ترجمات أدبية
خوان خوسيه: فراشة بيضاء تخرج من أذني

مقتطف من رواية "فقط دخان" لخوان خوسيه مياس
(ترجمة: توماس بونستيد ودانيال هان)
ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
النص التاي من رواية " فقط دخان " لخوان خوسيه مياس. لقد حاز ميلاس على أعرق الجوائز الأدبية في إسبانيا: جائزة نادال، وجائزة بلانيتا، وجائزة الرواية الوطنية. ألّف العديد من مجموعات القصص القصيرة والأعمال غير الروائية، بالإضافة إلى أكثر من اثنتي عشرة رواية، منها ثلاث نُشرت في أمريكا الشمالية: " فقط دخان "، و"لا تدع أحدًا ينام"، و"من الظلال". وهو مساهم منتظم في صحيفة El País,/ البلد، وحاز أيضًا على العديد من الجوائز الصحفية.
بعد إنهاء جميع الأوراق المتعلقة بالميراث، توجهت الأم وابنها إلى شقة الأب ليأخذا المفاتيح ويتفقدا ما يجب التخلص منه وما ينبغي الاحتفاظ به قبل عرض الشقة للإيجار. كانت الأمطار تهطل بغزارة، وكان هناك ظلام يخيّم على المدينة كما لو أنه كسوفٌ أخلاقي.
كانت الساعة الخامسة مساءً.
تقع الشقة في الطابق العاشر من مبنى مكوّن من خمسة عشر طابقًا، تُطل معظم نوافذه على الطريق الدائري إم -40، أحد الطرق السريعة التي تحيط بمدريد. وقف كارلوس مسحورًا لبعض الوقت، يحدّق في المركبات التي تدور هناك في الأسفل، ملتصقة ببعضها البعض، بينما يتناثر من عجلاتها رذاذ الماء مثل المراوح. ثم أفاق من شروده عندما سمع صوت أمه.
قالت: "سأبدأ بغرفة النوم"، وكأنها تمنحه بعض الوقت لنفسه—لعلها، كما افترض الفتى، أرادت أن تتيح له فرصة للتواصل التخاطري مع الرجل الميت، بعدما حرمته من ذلك حين منعته من حضور الجنازة.
عندما اختفت المرأة في نهاية الممر، أخذ كارلوس يذرع غرفة الجلوس ذهابًا وإيابًا، محاولًا تخيّل والده في هذا الحيز الذي، لولا الكتب التي تكسو الجدران، لبدا خاليًا ومجردًا من الطابع الشخصي. الأثاث، الذي كان كله من الإنتاج السوقي، كان باهت الملامح بلا أي تميز. لكن، في الجهة المقابلة للتلفاز، كانت هناك مقعد جلدي قابل للإمالة، لا ينسجم مع بقية الأثاث: بدا كأنه بذخ لا مبرر له. فكّر الشاب: من ذاك المقعد، كان والدي يشاهد الأفلام المرتبة بعناية على رفوف خصصت بوضوح لهذا الغرض، منفصلة عن رفوف الكتب. لم يكن كارلوس من هواة السينما، ولا من القرّاء، لذا لم يتوقف طويلًا عند عناوين الكتب أو الأفلام.
تحرّك بحذر، كمتسلّل يشعر أنه دخيل، وسرعان ما وجد نفسه في الممر حيث تصطف أربعة أبواب (ثلاث غرف نوم وحمام، كما افترض، لأن المطبخ كان بجوار المدخل). كانت أمه تفتش في غرفة النوم في نهاية الممر، فدخل إلى الغرفة الأولى على اليمين، والتي بدت وكأنها مكتب أستاذ. وعلى المكتب، الذي كان بسيطًا ومرتبًا، لم يستطع إلا أن يلاحظ دفترًا ذا غلاف ناعم، وقد كُتبت صفحاته الأولى بخط يد واضح لكنه متوتر، وهو ما عزاه إلى والده.. وقد تأثر بهذا الاكتشاف، ففكّ قميصه من البنطال، وحرصاً على عدم إتلاف الدفتر، خبّأه عند أسفل ظهره، مشدوداً تحت حزامه. ثم أعاد قميصه إلى مكانه، ومشى بضع خطوات ليتأكد من أن الدفتر ثابت في موضعه.
ثم، متظاهرًا برباطة جأش لم يشعر بها، توجه إلى حيث كانت والدته تنظر بتأمل إلى الأغراض في غرفة النوم، والتي كانت قليلة ومتباعدة أيضًا. بدت عليها خيبة الأمل.
قالت:
"الأمر صادمٌ للغاية!"
فأجابها كارلوس:
"أجل."
سألته:
"ماذا كنت تفعل؟"
" كنتُ فقط ألقي نظرة هناك."
"هل وجدت شيئًا مثيرًا للاهتمام؟"
"لا، لا شيء. الكثير من الكتب."
ألقى الفتى نظرة حذرة داخل الحمّام الملحق بغرفة النوم، والذي كانت رائحته كرائحة حمّام استُخدم فعلًا. ظن أنه يشم رائحة عرق جسد، ذكرته برائحته هو. وعلى المغسلة رأى ماكينة حلاقة كهربائية من نفس الماركة التي يملكها، وكوبًا بلاستيكيًا يخرج منه فرشاة أسنان.
وفي غرفة النوم الثالثة، التي قد تكون مخصصة للضيوف، عثرا على طاولة كيّ وكمية من القمصان المجعدة على السرير.
قمصان والده.
*
كان الظلام قد حلّ حين انطلق كارلوس ووالدته عائدين إلى المنزل. كانت الأمطار قد توقفت. ومن حين لآخر، كان البرق يضيء السماء، يتبعه الرعد بلا خطأ. قادا السيارة والنوافذ مفتوحة، إذ كان شهر يونيو قد دخل بقوة والجو معتدل. كان من الجميل استنشاق ذلك الهواء الرطب بعد أشهر من التلوث والجفاف. كانت والدته تقود. لم يكن لدى كارلوس رخصة قيادة؛ لم يشعر قط برغبة في تعلّم القيادة.
سأل:
"لماذا كان يعيش وحده؟"
فأجابت والدته، كما لو كانت تردد ترنيمة محفوظة:
"لأنه كان رجلاً معذّبًا، والرجال المعذّبون عادةً ما يعيشون وحدهم."
"أنتِ أيضًا تعيشين وحدك."
"أنا أعيش معك. ثم إن لديّ حبيب. سأحضره إلى البيت يومًا ما، سترى."
"لم يكن لديه الكثير سوى الكتب والأفلام."
"من؟"
"من تظنين؟ أبي."
"هذا أفضل. تفريغ بيت قد يكون كابوسًا."
*
في وقت لاحق، وبعد أن تأكّد من أن والدته قد ذهبت إلى سريرها للنوم، أغلق كارلوس باب غرفته على نفسه، وفتح دفتر والده للمرة الأولى، وأخذ يقرأ:
إنه الموت، هي من تدفعني إلى كتابة هذه السطور.
موت فتاة في العاشرة من عمرها كانت ابنتي، وإن لم يعرف ذلك أحد سوى أمها وأنا.
لقد قتلتها، رغم أنني لا أستطيع إثبات ذلك.
أعيش في هذه الشقة منذ ما يقرب من عشرين عامًا، منذ أن انفصلت عن زوجتي، بعد وقت قصير من إنجابنا لولد سمّيناه باسمي. كارلوس، الذي انقطعت علاقتي به خوفًا من أن أحبه.
اخترت، كي أُبعد نفسي عن ابني، أن أتلاشى تدريجيًا، أن أُطيل أمد الانسحاب لأشهر، حتى لا تكون القطيعة موجعة لأي منا.
ومع ذلك، تركت القطيعة جرحًا في داخلي، لم يكن عميقًا أبدًا، لكنه لم يلتئم ولم يتحول إلى ندبة، وها هي الآن تسبب لي ألمًا مستمرًا، وإن كان أقل حدة، على ما أظن، من ألم حب الأبناء حين تدرك أن كل نبضة في قلوبهم حدث لا تفسير له؛ كل نفس يتنفسونه واقعة فريدة؛ وكل رمشة جفن منهم معجزة.
الطريقة التي اتبعتها في التوقف عن كوني أبًا له كانت، باختصار، أن أُبعِده عني، أن أُقصيه من حياتي.
وهذا بالضبط ما فعلته مع أول وآخر رواية حاولت كتابتها، والتي تركتها غير مكتملة ثم أحرقتها في النهاية، كما لو أنني أتخلّص من شاهد على جريمة.لقد آلمني ذلك أيضًا، لكن ليس بقدر ما آلمني الصراع من أجل أن أمنحه بداية جيدة في الحياة.
وعدت نفسي آنذاك بأني لن أكتب مجددًا، ولن أنجب أطفالًا مرة أخرى، وقد أوفيت بهذا الوعد، إلى أن انتكست الآن، وأنا أروي على هذا الورق شيئًا لا يستطيع تحمّله إلا الورق نفسه.
إذًا… لنبدأ.
قبل نحو اثني عشر عامًا، انتقل زوجان شابان حديثا الزواج إلى الشقة المجاورة لشقتي، وسرعان ما نشأت بيننا علاقة صداقة وثيقة جدًا.
الزوج، بسبب طبيعة عمله، كان يسافر كثيرًا، لذا أصبح من المعتاد أن نلتقي أنا وزوجته بمفردنا، وغالبًا في شقتي. أميليا — هكذا كان اسمها — كانت تحب القراءة، وكانت تجد متعة كبيرة في استعارة الكتب مني. وبما أنني تعرّفت إلى ذوقها سريعًا، فقد كانت اقتراحاتي غالبًا ما تصيب الهدف.
شخصيات الروايات — فهي لم تكن تقرأ سوى الروايات — بدأت تربط بيننا بروابط تجاوزت حدود الصداقة.
أحيانًا، عندما يكون زوجها مسافرًا، كنا نقضي الليل معًا.
ليس الليل بأكمله؛ بل كانت تغادر في ساعات الفجر الأولى، تفتح باب الشقة المجاورة، وتدخل إلى سريرها، الذي، من حيث ترتيب البيتين المتناظر، كان بمثابة انعكاس لسريري.
لم أرَ أي خطر في ما كنا نقوم به، لأنها، مثلي، كانت حذرة للغاية، ومثلي تماما، لم تكن تطالب بأن تتطور العلاقة إلى شيء آخر. ولم يكن يبدو أننا نخون زوجها، لأن علاقتها به، حسب ما كانت تقوله لي أميليا، لم تزد إلا تحسنًا منذ بدأت علاقتنا.
في أحد الأيام، أخبرتني أميليا بأنها حامل، مؤكدة أنني الأب الوحيد الممكن. قالت إنها قامت بحساباتها وتعرف تمامًا الليلة واللحظة التي تم فيها الحمل.على الفور، ارتفع حذري، لكنّها، وبصبر كبير، هدّأت شكوكي: ستتظاهر بأن الطفل هو ابن زوجها.
وبعد أن حُسم الأمر، توقفنا عن اللقاء على انفراد.
صدّقتها، لأنها كانت امرأة ذات قناعات راسخة، وهكذا، وبعد أن تجاوزت لحظات الشك والذعر الأولى، بدأت فكرة أن أكون أبًا سرًا، ومن دون أي التزامات، تثير فيّ شيئًا من الحماسة: أن أكون أبًا من دون متاعب الأبوة، لكن طفلتي — فقد عرفنا سريعًا أنها فتاة — ستكون على مقربة مني ، في الشقة المجاورة تمامًا.سأراها تكبر، وسأقدّم لها الهدايا في عيد ميلادها، وربما تناديني "عمو".
عمو كارلوس .كان ذلك يبدو لي رائعًا .ربما هذه التجربة الثانية في الأبوة ستخفف من الألم الذي سبّبته لي التجربة الأولى.
وُلدت الطفلة، ماكارينا، وقدّمت يد العون للوالدين الجديدين.وبمرور السنوات، أصبحت بالفعل بمثابة عمّ لها، ولحسن الحظ، لم ترث مني أية ملامح جسدية — كانت تشبه أمها كثيرًا.كثيرًا ما كنت أعتني بها حين يضطر والداها للخروج، وكنت أفعل ذلك بسرور بالغ، فقد كانت طفلة ذكية وفضولية للغاية، وكانت تستمتع بصحبتي كما كنت أستمتع بصحبتها.
وعندما بلغت ماكارينا الخامسة من عمرها، انفصل والداها، وهو ما زاد من عمق علاقتي بها وبوالدتها، حتى أصبحنا، رغم أننا نسكن في منزلين منفصلين، أسرة حقيقية. في بعض الأمسيات، كنت أذهب لاصطحابها من المدرسة، وأعيدها إلى شقتي، وأساعدها في أداء واجباتها، كي تنتهي منها سريعًا وتتمكن من مشاهدة التلفاز قبل أن تأتي والدتها لتأخذها.
كانت أحيانًا تروي لي حكايات عن المدرسة وصديقاتها بينما نتقاسم طبقا من الفستق الحلبي، الذي كانت تحبه كثيرًا.كنت أراقب حركاتها بعناية، محاولًا أن أجد في ملامحها أو سلوكها شيئًا يشبهني، ومع ذلك، لحسن الحظ، لم أجد.
كانت حياتنا تسير بهدوء نسبي، ومع ذلك، لم أستطع إنكار أن تحت ذلك الهدوء كان الشيطان نفسه يتقلب، ذاك الذي دفعني من قبل إلى هجر عائلتي الأولى وتدمير روايتي غير المكتملة.
ثم، منذ أيام، أخبرتني ماكارينا أن شيئًا غريبًا جدًا حدث لها. قالت:
"لم أخبر أحدًا بهذا."
سألتها، محاولًا أن أبدو مهتمًا أكثر مما كنت في الحقيقة:
"ما هو؟"
فقالت:
"فراشة بيضاء خرجت من أذني."
عندما قابلتُ كلامها بصمت بارد، وربما ساخر، أضافت أنها كانت وحدها في البيت، لأن أمها ذهبت إلى كشك الجرائد في الشارع.
كانت تحلّ جدول الضرب لكنها تركته للحظة لتذهب إلى المطبخ وتأخذ قطعة شوكولاتة.
ثم، بينما كانت واقفة هناك، وهمّت بمد يدها إلى الخزانة، شعرت بوخز في أذنها اليمنى، وحين رفعت يدها لتحكّها، لاحظت أن شيئًا ما كان يحاول الخروج. أزاحت إصبعها، وفورًا خرجت فراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا،رفرفت قليلًا بالقرب من السقف، ثم حطّت على شفاط المطبخ.
قالت:
"الشيء المذهل هو أنني كنت تلك الفراشة. كنت في مكانين في آنٍ واحد: واقفة على أرضية المطبخ، كإنسانة، وأيضًا فوق شفاط المطبخ، كفراشة، وكنت أرى نفسي وأنا أنظر إليّ – إلى نفسي - بدهشة."
سألتها:
" وماذا حدث بعد ذلك؟"
قالت:
"سمعت صوت الباب، وكانت أمي، طبعًا.ثم طارت الفراشة عائدة إلى أذني ودخلت إلى رأسي من جديد."
قلت، مرددًا عبارتها:
" إلى رأسك؟"
"نعم، واختفت."
"فهمت."
بعد لحظات، سألتني، وقد لاحظت ملامحي الجامدة.
" ألا تصدقني؟"
أجبتها مبتسمًا:
"طبعًا لا "
أومأت ماكارينا إيماءة لم أستطع تفسيرها بدقة، ثم تابعنا أكل الفستق في صمت.
بعد أن جاءت أميليا وأخذتها، خرجتُ إلى الشرفة لأدخّن سيجارة، فإذا بفراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا، تحطّ على الدرابزين. قلت:
"مرحبًا، ماكارينا."
وهذا كل ما في الأمر.
*
في اليوم التالي، جاءت والدتها بها إلى شقتي لأن موعدًا غير متوقع قد طرأ ولم يكن لديها وقت لكي تجد مربية. قلت لها ألا تقلق، يمكنها أن تذهب، لا مشكلة، لم يكن الأمر مزعجًا.
كانت الساعة السابعة مساءً، وهو الوقت الذي أتناول فيه عادةً وجبة خفيفة، فلما بقينا وحدنا، أخرجتُ وعاءً من الفستق وبدأنا نأكله معًا بينما كانت تخبرني عن المدرسة. ثم سألتني عن طبيعة عملي "بالضبط"، فقلت لها إنها تعرفه بالفعل: أنا مدرس لغة إسبانية .
قالت:
"هذه أسوأ مادة لدي، لكنني جيدة في الرياضيات."
قلت:
"لا يمكنك أن تملكي كل شيء."
قالت:
"اسألني شيئًا."
قلت:
"ماذا تحصل إذا أضفت ستة إلى ستة وستين؟"
ردت على الفور:
"اثنان وسبعون."
كنت على وشك أن أقول لا، أنه إذا أضفت ستة إلى ستة وستين فستحصل على ستمائة وستة وستين، لكني لم أكن متأكدًا من أنها ستفهم المزحة ولم أرد أن أربكها.
قلت:
"جيد جدًا."
وبما أن الفستق جعلنا نشعر بالعطش، سكبتُ كأسين من الماء مع ثلج وشريحة ليمون.
قالت:
"تقول أمي إنه لا يجب أن أشرب ماء مثلج."
قلت:
"هل تريدين أن أزيل الثلج لك؟"
قالت:
"لا."
أخذت الكأس ورشفت منه بحذر شديد. ضحكتُ وضحكت هي أيضا، ثم جلسنا في صمت قليلاً. كانت قد أخرجت شريحة الليمون من الكأس وأخذت تمصها بتعبير يجمع بين اللذة وعدم الارتياح.أخيرًا، تحدثت مرة أخرى.قالت:
"هل تعرف ماذا حدث لي أمس؟"
قلت:
"ماذا؟"
قالت:
"كنت بمفردي في غرفتي، وبدأت أذني تشعر بوخز. ثم خرجت الفراشة من أذني مرة أخرى."
قلت:
"آه، صحيح."
قالت:
"لم تخرج لفترة طويلة، لأن أمي نادتني، فطارت الفراشة مباشرة إلى رأسي."
قلت:
"كم تستغرق فترة 'ليست طويلة'؟"
قالت:
"مدة تسخين الحليب في الميكروويف."
قلت:
"دقيقة، إذًا."
قالت:
"أكثر أو أقل، لكنني قضيت كل الوقت أطير في كل أرجاء الغرفة. فى الحقيقة يجعلك هذا تشعر بدوار البحر عندما ترى الأشياء من الأعلى ومن الأسفل في نفس الوقت."
أعطيتها ابتسامة تعبر عن أنني فهمت، ثم جاءت أميليا لتحضرها.
تلك الليلة، عندما خرجت إلى الشرفة لأدخن سيجارتي قبل النوم، رأيت فراشة تجلس على الدرابزين، تشبه تمامًا الفراشة التي رأيتها في الليلة السابقة، ربما كانت نفس الفراشة. كانت أجنحتها البيضاء تتلألأ في الظلام. حركت سبابتي وسبابتي الأخرى نحوها كما لو كانا ملقطًا، وتمكنت من الإمساك بها. قلت:
" أمسكتك، ماكارينا" .
أخذتها إلى الغرفة التي أقرأ فيها وأصحح أوراق وامتحانات طلابي، وغرست دبوسًا في صدر الحشرة وثبّته في لوحة الفلين على الحائط. لفت انتباهي شكل جسدها الذي بدا وكأنه يشير إلى شكل فتاة، لكنني رفضت الفكرة واعتبرتها فكرة مريضة. راقبتها ترفرف بأجنحتها قليلاً لأنها لم تمت بعد، ولكن عندما ماتت أخيرًا، بقيت أجنحتها مغلقة تقريبًا بالكامل، على عكس ما تراه في المجموعات المحفوظة.
بعد ذلك، سمعت طرقًا شديدًا على الباب الأمامي. كانت الفتاة قد مرضت مرضًا شديدًا وكانت تطلب مساعدتي بيأس. سألت أمها بينما أركض نحو غرفة نومها:
" ما خطبها؟"
قالوا لي:
"تشتكي من ألم شديد في صدرها."
وعندما وصلت إلى غرفتها، كانت قد توقفت عن التنفس. فقدت أميليا عقلها، واضطررت إلى إخراجها من الغرفة.
*
كانت بقية صفحات الدفتر فارغة. لقد منعته الموت من أن يكتب فيها. ظن كارلوس أنها كانت بداية قصة أو رواية، شيئًا خياليًا.
فكّر في نفسه: الرجال المضطربون يكتبون أشياء مضطربة.
(انتهى المقتطف)
***
د. محمد عبد الحليم غنيم
23/ 5 / 2025