نصوص أدبية
محمد سهيل احمد: طيور في الرأس

" ثم ان الصياد نصب شبكته ونثر عليها الحَب وكمُنَ قريبا منها. فلم يلبث الا قليلا حتى مرت به حمامة يقال لها الحمامة المطوقة وكانت سيدة الحمام، ومعها حمام كثير فعميتْ هي وأصحابها عن الشرك. فوقعن على الحب يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن. وأقبل الصياد فرحا مسرورا فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها.. قالت المطوقة: لا تخاذلن في المعالجة، ولا تكنْ نفس احداكن اهمّ اليها من نفس صاحبتها، ولكن نتعاون جميعا فينجو بعضنا ببعض.. "
.. انا ولد عادي اسمي (خلدون). لدي شارب خفيف كأنه مرسوم بقلم رصاص، وعندي دفتر يوميات اصطحبه أينما ذهبت، اكتب فيه عما أراه في المدرسة والشارع وما اسمعه في الراديو والتلفزيون.. أما دفتر الإنشاء
فقد ملتُ الى اهماله رغم انني كتبت فيه موضوعين احدهما عن الأم والثاني بشأن الطيور التي اعشق.. انها همي الأول والأخير.
الصفحة رقم 3 في دفتر اليوميات
الجمعة مساء. لم اكملْ تمرين الرياضيات.. انا لا افهم فيها الكثير. يضجّ في رأسي صراخ الطيور. سأتابع قراءة حكاية عنوانها (الحمامة المطوقة) جاءت في كتاب اسمه (كليلة ودمنة) قمت باستعارته من مكتبة المدرسة:
" فقال الغراب لأتبعهن وانظر ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن فقالت للحمام هذا الصياد مجدٌ في طلبكن فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخفِ عليه امرنا ولم يزل يتبعنا وإنْ نحن توجهنا الى العمران خفي عليه أمرنا وانصرف وبمكان كذا جرذ فلو انتهينا اليه قطع عنا ذلك الشرك.. ففعلن ذلك وأيس الصياد منهن وانصرف وتبعهن الغراب فلما انتهت الحمامة المطوقة الى الجرذ، أمرت الحمام ان يسقطن الشبكة وكان للجرذ مائة جحر للمخاوف.. "
اغلق الكتاب. أتثاءب، انا متعب بسبب جولة نهار الجمعة في (سوق الطيور)
كان يوم جمعة بنهار نصف غائم والأفق مغلق برسوم ناتئة مجبولة من كونكريت ضاعف من سقف الكآبة الوهمي الذي يظلل ساحة الطيور. كيف قفزت هذه العمارات في بحر أشهر وبسرعة تفوق أضعاف تلك التي تزدهر فيها شجرة اية شجرة في أيما مكان؟
اليوم ومثل حمامة في قفص تم تطويق الساحة بهاته البناءات المتعاظمة واجتثاث الافق الأزرق وليّ اعناق نسيمات البحر بدلا من ذلك نحو بضعة بيوت شرقية الطراز لها اسيجة طابوقية مخرمة بسطوح تنوء بملابس عمال الشركات وتانكيات الماء ذات الأشكال المكعبة وقد غزاها الصدأ.
قبل الظهيرة بساعة يكون سوق الطيور في عز نشاطه. هذا هو يومه الأثير. يمارس (خلدون) لذّة شقّ الزحام بسكين حماسه لاكتشاف المجهول، ببطْ سلحفاة وعيني باز. ليس في نيته ان يبيع او ان يشتري طيرا. انه يقضي وقتا حافلا. مجموعة من الديكة الرومية تتزاحم مثل أسطول من المراكب حشر في بركة سباحة. انها في سيارة (بيك أب) ينادي عليها شخص انقر الوجه وهو يبحلق في خلدون وكأن الأخير محفظة نقود.. طائر وحيد في قفص اخضر.. صباح الخير ايها (الكاسكو).. وحيد أنت تختال بجناحيك اللذين يماثلان غيمتين رماديتين وذيلك ذي العلامة الحمراء.. أقفاص على ارض الرصيف، من خوص او أسلاك معدن بعضها فارغ وبعضها الآخر يحتجز حمامة جوزية اللون. ان طائر (المينا) لا يتوقف عن التقافز داخل القفص وهو يضرب القضبان بمنقاره البرتقالي اللون الذي يوحي ببهجة ذات نثيث ذابل. لا يبدو عليه ذلك الكائن الصغير القادم من أقاصي الأرض. أقفاص اخرى مجاورة تضم طيورا اصغر من الحمامات بقليل وان كانت تشبهها.. ناصعة البياض لا يعرف لها اسم إنما اعتاد ان يطلق عليها اسم (طيور البراءة) وترتعش في قفص آخر كتاكيت بزغب ملطخ بأصباغ فاقعة الألوان في حين تتراكم فصوص من التمر على قضبان القفص.
رفع خلدون رأسه باتجاه السماء.. سرب من الطيور يعبر الأفق مضمحلا وراء جدران العمارات نحو البحر. على ارض الرصيف أعدتْ للطيور طرائق ومعدات تبعث على الانقباض. إنها آخر ما توصلت اليه الجهود البشرية من براعة في الإمساك بهذه الارواح: فخاخ.. أقفاص ملونة، قفازات نايلون.. شِباك.. أنابيب اختبار.. علف. كل شيء قد تم توفيره للطيور كل شيء عدا الفضاء!
الورقة رقم 5 من الدفتر:
الأحد: همتُ على غير هدى في ساحة النافورة.. صحيح ان السوق بعيدة لمن هو في عمري ولكنني ارى بعضا من الفتيان منكبين على الدراجات النارية يتفحصونها وعلى الطيور يستلون ريشها.. في باص المواصلات أتعمد ان اجلس عند الشباك اتأمل البيوت الفارهة ذات الحدائق التي تتوسطها الأزاهير والأراجيح الى ان يدور رأسي وقد أغفو قليلا..
في السوق اشتريت شطيرة فلافل. عثرت عيناي على قصاصة جريدة قرأت فيها الخبر التالي:
" من ظلال المأساة في لبنان. طفل يكبر مائة عام خلال اسابيع. الطفل الفلسطيني عدنان عمره ثمانية اعوام سقطت بالقرب منه قذيفة اسرائيلية. لم يصب بسوء. لكن الشيب غزا شعر رأسه خلال ايام معدودات. أصابه ذهول ثم ظهرت على وجهه بقع وبثور مريعة.. "
فارقني الجوع.. عدت فورا الى البيت. كان وجهي مبللا بالأمطار، وكانت معدتي خالية الوفاض!
يشق زحام الساحة المألوف. يرنو الى المسجد الأثري الصغير يرفع رأسه ملقيا بناظريه الى أعلى نقطة في العمارة التي تشمخ بارتفاع اجرد. عمارات أخرى تحت الانشاء، رافعات، أسياخ حديد أ ضلع خشب. ينكفئ بعينيه الى المسجد في آخر الساحة وقد تركت على سطح منارته الطيور آثارها.
ينهي المؤذن حديث الجمعة.
تنطلق من جديد أصوات الباعة. تدنو اللحظة النادرة المنبثقة من القلب الى القلب. انه الطائر الذي ملأ الساحة يوم انعقد السوق قبيل اسبوع بالفرح. جعل يزقزق دونما انقطاع فبلغ من صفاء تغريده انه ارتفع على كل ضجيج المزاد الذي فحّت حرارته لتضاهي خيوط الشمس. وحين يتعالى التغريد في فضاء الساحة مثل نافورة ملونة، تتجمد الحياة في ذياك المكان. بالنسبة لخلدون على الأقل فلا يعود يسمع سوى ذلك الانهمار المجهول المنبعث كشلال في غابة لم تطأها قدم متطفل، الا انه فشل في معرفة ذلك البلبل الذي اطلق الأشجان داخل قفص ما.. في مكان ما.. مجهول. لبث طويلا يرهف السمع وفي الليل كتب:
" ايامي الأجمل هي الجمعة ثم الجمعة ثم الجمعة، ليتني اعثر على ذلك الطائر المجهول! "
" حلمت البارحة بوجه أمي التي لم ارها قط ولكنه كان بالتأكيد يشبه كل وجوه النسوة اللواتي يفتقدن وجوه اولادهن! "
تنتشر في الفضاء رائحة عرق انثوي ممزوج بعطر متذاكِ. يشدّه جاذب غريب. ينطلق مثل ورقة تجرفها الريح حسبما تشاء او كمركب على ساحل جزيرة ممغنطة يحاول ربانه بلا جدوى ان يدير الدفة كيما ينأى به عن تأثير تلك القوى اللا مرئية. انه مجرد بيت عربي الطراز قريب من الساحة بعيد عنها. يتمتع بشرفة مقوسة ذات زخارف. لم يعبأ طويلا بالتمعن في تفاصيلها. يتطاول نبات متسلقا سياج الشرفة ذا القضبان ثم ما يلبث ان ينعقد هناك باخضرار يندر وجوده. في ارض كهذه تخضع لقوانين الصحراء المناخية من غبار وتجريد.
وجه فتاة الشرفة يشع كل البهجات المخلوقة وغير المخلوقة ولو ان مسحة من الحزن قد عطفت عليه. تطل وحيدة على الساحة كطائر في قفص. ترنو الى الفراغ الشرقي أمامها.. تتدلى ضفيرتها الفاحمة السواد طويلة لتشتبك وتصطرع وسط حبال النبتة وكأن الأخير ما قام بتسلق الشجرة الا من اجلها! ولقد شعر الفتى برعدة تسري في أوتاره. كان يتنازعه أمران: وجه البنت وما في الساحة من طيور. تلتف من حوله كحبال مخاوف لا يدرك كنهها.. تدوّي قذائف.. تنهار عمارات.. يتناهى اليه صوت تداعيها المكتوم من بعيد وطقطقة العظام البشرية تحت الركام.
وكتب: " بالأمس لم اذهب الى سوق الطيور. العدو يطوق بيروت.. عشرات الأجساد ترقد الى الأبد تحت ركام الحجر. القذائف بالآلاف.. اطفال الآربي جي يتصدون للزحف القادم من الجنوب. يشده وجه الفتاة اليه. انه يقضم شفته بعنف. يهطل المطر.. صحيح انه يباغت الأشياء في البدء ولكنه في النهاية ينقيّها.. ما هذا؟! انه مطر غريب من نوعه.. سيول وكرات ثلج. تشج واحدة رأسه.. تنقر الأخرى ظفر ابهامه الأيمن في قسوة. تزرق بقعة ملليمترية وسط الظفر كأنه ضرب خطأ بمطرقة عملاقة.. أهو يوم النشور؟ تسود الساحة فوضى.. يتفرق الباعة مفضلين الاحتماء بمظلات سوق القماش. يظل خلدون وحيدا وسط الساحة مظللا جسده بعذاب قلبه الصغير وما يصطخب على شاطئيه من هواجس لم يتح لها الامتداد الى حد الفيضان.. يتجلد رغم الدم اللزج الساخن الذي ساح على جبهته ورغم قسوة الوابل.. !
احيانا تعيننا اشياء صغيرة دافئة على البقاء مثل زوج من طيور الحب.
او تغريد بلبل حتى وإن كان غير مرئي، ولكنها ايضا لحظة القصاص الذي طالما اضطرب في القلب كلما وطئت قدماه سوق الجمعة. يتحدر الى الأقفاص المكتظة بالطيور. ينتزع أقفالها مطلقا اياها نحو الفضاء في جنون بارد يشف عن تصميم على استباق الحتف. خفّ المطر وصار رذاذا. اصطفقتْ اجنحة. ودرجت حمائم (البراءة) على الرصيف كما لو انها امست غير مؤهلة لعالم غادرته منذ زمن غير مسجل في ذاكرتها اللحظية الإشعاع. حنجلت دجاجات وهي تغادر سلال الخوص موحية بأنها مصابة بإسهال جماعي. امّا الطيور النادرة فقد اخذتْ بالتحليق بعيدا مع جارف الريح التي هبت فتية آنذاك. ومثل ليلٍ يخرّ ساجدا لسلطان الصباح اضيئت شرفة في مكان ما بوجه لايفتأ يرنو الى الفراغات الفضائية التي تتأرجح على حبالها غشاوة من الذرات الغبارية، ورفّ حول الوجه بلبل ما لبث انْ
حطّ على كتف البنت ليعاود الارتطام بوجهها في نعومة ليتكئ اخيرا على حافة السياج مطلقا تغريده اللؤلؤي.
الجمعة: لم اغادر الفراش طيلة النهار. انا محموم. كان هنالك من سمعني اهذي. تسللتُ كماء في ساقية. وفي زمن ملغي رأيت بلبلي جثة مدماة على ارض الرصيف في حين تهافت ريشه هابطا من شرفة خاوية، بلا وجه ولا ضفيرة.
اين راحت كل تلك الوجوه؟ اين صار البلبل.. الشرفة.. الوجه.. الضفيرة.. اللبلاب؟! كنت في الساحة، دون ان ادري ودون ان تغادرني الرغبة في اطلاق كل طيور العالم. ابتعت مرآة من بائع متجول. أدخلتُ وجهي في اعماقها. كان شكلي مهولا:
شاب شعري وكبرت ألف عام!
***
محمد سهيل احمد
...........................
(*) ورد النص في مجموعة الكاتب القصصية (العين والشباك)