ترجمات أدبية
كيفن سبايد: الجَدْوَل

بقلم: كيفن سبايد
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
كنت جالسًا في الشرفة الخلفية أقرأ عندما سمعت صوت الدراجة النارية. أول ما سمعتها على الطريق الرئيسي، تئن تحت زقزقة العصافير، ثم سمعتها تبطئ سرعتها، وينخفض أنينها إلى همسة. والآن كانت تنزل في الممر بين الأشجار. وضعت كتابي جانبًا. كانت كارا قد غابت عني ثلاثة أيام. بعد ثلاثة أيام، كنت أرغب في المزيد. وإن حصلت على يوم إضافي، كنت أعلم أنني سأرغب في يومين آخرين. وإن حصلت على يومين، سأرغب في أربعة أيام أخرى. في النهاية، سأصل إلى مرحلة لا أرغب فيها أبدًا برؤية إنسان آخر. الوحدة كانت حلوة وخطيرة، لكنني الآن كنت أُجبَر على العودة إلى ذاتي الأخرى. الكائن الذي أكونه عندما لا أكون وحيدًا. لكنني لم أستطع الاستمرار في التفكير بهذه الطريقة، فلم أفعل.
كان صباحًا ربيعيًا مشمسًا، والزهور البرية تنتشر في كل مكان. تجرأت على الالتفات إلى مقدمة المنزل، الجانب المظلم منه، في اللحظة ذاتها التي انطلقت فيها الدراجة النارية من بين الأشجار. كانت تسحب مقطورة صغيرة تستخدمها كارا في رحلاتها إلى المدينة. وكانت تحمل زوجًا من الدراجات الهوائية مثبتتين على المقطورة. في البداية لم أعرف ما هما. أشياء غريبة. شيء من قصة قديمة. أدوات خيالية لمشاكل لم أكن أعرف بعد أننا نملكها. كنت قد نسيت أن الناس يركبون الدراجات. لم يكن بإمكانك رؤية الطريق من المنزل، وأنا بالكاد أذهب إلى هناك. بعض الأيام بالكاد أجرؤ على الذهاب إلى مقدمة المنزل. الفناء الخلفي كان مملكتي – مسرحًا طبيعيًا من النهر، الأشجار، التلال، العصافير. لم يكن لدي مشكلة مع العصافير. لم يتوقف الأمر عن إدهاشي أن العصافير تستطيع الطيران حقًا. لم أظن أني سأعتاد على ذلك أبدًا. كنت أجلس هناك على الشرفة الخلفية أشاهدها تطير بلا وعي من شجرة إلى أخرى. كانت تتعامل مع الأمر بلا مبالاة مروعة. على أية حال، لم يكن أحد ليصل من ذلك الاتجاه بعجلات.
وحين أدركت ما كنت أنظر إليه، قلت:
- مِن مَن سرقتيهما؟
- من شخص لا تعرفه.
أسندت كارا إحدى الدراجتين على جدار المنزل. ظلت ساكنة بلا حراك. كان طلاء العارضة الخضراء يلمع تحت أشعة الشمس. بدت عجلتاها صلبتين وقويتين ، ومقودها الأنيق وكأنه مُنح إرادة حرة. لقد عرفت رجالًا كانت وجوههم أكثر فراغًا من ذلك. رفعت كارا الدراجة الأخرى عن المقطورة، قفزت فوقها وانطلقت عبر الفناء، نازلة التل باتجاه النهر، ثم استدارت في اللحظة التي كانت ستندفع فيها مباشرة إلى الماء—وكان من شيمها تمامًا أن تفعل ذلك.
أما الدراجة المتكئة على جادر المنزل فكانت تنتظرني هناك. صابرة، غارقة في عالمها الصلب. كنت أعرف كيف أركب الدراجة لكنني لم أفكر أبدًا أن الأمر سيصل إلى ذلك. عندما لمست المقود شعرت بنبضه. أو ربما كان مجرد نبضي يعود إليّ. لا بد أن لدي نبضًا.لم تتراجع الدراجة. ضبطت مقعدها. كان آخر من ركبها ذا ساقين طويلتين. لم تكن ساقاي طويلتين. لكنها لم تكن قصيرة أيضًا. كانت ساقين عاديتين، تسهل إصابتهما بالكدمات، لكنهما أقوى مما قد يتوقعه أحد من مظهري.رفعت إحدى ساقيّ فوق العارضة. بدا الأمر غريبًا، أن أفعل شيئًا كهذا. كأنني شخص يفعل أشياء كهذه. كان الأمر أشبه بأداء معجزة لا معنى لها.
بينما كنا ندوّس صعودًا نحو الطريق، لم تكترث الأشجار على جانبيّ بإخفاء دهشتها. انحنت فوق الدرب، متشابكة الأغصان من فوق كأنها أغنية. تبعتُ كارا. لم أكن أعرف إلى أين نتجه. كان شعورًا رائعًا أن أكون راكبًا دراجة لدرجة أنني لم أهتم بالوجهة طالما أننا لسنا متجهين نحو البلدة. كان الطريق ينهار في بعض الأماكن وتناثرت الصخور من المنحدرات، فكنت أتجنب هذه الفخاخ بحذر. في أحد المواضع، انهارت كمية هائلة من الحطام من التل وأخذت قضمة كبيرة من الطريق. كان المكان قد أصبح مغطى بالشجيرات الشائكة وشتلات الأشجار الصغيرة. أي شخص يأتي من هذا الطريق سيكون مضطرًا للمناورة حول هذا التعدي الفظ على مسار وعر مليء بالحفر يتعرج بين الأشجار. توقفنا ثم سحبنا الدراجات على طول المسار. عندما يأتي المطر سيكون من المستحيل العبور. لم تقل كارا شيئًا عن أي من هذا ولم أقل أنا أيضًا شيئًا.
لم أتذكر آخر مرة سلكت فيها هذا الطريق. قبل سنوات. لكنه الآن مختلف تماماً لدرجة أنني أشعر أنني لم آتِ إلى هنا من قبل. حين سرقتُ دراجة كارا النارية ذات مرة، صعدت إلى التلال لأتمكن من رؤية البحيرة من الأعلى. كان مهماً أن أرى البحيرة بين الحين والآخر، ذلك الامتداد الشاسع الذي يختفي في الضباب. كنت دائماً أسلك الطريق نفسه ولم أقابل أحداً قط. أما هذا الطريق فكان أكثر عرضة لحركة المرور. لكن اليوم، لم نرَ أحداً. تقدّمت كارا بالدراجة أمامي وتبعتها. بدأت رئتاي تحترقان بالفعل. كانت الأشجار كثيفة ومظلمة، تتآمر أوراقها الخضراء الداكنة ضد السماء، وكان الطريق مغطىً بالأغصان الصغيرة والفروع المتساقطة. حيث سقطت أشجار كاملة عبر الطريق، قام أحدهم بقطعها وإزالتها بالمنشار. تساءلت إن كانت كارا نفسها من فعلت ذلك. يوماً ما، ستبتلع الغابة هذا الطريق.
توقفت كارا وأسندت دراجتها إلى شجرة. كان جدول ماء يندفع من التلال، ماراً بقناة تحت الطريق متجهاً نحو البحيرة. لم أتمكن من رؤية البحيرة عبر الأشجار لكنني علمت أنها هناك. كل تلك المياه كانت تملك جاذبية، قوة جذب. حين كانت العواصف تجرد الأشجار من أوراقها في الخريف، كنت تراها من هنا. لم تكن بعيدة. أسندت دراجتي إلى دراجتها، وتركنا الدراجتين خلفنا وبدأنا نصعد الوادي.
في البداية، استطعنا السير بجانب الجدول على الأوراق الميتة من العام الماضي، بينما ارتفعت جوانب الوادي بشدة على كلا الجانبين. لكنه ضاق بعد ذلك فسرنا في الماء البارد ونحن نرتدي أحذيتنا. كانت هناك صخور ضخمة، أكبر من بيوت صغيرة، قد انتفخت وسط الجدول. قالت كارا إنها ترسّبت هناك بفعل الأنهار الجليدية، تلك نفسها التي حفرت شكل البحيرات قبل عشرة آلاف عام. كنت قد سمعت هذه الحكاية كثيرًا، لكنني كنت أجد صعوبة في تصديقها. لم أستطع التوقف عن التساؤل عما كان هنا قبل التلال والبحيرات. هل كانت هناك أشجار مليئة بالطيور والحشرات والديدان المتدلية على خيوط؟ هل كانت هناك نساء بشعور طويلة ووجوه مليئة بالندوب؟ هل كانت هناك نساء بشعور قصيرة ووشوم؟ ماذا كان هنا قبل أن تزحف الأنهار الجليدية وتنظّفه وتلقي بهذه الصخور العملاقة؟
أصيبت قدماي بالخدر كنت أكره البرد، طبعًا، وكان مجرد التفكير في البرد يمكن أن يثير في نفسي الرعب، لكنني كنت أعلم أنه لن يدوم لأشهر. كان بردًا نقيًّا. أحرق البرد قدمي. كان قاع الجدول حاداً مليئاً بالصخور والحطام، وأحياناً كنا نمسك بأيدي بعضنا لنحافظ على توازننا، كوحش ضخم بأربعة أرجل ورأسين يتسلل صعوداً في الوادي. كانت يد كارا خشنة وقوية، وكنت أعلم أنها كانت قادرة على نزع ذراعي من مكانها. ثم وصلنا إلى شلال. كان أطول منا مجتمعين، واضطررنا لتسلق حافة جافة ضيقة على جانبه. انهار الصخر الزيتي المفكك تحت أقدامنا، لكن التسلق كان سهلاً. لو لم يكن سهلاً لما فعلته. كنت أفعل العديد من الأشياء الصعبة، مثل إصلاح الأحذية أو قطع رؤوس دجاجات كنت أعرفها جيداً، وكتابة القصائد، لكنني لم أفعل الأشياء الصعبة دون سبب.
مدت كارا يدها من قمة الشلال وسحبتني إلى الأعلى، متذمرة من أن وزني لا يزيد عن وزن طفل جائع.
كانت فترة ما بعد الظهيرة حارة، لكننا كنا الآن مبتلين تحت الظل البارد العميق للأشجار. كان الجدول يجري بانسياب فوق الشلال، وقاعه أملس وزلق. أملس كصحن قديم . جعلت كارا كفيها على شكل كوب وشربت من الماء. كانت الأشجار الطويلة تحوم فوقنا، تراقبنا بفضول لا نهائي.
تبعنا الجدول حول منعطف منحدر، حيث كان الماء ينساب على جانب واحد منه، بينما كان الجانب الآخر جافاً وأبيض تحت الشمس. جلستُ على صخرة مسطحة تحت الشمس، وأرخيت جسدي كي تتسلل الحرارة إلى عظامي. حرارة الشمس. طاقة قادمة من الفضاء الخارجي تُبقيني على قيد الحياة. تمدّدت تمامًا، فضحكت كارا. قالت:
- انهض، لقد كدنا نصل.
- دعيني أستلقي هنا دقيقة .
- انهض، يا رجل .
- خمس دقائق أخرى.
حدّقتُ إلى الأعلى، إلى الأشجار، ولثوانٍ معدودة بدا من الصعب أن أصدق أن هناك شيئًا آخر موجود. لا منازل محترقة منتشرة على الأرض، ولا أطفال يتسللون في الغابة. اختفت بلدتنا المليئة بالمجانين الصارخين، وأُغلِق على المغتصبين في صناديق. استلقيت على ظهري وأخمص يدي وقدمي ملتصقة بالصخرة الدافئة. أغمضت عيني ولم أتحرك. قلت:
- أنا هنا تمامًا. لستُ في أي مكان آخر.
ضحكت كارا مرة أخرى واستلقت بجانبي. بقينا هناك لفترة طويلة، نتنفس.
(انتهت)
***
........................
الكاتب: كيفن سبايد/ Kevin Spaide: كيفن سبايد من أوبورن، نيويورك. ظهرت قصصه في عدد من الأماكن، وكان أحدثها في مجلة FRiGG. يعيش في مدريد مع زوجته وابنه.
رابط القصة على: FRiGG
https://www.friggmagazine.com/issuesixtythree/fiction/spaide/stream.htm