ترجمات أدبية

لارا واس: نقود صغيرة ضائعة

بقلم: لارا واس

ترجمة: صالح الرزوق

***

اقتنعت أن جدران الشقق في نيويورك رقيقة عمدا، حتى أن الحياة، مهما كانت رديئة، تبدو مثل تجربة احتفالية. في الساعتين الأخيرتين، ارتجف الجدار المجاور لطاولة ميل بضربات ملحة، كما لو أن أحدهم يعلق صورة على الطرف الآخر، ولكن المسمار يسقط، فيحمله ويعاود الكرة. كانت هذه سوزي شريكتها في المسكن. ولم تكن تعلق صورة على مسمار، ولكنها بين يدي صديقها الجديد كايل. طبعا لا تسميه سوزي بهذا الاسم. وهي لا تقول عما تفعل إنه جنس. وتسميه ممارسة الحب. التقت سوزي مع كايل مثل أي إنسان آخر، بواسطة التطبيقات. وكان حبا من أول نظرة. وهذا ما قالت عنه. أرادت ميل أن تسأل: أي نظرة؟ مرآه الرائع والمبالغ به كما يبدو في صورة ملفه، أم النسخة البليدة والحقيقية منه؟ لكنها احتفظت بهذه الفكرة لنفسها. كانت المشكلة، أن كل شخص يقوم بعمل ما في هذه الأيام. وشريكة ميل في الغرفة تمارس الحب. أما صديقتها المقربة ديانا فتنجب الأطفال. حسنا، ليس تماما، ولكنها على هذا الطريق. في آخر عطلة أسبوعية، حينما التقتا في بار قريب خارج أسوار الجامعة وترتادانه دائما، والآن سمعت به ميل، فجرت ديانا الأخبار أمامها قائلة: إنها ستتزوج ستيف. فقد تقدم إليها في أمسية ذكرى مرور سنتين على العلاقة. وهي أيضا ذكرى مرور سنتين على ليلة اقتراب ستيف من ميل في بار الجامعة وتقديم شراب لها، لكن ميل رفضت شرابه قائلة: لا. شكرا. فهي لم تكن تشعر بالعطش، أما صديقتها ديانا فأكدت امتنانها وقبلت ضيافته.

وحين كانت تخابرها أمها كل أحد لتسأل إذا ما كانت تستعيد ذكرياتها. فترد ميل: من يريد أن يتذكر إذا كان يجني النقود؟. وتضحك كلتاهما لأنها إذا كسبت النقود، لن تشارك على شقتها مهووسة بالجنس، وواهمة ومنحرفة تجمع المحنطات بالقرب من قطار رقم واحد الذي لا يتوقف عن الهدير. وإذا تابعت أمها الموضوع، تخترع ميل شيئا، وبالعادة مزيجا من الأشياء المتخيلة، وأشياء رأتها تحدث لأشخاص من حولها، وادعت بتلك الطريقة أنها قابلت بواسطة الإنترنت رجلا يدعى كايل، واعتقدت أنه حب من أول نظرة، لتكتشف بعدها حالما قابلته شخصيا أنها غير قادرة على غض نظرها عن أنفه المحني. بالفعل لكايل أنف ضخم مع عظمة كبيرة. هذا صحيح، وتخلي سوزي عن صديقها بأنفه الضخم لميل هو أقل ما يمكن أن تفعله بعد تلك الليالي المتعبة التي تخللها تعليق الصور. وربما كانت الضجة المستمرة هي التي أهابت بميل أن تقول نعم، حينما رتبت لها ديانا موعدا مع أحد أصدقاء مدرسة ستيف القدماء، وكان قد عاد مؤخرا إلى نيويورك بعد أن عاش لبعض الوقت على الساحل الغربي. قالت ديانا: إنه شاب رائع. وعلمت ميل أن هذا يعني أنه مضجر أو بشع، ولكنها أملت أن لا يصدق ذلك. وكانت قد تعلمت من جدتها الألمانية مقولة ألمانية. وهي كالتالي "الرائعة هي الأخت الأصغر لمقرفة" أو هل كانت تقول الأخ الأصغر لمقرف؟. توفيت جدتها قبل خمس سنوات، ولذلك لم تكن ميل تتكلم الألمانية، ولذلك ليس لديها طريقة لتتأكد بها. ولكنها تفترض أن الموضوع غير مهم. وأضافت ديانا: أنه أيضا لديه سيارة. وربما من الطيب أن تغادر المدينة لبعض الوقت. ولم تعترض ميل على المسألة. لساعتين وهي تكتب لصديق ستيف - تبين أن اسمه جايك. بدآ بتبادل الرسائل قرابة الوقت الذي بدأت به سوزي وكايل ممارسة الجنس.

أولا أراد أن يعرف بماذا تفكر. أرادت أن تقول: أموت من الضجر. كل دقيقة أفقد من نفسي القليل. لكن كتبت: أغسل. جعلت الإنترنت المواعيد الغرامية بلا عواطف إلى حد مقلق. يمكنها أن تلتقي بهذا الشخص ذاته، وعلى الأقل يمكنهما لاحقا التظاهر أن اللقاء طبيعي. كما لو أنهما ليسا يائسين كبيرين ضاع عمراهما في مرحلة النضج، ولم يقع اختيار أحد عليهما، وهذا فشل ذريع - كانا آخر من يقع الاختيار عليه ليكون في فريق حصة اللياقة البدنية.

ولكن. كلا في هذه الأيام عليك أن تراسل قبل أن تغادر مخبأك. ولتتأكد أنك "منسجم". أو لتتأكد أن الآخر ليس مجرما. وكانت ميل تشك أنه لا يسعها الجزم بأحد الحالتين بعد حفنة من الرسائل. كيف يكتب المجرم رسائله النصية؟.

سألها جايك: متى يكون لديها وقت فراغ ليلتقيا.

فكرت ميل بالموضوع. متى يكون لديها فراغ من أجل لقاء؟ فتحت تطبيق الروزنامة في هاتفها. رأت أمامها صفا من مقابلات عمل، ومواعيد طبيب، ومواعيد غداء مع صديقات. وكلها مرتبة مثل طابور من عساكر صغار من القصدير.

تتابع إيقاع ارتطام الجسدين المتعانقين وهز الجدار.

ما رأيك الآن حالا؟.

وصل في الموعد المحدد. في الحقيقة قبل دقيقتين. كانت ميل تنتظر في الخارج أمام بناء شقتها منذ عشر دقائق لأنها لم ترغب أن تغامر بدعوته إلى الداخل. انتابها البرد. ولم ترد أن تضع قبعة حتى لا تشوش تصفيفة شعرها، والآن لا يمكنها أن تشعر بأذنيها. توقف بسيارة قديمة مضعضعة والصدأ يزحف على أبوابها والمرآة الجانبية مثبتة بشريط لاصق. ولم يكن من السهل أن تقرر هل لونها بني أم بنفسجي بسبب ضوء الشارع الخافت. ارتجفت ميل بعد صوت قرقعة مرتفع، ثم أدركت أن المحرك ينفخ. وفكرت أن تستدير وتعود إلى غرفتها، ولكن فكرة الإصغاء لأوبرا سوزي وكايل جعلها تتردد، ثم تأخر وقت الانسحاب.

قال جايك: لا بد أن نيل العجوز ستتذمر من هذا الشخص الذي يخرج من السيارة.

صححت ميل له بقولها: اسمي ميل. وهو اختصار ميلاني.

- آه. لا نعم. أعلم. كنت أشير للسيارة. نيل هي السيارة. تيمنا باسم نيللي الذي ورد ذكره في "بيت صغير في البراري". هل تعرفينه؟.

قالت ميل: ليس تماما. أعتقد أنه سمى سيارته تيمنا بأوبريت شعبي؟.

قال جايك وهو يدور حول المقدمة وضوء المصابيح المرتفع يغسل خياله: متذمر باستمرار. وجع في المؤخرة. هذا هو نمط شخصيته. النوع الذي نحب أن نكره. أو نكره أن نحب؟. لست متأكدا.

حينما اقترب منها، مالت ميل لأجل عناق سريع، لكن ابتعد جايك ليفتح لها الباب.

سلوك قديم الطراز. سيد مع أل التعريف (وردت في الأصل: A gentleman with a capital G ) وتقريبا كادت ميل أن تضحك.

قالت: شكرا. وصعدت إلى السيارة. ازدحمت على رف السيارة الأمامي أغلفة الطعام السريع، وجعلت طيات عميقة في جلد المقاعد الكراسي تبدو مثل وجوه هرمة. وكان للهواء عطر مطر خفيف ذكرها بارتداء ثياب مبتلة لفترة طويلة. قفز جايك إلى السيارة من الطرف الآخر. ولأول مرة أخذت ميل منه نظرة كافية. لم يكن دميما. عيناه مدفونتان قليلا في عمق المحجرين، ونمش واضح يغطي أنفه مثل السمسم. وعدا ذلك ليست له ملامح وجه لافتة قد تفاقم من كراهيتها له في أحد الأيام. كانت ديانا محقة، على الأقل فيما يتعلق بمرآه. فهو يبدو مرضيا. قال جايك حينما قرقع المحرك وهو يدور: آسف لهذه الفوضى. كان علي أن أنظفها. ولكن ما ترينه كان نتيجة التعجل العفوي.

قالت ميل: أنا بنت فطرية.

ولا تعرف لماذا ادعت ذلك. فهي بدون هذه الصفة ولو بمقدار ذرة. ثم قالت: أنت توفر لشراء سيارة جديدة؟ وأشارت إلى القطع النقدية المبعثرة تحت كاحل بوطها. على الأقل وجدت المئات منها على الأقل موزعة على مفرش الأرضية، سنتات وأرباع دولارات وعشر سنتات، وكلها من نحاس وفضة تبرق بظلال مختلفة.

- كلا. كلا. كنت أضع المعادن الزائدة في كوب. ولكنه فاض بالصدفة. فتركتها كما هي. تخيلت أنها تبدو مثل قاع بئر الأمنيات. ولذلك والآن كلما وقع بيدي قطعة نقود ألقيها في هذا البئر.

ضحكت ميل. ثم كبتت ضحكتها وقالت: آه. هل أنت جاد.

- نعم، هل تريدين أن تفكري بأمنية؟.

- أعتقد أنني هكذا بحالة طيبة.

- متأكدة؟ ماذا لو نجحت الفكرة؟.

- لن تنجح.

- لن تعرفي إن لم تحاولي.

تفحصته ميل بنظرها، لتتأكد أنها ليست برفقة أحد طلابها. كان طلابها يرددون مثل هذه الأقاويل، طيلة الوقت، وينشدون شعارات يقتبسونها من روبي كوار مثل قولها "التطور يبدأ بخطوة واحدة". وقولها "الأفضل لك أن تتخبط وتتعثر من أن تقف جامدا". و"إن لم تحاول هذا يعني أنك خسرت الرهان". أقوال مأثورة فارغة. تفاهات. وقد سمعتها ميل كلها. وكانت وراء التخلف عن دروسها بحجة الأسباب النبيلة مثل الاحتجاج على تبدل المناخ واللامساواة بين الجنسين وصناعة التاريخ. وأحيانا تشعر بالدافع لتقول لهم: التاريخ الوحيد الذي يصنعونه هو تاريخ الزحام في ساعة الذروة. في الأسبوع الماضي سألتها إحدى طالباتها، وهي بنت بوجه منتظم لدرجة مقلقة، برأي ميل لا يجوز أن تكون البنت جميلة وذكية بنفس الوقت - سألتها أمام كل الصف: ما رأيها بما يجري في غزة؟. أجابت ميل: فظيع وبدلت الموضوع. الحقيقة أنها لا تعرف ماذا يجري في غزة. ولا ماذا يجري في أوكرانيا أو سوريا أو اليمن، باستثناء أن شيئا يحصل، وهو غير محبب. أنفقت ميل يوميا ساعات وهي تقرأ الأخبار لأجل مشروع بحثها الرسمي عن ردة الفعل الدولية على وباء كوفيد 19. ولكنها لا تزال عالقة في حصاد عام 2020. ولم يسعها أن تغطي أخبار هذه الأيام أيضا.

قال جايك: وإذا؟.

- وإذا ماذا؟.

- ماذا عن تلك الأمنية؟.

وببساطة تحول جايك إلى امرأة مسنة عقدت شعرها من الخلف فوق رقبتها بشكل كعكة مشدودة، وكأن ميل ترافق أمها بعد موعد مدبر. ماذا لو لم نتسرع بهذه الأمور؟ ماذا لو تبادلنا الزيارات في عطلة الأسبوع؟ ما رأيك بالتوفير؟ ما رأيك بالمواعيد المدبرة، هل من جديد؟. ماذا عن تجميد بويضاتك - لتكوني واثقة من نفسك؟. لم تسألها أمها السؤال الأخير، ولكن ميل متأكدة أنها ستفعل، عاجلا أم آجلا.

أجابت: ليس لدي نقود معدنية. وتوقعت أن هذا سينهي الموضوع.

أجاب جايك: أنت محظوظة. لدي نقود لم ألق بها من قبل. وهي كلها لك. وفتش في جيب معطفه، ويده على المقود، وأخرج قطعا معدنية. نظرت ميل إلى النقود التي في يده. ثلاث سنتات، وقطعة من عشر سنتات، وربعان. ألقى جايك العشرة على الأرض أمام مقعدها. وقال: انظري. الأمر بسيط.

تناولت ميل سنتا. إذا كان هذا سيسكته، ما الضرر منه. كان سنتا يحمل صورة لنكولن في ذكراه، وصورة إبراهام لنكولن على الوجه الأمامي، تحت عبارة: بالله نحن نؤمن.

قال جايك: عظيم. فكري بأمنية.

ألقت ميل القطعة. وسقطت على السجاد بين كعبيها بدون صوت.

- سعيد؟

- جدا.

- تهانينا. درجة أولى لهذا الحماس.

وحان الآن دور جايك للضحك. تابعا على طول جسر جورج واشنطن. في الظلام يستحيل أن تؤكد أين ينتهي الهدسون وأين تبدأ السماء. وكانت أعمدة النور على الضفة المقابلة تبدو مثل اليعاسيب. سألت ميل أين يذهبان. قال جايك: إن كانت تريد أن تعرف، عليها أن تفكر بأمنية ثانية. قالت: إذا لا أريد أن أعرف. فقال جايك: جيد. لأنه يريد أن يتركها مفاجأة. وضع شريطا في المسجلة. لا تستطيع ميل أن تتذكر آخر مرة ركبت سيارة تتوفر فيها مسجلة أشرطة كاسيت حقيقية، ربما كان أشد ما يقلقها في الماضي أن تتأكد من وجود شريط مناسب في السيارة لطريق العودة من الجامعة إلى البيت. وتعرفت على الأغنية في الحال. هاري شابن. القطة في المهد. بدأ جايك بالغناء. عرفت ميل الكلمات لكنها لم تشاركه الغناء. ليس لأنها مغنية سيئة، ولكن لأنهما ليسا طفلين، ولا حتى صديقين، وعلى كل حال، لم تكن تغني في السيارة حين تكون برفقة ديانا أيضا. ولذلك التفتت نحو النافذة وانتظرت الأغنية حتى تنتهي. ثم باشرا بالدخول في الكلام الإجباري - بدءا بالطبع من عمليهما. ولأن جايك بدأ بالسؤال باشرت ميل أولا. أخبرته أنها تدرس السياسة لطلاب المرحلة الأولى. قال جايك: إن هذا شيء محترم، فهو لا يمكنه التدريس. ويخاف من الأماكن العامة ويشغل نفسه بالشطائر في أنفاق القطار. ولذلك تحول إلى فنان بصري. سألته ميل عن الفن الذي يمتهنه. قال في معظم الأوقات لا يعرف بالضبط. ويطلب منه أخوه دائما أن يعمل بالوساطة العقارية. فهي المكان المناسب لجني النقود. وسألته ميل إن كان أخوه أصغر أم أكبر منه بالعمر. أجاب جايك بل أكبر. قالت له ميل إنها نشأت في بيت من طفل واحد، ولكن أمها مثل أختها لأن والدها رحل وهي صغيرة جدا. فرد جايك أنه يحلم أن يكون ابنا وحيدا، ولدرجة كان يتمنى فيها وقوع حادث مؤسف لشقيقه. قالت ميل هذا شيء فظيع. ووافقها جايك. فأضافت إنها كانت تحب أن يكون برفقتها إنسان يشاركها اللعب كلما ذهبت أمها إلى العمل. هز جايك رأسه. العشب دائما أشد خضارا (الناس تفضل الحالة المعاكسة). وفكرت ميل: كلا. العشب دوما ميت.

قال فجأة: لقد وصلنا. وأوقف السيارة وأطفأ المحرك وهو يقعقع كشأنه دوما. لم تشاهد ميل شيئا. كما لو أن جايك تغلغل في نفق عميق وأطفأ كل الأنوار. قال: هيا بنا.

ترددت ميل. دار جايك حول السيارة وفتح بابها. وقال: أعدك لن أقتلك.

قالت وهي تخرج: إذا صدق وعدك.

ضربت وجهها المكشوف ريح باردة. كانا في مكان مرتفع حتما، أو قرب الماء، أو الاثنين. أخذ جايك يدها وقادها عبر الباحة نحو ممر يغطيه الحصى وكان يتعرج داخل إحدى الغابات. تسلل الدفء إلى يده، وهو يحميها من الهواء. كانت هناك في نهاية أصابعه انتفاخات صغيرة. قال إنه يتعين عليه أحيانا أن يحمل أشياء من أجل تماثيله. فأجابت إنها لا تهتم للأمر. وصلا إلى مكان مفتوح. لا يزال الضوء غائم، لكن الآن لم تكن ميل بحاجة له لترى. على مبعدة، وعبر الماء، لمعت أضواء نيويورك على المياه كأنها خيط من الجواهر المعلقة على الأفق. وعكسها الهدسون بشكل متحرك ومكسور، كما لو أن ناطحات السحاب تذوب ببطء في النهر. اتخذ ميل خطوة نحو الأمام، ثم أخرى، وقدمت نفسها على نحو غريب أمام أضواء المدينة البعيدة عنها. قال جايك وهو يجر ظهرها: احذري. وحينها فقط لاحظت أنهما يقفان على حافة منحدر.

سألت: أين نحن؟.

- تسمى الأعمدة. برد شديد. أليس كذلك؟ - دعينا نجلس هنا.

جلس جايك على صخرة ذات سطح ناعم غير مريح، كما لو أنها منحوتة لتكون مقعدا مزدوجا. وتساءلت ميل كم فتاة جاء بهن إلى هنا من قبل. مد يده في جيبه، وأمكن ميل أن ترى، أنه مرت سنوات قليلة، لكن كل شيء حصل في هذه البقعة - جايك يمد يده إلى جيبه ليخرج خاتما. لكن ميل لا تريد الخاتم. وهي متأكدة لو جرت الأمور على نحو مقبول، وإذا تابعا بانسجام، ستنتهي اللعبة، أليس كذلك؟. الهدف من هذا. الالتزام. الوعد. حتى نهاية النهاية وإلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد - حتى يضجر أحدهما (أو كلاهما) من العلاقة، وبعد شهور وشهور من النصائح الزوجية، ثم يقرران أنه من الأفضل لهما أن ينهيا الموضوع ويذهب كل منهما بطريقه.

قال جايك: هل يزعجك التدخين.

بدل الخاتم، أخرج علبة سجائر. لم ترد. فأشعل سيجارة. لم يكن يزعجها التدخين. في الحقيقة، والشكر لأفلام هوليود القديمة، تجد في ذلك أمرا مثيرا للغرائز. ما لا يمكنها أن تتعايش معه هو فكرة موت الناس قبلها. ولأنها امرأة وجايك رجل، فرص موته قبلها أعلى إحصائيا. ولتجعل الأمور أسوأ، كانت تعدو فقد اشتركت بالماراثون لعام. وقرأت في إحدى المرات أن من يعدو بانتظام يعيش بالمعدل ثلاث سنوات إضافية. وهو ما جعلها تقلع عن الجري.

سألها جايك: والآن أخبريني ماذا تمنيت؟.

- ماذا تمنيت؟.

- حين كنا في السيارة، ومعك النقود المعدنية.

كبتت ميل تنهيدة. ليس مجددا. وسألته: ألا يجلب هذا الكلام الحظ السيء؟.

قال جايك: بالتأكيد ستستثني سيدة الأمنيات صاحب سيارة بئر الأمنيات.

- طبعا.

- إذا؟ ورفع جايك حاجبيه كما لو أنها ماري بوبينز، وهي على وشك أن تخرج من حقيبة البساط السحري مفاجأة بمستوى المعجزات. كذبت ميل وقالت: قدمت أنا وزميلة لي ورقة بحث إلى أحد المؤتمرات. وتمنيت لو تقبل.

لم يكن هناك بحث، ولا أمنية، ولكن لسبب ما لم ترغب أن تخيب ظن جايك.

سألها: أي مؤتمر؟.

كذبت ميل مجددا: آه. مؤتمر بحوث. ولمزيد من المصداقية اخترعت اسم مؤتمر شاركت به في العام الماضي، وهو APSA.

قال جايك: رائع. حظا موفقا. وأخذ نفسا من سيجارته، وسجلت ميل في ذهنها ملاحظة، إذا التقت به ثانية بعد هذه الليلة، ستضطر لأن تقول في السياق إنهم، للأسف، لم يقبلوا البحث.

سألته: وماذا عنك؟.

قال جايك على سبيل الطرفة: لن أشارك في مؤتمر بالعلوم السياسية، ولا حتى على جثتي.

ابتسمت ميل. تعلم ماذا أقصد.

- أمنيتي؟

- نعم.

- لأكون صادقا معك لم أفكر بأمنية.

- ماذا؟.

- فعليا لا أومن بذلك، لا التمني ولا ما شابه.

- ولكن... أنت قلت في السيارة. لا أحد يعلم إن لم يجرب؟.

- لا نعلم إن لم نجرب. ولكن لا أحد يعلم حتى لو جرب أيضا. صحيح؟.

قالت ميل: في الحقيقة لست متأكدة أنني أفهمك.

- المسألة لا علاقة لها بالإيمان. وهي مجرد إلقاء قطعة نقود. هل لكلامي معنى.

فكرت ميل هل كان لكلامه معنى. في نفس الوقت تابع جايك قائلا: أعتقد أن هذا هو سبب رغبتي بالقدوم إلى هنا أحيانا. وتذكري أنني أكثر من واحد بين ثمانية ملايين. ويمكنني أن أبتعد في أي وقت. كما تعلمين؟.

حدقت به ميل، وحمل جايك السيجارة إلى فمه، وأخذ نفسا. تخيلت الدخان وهو يتحرك في أسفل بلعومه، ويمر من القصبات، ويستقر في الحويصلات الإسفنجية من رئتيه. سيكون تشييع جايك أسوأ يوم في حياتها. النعش، والزهور، والبنت الصغيرة التي تبكي. أو ربما البنت الأكبر، هذا يعتمد على فترة حياته. سيعزفون القطة في المهد في طريق الخروج من الكنيسة لأنها أغنيتهم. وبعد المراسم: تبدأ، من أشخاص لا يعرفون جايك جيدا، نغمة "التأسف" و"لا يسعني أن أتخيل" و"أخبريني حينما تحتاجين إلى شيء".

وقد يحصل العكس وترحل هي أولا. قد تصدمها سيارة غدا، صحيح؟ وسبق لميل أن أوشكت أن تسقط من حافة السفح. مالت وضغطت بشفتيها على شفتيه. تذوقت طعم التبغ والموت. تراجع جايك. هووهو، ماذا تفعلين؟.

قالت ميل: أنوي أن ألقي قطعة نقدية. وحاولت أن تقبله ثانية. لكنه ابتعد.

- تلقين قطعة نقود؟.

- رمزيا. ألم نأتي إلى هنا لأجل ذلك؟

- لا. أقصد نعم. إذا سارت الأمور على ما يرام.

- أليست كذلك؟

- أليس ماذا؟

- على ما يرام.

- آه. نعم. لكن كيف أعبر عن هذا؟ كنت، إم، آمل أن أتعرف عليك قليلا أولا.

- أنت تعلم أنني أحب هاري شابن وأدرس الفلسفة وأنا ابنة وحيدة.

- أنا متأكد أن هذا ليس كل ما يجب أن أعرف.

- وماذا لو أنه كل شيء؟.

- أنا متأكد أنه ليس كل شيء.

- وكذلك أعاني من تقرن في الجلد، وهو جلد ميت متراكم، ولا سيما في القدمين، وأحيانا أكذب بخصوص حياتي لأجد ما أخبر به أمي، ولا يهمني ما يجري في غزة.

- أنت مضحكة.

ابتلعت ميل بقسوة. وقالت: أعتقد يمكنك أن تعود بي إلى البيت الآن.

احتج جايك. لأنه لم ينافق مععا هذا لا يعني أنه عليهما أن يعودا.

أصرت ميل. فهي متعبة.

أطفأ جايك سيجارته على الصخرة، وارتفع الدخان بينهما. قاد السيارة معظم الطريق وهما صامتان. ميل تحدق من النافذة. وحينما عبرا من جسر جورج واشنطن، لاحت المدينة الواسعة ثانية. تخيلت أن البشر يبدون هكذا للنمل. قبيحون، وعمالقة، ويكبرون بالتدريج قبل أن يقضمهم المجهول. سأل جايك حالما ابتعدا عن الجسر: ومتى سأراك لاحقا؟.

قالت ميل: لن نلتقي. كانت تعلم كيف سينتهي الموضوع، وشاهدت كل شيء يجري، ثم شكرا، لا ضرورة للشكر.

- هيا. لم لا؟ كانت الأمسية جيدة حتى... لم أقصد استفزازك. ومتأسف إذا فعلت.

- الأمر ليس كذلك.

- ماذا هو إذا؟

- له علاقة بالسيارة.

- السيارة؟.

- نعم.

- ما خطب السيارة؟

- انظر إليها.

- ها أنا أنظر.

- يا لها من فوضى.

- وإذا؟

- أنت لا تعتني بها.

- ولكنها سيارة.

- بالضبط.

توقف أمام مسكنها في نفس البقعة التي حملها منها قبل ساعة فقط. شكرها على الأمسية. خرجت ميل، وبالصدفة ركلت إحدى قطع النقود. تقدمت في الممر إلى شقتها، ولكن ابتلع صوت خطواتها قعقعة المحرك وهو يدور من ورائها. كانت الغرفة من الداخل هادئة. على الأقل توقفت سوزي وكايل عن ممارسة الجنس أو الحب أو أي شيء من هذا القبيل. تفحصت ميل هاتفها. كانت قد فاتتها مكالمة من ديانا. ربما أرادت أن تسألها عن رأيها، حول شيء له علاقة بالعرس، مثل أي نوع الأفضل: بطاقات المناسبة من طراز كلاسيكي وتقليدي أم فني ومضحك؟. والأهم هل الأفضل من نوع DIY (صممه بنفسك) أم من نوع الطلبات المعدلة؟ وقررت ميل أن بإمكانها الانتظار حتى الصباح. معظم المشاغل بمقدورها أن تنتظر. لا تبدأ حصة تدريس ميل قبل العاشرة. ولكنها نهضت في السابعة. كانت بحاجة لأن تعجل بالجري قبل أن تواجه رواد التاريخ. حينئذ يمكنها على الأقل أن تقول لنفسها، حسنا، أنت تصنعين التاريخ، ولكن من قام بالجري هنا في هذا الصباح وتحدى متاعب خمسة أميال؟. جرت شمالا على طول الهدسون، كان جسر جورج واشنطن يتضخم مع كل خطوة. وفي الخلف، على الجانب الآخر من النهر، توجد الأعمدة. والآن هي مجزأة إلى شرائح بسبب هيكل الجسر. وحاولت أن تتذكر شكل المدينة من بعيد، لتنعش الصورة في خيالها، حبل من المجوهرات على عرض الأفق، والأضواء تذوب في الماء. كل ما تراه الآن فوضى من المعادن والإسمنت والسيارات. فكرت: مشهد النملة، وخفضت نظرتها إلى الرصيف. تباطأت، ثم توقفت وتمطت. وضعت يديها على السور، ومدت ذراعيها باستقامة وتراجعت إلى الوراء، خفضت نصفها الأعلى، حتى أصبح مستويا كالطاولة. ضغطت بكعبيها على الرصيف، وشدت ربلتي ساقيها وشعرت بالألم المعهود. ثم شاهدته، فقط على بعد بوصات من خلف قدميها: سنت، خامل، ملوث بالتراب، ولا يبهج الروح. كان أسفله نحو الأعلى، وتعرفت ميل على الخطوط الباهتة لتمثال لنكولن التذكاري. تلفتت حولها، كأنها تريد أن ترى الشخص الذي ألقاه، وسيكون أي شخص يفتقد إلى قطعة نقود ناشزة. لم تجد أحدا حولها باستثناء رجل ببذة، ويرافق كلبه. رفعت ميل قدما إلى الأعلى خلف ظهرها، وقبضت على كاحلها بيدها، ثم تمطت بجانبها الأيسر، وكررت ذلك بيمينها. فحصت المنطقة مجددا، ولم تجد أي شخص مهتما بالبحث عن نقوده. وبحذر شخص يعود إلى عادة قديمة بعد العديد من السنوات، حملت السنت، دسته في جيبها، وتابعت الجري.

***

........................

* لارا واس Lara Waas كاتبة قصة أمريكية. تترجم عن اللغة الألمانية. حصلت على مؤهلها العلمي من ميونيخ في ألمانيا. وعملت بتدريس اللغة الإنكليزية في غواتيمالا.

 

في نصوص اليوم