ترجمات أدبية

وفاة موظف حكومي

أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

ذات مساءٍ لطيف كان موظّفٌ حكومي لا يَقلُّ عن المساء لطفًا يُدعى إيفان دميتريتش تشيرفياكوف يجلس في الصف الثاني من الأكشاك مُحدّقًا من خلال نظّارته الخاصّة بالمسرح يشاهد أوبرا "أجراس كورنفيل". راح يطيلٌّ النظر وهو يحسّ أنه في ذروة النعيم. ولكن فجأةً.. وفي القصص كثيرا ما تصادفِ المرءَ عبارةُ "لكن فجأة". والمؤلفون مُحِقّون: فالحياة مليئة بالمفاجآت! لكنْ فجأة تغضّنَ وجهه، واختفت عيناه، وتوقفت أنفاسه.. انتزع النظّارة عن عينيه وانحنى و.. "أتشي !!" وعطس، كما يمكنك أن تتخيّل. ليس من المستهجن أن يعطسَ أحدٌ في أي مكان. الفلاحون يعطسون وكذلك أمناء الشرطة وحتّى المستشارون السِريّون أحيانًا. الرجال جميعًا يعطسون. لم يرتبك تشيرفياكوف على الإطلاق. مسح وجهَه بمنديله، وأجال النظر حوله، مثل أي رجل مهذّب ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدًا بسبب عطاسه. ولكن بعد ذلك استولى عليه الارتباك. فقد رأى رجلاً عجَوزًا يجلس أمامه في الصف الأول من الأكشاك يمسح رأسَه الأصلعَ وعنقَه بقفّازِه بعناية ويغمغم شيئًا بينه وبين نفسه. عرف تشيرفياكوف الرجلَ العجوز، بريزالوف، الذي كان مديرًا عامًّا يعمل في وزارة النقل.

قال تشيرفياكوف في نفسه: "لقد رششته". هو ليس رئيس قسمي، لكنّ الأمرَ يظلُّ مُحرجًا. ينبغي أن أعتذر".

تنحنحَ تشيرفياكوف وانحنى بجسمِه كلِّه إلى الأمام، وهمس في أذن المدير العام.

"المعذرة يا صاحب السعادة. لقد رشَشْتك عن غير قصد.."

"لا يهمّ، لا يهمّ."

"بحق السماء سامحني، أنا.. أنا لم أقصد ذلك."

"أوه، رجاءً اجلس! دعني أستمع!"

شعر تشيرفياكوف بالحرج، ابتسم بغباء، وراح يحملق بالمنصة. كان يحملق بها، لكنه لم يعد يُحسّ بالبهجة. بدأ القلق يساوره. وفي فترة الاستراحة صعد إلى بريزالوف وسار بجانبه وتمتم وقد تغلب على حيائه:

"لقد رششتك، يا صاحب السعادة، سامحني.. كما ترى.. لم أفعل ذلك كي.."

"أوه، هذا يكفي.. لقد نسيتُ الأمر، وأنت لا تتوقف عن الحديث عنه!" قال المدير العام وهو يحرك شفته السفلى وقد نَفِد صبره.

قال تشيرفياكوف في نفسه وهو ينظر بعين الريبة إلى المدير العام: "لقد نسيَ، لكن ثمّةَ ضوءٌ شيطانيٌ في عينه. وهو لا يريد أن يتحدث. يتعيّن عليّ أن أشرحَ له.. أني حقًّا لم أتعمّد.. أنّ هذا هو قانون الطبيعة، وإلا فإنه سيظنّ أني قصدت أن أبصق عليه. لا يظنُّ ذلك الآن، لكنه سيظّن ذلك لاحقًا!"

عند عودة تشيرفياكوف إلى البيت، أخبر زوجته عن مخالفته للأخلاق الحميدة. وقد صدمه أن زوجتَه لم تأخذ الحادثة على محمل الجدّ. أحسّت بشئٍ من الوَجَل، لكن عندما علمت أن بريزالوف في قسم مختلف، اطمأنت.

قالت: "مع ذلك، فمن الأفضل لك أن تذهبَ وتعتذر، وإلا سيظنُّ أنك لا تعرف كيف تتصرف بصورةٍ لائقة في الأماكن العامة".

"هو ذاك! لقد اعتذرت بالفعل، لكنه تعامل مع الأمر بطريقةٍ غريبة.. لم يقل كلمة منطقية واحدة. لم يكن ثمّةَ وقتٌ للتحدث حسب الأصول".

في اليوم التالي، ارتدى تشيرفياكوف بدلةً جديدة وحلق شعره وذهب إلى مكتب بريزالوف ليشرح الأمر. دخل إلى غرفة استقبال المدير العام ورأى هناك عددًا من مُقدّمي الالتماسات وكان بينهم المدير العام نفسه، وقد شرع في مقابلتهم. بعد مقابلة عددٍ من مقدمي الالتماسات، رفع المدير العام عينيه ونظر إلى تشيرفياكوف.

"بالأمس في أركاديا، إن كنت تتذكر يا صاحب السعادة،" بدأ تشيرفياكوف، "عطست و.."

"ما هذا الهراء.. إنه فوق الاحتمال!" ثم قال المدير العام مخاطبًا مقدم الالتماس التالي: "ماذا يمكنني أن أفعل لك"،

"لن يتكلم"، قال تشرفياكوف في نفسه وقد أعتراه الشحوب. "هذا يعني أنه غاضب.. لا، لا يمكن أن يظل الأمر هكذا.. سأشرح له".

عندما أنهى الجنرال حديثه مع آخِر المُراجعين واستدار متجهًا نحو مكتبه الداخلي، تقدّم تشيرفياكوف خطوةً نحوه وتمتم:

"يا صاحب السعادة! إن جاز لي أن أزعج سعادتك، فهذا ببساطة نابعٌ من شعور بالأسف!.. لم يكن عن قصد، إن تكرّمتَ وصدقتني".

بدا الضيق على وجه المدير العام ولوّح بيده.

قال وهو يغلق الباب خلفه: "ما هذا؟ أنت ببساطة تسخر مني أيها السيد".

"أين السخرية في ذلك؟" فكّر تشيرفياكوف، "ليس هناك شيء من هذا القبيل! إنه مدير، لكنه غير قادر على الفهم. إذا كان الأمر كذلك، فلن أعتذر لهذا المُدّعي بعد الآن! فليأخذه الشيطان. سأكتب إليه رسالة، لكنني لن أذهب. لا والله، لن أذهب".

هذا ما دار في خَلَد تشيرفياكوف وهو في طريقه إلى البيت. لم يكتب رسالةً للمدير، راح يفكر ويفكر ولم يستطع أن يُؤلّف تلك الرسالة. كان لا بدّ له أن يذهب في اليوم التالي ليشرح الأمر بنفسه.

تمتم عندما رفع الجنرال عينيه المستفسرتين نحوه: "لقد غامرتُ بإزعاج سعادتك بالأمس، لا لكي أسخر، كما تفضّلت بالقول. كنت أعتذر عن رشّك بالعُطاس.. لم أفكّر بالسخرية منك حتى في الحلم. وهل أجرؤ على السخرية منك. إن اعتدنا على السخرية فلن يبقى هناك احترام للناس، سيكون هناك.."

"أخرج من هنا!" صرخ المدير العام، وتحوّل لونه بغتةً إلى الأرجواني، وراح بدنه كلّه يرتعش".

"ماذا؟" سأل تشيرفياكوف بصوت خافت.

"أخرج من هنا!" كرّرَ المدير العام وهو يضرب الارض بقدمه.

بدا أنّ شيئًا ما راح ينهار في أعماق تشيرفياكوف. لم يرَ شيئًا ولم يسمع شيئًا،. سار متمايلًا نحو الباب، وخرج إلى الشارع، ومضى مترنحًّا.. وصل إلى البيت بصورةٍ آليّة، ودون أن يخلعَ بدلته، استلقى على الأريكة ومات.

***

...............

نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف، المولود في تاغانروغ في جنوب روسيا في عام 1860، أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. كتب 17 عملًا مسرحيًا وأكثر من 500 قصة قصيرة، ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: "نورس البحر" (1895)، "العم فانيا" (1899)، "الشقيقات الثلاث" (1900)، "بستان الكرز" (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدبالرحلات، والثاني كتاب مذكرات. 1904 توفي في أحد فنادق مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. ونُقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

 

في نصوص اليوم