

هَـبَـنَّـقَةُ الَّـــذِي يَــرْعَـى شِـيَـاهًـا

يُــغَـذِّي لِـلـسِّـمَانِ عَـــدَا الْـهَـزَائِلْ

*

فـأَضْـحَـى الــرَّأْيُ لِـلـرَّاعِي هَــوَاهُ

يُــقَـدِّمُـهُ عَــلَــى كُــــلِّ الــدَّلَائِـلْ

*

أُعَــــزِّي كُــــلَّ أُمٍّ فِــــي بِــــلَادِي

وَكُــــلَّ حَـلِـيـلَـةٍ فَــقَــدَتْ مُـقَـاتِـلْ

*

وَكُـــــلُّ يَـتِـيـمَـةٍ تَــبْـكِـي أَبَــاهَــا

وَمَــنْ كَـانَـتْ تُـصَـفِّدُهُ الـسَّـلَاسِلْ

*

فَـــلَا نَــرْضَـى، يُـمَـثِّـلُهُمْ، نَـطِـيـحٌ

بِــلَا خَـجَـلٍ، عَـلَى دَمِـهِمْ يُـجَامِلْ

*

فَـــإِنْ يَــهْـذِي الْأُحَـيْـمِـقُ بِـافْـتِرَاءٍ

تَــحَــرَّكَ خَــلْـفَـهُ مِـلْـيُـونُ هَــامِـلْ

*

وإِنْ نَـطَـقَ الْـحَـكِيمُ بِـصَـوْتِ حَـقٍّ

يُــقَــابَـلُ بِـالـشـتـائم والـتـجـاهـلْ

*

فَــهَـذَا عَــصْـرُ تَـحْـطِـيمِ الْـمَـعَالِي

وَتَـقْـدِيـسِ الْـقَـبِـيحِ مِــنَ الـرَّذَائِـلْ

*

وَصَـارَ الـنُّصْحُ تُـهْـمَةَ مَــنْ يُـؤَدِّي

وَأَمْسَى الْغَدْرُ مِنْ أَحْلَى الشَّمَائِلْ

*

وَأَصْـحَـابُ الْـجَـهَـالَةِ فِــي صُـعُـودٍ

عَــلَــى أَكْــتَـافِ أبــنـاء الْـحَـمَـائِلْ

*

وَصِــرْنَــا أُمَّــةً تَـخْـشَـى سُـــؤَالًا

وَتَـفْـزَعُ مِــنْ حَـقِـيقَاتِ الْـمَـسَائِلْ

*

فَــيَــا تَــارِيــخُ سَــجِّـلْ مَـــا تَـــرَاهُ

لَــعَـلَّ الــذِّكْـرَ يَـنْـفَـعُ مَــنْ يُـقَـابِلْ

*

وَدَوِّنْ أَنَّـــنَـــا جِـــيـــلُ الــتَّـخَـلِّـي

عَــنِ الْـحَـقِّ الْـمُـبِينِ بِــلَا مُـقَـابلْ

*

وَعَـــنْ مَــجْـدٍ تَـلِـيـدٍ قَـــدْ أَضَـعْـنَـا

لِـكَـيْ يَــرْضَـوْا مَـخَـانِـيثَ الْأَرَاذِلْ

*

وَأَحْـــلَامُ الـشَّـبَـابِ غَــدَتْ سَـرَابًـا

كَـــزَرْعٍ بَـــاتَ تَـحْصِـدُهُ الْـمَـنَـاجِلْ

*

وَلَـكِـنْ رَغْــمَ أَنْــفِ الْـحِـقْدِ نَـبْـقَى

أُسُــــودًا عَـــنْ مَـبَـادِئِـهَا تُـنَـاضِـلْ

*

فَـصَـبْـرًا يَـا رَفِـيـقَ الـدَّرْبِ صَبْـرًا

مَـصِـيرُ الـزَّيْـفِ فِـي الـتَّارِيخِ زَائِـلْ

*

فَـــلَا تَــيْــأَسْ فَـــإِنَّ الْـحَــقَّ يَــأْتِـي

كَــفَـجْـرٍ بَــــازِغٍ رَغْــــمَ الْــحَـوَائِـلْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

تُعاتبُ ظِلَّهُ لَمَّا جَفاهُ

لِماذا لَمْ يَعُدْ يُحصي خُطاهُ

*

لِماذا غابَ في وَقْتٍ عَصيبٍ

لِماذا شَحَّ في جَدْبٍ نَداهُ

*

أما تَدري بِقَلْبٍ قَدْ هَواهُ

وَرُوحٍ عِشْقُها ما قَدْ سَلاهُ

*

أَلا يَدري بِجَمْرِ الشَّوْقِ يَكْوي

حَنايا صَدْرِ عمر قَدْ رَعاهُ؟

*

فَقَدْ غابَ الرَّبيعُ وَجَفَّ نَبْعٌ

وَطالَ اللَّيْلُ في جفنٍ بِكاهُ

*

وَصوتُ الأمِّ يَرْنو كُلَّ آنٍ

الى بابٍ تُسائل عن خطاه

*

أَيا وَلَدي فَقَدْ جَفَّتْ عُيوني

وَدَمْعي في غِيابِكَ قَدْ كَواهُ

*

فَمَنْ لِلقَلْبِ يَشْكُو بَعْدَ هَجْرٍ؟

وَمَنْ لِلرُّوحِ يَشْفِي ما عَراه؟

*

وَمِنْ لِلصُّبْحِ يَأتي في ضياءٍ؟

إِذِ الْآهاتُ تَطْغَى ما عشاه

*

وَلا أَحَدٌ سِوَى الْبَارِي يَرَاهُ،

وَيَكْشِفُ سِرَّهُ فِي مُنْتَهَاهُ

*

فَمَا عَادَتْ تَرى فِي الْكَونِ فَجْرًا

وَلَا رِيحًا تُبَشِّرُ عَنْ رُؤاهُ

*

لِوَحْدَتِها تَئِنُّ بِصَمْتِ دَمْعٍ

وَتَحْضُنُ طَيْفَ مَنْ كَانَتْ مُناهُ

*

فَيا قَبْرًا ضَمَمْتَ الْيَوْمَ رُوحِي

أَمَا حَنَّتْ عَلَى أمٍّ يَدَاهُ؟

*

فَما زالَتْ تُنَاجِي الرِّيحَ شَوْقًا

عَسَى مِنْ طَيْفِهِ يَحْظَى نِداهُ

***

د. جاسم الخالدي

 

أنا السيدة. أنا الكوكب. كنتُ مع صوتي كفارسة تعتلي صهوة جوادها الأثير، وعندما ننطلق في عدونا المهيب، كان كل ما حولنا يسكن إجلالًا، لكني أمضيتُ العقود الأخيرة من حياتي وأنا أغني بهشيم صوت، فكنتُ أنتفض على المسرح وأنا أعصر نفسي عصرًا للحصول على بعض صفاء الرحيق الأول. الآهات التي ندَّت عني وطرب لها الجمهور كانت صرخات لوعتي وألمي. وحدهم من حضروا حفلاتي الأولى كان بوسعهم اختبار ذلك التجلِّي. شيء يشبه السحر كان يحدث، يسلب الناس مفاتيح التحكم بمشاعرهم ويسلمني إياها. كان بعضهم يجهش بالبكاء، والبعض الآخر يقفز ويرقص، بينما يصمت قسم ثالث كأن على رأسه الطير.

عندما تركت الريف وانتقلت إلى المدينة ذات العوالم العجيبة الصاخبة، كانت أولى مغامراتي فيها حضور عروض المطربات اللاتي كن حديث الناس في ذلك العصر. أبهرتني أشكالهن وملابسهن المزركشة اللامعة، فوجدت نفسي بين خيارين: محاولة محكومة بالفشل للتمثُّل بهن، أو الانقلاب عليهن وتأسيس مدرسة خاصة بي، ملمحها الأبرز الاحتشام والجديّة. لم تكن هناك موهبة تقارن بموهبتي، ولا قدرات صوتية تنافس قدراتي سوى موهبة وقدرات الحسناء ذات الأصول النبيلة التي قيل انها هدّدت تربعي على عرش الغناء. ميزة صوتها الأبرز كانت إنه صوت ذو كبرياء، ملكي الجرس، مرهف ومُعطَّر.

أعترف انها كانت تعاملني بتوقير كبير وتقر بفضلي عليها، فما كانت لتحقق ما حققته لولا قيامي بتمهيد الطريق أمامها وأمام سواها من المطربات، لكني كنت أعاملها بودٍّ وعطف باردين حتى إذا اختليت بنفسي، كنت أنصتُ لغنائها والحزن يعتصر قلبي لعجزي عن بلوغ الرفعة التي وسمت أداءها بلا تظاهر أو مجهود. حاولت انتقاء ألحان واعتماد تقنيات تجعل غنائي يبدو أكثر سموًّا، لكن كل ما استطعت فعله هو الاقتراب من الوهج، دون اكتسابه. انهمرت دموعي غزيرة عند سماعي خبر رحيلها المبكر، لكن شعوري بالفجيعة تلاه احساس بالارتياح. نمت بعمق ليلتها، وعندما استيقظت تناولت فطوري بنهم غير معتاد، فقد صمت إلى الأبد ذلك الصوت الفريد.

انجازي الشخصي الأكبر كان انتصاري على الطبقة التي عاملتني باحتقار عندما بدأت بإحياء حفلاتي في المدينة. بريق المجوهرات الماسية التي تزيَّنت بها نساء الأسر الثرية كان أول ما يطالعني عندما تُفتح ستارة المسرح. كن يأتين إلى حفلاتي بدافع التسلية والفضول لمشاهدة الفتاة الريفية التي بدأ نجمها بالصعود. تعابير وجوههن المشمئزة، هزات رؤوسهن، همساتهن وضحكاتهن على مظهري كانت تقع على نفسي كالسياط. كنت أتحامل على ألمي بالغناء، فيتغير كل شيء ويأفل كل بريق أمام سطوع صوتي. أياديهن الناعمة كانت تتسلل إلى حقائبهن الصغيرة بحثا عن مناديل يكفكفن بها دموعهن، ثم تلتهب أكفهن بالتصفيق عند انتهاء وصلتي ويسارعن بالتوجه إلى غرفتي للسلام عليَّ ودعوتي إلى قصورهن، بل إن بعضهن كن يخلعن عقودهن وأساورهن وخواتمهن ويضعنها بين يديَّ ويلححن عليَّ لقبولها. شعرت حينها بأني امتلكت العالم بأسره، لكن جوادي بدأ بالتململ مني والتمرُّد علي في منتصف الطريق، فالاضطراب الذي يشهده جسم المرأة مع تقدمها في السن رافقته تغيرات في صوتي بدت طفيفة في بدايتها، لكنها أفزعتني وقرعت جرس الإنذار لصعوبة القادم من الرحلة. كماء عذب عكره الطين، راح شدوي يفقد شيئًا فشيئًا صفاءه ومرونته.

لا أستطيع وصف احساسي بالمهانة كلما اضطررت إلى الاتصال بأحدهم عبر الهاتف، فيظنني المجيب رجلًا لا امرأة، ويتلعثم من فرط الارتباك عندما يعلم هويتي. لتفادي الموقف البشع، صارت مساعدتي تطلب الرقم عوضًا عني وتبلغ صاحبه أني أود محادثته، ثم تناولني السماعة. كم تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني عندما كانت الخيبة ترتسم على وجوه الملحنين لعجزي عن بلوغ المناطق المرتجاة، فيقترحون إجراء تعديلات تجعل غنائي مستوفيًا للحد الأدنى من اللياقة. كنت أومئ بالقبول وأنا أجاهد لمنع دموعي من التساقط أمامهم.

التحدي الآخر الذي كان عليَّ مواجهته هو أن بعض الجهلة اعتبروا فني رديفًا لمساوئ القيادات التي اصطففت معها. وهكذا، بعد أن كنت رمزًا للثورات، تحولتُ إلى رمز للهزيمة، بضاعة مُزجاة وصوت حنين لدى الآباء والأجداد، ثم ظهرت على الساحة المطربة ذات الأغاني القصيرة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع والالحان وطريقة الأداء إفرنجية الطابع. أجج صعود نجمها في داخلي غضبا عظيما وأشعرني بأنها تهدف إلى تقويض إنجازي والحط من شأني بأغانيها ذات الدقائق المعدودة التي جعلت الشباب ينصرفون عن وصلاتي الممتدة ويرونها هدرًا للوقت. أيضا، جمودها على المسرح وتفاعلها شبه المعدوم مع الجمهور رخَّصا من تجاوبي مع صيحات الإعجاب بإعادة المقاطع مرات ومرات، فصرتُ كمن تستجدي الهتاف والتصفيق، بينما تترفَّع هي عن الطلب. التزامها الصارم بالطبقات والنوتات المدوَّنة استحوذ على إعجاب النخب المتأثرة بموسيقى الغرب التي كانت تعتبر ارتجالي وتجويدي لكل سطر وآهة وانقياد العازفين لي فوضى تليق بعروض جوقات الغجر في الشوارع، لا حفلات المسارح المرموقة، حتى تقنية غنائها التي توحي للسامعين بأن صوتها قادم من بئر عميق جعلت صرخاتي الملتاعة تبدو كضوضاء الباعة المتجولين.

لجأت مضطرّة إلى المعزوفات المطوَّلة وتكرار المقاطع التي كان بوسعي تأديتها بشكل سليم، فالموسيقى كانت عكَّازي الذي توكأت عليه لإيصال المعاني التي عجز صوتي عن إيصالها. التخلي عنها وعن الإعادة كان سيكشف ستري ويعري ضعفي أمام الناس، ولذلك أمضيت أيامي الأخيرة في مناجاة السماء. شكوتُ إليها ضعفي وتعبي. سألتها عن الحكمة في أن تعطيني ما لم تمنحه لبشر، وترفعني في المقام حتى بلغتُ أعالي الذُرى، ثم تتآمر مع جسمي كي تسلبني أجمل ما فيَّ وتتركني أعيش القهر والهوان. توسَّلتُ إليها أن تجمعني بصوتي الأول، حتى لو اقتضى الأمر أن أموت، فأجابت السماء طلبي، لكن الإجابة جاءت مع غصَّة ...

***

علي شاكر

...................

*النص مقتطع من فصل "المطربة" من كتاب غرف سماوية: رواية؟ لعلي شاكر الصادر حديثا عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة

(إلى أخي الخصيبيّ طالب عبد العزيز)

***

1- نافذة

-غرسي الأخضر..

خلف السنين

في كلّ أرضٍ ..ومكان

عبر المدائن والقرى -

هكذا سمعتُ نفسي

صمتُّ لحظة

فجأة

- وأنا أعيش صيف هذا البلد الحزين-

ابتلعني الطريق

بآهة طويلة

طويـــله

على جناح الزمن

وعند منتصف الجسر

حاولتُ

بهمتي العالية

وقد تلألأت البعيدة القريبة

أنْ أرفع شتات الأوهام

ولكنّها

قاومتْ

وقاومتْ

وسقطتْ عليّ

بمعطفها الأسود....!

وبقي الجسر ...

يرفرف عليه

ثوبه المصبوغ ..!

المتجدّد العتيق ...!

**

2- بدريّة

قبل أن يعرف القناطر

قنطرة

قنطرة

كانت له – بدريّة-

نافذة خضراء

بين ارتعاش الصباح

تمدّ له عيونها

عيونها العسل...

درباً لمطلع الشمس

جسراً إلى الحياة....!

**

3- قرية البرهامة (عويسيان)

وجد في- البرهامة-

طفلة كالقمر

في صوتها قصيدة

لا تشبه القصائد

قالت له بدندنة:

وفي اليدين قهوة

وكسرة من خبزة التنور

وقدّمت فنجانها له ..

في دفء الظلال

-إنّي أنا الحلوة المرّة

والمرّة الحلوة

إني أنا القصيدة الجديدة –

وأومأت برأسها تشكره

و.......!

ليس يجدي الغناء...!

**

4- اغنيّة الوحدة

كنتُ هادئاً جدّاً

مسالماً جداً..

وفي عيوني حلم

تحتكر رأسي أفكار

وأفكار ...

وفي ثنيات ثوبي عطر

من بساتين قريتي (الحمزة)

وفي خاطري ذكريات

ورحتُ أزرع قلبي الغض

خلف شبابيك العمر

لتتسرّبُ قطرات العطف ..

وكلمات الرطب المعسّل كلّها

في قصيدة نثر إلى جميع القرّاء

هنا ....أو هناك

كـــ "تاريخ الأسى" .

**

5- أنا

انّني منزوٍ بصورة بصرية

وقد وقفتُ على مثل الحجر من ذكر المعاد

صلتي بالآخرين

بطريقة ترتيب الفصول

التي لم تستقم في ذهني

حتى بقيتُ أعيش في نزاهة

مثل عشبة

مندّاة بقطرات

من ورد الرازقيّ، والياسمين

**

6- نهر عويسيان

النهر الصغير

يتّسع...

يتّسع

يتّسع

وتبدأ الضفاف بالبوح:

-خالتي هناك

عمّتي هنا

وزنابيل الرز ..والزوري

وكل السمك يحدّق في الرز

حبّة.. حبّة

والنهر ظلّ مع العشب

آه.. آه... يا صيّاد السمك

"صيدلي بُنيّة"

الأغنيّة لن تنتهي...!

- غموض الأسلوب

أمر غير مسعف

لأنّه مقطوع عن السياق ...!-

**

7- نهر السراجي

تحرّكتْ قدماي

ولاح النهر أمامي

كطيف نامت

عنه جبال الرياح لاح أليفاً ..

طيّباً

كان سعيدا

تتّسع أرجاؤه

كلّما صبّتْ فيه الذكريات

روافد صافية

غنيّة .. ثرّة ...!

آه ..أيّها النهر الذي يحتضن السمك

ويثري النخيل ويروي حنايا الفقراء....!

**

8- مرة أخرى

قليلاً ..

قليلا

قليلا

عادت الفكرة

ولملمتْ أجزاءها

مرّتْ

على جفن الذكريات

وراحتْ

وعادتْ

إلى أصلها

لتعرف الحقيقة

ثمّ بألف رجاء ...!

على أسيجة الوقت

جنّحتْ روحها

في تسابيح

لتبلور

الجمال

والفن

والحنان على جفن القمر........!

**

9- همسة

في ليلة باردة

كان (ابن عبد العزيز)

يبحث عن دفء، بطريقة مغايرة قال لي:

(وهو يجلس قافية سمراء)

إنّي أرى لمحة من السماء

تشرق في الغرفة الأخرى

وأسمع همسة، من الأرض السابعة

وإطلالة من النجوم والقمر

على ماضٍ بعيد، قريب

وأرى مستقبلاً

يختفي وراء الف باب

وأشواقي تزحف ..

تركضُ في بهجة ....

قال لي ..

ثمّ لملم نفسه

وشظايا كلماته المتناثرة

وغادر

إلى روحه الثانية

ليصطبغ بالنور الصباحي البهيج ...!

**

10- تراتيل القرويّ

دائماً في حيرة

وفي إبهام شديد

وفي رغبة قويّة للبكاء

حتى النشيج

وبالتمرغ

على التراب

كنتُ وما أزال

حفنة من صلوات أبحر

لوحدي

على شرفات السماء

وروحي بصدر السور ترتّل كلمات الملك القدّوس بخشوع ..لا حدّ له ...1

(لا اله الا هو الحيّ القيوم

لا تأخذه سنة ولا نوم....)

سبحانك ربي

وتبقى شفاهي تصلّي

وقلبي يصلّي

***

حامد عبد الصمد

 

نحن محاطون

بدخان النفط السام

يخنقنا كالزوجة القاتلة

يسرج خيول الأمراض

التي تجثو على صدورنا

في الليالي الحالكة

تتوهج الشعلات قبالة

وجوهنا الكالحة

الأبتسامات تصلب

على جذوع النخل الظامي

الوطن متفحم

بالرصاص والدمار

يتساقط الجميع

كقطع الدومينو

*
والفرح مستباحٌ

بعتمة هذا التيه

حيث ينتشر الحقد

كالجراد الذي لايبقي ولا يذر

والفساد في ضمائر

الساسة كالطاعون

يحرقون الجنوب

بنيران النفط الملعون

ليملأوا جيوبهم

وجيوب عيال عيالهم

بفيض رميم عظامنا

المتحطمة بالمحن

ويخزي الأجيال

والمستقبل المفقود

ما ذنب الجنوبي

أن ينال قسوة النفط

هو سر ملح الأرض

وجنونه عسل التمر

تشرق الشمس

السخينة حرة من أضلاعه

والفرات البارد طروبًا كاللحن

حين يمر على أخماص النساء

الجنوبيونَ خُلِقوا من قوافي الحبَّ

ومن عطر الشموخ ومن بكاء اللوعة

لماذا سعير النفط للجنوب

بينما هم ملائكة الله على الارض.!

فمتى يسيرون مطمأنين

في وطنٍ بلا دخان

***


باقر طه الموسوي

 

مثل قصيدة تائهة في كف شاعر

يجرُّ معطف عمرهِ

ويمضي بين دُخان البنادقِ

يُضيء بأوجاعهِ سرير الأرضِ.

وتحت مظلةِ الرصَاص

يقتفِي زفراتهِ

حيث يصير الدم في غزة لغةً

والخوذةُ اللامعةُ قمرًا.

2

هذا الجندي المَنْسِي

أضْحى طيفًا ينزفُ..

مثلَ غيمٍ باهتٍ في صمت السماءْ.

وفي رُكنٍ بلا شرفات...

أُمٌّ تتراقصُ في عينيها فصول الخرابْ

تحلم بعودة نجمها من الغيابْ

تُوشْوشُ للغروب...

بصوت ينسجُ لحنَ الرحيل الأخير.

3

ويمضي الليلُ..

وتبقى الخوذُة بين الظلالْ

كأنها تبتسم للحصارْ

وصوتٌ خفي تحمله الرياح

"نم يا صغيري..

لعل في الحلم رغيف الحياة

فالليالي أغلقت أبواب النجاة".

***

نجاة الزباير

الأحد 20 يوليوز 2025

 

ما أقبحَ هذا الصمتَ،

الأسودَ،

كالقطرانِ المسكوبِ على لسانِ الحقيقة،

هذا الذي،

يغتسلُ بالبياناتِ الرسمية،

ويضعُ ربطةَ عُنقٍ، مصبوغة

في دمِ الأطفال...

*

ما أقبحَهُ،

حين يُقيمُ صلاةَ الحيادِ

في معابدِ العارِ المتأنّقِ

بكلماتٍ مطاطيّةٍ

تغلفُ النفاقَ بورقِ السّلُفان.

*

أيُّها الساترُ لِجُبْنِ العالم،

و الخنجرٌ المسنون في خاصرةِ الحقيقة،

المغرق للمعاني في قعرِ الخذلانِ

باسم الدبلوماسية ...

في غزّة،

يموتُ الهواءُ مختنقاً،

من فرطِ زفرات المجازر،

وتُطْعَنُ الشمسُ،

كلّ صباحٍ

ببلاغِات الأسفِ العميق...

*

في غزّة،

ينام الطفلُ على ظلِّه،

ويردد اسمَهُ على نفسه كي يُقْتَلَ به،

و يكتبُ على الترابِ "أنا حيّ"،

فتمحو الطائرات الكلمةَ

وتذرُّها رمادًا على أرواحِ العابرين.

*

ما أقبحَ هذا الصمت...المتمسح بالعار...

ما أصغرَه أمام جفنِ الشهيد،

فالأم لم تَعُدْ تَعرف

كم عددَ القُبَل المؤجَّلة

على جبينِ العريس العائدِ في الكفن.

*

فيا أيّها الستارُ المُخيفُ

على مسرحِ الجريمة،

متى تتعلّم

أن تكونَ شريفا؟

***

مجيدة محمدي

لا، لا الْتِفافْ

إمّا يُياسِرُ مِنْكُمُ الْجَمْعَ الْكَثيرَ

يُرَدّدُ الأورادَ مِمّا تَحْفَظونَ

وَلا يَعافْ

إمّا يَفِرُّ إلى المَحاني

مِنْ ملائكَةٍ يُشيعونَ الْخرابْ

قَدْ يَسْتريحُ عَلى الضّفافْ

طَيْفاً يُراعي ما يدبُّ وما يُزاحف

أوْ يَمْتَطي أهْداب ساحِرَةٍ تُوَزّعُ ما تكاثَفَ

في الضّبابْ

مِنْ نَبْضِ مَنْ وُلِدوا سُدىً بَيْنَ الثّقوبِ السّودِ

أوْ بَيْنَ المَداشِرِ

أوْ بالْجوارِ

بِغَزّةَ الْجوعِ الّتي

في مَوْتِها

كَمْ

تُسْتَباحْ

***

البشير النحلي

 

وأن وقفتي على قارعةِ طريقي

تترقبينَ وجهتي إليكِ

وتسألتي: متى أصلكِ؟

فقطْ،

ضعي أُذنيكِ على أرضكِ

وأسمعي تنهدات كمان قلبي..

دقاتُ النّبضِ حَتْمًا ستُخبركِ

كيفَ أعدُو بِالمسافاتِ مُسرعًا نحوكِ..

أشدُّ الخطوةُ إلى الخطوةِ وألصقُها طريقًا

لعلَّ الدُرُوبُ إليكِ تُوصلني!.

***

الأب يوسف جزراوي

أمريكا

وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ

وَكُثْبانُ الغِيَابِ

قد دَخَلناها نُعيدُ الذِّكرياتِ

قَد دَخَلناها ومِن بابِ الحَرائِقْ

حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ

فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ

وتَوَضَّأْنا حَصادَ الدَّمِ في كُلّ تَأَنٍّ

وتيَمَّمنا ضُحى قَبلَ الصَّلاةِ

كي نُداني تَرَفَ الرَّحْمَةِ مِن رَحْمِ الرَّمادِ

قَبْلَ أنْ يَرْتَطِمَ الضَّوءُ بِأَهْدابِ الصَّباحِ

وَيَفزّ المَيْتون.

**

دَوْرَةٌ أخرى سَتَأْتي

بِطَواحينِ المَكائِدْ

دَوْرَة اخرى

يُعادُ المَشْهَدُ المترع بالموتى

ومِن دُونَ ارتيابْ

دَوْرَة اخرى سَتَأْتي

بِمَرَايا الأقنِعةْ

فَنُعاني قَدرًا سُلطانهُ فَيضُ الصّليل

قَدرًا.. يُرْهَنُ ارضًا لِضَياعٍ أَبَدي

قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ

قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ

قَدرًا.. يَهرِبُ مِن بُرْجِ القِيامَةْ

حامِلًا أسماءَنا طَعنةُ عُريٍّ

لصَهيلِ الحَلباتِ

كي نُسَمّي كُلّ إيماءَة يَأْسٍ،

مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،

او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات.

**

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا هَبابًا

بَعثرتهُ الرّيحُ في فَوْضى مَكِيدَةْ

مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا ظِلالًا لأفولِ الأصدِقاءِ

نَنْقلُ القَوْلَ بِصَمْتٍ وَنُغَنّي بِضَميرِ الغَائِبينَ

فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ

خَلف مِيعادِ المَعادِ

**

كُلمّا رَفّ على البُعْدِ جَناحٌ

اسقَطتهُ الطائِرات

**

طارق الحلفي

 

"القصيدة التي تشرفت بإلقائها يوم أمس

في مهرجان الشعر الحسيني في مدينة الشطرة / العراق"

***

الـمـاءُ مـنـذُ مُـنِـعْـتَـهُ عـطـشـانُ ..

والـغَـيـمُ والأشـجـارُ والإنـسـانُ ..

*

والـبـاكـيـاتُ عـلـيـكَ قـبـلَ عـيـونـنـا

مُـقـلُ الـهـدى والـحـقُّ والإيــمــانُ

*

لَـطَـمَ الـفـراتُ ضـفـافَـهُ ونـخـيـلَـهُ

حُـزنـًا وشَـقَّـتْ زِيـقَـهـا الـغـدرانُ

*

يا ابـنَ الـذي لا سـيـفَ إلآ سـيـفُـهُ

وفـتـىً ولـيـسَ كـمِـثـلـهِ الـفـتـيـانُ

*

وابـنَ الـتـي تُـعـنـى إذا قـال امـرؤٌ :

خـيـرُ الــنـسـاءِ ولـلـتـقـى عـنـوانُ

*

وأخَ الـذي مـا سَـلَّ َ سـيـفَ عَـزيـمـةٍ

إلآ تَــســاقَـطَ حـولَــهُ الــفــرسـانُ

*

أرخَصـتَ نـبضَـكَ للحنيفِ فـأرخَصَتْ

لــكَ نـبـضـهـا وخـلـودَهـا الأزمـانُ

*

فـلأنـتَ مـن فـجـرِ الـشـهـادةِ شـمـسُها

ولأنــتَ مـن ثــغــرِ الـجـهـادِ لِــســانُ

*

ولأنـتَ مـن دِيـنِ الـصــراطِ إمـامُـهُ

ومـن الـعـطـاءِ الـقـلـبُ والــشــريـانُ

*

مـولايَ لـي عـذري فـبـعـضُ تـسـاؤلٍ

فـيـهِ الـجـوابُ إذا اشـتـكـى الـحَـيـرانُ

*

جـاز الـزُّبـى زبَـدُ الـخـنـوعِ فـصـبـحُـنـا

داجٍ ... وأمّــا لــيــلُـــنــــا فــهَــوانُ

*

صَــحـراؤنـا بـحـرٌ ... ولـكـنْ مــاؤُهُ

جَـمــرٌ ... وأمّـا مـوجُـهُ فــدُخــانُ

*

مـن أيـنَ يـأتـي بـالـسـفـيـنـةِ مُـنـقِـذًا

" نـوحٌ " ولـيـس بـأرضِـنـا بُـسـتـانُ؟

*

الأرضُ أبـعَـدُ ما تـكـونُ عـن المدى

وقـد اســتـبــدَّ بـمـوجِـهِ الـطـوفـانُ

*

زمَـنُ ولا كـالـجـاهـلـيَّـةِ .. قُـدِّسَـتْ

فـيـهِ الـعـروشُ وسُــيِّـسَ الـقـرآنُ

*

زمَـنٌ تـصـهـيـنَ فـيـهِ بـعـضُ أرومـتـي

وأُعِــيـدَتِ الأصــنــامُ والأوثــانُ

*

كـم مـن مـؤدٍّ لـلــصــلاةِ وصــائِــمٍ

جَـهــرًا ولـكــنْ رَبُّـهُ الـشـيــطــانُ

*

بـلـغـوا الــتـمـامَ مـن الـفـسـادِ كـأنـمـا

فـيـهـمِ عـلـى شَــرِّ الـخـطـى إدمـانُ

*

شَـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـدَ حُـزنُـهُ

وتـأبَّـدتْ فـي قــومِـهِ الأحــزانُ

*

مـولايَ أشـكـوهـم إلـيـكَ وأشـتـكـي

قـومـي ومـا قـد أضـمَـرَ الـجـيـرانُ

*

ثُـكِـلـتْ عـروبـةُ أمَّـتـي وتـأرمَـلـتْ

فـيـنـا الـسـيـوفُ ودُجِّــنَ الـشـجـعـانُ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُالـمُـسـتجيـرَ إذا اشـتـكى

ظُــلــمًــا وطـالَ بــلادَهُ الــعــدوانُ

*

والـيـومَ صِـرنـا نـسـتـجيـرُ ولا فـتـىً

لـو تـسـتـغـيـثُ " سًـعـادُ " أو " نـجـوانُ "

*

لَـيـكـادُ يـخـجَـلُ أمـسُـنـا مـن يـومِـنـا

وتــفــرُّ مـن أحــداقِــنــا الأجـفـانُ

*

لِـمَـنِ الـجـيـوشُ تـنـاسـلـتْ حـتـى لـقـدْ

ضـاقـتْ بـهـا الـثـكـنـاتُ والــمــيـدانُ ؟

*

يـقـتـاتُ مـن زادِ الـجـيـاعِ حَـديـدُهـا

وبها قـصـورُ الـسـارقـيـنَ تُــصـانُ ؟

*

لا " مازنٌ " مَـدَّتْ لِـ " غـزّـ ةَ " سـاعِـدًا

فـتُـغـيـثُ مـظـلـومــًا .. ولا " ذُبــيــانُ "

*

عـذرًا أبـا الأحــرارِ مـن جـزَعـي فـلا

" قـحـطـانُ " مُـنـصِـفــةٌ ولا " عـدنـانُ "

*

بـئـسَ الـمـصـيـرُ إذا يـسـيـرُ بـركـبـنـا

نـحـو الأمــانِ الـقـادةُ الــعــمــيــانُ

*

فـعـسـى حـفـيـدًا مـنـكِ يـأتـي فـي غـدٍ

بألـعـدلِ حـتـى يـسـتـوي الـمـيـزانُ

*

عـهـدًا أبـا الأحـرارِ تـبـقـى قــائِـمًـا

مـا قــامَ فــيــنــا لــلــصــلاةِ أذانُ

***

يحيى السماوي

28/7/2025

 

الى روح الراحل المناضل زياد الرحباني ..

كمْ أحسُّ بِحيفٍ لأنَّكَ فارقتَ مسرحَ هذي الحياةْ

رغمَ انَّ المماتَ يطوِّقُ مسرحَ هذي الحياةِ لكي يتسلى

*

طيورُ جحيمٍ مهلوسةٌ تقذفُ النارَ فوقَ الصغارِ وهمْ نائمونْ

وهنالكَ خيّالةٌ زائفونَ يجوبونَ ليلَ الجحيمِ وهمْ يبسمونْ

ويقولونَ : هذا الذي وعدَ الربُّ فيهِ : جنائنُ موتٍ وأحلى

وهنالكَ يحتفلُ الحاكمونْ

بينما يتمايلُ وغدٌ يغنِّي

وتأتي اليهِ ـ تهزُّ عجيزتَها ـ راقصهْ

والموائدُ مملؤةٌ

والمروءاتُ مِن حولِها ناقصهْ

ها طغى الهمُّ حتى تَوزَّعَ في قلَّةٍ نادرهْ

وهو همٌ عظيمٌ تنوءُ الجبالُ بِهِ والرواسي

تتحركُ مِن ضيمِها سائرهْ

فكيفَ سيحملُهُ قلبُ هذا الزيادْ

وهو هذا الجميلُ الشفيفُ

الشريفُ العفيفُ

أخي يا زيادْ

***

شعر: كريم الأسدي

الجُـــبْنُ يأنَفُ أنْ يَرى الأَعــرَابا

زعمــــــاءهُمْ وشعوبـــهم أَذْنَابا

*

ويَرى التخاذلَ لم يَزَلْ في ثَوبِهِمْ

عـــــــارًا يُــواري جِيـــفَةً وذُبابا

*

ويَرى الثعالبَ بالعمـائمِ واللحى

تُبْـدي خِطَـــــــابها للورى خَـلَّابا

*

وَهّيَ التي تُعطيكَ عَذْبَ لِسَانِها

وتَــــروغَ عَنْكَ..وتَصطَليكَ عَذَابا

*

ويَــــرى (مَنابِرَعَبْلَةٍ) مُكّتَــظَّةً

تلهـــــو وتعبثُ هَجّــسَةً وشَرَابا

*

وكأنَّ (عَبْلةَ) خَيـلهم وخيـالهمْ

مَنْ يَستَــحُقّ العَـــينَ والأهدابا

*

وكأنَّ مايَــجري أمـــامَ قلوبهمْ

في (غَـزةٍ) جُرحًا يَسِيلُ سَرَابا!

*

ويَرى (فَتَــاوَى المُجرمِينَ) بِحَقِّنا

وَاَقٍ لـِ(صَهْيَنَـــــــةَالأذى) حُجَّابا

*

ودَليلهــــا في كل حَرْبٍ تَرتَجي

مِنْ خَوْضِها للقــــــــاتلينَ ثَوَابا!

*

وتَشُٓــــنُّ مَـــــوتًا تَسْتَلِذُّ بِطَيْشِهِ

وتَمُـــــــدّهُ...كي لا يَــــكُفَّ رُهَابا

*

بَطْشًا..وفَتكًا...واجتِثاثَ عُرُوبَةٍ

إنّ الفَظَـــــــاعَةَ تَفضَحُ الإرهابا

*

ويَـــرى الضَّلالةَ في أَوَجِّ ضَلالِها

(أُمَـــمًا) أَحَــطُّ مكــانةً وخِطَابا

*

هي لـ(المُسيء) نوافِذٌ مفتوحةٌ

وسِيـــاحةُ اسْتِجمامِ حيثُ أطَابا

*

وعلى (البريء) نَواجِذٌ مسنونةٌ

وجَهَـــــامَةُ اسْتِهجَانِ أينما جَابا

*

ويَرى (العدالــةَ) تَسْتَخِفُّ بِعَدلِها

فيظلُّ أعمـــــى اللائحاتِ جَوَابا

*

الجُـــبْنُ فَضَّلَ أنْ يموت بَسَـــالةً

في (غَـزةٍ) مِنْ أنْ يعيــشَ غِيَابا

*

في حَضْرَة الأوباشِ يَشهَدُ مِثلهُمْ

عَبْرَ الفضاءِ (بَـــــــرَاءةً)...وذِئابا

*

و(مَجَــاعَةً) أَقـــدَامُها نَزَفَتْ دَمًا

وتَعَــــــثَّرَتْ.. وتَبَعْـــــثَرَتْ أَوْشَابا

*

قُتِلَ الذين تَرَهَّــــــلَوا..وتَجَاهَلوا

وتَحَــالَفوا ألَّا يَظَـــلُّوا (قِحَابا) !

*

بل (مَوْمِسَاتِ) يَقُدْنَ دونَ تَخَجُّلٍ

قِمَـــمًا بلاشَـــرَفٍ تَحِيـضُ لُعَـابا !

*

أولادُ مَنْ أنتُمْ؟ ومَنْ هـــو ياتُرى

شَــرْعًا(أبَـــاكُمْ) كي نَرَاهُ صَوَابا ؟!

*

هي أُمُّــــــكُمْ أدرى (بِـــهِ)..لَوْ أنَّهُ

كان (الوحيدَ) ولم يَكُنْ (أغرَابا) !!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

في عطلته الصيفية، تعوّد سلام أن يخصص الفترات الصباحية من كل يوم لتصفح الكتب في مكتبات العاصمة. كان يبدأ يومه بتأمل العناوين، ويتمعن في نبذ المؤلفين المعرفية والمهنية، ويولي أهمية خاصة لدور النشر والتوزيع، ثم يمر بعينه على جداول المحتويات قبل أن يغوص في ملخصات الأغلفة الخلفية.

في اليوم العاشر من برنامجه الاعتيادي، وبين رفوف مكتبة الصفاء، استوقفه مخطوط سياسي نادر بخط يد أمير سيكا نفسه. كان العنوان جذابًا، مثيرًا للتأمل: "بروتوكول الوفاء".

مارس سلام طقوسه المعتادة في تصفح الكتب، ثم توجه بسرعة إلى أمين الصندوق، دفع الثمن متلهفًا، وخرج مهرولًا كمن وجد مفتاحًا لغز طالما أرّقه. جلس في المقهى المجاور، متعطشًا لابتلاع مضامين هذا النص وتحليل شيفراته. همس لنفسه: "اللهم أعني على سبر أغوار رسائل الأمير".

تأمل العنوان من جديد، وتمتم بصوت خافت: "أنا دون شك أمام منجز تاريخي، يجسد حكمة أمير خَبِرَ فن السلطة ودهاليز النخب". ارتشف كوبين من القهوة، وأتم القراءة الأولى في أربع ساعات. ثم تمدد على الأريكة، ناظرًا نحو السقف المزدان بثريا فاخرة صُقلت بأنامل حرفيي الإمارة. ابتسم في رضا، وأفكاره تداهمه بلا استئذان، وهمس: "هذا النص أضاء لغزًا غامضًا لازم مساري المعرفي منذ شبابي... دون أن أجد له جوابًا مقنعًا".

في الصفحة الستين، قرأ: "الأمير لا ينحني احتراما ووفاء إلا لعلم الإمارة...".الصفحة السبعون: "علم الإمارة يُجسد قداسة التراب وسيادة الأمة...". الصفحة الثمانون: "تحية العلم عند أمراء سيكا تظل من أرقى الطقوس. الانحناءة تتم بأرفع لباس رسمي، يتزين فيه الأمير بأوسمة وطنية ودولية شاهدة على السيادة والمكانة. حتى حذاؤه المصقول بعناية، وعطره الراقي، يحملان رمزية تربط السلطة بالمعرفة والفن والجمال".

الصفحة الخامسة والثمانون: "يعبر الأمير عن حرصه الدائم على تجديد السيادة الوطنية في استقباله لقادة الدول الكبرى. وقفته منتصبة، خطواته محسوبة، نظرته مباشرة، وابتسامته خفيفة ومهيبة، ومصافحته حازمة تنطق بالوقار".

الصفحة التسعون: "الأمير لا ينحني إلا للعلم الوطني والمصحف الكريم. سلوكياته رمزية سيادية بامتياز. فهو رمز للأمة، حامي ثوابتها، مجسد لهويتها ودينها ووحدتها".

الصفحة المئة: "استقبال الأمير للمسؤولين ليس مجرّد بروتوكول، بل طقس ذو دلالة سياسية وثقافية. انحناءة الشرف، المصحوبة أحيانًا بتقبيل اليد أو الكتف، ليست خضوعًا، بل احترام للتراتبية الدستورية، وتعبير عن الانضباط المؤسساتي في حضرة السيادة العليا".

الصفحة 105: "إن مدلول التراتبية في الاستقبالات هو دعوة للمسؤولين للانضباط في أدائهم السياسي. كل حركة، كل نبرة، كل إيماءة يجب أن تعكس الوعي بهيبة الدولة وحدود الدور التنفيذي داخلها".

في الخاتمة، كتب الأمير: "أنا هكذا... أميركم... مسخّر لخدمتكم، غيور على مصالحكم، أنفتكم أنفتي، وسيادة وطننا أمانة في أعناقنا. حين ينحني المسؤول أمامي، فهو لا ينحني لشخصي، بل للرموز التي توحدنا. إنه انحناء سلوكي للشرعية، مرآة لما يجب أن يكون عليه رجل الدولة: منضبطًا، وفيًّا، خاضعًا للأدب المؤسسي لا للأهواء".

أغلق سلام الكتاب ببطء، كأنما أنهى صلاة صامتة. نظر إلى انعكاسه في زجاج المقهى، وعدّل هندامه. نهض واقفًا، ابتسم ابتسامة خفيفة، وهمس لنفسه: "الآن فقط... فهمت". ***

الحسين بوخرطة

 

لم تكن الزيارة إلى مدينة بورغاس البلغارية مجرد رحلة عابرة، بل كانت انعطافة خفية في درب الغربة. كانت ممتنّة بصدقٍ لزميلتها البلغارية ميرا حين لبّت دعوتها، تلك الزميلة التي جمعتها بها علاقة احترام دافئ منذ الأيام الأولى في المجمع الطلابي بالأكاديمية. كانت صداقتهما أشبه بمرآة صافية، تعكس ودًّا وحنينًا صامتًا بين غريبتين عن أوطان مختلفة، تجمعهما اللغة، وتفرّقهما الذاكرة.

لطالما تبادلتا الزيارات البسيطة وأطباقًا من مطبخَيهما الشعبي، كأنّهما تداويان غربتهما بالمذاق والرائحة، وتتعلّمان من بعضهما بعضًا مفردات الاندماج. كانت زميلتها تتحدث دوماً عن بورغاس ـ تلك المدينة الساحلية التي يحتضنها البحر الأسود وتفتن زائريها بمينائها العريق وشواطئها الممتدة، وتتناثر في شوارعها مبانٍ قديمة وحديثة كأنها تحاور الزمن بلغتين.

وحين لاحظت الزميلة ذلك البريق المشتعل في عينيها، ذاك البريق الذي يُولد حين يتقاطع الحنين مع الحلم، أصرّت أن تستضيفها مع صغيرها خلال عطلة نهاية الأسبوع. لبّت الدعوة، وفي قلبها امتنان حقيقي لتلك البادرة.

بلغت سنتها الثانية في اكاديمية صوفيا، ترافقها مسؤولية جسيمة في هيئة طفل لا يزال في سنّه الطري، بالكاد بلغ الثالثة. كانت تقاوم مشقة الغربة وضيق ذات اليد بمنحة دراسية بالكاد تسد رمق الحاجة، ومع ذلك ضلت تحاول أن تبقى شامخة، مرفوعة الرأس، تكتب كل يوم فصلاً جديدًا من كرامتها.

لكن في زحمة الجمال الذي أحاط بها في بورغاس، وبين دفء الاستقبال وكرم الضيافة، شعرت فجأة بأنها أصغر من اللحظة، كأنها لا تملك ما يوازي هذا الكرم لتردّه. راودها شعورٌ ثقيل، خانق، بأنها عاجزة عن أن تكون بالمثل، بأنها لا تستطيع دعوة زميلتها إلى ما يوازيه من مكان أو ظرف، فهي غريبة، مقيمة على حافة الضرورة، وحيدة إلا من طفلها، ومالها الشحيح، كظلّ في آخر النهار.

تضاربت المشاعر في أعماقها: بين امتنان نقيّ وبهجة خجولة، وبين إحساس داخلي ينهشها بالصمت... شعور بأن الكرم، حين لا يمكن رده، يتحوّل أحيانًا إلى عبءٍ ثقيل مرهق. كأنها في مأزق لا يُقال، وموقف لا يُفهم إلا بقلبٍ يعرف معنى العجز المؤدّب.

رغم هدوء الليل ودفء الغرفة وطمأنينة الصغير المستسلم لنوم عميق كأنما يحلم بشيء من أمانٍ مؤقت، كانت عيناها مفتوحتين على وسعهما، تسهران على صمتٍ ثقيل لا يقطعه سوى صوت أنفاسه الهادئة. كانت ممتنّة، نعم، شكرت زميلتها مرارًا على حسن الضيافة ودفء الاستقبال، لكن قلبها كان منشغلاً برغبةٍ ملحّة في الرحيل، وكأن البقاء ـ رغم الجمال ـ بات أثقل من طاقتها.

اقتربت من ميرا، تلك البلغارية التي منحتها سخاء ما لا يُقابل، وقالت بصوت خافت يحترم الليل:

ــ سأغادر حالما يستفيق صغيري… أنوي العودة إلى صوفيا اليوم.

رفعت ميرا حاجبيها بدهشة طفيفة، وقد أدركت أن لا قطار يغادر المدينة في مثل هذا الوقت:

ــ ولكن… أقرب الرحلات صباح الغد!

ابتسمت ابتسامة شكرٍ خجولة وأجابت:

ــ لا بأس، سننتظر في المحطة حتى بزوغ الصبح.

قالت ميرا، بصوت ممتلئ بالقلق الصادق:

ــ ولكن المحطة باردة في الليل، لا تصلح لطفل صغير!

أجابت بنفس ذلك الهدوء الذي يخفي اضطرابًا داخليًا لا يُقال:

ــ لا عليكِ… فقط أرجوكِ، إن أمكن، أن توصليني إلى هناك، وسأتدبر أمري.

أدركت ميرا أن لا جدوى من الإصرار، فرافقتها إلى المحطة، وهناك تركتها ومضت، تلوّح لها بنظرة مشوبة بالعجز.

كان الوقت يقترب من العاشرة مساءً، حين قطعت تذكرة العودة، وهي تمسك بكفّ صغيرها الدافئ، تستمد منه شيئًا من الطمأنينة في هذا الليل الغريب. تلفّتت حولها، تبحث بعيني من تعوّدت أن تتدبر أمرها بنفسها، رغم قلة الحيلة وضيق الإمكانيات. لم يكن في نيتها الانتظار على مقعد بارد يلسع عظام صغيرها قبل أن يلسعها، فقررت أن تمضي في درب آخر أكثر رحمة.

هناك، على مقربة من المحطة، لمحت لافتة مضيئة لفندق صغير. توقفت لحظة، تأملت اللافتة كما لو كانت تشير إليها وحدها. لم يكن القرار سهلاً؛ كانت المنحة بالكاد تكفي، وكانت كل ليلة مضافة في مكانٍ مأجورٍ تعني تنازلاً عن شيء آخر لاحقاً. لكنها، في تلك اللحظة، اختارت كرامتها وصغيرها، اختارت ألا تجعله يقاسي بردًا ولا قلقًا.

استجمعت قواها، رفعت رأسها كمن يدخل معركة داخلية بشجاعة هادئة، وعزمت أن تدلف باب ذلك الفندق الصغير، لتحجز غرفة ـ ليلة واحدة فقط ـ تكفيها لعبور هذا الليل الثقيل بسلام.

كانت تعرف أن الغربة ليست في المكان وحده، بل في أن تضطر، كل مرة، لاختيار الأمان على حساب الراحة، والكرامة على حساب الراحة النفسية. لكنها ـ رغم كل شيء ـ سارت بخطى واثقة، ووجهها يفيض بتصميم خافت، ونفسها تهمس لها: "كل هذا سيمضي... المهم ان لا أنكسر."

كانت تعلم أن زميلتها لا تنتظر مقابلًا، ولكنها ـ وهي ابنة الكبرياء ـ كانت تشعر بأن الكرم الذي لا يُردّ، يبقى دينًا معلقًا في أعماق النفس، يطرق وجدانها كلما ابتسمت ابتسامة شكرٍ صامتة، وكلما عاد طفلها إلى حضنها فرحًا بما رآه.

كان الرواق المؤدي إلى غرفتها يضجّ بالحياة الصاخبة من نوعٍ لا يشبه الحياة التي تعرفها. ضحكات عالية، أصوات متشابكة بلكنة البحر، ورائحة الشراب النافذة كأنها بخار فاسد يتصاعد من قاع الأرصفة. رجال بأجساد متعبة ووجوه سمراء، تحملهم أمواج البحر إلى هذا الفندق المتواضع كما تحمل النوارس تعبها إلى اليابسة.

رغم ما سمعته ورأته، لم تتراجع. لم تكن تملك رفاهية الاختيار، وحين أخبرها موظف الاستقبال أن سعر الغرفة يناسب ما في حوزتها، دفعت فورًا دون تردد، كما لو أنها تشتري بقية كرامتها من ضجيج العالم. حين أغلقت باب الغرفة خلفها، شعرت وكأنها أغلقت على نفسها زمنًا آخر، زمنًا تخلّت فيه عن الخوف وارتدت ثوب السكينة.

تنفّست بعمق، وهي تهيّئ السرير الوحيد في الغرفة، فردت الغطاء كما لو أنها تنسج لطفلها عالماً من الطمأنينة فوق سريرٍ عابر. وضعته برفقٍ بين ذراعي الليل، ثم استلقت إلى جانبه، تضمّه إليها كأنها تخلق من حضنها جدارًا ضد كل شرور العالم. أطفأت النور، وأغلقت عينيها، علّ النوم ينقذها من ارتباك اللحظة.

لكن الليل، في هذا المكان، لم يكن هادئًا. الأصوات تصاعدت، أكثر حدّة، أكثر عنفًا. طرقٌ على الجدران، صياح، شتائم، صراع مخمور. نهض صغيرها من نومه مذعورًا، باكيًا، وكانت دموعه تنزلق على خدّه كما تنزلق هي في داخلها نحو هاوية القلق.

جلست تمسك به، تغنّي له بصوتٍ خفيض مرتجف، كأنها تحاول أن تطمس بهذا اللحن البسيط جلبة الخارج كله. لكن الطرق تزايد، ارتفع الصوت خلف الجدار، وكأن جدران الغرفة بدأت تتنفس توترها. نهضت بتوجّس، مشَت نحو الباب بخطى محسوبة، تأكدت من أنه مغلق بإحكام. وضعت يدها عليه برفقٍ، كأنها تحرس عالمًا هشًا خلفه.

عادت إلى السرير، وضعت رأس طفلها على صدرها، وبدأت تتمتم له بكلمات لا تعني سوى شيء واحد: "أنا هنا… لن يحدث شيء، ما دمت أتنفس."

وفي داخلها كانت العاصفة: لو حاول أحدهم دفع الباب، ماذا ستفعل؟ لا سلاح، لا معين، لا صوت ينادي… وحدها هي. تمنّت في تلك اللحظة لو أنها بقيت في برد المحطة، فهناك، على قسوتها، لم تكن الخشية من بشرٍ أثقل من صقيع المكان.

ثم، وبعد ساعة ثقيلة ومفزعة، خفتت الاصوات. كما لو أن أحدًا أطفأ الليل بيده. خيّم الهدوء على الرواق، توقف العراك الا من أصوات بدت كأنها عادية وكأن كل ما حولها كان اختبارًا مدبّرًا لعزيمتها.

ثوانٍ من ترقّبٍ ثقيلٍ مضى، ثم وقعَت طرقات خفيفة، هادئة، على باب غرفتها. تجمّدت. حضنت صغيرها أكثر، وقلبها يطرق هو الآخر من الداخل. لم تتحرك. عاد الطرق، مرةً أخرى… ناعمًا… كأنه ليس تهديدًا بل رجاءً.

اقتربت، بثبات من يواجه مصيره، وسألت دون أن تفتح:

ــ من؟

جاءها الردّ بصوت نسائي مرتجف:

ــ أنا… أعمل هنا… سمعت طفلك يبكي… هل تحتاجين شيئًا؟

لحظة صمت، ثم همست من خلف الباب:

ــ لا… نحن بخير.

وتحت ضوء المصباح المعلق قرب السرير، عادت إلى طفلها، ودمعة ساخنة انزلقت من عينيها، لم تكن دمعة خوف، بل دمعة امتلأت بكل ما لم تستطع أن تقوله منذ بدأت هذه الرحلة.

احتضنته بقوة، وتمتمت له:

ــ نحن بخير… حتى لو لم يكن هناك من يشهد… نحن بخير، لأننا اخترنا ألا نخاف وسنعود الى صوفيا.

وفي اول ساعات اليوم التالي، حين غادر القطار محطة بورغاس، كانت تجلس قرب النافذة، تحمل طفلها النائم في حجرها، ووجهها ساكن كبركة ماء بعد عاصفة… لم تنم تلك الليلة، لكنها خرجت منها بشيءٍ لا يُشترى ولا يُعلّق: صوتها الداخلي، وقد صار أقوى من كل ما يمكن أن يحدث خلف باب مغلق.

***

سعاد الراعي

2025.07.29

 

لطالما ردَد نشيد الولاء،

ومات مشرداً،

لم يجد ظلاً يؤويه.

2.

أرفق مع الطلب صورة ابنه الشهيد،

قالوا له:

اكتب الطلب مرةً أخرى،

وبخطٍّ أوضح.

فكتبه بالدم،

فرُفِضَ،

وقالوا: "الحبر غير رسمي."

3.

عند بابٍ نخرته السنين،

رسم طفل على التراب

سورًا، وبابًا، وحديقة.

ثم سأل أمه:

"هل سنسكن هذا البيت يومًا؟"

4.

في طابور الخبز،

يقرأ منشوراً على الجدار:

نُطعم الوطن، ونبني الغد.

ينظر إلى يده الفارغة،

ويهمس:

"نسيتُ أن أحمل وطني معي.

5.

سأل مَن خلفهُ في الطابور:

هل سيرانا أحد؟

ردَ عليه هامساً:

" لكنك.. لم تصفق يوماً. "

6.

على رصيف ظهيرة موحشة،

تمتم الأب في لنفسه:

"هل يُطعم الوطنُ ابنه،

أم هو من يُطعم الوطن؟"

7.

امرأة تكنس أرضًا غمرتها الذكريات،

يوقفها المذياع للحظة،

بوعدٍ جديد،

ثم تتابع الكنس،

كأنها تودّع وهماً

خُدعت به طويلاً.

8.

ليبقى الوطن شامخاً،

مزّق الرصاص صدره،

وسال دمه على التراب،

لكن اسمه اُسقط

من سطور التاريخ."

***

مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

قصائر (12)

لم أبكِ قطّ على المَوتىٰ

لكنّ عنادَ عينيَّ امَّحىٰ

علىٰ مَيّتٍ.. لا يُدفَنْ

اسمُهُ العِراق

**

2

النَخلَةُ والنَهر

وتَراتيلَ البَلابل

أبقَياني أسيراً

لمّا أقَمتُ طليقاً

في بلادٍ

لا نخلَ فيها..

ولا بلابل

**

3

أنتَ كالخشَبةِ في البَحر

لا ريحَ تُلقيكَ علىٰ الشاطئ

إبحثْ لنفسِكَ عن نَجاة

أو ابدأ كفَرخٍ صَغير

بلا جَناح

**

4

فلتَعترِفْ

أيّامُك كحَبلٍ عَتيق

سيَنقَطِع

إنْ علّقتَ آمالَكَ الكُبرىٰ..

معَك

**

5

أطفأتُ شَمعَتي

لستُ أخدَعُ الليلَ

أرغَبُ أن ألمَسَ الأشياءَ

في الظَلام..

فلا أفقدَ الشُعور

**

6

لستَ اقربَ الى اللهِ .. منّي

كلّ ما في الأمر

لا نسلكُ الطَريقَ ذاتَها..

الى الخاتِمة

**

7

إثنانِ أخشاهُما كثيراً

أنا..

كلّما أعمَلتُ فِكري

وقُدومَ الليل

فأبحَثُ كالمَشلول

عن الرُقاد

**

8

بالأمسِ

عَبَثَتْ بعَقلي حكاياتٌ بالية

عَرَفتُ فيما بَعد

أنّ خَوفي البَليد

صَدّقَها

**

9

مُشاة..

الجَميعُ مُشاة

تلفظُهُم الأمكنة

تتَسارعُ الخُطى

لا يتبقّى سوىٰ آثار

لن يُبالي بها أحد

**

10

تحتَ وطأَة السِنين

تَجفّ المَعاني، تذبَل

وحدَها الدُموع

تعاندُ الزَمَن..

فلا تَخيب

**

11

في رُكودِ البَحر

نظَرَ الى الأفُقِ الأغبَش

لم يَعبأ بما هناك

أسقطَ عامَهُ السَبعين منذُ حين

كصَخرةِ الشاطئ

جلسَ بهدوء

يُبذّرُ الوَقت

**

12

في عالمي

جفّتْ جَميعُ واحاتِ النَشوَة

أبحَثُ عن عالمٍ آخر

لا يبدَأُ فيهِ مثلي

من الصِفر

**

13

اللصُّ في بلَدي..

مُوقّر

تَعلو جبهتَهُ سِمةٌ سَوداء

ليكونَ مايسرقُهُ

من عرَقِ الإيمان

**

14

كطائرٍ غاضَ من تَحتهِ النَهر

أحلّقُ عالياً

أبحثُ عن بُقعةٍ داكِنة

لا يُحيطُها سَراب

لأنحَدِر

**

15

يسخُرُ القدَرُ منّي .. ومنكِ

ولمّا لم يجَد ما يقتُلُ الشَوق

جّعلَ الصَمتَ..

وسيلَتي إليكِ

**

16

صَخرةُ الشاطئ

تلكَ التي آوَتنا نرقبُ استِحمامَ الشَمس

لا تعرف إنّا افترقنا

جعلتُ منها مزاراً..

لأدمُعي

***

عادل الحنظل

ابتلع القمرَ بين شفتيه

وصارَ بطنهُ سماءً مضيئةً

ضحكٌ يخرجُ من عمق الليل

قهقهاتٌ تنثر النجومَ على الأرضِ

*

نامَ عشرين ساعةً

سقطَ في سُباتٍ كأنّ الأرضَ تلتهمهُ تحت الحرب

لكنه صحا

يحملُ في ضحكته سرّ الضوءِ

كأنه قمرٌ صغيرٌ يُعيدُ بناء السماء

*

المدينة تحفرُ تحت أقدامها

تبحثُ عن شظايا ضحكته

تتنفسُ غبارَ الألمِ والعظامِ

لكنَّ القمرَ صارَ في قلبِ الطفلِ وحده

*

هو الضاحكُ القمريُّ

يحملُ نوراً لا يُرى بالعين

ضحكتهُ سلاحٌ وسط الخراب

وصمتهُ أغنيةُ نجاةٍ لا تنتهي

في بطنه

ينمو أملٌ من رحمِ العبث

يرقصُ بين الدمار

ويزرعُ الحياة في قلب الليل

***

بولص آدم

26.07.2025

 

لم أعد أثقُ بمذيع الأخبار

خدعني بإعلانه أنّ ديناصورات الحرب تتبرّجُ وتتعطّر

لحضور حفلة رقص

فرزمتُ أضلاعي في الحقيبة

وزممتُ فمي

مخافة أنْ أفقدَ ما أبقتهُ لي سنواتُ أكلِ الحصى

من الأسنان

**

ما إنْ تنبّهتُ أني ما زلتُ حيّاً

حتى أسرعتُ أعُدُّ أصابعي

ألحمدُ لله، لم تنقُصْ

ثوبي ما زال يستُرني

ولحافي لم يتحوّل إلى غربال

إذن لم تنشبِ الحرب

وديناصوراتها مذ بلغت سنّ اليأس لم تُنجب صغاراً

لكنّ القذائفُ التي لم تسقط بعد

ما زالت معلّقةُ بالسماء

وأية ابتسامة عابثة ستُسقِطها على الرؤوس

سأعودُ إلى النوم

فهدفُ كلّ الحروب ليس النصر

بل حرمان الناس من النوم

**

لم أعد أثق بمذيع الأخبار

ولا بقناة CNN المُصنّعةِ للمُعجّنات

لقد كذبوا بإعلانهم أن الحرب قادمة

بينما كانت تتشمّسُ عارية على الشواطيء

كما أنهم أساءوا إلى الأحفوريات

عندما اتهموا الديناصورات بأكل اللحم

بينما هي ملتزمة بحِمية مشددة لتخفيف الوزن

أيها الإعلاميون:

إنّ الحربَ لا تندلع من عيادات زرع الشَعَر للصُلعان

بل من استوديوهات الأخبار

أما ديناصوراتها فليست البوارج ولا الطائرات

بل الذين يتّخذون من المذياع

سبطانة لقذائف من العجين

***

ليث الصندوق

مُنْذُ رَأَيْتِ شُمُوعًا

تَذْرِفُ فِي اَلْفَجْرِ دُمُوعًا

رِحْتِ تُصَلِّينَ لِفَجْرِ اَلْكَلِمَاتْ

دَاعِيَةً

أَنْ لَا يَأْتِي ثَانِيَةً

مُكْتَظًّا بِالْحَسَرَاتْ

حِينَ يُفَجِّرُ حُزْنُ اَلْعُمْرِ

بِعَيْنَيْكِ اَلْعَبَرَاتْ

**

صَارَتْ أَيَّامُكِ تَخْشَى أَيَّامِي

وَشُهُورُكِ بَاتَتْ

تَخْشَى أَعْوَامِي

وَمَلَايِينُ اَللَّحَظَاتْ

مَا زَالَتْ

تَرْكُضُ كُلَّ اَلْأَوْقَاتْ

بَيْنَ سِنِينٍ وُئِدَتْ

وَسِنِينٍ وُلِدَتْ

وَسِنِينٍ لَا يَعْنِيهَا

مَا نَشْهَدُهُ أَوْ مَا شَهِدَتْ

**

تَخْتَلِطُ اَلْأَيَّامُ مَعَ اَلسَّنَوَاتْ

سَكْرَى تَتَرَنَّحُ بَيْنَ اَلْخُطُوَاتْ

لَا تَحْسَبُ لِلنَّوْمِ حِسَابًا

وَأَنَا أَسْأَلُ مُرْتَابًا

مَا جَدْوَى اَلْأَحْلَامْ

إنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ إِلَّا اَلتَّأْجِيلْ؟

هَلْ تَبَقَى طُولَ اَلْعُمْرِ مُؤَجَّلَةً

نَتَوَارَثُهَا جِيلاً يَتْبَعُهُ جِيلْ

هَلْ تَبَقَى تَأتِي مُبْطِئَةً

وَتُغَادِرُ مُسْرِعَةً

وَالدَّرْبُ طَوِيلٌ

وَالْعِبْءُ ثَقِيلْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

أبحرتُ في وَجَعِ المَدَى

وغَفَوْتُ فَي ظِلِّ الضّيَاءِ كَأنّنِي

طِفلٌ يُلامِسُ بِالرَّجَاءِ الأبْحُرَا

*

ومَضَى الحنينُ على الدّرُوبِ يُسَائِلُ

قدْ كنتُ أحفِرُ في الغُيوبِ مَلامحِي

وأخبِّئُ الأشواقَ، كي لا تُؤسَرَا

*

عيناهُ أقمارٌ تُطِلُّ عَلى الدُّجَى

والنّارُ تَعرفُ صَبرهُ

فتَجمَّدَتْ حينَ الفؤادُ تَكَسَّرَا

*

طفلٌ يُدارِي جُوعَهُ

والأمّ ترسمُ في الخيالِ وليمةً

والهَيْمُ يَجْرِي في الوَرِيدِ مُجَمّرَا

*

يبكونَ من لهَبِ الجفافِ

وحولهم ناحَ الغمامُ

كأنّهُ ما أمْطَرَا

*

في كلّ صحراءٍ نجومٌ أُطفِئَتْ

خَفَتَتْ عَلى قَلقٍ

ضَوْءٌ يتيمٌ فِي المَدَى قدْ أزْهَرَا

*

نَامُوا عَلَى حَجَرٍ تَكلّسَ فِي الرُّؤَى

يَتكوّرُ الجُوعُ القَديمُ بجُرْحِهِ

ويَلوحُ كالمُدِنِ البعيدةِ مُقْفِرَا

*

ذَبُلَتْ عَلى صَدْرِ المَجَاعَةِ وَرْدَةٌ

قال: الرّغيفُ إذا أتَى مِنْ عاشِقٍ

صارَ القصيدَ، وصارَ مِنّي أسْطُرَا

*

الفَارِسُ العربيُّ

يَرْنُو مِنْ بَعيدٍ حائرًا

والصّمتُ يَرْفَعُ صوتهُ مُتفجّرَا

*

كمْ شمعةٍ ذابتْ سُدًى

والرِّيحُ تَلفحُ جِيدَهَا

والأرْضُ مَلْحَمَةٌ تَتُوقُ تَحَرُّرَا

*

القلبُ يَعْصِرُ غيمةً يا غزّةُ

تَسْرِي لحُضْنِكِ فَي الغِيابِ

فتَسُوقُنِي الأحْداقُ حُلمًا مُزهرَا

***

الشاعر: أنور بن حسين / تونس

جويلية 2025

 

الماء أجاج

الشجر عقيم

الدروب تعوسج فيها الخطو

والمسافات نام على ضجيجها الفقدان

ابتلعتها ريح ندم الأزمنة

كان يداعب بعضا من حلم عتيق

يجرجره تيه الممرات الراعفة

يصفعه ذهول مقيت

فيرى على ناصية الخيبة

عري حيرة المحطات ووجع بوح المشاوير

ولا عزاء...

ما زال يهمس ببطء في أذن الوجع

يشاغل عصاه التي تتوكّأ عليها الشيخوخة مكرهة

يتلفّت عند عين الضياع علّه يجدهم

هم كثيرون في سعة الموائد

قليلون جدا عند شراسة الوقت

قليلون جدا حدّ أنه لا يراهم في نزف تململ عكازه البليد..

يحادث الزمن الساكت

يحكي وجعه المزمن للجدران

يتمدّد على وجيب آهاته

حد احتراق الأنين

يغفو على جمر قارعة الألم

والألم لا يشيخ

***

نص: شلال عنوز

النجف ١٩- ٧- ٢٠٢٥

 

أَلَا يَــا لَائِـمِـي فِــي الْـحُبِّ رِفْـقًا

فَـكَمْ مِـنْ فَـارِسٍ قَدْ مَاتَ عِشْقًا

*

وَكَـمْ مِـنْ هَـائِمٍ فِـي حُـبِّ لَيْلَى

فَـكَيْفَ بِـحَالِ مَـنْ يَـهْوَى دِمَشْقَا

*

هَـوَاهَا فِـي سَـوَادِ الْـعَيْنِ رَسْـمٌ

سَـيُـخْـبِـرُهَا إِذَا أَعْـيَـيْـتُ نُـطْـقًـا

*

إِذَا أَبْـصَـرْتُ وَجْـهَـكِ مِــنْ بَـعِـيدٍ،

رَأَيْــتُ الْـكَوْنَ فِـي عَـيْنَيْكِ أَرْقَـى

*

أَنَـا الْـوَلْهَانُ، فِـي عِـشْقٍ وَقَلْبِي

إِذَا ذُكِـــرَ الْـحَـبِـيبُ يَـزِيـدُ خَـفَـقَا

*

وَلَــوْ خُـيِّـرْتُ فِــي مَـوْتِـي بِـيَـوْمٍ

عَـلَى رِمْـشِ الْـعُيُونِ أَمُوتُ شَنْقَا

*

أَرَاكِ بِـعَـيْـنِ قَـلْـبِي حِـيـنَ أَغْـفُـو

وَأَمَّــــا إِنْ صَــحَــوْتُ أَرَاكِ حَــقَّــا

*

عَـلَى خَـدَّيْكِ زَهْـرُ الـرَّوْضِ يَـزْهُو

وَفِـي شَـفَتَيْكِ شَـهْدٌ فَـاضَ دَفْقَا

*

أرَى بَــوْحَ الـنَّـسِيمِ لَـهَـا يُـنَاغِي

عَـلَـى الْـخَـدَّيْنِ طَـلُّ الـصُّبْحِ رَقَّـا

*

فَـفِـيكِ الــرُّوحُ تَـسْـمُو لِـلْمَعَالِي

إِلَــى حَــدِّ الـسَّـمَاءِ تَـكَادُ تَـرْقَى

*

أَيَـــا نَــفْـحَ الـرَّبِـيعِ يَـضُـوعُ طِـيـبًا

فَـتَـنْـشَقُ عِـطْـرَهُ الْأَرواحُ نَـشْـقَا

*

وَيَـسْـكَرُ مَــنْ يَــرَى يَـوْمًـا رُبَـاهَا

بِــــلَا خَــمْــرٍ وَلَا يَــحْـتَـاجُ زِقَّــــا

*

أَيَــا بَــرَدَى وَفِــي قَـلْـبِي حَـنِينٌ

يَــكَـادُ يُــحَـرِّقُ الْأَحْــشَـاءَ حَـرْقًـا

*

دِمَشْقُ هَوَاكِ فِي الشِّرْيَانِ نَبْضٌ

وَمَــنْ يَـهْـوَاكِ يَـعْـرِفْ ذَاكَ صِـدْقَا

*

دِمَـشْـقُ وَفِـيـكِ لِــلْأَرْوَاحِ سِـحْـرٌ

أَرَى الْـعُشَّاقَ فِـي عَيْنَيْكِ غَرْقَى

*

رُبَــــاكِ تُــعَـانِـقُ الْــجَـوْزَاءَ تِـيـهًـا

فَـتَـضْرِبُ حَـوْلَـهَا الـنَّجْمَاتُ طَـوْقَا

*

فَـهَلْ لِـلْعَاشِقِ الْمَجْرُوحِ سُكْنَى

سِـوَى قَـلْبٍ عَـلَى كَفَّيْكِ يُلْقَى؟

*

وَفِــي نَـجْوَى الْـمَآذِنِ بَـوْحُ صَـبٍّ

سَــتُــدْرِكُـهُ، إِذَا الــنَّـاقُـوسُ دَقَّ

*

دِمَـشْقُ، وَفِـيكِ لِـلْمَعْنَى طَـرِيقٌ

إِذَا كُـــلُّ الـــدُّرُوبِ تَـصِـيرُ زَلْـقَـى

*

تَـلِـينُ الــرُّوحُ مِــنْ طِـيبِ الـتَّكَايَا

وَمِـنْ زَيْـتِ الـسِّرَاجِ تَـصِيرُ أَنْـقَى

*

هَـــوَى الْأَوْطَـــانِ تَــيَّـارٌ شَــدِيـدٌ

وَيُـصْـعَقُ نَـبْـضُهُ الْـعُشَّاقَ صَـعْقًا

*

فَــهَـلْ بَــعْـدَ الْــهَـوَى إِلَّا افْـتِـتَانٌ

مَـتَى ألْـقَى لِـهَذَا الْـعِشْقِ عِتْقًا

*

وَكَـمْ هَـبَّتْ عَـلَى الـشُّهَدَاءِ رِيـحٌ

تُـقَـبِّـلُ جُـرْحَـهُـمْ صَــبًـا وَشَـوْقَـا

*

دِمَـشْـقُ، وَسَـيْـفُكِ الْـفُولَاذُ رَمْـزٌ

لِأَنَّـــكِ مَـــا رَضِـيـتِ الـدَّهْـرَ رِقًّــا

*

كَــرَرْتِ عَـلَى الـطُّغَاةِ بِـكُلِّ حَـزْمٍ

فَـمَـا لِـلـظُّلْمِ فِــي دُنْـيَـاكِ حَـقًّـا

*

فـفِي نَـقْشِ الْـعُصُورِ لَـهَا سُطُورٌ

لِــذَا فِـيـهَا الْـبَـيَانُ يَـفِيضُ عُـمْقَا

*

هُـنَـا الـتَّارِيخُ كَـمْ سَـجَّلْتِ فَـخْرًا

وَكَــمْ رَفَـعَـتْ بــكِ الْأَيَّــامُ عُـنْـقَا

*

هُـنَـا الْـفَـارُوقُ قَـدْ خَـطَّ الْأَمَـانِي

وَفَـجْـرُ الـنُّـورِ فِـي الْأَرْجَـاءِ شَـقَّ

*

أَتَـى الْـجَرَّاحُ وَابْـنُ الْـعَاصِ سَعْيًا

يَـقُـودَانِ الْـجُـيُوشَ إِلَـيْـكِ سَـبْـقًا

دِمَـشْـقُ وَوَجْـهُـهَا الْأُمَـوِيُّ فَـخْرٌ

لِـنَـفْـخِ الـصُّـورِ عَـامِـرَةً سَـتَـبْقَى

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

حزن الجميع لأجلي

عدا أخوتي

فهم صامتون

ترق قلوبهم احيانا

فيسألون

يتحدثون كثيرا

ومرة أخرى يصمتون

يخجلون

وعن ذكر اسمي يحذرون

ايها السامع انيني

أخبرهم

ان قامتي لم تعد كما الثريا

وان العيد خان عهده المبرم

لم يعد يعرفني

أمسيت غريبة بين اهلي

سرقوا مني التين والزيتون

وسرقوا مني

جلباب أبي المطرز بشمس الحقيقة

وسرقوا

شيلة أمي التي حاكتها جدتي

منذ الف عام

سرقوا قطرات دمي وهويتي

وحتى بطاقة عروبتي

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

متى تأتيْ أيا موتيْ لِنمْضيْ

عليكَ غدوْتُ للآمالِ أَبْني

*

على هذي التي أحْيا كثيرًا

بنَيْتُ ولم أزلْ للوَهْمِ أَجْني

*

فلا المالُ الذي أَلْقَتْهُ أغْنَىْ

ولا ذاكَ الغِنى ما كنْتُ أَعْني

*

ولا الشأنُ الذي علّيتُ يُعلي

ولا الشأْنُ الذي أَعْلَتْهُ شَأْني

*

ولا السّلمُ الذي تُمليهِ سِلمي

ولا الأمنُ الذي تُعطيهِ أَمْني

*

ولا الشّعرُ الذي قالتْهُ شِعري

ولا اللّحنُ الذي غنّتْهُ لَحْني

*

وآهِ لو ِاكْتَفَتْ مِنّي بعُمرٍ

غدوتُ بهِ لدَيْها محْضُ رَهْنِ

*

فكَمْ مِنْ مَنِّ ربّي مِنهُ حظّي

كدَيْنٍ لا يُجازُ بغيرِ مَنِّ

*

أبيتُ اللّيلَ ألعنُها لعُمرٍ

جديرٍ مثلُها عدلًا بلَعْني

*

فلولا ما بهِ من خفّةٍ ما

جرى جريَ الهوا في إثْرِ ظَنِّ

*

وأقضيْ اليومَ أُكْسِبُها لِيَمْضيْ

بما تُلْقيهِ من خُبزٍ وسَمْنِ

*

وأَحْمَدُهُ على ما قلَّ منها

فلولا اللهُ ما رقّتْ لبَطْنِ

*

وأعلمُ لوْ لها كرَّسْتُ حمْدي

لزادَ بعينِها قدْري ووَزْني

*

ولكنّي علىْ ما كانَ منّي

أُحَمِّدُ من سأَلْقىْ بعدَ دَفْنِ

*

فيا مَوتي لمِا قدْ ظلَّ مِنها

بأنفاسيْ ونَفْسيْ لا تدَعْني

*

أقِمْ في خاطِري وارقُبْ بعيْنيْ

وزلْزِلْ مُهجتي واسْهرْ بجَفْني

*

ولا تترُكْ لها أرضًا بروحي

وذُدْ عمّا ظفرتَ به و عَنِّي

*

فأنفقَ في الأخيرةِ ما تبقّى

وأبرأَ مِنْ هوىً سُمِّيْ بوَهْنِ

*

وقد أحْسَنْتُ بالرّحمنِ ظنّيْ

فكُنْ بابيْ إلى جنّاتِ عَدْنِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ها أنا مَنسيٌّ

أَسيرُ في الطُّرُقَاتِ حافيًا

مع ذُبولَ مُهجَتِي

وتَحطُّمَ قَلبِي..

أجرُّ مَنَارةَ مَنفَايَ

إلى دَوَامةِ النَّحيبِ

أَسُلُّ ثَوبَ النَّبِي وأرتَدِي ثَوبَ العَبِيدِ..

أُكفَّنَ بآياتٍ مُجلجِلَةٍ

وأرغِفَةِ الخُبزِ، وسِياطِ العاطِفَة..

خُذْيني يا قافلةَ المَصِيرِ...

لِعالمٍ لا يَعرِفُ

العَبَثِيةِ والعِتْمَةِ حَيثُ لا يأسٌ،

ولا مُستَحيلٌ

هُناك...

حيثُ يرتَجُّ وَمِيضُ الرُّوحِ

كالغَجَرِياتِ فِي

احتِفالاتٍ صاخِبَة

حيثُ لا سُكونَ لِحركةٍ هائِجَة..

خُذيِني لِوجودٍ

بَلا هَوَسٌ، غارقٌ بالبَهجةِ...

***

باقر طه الموسوي

 

قصّة ومضة

صداقتي مع مرجان تمتدّ إلى أكثر من عام!

كان يهر إليّ عن بعد

يتمسح بساقي سواء أمشي أم أجلس على أيّة منضدة فارغة أجدها على الرصيف، وحالما يأتي النادل أرمي إليه-قبل أن تمتدّ يدي إلى فمي- بقطع من شطيرة اللحم وكسرة خبز.

يحدث ذلك كلّ يوم تقريبا

تقرؤ ملامحه جيدا فاشيع في نفسي البهجة

حتى إنّي من شدّة إعجابي به سمّيته (مرجان)

صاحب المطعم الطيب ذو الابتسامة الواسعة ارتاح للتسمية وأضاف أنّه لطيف حقّا لقد طهّر المطعم من الفئران!

ومنذ يومين لم أره

افتقدت مرحه

ومواءه الهادئ وتمسحه بساقي وهو يستقبلني حين آتي لتناول طعامي.

ظننته في الداخل يتابع مطاردة الفئران

وقد صدمت حقّا حين عرفت فيما بعد أنّ مطعما جديدا افتتح في الشارع القريب الموازي تُقَدَّم فيه وجبات السمك المشوي وإنّ الرائحة استرفزّت مرجان فرحل إلى هناك!

***

قصي الشيخ عسكر

يأتون من بعيد، لا يحملون متاعًا، بل حكايات مثقوبة. جراحًا تلفّها أكياس النايلون، وصورًا بالأبيض والأسود لأمهاتٍ ينتظرن عند بابٍ لم يعد موجودًا. يأتون من الخرائب، من الحقول التي أُحرقت فيها السنابل قبل أن تثمر، من المدارس التي صارت سجونًا، ومن السجون التي صارت أوطانًا مؤقتة. يأتون، والريح في وجوههم ليست نسيمًا، بل صفعة التاريخ. الطفل الذي يعبر الحدود، لا يسأل عن اسمه، ولا عن اللغة التي يجب أن يبكي بها. كل ما يريده أن يصل إلى مكانٍ يمكن فيه للدمعة أن تسقط دون أن تُعتقل.

سألهم الشاشات:

ـ من أنتم؟

فيقولون:

نحن الأحياء الذين لم يعيشوا بعد، نحن الذين نكتب أسماءنا على الورق المقوّى ونعلّقه على صدورنا خشية أن نموت. بلا تعريف. نحن أبناء الأنهار التي اختنقت، وأحفاد المدن التي بكتنا، ثم طردتنا، نحن من يعرف أن الحب لا يحتاج إلى تأشيرة، لكن الخبز. يحتاج.

على القوارب المطاطية، جلس الحالمون مثل الأنبياء في العواصف، يتلون أدعية لم تُكتب بعد، ويؤمنون بأن الأرض، يوماً ما، ستكون أوسع من جواز السفر.

رأيتُ امرأةً تحمل رضيعها بين صدرها والموت، وتغني له كي ينام . والموج ينهش قدميها. رأيتُ رجلًا يبتسم وهو يغرق، لأنه أخيرًا. لم يعد يسمع صوت القذائف.

أيها العالم:

ضع حدودك في جيبك، وامحُ أسماء الدول من خرائطك، واسمع ـ فقط ـ صوت الإنسان حين يقول: أنا جائع. أنا خائف. أنا حي. فمن يعبر نحو الشمال، لا يطلب الجنة، بل يهرب من الجحيم.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

 

لِدِراما الحَــــــرْبِ مُؤَلِّفُها

ولِمُخْرِجهـا بـاقي الحِبْكةْ

*

والمــشهدُ: حَـــرْبٌ مَاثِلةٌ

يَطْبَعها الغَرْبُ على الدَّوْكَةْ

*

يَزرعهـــــا في كـــل بـــلادٍ

ويَسُوقُ المِــــحَن المُسْتَكَّةْ

*

فَبِرَنَّة (جَـــــيْبٍ) يَرْعـــاها

فُرَقَاءُ الصَّـحْفَةِ والكـــعكةْ

*

وبِطَــرْفَةِ عـــينٍ يَغشـــاها

زُرْقُ العينـــــــــينِ بلا فَكَّةْ

*

ما أصعب وضعكَ يا وطني

بين الأهــــــواءِ المُــــعْتَكَّةْ

*

ما ضــــــــاقَ بها جَـــيْبٌ إلا

جـــــــاءتها (فَكَّةُ من مكةْ) !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

أتّفق معك أنّ الوقت يمرّ

والأشياء لا تنفكّ تتغيّر

ولكن لمَ تبدو السّاعات في بيتي معطّلة

ودقّاتها تشبه الأنين.

*

حسنا

أعلم أنّ الشّمس ستشرق

سيتسلّل نورها كطفل فضولي

وتغنّي فيروز طويلا عن البحر والوطن وحبيبٍ غائب.

فلِم أشعر أنّني أسكن في ليل طويل

وأنّني على مسافة بعيدة من كلّ شيء..

*

رائحة الخبز شهيّة والقهوة مرّة كما أحبّ

تغنّي أمّي مع الرّاديو

وتشي الضوضاء في الخارج بأجواء مشوّقة

ولكن قل لي

لماذا تتعالى الأصوات في رأسي

لمَ لا تمتدّ يدي

ومن ذا الّذي يصرخ بي لأنهض..

*

الحياة تستمرّ، لا شكّ في ذلك،

والأيّام تجرف جسدي كَسيْلٍ لا ينتهي

الرّحلة تستحقّ المحاولة وستثمر الجهود ذات يوم

أفهمك

العالم يعجّ بالنّاجحين

*

لا بأس إن لم يعنِني ذلك في شيء

أنّ الضباب يلفح وجهي ويملأ عيناي وأن طريقي بلا خريطة..

*

سأحبّ من جديد

لا داعي للقلق

والكلمات الّتي أحرقها الغياب

سأكتب برفاتها قصيدة أو اثنتين

ثمّ أختبئ داخل أغنية

*

أجل، كلّ شيء على ما يرام

فعلت كما قيل لي

لقد نسيت ذاك الحلم، صحيح،

دفنته جيّدا تحت الوسائد حتّى اختنق و لن يزعجني

ولكن أخبرني أرجوك

لماذا أحلم كلّ ليلة بظلّ يتمزّق

ومن أين تأتي الدّماء على يديّ حين أستيقظ

***

بقلم مريم عبد الجوّاد - تونس

في نصوص اليوم