ترجمات أدبية
ليزلي ووكر: أسنان جيدة وجبنة طرية

(قصتان)
ليزلي ووكر تراهان
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
(1) أسنان جيدة
أري الرجل نفسه كل يوم، الرجل يشبهني، أو يبدو على الشكل الذي سأكون عليه بعد ثلاثين عامًا لو كنت رجلًا. ذلك يعني أنه يشبه أبي، يشبه أبي لو كان على قيد الحياة.
أرى الرجل ينتظر الحافلة أمام نافذة شقتي، أراه في محل البقالة ولمغسلة والمقاهي، ومحلات بيع القهوة، أراه ينتظر في الطوابير، أو يوقع على الصور، أراه جالسًا على مقعد في الحديقة يشاهد الغرباء، وهو دائمًا وحيد، وأنا كذلك دائمًا وحيدة أيضًا.
أتصل بأختي لكي أحدثها عن الرجل، أترك الجزء المتعقلق بأنه يشهني. تقول: هل جددت أدويتك، ومتى آخر مرة رأيت فيها طبيبك؟ يبدو أنها تأكل رقائق البطاطس .
تقع شقتي فوق عيادة طبيب الأسنان، يعطيني طبيب الأسنان خصمًا على الدفع له مقابل الرد على الهواتف مرة واحدة في الأسبوع. عندما تنتهي العيادة، يغلق طبيب الأسنان الباب ويقول، الآن هيا نتحقق من تلك الأقواس، واستلقي علي كرسي بينما يضع يده في فمي.
شيء واحد أتذكره عن والدي، كانت أطراف أصابعه متيبسة لدرجة أنه عندما لمسني شعرت أنه يرتدي قفازات.
أحيانًا يأتي الرجل إلى المخبز حيث أعمل، لست الخباز، أنا أقوم بتنظيف فتات الآخرين، أمسح الحليب المسكوب وأضع يدي على بطاقات الائتمان ونقودهم القذرة.
كان لطبيب الأسنان زوجة وابنة، ولكن كل ذلك انتهى الآن، يحدثني عنهما عندما يفحص أسناني، يقول أن زوجته تشرب الكثير من النبيذ وابنته تأكل الكثير من الحلوى، وهو أثناء ذلك كله يبقي يديه في فمي، فلا أقول كلمة واحدة.
أحيانًا أرى الرجل وهو يحمل حقيبة كمان ومن المفترض أنه يحمل كمانًا.
كان والدي يعزف على الكمان. حاول أن يعلمني، لكن يدي خذلتنى ولم تعزف أبدًا بشكل صحيح.
بعد رؤية الرجل كل يوم لعدة أسابيع، أجد صعوبة في تذكر شكل والدي الآن، ليس لدي صور له، لكنني أحلم به كثيرًا، عندما أحلم به أرى وجه الرجل بدلًا منه.
أحلم أنني ألعب الورق مع الرجل، إنه يفوز، لدي كل البطاقات الصحيحة، وألعب كل واحدة بدقة.
يقول طبيب الأسنان أن أسناني عجيبة، يقول أنها جميلة جدًا لدرجة أنني لا أستحقها.
كانت لدي أبي أسنان مخيفة، ذلك واحد من الاختلافات التي أعرفها بينى وبينه .
ذات يوم رأيت الرجل يركب الحافلة، أنا أيضًا ركبت، إنه طريق لم أستخدمه أبدًا من قبل، تساءلت إلى أين ستأخذني الحافلة، أريد أن أجلس بجوار الرجل، لكنه يضع كمانًا في المقعد المجاور له، فأضطر للجلوس في مؤخرة الحافلة.
مكان واحد لم أر فيه الرجل أبدًا هو عيادة طبيب الأسنان، أود أن أراه هناك، وأتساءل عما إذا كانت لديه أسنان جيدة.
مات أبي بينما كان يعزف على الكمان، في لحظة كانت الموسيقى تملأ المنزل، وفي اللحظة التالية، تحطم، ثم صمت تام.
في الحافلة مع الرجل مررنا بالمنزل حيث مات أبي، أشعر بالحكة في يدي، أهرش وأهرش مع ذلك لا تتوقفان عن الحك، أنا متأكدة أن هناك خطأ ما فيهما، لكن لا شيء هناك. نظرت إلى أعلى ورأيت حقيبة كمان الرجل تتكأ على النافذة، يبدو أنها تحلم بشيء ما.
يطلب مني طبيب الأسنان أن أتعشى معه، يقول أنه سيعطيني كشفًا مجانيًا لمدة ستة أشهر إذا قبلت دعوته.
لطالما قال أبي أن التيبس الذى في يده علامة على القوة، قال أن الأجزاء الصلبة غطت الأجزاء الضعيفة وهذا ما منحه القوة.
أحرص على رؤية رأس الرجل من آخر الحافلة، كل ما أمكنني رؤيته العنق الأنيق لحقيبة الكمان، لا أستطيع رؤية المشابك المعدنية ولا أستطيع أن أرى مقبضها ولكنني أتخيل الرجل وهو يلف يديه حولها.
أتصل بأختي، الهاتف يرن ويرن.
يطلب لي طبيب الأسنان العشاء، دجاج ومكرونة، أطلب كأسًا من النبيذ، لكنه يقول أن النبيذ مضر بأسناني، أشرب الماء فقط، ولا توجد حلوى.
ينزل الرجل من الحافلة فأتبعه، يمشي داخلًا متجرًا للموسيقى،أقف في الخارج وأراقب عبر النافذة الرجل وهو يتحرك إلى آخرالمحل، يخرج الكمان من الحقيبة، ثم يجلس.
بعد العشاء يقول طبيب الأسنان حان الوقت لتنظيف أسنانك بالخيط،، استلقيت على كرسيه وهو يلف خيطًا حول إصبعين، أسمع صوت طقطقة البلاستيك، أشعر بارتفاع الضغط، عندما يسحب الخيط يكون مشبعًا بالدم.
عندما مات أبي انكسر القوس وقطع يده اليمني.
أتصل بأختي، أقول ماذا تتذكرين عن يديه؟" تقول: هل تناولت أدويتك ومتى كانت آخر مرة تحدثت فيها إلى طبييب؟" أقول: " يداه . . هل تتذكرينهما؟" تقول: لا أعرف ما الذي تتحدثين عنه؟" هناك شخص ما في الخلفية، لا أعرف إذا ما كانت تتحدث إليه أم تتحدث إلي.
عبر نافذة متجر الموسيقى، أرى انعكاس صورتي، وأرى الرجل جالسًا فوق مقعد معدني صغير يعزف على الكمان، أقف هناك لفترة طويلة أشاهدنا معًا هكذا.
***
(2) جبنة طرية
تقترب فتاة من امرأة، الاثنتان تسيران في اتجاهين متقابلين.
تبلغ الفتاة من العمر خمسة عشر عامًا وربما ستة عشر، عمر المرأة ثلاثة أضعاف عمر الفتاة تقريبًا أو أكثر.
الفتاة في صحبة فتى، أما المرأة فمعها حقيبة بقالة.
إنه كيس من الورق تحمله المرأة دون إحكام على جانب فخذها الأيمن، كان الهواء معبأ بأمطار غير متساقطة، يبد أن المرأة ليست في عجلة من أمرها، تستل علبة وردية اللون من الجقيبة وتفتحها بيد واحدة.
يميل الفتى لتقبيل الفتاة، لكن الفتاة لم تكن تنظر إليه، إنها تنظر إلى المرأة، معجبة بقصة شعرها الأشقر الفوضى وسروالها الجينز وحذائها الطويل. تعتقد أن المرأة فاتنة، مثل فكرة طفل عن أميرة، كبرت فقط،على حين فستانها ملطخ بالوحل.
عندما يقترب فم الفتى من الفتاة، تشم في أنفاسه رائحة المعدن، تشم رائحة نار، رائحة صدأ، يخطر في بالها قد تركته يحترق، فأسود الطعام وفسد.
تخطو الفتاة جانبًا وتصطدم بالمرأة.
تسقط الحقيبة من يد المرأة وتتناثر محتوياتها على الرصيف.
يتناثر النبيذ الأجمر على سروال الفتى وتسقط بين قدميه علبة بسكويت وقطعة من الجبن الطري ملفوفة في بلاستيك رقيق.
تقول الفتاة آسفة.
تقول المرأة لا بد أنك كنت تمزحين معي.
يقول الفتى للمرأة ينبغي عليك أن تدفعي لي مقابل التنظيف الجاف لهذا السروال.
تقول المرأة سأدفع عندما أموت.
تخجل الفتاة، تخجل لأنها اصطدمت بالمرأة الفاتنة، وتشعر بالخجل من كونها مع فتى لا يجيد الاعتذار. تشعر بالخجل لأنها رفضت منذ وقت طويل رفضًا قاطعًا أن تجرب الجبن الطري، وأنها كانت قد تمسكت بهذا القرار تمامًا.
تخجل من ثيابها غير الملهمة وشعرها غير المصقول، تخجل من أن عينيها زرقاوان وليستا بنيتين مثل عيني المرأة، تخجل من أن الشمس لا تشرق وتخجل من القمامة على الرصيف، تخجل من أنها تعيش في هذه المدينة وأنها مشت في هذا الشارع وفي هذا الموضع لأول مرة.
يتحدث الفتى والفتاة بصوت عالٍ الآن، وتعتقد الفتاة أنهما يشبهان الدمى بحركاتيهما المتشنجة ووجهيهما القاسيين، يبدأ الناس في الانعطاف بعيدًا عنهما وعن الرصيف الذي كان مشغولًا من قبل. طفلان صغيران يشاهدان علانية من داخل نافذة شقة. يجذبهما شخص ما بعيدًا، لكن يبقى أثرهما الشبحي باقيًا.
يتطلع الفتى إلى شيء ما على هاتفه، يقول أنه يحاول تقييم تكلفة فاتورة التنظيف الجافة. تقول المرأة أنها لن تدفع مقابل تنظيف ملابس الجينز الرديئة التي يلبسها الأطفال.
يقول الفتى عفوًا سيدتي، هذا أجمل سروال جينز لدي.
تقول المرأة بالطبع هو كذلك، تقول المرأة أعط له إجازة، تقول ربما لن يحدث لك هذا النوع من الأشياء إذا ما تواعدت مع فتيات في مثل سنك.
ليس الفتى صبيًا حقًا ولكن إلى حد ما نوع من الرجال، أكبر من الفتاة بما يقرب من عشر سنوات.
تلعق المرأة شفتيها، وتحدق فيهما، تقول كم سنة هي أصغر منه: خمس سنوات أم ست سنوات؟
ابتسامة الفتى جامدة مثل الجبس، يقول كلانا في الثامنة عشرة. يضع يديه في جيبه وينظر في عين المرأة بتحدٍ.
تصهل المرأة بالضحك، تقول بالتأكيد، يا روميو بالتأكيد. تتعرض للفتاة بالسؤال عما إذا كانت على ما يرام، وإذا ما كانت في حاجة إلى مساعدة من نوع ما، تلمس ذراع الفتاة.
تبدأ قطرات المطر اللطيف في السقوط على الرصيف أمامهم، تشعر الفتاة بوخز خفيف على رأسها، تدفع يد المرأة بعيدًا.
تقول المرأة اهتمي بنفسك، تخطو الفتاة فوق علبة البسكويت وتبدأ في الابتعاد. ينحني الفتي لأخذ قطعة الجبن، يلف ذراعيه للخلف، ويقول مرحبًا سيدتي، لقد نسيت شيئًا.
تستدير المرأة وتضع الجبن على خدها الأيسر، مسحة لامعة من الكريمة تمتد من أنفها إلى إذنها، يتساقط المطر بشدة الآن ويلتصق شعر المرأة بخديها.
تسقط قطرات المطر الثلحية الصلبة على رأس الفتاة وتتدحرج على وجهها، تراقب الفتى وهو يركض على الرصيف، عائدًا في الاتجاه الذي أتيا منه. يرفع يديه فوق رأسه مثل طائر غريب يحاول الطيران، شعر الفتاة وملابسها غارقان في الماء، لا ترى جدوى من البحث عن غطاء الآن. تختلس النظر إلى قطعة الجبن، وهى نصف ملفوفة في البلاستيك وعائمة في بركة من مياه الأمطار. تقبض على قطعة منها بين سبابتها وإبهامها، وترفعها إلى فمها. تصرخ المرأة، ليس من حقك هذا الجبن، ولكن خلال المطر يبدو صراخها كالهمس.
(تمت)
***
..................
المؤلفة: ليزلي وولكر تراهان/ Leslie Walker Trahan كاتبة ومحررة وأمينة مكتبة سابقة، تعيش فى أوستن/تكساس، مع زوجها وولديها نشرت قصصها القصير وقصائد نثر في العديد من المجلات الأدبية. ويمكن التواصل معها على تويتر: Twitter @lesliewtrahan