ترجمات أدبية

روكسان غاي: عن الأشباح والظلال

بقلم: روكسان غاي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أنا أراقب إميلي، عشيقتي، وهي تتنقل في السوق، وتفتش بين الأشياء والتي لا تأمل أي واحدة فينا باقتنائها. الجو حار والرائحة خانقة، حرارة تجعلك تشعرين أن مقلتيك تتعرقان، ولا تفكرين إلا بالقفز في ماء المحيط المالح للاستجمام قليلا. أنا أراقب عشيقتي لأنه أمر خطير جدا أن أفعل أي شيء سوى المراقبة. وجهها رقيق ومرسوم، ولكن حينما تتراقص أصابعها بين أشياء الزينة المحببة عندها، تشرق عيناها وترتخي عضلات كتفيها. وأتصور أنها تتخيل كيف سيكون الحال إذا امتلكت هذه الأشياء البسيطة التي ترغب بها. هناك عدد قليل من السياح في السوق، يتجولون وهم بغاية الارتباك، ويقرأون بروشورات ليست في مكانها الصحيح.  معظم الأمريكيين يأتون إلى هاييتي وهم يتوقعون أنها مثل جزيرة أروبا أو القديس كيتس. فهم ينظرون إلى كل هذه الجزر الصغيرة كأنها جزيرة واحدة، حيث الخمور تتدفق باستمرار، والسعاة الصغار ينتظرون تلبية كل احتياجاتهم. ولسوء حظهم كل الأولاد السعاة فروا من البلد ولم يعد هناك جليد لتبريد مشروباتهم. تعارفنا أنا وإميلي منذ أيام طفولتنا. كانت أمي أفضل صديقة لأمها، وشاهدنا اعتقال والدينا بسبب تأييد الانتخابات الحرة، وتعايشنا مع اختفاء أخوتنا في الريف أو المحيط، وراقبت كل منا الأخرى. كنا نراقب بعضنا البعض باستمرار. وفي إحدى المرات ونحن نجلس على الشرفة الأمامية، ونشرب عصير المانغو،  والكوب البارد لصق جبين كل منا. بعد كل رشفة، تلتفت نحوي وتقول: "أحيانا يا ماري فرانسيس، لا يهمني رؤية إنسانة سواك في هذا العالم". شقت ضجة أولاد المدارس طريقها وتجاوزتنا، وكان مجرد النظر إليهم يهيئني للبكاء. فهم صغار جدا، لكنهم ليسوا أبرياء، ويريدون أشياء لا يمكنهم امتلاكها. رفعت إميلي نظراتها نحوي. لا أحد غيري يمكنه أن يرى أنها ابتسامة، غير أنني أستطيع أن أعرف ذلك. ارتفع جفناها، والتفت أطراف شفتيها قليلا، وتلمست أصبعها ذقنها. نصبت رأسي جانبا، وتظاهرت أنني مهتمة بعلبة كورن فليكس تباع بثلاثة عشر دولارا.  مسدت أحد حاجبي وهبطت بأصبعي نحو خدي. وهذه هي طريقتي بالابتسام لها، لأخبرها أنني أود لو ألمس وجهها، وأقبض على يدها ونحن نتسوق، وأنا أهمس بأحلام لا معنى لها سوى أن ما نرغب به أكبر من قدراتنا. وببطء، اقتربت منها، متجاهلة الأكواع العظمية، والوجوه النحيلة، والعجائز المرهقات اللواتي تمتصصن شفاههن. دق قلبي مع كل خطوة، وذابت الحرقة بين الفخذين مع دقة لطيفة. كان علي أن أبتعد، ولكنني اليوم أميل للتمرد. كنت أحب تعذيب نفسي بهذه الرقصة التي أكون فيها قريبة جدا ومع ذلك أكون بعيدة أيضا. حينما أصبحت أخيرا بقربها، تفحصت بحرص  بيدي اليسرى حفنة خرز من ثيابها، وكانت يمناي متهدلة بجانبي، وأصبعان على القماشة الزهرية البالية في ثوبها، وهو واحد من ثلاثة تمتلكها. مالت نحوي، وأصبح بوسعي الإحساس بالضغط الطري لفخذها على أصبعي، وذراعها العاري لصق ذراعي. التفتت وأمكنني الإحساس بنظراتها نحوي. أجبرت نفسي على النظر قدما، ولكن كانت كأنها تتغلغل بعينيها في داخل جسمي، وتتجاوز بشرتي، وعظامي، ودمي، وتبلغ قلبي. زلقت أصابعي إلى الأعلى، على طول الأطراف المستديرة من وركها وحتى الخصر. في وقت آخر، أو مكان آخر، أو لو أنني شخص آخر، كنت سأقف وراءها، وأرعى قفا رقبتها بشفتي. وأعقد ذراعي حولها من أجل سعادة تدوم لحظة، قبل أن آخذ يدها ونتابع التجوال في السوق. ولكن بما أننا هنا وفي هذا الحال، ابتعدت حالما شاهدت جماعة من الشباب، رجال ساخطون يقتربون منا. وأشك بوجود أي سبب خاص لسخطهم. فهو السخط الذي ينتاب الرجال في هذه الأيام، فهم غاضبون من أوضاعهم و رغباتهم وأحوالهم. وهو الغضب الذي نشترك به جميعا. ولكنه غضب لا يعبر عنه غير الرجال. بدأت أمشي بالاتجاه المعاكس مع أنني أردت أن ألتفت وأهمس: أحب وأريد أن أكون برفقتك. أعتقد، في أيام مثل هذا اليوم، أنه يمكنني المشي حتى تؤلمني عضلات ساقي، احتجاجا على الإرهاق، حتى أصل المحيط، وحتى أدخل في الوقت والموضع الذي يجعلنا أنا وإميلي معا، وفي العلن. ولكن الآن، نحن امرأتان غير موجودتين. نحن أقل من خيالين، وأعلى من شبحين. ونحن نسير على درب الشائعات التي يتبادلها الجيران بأصوات مكتومة ومرعوبة. ونحن امرأتان يتجاهلهما الناس لأن حب النساء للأمريكيين فقط - وليس شيئا يتقبله شعب جزيرة تخشى الله. يوجد عدد قليل من هؤلاء يعيشون في العلن، وغالبا هم رجال، فنانون يتمخترون بألوان ساطعة في أرجاء البلدة  لأن عملهم متألق جدا. ومع ذلك يواجهون الاشمئزاز بين حين وآخر: إساءة هنا، وحجرة حادة ترمى هناك. وإذا مرضوا، تقابلهم ابتسامات حاقدة، تذكرهم بأيامهم الطيبة، وبأبدانهم التي أنهكوها بدون نفع. تم ضبطنا أنا وإميلي في إحدى المناسبات. حينها كنت في الثالثة والعشرين وهي في الثانية والعشرين. كان الوقت متأخرا وفي الليل، تقابلنا في الظلام بين البيوت. كانت أمي وأمها نائمتين، وجيراننا نائمين. لحظة شعرنا أننا آخر امرأتين في هذا العالم، واستمتعنا بالإحساس بحريتنا - حرية أن تتصرف كما ترغب. وتحت غطاء الليل اشتدت الحرارة وتعرقنا. في هاييتي تمر بعض الليالي، وتشعر خلالها كأن القمر يحرق بحرارته مثل الشمس. كانت ترتدي قميصا رقيقا وصندلا قديما. وكنت أرتدي معطفي المنزلي، وأعلى ثلاث أزرار مفتوحة. تماسكنا بالأيدي وانزوينا في أحلك جزء من الفضاء الأسود، وكل منا تتحسس وجه الأخرى بأصابعها كما لو أن ملامحنا، ربما، تبدلت في فضاء الساعات القليلة التي انفصلنا فيها عن بعضنا البعض.  لعقتها بلساني من طرف ذقنها حتى الفجوة الموجودة تحت حلقها. وشعرت بطعم ملوحة العرق، وأمكنني الإحساس بأنفاسها وهي تنبض تحت سطح جلدها. لم نتكلم، ولكن انتفت الحاجة للكلمات. وأي شيء يمكن قوله ذكرناه على امتداد السنوات. عانقت قفا رقبتي ورفعت رأسي، ووضعت شفتي أمام شفتيها، ثم قبلتني بضراوة، وتخيلت أنها ستبتلعني كلي. كانت شفاهنا جافة جدا ومتشققة، فتذوقت دمها. دفعت لساني بين شفتيها، وتحريت به الأطراف المدببة لأسنانها، التحم لسانانا.  بعد ذلك جعلتني أنخفض، وسحبت قميصها حتى كتفيها النحيلين. حضنت ثدييها بيدي، وتدفق اللحم الطري بين أصابعي. همست إميلي بكلمة واحدة، "رجاء". طرحتها على الأرض، ووضعت يدي بنهم على فخذيها. كانت الأرض تحت جسدينا دافئة، ومحرضة، ومعطاءة. ثم سمعنا شهقة، وعلمت إذا تحركت، سيسقط قلبي من صدري على الأرض. وعلمت أيضا أن كل مخاوفي على وشك أن تنتهي. نعمت بالعديد من مثل هذه اللحظات. تدحرجت إميلي بعيدا عني، ومدت يدها إلى قميصها وعقدت ذراعيها على صدرها، كما لو أنها ستختفي إذا لزمت السكون. وببطء التفت برأسي ورأيت أمي تحت حزمة رقيقة من ضوء القمر، وكان منظر وجهها مرعوبا جدا، وبعيدا جدا، وبصعوبة تعرفت عليها. استدارت وانصرفت. ولم نتكلم عن الأمر - لا أنا وأمي ولا أنا وعشيقتي - غير أننا أنا وإميلي لم نتقابل لاحقا في الظلام بين بيتينا ثانية. والآن، بعد خمس سنوات، وكلما أردنا ممارسة الحب، نتسلل إلى بيت صديقة حالما أمكننا، أو نجتمع على فترات مع من هم على شاكلتنا، نساء ورجال هم أقل من ظل، وأكثر من شبح.  عشاق صغار وحزينون. واجتماعاتنا، في ليالي يوم السبت في الغرفة الخلفية من بيت أحدهم في بورت أو برينس. يتم سكب الروم. وندفع عشر دولارات للدخول. وطيلة الوقت، نحاول أن نتظاهر أننا في نيويورك أو ميامي أو مونتريال، في بار مع الأصدقاء. ونحاول أن نبرهن على عاطفتنا. و نحاول أن نبدو أننا لا ننظر إلى الباب، خشية من إلقاء القبض علينا. وكنت أنا وإميلي نتسلل إلى الحمام، المعتم والرطب، بمساحته الضيقة التي تحد من التحرك. ونتحرى ثيابنا، ثم ندس أيدينا بين أفخاذنا، ونتبادل قبلات طويلة، وتختلط أنفاسنا، بمحاولة لاختلاس ما أمكن من البهجة من جسمينا قبل العودة إلى البيت. وفي أمسية من شهر كانون أول هادئ على نحو غريب، وقبل فترة قريبة، هاجم اجتماعنا الخاص مجموعة من الرجال، في الحقيقة صبيان. كنت جالسة مع إميلي على الكنبة، وذراع إحدانا حول الأخرى، وحينها دخل من الباب الأمامي خمسة رجال. وأمكننا شم رائحة الكحول تفوح منهم - ومعها الكراهية. كان ألبيرت يقف بالباب، وهو من الأصدقاء، فقبضوا على قميصه، وألقوا به على الجدار، وأتبعوا ذلك بكلام فظ وغليظ. وألقى أحدهم، طويل وأبيض اللون، وملامحه عريضة، الستيريو على الأرض، وباشر بضربه بعصا بيسبول. ولسبب ما، تابعت الموسيقا عزفها. امتلأ الهواء بإهاناتهم بينما الموسيقا الرقيقة تعزف. شخر الرجل ذو العصا "مثليون". جمدنا لحظة،  كلنا، الأحد عشر، مؤملين أن هدوءنا سينهي الموقف. ثم باشرنا الجري في عرض البيت، وخرجنا من الباب الخلفي، وابتعدنا عن المكان. كنا نعلم أنهم جبناء، ولكن لم نجرؤ على النظر نحو الخلف. في اليوم التالي، سمعنا أن ألبيرت في المستشفى بثلاث أضلاع ويد مكسورة، وسلسلة من الرضوض. حزنت لألمه. ولكن لم أكن أريد أن أكون أنا ولا إميلي بمكانه. ببساطة توجب علي حمل خزي آخر. تابعنا لقاءاتنا، وواصلنا تحدي الأعراف، لأننا نعلم أن لحظات مسروقة مثلها، أمر بسيط. وهو كل ما بقي لنا في هذا العالم الكبير والواسع. وعندما بلغنا البيت، كانت أمي نائمة في السرير. في السنوات السابقة، أنفقت معظم وقتها نائمة، وكان لنعاسها سبب مفهوم. وقفت بعتبة بابها، أستمع لصوت أنفاسها. كان هادئا ومترددا. وتجاعيد وجهها عميقة. وكانت تبدو مرتاحة وبسلام، ولم يسعني إيقاظها، ولا إزعاج هذه اللحظة المسروقة. ولإيقاظها لن أكسب غير إلحاق الضرر بها. رأيت الألم على وجهها حينما نظرت لي. وهذا الحزن ناجم من الحياة مع ابنة تحبها ولكنها ترفض ذلك. هناك أوقات أفكر خلالها بالاستقرار مع رجل، أي رجل. وهو ما يجلب السرور العارم للوالدة. ثم أتذكر رائحة رقبة إميلي ورعشة أصابعها فوق أصابعي. وأنا على يقين ورغم البعاد غير المحتمل الذي يفصل بيننا، لن أكون إلا هكذا. وهي كذلك. في المطبخ حضرت لنفسي كوبا من القهوة بالحليب، ومع أن الهواء حار، ومع أننا في الداخل، تركت وجهي فوق البخار، فتفتحت مسامي. يمكنني أن أرى مباشرة من النافذة بيت إميلي. جلست هناك، وانتظرت رؤيتها عائدة إلى البيت من السوق. أمها تلوح من الشرفة وأنا أقدم لها ابتسامة خجولة، تلويحة حذرة، ثم أهرب بنظري قبل أن يفضحني وجهي. جلست لساعات وفكرت بآخر مرة مارست فيها الحب مع إميلي. كم كان عائما، وكم جعلني جائعة. فكرت بفخذيها الدبقين وهما يحتكان ببعضهما البعض أثناء المشي، وفكرت بها وهي في السوق، ودفء فخذها الذي يضغط على أطراف أصابعي - لحظات مسروقة متعددة. أول مرة مارسنا فيها الحب كنا على علاقة خجولة وغريبة. كنت في التاسعة عشرة، وهي في بداية الثامنة عشرة، وكلما مشينا من المدرسة إلى البيت، يحرقنا الرصيف المتشقق والملتهب من خلال نعل الحذاء الرقيق، أقبض على يدها بيدي، وأتمسك بها بقوة حتى تبيض عقد أصابعي. تتوقف وتحدق بي. أفتح فمي، ولكن لا أجد الكلمات. ولكن هناك كلمات، وببساطة لم أعرف كيف أحرك شفتي عليها. من بعيد، اقتربت تويوتا وحيدة منا، أغلقت عيني، وملت عليها، ولمست بشفتي شفتيها. لمست قوس حاجبيها بأصبع واحدة، ثم ابتعدت جريا، محاولة أن لا أبكي. نادتني، وحينما استدرت، لم أجدها، فتابعت الجري، انفصلت عن الطريق وعبرت من حقل قصب، وتجاهلت العليق الذي خدش جلدي، حتى وصلت بيتي. تمسكت الوالدة بصدرها عندما رأتني، هززت رأسي وتراجعت إلى غرفة نومي، وجلست على الأرض الإسمنتية الباردة في الزاوية، وحضنت ركبتي بذراعي، وأنا أهتز إلى الأمام والخلف. بعد دقيقة جاءت دقة خفيفة على الباب. قلت بصوت خشن: "اذهبي". ولكن انفتح الباب الخشبي ببطء وصرير، ووقفت إميلي هناك، وشفتاها مضمومتان. دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب وراءها. سألتني: "لماذا فعلت ذلك؟". خفضت رأسي، وحدقت بالأرض. اقتربت. أصبحت قريبة بما يكفي لشم العرق ورائحة عطرها الفواح. ركعت، وضغطت بركبتيها على ركبتي، وحضنت وجهي بيديها وفي تلك اللحظة، احتضنتني كلي. سألتني مجددا: "لماذا فعلت ذلك؟". نظرت إلى أعلى.

"أشعر بأشياء من غير المفروض أن أراها. وأريد أشياء من غير المفروض أن أريدها".

"كيف تعرفين ذلك؟".

ضحكت بمرارة وقلت: "إذا علمت ستنصرفين مباشرة. ولن تنظري لي ثانية".

"هل تعرفينني أصلا؟".

"ليس الأمر بسيطا لهذه الدرجة".

قبضت على يدي بيدها، ووضعتها على ثدييها. نبض جلدها قليلا من تحت قميصها فارتعشت أصابعي. كنت بحاجة لكامل التحكم بذاتي كي لا أحرك يدي بوصة واحدة إلى اليمين أو اليسار. ثم غطت يدي بيدها، وزلقت يدي تحت قميصها، ووضعتها على بطنها ثم جعلتها تحضن ثديها. تنهدت تنهيدة قوية، مستمتعة بثقلها الذي ملأ راحة يدي. وتخيلت تلك اللحظة لوقت طويل، مستلقية على السرير وحدي وفي ظلام ليال رطبة، وشعرت بألم حاد وقوي بين عيني، ولدقيقة من الوقت، أصبح العالم أبيض. قالت: "ربما الأمر بسيط". هربت صيحة يتيمة من حنجرتي الجافة. قبلت ذقنها، ورقبتها، وسحبت قميصها إلى أعلى كتفيها وفمي يتحسس طريقه إلى أسفل. جرتني نحوها، وأصابعها ترسم دوائر صغيرة على قفا رقبتي. وأمكنني سماع حركات أمي في المطبخ، ودق قلبي وأنا أصلي كي لا تقاطعنا.  وضعت يدي تحت مطاط تنورة إميلي. بقيت صامتة وراكعة، ولكنها باعدت ما بين فخذيها، ثم ضغطت ما لديها على أصابعي، ولم يكن لدي فكرة واضحة عما أفعل. مثل صدى بعيد أمكنني أن أسمع أمي تناديني للعشاء، وتسأل إميلي إذا كانت ترغب بالانضمام إلينا. لم يمكنني التنفس.

عادت إميلي إلى بيتها بعد وقت حلول الظلام.  وحينما وقفت على أعتاب بيتها، نظرت نحوي، وشاهدتني في العتمة، فبدلت رأيها، وشقت طريقها إلى بيتي. حييتها عند الباب، وكانت تبدو حزينة جدا، مجوفة تماما، ففتحت ذراعي فتداعت على صدري، وحطت برأسها على كتفي. همست تقول: "لا يمكنني النوم وحدي الليلة. لا يمكنني ذلك". رفعت ذقنها بأصبعي، ونظرت في عينيها قائلة: "يمكننا زيارة باتريشيا، ربما تسمح لنا بقضاء الليل هناك".

هزت إميلي رأسها وقالت: "بل أريد أن أنام هنا في سريرك... بل سريرنا". كانت هناك في بطني فراشات. ولم أدرك حتى الآن أنني أردت سماعها تقول لي هذه الكلمات. "أمي هنا". "لا أهتم، هل تهتمين أنت؟". أفكر بكل المسرات الصغيرة التي حرمنا أنفسنا منها طيلة سنوات. ولم يمكنني رفض هذا الطلب الوحيد، الطلب الوحيد الذي طلبته مني.  قلت: "تعالي". وقدتها إلى غرفة النوم. تسللنا من أمام غرفة نوم أمي. كانت تشخر. ولكن لم أعن بإغلاق بابها، وكذلك لم أغلق بابي. وجرأة إميلي الليلة، مهما كانت غامضة ومبهمة، جعلتني أفضل أن أكون شجاعة مثلها.  جرأتها جعلتني أتساءل إن كان لدينا ما نخشاه - كما لو أن الأشباح والظلال هي التي تعيق حبنا. تعرت من ثيابها، وأنا كذلك، وزحفنا إلى سريري، والذي بدأ يصر تحت ثقلنا. استلقت على ظهرها، وأنا على جانبي. تحرت عن شفتي بإبهامها. كانت ابتسامتها صادقة. وأعماق عينيها البنيتين والباهتتين بلا مسافات.  رأيت فيها الحكمة والخوف والقليل من الفرح والرغبة. كنا متوترتين بشدة. وأتساءل إذا كانت أم إميلي تعلم أين هي ابنتها، وماذا تفعل. زفرت بصوت مسموع. لم أكن واعية أنني أحبس أنفاسي. قالت إميلي وهي تضغط بواحد من أصابعها على شفتي: "إشش". فكرت بالخطر الكامن فيما نفعل. وفكرت بالحجارة وهي تضرب اللحم والعظم. قد تكون والدتي واقفة في ردهة الباب ولكن لم ألفت رأسي. استلقينا معا. غطت يدها بيدي. وسقطت بالنوم قبل أن أخبرها أنني أحبها، مصغية لصوت دقات قلبها وجريان دمها. ولم يمكنني أن أطلب منها أن تغادر قبل حلول الفجر. كنت مرهقة ومطمئنة جدا ولا أعرف الخوف. في الصباح ستجدنا الوالدة هكذا، الأطراف متعانقة، والجسدان جسد واحد، وكل منا تتنسم أنفاس الأخرى. وستعتقد والدتي أنها تشاهد أشباحا أو ظلالا. وهي محقة.

***

......................

* روكسان غاي  Roxan Gay: كاتبة أمريكية من هاييتي. تكتب القصة والرواية.

 

في نصوص اليوم