ترجمات أدبية

لارا فابنيار: خليلة

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

لدى طبيب الجلدية خليلة. ولعدة أسابيع مضت أصبحت الموضوع الرئيسي للمحادثة في غرفة الانتظار البيضاء، المزخرفة بورقة نخيل متطاولة ووحيدة في زاوية الغرفة، وبجانبها إعلانات براقة عن طب الجلد. جلس هناك ثماني مرضى على مقاعد جلد أحمر، ومعظمهم روس، لأن مكان المكتب في كينغز هاي واي، وهي منطقة روسية في بروكلين. كان لدى الطبيب عدة صحف روسية، مكومة مع أعداد قديمة من التايمز ومن مجلة الرياضة المصورة، وكلها معلقة على حامل بلاستيكي خاص بالصحف. ولكن لم يعرها أحد أي اهتمام. أفضت جدة ميشا بالروسية لامرأة شعرها أبيض وترتدي سترة رياضية وخفا وتنورة طويلة قائلة: "أخذها إلى أروبا في تشرين الثاني. الخليلة. صحح لها ميشا بحصافة: "أريوبا". وكان يحاول قراءة كتاب، ولكن لم يسمح له همس الجدة المنفعلة وكلماتها الفخمة والرنانة مثل أريوبا وخليلة أن يركز. أحيانا حاولت التحرش بامرأة بقبعة رمادية جالسة بجوار ميشا. ولتفعل ذلك مالت فوق ميشا مرتكزة بكوعها الثقيل على ركبته للتوازن. وتوجب عليه ضغط كتابه المفتوح على صدره والانتظار حتى تنتهي، وحاول أن يبعد وجهه عن رائحتها التي اختلط بها العرق ومستخلص جذور الناردين وحشيشة الشبث. قالت: "أولا رافق زوجته بعطلة، ولكن صنعت الخليلة مشكلة، فاضطر لاصطحابها أيضا. كلهن هكذا كما تعلمين". وافقت المرأة ذات الشعر الأبيض بتحريك رأسها. ثم اقترب المزيد من المريضات الروسيات ليدلوا بدلوهن.

"تقصدين أن لدى الدكتور ليفي خليلة؟". قالت المرأة ذات الشعر الأبيض بانفعال: "نعم. حتى أنه أخذها إلى أروبا". نظرت إليها جدة ميشا باستنكار لأنها تزعم أنها المؤهلة بالكلام عن رحلة أريوبا. كل ثاني خميس، بعد المدرسة، يصحب ميشا جدته إلى طبيب الجلدية. ويتوسط بنقل الكلام بينهما، لأن الجدة لا تعرف الإنكليزية. ولم يمانع هذه الزيارات - لأنه ليس هناك الكثير لما يحتاج إلى ترجمة. والدكتور ليفي رجل نحيل وصغير بدوائر سود تحت عينيه. أخذ نظرة من البثور في كاحليها، وكتب شيئا في ورقة المريضة، وسألها: "كيف تشعرين؟". قالت الجدة بالروسية "أفضل". وترجم ميشا كلامها إلى الإنكليزية. ولم يتذمر ميشا من طبيبي العيون والأسنان. ولم يذهب ميشا مع جدته إلى طبيب الأمراض النسائية. قال بحزم: "ولد بعمر تسع سنوات لا شأن له بعيادة نسائية". وأدهش الجميع بتعليقه لأنه لم يجادل إلا قليلا منذ وصولهم إلى أمريكا، ولم يسمعه أحد يتكلم إلا فيما ندر. كان ميشا سعيدا - لسبب ما يخاف من النساء الحوامل ومن بطونهن المنتفخة، وكواحلهن البدينة، وطريقة مشيهن المترنحة والمتهاودة. وتوجب على والدته أن تأخذ إجازة لعدة ساعات لترافق الجدة إلى هناك. واشتكت من ذلك ونظرت إلى ميشا والجدة بتذمر. لم يجنب أحد ميشا الزيارات الشهرية إلى المتمرنين. قابل هذا الطبيب ميشا وجدته في غرفته الرائعة ذات الجدران المطلية بلون كريمي والمغطاة بالشهادات، واقترب بثقة من طاولته المهاغوني الكبيرة. جلس هناك بكامل قامته ومال نحوهما، بتاج شعره الأبيض الغزير المزرق، ووجهه الأحمر، ويديه البيضاوين النظيفتين، وهو يستمع بصبر لشكوى الجدة. بخلاف بقية الأطباء، لم يقاطعها. وفضل ميشا لو فعل. بدأت كلامها مع تنهيدة متفائلة: "مشكلتي...".وكانت تفخر أنها قادرة على وصف الأعراض بدقة وطلاقة. حينما وصفت في إحدى المرات تعرقها أنه "حمام غزير ينبع من تحت جلدها" قال لها والد ميشا: "يجب أن تكوني كاتبة يا أمي". ظهر الضياع على ملامح أم ميشا. ولم تعرف هل تبتسم للطرفة أم تعنف زوجها بسبب سخريته من أمه. واختارت أن تبتسم أخيرا. اعترضت جدة ميشا دون اهتمام بالسخرية قائلة: "كلا. طبيبة. يجب أن أكون طبيبة لو لم أكرس حياتي لخدمة زوجي". ومن عادة ميشا أن ينظر نحو الأسفل حينما تكلم الطبيب، ليتأمل بعينيه تخطيط البساط الملون بالبيج والبني. ولكن الزينة تنقطع في بعض الأماكن بسبب أرجل الأثاث وقدمي جدته التي تنتعل خفا عريضا أسود والتي ترفع صوتها بالكلام، مع همهمات بين حين وآخر مع تبديل في النبرة للتأكيد وهي تقول: "بطني لا تتحرك منذ أيام. ويجب زيارة الحمام كل عدة ساعات. وبالعادة أشعر بالحاجة وأسرع إلى الحمام فورا. وأضغط بقوة. ولا يحصل شيء. وأنسحب ولكن أشعر كأن صخرة عاتية في داخلي. وتضغط على بطني. فأعود وأجرب مجددا". وتثبت إحدى قدميها بالأرض، حينما تصف "الصخرة الثقيلة". نظر ميشا إلى جوربيها الأسودين السميكين. وقد أتت من روسيا كمية كبيرة منها، مع مؤونة كافية من مثبتات مقلمة عريضة تمسك بالجوارب. ولاحظ ميشا أن جوانب مقعده الجلدي أصبحت تحت أصابعه رطبة وزلقة، وشعر أنه يحمر، ولا سيما أذناه. وتساءل إذا انتبه الطبيب كم هما حمراوان. ولكنه لم ينظر إلى ميشا، بل إلى جدته مع ابتسامة مهذبة وصبورة. فكر ميشا: "هيا. يكفي. لا بد من وجود مرضى آخرين بالانتظار". لكن لم يتحرك الطبيب. ربما هو يستغل هذه اللحظات لينام بعينين مفتوحتين. تابعت: "حينما في النهاية أنتهي أشعر بالإنهاك، أشعر كأنني ربحت معركة. رأسي، يوجعني ودقات القلب تشتد فأتناول أربعين قطرة من جذور الشبيث، وأستلقي، وأستمر هكذا على الأقل لساعة". وبعد أن يأزف وقت الجدة، تلتفت إلى ميشا. فينظر إليه الطبيب كذلك، محتفظا بنفس التعابير المهذبة والصبورة على وجهه. ويفكر ميشا بالإسراع كالسهم نحو الباب، وتجاوز موظفة الاستقبال، ثم غرفة الانتظار، حتى بلوغ الشارع. فكر أن يخرج من النافذة، وهي نافذة خضراء عريضة بلاستيكية برأس مشطور عند حافتها. أمكنه رؤية نفسه يسقط على العشب، ثم يقف على قدميه، ويركض مبتعدا عن العيادة. ولكنه لم يقفز. جلس هناك، وهو يفكر كيف يتجنب كلمة "صخرة ثقيلة" أو جلوس الجدة في الحمام، قائلا: "إممممم.. هي.. جدتي.. مشكلتها... أنه لديها... تصاب غالبا بالصداع ويدق قلبها بسرعة عالية". ابتسم الطبيب لميشا موافقا، وكتب وصفة بيديه النظيفتين جدا والرشيقتين. "تايلينول". اشتكت الجدة لاحقا بصوت مسموع في غرفة انتظار طبيب الجلدية قائلة: "انظروا للأطباء الأميركيين!. أخبرته أنني أعاني من إمساك فوصف لي تايلينول!. هل يمكن تصديق ذلك؟". تعاطفت معها المريضات الروسيات بحماس. وأخفى ميشا أذنيه المحمرتين وراء "دليل ما قبل التاريخ المصور الكبير". وتمنى لو تنتقل إلى الموضوع الآمن عن خليلة طبيب الجلدية

والتي شاهدنها مرة حين فتحت الباب وتقدمت مباشرة إلى غرفة الدكتور ليفي، دون أن تبتسم، وهي تنظر أمامها. كانت امرأة ممتلئة وقصيرة، في أواخر الثلاثينات، بشعر أشقر محمر قصير، وبجينز أبيض ضيق، وجاكيت من الجلد اللماع. وهي تطرق ببوطها ذي الكعب الطويل وتخشخش بأساورها الذهبية خلال مشيتها. وتلوح بمفاتيح سيارة في يدها. خيم الصمت على جميع الموجودات في الغرفة وتبعنها بنظرات أعينهن، ومعهن ميشا. كان فمها جميلا، ومطليا بلون أحمر لماع. همست إحداهن بالروسية: "يا لها من قليلة حياء". وربما كانت جدة ميشا. أدى ميشا واجباته المنزلية في مطبخ أبيض طويل، لأنه برأي أمه المكان الوحيد الذي يحظى بإضاءة مناسبة، ولم يكن عرضة للهواء الشديد. لعام تقريبا أربعة منهم - هو وأمه وجده وجدته - عاشوا في شقة من غرفة واحدة ذات جدران طلاؤها ليس على ما يرام، وفيها سجادة بنية بالية، وأثاث مستعمل. وبدا كل شيء في الشقة ملكا لشخص آخر. نام ميشا وأمه في غرفة النوم، واحتل ميشا سريرا مطويا. ونام الجد والجدة على سرير - كنبة في غرفة المعيشة. أو ربما جدته هي التي نامت عليه وهي تشخر بهدوء. وكان الجد كما يبدو يسهر طيلة الليل. وكلما استيقظ ميشا، يسمع جده يتململ أو يزمجر أو يتجول بخطوات ثقيلة على أرض المطبخ التي تصر.

كان لديهم في روسيا شقتان منفصلتان. وعاشوا في مدينتين مختلفتين. جداه عاشا في جنوب روسيا، في مدينة صغيرة مزدحمة بأشجار التفاح والدراق. بينما أقام ميشا وأمه وأبوه في موسكو، قبل أن يغادر والده ليقيم مع امرأة أخرى. في موسكو امتلك ميشا غرفة خاصة به، صغيرة جدا، ليست أكبر من ست أمتار مربعة، وورق الجدران فيها يحمل صور زوارق شراعية. ولميشا سريره الخاص وطاولته مع مصباح قراءة بشكل تمساح. وقد رتب كتبه بأناقة في رف فوق الطاولة، واحتفظ بألعابه في علبتين من الخشب المضاعف بجانب سريره. وحينما يتشاحن والداه، يقولان له: "اذهب يا ماشا إلى غرفتك". ولكن خلال الشهور الأخيرة قبل مغادرة والده، لم يكن لديهما وقت ليطرداه إلى غرفته. كانا يتشاجران تقريبا باستمرار: يبدأ ذلك فجأة، بدون إنذار، وسط حوار عادي خلال الغداء، وهو يلعب الشطرنج، أو يشاهد التلفزيون، وينتهي بعد أن يأوي ميشا إلى سريره، أو ربما لا ينتهي أبدا، فيذهب ميشا إلى غرفته تلقائيا. يجلس على بساط صغير ببن سريره وطاولته ويلعب بمكعبات البناء، ويصغي لأصوات مكتومة تأتي من صراخ والديه. ويتابع لعبه بهدوء. أغرم ميشا بواجباته المنزلية، ولكنه لم يعترف بذلك. كان يمد كتبه وأوراقه وأقلامه أمامه، حتى تحتل كل وجه الطاولة. وأحب شيء له تلوين الخرائط، ورسم المخططات، وحل المسائل الرياضية، وحتى تمارين الإملاء - وكان يسره مرأى خطه، بحروفه الحاسمة والواضحة والمستديرة. وأكثر ما أغرم به خلال أداء واجباته البيتية أن أحدا لا يزعجه. وكل شخص يهمس: "اصمتوا. مايكل يدرس". وحتى جدته، التي تطهو بالعادة الغداء حينما يدرس، تلزم جانب الهدوء - وبصوت خافت تدندن بلحن من أوبرا شعبية مكسيكية تشاهدها يوميا على القناة الإسبانية. ولم تكن لغتها الإسبانية أفضل من الإنكليزية، ولكنها تقول أنت في العروض المكسيكية لا تحتاج إلى الكلام لتفهم ما يجري. والشيء الآخر الذي تحب مشاهدته في التلفزيون هو نشرات الطقس، لأنك لا تحتاج لكلمات أيضا: صورة الشمس تدل على يوم طيب، وقطرات المطر يعني الهطول، وصفوف من قطرات المطر تدل على أمطار غزيرة. وكانت أم ميشا تعارض الاشتراك بقنوات التلفزيون الروسي، لأنها تعتقد أنها تحرمها من التأقلم مع الحياة الأمريكية. ولنفس السبب، أصرت أن ينادي الجميع ميشا باسم "مايكل". وكانت أم ميشا متأقلمة بشكل جيد. فهي تتابع أخبار التلفزيون، وتستأجر الأفلام الأمريكية، وتقرأ الصحف الأمريكية. وتعمل في مانهاتن، وترتدي للعمل نفس الثياب التي شاهدها ميشا في مجلات غرف الانتظار. لكن تنوراتها أطول وكعاب أحذيتها أقصر وأغلظ.

ومشكلة الواجب المنزلي أنها تستغرق حوالي أربعين دقيقة فقط من وقت ميشا. وحاول أن يمددها بقدر استطاعته. وقد حل المسائل الإضافية كلها التابعة لفصل "ربما تجرب معها". أحضر كتابه وقرأه، وتظاهر أنها وظيفة لغة إنكليزية. وكان يتوقف من وقت لآخر وكأنه يواجه مشكلة، وعليه أن يفكر بها، ولكنه كان يكتفي بالجلوس، مراقبا جدته وهي تطبخ. أخرجت كل تلك الحزم وأكياس الخيوط وأكياس البلاستيك والأطباق والصحون المغلفة الغريبة، من الثلاجة ووضعتها على الكونتور، ولم تنس أن تشم كلا منها أولا. ثم فتحت الفرن وهي تصيح بصوت مرتفع وتشهق وتقول: "آسفة يا مايكل". بعد ذلك أخرجت ما لديها من أدوات للقلي والشي، وأودعتها في الفرن، وملأت بعضها بالماء ودهنت البقية بدهن الدجاج (تحتفظ دوما ببعض دهن الدجاج قرب يدها، فهي لا تثق بالزيت أو زبدة القلي). وحينما تئز وتئن المقالي وصفائح الشي على الموقد، تغسل وتقطع الجدة محتويات الحزم والأطباق، باستعمال لوحين من الخشب - أحدهما من أجل اللحوم، والآخر من أجل كل المتبقي. وكان ماشا يتعجب دوما كيف أن أصابعها القصيرة والمنتفخة سريعة. وخلال ثوان تختفي أكوام من المكعبات الملونة في المقالي والصفائح تحت أغطية مزخرفة ورقيقة. وغالبا تقول الجدة لزميلاتها في غرفة الانتظار: "كنت حكيمة. أحضرت كل الأغطية معي. في أمريكا نادرا ما تجدين ما يناسب". توافق النساء، بالتأكيد يوجد مشكلة في أغطية أمريكا. لطهي اللحم المفروم تستعمل الجدة فرامة لحوم معدنية يدوية، أحضرتها معها من روسيا أيضا. وعليها أن تنادي الجد إلى المطبخ، لأن الفرامة ثقيلة جدا - فهي لا تستطيع تدوير اليد، وحتى أنه لا يمكنها رفعها. كان الجد يرمي جريدته من يده، ويأتي خانعا، وهو يجرجر خفه، بنفس التعابير المستسلمة والمرهقة، التي تظهر وهو يتبع الجدة إلى البيت عائدين من مخزن التموين الروسي، حاملا الأكياس المنتفخة وعليها عبارة "شكرا" بخط أحمر وطويل. ثم يتخلى عن قميصه المطرز بالمربعات ويضعه على الكرسي. (أصرت الجدة أن يفعل ذلك قائلة "أنت لا تريد قطعا من اللحم النيء على قميصك"!). ويضع أمامه طبق لحم من الخزف ويغلق الفرامة وهي على حافة النافذة. ويقف منحنيا عليها، بثيابه الداخلية البيضاء وسرواله الصوفي الأسود. فقد أحضر معه إلى أمريكا خمس بذات جيدة اعتاد أن يرتديها خلال عمله في روسيا. والآن يرتدي السروال في البيت ويعلق الجاكيت في الخزانة مضيفا إلى جيوبها النفتالين. ويقبض الجد على يد فرامة اللحمة الصدئة ويديرها ببطء، بجهد في البداية، ثم أسرع بالتدريج. ويرتعش كتفاه اللحميان والمحمران ويسيل العرق على خديه المنتفخين، وأنفه المستدير ورأسه اللماع. وأحيانا تترك الجدة الطهي وتوجه هذه التعليقات: "ماذا لديك، أصابع مشوهة؟" أو "انتبه، وقعت منك قطعة ثانية" أو "أتمنى فرم هذه اللحمة بحلول العام القادم". ولم تكلمه هكذا أبدا بالروسية. حينما يعود من العمل إلى البيت في روسيا تسرع لتقديم غدائه وتضيف بنفسها ملعقتين كاملتين من القشدة الحامضة إلى طبق الشيشي. فيشرب الجد الحساء بصوت مرتفع وهو يثرثر كثيرا خلال طعامه. ولكنه حاليا لا يكلم ولا حتى الجدة. يقف بمكانه فقط، وبيده قبضة فرامة اللحمة، بعقد أصابع منتفخة، ويسرع بتدويرها حتى يحمر وجهه وتزرق عروقه وتتشابك على رقبته المنتفخة. ويركز نظرته على شيء بعيد خارج النافذة. اعتقد ميشا ربما كان جده يفكر بالقفز كما أراد في عيادة الطبيب. غير أن شقتهم كانت في الطابق السادس. وحينما يتم تحضير الطعام، تذهب الجدة لإحضار لمستها المفضلة، عشبة الشبيث. فهي تحتفظ لديها بباقة مسودة وذابلة قليلا ومنشورة على جريدة قديمة تمدها فوق حافة النافذة. تنتقي عشبة وتسحقها بأصابعها في زبدية صغيرة، وتضيفها إلى جميع الصحون التي طبختها. وعند الغداء تجد طعم الشبيث في كل شيء: الحساء والبطاطا وشوربة اللحمة والسلطة. وفي الحقيقة قليلا ما يكون للغداء أي طعم غير الشبيث - والجدة لا تثق بالتوابل، باستثناء القليل من الملح في الطعام، وبدون أي فليفلة. يراقبها ميشا كيف تنتقل من مقلاة إلى أخرى، مرتدية ثوبا له هيئة مربع قطن أسود، وتجفف وجهها المحمر والمبلول وشعرها الرمادي القصير بقطعة قماش، وتجرف قشور البطاطا من الكونتور، وتزمجر كلما سقطت إحداها على الأرض، ثم تلتقطها. ولم يفهم لماذا تتعب في تحضير الطعام، الذي لا يتذوقونه، ويستهلكونه في وقت الغداء بعشرين دقيقة، وبصمت. لم يستطع ميشا أن يتظاهر أنه منهمك بوظيفته إلى ما لا نهاية. وفي الختام تدرك جدته أنه لا يعمل. وكانت تتابع نشرة الطقس على التلفزيون، وإذا لم تجد ما يدل على كارثة طبيعية ترسل ميشا إلى باحة الألعاب مع جده. تصيح بالجد الجالس على الكنبة بقميص المربعات غير المزرر ومدفونا بالصحف الروسية: "اذهب. تحرك. اذهب وتنزه مع الصبي. كن مفيدا وغير روتينك". فيقف الجد ويزمجر ويذهب إلى مرآة الحمام، ليتأكد أنه بحاجة لحلاقة، وبالعادة يقرر عكس ذلك. ثم يزرر قميصه، ويدسه في سرواله، ويقول بشكل غائم: "لنذهب يا مايكل". ويعلم ميشا بعد المغادرة أن الجد سيحمل معه الصحيفة الروسية. وتضع الجدة نظارتها (لديها اثنتان، وكلتاهما من البلاستيك الرخيص، إحداهما زرقاء قليلا والثانية وردية)، وتتكوم على الكنبة، حتى تئن النوابض. وتجلس هناك وقدماها متباعدتان وتقرأ صفحة المبوبات، والإعلانات الفردية. وترسم دائرة حمراء حول بعضها، بقلم استعارته من ميشا، كي تعرضها لاحقا على أم ميشا، التي تبادر بالضحك، ثم تتحسس، وأخيرا تنزعج وتتبرم من الجدة. طيلة الطريق إلى باحة الألعاب، وحين المرور ببناء شقق من الطوب الأحمر وصفوف من البيوت الخاصة تجد فيها على الممشى صغارا يضعون قبعة اليهود وبنات يرتدين أثوابا طويلة ومزهرة، يتقدم الجد ميشا بعدة خطوات، ويداه مطويتان وراء ظهره، ونظره على قدميه، بدون أن ينطق أي كلمة. في روسيا الوضع مختلف. ربما لأن ميشا كان أصغر. حينما ينفق الصيف في بيت جديه يرافقه جده طوعا إلى حديقة ودون أن يطلب منه ذلك. ويتكلم كثيرا حينما يمشي في ممرات الغابة المظلمة والكثيفة: عن الأشجار، والحيوانات، وفتنة الأشياء العادية التي تحيط بهما. ولا يحاول ميشا الصغير أن يفهم معنى الكلمات. وتصله مختلطة بأصوات غيرها: خشخشة الأشجار، وزعيق طائر، وصليل مزعج للحصى وهو يسحب مقدمة صندله عليها. والأهم صوت جده. كانا يمشيان ببطء، ويد الصغير ميشا مؤمنة بيد جده المتعرقة والكبيرة. وبين حين وآخر يحرر يده ويمسحها ببنطاله، ولكنه يسرع ليحمل حقيبة يد جده. وما أن يصلا إلى ساحة اللعب ويقفا على أرضها الإسفنجية السوداء يقول الجد: "حسنا يا مايكل هيا العب". ثم يتجول في المكان بحثا عن صحف روسية على المقاعد. وبالعادة يجد اثنتين أو ثلاثا. ثم يذهب إلى جذع شجرة ضخمة، بعد أبعد زاوية عن طاولات الدومينو، حيث يجتمع حشد متحمس من الرجال الروس كبار السن، أو بعد أبعد زاوية من الطاولات حيث تجلس كبيرات السن الروسيات لمناقشة أمراضهن وأخبار خليلات الآخرين. وهناك لساعة كاملة في ساحة الألعاب، يجلس بلا حراك، باستثناء تقليب صفحات الجريدة.لم يعرف ميشا كيف يفترض به أن يلعب. رأى أولادا بعمر ثلاث سنوات على دراجة بثلاث دواليب يتجولون في أرجاء الساحة الطرية السوداء. أما الزحليقة فقد احتلها أولاد صاخبون بعمر ست سنوات، والأرجوحات شغلها أطفال صغار، تؤرجحهم أمهاتهم أو بنات بدينات مراهقات، كن يضغطن بمؤخراتهن لتمر من بين السلاسل. وبالعادة يمشي ميشا إلى أعلى زحليقة، ويدوس على قطع العلكة و برك من المثلجات الذائبة. يتسلق إلى الذروة ويزحف نحو كوخ بلاستيكي. ويجلس هناك متمسكا بمقعد مطاطي. وأحيانا يجلب معه كتابا. وكان محبا للكتب السميكة الجادة والتي تدور حول الحضارات القديمة، والبعثات الأثرية، والحيوانات المنقرضة منذ ملايين السنوات. ولكن في معظم الوقت يمنعه الضجيج المرتفع من القراءة. ثم يحدق ميشا بالأسفل نحو باحة الألعاب، والتي يبدو أنها تتحرك وتميد مثل حيوان قلق، ثم ينظر إلى جده الثابت بمكانه.

ثم شاهد الملاحظة عن حصة اللغة الإنكليزية مطبوعة بحروف سود عريضة على ورق مضيء زهري. كان اللون ساطعا جدا ويلفت النظر أينما وجدت الملاحظة. ومنذ بداية آذار أمكن رؤيتها في أي مكان من الشقة: على طاولة المطبخ، في غرفة النوم على وسادة مجعدة، على أرض دورة المياه بين المكنسة وكتالوغ ماسي، أو مدسوسة تحت الكنبة (فتجرها الجدة من هناك، وتنفخ طبقة الغبار عنها، وتمهدها بيديها، وتوبخ الجد بغضب). وقد اهتم بها الجميع، وقرأوها، أو على الأقل نظروا إليها. وتمت مناقشة إذا ما كان يتوجب على الجد أن يتبع الحصص. فهو يلائم المواصفات تماما. أي مهاجر شرعي مضى عليه في البلاد أقل من سنتين، ولديه إلمام بأساسيات اللغة الإنكليزية، مدعو لاتباع دورة محادثة أمريكية مدتها ثلاث شهور. وكتب بحروف أكبر من البقية: "الكثير من التعابير المتداولة". وبحروف أكبر: "بالمجان".

قالت أم ميشا في وقت الغداء "البرنامج ممتاز يا أبي. المعلمون أمريكيون، معلمون ماهرون، من هذا البلد وليس سيدات روسيات مسنات، يخلطن بين الأزمنة ويزعمن أن هذا لغة قواعد بريطانية كلاسيكية". ونظفت في طبقها حساء سمك السلور من الحسك. حاول الجد في البداية تجاهلها. ولكن أم ميشا أصرت: "أنت تتعفن بالحياة يا والدي. فكر كم هذه الفرصة رائعة، ستشغلك بشيء ما، شيء يهمك". قرقعت الأطباق بين يدي الجدة، وجرت الكرسي مع صرير، وأحيانا كانت تقاطع هذا الحوار بأسئلة مثل: "أين أعواد الثقاب؟ وضعتها هنا بالضبط" أو "هل تعتقدون أن هذه السمكة مطهية أكثر مما يجب؟". وساءها أن أحدا لم يفكر بضرورة انتسابها للدروس، مع أنها تعرف أن عبارة "الإلمام بأساسيات الإنكليزية" لا ينطبق عليها تماما. وأفضل ما بإمكانها أن تتهجأ اسمها الأول. أما كنيتها فتحتاج لمساعدة من ميشا. ولكن لا يشوش على أم ميشا أسئلة الجدة أو قرقعة الأطباق. وتقول: "ستبدأ بالمحادثة بسرعة، يا أبي. أنت تعرف القواعد، ولديك مفردات، ولكنك بحاجة لمساعدة". خفض الجد رقبته فقط، ورشف شايه، وهو يتمتم أن هذا هراء وأن منطقتهم في بروكلين لا تحتاج إلى الإنكليزية إلا قليلا.

فترد أم ميشا: "وماذا عن مواعيدك أنت وأمي؟ تعبت أنا ومايكل من مرافقتك إلى هناك كل مرة. هل هذا صحيح يا مايكل؟". وتنقل إبريق الشاي البورسلان الضخم، فيمنعها من رؤية وجه ميشا في الطرف الثاني من الطاولة. وافق ميشا. وتقرر أن يلتزم الجد بالحصص. في يوم أول حصة حمل الجد إحدى ستراته المعلقة على المشجب وارتداها، فوق قميص المربعات المعتاد. وسأل ميشا إن كان لديه دفتر لا يلزمه، فقدم له دفترا بغلاف بلون الرخام، مع قلم رصاص مشحوذ وقلم حبر. وضعها الجد في كيس بلاستيكي يحمل عبارة "شكرا". في الصالة أخذ من أعلى رف في الخزانة علبة حذائه الروسي، وسأل ميشا إن كان الحذاء بحاجة للتلميع. لم يعرف ميشا الجواب، فأعاد الجد العلبة إلى مكانها، وارتدى خفه. وجرجر خطواته إلى المصعد، والكيس تحت إبطه. بعد ذلك كل ليلتين في الأسبوع - يعقد الدرس يومي الاثنين والأربعاء - يتناولون الغداء بغياب الجد. وغيابه لا يصنع فرقا ملحوظا، ما عدا توتر أم ميشا والجدة أكثر قليلا. ويبدأ بقصاصة من الصحيفة الروسية، وإعلان ملون كبير - "شرف حفلتنا بحضورك وقابل قدرك! الثمن: خمسون دولارا (يتضمن الطعام والشراب)" - وينتهي ذلك بصياح أم ميشا: "لماذا تريد أن تزوجني؟ لتذهب بطريقك الآخر؟". وتمد الجدة يدها إلى زجاجة حشيشة الهر قائلة بصراحة: "لم أنطق بكلمة سيئة على زوجك".

"بل وجهت لي الكثير من الكلام. أنت لا توفرين النقود من المكالمات الدولية".

"أردت أن أفتح عينيك".

ثم تسرع أم ميشا وتخرج من المطبخ، والجدة تصيح لتعود، وهي تعد بحذر النقاط المضافة لكأس الشاي: "كيف بإمكانك أن لا تكوني ممتنة جدا. أتيت إلى أمريكا لأساعدك. تركت كل شيء وأتيت كرمى لك". جاءت أم ميشا إلى أمريكا كرمى لميشا. قالت له ذلك مرة، بعد عودتها من اجتماع ذوي الطلاب مع المعلمين. جاءت إلى البيت وقالت: "تعال معي إلى غرفة النوم يا مايكل". تبعها، وشعر بالعرق على يديه واحمرار أذنيه، مع أنه يعلم أنه لم يرتكب في المدرسة فعلا شائنا. جلست أمه على حافة السرير، وخلعت حذاءها بكعبه العالي، ثم تخلت عن سروالها. وهي تدلك قدمها البيضاء بأصابعها الملتوية قالت: "قال المعلم أنك لا تشارك يا مايكل. ولا تتكلم أبدا. لا في القاعة ولا في الاستراحة. إنكليزيتك جيدة، وحصلت على علامات ممتازة في امتحاناتك. ولديك علامة ممتازة في كل مقرراتك. ولكنك لن تصل إلى الدرجة الأولى في صفك". تركت قدمها وبدأت بالبكاء حتى سال صباغ أسود حول عينيها. قالت له وهي تلهث أنه هو مستقبلها، والسبب الوحيد لقدومها إلى أمريكا. ثم ذهبت إلى الحمام لتغسل وجهها، وتركت على الأرض كومة سروالها - دائرتان رقيقتان سوداوان اندمجتا معا. صاحت من الحمام: "لماذا لا تناقش يا مايكل؟".

ولكن ليس صحيحا أنه لا ينطق أبدا. إذا طرأ سؤال يرد بجواب دقيق، ولكنه يحاول أن يختصر قدر الإمكان. غير أنه لا يبادر بالكلام. ويدون كل ما يقال في الحصة، ويشارك في ذهنه بتعليقات وتعليقات معاكسة، وأحيانا يلقي النكات. مع ذلك شيء ما يمنع هذه الكلمات الجاهزة من أن تخرج من فمه. وينتابه نفس الشعور عندما يتصل والده في أيام السبت. كان ميشا يتدنفق كل الأسبوع يجهز لاتصاله، ولديه ألوف الموضوعات ليخبره بها. ويخبره ذهنيا بكل مجريات المدرسة، ويصف له زملاء الصف، وأساتذته. ويريد أن يتكلم عن أشياء قرأها في كتبه، وعن مدنه المفقودة، وحيواناته الغريبة. وبذهنه يضحك ميشا ويتخيل كيف سيخبر والده بكل القصص المضحكة التي قرأها عن الديناصورات، وكيف سيشاركه أبوه الضحك. ولكن حينما يخابره أبوه، يحل الخدر عليه. ويجيب على الأسئلة ولا يبادر بالنطق ولا يوجه أي سؤال. ويجلس والهاتف على سريره، بمواجهة الجدار، وأظافره تقشر طبقات الطلاء القديمة. يسمع أنفاس والده في الهاتف والتي تدل على نفاد الصبر وخيبة الأمل. ويرى ميشا أن كرهه للكلام هو سبب عدم اتصال والده في الأسابيع السابقة. والآن حان دور الجد ليؤدي واجبه المنزلي. جاء ميشا من المدرسة وشاهده عند طاولة المطبخ مع دفتره وقواميسه مكومة أمامه على الطاولة. وقد قص الجد لنفسه بطاقات ملونة صغيرة من ورق البناء وكتب عليها كلمات صعبة موجودة في القاموس: كلمة إنكليزية على طرف، ومعناها بالروسية على الآخر. وانهمك بالدراسة ولم يلفت اهتمامه شيء في تلك الأثناء. وتوجب على الجدة أن تذهب إلى مخزن الأطعمة الروسية بمفردها، وبالعادة تعود مع أكياس صغيرة وخفيفة لأنه لا يسعها أن تحمل الأشياء الثقيلة. ولم يستعمل أحد فرامة اللحمة. وأودعت في الخزانة مع مهملات أحضرت من روسيا: ورق الفرن، قوالب غريبة، ساموفر منهك صغير، أداة لاستخراج بذور الكرز الحامض. ولم يسعد ذلك الجدة. ودمدمت أنها تحمل على كاهلها كل البيت وألقت نظرات تأملية على زوجها. قالت أم ميشا: "من فضلك اتركيه بمفرده. على الوالد أن يتعلم شيئا، ولم يبق له غير ثلاث شهور". وتساءل ميشا هل يستمتع الجد بوظيفته مثله. وأيضا تساءل هل يغش الجد مثله، متظاهرا أن وظيفته تستغرق وقتا أطول مما تحتاج إليه في الحقيقة. وبعد بداية الحصص بثلاث أسابيع، أخذ الجد العلبة وحذاءه الجلدي من الرف. وذهب إلى مخزن أحذية واشترى علبة طلاء بني قاتم صغيرة. ولهذه الغاية بحث عن كلمة "طلاء أحذية" في القاموس. قبل كل حصة يلمع حذاءه بنشاط بقطعة قماش. ويدمدم مستجيبا لنظرة الجدة: "لا أريد أن يظن المعلم أن الروس خنازير". يجلس القرفصاء، ورأسه للأسفل، ووجهه ورقبته محمران جدا، مثلما يحمر كلما قال إنه لا يتحسن وعليه حضور دروس إضافية في أيام السبت. وحينها تضع الجدة بعض الأشياء في الخزانة. تغلق باب الخزانة الأبيض بصوت جازم وتقول: "رغم كل هذه الدراسة ولا تتحسن". في إحدى الأمسيات نهض الجد عن الكنبة، وارتدى سترته، ووضع بعض النقود في جيبه، وذهب إلى كينغز هاي واي، وعاد بقميص جديد، أزرق خفيف مقلم بخطوط زرق قاتمة. وكل ما قاله للجدة "كان معروضا بسعر مخفض".

قالت جدة ميشا في صالة انتظار طبيب الجلدية: "وهذا كل ما قاله. كان معروضا بسعر مخفض. لو أنني لا أعرفه لاعتقدت أن لديه خليلة. ولكنني أعرفه". هزت المستمعتان رأسيهما بتعاطف، وهما امرأتان روسيتان، إحداهما تضع قبعة صوفية سميكة لونها بنفسجي لماع، والثانية سوداء وعادية. كشرت الجدة ورفعت أحد حاجبيها لتؤكد كلامها. ونظرت نظرة لها معنى للمرأتين، ومالت عليهما، وهمست شيئا. وأضافت: " ذلك - لعدة سنوات حتى الآن". قالت المرأة ذات القبعة البنفسجية: "ولكن هذا جيد، هذا أفضل". فكرت الجدة بكلامها وقالت: "نعم، نعم، هذا أفضل، طبعا". تخيل ميشا جده مع خليلة، مع خليلة طبيب الجلدية، لأنها الخليلة الوحيدة التي شاهدها. وتخيل جده يتمشى معها على ضفاف خليج رؤوس الحملان - شيب هيدز باي - بين أزواج آخرين، وإحدى يديها تتدلى من كم جلدي لماع لتقبض على يد الجد، ويدها الأخرى تلهو بمفاتيح سيارة. ثم تخيلها تقبل الجد على خده وتترك عليه علامة من طلاء الشفاه الأحمر. فيجعد الجد أنفه ويسرع لمسح العلامة، كما يفعل ميشا حينما تقبله أمه بعد العمل. وصورة جده الجاد الذي ينظف خده بقوة جعلته يبتسم. وخليج رأس الحملان هو المكان الذي يأخذ الجد ميشا إليه للنزهات المسائية. ولعدة أسابيع بعد الحصص واصلا الذهاب إلى باحة اللعب، ولكنه أهمل الصحف الروسية. وبدأ الجد يحمل معه بطاقات الكلمات الملونة. فيوزعها أمامه على الجذع ويضع على كل منها حجرة ليمنع الريح من جرفها. وأحيانا يقرأها بتمهل، بالهمس أو بتحريك شفتيه أو بعينيه. ولكن غالبا ما يتلفت وعلى وجهه دهشة واضحة وعدم تصديق كأنه يراها لأول مرة. ثم في أحد الأيام قال الجد إنه سيأخذ مايكل إلى خليج رأس الحملان ليرى السفن ويستنشق هواء المحيط المنعش. احتجت الجدة في البداية، قائلة إنها مسافة طويلة، والجو عاصف هناك، وقد يصاب الولد بنزلة برد. ولكن أصر الجد، كما كان حاله في روسيا. وقال إن الولد بحاجة للتريض، وهذا الكلام لا تراجع عنه. وفي خليج رأس الحملان لم يتوقفا لرؤية السفن. وعبرا الجسر الخشبي الذي يصر، وتابعا على طول الضفة، ومرا بالصيادين، والأشجار الطويلة، والمقاعد الخضراء المهترئة التي تحتلها نساء وحيدات كما يبدو. وفي نهاية الدرب التفا وعاودا المشوار ثلاث أو أربع مرات. الجد يمشي أمامه، أسرع من المعتاد، ويعرج قليلا بحذائه الجلدي القاسي. نظر نحو الأمام، وأحيانا ينظر نحو الأشجار والمقاعد. وتولد عدة مرات عند ميشا انطباع أن جده أومأ لشخص جالس على مقعد. وفي إحدى المرات انزلق على رأس سمكة على الرصيف، وتقريبا سقط وهو ينظر بذلك الاتجاه. وتوقف ميشا عدة مرات لينظر إلى معدات الصيادين اللماعة، ورؤوس وذيول السمك المستعملة كطعم، وباطن الدلاء البلاستيكية البيضاء، والفارغة عادة. وعندما اشتدت الريح بردت أذنا ميشا وكادت أن تطيح بقبعة اليانكي الصغيرة من فوق رأسه، واسودت الأمواج وارتفعت في الماء، وشاهد ميشا الأسماك تقفز وتنثر الماء حولها لمسافة كبيرة. وحينما سحب أحدهم سنارة صيده، تبعها ميشا بعينيه، وحبس أنفاسه ولعق شفتيه. وأمل ولو مرة أن يرى سمكة تقع بالمصيدة. وبعد نهاية حصص الجد، تأكد ميشا أنهما لن يعودا إلى هنا. وعليه العودة إلى الكوخ البلاستيكي في باحة اللعب، والذي ترتفع حرا ته صيفا، وتفوح منه رائحة المطاط المحروق.

سجلت الجدة كل مواعيدها على تقويم كبير معلق على الجدار بجانب الثلاجة، وهو بمثابة بقعة مضيئة على جدار المطبخ الشاحب. يحمل اسم "أديرة روسية شهيرة"، وكان مطبوعا في ألمانيا، وقد اشترته من شاطئ برايتون. وتحت الصورة اللماعة والجميلة لدير زاغورسك، ببرجيه الذهبيين العائمين في سماء زرقاء مشرقة، تجد تفاصيل شهر حزيران. في الخامس عشر منه تاريخ نهاية حصص الجد، وقد أحاطته بدائرة رسمتها بقلم ميشا الأحمر. قالت أم ميشا حينما مرت بجانب التقويم وهي في طريقها لتضع طبقها في المغسلة: "هل رأيت، لم تكن تريد أن تذهب، يا والدي. ولكنك ستفتقده بعد أن ينتهي". نفض الجد كتفيه. لم يظهر أنه تأثر بكلماتها أبدا. وظهر أن الجدة هي من تأثرت، وكلما ذكر 15 حزيران تتبدل ملامحها. وبقي الأهم. طلبت الجدة من الجد إحضار عشر أرطال خيار من شاطئ برايتون. قالت: "سعرها هناك عشرون سنتا للرطل. وسأصنع منها المخلل". وذكرت أنها تحتاج للخوخ والمشمش للمربى، والكرز الحامض لحلوى الكرز الحامض، والإجاص الصغير الصلب للطهي، والتفاح لفطيرة التفاح. وألقت نظرة حنين باتجاه فرامة اللحوم المتوقفة، وأخبرته بوصفة رائعة سمعت بها في عيادة طبيب الأسنان قائلة: "سأجهز الزرازي. قالت آنا ستيبانوفنا إنها تكون أفضل باستعمال البصل الأخضر عوضا عن البصل. وسأحتاج للكثير من لحم البقر المفروم لأجله". ثم وجدت وكالة سفر روسية، تقدم تخفيضات لسياحة العجائز. وقالت للجد: "سنذهب إلى بوسطن، وإلى واشنطن، وإلى فيلادلفيا. تكلمت النساء في صالة الانتظار عن رحلات بدون توقف، وجلست هناك ولم أفتح فمي من الخجل. عليك الآن أن ترافقني. لن أذهب بمفردي، كما لو أنني لم أتزوج. فغير المتزوجات يحصلن على مقاعد سيئة في الخلف، بجانب دورة المياه". وفكر ميشا أنه ليس أمرا سيئا للجدة إذا حالفها الحظ للجلوس بجانب دورة المياه. غير أنه لم يعلق.

وكذلك الجد لم يعلق. ودفن نفسه في كتبه الدراسية. في 2 حزيران تنبأت نشرة الأحوال الجوية في التلفزيون بغيوم رمادية صغيرة وهطل مطري أسود وغزير. قالت الجدة وهي تغلق التلفزيون وتذهب إلى المطبخ حيث كان الجد وميشا يتابعان كتابة الواجب المنزلي أو بالأحرى يجلسان مع كتبهما المفتوحة: "أمطار غزيرة. ستمكثان الليلة في البيت". ظهرت السماء وراء النافذة رمادية غالبا، مع عدة بقع زرق. نظر ميشا نحو الأسفل. لم يكن الناس يحملون مظلاتهم، ورأى إسفلت الطريق الرمادي جافا ومغبرا. نظر إلى جده. وفحص جده السماء بعناية، ثم رفع غطاء النافذة عدة بوصات ومد يده. دخلت هبات رياح عاصفة ومتجلدة، وتسببت بانتصاب شعر ذراعه، غير أنه لبث جافا. قال: "سنعود قبل أن تمطر". فتنهدت الجدة بلا مبالاة. بدأ هطول القطرات الأولى من المطر حالما غادرا المبنى. ورسمت أثرا أسود على الرصيف، ولكنها لم تسقط على ميشا وجده. ثم سقطت نقطة مطر على طرف أنف ميشا. مسحها. وقرب خليج رأس الحملان توقف الجد ومد راحته المفتوحة. سقطت عليها بعض القطرات. قال الجد وهو يلتفت إلى ميشا ويمسح وجهه المبتل براحته المبلولة: "هذا ليس مطرا يا ميشا. أليس كذلك؟". تنهد ميشا. ونظر كلاهما نحو الخليج. كان قريبا جدا، وأمكنهما رؤية السفن، والأمواج الهائجة والرمادية الداكنة، وذرى الأشجار وهي تنحني تحت ضغط الرياح. طارت صفحات من الصحف والتي كانت مهجورة على المقاعد. هز ميشا رأسه وهو يمسك قبعته بإحكام: "هذا ليس مطرا غزيرا. سنقوم بجولة واحدة فقط. موافق؟". عبرا الشارع، وكانا وحدهما يسيران باتجاه المنتزه. أما معظم الناس فقد أسرعوا بالخروج. وبدأت حبات مطر منتفخة وكبيرة تتكاثر، وتضرب الرصيف الواحدة بعد غيرها مع صوت ارتطام، وحولت البقع الرطبة الصغيرة إلى أشكال ومنمنمات، ثم تحولت إلى برك. توقف الجد مترددا ونظر نحو المقاعد. لم يكن عليها أحد. فقال: "أعتقد من الأفضل يا مايكل أن نتوجه إلى البيت. فقد بدأت تمطر".

وبلغهما الهطل الغزير وهما ينتظران الضوء الأخضر عند إشارة العبور. وبسبب كل نواح الريح وطرقات المطر، لم يسمعا مباشرة نداء أحد الأشخاص عليهما. أو بالأحرى سمعه ميشا، ولكنه لم ينتبه فورا أن النداء باسم جده. "غريغوري ميخائيلوفيتش. غريغوري ميخائيلوفيتش". لم يستعمل أحد كنيته منذ غادر روسيا. ثم جاءت امرأة عجوز صغيرة الحجم بمعطف مطر بني، وتضع كيسا بلاستيكيا على رأسها، وكانت تعدو نحوهما، وهي تتخبط ببوط أسود مقاوم للبلل، وأكبر من مقاس قدمها. جر ميشا كم جده، وجعله يتوقف ويلتفت. قالت بأنفاس مقطوعة وهي تحاول أن تحمي رأس ميشا بالكيس البلاستيكي: "غريغوري ميخائيلوفيتش. تعال إلى بيتي. تعال بسرعة. وإلا أصاب الولد نزلة برد".

كان بيتها في آخر طابق من بناء حجري بني يتكون من ثلاث طوابق وهو على الرصيف المقابل للحديقة. صعدوا على سلالم معتمة، تفوح منها روائح غير سارة. فكر ميشا: "قطط؟". فهو لا يعرف رائحتها. تقدمتهما المرأة على السلالم. وهي منقطعة الأنفاس وقالت بجمل حادة وقصيرة: "ولد مسكين. كيف أمكنك أن تفعل به ذلك يا غريغوري ميخائيلوفيتش. وفي طقس كهذا. كنت هناك على أحد المقاعد. ولكن غادرته. حالما بدأت تمطر. ورأيتك من جهة الشارع الأخرى. وأصابني الهلع على الولد". انقطعت أيضا أنفاس الجد ولذلك لزم الصمت. وفي الداخل أمكن ميشا أن يلاحظ أن الشقة صغيرة جدا وقليلة الإضاءة قبل أن تغطي وجهه وكتفيه وظهره منشفة خشنة كبيرة يفوح منها رائحة صابون غير معهود. وشعر بيدي المرأة الصغيرتين والسريعتين تدلكانه. ودغدغه هذا الإحساس وأوشك أن يعطس. رفض ميشا والجد سروالين جافين ولكن قبلا جوارب جافة ووضعا الصحف في داخل حذائيهما وتركا الحذائين في الحمام ليجفا. وحينها قالت المرأة: "اسمي إلينا بافلوفنا. زميلة جدك في أيام المدرسة. كنا معا". شربا الشوكولا الساخنة في مطبخ صغير عند طاولة مستديرة بساق واحدة. حضر الجد وإلينا بافلوفنا الشوكولا الساخنة معا. سكب الجد الماء الحار من الإبريق، بعد أن قبض عليه من يده الخشبية بكلتا يديه، وأضافت أيلينا بافلوفنا المزيج في ثلاث أكواب صفراء وقربتها من الإبريق. وتبادلا عبارة "شكرا"، "من فضلك"، "اسمح أو اسمحي لي"، وابتسما العديد من المرات. وبدا كلامهما مثل تمثيلية مقتبسة من شيخوف كانت أمه تحب مشاهدتها في روسيا ولكن شعر ميشا أن جده وإيلينا بافلوفنا لا يمثلان. سألت إيلينا بافلوفنا "ما اسمك؟".

قال ميشا: "مايكل".

"مايكل؟ ولكنك لا تبدو كأنك مايكل. ميشا يناسبك أكثر. هل يمكنني مناداتك ميشا؟".

وافق ميشا بحركة من رأسه، وهو ينفخ بسعادة على شرابه الساخن (بالعادة في البيت تضيف أمه الحليب البارد لكوبه)، وقضم من كوكي محشو بمربى التوت اللذيذ. قالت إلينا بافلوفنا: "اشتريتها جاهزة. أنا لا أخبز. لماذا أتعب نفسي الأشياء اللذيذة تباع في المخابز وهي على أنواع؟ صحيح؟ ولكن ليس هذا السبب فقط. أنا طاهية سيئة جدا". ورأى ميشا أنها لا تخجل مما اعترفت به. كانت شقتها أصغر من شقتهم. غرفة ومطبخ. ومؤثثة مثلهم: كنبة من الخشب البني الصلب مشتراة من متجر مفروشات روسي رخيص، وطاولة قهوة مع خدوش وخزانة بأدراج وجدتها في النفايات، ومصابيح ثقيلة مشتراة من سوق موسمي للأشياء المستعملة. ومجموعة شاي روسية رقيقة وكتب في خزانة سوداء بأبواب زجاجية. قرأ ميشا العناوين - التي تطابقت مع ما لديهم - شيخوف، بوشكين، روايات تاريخية بأغلفة سوداء كئيبة، موباسان وفلوبير مترجمة إلى الروسية، قواميس لسان روسي - إنكليزي و إنكليزي - روسي، وسميكة. بعض العناوين مغطاة بصورتين كبيرتين. إحداهما لبنتين بملامح جادة وشعر أجعد، وكلتاهما أكبر من ميشا. قالت إلينا بافلوفنا وهي تتنهد: "حفيدتاي. تعيشان في كاليفورنيا مع ابني". الصورة الثانية بالأبيض والأسود ولشاب مبتسم يرتدي البذة. فكر ميشا: ابنها، ولكن قالت إيلينا بافلوفنا أنه زوجها. لاحظ أن لإيلينا بافلوفنا في مؤخرة رأسها شعر مجدول وأبيض ورقيق. لم يشاهد ميشا من قبل امرأة مسنة بشعر مجدول. والشعر الذي يخرج من الجديلة يحيط وجهها بتاج من الجدائل البيضاء الرمادية المنفوشة. ولها جلد جاف وناعم بتجاعيد صغيرة وقليلة تبدو كأنها مرسومة على وجهها بالقلم. ولها عينان صغيرتان وسوداوان. غطاهما الضباب حينما قرأت لهما رسالة أختها من ليننغراد. وقد ورد فيها: "كل شيء كما هو، نهر النيفا، الضفاف، قصر الشتاء، أنت وحدك يا لينوشكا التي اختفت". ربت الجد على يدها، التي برزت من كم أزرق باهت، وهي تقرأ ذلك. وكانت ترتدي ثوبا صوفيا أزرق بقبة عالية تغطي رقبتها، ومعه قلادة عنبرية. سألت وهي تفك قفله: "هل تريد أن تنظر إلى قلادتي. تقول والدتي إن في داخله ذبابة". أمسك ميشا بيديه قطعة العنبر الكبيرة وغير المصقولة. بارد وناعم من أعلى، خشن من الحواف. وفي داخله شيء أسود غريب له تفرعات رقيقة تبدو قليلا مثل قوائم حشرة. قالت إلينا بافلوفنا: "لست متأكدة وربما هو مجرد صدع. هل تعرف يا ميشا ما هو العنبر؟".

قال بحماس وهو يقلب العنبر بين يديه: "نعم. هو قطران الشجرة المتصلب، ويمكن للحشرات أن تعلق فيه حينما يكون طريا ولزجا. نعم، أعتقد أنها حشرة. ولكنها مشوهة". أبعد ميشا عينيه عن القلادة واحمر وجهه، فقد شاهد إلينا بافلوفنا وجده يتابعانه ببالغ السعادة لكلامه.

في الخارج كان كل شيء رطبا وناصعا بسبب المطر. وهبطت على رأسيهما من الأشجار قطرات مطر غزيرة كلما مرا من تحتها. أسرعا بالمشي، متقاربين، وحذاءاهما المبلولان يصران على الإسفلت الرطب الأسود. فقد غادرا من شقة إلينا بافلوفنا بمجرد توقف المطر. كان الحذاءان رطبين، ولكنهما أخرجا الصحيفة المنقوعة بالماء منهما وارتدياهما. ولم تحتج إلينا بافلوفنا، ولم تقل أنه عليهما الانتظار، وأن ميشا قد يصاب بالبرد من ارتداء حذائه الرطب. على عتبة السلم تناولت يد ميشا بيدها الجافة والصغيرة وقالت: "تعال يا ميشا مرة ثانية". ولكن كان لديه شك أنه سيراها بعد الآن. وكان لديه يقين أنه لا يجب أن يذكرها في البيت. وربما يتوجب عليهما الادعاء أنهما انتظرا توقف المطر في مدخل بناء أو في بقالية. وستبقى إيلينا بافلوفنا، المرأة ذات الجدائل الرمادية والعقد العنبري، سره وسر جده. ولسبب ما شعر ميشا بالدافع ليمسك يد جده، ولكن خطر له أن أولادا بعمر تسع سنوات لا يمشون وهم يمسكون بأيادي أجدادهم. وعوضا عن ذلك حدثه عن تكون العنبر، والبراكين، والحرباء، والديناصورات التي تبتلع الصخور الضخمة لتطحن بها طعامها، وعن التماسيح التي تصنع صنيعها أيضا. وتكلم دون أن يلتقط أنفاسه، وبلا توقف، وبتدفق، وهو يضحك من الإثارة، ويقاطع حكاية ليدخل بما بعدها. نظر إلى جده، الذي ركز عينيه على ميشا، وكان يومئ برأسه باستعجاب، ويتمتم من وقت إلى آخر قائلا: "تصور". أو "تصور كيف تتصرف الكائنات الحية لتعيش". وكلما أضاف ميشا المزيد من رواياته كلما ذكر كلمة "تصور". وعلى مقربة من بناء المسكن توقف الجد فجأة، وقاطع حكاية له عن تنين كومودو قائلا بصوت منقطع الأنفاس: "ميشا. هل تعلم أن دروسي لن تنتهي في 15 حزيران. أقصد هذه هي الخطة، ولكنني سأنضم لمقرر آخر، ثم آخر. يوجد الكثير من برامج اللغة الإنكليزية في بروكلين وبالمجان يا ميشا. لا تستطيع أن تقدر كم هي كثيرة".

سقطت من شجرة قطرة مطر كبيرة على رأس الجد. وسالت على جبينه. وتمهلت فوق أنفه، وتعلقت بأرنبة الأنف. وهنا ارتجف الجد وهز رأسه مثل الحصان. فضحك ميشا.

 ***

...............................

* الترجمة عن Open City

* لارا فابنيار Lara Vapnyar روائية وقاصة روسية معاصرة. تقيم في الولايات المتحدة. من أعمالها: مذكرات ملهمة 2006، عطر الصنوبريات 2014، لا نزال هنا 2016، بروكولي وقصص غيرها 2008.....

 

في نصوص اليوم