ترجمات أدبية
هيلين شولمان: عمرى خمسة وسبعون عاما

بقلم: هيلين شولمان
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
بعد ستة أشهر من وفاة زوجها، عثرت ليلي وايلرستين على يومياته الجنسية مدفونة في الرف الخلفي لخزانة الأرز في ممر شقتهما الواقعة في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، الشقة التي عاشا فيها معًا لما يقرب من أربعين عامًا، منذ ما كان والتر يسميه "عصر الإمكانيات"، حين كانا شابين تقريبًا. كان أول مسكن لهما شقة طويلة كخط السكك الحديدية، (متصلة الغرف على التوالي) في الطابق الرابع، على بعد ثلاث جادات من كولومبوس، وسط تجار المخدرات وبائعات الهوى، ومغنيي الأوبرا والأخصائيين الاجتماعيين—مكان مناسب لزوجين حديثي الزواج في بداية حياتهما. لكن بعد مرور عشر سنوات على زواجهما، عندما وجد والتر إعلانًا عن شقة مؤجرة فرعيًا في ريفرسايد درايف معلّقًا على لوحة الإعلانات في نقابته، شكرت ليلي الله على ذلك؛ أو بالأحرى، ما يعادل الله في نسخته العلمانية (الحظ). كانت حينها في الشهر الثامن من حملها بطفلهما الثالث. ثلاث غرف نوم وغرفة للخادمة.لكن من كانت الخادمة؟ ليلي؟ أم والتر؟
في البداية، كانا يتناوبان على غسل الأرضيات وتنظيف المراحيض. وكناشطَين، بكل ما تحمله الكلمة، كانا يجددان عقد زواجهما كل عام بروح ما آمنَا به في عملهما الحياتي: "لكل حسب قدرته، ولكل حسب حاجتها." كان واضحًا أن والتر يحتاج إلى هذه الغرفة أكثر من ليلي، ولهذا سرعان ما تحوّلت تلك الخزانة الصغيرة التي كانت تُسمى غرفة الخادمة إلى مكتبه-غرفة تخصه وحده- تاركًا لليلي مجرد زاوية على طاولة العشاء لأوراقها وبرامجها التوعوية وتلك الأكوام من الملفات (حملات سياسية، حقوق الإجهاض، جمعية الآباء والمعلمين، ثم وظيفتها الحقيقية كمحامية للأسرة في مكتب عضو المجلس التشريعي،قبل أن تنتقل ببراعة إلى مكتب تشاك شومر). أما خزانة الأرز، فكانت تلك مملكة ليلي؛وبالنسبة لها، كانت تمثل الفخامة بعينها.
والآن، بعد مرور ما يزيد عن أربعين عاماً، وقفت ليلي على أطراف أصابعها فوق سُلَّمٍ خشبيٍّ قديم، تتنشق عَفَن الأوراق المتآكلة وروائح الصور القديمة، وهواءً راكداً اختزنتْه الأوشحة الصوفية ومعاطف الشتاء، بينما تبخَّر عبق خشب الأرز الأحمر الفاخر منذ زمن بعيد . كانت تبحث في الرفوف العليا عن إحدى كنزات والتر الرمادية من الكشمير ذات الياقة المثلثة، متوهمةً بغباء أن هذه القطعة الناعمة التافهة قد لا تزال تحمل رائحته وتمنحها بعض العزاء-يا لها من حمقاء! كانت لا تزال في طور الحداد عليه آنذاك.لكن، ما إن فتحت ليلي أول دفتر من سلسلة مكوّنة من ثمانية دفاتر حلزونية- وكان مشهد خط والتر وحده كافيًا لأن يجعلها تلهث- خطه الأنيق الأوروبي الذي حمل شاعرية جسدية لافتة، حتى إن ليلي شعرت وكأنها تسمع موسيقى تصويرية تصاحب الصفحات، تلك الآلات الوترية الكاشفة… عندها أدركت أنها عثرت على كنزٍ لا يُقدَّر بثمن .
كمن تسير في نومها، حملت ليلي الدفاتر إلى غرفة النوم.هناك، استلقَت هناك على سريرهما الكبير، تقلّب الصفحات تلو الأخرى في سجلات مغامرات والتر المُذهلة والمدمِّرة — قدمَاها مرفوعتان، وبطنها على الوسادة، بنفس الوضعية التي كانت تتخذها وهي مراهقة عندما كانت تقرأ مجلات الأفلام في بيت أبيها في إيست نيويورك— تفتّش بجنون عن شيءٍ ما يمنحها شعوراً أفضل.
شكراً لله، فكّرت ليلي، لقد كنتُ مذكورة. كان والتر يشير إليها مرارًا في المذكرات بعبارات مثل "حبيبتي، ووحيدتي".وقد كانت وصفاته لتقاربهما الجسدي، المتكرر بما لا بأس به، دقيقة تمامًا: "حنون، محب، وملاذ جسدي". على مدار زواجهما الطويل والمعقد، عاشا قصة حب حقيقية؛ كانا يتشاجران ويضحكان ويتحدثان بلا انقطاع، على الهاتف، وعلى طاولة المطبخ، وفي الحمام وهو يحلق وهي جالسة على المرحاض. لطالما أيقنت أنهما أحبّا بعضهما إلى الأبد. ولم تفعل تلك الدفاتر الملعونة شيئًا لنفي هذه الفكرة. لكن من الواضح أنهما لم يمارسا ذلك النوع من الجنس الحارّ، المثير، الخطير، والمفعوم بالرغبة الحقيقية الذي كان والتر منجذبًا إليه بوضوح. أسماء، تواريخ، أوضاع؛ صديقاتها، أصدقاؤه، حتى ابنة عمها "سيل" - التي رحلت منذ زمن بسبب سرطان الثدي - الجميلة، العصبية، غير المتزوجة... لقد ضاجعتْ والتر! وبين السطور (وهذا ما آلمها بشكل خاص، رغم أنها لم تكن متأكدة تمامًا من السبب) ذكرٌ لعلاقات مع رجال، بعضهم أشير إليهم بأحرف أولى، وبعضهم بأرقام، رجال تعرف عليهم في الحانات، أو في مراحيض عامة، أو في القطارات، أو خلال رحلات عمل - فقد كان والتر محاميًا نقابيًا، دائم الترحال للمشاركة في احتجاجات ما، "ينقذ العالم" كما ظنت، بينما كان - كما يبدو الآن - منهمكًا في مصّ عضو سائق شاحنة! في اللحظة التي اكتشفت فيها الحياة السرية لزوجها، توقفت ليلي عن الحداد عليه.
بل على العكس، ما إن وقعت عيناها على ذلك النتاج الفوضوي لحياة إنسانية معقّدة-حياة والتر-حتى شعرت ليلي بالغيرة، وبروح التحدي، وبالرغبة في الانتقام.إن لم تكن قد مارست ذلك الجنس المذهل مع والتر، فهي إذن لم تمارسه مع أحد على الإطلاق.
يا للكلمات التي استخدمها! لوصف الرغبة وحدها: شبق، شهوانية، فحولة، نهم جنسي، تلهّف جسدي، دم حار، شوق ملتهب، وصخور متقدة! حتى أوصافه للأعضاء الأنثوية كانت تكاد تكون صبيانية محرجة - كأنها محارة وردية، أو زهرة رطبة، أو قفاز دافئ. لكن عندما يتعلّق الأمر بالعدة الرجولية، فقد اختار كلمات خشنة: كيس، سَلّة.يا له من مستمتع بدوره السري كـأمين أرشيف، كـكاتب يوميات، كـزانيٍ محترف.
لقد عاشا خمسين عامًا من الزواج السعيد. وثلاثة سنوات بائسة. تلك السنوات العجاف جاءت في النهاية، بعد أن تمكن مرض باركنسون من والتر، فبدأت يداه ترتعشان أولاً، ثم اختل توازنه، وأخيراً تقلصت خطواته إلى وئيدة متثاقلة تشبه تلك التي كان يؤديها تيم كونواي في برنامج "كارول بورنيت شو".وفي إحدى الليالي، بينما كانت ليلي تغطّ في نوم عميق- فالعناية به كانت قد أنهكتها تمامًا!- استفاقت فجأة على صوت ارتطام ارتطام مدوّ، إذ كان والتر قد سقط وصدم رأسه بأرضية غرفتهما الخشبية الصلبة. أصيب بنزيف دماغي حاد، وبحضور أبنائهم الثلاثة البالغين - أحدهم قادمًا من لوس أنجلوس، وآخر من لندن، والثالث آتٍ بسيارة أجرة من الجانب الآخر من المدينة -خضع لعمليتين جراحيتين في الدماغ صباح اليوم التالي.
قضى شهرًا في المستشفى وثلاثة أخرى في إعادة التأهيل، ثم عاد إلى البيت. عاد إلى إلى حياة من التبول اللاإرادي وسكب الطعام والكثير من الالتباس؛ كان الأمر غير مفهومٍ ليلي أن الرجل الذي ثرثرت معه دون توقف لنصف قرن .أصبح الآن عديم الكلام. كان من غير المفهوم أن تلك الشيخوخة الذهبية التي خطّطا لها—دورات تعليمية لكبار السن، رحلة إلى الصين، معًا دائمًا معًا، يحتجّان على كل كارثة قادمة—قد سُلبت منهما فجأة.كان من غير المفهوم، وهي تُحمّمه وتلبّسه ثيابه وتسحبه من جلسة علاجية إلى أخرى، أن هذه ستكون النهاية التي سيلقاها زوجها اللامع، الجذاب، دائم الإثارة، صعب المراس بعض الشيء.
لكن بالطبع، هكذا كانت النهاية. فبعد ثلاث سنوات بائسة، أصيب بنوبات تشنّج متتالية على سريرهما، بينما كانت ليلي تتصل بجنون بالإسعاف، ثم مات، ببساطة مات في ذلك السرير نفسه، السرير الذي تقاسماه طويلاً، حيث سهرت على رعايته ونامت بجواره وشاهدت التلفاز معه . وقرأت له وتشاجرت معه ثم تصالحت معه، السرير الذي كانت تستلقي عليه الآن! لقد مات في سريرهما بوجه مشوّه يعكس الغضب والألم، وجهٌ بدا فيه من الذكاء ما لم تره منذ زمن بعيد. في الموت، كان وجهه يتهمها. وكأنه يقول: لماذا تركتِ هذا يحدث لي؟ كانت تلك ملامح حاولت محوها من ذاكرتها. أما الآن، فقد عقدت العزم على إحياء ذكراه.
انقلبت ليلي على ظهرها، بعيدًا عن دفاتر زوجها الدقيقة، وحاولت التقاط أنفاسها، تلك الأنفاس التي، مثل قلبها في هذه الأيام، اعتادت أن تفلت منها.على سقف غرفتهما، كانت هناك بقعة ماء كبيرة إلى حد ما، يتفرع عنها شق وشروخ، تتخذ شكل مدينة تالاهاسي.هل كانت هذه البقعة حديثة نسبيًا؟ أم أنها، مثل كل مظاهر التدهور في حياتها -بقع الشيخوخة التي انتشرت كالأشنات على ظهر يديها، وتقوس عمودها الفقري الذي أخذ يقصر شيئًا فشيئًا - كانت تتسلل إليها بخفة دون أن تنتبه؟
دوَّنت ليلي في ذهنها أن تتحقق من سبب تلك الشقوق. جيرانها في الطابق العلوي، من الجيل الثاني- البناية خاضعة لقانون الإيجار المحدد- وهم عائلة مكوّنة من خمسة أفراد، كانوا قد انتقلوا منذ زمن إلى الضواحي (ريدجفيلد؟ سكارسدايل؟ مونتكلير!)، وصاروا يستخدمون شقتهم ذات الغرف السبع كمنزل ثانٍ في المدينة، لذا كانت شبه خالية معظم الوقت.
يمكنها أن تحاول استدعاء عامل الصيانة الجديد، فْرِيد، الذي لم تلتقِ به إلا عبر إعلان أُدخل تحت بابها. لم يكن يرد على جهاز النداء، ولذلك لم يكن موجودًا أبدًا عندما تحتاج إليه كانت .أعمال الصيانة المنزلية، والتعامل مع الحرفيين، من مهام والتر، والتي سلّمها لليلي على مضض عندما عجز عنها بسبب المرض. وليس لأن والتر كان ماهرًا بطبعه؛ لم يكن كذلك. لقد كان مفكرًا، مناضلًا، مدافعًا—حياته كانت حياة عقل!(والآن، كما يبدو، حياة الخصيتين أيضًا.) ومع ذلك، لم يكن ليسعد بتسليم أي جزء من سلطته، حتى تلك التي كان يكرهها بشدة.
كانت عجوزًا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل. ليلي عجوز وستموت قريبًا. جلست. تدفق الدم من رأسها. وضعت راحتيها على غطاء السرير لتستقر. نظرت إلى يدها اليسرى، التي تحمل خاتم الزواج الفضي البسيط - هي ووالتر، لطالما راودتهما أفكار! لطالما كان لديهما هدف! - وشاهدت عروقها الزرقاء المنتفخة تتدحرج فوق الأوتار الرقيقة التي تشبه أسلاك البيانو، والتي تحرك أصابعها بينما تمدها ببطء. وقفت بحذر، وعندما استعادت توازنها، خرجت ليلي من غرفة نومها وسارت في الردهة، مارةً بخزانة الأرز السخيفة تلك، راكلةً الباب مغلقةً إياه، ثم دخلت المطبخ.
فتحت الثلاجة، وصبت لنفسها بعضًا من عصير الخوخ العضوي من جورجيا، الذي كانت تحتفظ به من أجل أحفادها. جلست إلى طاولة المطبخ، مطيحةً بالقطة السمينة، بَسْتَر، عن مربعها المدلّل من أشعة الشمس. حرّكت كتفيها ورأسها إلى داخل تلك البقعة، واستندت بمرفقيها. كان الضوء المنبعث من الفناء الداخلي (فالنوافذ هنا، لحسن الحظ، تواجه الجنوب) يغمر مطبخها وحمامها وغرفتي الأطفال، اللتين تحوّلتا منذ زمن إلى غرفة ضيوف وغرفة تلفاز- ليلي ووالتر، غرفة تلفاز، يا للسخرية؛ لم يكن لديهما وقت لمشاهدة التلفاز، إلا إذا أخذت سي إن إن ووبرنامج 60 دقيقة في الحسبان؛رغم أنها، في النهاية، وجدت نفسها تشاهد أوبرا من أجل الصحبة- - لقد أحبت ذلك الضوء الجنوبي! شعرت بأشعة الشمس الجميلة على وجهها، واستراحت للحظة. ثم مدّت ذراعها إلى الخزانة التي تحتفظ فيها بالكحول، فتحت زجاجة فودكا صغيرة من تلك التي تُقدَّم في الطائرات، وصبتها في عصيرها.
كان زوجها قد مات. لم يكن بوسعها أن تشكوه إلى أمه وتحاول كسب السيدة وايلرستاين إلى صفّها، أو أن تبوح بالأمر لأبيها الغاضب الدائم الإحساس بالإهانة، ذلك الذي ربما كان سيطارد والتر بسكين مطبخ-كما فعل من قبل مع زوج أختها رينا الأول، حين ضبطته رينا مع عاملة التنظيف. لقد ماتوا جميعًا: السيدة وايلرستاين، ووالد ليلي، وأختها، وزوج أختها الأول، مايمان، وزوجها الثاني، بول- ماتوا، ماتوا، ماتوا، وبهذا صاروا في مؤامرة ضدها.
كانت ليلي وحدها.
شربت ليلي كأسها، مزيج الفودكا وعصير الخوخ، في جرعة واحدة شرهة ونهمة. ستعيش بدونهم، جميعهم، هؤلاء الأوغاد. رفعت ليلي سماعة الهاتف. طلبت رقم ابنتها الكبرى، ميرا. ميرا. الفاسقة، الجامحة. العاهرة.. سألت ليلي
- كيف أعيش بدونهم؟
ثلاث مرّات أسبوعيًا، في المتوسط، خلال الأشهر الستة الماضية، كانت ليلي تتصل بابنتها طارحة عليها هذا السؤال. وهي تحدّق في تقويم نايتشر كونسيرفانسي المثبت على جدار المطبخ. أبريل. زهور وأمطار. وماذا في ذلك؟
كانت ميرا قد طُردت من بيتها على يد زوجها قبل بضع سنوات، بعد أن ضُبطت مرة أخرى، - وهذه المرة في علاقتها الثالثة -مع عشيق أصغر سنًا.(لقد ورثت جينات والدها! الأمر وراثي! لو أن ليلي كانت تعرف، لما أرهقت نفسها كل هذه السنوات في لوم ذاتها. انفلات ميرا الأخلاقي إرث من والدها. هي غلطتك اللعينة، يا والتر!)
أما أولاد ميرا الثلاثة، فكانوا يقضون السنوات الأخيرة متنقّلين كالحافلات الصغيرة بين شقّتي والديهم، الولد بين الجانبين الشرقي والغربي، والبنتان بخدمة سيارات أجرة من القرية. وكانت ميرا قد اكتشفت، كما تقول في أيامها الجيدة-الأيام التي لا تتصل فيها بليلي لتسأل: كيف أعيش من دونهم؟ - أن الطريقة الوحيدة لتحظى بحياة وأطفال هي الطلاق.كل متع الأمومة، مع إمكانية النوم حتى ساعة متأخرة كل أسبوعين، وقراءة كتاب، وممارسة الجنس، والذهاب للنادي الرياضي، وتناول الطعام بالخارج، ومشاهدة فيلم، والتحدث على الهاتف، ومواصلة حياته المهنية.
كانت ميرا محامية في قضايا الطلاق، وأصبحت الآن مستشارة قانونية في بنك.(مدرسة فيلدستون. معسكر باكز روك للعمل. كلية أوبرلين. متطوعة في بنك طعام في أحد أفقر أحياء كولورادو. والآن أصبحت مصرفية! أين أخطأوا في تربيتها؟)«
قالت ميرا بحدة طفيفة وهي تمضغ علكتها:
- وماذا يعني أن 'تعيشي'؟
كان أحد أيام الأحد التي تتناوب فيها على رعاية الأطفال، وميرا دائمًا ما تكون عصبية في نوبتها؛ فهي تحب أطفالها كفكرة، من حيث المبدأ فقط. في الخلفية، كانت الحرب العالمية الثالثة تدور رحاها بين أحفاد ليلي. وفي يوم جميل كهذا، كانوا يتعاركون داخل الشقة. كانت ليلي ستراهن بكل ما تملك على أن النوافذ كانت مغلقة كلها.
- كوني أكثر تحديدًا يا أمي. ماذا تقصدين بالضبط؟
قالت ليلي، وقد أثرت فيها الفودكا:
- أريد أن أمارس الجنس.
عندها، أصدرت ميرا فرقعة عالية بعلكتها. قالت ميرا:
- اذهبي إلى فلوريدا.
كانت نصيحة جيدة، لكنها تطلبت بعض التحضير.
قالت ليلي:
- بعيدة جدًا.
ردت ميرا:
- هناك يوجد الرجال، في مثل عمرك.
ثم صرخت من فوق كتفها:
- ليزي بوردن الصغيرة، ضعي السكين فورًا!
ثم عادت للحديث إلى والدتها.
- لا يمكنك الذهاب إلى حانة. لقد كبرتِ في السن. يجب أن تبحثي عن شخص كنتِ تعرفينه- أرمل لإحدى صديقاتك كنتِ تظنينه جذابًا، أو شاب من أيام المدرسة الثانوية، أو من مركز الخدمات الاجتماعية. أو كلية المدينة. إعادة التدوير تنجح دائمًا بالنسبة لي. يمكنك استخدام جوجل . بحثتُ الأسبوع الماضي عن بيلي رابابورت، تتذكرينه؟ من أيام المعسكر الصيفي؟ وكانت النتيجة رائعة. إنه مطلّق ويعمل وكيل عقارات في نيوجيرسي. أخذني إلى مطعم لو برناردان وصرف أطنانًا من المال، حتى قبل أن أسمح له بلمسي قليلًا في المقعد الخلفي من سيارة أوبر.
لحسن الحظ، انقطع الخط. تمنّت ليلي أن أحد الأحفاد قد نزع السلك من الحائط حتى لا تضطر إلى الاستماع لتلك الحمقاء ميرا. الحفيد الأصغر، الشرير، آدم. من المحتمل أنه الفاعل. وكان آدم هو الأحب إلى قلبها.
شارع 92 ومركز Y. هذا هو المكان الذي يقصده كبار السن عندما يشعرون بالوحدة. عندما لا يذهبون إلى فلوريدا، فكرت ليلي، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة الخرف الكامل. لم يكن لديها وقت من قبل لكل تلك الأنشطة التي قرأت عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تقرأ عناوين البرامج وهي تتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها وقتًا.
مركز شارع 92 - ذلك المكان الذي يلجأ إليه العجائز عندما يشعرن بالوحدة.عندما لا يذهبنن إلى فلوريدا، كما فكرت ليلي،وعندما لا يكون الخرف قد استولى عليهن بعد..لم يكن لديها يومًا وقت لكل الأشياء التي كانت تقرأ عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تتصفح العناوين وتتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها قط، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها متسعًا في جدولها.
أما الآن، فقد بات لدى ليلي متسع لكثير من الأشياء. مثل قراءة كتالوج مركز الشارع 92 من الغلاف إلى الغلاف. كانت هناك أمسيات شعرية – مضيعة للوقت في رأيها. وكانت هناك حفلات موسيقية، تحبها، خاصة تلك التي تعزف فيها الآلات الوترية. وكانت هناك محاضرات. وهناك أيضًا "دورات لغوية مكثفة ليوم واحد" للإيطالية -يا لها من فكرة ذكية! يوم واحد فقط، فهذا وحده كان التزامًا كافيًا لجيلها.
رفعت الهاتف وسجّلت في درس اللغة. ثم عادت إلى قنينات الفودكا الصغيرة، وشربت حتى ثملت بما يكفي لتغفو قبل نشرة أخبار السادسة، في غرفة التلفاز- فهي لم تكن تطيق العودة إلى سريرها الكبير، ذلك الذي، كما يبدو، استخدمه والتر في عام 1987 ليُجري "تجاربه" الخاصة على معلمة البيانو القبيحة والممتلئة الخاصة بابنتهما ميرا.
لقد كان زانيًا من الطراز الأول، ذلك الوغد والتر. وللحظة، سمحت ليلي لنفسها بأن تشتاق إلى قلبه الطيب والسخي.
**
في صباح أول وآخر درس إيطالي لها، انتابها شعورٌ مفاجئ أثناء الاستحمام. أدركت أنها لا تزال تُجاري غيرها في الجاذبية! كانت تعتني بجسدها بعناية—ليس لأنها توقعت حدوث شيء على الفور، لم تكن تتوقع ذلك، كانت تعرف أن الأمور الرومانسية تستغرق وقتًا، لكنها لم تكن تبحث عن الحب، بل عن الجنس؛ ولذلك هيأت نفسها لاحتمالية حدوثه. فالجنس، كما يبدو، الجنس بحسب والتر—هكذا كانت تشير إلى دفاتره الآن في ذهنها، الجنس بحسب والتر—يمكن أن يحدث من دون حتى مجرد تعارف سطحي.
حلقت ساقيها بعناية حول شبكة الدوالي الزرقاء التي كانت تزيّن بطتي ساقيها، وحول مثلث شعر العانة، الذي غدا فضيًّا وخفيفًا، وتحت إبطيها للمرة الأولى منذ شهور. منذ ما قبل وفاة والتر. بل منذ ما قبل ذلك بكثير. استغرقت وقتًا في ذلك. كانت ساقاها لا تزالان نحيفتين، لكن الجلد عليهما كان متجعّدًا، ينسدل بلطف حول فخذيها الداخليين في طيّات صغيرة تشبه الثنيات. رغت جسدها بالصابون بعناية، كل ثدي منها كان زلقًا وثقيلاً، ترفعه يد لتتمكن الأخرى من تمرير الصابون تحته وحوله جيدًا. غسلت شعرها ووضعَت عليه البلسم. وعندما أغلقت الماء، وضعت مرطبا على الكتلة الطرية المتحرّكة من جلدها، ذلك الجلد الذي صار منفصلًا الآن عن الجسد تحته. استخدمت الملقاط لإزالة الوبر الداكن قرب سُرّتها، وحول حلمتي ثدييها، وأخيراً، بتحدٍ أمام المرآة الكاملة الطول، حول ذقنها. يا إلهي!
ثم وقفت تتأمل نفسها لوقت طويل. نعم، كان ثدياها مترهّلين، لكنهما لا يزالان ممتلئين، وكانت بشرتها مرتخية، لكنها لم تكن بدينة، والغريب أن جسدها بدا أصغر سنًا من وجهها ويديها. أقل تجعّدًا بكثير. لا بد أنها تستطيع العثور على شخصٍ ما يرغب في مضاجعتها، شخص عجوز ويائس، وربما شبه كفيف. لا بد أن هناك عجوزًا سيكون سعيدًا بما يكفي، مع قليل من الفازلين، لأن يُدخل عضوه الذكري في مؤخرتها، واحدة من الممارسات الجنسية الكثيرة التي كان والتر يتغنّى بها في دفاتره- ومع ذلك، لم يحاولها ولو مرة واحدة مع زوجته. استدارت ليلي وفتحت مؤخرتها بيديها، وتأمّلت فتحة شرجها في المرآة، بشفتيها الورديّتين الجميلتين المطبقتين. لا شيء يعيبها في هذا الجانب.
لفّت ليلي نفسها بمنشفة. وضعت المكياج ومزيل العرق، فرّشت أسنانها وشعرها المبتل الذي بدأ يجف. ثم مشت بخفّة عبر الممر إلى غرفة نومها، حيث بذلت قصارى جهدها لترتدي شيئًا جاذبًا. ارتدت جينزًا، جينزًا عاديًا، ليس من ذاك النوع الذي ترتديه الجدّات، بل من نوع «ليفايس» الذي اعتادت ارتداءه منذ أن أعجبت به على أجساد الشابات في كل تلك المسيرات المناهضة للأسلحة النووية: جينز، وحذاء قصير، وسُترة صوفية وردية ناعمة. في البداية صفّفت شعرها الفضي على هيئة كعكة فرنسية، لكن الدرس كان في الانغماس في اللغة الإيطالية؛ وأرادت أن تبدو إيطالية! (ربما كان حلق شعر الإبطين قرارًا خاطئًا؟) لذلك فكّت شعرها وتركته منسدلًا في تموجات حول كتفيها. هل بدا ذلك شاطئيًا أكثر من اللازم؟ جامحًا؟ جمعت الجانبين من شعرها إلى الخلف على هيئة ذيل أميرة باستخدام مشبك.
كانت فتاة جذابة في شبابها، بجسد جميل، وثديين كبيرين، وأرداف ليست كبيرة جدًا. وعلى مدار السنين ازداد وزنها، ثم نحفت؛ وبعد وفاة والتر، توقّفت عن الأكل. لو أن العلاقات المثلية نجحت مع زوجها... لربما كانت المرأة أكثر تسامحًا. محارة وردية، زهرة مبللة، قفاز دافئ.
عندها سقط السقف حرفيًا. أو على الأقل قطعة كبيرة منه، قطعة على شكل ولاية فلوريدا بأكملها. سقط في وابل من الطلاء والجص، وأخطأ ليلي ببضع بوصات، لكنها غطّتها، وغطّت ملابسها، بالغبار.
استغرقت ليلي لحظة لتدرك ما حدث للتو. صارالسقف الآن على الأرض، العالم انقلب رأسًا على عقب، ملابسها ويومها وسجادتها — دُمِّرت كلها ظاهريًا. لكنها هي نفسها لم تُصب بأذى. قرصت ظهر يدها الرقيقة، فانتصب الجلد وبقي على حاله، فقدت بشرتها مرونتها منذ زمن. كانت لا تزال حية، بينما فلوريدا المتصدعة متناثرة من حولها. هكذا إذن، لا اكتشاف لمتعة المثلية اليوم. كانت حية، ووحيدة، وبفوضى عليها أن تنظّفها، قصة حياتها.
في تلك اللحظة، تكلم الله، أو ما بدا لها كصوت الله كما تعودت أن تتخيله، صوت رجولي قادم من العلو، جهوري، عميق كالكونترالتو..
- لـ ـي، هل أنت بخير؟
"ليـ..." — لم تعرف ليلي إن كان الصوت يقول "سيدتي" أم "ليلي"، فالتحية الشخصية ستكون مناسبة لإله عالم بكل شيء، بينما الأخرى تناسب "سائق الشاحنة العظيم في السماء." حتى هذا وجدته مذهلًا.نظرت إلى الأعلى، ورأت ثقبًا في السقف وسط الحطام. في مركز الثقب، كانت هناك عين تحدق نحوها.
رفعت عينيها نحو السقف، ورأت فجوة وسط الفوضى العارمة. وفي مركز الفجوة، كانت هناك عين.تحدق بها من الأعلى. قال الصوت،"ربما لم تكن فكرة السرير المائي الأفضل"، صوت عميقٌ وموجع، بنبرة مذيع الراديو، المرتبط على الأرجح بتلك العين - قزحية زرقاء لامعة، محاطة برموش سوداء، بتفاصيل مدهشة في التفاصيل.عندها لاحظت ليلي تساقط الماء باستمرار، تقط تقط تقط على سريرها. كان يبلّل الجصّ ويحوّله إلى ما يشبه الصمغ. "لم أكن على علم بالتسرّب، لكنني سأُصلحه في أسرع وقت."
كان الوضع يؤلم رقبتها، فتوقّفت عن النظر إلى الأعلى. بدلًا من ذلك، خرجت من غرفة نومها بحثًا عن غطاء بلاستيكي لتغطية مفرش السرير المخرّب، وعن ثياب بديلة- كلاهما كان في خزانة الأرز. عندما رأت انعكاسها في المرآة بالممر، انتابها الذعر: مغطاة بالجص على هذا النحو، بدت وكأنها ميتة بالفعل، شاحبة كالشبح.
كانت قد تخلّت لتوّها عن ملابسها التي انتقتها بعناية وارتدتها بأمل—يا تُرى، هل يستطيع محل التنظيف الجاف إنقاذ ذلك السويتر الوردي الناعم؟- وارتدت بدلًا منها فستانًا مقلدًا لتصميم ديان فون فورستنبرج. كانت ميرا قد اشترته لها كرشوة بعد طردها من المدرسة الثانوية لأنها كانت تمارس الجنس الفموي مع أعضاء فريق الرياضيات، عندما رنّ جرس الباب.
ربما كان فريد، المشرف الجديد، قد أتى لينقذها. مشت ليلي نحو الباب الأمامي، تربط فستان اللفّ على عجل، وخلفها أثر من الغبار. ربما سيكون ملاكها الحارس.
وحين فتحته، وقف أمامها رجل مسنّ، غير حليق، يرتدي قميصًا مصبوغًا بألوان "تاي داي" وبنطال جينز، شعره الرمادي طويل يلتف حول أذنيه، وعيناه الزرقاوان فاتحتان كسماء الصباح، تحفُّهما رموش داكنة طويلة، ناتجة على الأرجح عن تناول الإنترفيرون، رموش باربي، مهدورة على رجل. لم يكن الأمر يتطلب عبقريًّا لفهم أن هذا العجوز هو صاحب السرير المائي في الطابق العلوي. كان يحمل مكنسة كهربائية، وممسحة، وكيس قمامة.
قال:
- أرجوكِ، الأمر خطأي، لم أكن أعلم أن الصمّام كان يسرّب. اسمحي لي أن أتكفّل بتنظيف الفوضى.
" يتكفّل بالتنظيف؟" فليكن. ليلي لا تمانع، لكن من هو هذا الرجل؟ لم تره من قبل.قالت:
- من تكون؟
فأجاب الرجل المسن:
- اعذريني، اسمي إيرف، إيرف جورنشتاين. أنا عم ناثانييل سوان. سمحوا لي بالإقامة في شقتهم.
كان ناثانييل سوان جار ليلي في الطابق العلوي.
قالت ليلي:
- حسنًا، يا إيرف، لقد دمّرت غرفة نومي تقريبًا. والآن بعد أن صار هناك ثقب في السقف، أعتقد أن علينا الاتصال بالمختصين، ألا ترى؟»
قال إيرف بلهجة مستهجنة:
- المختصين! لم أكن يومًا أخشى العمل الشريف. تركت دراسات العليا من أجل المصانع، ثم تركت المصانع لأعمل في السكك الحديدية! بنيت جسورًا، وحفرت أنفاقًا. كنت عامل نظافة، ونادلًا، وسجّلت ناخبين. وفي صيف واحد رائع، قطفت العنب في فرنسا. ورعيت الأغنام في كومونة بكاليفورنيا. كل هذا قبل أن أحصل على شهادة المحاسب القانوني.
كان إيرف في غرفة نومها. ولم يكن أمامها من خيار سوى أن تتبعه. قال، موجّهًا حديثه إلى الهواء:
- كنت دائمًا ما أوقف التسريبات وأمسح الفيضانات.
لم يكلّف نفسه عناء النظر إلى ليلي، كان منشغلًا جدًا بتصحيح الأخطاء، والتكفير عن الذنوب. كان لديه الكثير ليعوّضه.
تابع وهو يزمجر:
- من المؤسف أن الأعاصير لم تغسل تلك الولاية النتنة بأكملها.
كان من الواضح أنه ممتن لوجود مهمة أمامه، مهمة تنقذه من أي تأمل داخلي. وأضاف بصوت عالٍ:
- باركلاند! ملهى النبض! طفل أسود في الثانية عشرة يُحكم عليه بالمؤبد! ناس ملوّنون يُطردون من مراكز الاقتراع! وكلهم مسجّلين كديمقراطيين! هل هذه هي أمريكا؟
كان إيرف أشبه بدرويش أشيب يدور حول أرضية شقتها الخشبية، رأسه الرمادي يلتف في الهواء. (كانت ليلي تعرف الـ"ديدهدز" حق المعرفة؛ ابنها الأوسط، إيريك، أمضى سنتين من عمره في جولة "تور" مخدّرة مع فرقة غريتفول ديد. هي ووالتر عثرا عليه وهو يتلوّى من المخدرات في موقف سيارات في "ريد روكس"، كولورادو، وسط مئات من الأطفال التائهين البائسين مثله تمامًا. مركز هازلدِن. التعافي. والآن صار لديه شركة شحن بضائع خاصة به في لوس أنجلوس. متزوّج، لديه قرض رهن عقاري وطفلان. لكن ليلي لن تنسى أبدًا تلك الأمسية في كولورادو—حدقتا إيريك كانتا كدوائر متداخلة، ووجهه أحمر كالحافة الضخمة من الصخور التي كانت تحيط بهم تحت وهج الغروب—ووالتر يلتقط الصبيّ كأنه رضيع، يرفعه فوق كتفه، ثم يلتفت إليها قائلاً:
- ليل، هل رأيتِ يومًا لونًا كهذا؟
نعم، كانت الجبال تبدو آنذاك مثل قطعة لحم نيئة فاخرة. كان والتر رجلاً حسّيًّا، حتى أثناء إنقاذه لابنه، كان الجمال من حوله يذهله ويشله مؤقتًا. وقتها، لم تكن ليلي متأكدة إن كانت هذه الصفة تجعلها تحب زوجها أكثر أم تدفعها لكرهه.)
والآن، بعد أن مات والتر، ها هو إيرف جورنستين في شقتها، ذلك الهيبي العجوز الذي ربما باع لابنها إيريك أول قرص "ويندوزبين" في حياته. كان إيرف يرفع قطعًا ضخمة ومبللة من الجص ويكدسها في كيس القمامة.
قال:
- سأرسل اللحاف إلى المصبغة. يعرفونني هناك.
قالت ليلي:
-حسنًا.
لكنها فكرت: يعرفونه هناك؟ لماذا؟ لأنه هو من يوصل الغسيل؟
قال إيرف:
- عليكِ أن تأخذي حمامًا، أن تنفضي الغبار عن شعرك. إنه يطفئ لمعان اللون الفضي ويغطيه.
لقد لاحظ اللمعان في شعرها! رفعت ليلي يدها لتربّت على رأسها، فالتقت راحتها بطبقة من الغبار.
قالت في طاعة:
- حسنًا.
كأنها فتاة صغيرة، فتاة صغيرة مشدوهة ومنتوَبة، وربما – ربما – مُغازَلة؟ ثم عادت إلى الحمّام، الذي كان لا يزال رطبًا من حمامها قبل ساعة.
دخلت الحوض من جديد. وتركت الماء الساخن ينهمر على جسدها مرة أخرى. وبينما ارتفع البخار، راحت تراقب دوامة الغبار وهي تتجمع عند المصرف، وتنساب نزولًا كما في ساعة رملية. وفجأة فكرت: يوجد رجل في شقتي. رجل غريب!
كانت عارية، وحيدة، في الحمّام.
قبل أن يتسلّل الخوف أو الحس السليم إلى وعيها، طرقت الفرصة بابها. ربما يكون هذا الإرف هو خلاصها.
من لا يخاطر لا يربح. الأفضل أن تأتي متأخرًا من ألا تأتي أبدًا، و... إلخ، إلخ.
لتذهب دروس الإيطالية إلى الجحيم. ستوفر أجرة الباص الذي يزحف بها عبر الحديقة.
يملك إيرف قضيبًا، وعيناه جميلتان. خرجت ليلي من الحمّام، ولفّت جسدها بمنشفة وردية مخملية، أظهرت كتفيها، وعظمة ترقوتها الثابتة الجميلة، وذراعيها البيضاء الناعمتين.
عادت إلى غرفة نومها.
كان إيرف جورنستين لا يزال هناك، في غرفة نوم ليلي، ظهره نحوها، وقميصه المصبوغ بألوانٍ متداخلة يشبه دائرة تصويب تحيط بكرشه، لكن من الخلف- باستثناء تلك الضفيرة القصيرة في مؤخرة رأسه – كانت ليلي تكاد تعجب بقوة عموده الفقري المنحني قليلًا.
سألت ليلي:
- هل تؤمن بالحب؟
استدار إيرف ببطء وقال:
- كنت أؤمن، أيام الكوميونة.
ثم أضاف بأسى:
- لكن بعد ثلاث زوجات وكل تلك النفقة... تعلمت أن لا شيء يأتي مجانًا.
قالت ليلي، محاوِلة التظاهر باللا مبالاة، رغم ارتجاف صوتها:
- وماذا سيكلفني إذًا؟
قال إيرف:
- هل أنتِ جادة؟
كان يواجهها الآن، وفي يده كيس قمامة أسود من نوع "هيفتي"، وفي الأخرى خرطوم المكنسة الكهربائية. كان يرفعه من وركه كأنه قضيب فضي ضخم. يا لهذا البطن الكروي! لا بد أن تبذل جهدًا لتتجاهله.
قالت ليلي:
- زوجي ميت.
قال إيرف:
- أتمنى لو كانت زوجاتي كذلك.
ثم تنهد وقال:
- اثنتان منهن اجتمعتا وتشاركتا في شقة بمنتجع بالم بيتش. ورغم كل ادعاءات الحياة الزوجية،
ووضع الخرطوم بين ساقيه ورفع يده ليشكل علامة الاقتباس في الهواء
– يمارسانها .
ثم تنهد مجددًا:
- صفقة تجارية فقط لابتزازي.
يا له من كره للنساء! فكرت ليلي.
قال:
- الزوجة الأخرى، جيني، كانت حبيبتي في المدرسة الثانوية، وكان من المعجزات أنها عادت إليّ! التقينا مجددًا بجوار المسبح في دار للرعاية. كانت تزور شقيقتها، ليندا. تزوجنا لبضع سنوات فقط، كنا صغارًا جدًا، صغيرين جدًا، وعندما جمعنا القدر من جديد، ظننا أننا استسلمنا مبكرًا. لكن بعد المشاكل، أوه، كل تلك المشاكل!
هنا تنهد إيرف تلك التنهيدة اليهودية القديمة، تنهيدة بدت وكأنها عبرت إليه من جيل سابق، تنهيدة لا يمكن تجاهلها، ذكّرت ليلي بأبيها –
- حتى جيني، السمينة، الطيبة، الوفية، لم تستطع أن تخرجني من خدرِي.
هز رأسه وقال:
- غرفتك، انظري إليها، نظيفة تقريبًا. تحتاج فقط إلى سقف جديد، ومختص لتنظيف السجاد بالبخار. سأشتري لك غطاء سرير جديد، أو لحاف، إن أحببت، أو حتى أصنعه لك بنفسي.
نظرت ليلي إليه وقالت:
- أتصنع اللحف؟
لو كانت رجلاً، لشعرت بأن انتصابها بدأ يخبو.
- أأنت صانع لحف؟
قال إيرف:
- الحياة كلها عن إعادة الابتكار. السؤال هو: كيف سأفعلها هذه المرة، للمرة الأخيرة.
جلس على طرف السرير.
يا إلهي، لا. هل هذه هي اللحظة التي سيبدأ فيها في الثرثرة عن حياته؟
قالت ليلي:
- عليّ أن أرتدي ملابسي الآن. وعليك أن تعود إلى شقتك في الطابق العلوي.
قال إيرف:
- لم أتناول الفياجرا هذا الصباح، لكنني مستعد إن كنتِ أنتِ كذلك.
تحدث وهو ينظر إلى الأرض.
- أنتِ ديمقراطية، أليس كذلك؟
قالت ليلي:
- أنا تقريبًا اشتراكية.
قال إيرف:
- أنا وأمثالي السبب في كل هذه الفوضى.
ثم وضع رأسه بين يديه وبدأ يبكي.
- أنا مكتئب سريريًا، كما أنكِ بالتأكيد لاحظتِ. الفياجرا تتداخل مع الوِلبوترين.
قالت ليلي:
- لا يبدو هذا مبشّرًا جدًا.
كانت متأكدة أنها لم تكن يومًا بهذه الوقاحة.
قال إيرف، وسط نحيبه:
- بالطبع تحتقرينني. أنا أحتقر نفسي.
قالت ليلي:
- أوه، إيرف.
لقد قضت حياتها في مواساة الرجال. كانت ردة الفعل هذه آلية تمامًا، موروثة من أمها، التي كانت تمضي معظم وقتها في تهدئة زوجها المذعور كثير الشكوى.
قال إيرف:
- الآن تقولين "أوه، إيرف"، لكن عندما تعرفين الحقيقة، لن تزعجي نفسك حتى بقول "أوه، إيرف".
قالت ليلي:
- ما هي؟ ما هي؟ لا تجعلني أخمّن. أنا كبيرة في السن، والوقت قليل. أين "الخط الأحمر" في هذه المعادلة؟
كانت تقتبس من ابنتها ميرّا المصرفية.
قال:
- أنا من بالم بيتش.
قالت ليلي:
- وماذا في ذلك؟
نظر إليها وقال:
- بطاقات الاقتراع المخرّمة؟ الحمقى الذين صوّتوا لبات بيوكانن؟ كنت واحدًا منهم.
حدّقت ليلي فيه. وقالت:
- هذا كان منذ سنوات!
قال:
- لا، لا، لا. لقد غيّرتُ مجرى التاريخ! أنا واحد من أولئك الحمقى الذين أوصلوا بوش إلى البيت الأبيض. وماذا حصل بعد ذلك؟ أحداث 11 سبتمبر. العراق. سوريا. زعزعة استقرار الشرق الأوسط. كل ذلك الموت والدمار! الهجرات الجماعية. صعود القومية. من دون بوش، ما كان ليكون هناك ترامب. ومن دون إيرف جورنستين، ما كان ليكون هناك بوش.
قالت ليلي:
- وماذا عن أوباما؟
قال إيرف:
- أوباما... لثماني سنوات متتالية كنتُ مهووسًا بأوباما.
ثم تنهد تلك التنهيدة المَرَضية من جديد.
ثم أضاف:
- في نهاية المطاف، يا ليلي الجميلة، كل شيء يبدأ بي.
أدركت ليلي أن في نزعة إيرف النرجسية مفارقة عجيبة - فبينما تنطوي على حكمة ما، تحمل في طياتها جنوناً لا يُنكر. ربما كان له وجهة نظر، في زمنٍ انحدرت فيه القيم إلى الحضيض، حيث ساد خطاب الكراهية وعادت نزعات التعصب بثوبها الجديد، بينما أضحت عبادة المال هي الديانة السائدة. أليس من المنطقي عندئذٍ أن نرى أن جهود جيلها - جيل إيرف ووالتر - ذهبت أدراج الرياح؟
تذكرت ابنها إيريك في أيامه الضائعة، حين كان يهذي بفلسفة "ماندالا الرمال" التي تعلمها من الرهبان التبتيين - أولئك الذين يقضون أياماً طويلة في صنع لوحات فنية بديعة من أحجار ثمينة مسحوقة، ليمسحوها فور إتمامها في لمحة عين. كان يلقنها دروساً عن "جمال الزوال" من على أريكتهما البالية، بينما كانت عيناه البنيتان تدوران كعجين الكعك في الخلاط الكهربائي.
"عِيشي اللحظة"
نصحها ابنها المدمن وهو تحت تأثير الهيروين، ذلك الابن الشاعر الذي ظل الأقرب إلى قلبها. لا عجب أن والتر كان يضاجع كل ما يتحرك.
قالت ليلي، وهي تشد منشفتها أكثر حول صدرها:
- أظن أنكَ يجب أن تعود إلى بيتك.
نهض إيرف بحزن من مكانه.قالت ليلي:
- لا ينبغي أن تلوم نفسك. ستشعر بتحسن حين تغسل وجهك.
قال إيرف بتردد:
- ربما.
سلمته ليلي مكنسته وممسحته، وحملت كيس القمامة بنفسها، ثم بدأت بتوجيهه نحو الممر بدفعة خفيفة. وأرشدته حتى الباب الأمامي. عندما فتحته، وجدت رجلاً وسيماً بقميص أسود وجينز أسود، يحمل حقيبة أدوات، واقفاً على ممسحة الباب.قال إيرف:
- آه، فريد! لقد تلقيت رسائلي.
لم تتحرك عضلة واحدة في وجه فريد. بدا منحوتًا، كما خمنت ليلي، من خشب مُلطخ بالشاي. أشبه بتمثال ملاك من حضارة أخرى، ربما من المستقبل الساحر؟ تلمع عيناه الخضراوان للحظة، وكأن طاقة تنبض داخله، أو ربما كان ذلك بسبب لمعان شعره الأحمر الناعم—بلون خشب خزانة الأرز في منزلها—الذي جعل عينيه تشعان. أو ربما كانا يتلألآن بسخرية من هذا المشهد العجائزي الذي وجدت ليلي نفسها، ولأسباب غامضة، جزءاً منه.
قال إيرف:
- المشكلة هناك في غرفة النوم .
انزلق فريد، برشاقة نمر الغابة، متجاوزاً إيرف بقميصه الملون وليلي بمنشفتها، وتوجه نحو الممر.قال إيرف، مركزاً الآن بالكامل على ليلي.
- كان من دواعي سروري التحدث معك، أنتِ شخص طيب.
فكرت ليلي.طيب؟! الطيبة لم تأتِ بأي أحد إلى أي مكان! لكنها قالت:
- شكراً لك.
- ربما يمكنني أن أدعوكِ لاحتساء القهوة يوماً ما؟
قالت ليلي:
- سنرى، إيرف، الله وحده يعلم ما يخبئه المستقبل لأي منا. في عمري هذا، لا أزعج نفسي بشراء مواضيد خضراء.
ابتسم قليلاً عند سماع ذلك، وأخذ كيس القمامة من يدها. ثم استدار إيرف حاملاً مكنسته وممسحته، واتجه نحو المصعد واضغط على الزر.
بالعودة إلى الشقة، في غرفة النوم، كان فريد الغامض يفحص الثقب في السقف بعينيه.قالت ليلي:
- بعض الجص سيصلح هذا، أليس كذلك؟
حوّل فريد نظره من السقف إليها، متفحصاً إياها بعينيه الزمرديتين.
وقف الاثنان هكذا لبرهة، قبل أن تدرك ليلي أن منشفتها قد انزلقت، كاشفةً عن جانبها الأيسر.كان فريد يحدق في صدرها.حسناً، ولماذا لا؟ فكرت ليلي. إننا نعيش مرة واحدة فقط. تركت المنشفة تسقط إلى قدميها.(لقد رأت هذه الحركة مراراً في الأفلام!)
فيما بعد، وهما عاريان على السرير في غرفة التلفاز، وكان فريد قد دخلها من الخلف، إحدى يديه تداعب بظرها، والأخرى تقبض على ثديها – (توقعت ليلي أن يكون جسده خاليًا من الشعر، وأن يكون فخذه ناعمًا كالدمية كين، لكن لا، فريد رجلٌ بكل معنى الكلمة، رجلٌ بكل معنى الكلمة في كل شيء. كانت ستخبر ميرّا لاحقًا بذلك، وستقول لها بفخر، ممتزج بالحسد: "أحسنتِ يا أمي!") شعرت ليلي برغبة في أن تصرخ:
- يا والتر! كيف تخليت عني؟
لكنه كان قد مات. وليلي لم تكن ميتة.
ولذا، خرج صراخها من أعماق قلبها، كآهة واحدة عظيمة، ممتلئة، ودسمة، مشبعة باللذة.
(النهاية)
***
...................
* من كتاب: من حمقى من أجل الحب: قصص، بقلم هيلين شولمان . 2025
https://lithub.com/i-am-seventy-five
الكاتبة: هيلين شولمان/ Helen Schulman: (مواليد أبريل 1961) هي روائية وكاتبة قصة قصيرة ومقالة وسيناريو أميركية. حققت روايتها الخامسة This Beautiful Life نجاحًا عالميًا، وقد اختيرت ضمن قائمة 100 كتاب بارز لعام 2011 في نيويورك تايمز بوك ريفيو. وُلدت هيلين شولمان في مدينة نيويورك، حيث تعيش وتكتب وتدرّس. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة كورنيل، ودرجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة كولومبيا. نشرت حتى الآن سبع روايات، وصدر لها هذا الشهر( يوليو 2025 ) مجموعة قصصية بعنوان: حمقى من أجل الحب / Fools for Love.