ترجمات أدبية

جيني إيربينبيك: رمل

بقلم: جيني إيربينبيك

ترجمة: صالح الرزوق

***

تستلقي جدتي على كرسي الحديقة فوق الأعشاب. تأخذها نوبة وسن في شمس ما بعد الظهيرة، وقد وضعت على أنفها للحماية ورقة نبات بلاستيكي حمراء. ولهذه الورقة عروق منتفخة كأنها حقيقية، وقد صممت لغاية حماية الأنوف من الشمس. وقفت بجانب كرسي الحديقة أتأمل جدتي. شعرها رقيق محمر، تلمع من تحته جمجمتها الشاحبة، عيناها مغلقتان، ولكن حتى في نومها تشمخ بوجهها، وتعرض أنفها الأقنى مع ورقة الحماية، للشمس، ولا تسمح لرأسها بالسقوط على جانبها، ويبدو بدنها فقط أثقل مما هو عليه في حالة اليقظة، كما لو أنه ذاب بالحرارة، وتدفق شحمه في ساعديها وساقيها، وكل ما يمكن لجلدها أن يفعل هو الاحتفاظ بتماسك هذا الارتخاء الشبيه بعمود ضخم، وهو رقيق، رقيق لدرجة أنه يوشك على التمزق، كما أنه حساس ومتجعد، ومشع كأنه لؤلؤة أصيلة. من الطرف الذي أقف فيه، تدلت يد من يدي جدتي، لمستها بحذر بأناملي لأرى إن كان سيصدر عنها صوت خشخشة. لكنها لم تخشخش. وهذا يعني أنها حية. كانت جدتي تضع خاتما له حجرة كريمة مربعة ولا تخلعه من يدها. ولذلك أصبح الخاتم في مسيرة حياتها دائما ولا يمكنها انتزاعه بسبب تورم جسمها. ولتتحرر من هذا الخاتم، عليها أن تبتر أصبعها، كما أعتقد، ثم تقفز على السلالم، سلمتين اثنتين اثنتين، حتى يفضي بها السلم إلى غابة من الشوكيات، فتمر من خلالها إلى الماء.

وأرى جدتي بعد الظهيرة، حينما تأتي إلى الشاطئ لتسبح يوميا في البحيرة. وها هي تخطو قدما، بكامل قامتها، ورأسها مغطى بقبعة استحمام زرقاء تتخللها انثناءات، وبقية جسمها مستور تحت بيكيني من خياطة يدوية. وقدماها البيضاوان أكثر بياضا من المعتاد، وتبدو مزخرفة بصور الأزهار، لأنها ترتدي حذاء استحمام مطاطي كبير الحجم. وبهذه الطريقة تتابع الجدة نحو السلالم التي تقود إلى البحيرة، وتهبط نحوها خطوة خطوة، وما أن تبلغ آخر سلمة، تتابع المشي لفترة طويلة قبل أن تباشر السباحة. ودون أن ترتجف، تكمل مسيرتها بقدم منتعلة فوق مختلف النفايات المخفية تحت السطح: الوحل الناعم الذي يبتلع بهدوء قدم المرء، والنبع البارد الذي يشكل البحيرة متسللا من تحت الوحل، والأغصان الصغيرة، والثمار السوداء لنبات جار الماء التي تمخر عباب الماء - حتى ترسب في القاع، وشظايا الزجاج وبقايا الأشنات. أنا أتجول في جزيرتي، مثل دولاب مطاطي كبير، وأراقب جدتي وهي تدخل في البحيرة، وأتخيل السمك الأحمر يسبح حول تلك الأعمدة الممتلئة. وبعد الوصول لعمق معين، تسلم نفسها لسطح الماء، تستلقي على ظهرها، وتعوم، أسمي هذا الأسلوب بالسباحة باسم طواف الرجل الميت. حاولت أن أقلدها بعدة مناسبات، ولكن كنت أغوص دائما: أبدأ بالساقين، ويبدأ جسمي بالهبوط رغما عني مثل شمعة تذوب في حرارة الشمس. وتعجبني جدتي لأنها قادرة على السباحة دون حركة، وربما سيجرها إلى الأسفل، البيكيني المصنوع يدويا، بعد أن يتشرب الماء، وهناك تحتها يعوم السمك الأحمر بمسار متعرج نحو الأمام والخلف. والآن لا أرى منها غير أنفها فوق سطح الماء كأنه زعنفة ذيل سمكة قرش.

ما بين سباحتها وغدائها، مثلما هو الحال في الصباح، تعود جدتي إلى العمل. العمل يعني المكوث في غرفتها، تغلق الباب، وتحفظ النصوص غيبا. أحيانا أقف في الممر لأصغي. وهذا الممر مجرد معبر في الخزانة، فهناك خزانات محفورة في الجدران، وهي موصدة، والمفاتيح مع جدتي فقط. والرائحة الخفيفة للملاءات المكوية الحديثة تتسلل من هذه الخزانات - وأنت لا تعرف محتويات هذه الخزانات - وهي متصلة بدون إضاءة مع الغرفة المغلقة والتي أعلم بالتأكيد أنه لا أحد فيها غير الجدة. ومع ذلك يأتي منها عدد كبير من الأصوات التي لا أعرف أصحابها.

بيني وبين هذه الأصوات باب من زجاج مضاعف مثبت عليه، ويقعقع كلما ذرعت جدتي الغرفة بخطواتها إلى الأمام والخلف. وأحيانا يظهر خيالها عبر هذا الزجاج، وأشعر بالدهشة كلما نظرت إلى خيال جدتي في حين أن الصوت المسموع يدل بوضوح على بنت صغيرة وهي تتلو: أخرج من أعماق غرفتي الصامتة / الآباء الرماديون في الدولة، دون اختيارنا / أنا قادمة، وبعيدا عن نظراتكم، أزيل / الحجاب الذي يظلل قممي المعزولة /.

بعد لحظة، وظل جدتي لا يزال مرئيا، أسمع صوت رجل يتكلم، يقف هناك وبصوت ينم على التحدي، يقول: حينما كنت طفلا كنت أنظر إلى الشمس. تبع ذلك صمت طويل. وهذا الصمت تمخض عن صوت لا هو نسوي ولا ذكوري، ويشبه هزيم الرعد، وجعل الزجاج المضاعف يرتعش. ماهاديفا، يا إله الأرض. ومن بين هذه الكلمات، بقيت صيحة تعجب واحدة لا يبدو أنها تتعارض مع الخيال المسحور الذي أمامي بأنفه الشبيه بذيل سمكة قرش. على الرمل. على الرمل. يوجد كل ما بنته يد البشر. وأنا أسمع صوت جدتي الذي أعرفه، ولكن مثل بقية الأصوات، أتساءل هل جدتي تحاذر أن لا تتكلم كثيرا معي حينما تخرج من هذه الغرفة لأنها تتوجس من كل هؤلاء الآخرين الذين سكنتها أصواتهم. فقد يقفزون من فمها مثلما تقفز الضفدعة من فم الأميرة الدميمة كلما ذكرت كذبة.

ليس لدينا ضيوف، ولكن لدينا إلى جانب جدتي اثنان يظهران يوميا في بيتنا.

أولا هناك الحدائقي، مسلح بمقص تقليم كبير، وينشغل بمعركة لانهائية ضد القفر الذي يبدأ من أطراف الحديقة. وكل دخيل يجعله يغضن جبينه. وهذا الجبين يشبه صخرة عالية وقاسية وتخلو من الشعر. وكل شيء معوج يتم قصه ليتحول إلى خطوط مستقيمة، وكل شيء طويل يقصره. أيضا يشطر حطب الموقد، وينظف أنابيب الماء، ويطرق المسامير بالجدران. وكلما رأيته، يكون بين يديه العظميتين أداة معدنية ثقيلة يستعملها لطرق ووخز وقص شيء ما. وأحيانا أتساءل هل يستفيد من لياليه، حينما لا يعمل هنا على خدمتنا، ليخدم نفسه: فيقص شعره حتى لا يبقى إلا القليل منه كي يغطي به الجزء المتعرق منه، ويقضم أظافره، وينفخ خديه، ويشد الجلد على أطراف جمجمته.

الضيف الآخر في بيتنا هي التي تطبخ لنا لأن جدتي لا تتقن الطهي. ولهذه المرأة وجه جديد كل عام. إما أنها تثرثر كثيرا، أو تبكي باستمرار، الثالثة تدعو كل عائلتها معها، والرابعة لم نطردها بأنفسنا، فقد فرت من السجن وجاءت الشرطة في أحد الأيام وراءها. الطاهيات يأتين ويذهبن، ولكن في الغداء ثلاث أطباق أساسية. هناك حساء لحم العجل النقي، أو حساء البندورة مع القشدة، وهناك عدة أنواع من حساء القشدة مع خضار الطبق الأساسي التالي، أو عصيدة مخفوقة بالبيض، ويتبعها قرنبيط مشوي وحار مع فتات الخبز، أو الأسبراجوس مع صلصة البيض، أو لحم العجل المسلوق، أو البطاطا المسلوقة بقشرتها وبجانبها الجبنة الطرية والأعشاب، أو السمك المشوي والأرز، وهناك الغولاش ومكعبات اللحوم، أو الحساء مع الكثير من بذور الكراوية. وبين حين وآخر هناك صحن صغير من لحم الرأس لجدتي، لحم الرأس، لحمة دماغ العجل، وأراقب جدتي وهي تأكل، وتدس هذا الدماغ المفروم في فمها ورأسها، وأتساءل إن كانت هذه طريقتها لامتلاك كل تلك الأصوات المتباينة. وهناك الجبنة الطرية مع الفريز، المثلجات مع القشدة المخفوقة، سلطة الفواكه، حلويات الفانيلا، التوت. ثم تحين الاستراحة. فأرى الجدة والورقة البلاستيكية ذات العروق على أنفها، وأكون أنا في ظل الهوثورن، وعلى مبعدة تقعقع الطاهية بالأطباق، ويشذب الحدائقي الحديقة بحزم من الأغصان التي يبترها،

وحين يفترض أنني نائمة، ألهو بتمشيط أطراف اللحاف الصوفي الذي أستلقي تحته. لا أود أن أنام، فهو يضجرني، وأنتظر فقط تلك الهمسات العميقة التي تعيش في رأس جدتي وتظهر حينما تغرق بالنوم. ثم أقفز على السلالم، اثنتين اثنتين، لتقودني من بين الشجيرات الشوكية حتى الماء.

بعد العشاء ومع بداية الليل، غالبا يأتي سائق جدتي لينقلها إلى البلدة. وبخلاف تبدل الطهاة، بقي السائق نفسه كل هذه السنوات، بقبعة مثقوبة يرفعها دائما للتحية، وبما أن القبعة بقبت نفسها كل هذه السنوات، فإن البقعة التي يمسكها منها أصبحت لماعة جدا من الدهون. كانت جدتي تظهر على مسرح البلدة، أمام الجمهور - فهي ممثلة، وتوجد في غرفة المعيشة صورة تعلن عن ثمن التذكرة التي يتوجب على الناس دفعها ليستمعوا إلى كلامها. وأسعدني أن أشتري تذكرة لأسمع جدتي تتكلم، باعتبار أنها لا تكلمني دائما، وأنا غير مهتمة حقا إن كان هذا صوتها أو أنه صوت آخرين تتقمصهم، ولكنها لم تصحبني معها أبدا. وقبل أن ينصرف السائق من أمامي، يضيف سلسلة من الحركات زادت من لمعان قبعته، ثم يفتح الباب للجدة، ويمد ذراعه، وبعد أن ترتاح بمجلسها، وتنجح بلملمة كل أجزاء ثوبها الطويل الزاهي في الداخل، يغلق الباب بهدوء ويبتعد بها.

في الليل لا يوجد طاه، والأعشاب التي وضعتها في زجاجات صغيرة مليئة بالماء وتركتها على حافة نافذة المطبخ، بدأت بالذبول والانحناء، وبقايا الخبز يغطيه عفن كالزغب، وأباريق الشاي فقدت أغطيتها، وانكسرت الأطباق إلى أجزاء، واصفر السكر في العلبة، ولحقت الرطوبة بالملح، وأمكنني أن أرمي به أي شخص كأنه حجرة لو كان هناك أحد.

ليلا يغطي الصدأ السكاكين، وتنتفخ الأدراج ولا يمكن تحريكها، وتتسابق الدلق (تشبه بنات عرس. "هامش مترجم") في العلية مع بعضها البعض، وتستعمل أسنانها، وتتبول على السقف فوق رأسي، وتتجمد الستائر وتتمزق، وتتمدد إطارات النوافذ، فتتحرر ألواح الزجاج، ويتطاير الزجاج، ويتساقط ويتناثر - كل ذلك والطاهي غير موجود. وفي الليل الحدائقي غير موجود، فقد ذهب إلى بيته، وهناك يقف أمام مرآة قذرة، يخاصم نفسه، ويشد شعره. ويحفر خديه بالمقص، ويغرس أسنانه في يديه، ولا يوجد هناك أحد ليغضن جبينه أمام هذه الفوضى، ولا أحد يجعل الوقت على فترات مرتبة، وفي الليل يمكنني الاستماع لصوت نمو العشب، ويمكنني الاستماع للعشب وهو يتلوى ويخرج من الأسفل ليستعمر الممرات. الطاهي غير موجود. والحدائقي غير موجود - وأنا - أنا - أنا أنتظر جدتي.

حينما أكون طويلة بما يكفي لأقدم ذراعي لجدتي في نزهاتنا، ستقدم لي التعليمات بأسلوبها الفني في الإلقاء. فهي تجزئ الكلمة إلى حروف مستقلة وسأعمد لتهجئتها مرارا وتكرارا حتى لا يبقى لها معنى ولكن تبدو مألوفة، لغة بذاتها. ما، مي، مو، ميو، ماو، موي، ماي. ثم تقدم لي جملا أرددها، كأنها حجارة في الفم حتى يتعلم لساني كيف يناور من حول المعوقات.

في البداية تقريبا اختنقت وأنا أجرب هذه الطريقة وفوق ذلك وأنا أركز كي لا أتقيأ، ولكن بالنهاية تسمع ما يشبه طرقات الحصى على السن حينما أتكلم، ويكون صوت الجملة واضحا ومفهوما، سواء كانت جنوب، أو شمال، أو غرب أو شرق الصخرة التي وضعتها جدتي في فمي.

تبقى تجربة أقف فيها أنا وجدتي متواجهين كل في زاوية من الغرفة. ننادي بعضنا البعض: هاي. مرات ومرات. هاي. هاي. ولا أفهم لماذا حينما أقف في غرفة برفقة جدتي، ويمكنني رؤيتها جيدا وتماما، يجب علي أن أناديها هكذا، وفي النهاية تأتي لحظة يصبح فيها صوتي شعاعا موجها إليها، وهي اللحظة التي أشعر فيها لأول مرة أنني وصلتها.

والآن أنا في بيتي وفي بلعومي، حنجرتي، سقف حلقي، وقد امتلكت الكلمات، وهي تعيش على لساني وبين شفتي، أتنفس بأنفي حتى أعماق جسدي وأغذي الكلمات بالهواء. وجدتي تعلمني كيف أنطق عدة جمل متتاليات كي أرسم بها مشهدا طبيعيا، وتعلمني كيف أتأنى، وألزم الصمت. ثم تعلمني أنه بإمكانك أن تبكي حين تودين البكاء. وأن تضحكي حينما تريدين الضحك. ابكي أو اضحكي بأعلى صوت وأطول فترة تريدين. وأخيرا علمتني كيف أتراجع وأكون وراء صوتي، كما لو أنني أعير جسدي لشخص يود أن يتكلم، وهكذا يمكنه أن يؤكد حضوره، وأعيره أفكاري ليفكر بها، ومشاعري ليحس بها. والآن أرى لماذا لم تتكلم جدتي معي بصفتها الجدة - فقد تراجعت كثيرا وراء صوتها ولم يعد بإمكانها رؤية حفيدتها. وفي نهاية الأمر بدأت أمثل علنا لنفسي. تلوت القصائد، والعروض والمونولوجات من مسرحيات، وجاء الناس ودفعوا ثمن الدخول ليسمعوني أتكلم. وأول عدة أمسيات، جلست جدتي بين المشاهدين وصفقت لي بيديها الناعمتين غير القادرتين على إصدار صوت. ثم قالت: لن أمثل بعد الآن، فأنت تتقنين عملك. قالت ذلك كما لو أنها تتخلص من كومة طوب كبيرة وثقيلة. استلقيت هناك تحت التراب والحجارة لأقول كلا، ولكن جدتي قررت أن لا تستمع لاعتراضي. ومن هذا اليوم، توقفت عن التمثيل فعلا، ولكن في البيت ما زلت أسمع كلامها وراء أبواب مغلقة، كما لو أنها تتمرن، ولكنني لم أعرف هذه النصوص ولم يمكني فهم الكلمات، وأحيانا أسمعها تضحك، ولكن ليست هذه هي الضحكة التي تعلمتها منها، عالية وطويلة كما تريد. ولكنها رقيقة، ضحكة شبح قديم، بالحقيقة ضحكة صبية. بالتدريج علمت أنها ضحكتها وقد استعادتها مثل ضحكة ضائعة، ضحكة شبابية وجدت طريق العودة إلى جسم عجوز، وقد ولجت فيه الآن. حينما سألتها مع من تتحدث، وبأي لغة، قالت إنها تتحاور مع الطيور، ومع كلب الجيران الذي ينبح عليها دائما، فتنبح للرد عليه. رفعت واحدة من شفتيها الذابلتين: هذا يعني أنها تبتسم.

في الصباح التالي رأيتها تمشي حول أطراف الحديقة، ومجددا توقفت عدة مرات للاستماع. كانت تمشي بصعوبة، حوضها ينثني، وذراعاها معقودان خلف ظهرها، فتبدو من الخلف كما لو أنها رهن الاعتقال. ثم ثانية وقفت بلا حراك، لتحدق بالغابة، وهزت رأسها كأنها تتساءل ولم يعجبها الجواب الذي جاءها من الغابة. بعد أن أمضت وقتا طويلا تستمع لمناطق مختلفة من الأغصان والفروع الممتدة نحوها، عادت إلى البيت وجلست على مقعد في الصالة لأتمكن من تخليصها من حذائها، والذي له قفل فضي ضخم كالسفينة، ومبتل بالندى. سألت: في أي عالم اختفى الحدائقي؟. قلت لها: الحدائقي مات قبل المسيح. قالت: آه، لم أكن أعلم. وابتسمت ثانية. وحينما استعدت للنهوض مدت لي يدها، يدا دبقة مثل لحاء الأشجار المشقوقة والتي تسيل منها العصارة قبل القطع.

ضاعت جدتي عدة مرات. بعد أن تفحصت كل شبر من الحديقة حتى أطرافها، خرجت إلى الشارع، وتجولت بخطوات مرهقة ولكن واثقة، وهي تجدف بذراعيها مثل سلحفاة، وكأنها تريد أن تنفصل عن الهواء وتترك بسرعة كل شيء وراءها. مرة رأيتها واقفة أمام مدخل جانبي لبيت الجيران، وهو باب مهجور على ما أذكر. وكان مغطى كله باللبلاب، والمقبض صدئ. هبطت جدتي على السلالم التي غطاها الطحلب وبدأت تدق على الباب بقبضتيها المرفوعتين. قبضت على ذراعها وقدتها إلى البيت. سألتها: عمن تبحثين؟. ردت: على أمي. فهي وراء الباب. سألتها: وراء ذلك الباب؟. قالت: نعم.

وكيف علمت؟.

تكلمت معها بالأمس.

سألتها: حول ماذا؟.

قالت: حول كل شيء. حول كل شيء يقلقني. وكل شيء يسعدني.

وأحيانا تفرط جدتي بإضافة المساحيق. أو تنسى أن تغلق سحاب بنطالها، وأحيانا توجد بقع على بلوزتها، أو أن أظافرها وسخة، وتنسى تنظيف الشعر الذي ينمو على وجهها. والآن لا تشبه المرأة بهيئتها، ولكنها تظهر مثل شيء قديم، غير بشري، مثل حيوان أو نبات، كما لو أن العمر يقربها من حالة مموهة، وهي خطوة ضرورية قبل أن تتمكن في النهاية من الاندماج بالطبيعة.

ولم يعد يبدو أن جدتي تنتمي لجسدها هذا. فقد بلي وتلف. سألتني: هل يجب أن أتغذى؟ وقلت لها: طبعا.

قالت: هذا يكفي. وأبعدتني عنها حينما حاولت أن أضيف بعض اللحوم إلى طبقها، وضعت بين أسنانها ورقة خس فقط، بالتدريج، ثم نقبت في طبقها عن فاكهة مسلوقة، أو حركت زبدية الآيس كريم حتى ذابت وبعد ذلك رشفتها. قالت: شيء متعب. دائما نفس الشيء، تأخذينه من أعلى ثم يخرج من أسفل. هل يجب أن نأكل؟.

 بالطبع. أحيانا تدفع حصتها نحوي لأنهي ما تبقى منها. أولا اعتقدت أن الكمية كثيرة، ثم أدركت: تريد أن تتأكد أنها تأكل ما يأكله البشر. قالت: شيء متعب.

سألتني: هل يتعين علي أن أراها لحظة موتها؟. لم أفهم هذا. قالت: لم أذهب بجنازة أبدا. ثم سألتني مجددا: هل يجب أن أشاهدها حين تموت؟. الآن فهمت. قلت لها: كلا. ليس عليك أن تشاهديها. قالت: هذا جيد.

وقالت: لم تقع عيني على جثمان. فقط ماما. لثانية فقط. ثم خلعت الخاتم ذا الحجرة الكريمة المربعة من أصبعها، وأعادته إلى أصبعها، خلعته وأعادته إلى مكانه. والآن يسهل عليها ذلك، لأن أصابعها أصبحت رفيعة. خلعته، واستعادته. قالت: لن أكون جثة جميلة.

وأصبحت عادة لي أن أنام في الليل بجانب سرير جدتي، لأنه لا تستطيع أن تجد طريقها بعد النوم. فهي لا تعرف الطريق إلى الحمام حين تستيقظ، ولم تعد لديها فكرة عن البيت الذي أمضت حياتها فيه. وأحيانا تتكلم في نومها، تصيح - على الرمل. الرمل. شيء مني لم يسمح لي أن أفقد الجملة التي بقيت أجزاؤها في حلم جدتي. كنت أستلقي بجانبها، وأحلم، وفي حلمي أعلم أن جدتي ستعيش ما دامت القصيدة لم تنتهي. وتبدو الجدة غير راضية بجوابي الصامت، فتقول: شيء غريب أن تجد كلمة واحدة طريقها للخارج من بين طبقة كلمات.

حينما أدركت جدتي أن أياما كاملة تمر أحيانا وهي نائمة، جلست على طرف السرير لتبقى متيقظة. سألتني: كيف يمكنك أن تعيشي ما دمت لا تفعلين شيئا غير النوم. لا تزال قوية بما فيه الكفاية لتضع قدميها على الأرض حين تنهض، ولكن قدميها عاريتان لأنهما لا تناسبان خفها المنزلي. تداعى جسم جدتي، ولكنه لا يزال رطبا، مثل سفينة يتسرب منها الماء، وحين تجلس، يسرع الماء إلى قدميها. ويمكنني رؤية أصابع قدميها وأعلم أنها أصابع قدمي جدتي. وهي مثل شكل أصابع قدمي الأصلي. ولكن الماء يهاجم هذا الشكل من الداخل، وتجمع قوتها لتنفجر. والآن لا يمكنني التوقف عن التفكير أن البحيرة وجدت طريقها إلى جدتي في النهاية. وأنا أراقبها وهي جالسة لعدة أيام وليال. قالت: ولطالما أنا جالسة أنا حية. وأنا جالسة.

ثم حان اليوم الذي أقول فيه: السيارة في الخارج أمام البيت.

شكت الجدة أن السائق لا يزال حيا. قلت لها: بالتأكيد هو على قيد الحياة. حدقت بالسائق، الذي فتح الباب لها دون أن يرفع قبعته بالتحية، حتى أنه كان بدون قبعة، فقالت جدتي: هذا ليس سائقي. قلت لها: طبعا هذا هو عينه، ودفعتها على المقعد، وثنيت ساقيها، ورفعت قدميها حتى أصبحتا في داخل السيارة. ولدى عودتي من المستشفى، صعدت إلى الأعلى وبلغت خزانة المعبر، وأصغيت للباب الذي يقود إلى غرفة جدتي. ارتجفت ألواح الزجاج المضاعف بهدوء حينما اقتربت، وعدا ذلك بقي كل شيء ساكنا. رائحة الملاءات المكوية مؤخرا فاحت من الخزائن، وكانت مغلقة، وكنت أعلم أين علقت المفاتيح باعتبار أنني مسؤولة الآن على البيت. تناولت المفاتيح من الخطاف، وفتحت الخزائن، ونظرت إلى كومة الملاءات المنشاة، وإلى واقيات الوسائد المطرزة، وإلى زوج جوارب مطوية وصف طويل من البلوزات. حافظت على ترتيب الملاءات كما اعتادت جدتي أن ترتبها طيلة حياتها، وغسلتها وكويتها وطويتها، ثم علقت المفاتيح بمكانها. حاكيت حساسية جدتي بالترتيب. ولكنها هربت، وأنا أعلم ذلك الآن، ولم تكن مضطرة لتحمل معها شيئا في هروبها، فجأة ببساطة تحولت لشيء آخر، مثل مومياء تحولت إلى غبار حينما تم اكتشافها، وذهبت مع الريح. والآن أتذكر جملة قالتها لي في أحد تلك الأيام حينما ضلت طريقها.

وجدتها في زاوية الشارع، وقفت هناك، تمد يدها لكل المارة. سألتها: لماذا تصافحين كل هؤلاء الأغراب؟. أجابت بدون أن تتوقف عن تحية كل من حولها: أنا في طريقي إلى الصوف الذهبي.

فتحت باب غرفة يحمل رقما أو علامة، وأردت أن أقول لجدتي تصبحين على خير. كانت في سريرها مستلقية ومغطاة، وأصبح جسدها خفيفا وبالكاد يتحمل الأغطية. حفنة جسد يستلقي هناك تحت اللحاف، ولأول مرة في حياتي انحنيت لهذا الجسد لأعانقه. لأعانق وأحضن القليل المتبقي من جدتي. عندما استدرت مجددا على العتبة، رأيتها وقد سقطت بالنوم، ولكنها كانت تمد يديها لي، حتى بعد النوم لا تزال يداها ممدوتين لي.

***

.......................

* جيني إيربينبك Jenny Erpenbeck كاتبة من ألمانيا الشرقية سابقا. حازت على المان بوكر من لندن عن روايتها "إيكاروس". القصة مترجمة من مجموعتها: الطفلة العجوز وقصص أخرى.

في نصوص اليوم