ترجمات أدبية

في مواجهة ما يطاردك / ترجمة: محمد غنيم

إيثيل روهان في الكتابة عن الحزن

بقلم: إيثيل روهان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"لطالما عانيت طوال معظم حياتي في صمت وخجل بينما الرجال الذين آذوني أفلتوا بلا عقاب."

***

لم تكن نوال أول جثة شاهدتها. لكنها كانت الأكثر تأثيرًا في نفسي. مر أكثر من ثلاثة عقود منذ وفاتها عن عمر يناهز الواحد والعشرين، وما زال جزء مني في التاسعة عشرة من عمره، واقفًا داخل منزلها العائلي في شارع أيونا المليء بالأشجار، دبلن، أيرلندا. أرى وجهها الخالي من الدماء لكنه ما زال جميلًا لأول مرة، وأقاوم بقوة رغبة رهيبة في الضحك.

في تلك اللحظة، التي امتدت بطريقة مستحيلة تتجاوز الثواني التي كانت يحددها دقات الساعة على الرف، كنت أؤمن تمامًا أن نوال ستنهض فجأة من تابوتها ذي الخطوط البيضاء وتصيح بفرح "خدعتكم!"

وفاءً للتقاليد الأيرلندية في الجنازات، زار كل المعزين نوال داخل تلك الغرفة المزدحمة الثقيلة، حيث لمس البعض يديها المربوطتين بخيوط المسبحة البنية، وقبل البعض جبهتها المرمرية، وجميعهم لا شك أنهم نقلوا كلمات وداع أو دعاء. أتمنى لو أنني أستطيع تذكر آخر لحظاتي مع نوال، سواء وهي على قيد الحياة أو أثناء وقوفي فوقها في تابوتها، لكنني لا أستطيع.

ما أتذكره بعد الصدمة المدهشة عندما رأيتها جثتها لأول مرة، هو أن شقيقتها قالت إنهم قد غيروا أحمر شفاه نوال بعد أن جلبها موظفو الدفن إلى المنزل. قالت والدة نوال بطريقة جعلت أسفل حلقي يتألم:

"لم تكن هي"

"لقد كان أمامها طريق طويل لتقطعه"

قالها شخص آخر، في إشارة إلى رحلة نوال عبر الأطلسي من نيويورك إلى دبلن، وهي وحيدة بين شحنات الطائرة. تمامًا كما كانت أحشاء والدتها هي من حملتها إلى ولادتها، حملت بطن الطائرة جسدها إلى دفنها. لم أستطع التوقف عن التفكير في الفرق بين هذين المكانين المظلمين.

في تلك اللحظة، التي امتدت بطريقة غريبة تتجاوز الثواني التي كانت يحددها دقات الساعة على الرف، كنت أؤمن تمامًا أن نوال ستنهض فجأة من تابوتها ذي الحواف البيضاء...

كررنا كم كان الأمر بلا معنى، كم كان غبيًا، أن تموت نوال بسبب شيء يمكن تجنبه مثل نوبة ربو.

***

مع مرور السنوات، وصلت إلى مرحلة لم أفكر فيها كثيرًا في نوال. حتى جاء الوقت الذي بدأت فيه مسودة روايتي الثانية، أغني، أنا. لا أعرف أبدًا إلى أين سأذهب في كتابتي. أبدأ مع لمحة من القصة وأواصل من هناك، كلمة بكلمة. بهذه الطريقة، أفاجأ باستمرار بما يظهر على الصفحة. وربما لم أكن مفاجئة  أكثر من ذلك كما حدث في رواية  (أغني، أنا).

لم أتوقع بشكل خاص أن يظهر العديد من موتاي مرة أخرى. ظهر عدد من الأشباح. والديّ، نوال، بائعة المتجر المعتدى عليها من طفولتي، ونيكول، صديقة متوفاة حديثًا، ومغنية وموسيقية محبوبة من منطقة خليج سان فرانسيسكو. كما عاد ذلك الطيف الآخر المستمر من الفقدان والشوق في حياتي — المرأة التي كنت سأكونها، الحياة الأخرى التي كان من الممكن أن أعيشها، لو أنني نشأت في طفولة خالية من الصدمات والإساءة. كما عادت الأغاني لتطاردني.

في الثمانينات، كنا نوال وأنا نغني ونرقص على أغاني فرقة الروك الأيرلندية باجاتيل داخل نفس غرفة المعيشة التي بعد بضع سنوات قليلة من المستقبل سيغلق فيها موظف الدفن غطاء تابوتها بمسامير نحاسية لامعة. كانت أغنيتنا المفضلة من باجاتيل هي "صيف في دبلن"، وهو ما أضاف مزيدا من السخرية المأساوية لوفاتها التي كان من الممكن تجنبها. توفيت نوال في نوفمبر، في أعماق شتاء ولاية نيويورك، بعيدًا عن أشعة الشمس، بعيدًا عن الوطن.

لقد كنت أشغل الأغنية بشكل متكرر في الأيام والأسابيع التي تلت رحيلها، سجل يدور بلا توقف، وإبرة لا ترفع. كانت كلمات الأغنية عن الحب لدبلن قد أصبحت تحمل مزيدًا من الرجفة بعد أن قررت نوال الانتقال إلى أمريكا. كنت أكره أنها ستغادر، وأعجب بها، وأغبطها على تلك الخطوة الجريئة. "صيف في دبلن"، وما تحتويه من حنين لمدينة العاصمة الأيرلندية ومكاننا، أصبحت نشيدنا لجرأتها في الانتقال إلى أمريكا. بعد وفاتها، أصبحت كلمات الأغنية مثل نذير شؤم مروع لأنها كانت تغادر دبلن، وتغادرنا، بطريقة أكثر نهائية.

بعد ثلاث سنوات من هجرة نوال إلى أمريكا، تبعت خطاها وقررت أن أخوض تجربتي الخاصة في أرض جديدة وحياة أخرى. في الفترة التي سبقت مغادرتي، كنت أعاني من مشاعر متناقضة من الرعب والتهور. هل كنت أغامر بالمصير؟ ماذا لو أصابتني المأساة أيضًا؟ ماذا لو متُّ شابة أيضًا؟

أننا نعيش حياة واحدة كان يعارض هذه المخاوف، وفي النهاية غذّى فيّ شعور "أنه من الأفضل أن تكون قد جربت" اللامبالاة. فكرت: ماذا كانت نوال ستعطي لتغني وترقص على أغاني باجاتيل مرة أخرى؟ لتكون بين الجميع وكل شيء تحبهم ليوم آخر؟ الحياة للعيش. للفعل. للعطاء. ركبت طائرة دلتا إيرلاينز من دبلن إلى سان فرانسيسكو عبر أتلانتا وانفرجت السحب من أجل نوال.

بينما كنت أواصل كتابة المسودة الأولى من أغني، أنا، أصبحت أغاني باجاتيل جزءًا من تجميع موسيقي متزايد كنت أشغله بشكل مستمر. مشهدًا تلو الآخر، شكلت قوة الأغنية التحويلية العمود الفقري للرواية. بينما التصلبت الصدمة كهيكلها العظمي.

تبدأ رواية أغني، أنا بحادثة سطو على متجر، وهي حادثة مثيرة مستوحاة من مشاهدتي للجريمة نفسها في طفولتي. بطلة الرواية، إستر، هي واحدة من موظفي المتجر في ذلك الصباح المشؤوم، وخلال الجريمة المسلحة تعاني زميلتها من نوبة ربو. في تلك اللحظة، لم تكن أفكار نوال قد بدأت تظهر لي بعد.

لم أدرك إلا لاحقًا في المشهد، عندما تتذكر إستر صديقها من أيام الجامعة الذي لم يتمكن من الوصول إلى جهاز الاستنشاق الخاص به وتوفي بسبب الربو، أنني كنت أستحضر الخيال من تجربة حقيقية أخرى في حياتي. شيئًا سأستمر في فعله طوال الرواية، لا سيما الألم الحقيقي في الرغبة في إلغاء موت الأحباء والعيش في حياة مختلفة.

لكن ذروة تأثير نوال في أغني، أنا، وجذب القصة المميز من ماضيي، يتركز على استعادة أصوات النساء. في الرواية، تترك النساء أصواتهن وحقائهن تتردد بطرق حرفية ومجازية، بما في ذلك تشكيل جوقة واحتضان أنفسهن الحقيقية. في حياتي، وجدت صوتي في الثلاثينيات من عمري من خلال الكتابة، التي كانت بمثابة الترياق للصمت الذي فرضته بداياتي الإيرلندية المتواضعة

بعيدًا عن القيود القمعية التي فرضتها الدولة الأيرلندية والكنيسة الكاثوليكية على الفتيات والنساء، كنت أيضًا أختنق بالأسرار. أبرز هذه الأسرار كان حالة الهوس المَرَضِيّة والمخيفة التي كانت تعاني منها والدتي، وصديق العائلة الذي كان يسيء إليّ جنسيًا، والصديق الذي كان يسيء إليّ عاطفيًا ونفسيًا، وفي إحدى المرات جسديًا.

في التاسعة عشرة من عمري، حصلت على سر آخر. في يوم دفن نوال، أصر مديري على أن أعود للعمل فورًا بعد قداس الجنازة، مما حرمني من الوقت للذهاب إلى المقبرة ومشاهدة نوال تدخل الأرض. وبعد شهر، قام نفس المدير—الذي كان وجهه الإسفنجي وضحكته المحتقنة تذكرني بالمغتصب الذي أساء إليَّ—بملامستي بعد حفلة العمل في عيد الميلاد.

خلال موسم العطلات الذي تبع ذلك، دفنت أفكار مديري المهووس وفعلته المستمرة في محاولة اقتحامي، متمسكة بالصمت ومفكرة في نوال وولادتها في ديسمبر. هدية. مقدسة. أفكار الهدايا والمقدس عادت إليَّ أثناء كتابة أغني، أنا.

جلبت نوال، وجميع الأشباح التي ألهمت الرواية، شيئًا عميقًا للقصة ولِي. طوال معظم حياتي، كنت أعاني من الخجل والصمت بينما كان الرجال الذين آذوني يفلتون من العقاب. أصبحت كتابتي، وأغني، أنا على وجه الخصوص، وسيلتي لمواجهة تلك الجرائم والبراء من جروحها. الرواية هي أنشودة معركتي.

كم هي مراوغة ومخادعة تلك الذاكرة؟ كنت على وشك أن أكتب أنني علمت بوفاة نوال من أخي الأكبر، الذي اتصل بي على هاتفي المحمول بينما كنت أمشي في شارع أوكونيل. لكن ذلك مستحيل في عام 1986. لا بد أنني قابلت أخي في المدينة ذلك اليوم.

لا أستطيع إلا أن أقول على وجه اليقين أنني علمت بوفاة نوال في أحد أكثر الشوارع شهرة في قلب دبلن، على بعد خطوات من رائحة نهر ليفي الكريهة التي خلّدتها أغنية "صيف في دبلن" "Summer in Dublin" لفرقة باجاتيل. توقفت في مكانى على الرصيف، بينما كان المارة وحركة المرور تمر من حولي بسلاسة، وجسدي وعقلي في قبضة شلل مشابه لذلك الذي شعرت به عندما تعرضت للتحرش، والتعرض للإساءة، والصدمة. إذا لم أتحرك، أو أفكر، أو أتحدث، أو أتنفس، فليس الأمر واقعًا. كنت أرغب في البقاء داخل تلك الثواني القاتلة لأطول فترة ممكنة، قبل أن أضطر للخروج إلى العالم دون نوال.

خلال قداس جنازة نوال، قرأ والدها المرتجف من على المنبر قصيدة "الخلود" لكلاير هارني. كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها القصيدة وقد هزتني. تلك القصيدة، وسطرها الأخير المؤلم، عادت إليّ في 2 يناير 2021، اليوم الذي علمت فيه بوفاة ليام ريلي، المغني الرئيسي وكاتب الأغاني في فرقة باجاتيل.

في ذلك المساء الرمادي والضبابي في سان فرانسيسكو، أخذت استراحة من انقطاعي لكتابة أغني، أنا، وفي غرفة معيشتي، شغّلت ألبوم Gold: The Best of Bagatelle بأعلى صوت، وبدأت أرقص وأغني مع جميع أغانيه الأربعة عشر. كان صوتي يعلو أكثر فأكثر، ورقصت بحماس أكبر شعرت بالحياة، شعرت بالفرح، شعرت بالحرية. ولم أكن بمفردي. طوال مدة دوران ألبوم أغاني باغاتيلا، لم تكن نوال قد فارقت الحياة.قد ماتت بعد.

***

.......................

الكاتبة: إثيل روهان / Ethel Rohan  روائية وكاتبة مقالات وكاتبة قصة قصيرة إيرلاندية الأصل أمريكية المعيشة، حصلت على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من كلية ميلز، جامعة كاليفورنيا. نشأت إثيل روهان في أيرلندا، وتعيش الآن في سان فرانسيسكو. لها رواية وحيدة (وزنه عام 2017 م)  وأربع مجموعات من القصص القصير هى على الترتيب: (قطع خلال الظلام 2010 م – يصعب قول ذلك 2011م – تصبح على خير يا لا أحد 2013 م - في حال الاتصال عام 2021 م  والقصة المنشورة  هنا من المجموعة القصصية الثالثة (تصبح على خير يا لا أحد) التى تضم ثلاثين قصة قصيرة جدا.

في نصوص اليوم