ترجمات أدبية

أرافيند أديغا: اليوم الثاني (صباحا) هضبة المنارة

بقلم: أرافيند أديغا

ترجمة: صالح الرزوق

***

بعد غداء مكون من القريدس بالكاري والأرز تتناوله في باندير، ربما يود الإنسان زيارة هضبة المنارة ومحيطها. شيد البرتغاليون هذه المنارة الشهيرة، وجددها البريطانيون، ولكنها ليست قيد الاستخدام. يجلس حارس عجوز ببذلة زرقاء في أسفل المنارة. إذا كان الزوار بثياب الفقراء، أو إذا خاطبوه بلغة تولو أو كانادا، يقول لهم: "ألا ترون أنها مغلقة؟". وإذا كان الزوار بهندام جيد أو يتكلمون بالإنكليزية، يقول لهم: "أهلا وسهلا". ويرافقهم إلى المنارة ويتقدمهم على السلالم الحلزونية حتى القمة، وهناك يتوفر لك مشهد رائع ترى منه بحر العرب. في السنوات الحالية افتتحت الشركة غرفة للمطالعة في المنارة. وشملت المحتويات مقالات الأب باسيل  دي عيسى، و  تاريخ كيتور المختصر لإس جي. أخذت حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو المحيطة بالمنارة اسمها من المناضل في سبيل الحرية الذي علق شعار المؤتمر  بألوانه الثلاثة على المنارة أثناء الحكم البريطاني.

وهناك كنا نرى المشهد التالي، على الأقل، مرتين في العام. سجين يقفز إلى الأمام، والقيد حول معصميه، نحو محطة شرطة هضبة المنارة، برأس مرفوع، ونظرة تغطي وجهه وتدل على ضجر مزمن. بينما يتبعه شرطيان، بعناء ليلحقا به، وهما يقبضان على سلسلة مربوطة بالقيد. والغريب في الموضوع أن الرجل المقيد يبدو كأنه يجر وراءه الشرطيين، مثل شخص خرج مع قردين في نزهة.

في السنوات التسعة السابقة، اعتقل الرجل المعروف باسم زيروكس راماكريشنا إحدى وعشرين مرة، على رصيف غرانيتي أمام متنزه ديشبريمي هاماشاندرا راو لأنه يبيع لطلاب جامعة سانت ألفونسو، وبأسعار مخفضة، كتبا مصورة أو مطبوعة بشكل غير قانوني. كان شرطي يأتي في الصباح، حينما يكون رامامريشنا جالسا مع كتبه الموزعة فوق ملاءة سرير زرقاء اللون، ثم يضع خيزرانته على الكتب ويقول: هيا بنا يا زيروكس.

يلتفت بائع الكتب لابنته ريتو، البالغة إحدى وعشرين عاما من العمر،  والتي تعاونه بمبيع للكتب، ويقول: "اذهبي إلى البيت يا عزيزتي، والزمي الهدوء" ثم يمد يديه للقيود.

في السجن تفك قيود زيروكس ويودع في الزنزانة. ويجهد رؤوس رجال الشرطة، وهو يمسك القضبان، بحكايات مسلية. وربما يروي لهم حكاية مضحكة عن بنت جامعية شاهدها في ذلك الصباح ترتدي الجينز الأمريكي، أو كلمة قذرة جديدة بالتولو سمعها في الحافلة وهو في طريقه إلى قرية سوق الملح، أو ربما، إن كانوا بمزاج طيب يسمح بوقت أطول للترفيه، يقص عليهم، كما فعل عدة مرات من قبل، حكاية أبيه وهو يكافح طيلة حياته ليكسب لقمة عيشه - كان يحمل النفايات من بيوت السادة الأغنياء، وهي المهنة التقليدية لمن هم من نوعه. وطيلة يومه يتسكع الرجل المسن حول الجدار الخلفي لبيت السيد، بانتظار أن يشم رائحة البراز البشري. وحالما تبلغه تلك الرائحة، يأتي إلى البيت، وينتظر بركبتين مثنيتين، مثل حارس الكريكيت الذي ينتظر الكرة (وكان زيروكس يثني ركبتيه لتمثيل ذلك). وحالما يسمع "صوت إغلاق" الصندوق، يحمل المبولة من حفرة في الجدار، ويفرغها في خميلة الورود، وينظف المبولة بمريول ويعيدها قبل أن يأتي الشخص التالي لاستعمال دورة المياه. وذلك هو العمل الذي امتهنه طيلة حياته. هل تصدقون ذلك.

ثم يضحك السجانون.

كانوا يأتون لزيروكس بسامبوسك ملفوف بالورق، ويقدمون معه الشاي. فقد كانوا يعتبرونه رجلا مستقيما. ويطلقون سراحه في منتصف اليوم، فينحني لهم ويقول: "شكرا". وكان ميغيل دي سوزا، محامي الناشرين وتجار الكتب في شارع أمبريلا، يتصل بالمخفر ويصيح: "هل أطلقتم سراحه مجددا؟ ألا يعني قانون البلاد لكم أي شيء؟". وكان راميش مدير المخفر يبعد البوق عن أذنه ويتابع قراءة الصحيفة، بحثا عن أسعار سوق البورصة في بومباي. وهذه كل أماني راميش في حياته: أن يقرأ ملخص سوق البورصة.

حوالي أواخر المساء عاود زيروكس عادته. رتب نسخا مصورة أو نسخا مطبوعة بأسلوب رخيص مثل كارل ماركس وكفاحي وبعض الكتب المطبوعة وأفلاما وألبومات وغير ذلك على القماش الأزرق المفروش على الرصيف في هضبة المنارة، وجلست ريتو الصغيرة بظهر منتصب، بأنفها الطويل والسليم وشاربها الخفيف. وهي تراقب الزبائن الذين انتقوا بعض الكتب وكانوا يقلبون فيها.

قالت لزبون لم يعجبه الكتاب: "أعد الكتاب إلى مكانه. أعده بالضبط للمكان الذي أخذته منه".

زعق زبون لزيروكس:" أريد المحاسبة لامتحان القبول؟".

وصاح آخر: "محاضرات متقدمة في الحمل".

"متعة الجنس؟".

"كفاحي؟".

"لي لاكوكا؟".

وسأل شاب وهو يقلب في كتاب: "ما هو أفضل عرض تقدمه؟".

"خمس وسبعون روبية".

"ياه، أنت تغتصبني. هذا كثير جدا".

استدار الشاب وانصرف، ثم التفت وعاد وقال: "ما هو آخر سعر رخيص لديك. لا يوجد عندي وقت أضيعه معك".

"اثنان وسبعون روبية. إما أن تقبل به أو أن تنصرف. لدي زبائن آخرون".

كانت الكتب تصور أو أحيانا تطبع في مطبعة قديمة في قرية سوق الملح. ويحب زيروكس أن يكون بجوار الآلات. كان يربت على الآلة، وكان يعشق الآلة، ولا سيما حينما تومض كالبرق وهي تعمل، ويحب دورانها وهمهمتها. لم يكن يقرأ اللغة الإنكليزية، ولكنه يعلم أن للكلمات الإنكليزية ذات سلطة، وأن للكتب الإنكليزية جاذبية. وكان ينظر إلى صورة هتلر على غلاف كفاحي، ويشعر بسلطته وقوته. وينظر لوجه خليل جبران، ويراه شاعريا وغامضا، ويشعر بغموضه وشعريته. ويراقب وجه لاكوكا، المسترخي ويداه خلف رأسه، فيقاسمه استرخاءه. ولذلك قال لمدير المخفر راميش في إحدى المرات: "لا أريد أن أسبب لك أو للناشرين المشاكل، يا سيدي. أنا محب للكتب فقط: وأحب أن أطبعها، وأن أحملها وأبيعها. كان والدي يعمل بالبراز ليعيش يا سيدي. ولكنه لم يكن يقرأ أو يكتب. وسيتباهى بي كثيرا لو تمكن من رؤيتي وأنا أعيش من بيع الكتب".

وقع زيروكس مرة واحدة بمتاعب حقيقية مع الشرطة. وذلك حينما اتصل أحد الأشخاص بالمخفر وقال إن زيروكس يبيع نسخا من آيات شيطانية لسلمان رشدي منتهكا قانون الجمهورية الهندية. وحينما أحضر إلى المخفر في هذه الحالة وهو بالأصفاد لم يمنح التسهيلات المعتادة، ولم يقدم له كأس الشاي. وصفعه راميش.

ثم قال له: "ألا تعلم أن الكتاب ممنوع، يا ابن الصلعاء؟ هل تريد أن تحرض المسلمين على العنف؟ وتتسبب لي ولكل الشرطة هنا بالنقل إلى قرية سوق الملح؟".

توسل زيروكس بقوله: "اغفر لي. لم أكن أعلم أنه كتاب ممنوع حقا... أنا فقط ابن رجل ينظف البراز يا سيدي. وينتظر طيلة اليوم ليسمع صوت المبولة. أنا أعرف مكاني يا سيدي. ولا أحلم أن أتحداك. كانت غلطة يا سيدي. اغفر لي يا سيدي".

سمع المحامي دي سوزا بائع الكتب، وهو رجل صغير الحجم بشعر زيتي وشارب أنيق، بما جرى، وجاء إلى المخفر. نظر إلى الكتاب الممنوع - كان مجلدا ضخما بغلاف رقيق ويحمل صورة ملاك على الغلاف الأمامي - وهز رأسه كأنه لا يصدق.  وقال: " ابن البائس اللعين ذاك، يعتقد أنه سيصور الآيات الشيطانية. يا لها من وقاحة".

جلس على طاولة مدير المخفر وصاح: "أخبرتك أن هذا سيحصل إن لم تعاقبه. أنت المسؤول عن كل ذلك". نظر راميش إلى زيروكس نظرة ملتهبة، وكان يستلقي على السرير بصبر، كما طلبوا منه.

قال: "لا أعتقد أن أحدا شاهده يبيعه. وستجري الأمور على أتم ما يرام".

وطلب راميش ليخفف من غلواء المحامي من شرطي أن يأتي بزجاجة روم الكاهن العجوز. وتبادل كلاهما الكلام قليلا.

قرأ راميش فقرات من الكتاب وقال: "لا أرى دواعي هذا القلق في الواقع".

قال دي سوزا وهو يحرك رأسه: "المسلمون عنيفون. عنيفون".

وصلت زجاجة الكاهن العجوز. شرباها في نصف ساعة وذهب الشرطي ليأتي بغيرها. وكان زيروكس في زنزانته هادئا، ينظر إلى السقف، تابع الشرطي والمحامي الشرب. سرد دي سوزا لراميش متاعبه، وأخبر مدير المخفر المحامي بمتاعبه. أحدهما أراد أن يكون طيارا يحلق بين الغيوم، ويطارد المضيفات. والآخر - لم تكن لديه رغبات سوى العمل في سوق البورصة. وهذا كل شيء.

في منتصف الليل سأل راميش المحامي: "هل تريد أن أخبرك بسر؟".

وقاد المحامي خلسة إلى السجن وأبلغه بسر. بالاأنه بالإمكان خلع أحد قضبان الزنزانة. وخلعه الشرطي، وحرره، وأعاده إلى موضعه. وقال: "احذر. لا يحصل هذا كثيرا في هذا المخفر. ولكن هذا ما يجري حينما يحين الأوان".

ضحك المحامي. حرر القضيب وألقاه على كتفه، وقال: "ألا أبدو الآن مثل هانومان ؟".

قال الشرطي: "نعم. مثل التلفزيون تماما".

طلب المحامي فتح باب الزنزانة، وفتحت له. شاهد الاثنان السجين مستلقيا على فراشه، ذراع تغطي وجهه لتحميه من وخزات النور القادم من زجاجة ضوء عارية فوقه. وظهر جلد عار فضي تحت قميصه البوليستر الرخيص. وشعر أسود غزير مسترسل، وبدا لناظريه كأنه ينمو من حضنه. وبالكاد يمكن رؤيته.

قال: "هذا اللعين ابن المنبوذ. انظر كيف يشخر".

"كان والده ينظف البراز- وكان أصدقاؤه يعتقدون أنه سيرمي هذا البراز عليهم".

"يبيع آيات شيطانية. ويبيعها أمامي، كيف يجرؤ؟".

"هؤلاء الناس يعتقدون أنهم يمتلكون الهند. أليس كذلك؟. يريدون الحصول على أي عمل ممكن، وعلى كل الشهادات الجامعية. وكل ال...".

جر راميش سروال الرجل الذي يشخر. رفع القضيب عاليا، وعندها قال المحامي: "افعلها مثل هانومان حين يظهر في التلفزيون". استيقظ زيروكس وهو يصرخ. قدم راميش القضيب لدي سوزا. وتناوب الشرطي والمحامي. ضرب القضيب على ساقي زيروكس، عند مفصل الركبة، كما يفعل المهرج في التلفزيون، ثم ضرب القضيب على ساقي راميش عند أسفل الركبة بالضبط، كما يفعل المهرج إله القرد في التلفزيون، ثم ضرب بالقضيب ساقي زيروكس فوق الركبة بالضبط، ثم وهما يضحكان ويتبادلان التهنئة، ترنح الاثنان إلى الخارج، وهما يناديان على أي شخص ليقفل المخفر وراءهما.

وطيلة الليل وعلى فترات كلما استيقظ زيروكس كان يتابع صراخه.

في الصباح عاد راميش، وأخبره شرطي بما حصل لزيروكس. فقال:" اللعنة. لم يكن ذلك حلما". وأمر رجال الشرطة بمرافقة الرجل السجين إلى مستشفى هافلوك هنري العام، وطلب نسخة من جريدة الصباح، ليتمكن من الاطلاع على أسعار سوق البورصة.

في الأسبوع التالي وصل زيروكس وسط صخب وضجيج فقد كان على عكازتين، ودخل المخفر، وابنته تتبعه.

قال: "يمكنك أن تكسر ساقي، ولكن لا يمكنني التوقف عن بيع الكتب. هذا قدري يا سيدي".

قطب راميش وجهه ولكنه تحاشى عيني الرجل.

قال زيروكس وهو يرفع إحدى عكازتيه:" سأصعد إلى أعلى الهضبة يا سيدي. وسأبيع الكتب".

اجتمع راميش وبقية رجال الشرطة حول زيروكس وابنته وتوسلوا إليه. ولكن أراد زيروكس أن يخابروا دي سوزا، وفعلوا ذلك. جاء المحامي مع شعره المستعار، وبرفقة مساعديه، وكلاهما بالرداء الأسود والشعر المستعار. وحينما سمع لماذا استدعاه الشرطي انفجر بالضحك.

قال لراميش:" هذا الشاب يعاندك فقط. ولا يمكنه صعود الهضبة وساقه هكذا".

وأشار دي سوزا بأصبعه إلى منتصف قامة زيروكس وهو يقول: "وأنت إذا حاولت بيعه احذر - لن أكسر ساقيك فقط في المرة القادمة".

ضحك شرطي.

نظر زيروكس إلى راميش مبتسما بطريقته التهكمية. وانحنى وطوى راحتيه وقال: "اتفقنا".

جلس دي سوزا ليشرب روم الكاهن العجوز مع الشرطة - وجهزوا لعبة ورق أخرى. قال راميش إنه فقد بعض النقود في الأسبوع الماضي في السوق. وامتص المحامي أحد أسنانه وهز رأسه، وقال إنه في مدينة كبيرة مثل بومباي لا يوجد غير الغشاش والكذاب والبلطجي.

استدار زيروكس بمعونة عكازيه، وغادر المخفر. وتبعته ابنته. وتوجها إلى المنارة. واستغرق الصعود ساعتين ونصف الساعة، وتوقفا ست مرات ليشرب زيروكس الشاي، أو كوبا من عصير القصب. ثم مدت ابنته الملاءة الزرقاء أمام حديقة ديشبريمي هيماشاندرا راو، انحنى زيروكس وجلس على الملاءة، ومد ساقيه ببطء، ووضع بجانبه كتابا كبيرا بغلاف رقيق. وجلست ابنته أيضا لتراقب الكتب، وظهرها مستقيم ومنتصب. وكان الكتاب الممنوع في كل جمهورية الهند، هو الشيء الوحيد الذي نوى زيروكس أن يبيعه: كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي.

***

........................

أرافيند أديغا Aravind  Adiga  كاتب أمريكي من أصول هندية. حاز على البوكر البريطانية عن روايته "النمر الأبيض". وهذه القصة فصل من روايته "ما بين اغتيالين". ويقصد اغتيال المهاتما غاندي وأنديرا.

في نصوص اليوم