ترجمات أدبية
الدب آكل النمل / ترجمة: محمد غنيم

بقلم: ميلين فرنانديز بينتادو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
- أنا شخص كبير السن، بيتر بان. لقد كبرت منذ وقت طويل.
- لقد وعدتيني أنك لن تكبري، ويندي.
- لم أستطع منع ذلك.
جيمس ماثيو باري. بيتر بان ووندي
- إذا شعرتِ أن الأمر أصبح صعبًا للغاية، فأشركي أختكِ في النزهة، ولكن فقط إذا تعقد الموقف. اتفقنا؟
أومأتُ برأسي طائعة أمام سيل التعليمات التي أطلقها ذلك "الزعيم" ذو الخمسة عشر عامًا، والذي كان لديه حلولٌ لكل المواقف التي يمكن تخيلها، كأنه مخططٌ يسير على قدمين. لكن الجزء الأصعب كان من نصيبي أنا، المنفذة: طلب الإذن من والديّ للخروج وحدي مع "ك" كان يُرعبني؛ أظن أنني كنت أفعل ذلك بوجهٍ يظهر عليه الذنب لدرجة أنه كان يُشجع على الرفض.
كنت فتاةً في سن المراهقة منعزلة جدًا. مقابل مجموعة من وسائل الراحة المادية (التي ربما كانت صيقاتي يغبطنني عليها) لم يكن من المفترض بي أن أحلم حتى بأن أكون جيمس دين أنثوية. كنت حريصةً جدًا على ألا أثير صراعاتٍ بين الأجيال، أو أرفض مرافقة والديّ في نزهاتهما، أو أتذمر من صرامتهما. وعندما كانا يمنعونني من شيءٍ ما، كنت أتظاهر بعدم اكتراثي بالأمر. لذلك، قمت بتعديل طلبي قليلًا، سعيًا للحصول على نتائج إيجابية في تلك "المهمة"
- ماما، هل تظنين أن ليلي وأنا نستطيع الذهاب مع "ك" إلى حديقة الحيوان يوم الثلاثاء؟
كانت أمي امرأة شابة وجميلة، لكنها كانت تحتاج إلى فرض أوامر سخيفة لتعزيز ثقتها بنفسها، التي كانت منخفضةً بشكلٍ غامض. كانت شخصيةً يصعب إرضاؤها، لكنها كانت مهمةً جدًا في العائلة، وكنا جميعًا ندللها قليلًا.
- منذ متى وأنتِ مهتمة بالحيوانات؟ أسوأ درجاتك دائمًا في مادة الأحياء.
كنتُ طالبة متفوقة لا أترك مجالًا للقصور. أما عطلاتي، فكانت تبدو كعطلات جانحة شابة "تحت المراقبة". دائمًا برفقة، دائمًا تحت المراقبة. كانت علاقتي العاطفية مع "ك" التي استمرت أكثر من عام تقتصر على الاستماع إلى الموسيقى وتسجيل الأشرطة في غرفة المعيشة نهارًا وفي الشرفة ليلًا. لقد أدى هذا النظام القاسي من القيود إلى تأثيرات مختلفة فينا. فقد أصبحت في عيني "ك" شخصًا مرغوبًا جدًا، وكأنني فينوس في جينز فوق قاعدة من خمسة طوابق، وكان هو بالنسبة لي كأمير لطيف ورومانسي وواثق، مملوء بالحب كما في قصص الأفلام (وبالنظر إلى حادثة إذن الخروج، سيكون كحكاية سندريلا). وهكذا كانت علاقتنا تتطور في اتجاهين تحت عينَيّ والديّ الحذرتين الصارمتين.
- يقول "ك" إنهم أحضروا دبًا آكل النمل، أظن أنه أول حيوان جديد يصل منذ قرن. نريد أن نراه.
- لا أعرف، اسألي والدكِ، أنا لست مقتنعةً تمامًا.
والدي، الذي لم يكن موجودًا في المنزل أبدًا. دائمًا على سفر، وعندما كان يعود كان يملأ المكان بالهواء النقي والفرح. مليئًا بالنكات والهدايا، ويترك أمي مسؤولةً عن الحفاظ على الانضباط الصارم، بينما كان دوره هو أن يكون متساهلًا ومتفهمًا. بالطبع، كان نادرًا ما يتدخل، لكنه هذه المرة فعلها.
- حسنًا، خذي أختك وعودا مبكرًا.
لم أصدق الأمر، كنا سنخرج بمفردنا. قضيت اليوم كله في مساعدة والديّ. غسلت الصحون، لم أرد على والدتي ولم أتشاجر مع أختي. جهزت ملابسي وذهبت إلى الفراش مبكرًا.
لم نجد الدب آكل النمل رغم الجولات العديدة التي قمنا بها. كنت أرغب أن تراني زميلاتي في المدرسة، وحدي مع ك (وأختي كانت خلفنا، مبتهجة جدًا ومعها غزل البنات) مثل باقي الأزواج الذين أعرفهم.
-هيا نذهب إلى منزلي، نأخذ قسطًا من الراحة ثم نعود. هكذا سترينه. لم تزوري منزلي الجديد من قبل.
كان منزله جميلاً، أبيض اللون ومليئاً بالنباتات، واتضح أن "ك" كان مضيفاً كريماً. انظري يا ليلي: شريط كاسيت لفرقة أبا، إذا كنت تريدين سماعه، فالمسجل موجود. تعالي لنرى القطط المولودة حديثًا، إنها في المرآب. لقد ولدت القطة أمس وساعدتها.
عندما نزلنا ورأينا القطط الصغيرة، فهمت أننا قد وصلنا إلى "ذلك الشيء". ذلك الشيء الذي تتحدث عنه جميع المراهقات بشغف وخوف. ذلك الموضوع الرئيسي في أحاديث صديقاتي في الفصل. ذلك اللغز الكبير في حياتنا: أين سيكون؟ مع من؟ كيف؟ نعم، كانت لدينا أفكار مسبقة حول تلك اللحظة. كنا مليئات بالخطط والاقتراحات، وفوق كل شيء، كنا واثقات أنه سيكون قبل الزواج. أما بالنسبة لي، فقد كنت أتخيل تلك المراسم بشروط معينة. المكان: غرفة فندق مليئة بالسجاد؛ الوقت: ليلة قمرٍ أزرق ساحر، مع موسيقى بين الإثارة والقداسة. شيء يشبه الملاك جبرائيل وهو يعزف على الساكسفون. وكنت أتخيل نفسي أطول، أنحف، أكثر أناقة، وكان عشيقي مزيجًا من فيكتور مانويل وكلينت إيستوود، وكان كل شيء بطيء الحركة، كما لو كنا نطفو. وكان هو رجلًا حكيمًا وخبيرًا، وكنت أنا خفيفة الوزن ومرنة.
تحرك لسان "ك" بصعوبة في فمي، فاصطدم بلساني. بدأت أتجنبه واكتشفت حركة دائرية نحو اليسار يمكنني أيضًا عكسها: يمين، يسار، مرتين على كل جانب، ثم بشكل غير متناسق. فهم "ك" هذا كإشارة للمتعة. ثم تذكرت الأفلام، لففت ذراعي حول عنقه ولامست شعره الناعم جدًا والمقصوص بشكل مثالي على يد حلاق والده. كان يقوم بذلك بشكل جيد جدًا، وفجأة، وأنا غارقة في حركاتي شعرت بشيء بين ساقي فارتعبت. لم أكن أعتقد أنني سأصل إلى هذا الحد، ولم تكن لدي أي رغبة في ذلك؛ كنت أشعر بالملل وأردت العودة إلى المنزل لتناول الغداء. لكن، ماذا أفعل؟ هل أصرخ كالمجنونة؟ هل أبكي كطفلة غبية؟ وحاولت أن أتصرف بأكثر الطرق نضجًا بقدر الإمكان . كان شيئًا قاسيًا وجافًا، مع ألم استمر صوته لفترة قبل أن يختفي. أعتقد أنني من شدة الخوف حبست أنفاسي، ففسر "ك" انقطاع نفسي على أنه إثارة شديدة. مرر يده على رأسي وقبل جبيني، ثم عينيّ. كان هذا أكثر ما أعجبني. رفعني ووضعني على الأرض. ثم أدركت أن أول تجربة جنسية لي كانت وأنا جالسة على رف في جراج، بين علبتين من الطلاء الأزرق المعدني للسيارات وسقاية صفراء. والآن كنت أستطيع سماع الموسيقى التي كانت أختي تشغلها في المسجل بالطابق الأعلى: الملكة الراقصة. فكرت: أغنية مليئة بالبهجة والطفولة ."
مازلت أمسك بيد "ك"، الذي بدا وكأنه لا يستطيع أن يتركني، ذهبت إلى الحمام ونظرت إلى المرآة. لا شيء. كان لدي نفس الوجه. لم تتسع أنفي أو تكبر عيناي، ولم تكن شفتاي أكثر احمرارًا. إذن، الأشياء المهمة جدًا لا تترك آثارًا. لاحظت ذلك في ذهني. بقعة صغيرة هي كل الدليل الوحيد على "ما حدث".
خرجت إلى الصالة، حيث كانت أختي تسجل الأغنية... "وعندما تحصل على الفرصة..." جلست بجانها وشعرت وكأننا على بعد سنوات ضوئية. حاولت مساعدتها وصرف تفكيري إلى شيء آخر، وكدت أنجح، حتى جاء "ك" يحمل صينية عليها كأسان من الآيس كريم والعديد من البسكويت. هل كانت بادرة اعتذار؟ بدأت في تكسير البسكويت الخاص بي ونثره فوق الآيس كريم، فهكذا أحب تناوله.
- سأقدمه لك.
وشعرت بالأسف تجاهه. كان سعيدًا، وكنت أنا سبب سعادته. لم يكن يعرف ماذا يفعل، كيف يُظهر لي حبه ويرضيني. كان يشعر بأنه حامٍ، مسؤول، وأبوي. كنت عاقلةً بما يكفي لأفهم أننا لم نصل إلى هذه النقطة فقط بسبب أفعاله، بل بسبب ذلك المزيج من الإهمال والفضول الذي يلازمني بشكلٍ مريع.
- هل نذهب؟
قالت أختي:
- لا، لقد جاؤوا للبحث عنا. تحدث "ك" مع والده وسوف يرسلون له السيارة.
أضاف "ك":
- لم ترينيني أبدًا وأنا أقود سيارة من قبل .
في نبرة صوته فهمت الرسالة: نحن شركاء. لدينا ماضٍ حميمي مشترك.
وبعد أن ركبنا السيارة، كنا أنا و"ك" في الأمام وأختي في الخلف. اسمعي هذا، إنها مفاجأة... أغنية "وهي تشتري سلّمًا إلى الجنة". لفرقة ليد زبلين.
كيف كان شعور "ك"؟ أتخيله وكأنه يعتقد أننا تزوجنا في الكاتدرائية؛ كان يمنحني قبلة خفيفة عند كل إشارة مرور، "قف"، "أفسح الطريق"، ويغني "وأنتِ تشترين سلّمًا إلى الجنة". كنتُ أتأمل الشارع، السيارات الأخرى، والناس. ماذا فعلت؟ يا إلهي، كم كان والداي حكيمين في تقييدي بهذا الشكل. كنتُ أشعر وكأنني كائنٌ مذنب ومنحرف. لا، لم أكن كذلك. كنتُ أحب "ك". كان يعجبني، كنت أبكي إذا تشاجرنا، وكنت أستمتع بليالي الشرفة والأقراص الموسيقية، ممزوجة بحكاياته عن المقالب في المدرسة وخلافاته مع أبيه. كان لطيفًا جدًا. لكن الآن، لن يعود شيء كما كان. ماذا لو تشاجرنا؟ ماذا لو أخبر أصدقاءه؟ أما أنا، فلم أكن أنوي الحديث عن الأمر حتى في أحرج اللحظات، وحتى لو فى اعتراف.
قال:
- ابقى لتناول الغداء، لقد دعتك والدتي.
- لا، شكراً.
لم يكن يأكل أبدًا في منزلنا. كنت أشعر بالخجل، لكنه جلس بجانبي على المائدة. نزّع عظام دجاجتي، قطع الموز إلى دوائر صغيرة جدًا وأزال شعري من عيني. ابتسمت له بتسامح، لكن لم أستطع أن أفعل شيئًا أكثر. رقص ك مع أختي، وألقى نكات، وكتب على أوراق أنه يحبني وألقاها من الشرفة. كنت أتمنى أن يحل المساء ويذهب إلى منزله، حتى أكون وحدي مع أفكاري ومهبلي."
أخيرًا جاء للبحث عني .
- انزلي معي للحظة.
- لماذا؟
- لأعطيكِ شيئًا.
- لا أريد.
- حسنًا، سأحضره لكِ، انتظريني.
بقيت جالسة على الدرج أفكر أن السلالم كانت بيضاء مع بقع سوداء، كلها من الجرانيت. عاد بباقة جميلة من الزهور في مزهرية: زهور السيف الوردية والبيضاء، ورود حمراء، قرنفل، وزنابق، وربطة بلون أزرق ساحر. وبطاقة. أحب الزهور، لكن هذه الزهور جعلتني أشعر بالحزن.
-وداعًا، اتصلي بي بمجرد أن تستيقظي حتى لا أوقظك.
دخلت ومعي "غنيمتي".
- وما هذه الزهور؟
- إنها من "ك".
- ولكن لماذا؟
- لا أعرف.
قال أبي :
- ربما أرسلها دب النمل .
- إنها جميلة، قبّليني ونامي جيدًا.
- شكرا لك يا أبي .
سريري الذي كان بالأمس وما زال كما هو اليوم، وسادتي، دبدوبي، وصورة "مافالدا" على الحائط. هل سيحبونني كما كانوا من قبل؟ وماذا عن "ك"؟ عندما تخف حماسة العاشق المبتدئ، كيف ستكون علاقتنا؟ فكرت في أنني، بسبب عدم حزمي وتفاخري كمراهقة، قد دمرت شيئًا كان جميلًا ولطيفًا، وكان يمكن أن يكون بطيئًا وحلوًا. لكن لم يعد الأمر كذلك. في السرير الآخر، كانت أختي تنام بسلام، بعيدة عن كل شيء، ربما تحلم بحديقة الحيوان ودب النمل الذي لم نره، والمثلجات وفرقة "أبا"، وبحبيب أختها الساحر والمتسامح. ربما كانت تتمنى أن يكون لها حبيبٌ مثله.
بكيت كثيرًا. بسبب المسافة التي كانت تفصلنا وتجلعنا مختلفين؛ بسبب كوني لست الشخص الذي يعتقده والديّ؛ بسبب كوني مزيفة ومتصنّعة مع "ك"، الذي سيتذكرني بكل مودة كـ "أول مرة" له. بكيت لأنني خرجت من صفحات إخوان جريم لكي أدخل صفحات هنري ميلر، وهو أمر لم أكن مرتاحة له، ولأنني فقدت الفرصة الوحيدة والفريدة للاستمتاع بالحدث الأهم في حياتي، الذي لم يكن مهيبًا، ولا حالماً، ولا غامضًا، ولا أثيريًا. ولم يكن حتى مؤلمًا أو عنيفًا. لا شيء. كان للأسف رماديًا وغير مريح. بكيت كثيرًا، لم أنم حتى غفوت، ولكن بكيت كثيرًا وغرقت في النوم في ساعة متأخرة.
(تمت)
***
.......................
الكاتبة: ميلين فرنانديز بينتادو/ Mylene Fernández Pintado (من مواليد بينار ديل ريو، 1963) محامية وكاتبة كوبية،مؤلفة روايات ومجموعات قصصية، حاصلة على عدة جوائز (مثل جائزة ديفيد، وجائزة إيتالو كالفينو، وجائزة النقاد)، تتميز أسلوبها بالواقعية، حيث تحاول الكشف عن نفسها وعن أجزاء من الوجود اليومي، تلك الأشياء الهائلة التي تحدث للأشخاص العاديين: "أخبار صادقة لا تُصدق" و"أحلام غير قابلة للتحقق تحدث يوميًا"...حتى الآن، نشرت روايتين —"صلوات أخرى مُستجابة" (2003) و"زاوية العالم" (2011)— وخمس مجموعات قصصية، بعضها صدر بإصدارات باللغة الإنجليزية والإيطالية. والقصة المترجمة هنا " الدب آكل النمل" هي إحدى قصصها المبكرة.