نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: لعبة

رواية قصيرة

القسم الأول

طبيب العائلة الدكتور مجدي نعيم يطمئنني

يفتح لي أملا جديدا بعد أن يئست تماما

في الوقت نفسه ذكرتني تطميناته والفكرة التي طرحها باختراعي القديم

فيها هو يرجعني إلى عشر سنوات خلت

وقتها

لم أكن أعرف أنّي ذهبت بعيدا في مغامرتي الجديدة القديمة.. إذ حين تصل الثقة بالنفس إلى درجة بعيدة ثمّ يجد الإنسان نفسه في مأزق

حقيقيّ فمن الصعب عليه أن يتخلّى عن أيّة فكرة مهما كانت

عظيمة أم تافهة لأنّ بعض الأفكار العظيمة قد تنقلب إلى تافهة

تفتك بصاحبها، وبعض التوافه تصبح عظيمة في يوم ما..

وهذا ما حدث لي بالضبط.

كنت هاويا من هواة الإلكترونيات وعلم الاتصالات..

قبل عشرين عاما في ذلك الوقت فكرت أن أخترع لعبة ذات سمات معينة أنا الان في العقد الرابع، حينها كان عمري تسعة عشر عاما، لا أنكر أنّ طموحي لم يكن متواضعا قط. فقد بدأت بلعبة صغيرة.. لعبة طفلة لابنة أختي (جالا)، صنعتها من البلاستك بشكل لطيف، سمراء ذات شعر ناعم طويل وعينين عسليتين، جعلتها ترتدي فستانا أنيقا أردت أن يكون أزرق موافقا لذوقي غير أن أختي اعترضت. قالت إنّ الثياب الزرقاء تناسب الأولاد لا البنات وفصّلت بنفسها بدلة أنيقة... فستانا أصفر ذا ورود حمراء بسترة ذي لون نهدي، وعملتُ لها شريحة نموذجيّة من مكونات بسيطة، أربع مكونات إلكترونية تخصّ الصوت، تضحك أو تبكي.

تبتسم وتعبس حين تسمع كلاما رقيقا او خشنا

والأهم:

لدى اللعبة (تونة) جهاز خاص بظهرها تخفيه البدلة حين تضغط عليه جالا عليه تضحك الدمية ضحكات أنيقة، وتركتها تكتشف بنفسها السرَّ الثاني، فحالما تضغط على الزر في صدر الدمية تبكي، وتبول، عندئذ شهقت أختي مذهولة ممّا تراه:

- ستجعل (جالا) تذهب كل دقيقة إلى الحنفية فتملأ دميتها حتّى لا نجد مكانا في البيت غير ذي بلل!

كانت تلك الدمية أوّل اختراع لي

وعندما تقدمت في الدراسة عملت شيئا جديدا

صنعت أقنعة تضحك حين تبتسم لها

وتبكي حالما تعبس

فنون كثيرة استطعت أن أنمّي موهبتي من خلالها في أثناء الدراسة الثانوية، وقد نلت إعجاب أساتذتي في الجامعة، فقدمت بعض الاختراعات الطريفة، وكان آخرها مشروع تخرجي...

فكّرت طويلا، ولمح في خاطري الدمية القديمة التي عملتها ذات يوم لابنة أختي (جالا)

هذه المرة لن أفوّت الفرصة، سأطوّر الدمية...

ستكون سيدة أقصر منّي قليلا

امرأة ناضجة أجعل من يرها يظنّها امرأة حقيقية.

أعجب أستاذي البروفيسور (إلياس) وشكّ في أنّي أقدر على أن أنجز المشروع، وكان في يدي مخطط واجهته به في مكتبه بعد أن استأذنت أن نكون وحدنا. قلت:

- سيدي الأستاذ هل تهتمّ بالشّكل؟

- في بعض الحالات.

- من رأيي أن تكون بيضاء.

-  لِمَ البياض؟

- الشائع في معظم الدول العالم أن الدمى بيضاء.

فقاطع بهزة من كتفه:

- أنت نفسك تريد أن توعز إليها قناعات شرقيّة فليكن اللون أبيض يميل إلى السّمار ليصبح مطابقا للفكر والمشاعر التي تخصّ الأنثى الشرقيّة.

تساءلت وغمرني إعجاب:

- كيف فاتني ذلك.

واستدرك أستاذي:

- والمشاعر؟ كيف تغذيها بها.

-  سأحاول أن أتتبع عبر تحليلات الأصوات لنساء مختلفات في حالة الغضب والفرح والحزن وحالات مختلفة أخرى لأكوّن من الأحاسيس المتعدِّدة إحساسا لامرأة ما في دمية تكاد تشبه البشر.

فاعتدل البروفيسور قليلا وكان يسأل بنغمة رزينة:

-  ماذا عن العمر؟

- للنساء؟

- من مختلف الأعمار.

فقلص البروفيسور حاجبيه:

- والفتاة؟

سيدي أنا الآن في الثالثة والعشرين من عمري سأحاول أن أجعلها عبر تلك المشاعر التي أدمجها بحزمة واحدة آنسة في الثانية والعشرين.

راح البروفيسور يهزّ رأسه ويقول:

-  أشجعك فكرة جديدة لكنّي لست واثقا من نجاحها مائة بالمائة.

فقاطعته متلهفا:

كم تخّمن لو سمحت؟

فابتسم وقال:

ستون بالمائة!

عندئذ تنفّست الصعداء، وأدركت أنّي يمكن أن آتي بشيء جديد.

2

ربّما أنساق مع المظهر الخارجيّ إلى حدٍّ ما

ولعلّني أُعْنَى بكثير من التفصيلات أيضا.

وها أنا أخطّط للمظهر الخارجيّ.

طولي 172 سنتمرأ

إذن

يكون طولها 170، هذا يكفي، أقصر منّي بسنتمترين. لا أدري.. لا أحبّ أن تعلو عليّ. كأنّ َهناك هاجساً يوحي إليّ أنّي لا بدّ أن أتفوّق من حيث الطول، وقد بدأت من أعلى، أفضّل أن يكون الشعر أسود فاحما ببعض البريق، طويلا ينحدر على الكتفين، يمكن أن يتغيّر وضعه بتسريحات أخرى، تختارها هي بإرادتها عندما تقف أمام المرآة ولعلها تطلب ذات يوم الذهاب إلى صالون الحلاقة..

كلّ شيء محتمل…

الشّكل الخارجي ضروري جدّا كونه يجعل الطرف الآخر لا يظنّها دمية بل آنسة تتكلّم.. تنفي.. وتثبت.. تعترض وتوافق أريد أن أخوض تجربة جديدة وأزرع في سيل الإلكترونات أحاسيس مختلفة أستنسخها من الجنس اللطيف.

وقد تطلب ذلك جهدا كثيرا خلال الأشهر الستة الأخيرة قبل حلول الامتحان.

أخذت عينات عبر التسجيل والمتابعة لنساء من مختلف الأعمار.

لا أخفي

كنت أتجسس عليهن

أسجل انطباعات وحالات غضب لكثير من النساء:

القريبات والبعيدات

حزن

فرح

بكاء

ضحك

استخدمت الهاتف النقال

ولجأت إلى أشرطة قديمة

وتابعت الأغاني العاطفية والمشاهد السينمائيّة والأشرطة الجنسيّة الممنوع... رغبات السيدات والنساء فصنعت الشريحة الصغيرة من تلك المشاعر المتضاربة.

قرأت في النصوص القديمة طبعا لا أحبّ قراءة الفلسفة والتاريخ لكنّ التجربة أجبرتني.. قرأت أن الإنسان مخلوق من متناقضات، حرارة وبرودة، مالح وحامض وحلو، نقص وكمال، فاستندت تجربتي إلى عامل التناقض أو ما يلخّصه الجميع بعاملي الخير والشّرّ.

عندما اكتملت التجربة مارست امتحاني الأوّل مع اللعبة الإنسان.

لا شكّ أني كنت أعمل تجربتي بمعزلٍ عن الجميع.. لا أستثني أهلي، رحت أغلق باب غرفتي وأستمع إلى الأصوات المختلفة التي أجمعها سرّا من النساء، في بعض الأحيان أستغل زيارات صديقات أمّي وأختفي فأنصت لما يدور بينهن وأسجّل، مشاعرهن من خلال الأصوات. في الوقت نفسه تابعت الأخبار المعنيّة بالعلم وعالم الروبوتات، وما يجري في أروقة عالم الإلكترون الخفيّة، راح ذهني يتوقّد بعد أن سمعت عن تجربة جديدة أُجريت في الصين، فاخترع العلماء هناك سيدة تتحدّث مع الأطفال تقصّ القصص لهم وتلبّي حاجاتهم.

فازدادت يقينا أنّي أقدر أن أتخطّى مرحلة الروبوت، إلى مرحلة الروبوت الإنسان، فجعلت من الشكّل عبر الاتصال بالمعامل التي تعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي أنْ يجهزوا لي هيكلا لآنسة بمواصفات بشريّة لا أحد يمكن أن يفرّق بينه وبين المخلوق البشري.

وكان لي ما أردت.

وحسبت أن هناك من يسأل لم فضّلت أن تكون اللعبة آنسة وهذا سؤال يمكن أن يوجّه لي لا إلى الدمية، فأظنّ أنّي لم أرد أن أضع نفسي في تعقيدات مركبة فليس غريبا أن أختار امرأة لأنّي حين أجعل الدمية رجلا سوف أُسْقِطُ عليه انفعالاتي وعواطفي فيكون بالتالي نسخة منّي... لديّ مشاعر مختلفة لنساء وآنسات، وصغيرات السنّ يمكن أن تمنحني تلك المشاعر فرصة العبور إلى النجاح وتغنيني، فالتجربة العلميّة تركّب المشاعر لا تحللها في مثل الحالة التي عندي.

كنت قد جعلت الشريحة أسفل كتفها.. بطارية غذيتها بالمشاعر والأحاسيس تستمرّ في شحنتها ستة أشهر، تحرّكت في الغرفة ذهابا وإيابا. حركتها طبيعية مائة بالمائة، حركة جفونها ولمحات عينيها الثاقبة.. قلت:

- لماذا لا تجلسين يا (أسيل)؟

فأسندت يدها إلى الكرسيّ:

- أشعر بضيق هل تود أن تخرج؟

- أين نذهب؟

- الكورنيش.. الحديقة العامّة!

- سيعرفونك إذا خرجنا معا أريد ألا تعرف أمّي وأختي وابنة أختي (جالا) بك إلا في الموعد المحدد!

قالت بتأفف:

-  أشعر بالاختناق!

فتأملت طويلا:

- ممكن أن أحملك وأقول عنك إنّك دمية اشتريتها لغرض ما؟

- تكذب؟

- هذا أفضل من أن نبقى في الحبس كما ترين.

في هذه الأثناء سمعت صوت أمّي في الممر وهي تنادي:

هل تكلّم نفسك؟

-  أخبرتكم يا أمّي أنّي أقيم تجارب السّنة النهائيّة على الأصوات والإلكترون الحسّاس، فلا داعي لإزعاجي.

فأطلقت (أسيل) ضحكة خافتة ووضعت يدها على فمها تحبس أنفاسها، وقالت أمّي:

حسبت عندك ضيوفا يا ولدي.

- لا أبدا

- هل أنت بحاجة لشيء

- أريد أن أتابع بحثي

- حسنا أنا خارجة للتسوق.

وجدتها فرصة مناسبة لمغادرة البيت.. أختي في العمل (وجالا) في الروضة، انتظرنا دقائق، وحين سمعت صوت الباب يفتح ثمّ يغلق، تأكّدت من مغادرة أمّي، أشرت إليها ضاحكا:

هيا إلى الحديقة!

خطوت بحذر معها خارج المنزل، فرآنا بعض الجيران ولم يثر الأمر فضولهم فلعلهم ظنّوها من أقاربنا، وطلبت سيّارة أجرة، سألت السائق أن يقلّنا إلى الحديقة العامة:

- هذه الأيّام جميلة هي الحديقة إنّها بداية الربيع؟

ردت (أسيل) بصوت شفاف:

- صحيح الربيع أجمل الفصول.

فضّلت الصمت، تطلعت إليها مبتسما، وجدت فيها طموحي.. كلّه، وبؤرة الزمن التي أطلّ منها على المستقبل، اتخذنا مجلسنا في الحديقة عند زاوية بعيدة عن الشارع العام قرب نخلة ضخمة مفرطة الطول:

- ترغبين في أن تتناولي شيئا؟

أعرف أنّي أغالط نفسي بل أردت اختبار سرعة بديهتها:

-  حالما أشعر بالجوع أخبرك.

- تطلعت بعيني وقالت برقّة:

-  (رامز) حدّثني عن نفسك؟

- عمّاذا؟

- السيدة والدتك...والدك.. أهلك؟

-  أنا (رامز عادل) طالب في السنة الأخيرة بكلية الهندسة حقل الإلكترونات والذكاء الاصطناعي أعيش مع أمّي وأختي ( دلال أم جالا) التي يعمل زوجها في الخارج وعن قريب يستدعيها لتعيش معه.

- ماذا عن والدك أهو على قيد الحياة؟

-  أووه.. هو حيّ أنا لا أحبّه لأنّه طلّق أمّي وأنا بعمر عشر سنوات لكنّي لا أكرهه!

- مهما يكن يبقى أبا.

- نعم؟

- هل تزوره.

- قطّ. لا أحبّ أن أراه.

الحقّ أعادتني (أسيل) إلى ذكريات بعيدة، الآن أدركت أنَّ هناك أحاسيس ظاهرة، غير الإلكترونات، بدأت تدبّ فيها تجعلها تعتمد على نفسها، فتخرج عن كونها آلة، وإن كان الوضع يسير ببطء.

لا أريد أن أتعجّل:

- هل أنت مرتاحة؟

لاح شيء ما على ملامحها ..أشبه بالخجل..:

- أراك مهتمّا بي كثيرا!

- هل تشكّين في ذلك؟

- آ، لا.. لا..

كانت ملامحها توحي بشيء جديد تحاول أن تبتكره بعيدا عن تدخُّلي. ترغب في أن تخرج عن الملامح التي رسمتها لها والمعلومات الذي زرعتها فيها.

لا أبالغ

وليس هو الغرور

فقط خفت من أن تتطوّر الأمور إلى حدّ بعيد ونحن في حديقة عامة فيفلت الزمام من يدي فغيّرت الموضوع فجأة:

- ما رأيك أن نغادر الحديقة نمشي في المدينة، ونزور المول الكبير لتري محلّ الفساتين، ربما ترغبين في فستان أو حذاء.

- لكن عليك أن تدفع فليس في جيبي أيّة نقود.

قالت عبارتها بضحكة ذات غُنج، فقلت مجاملا:

- هذه المرّة على حسابي.

قطعنا المسافة من الحديقة العامة إلى مركز المدينة، مشيا كانت تمسك ذراعي، وترفع عينيها إلى وجهي، أو تنظر إلى معالم المدينة فتبدي إعجابها بالشوارع، والمعالم الأثريّة، والبنايات العالية، وحدثت المفاجأة حين قابلت في المول أحد زملاء الدراسة، حيّاني عن بعد، وابتسم ثُمّ عبر ظانا أنّها صديقة.

لا أنكر أن (أسيل) خارقة الجمال

ذات عينين مذهلتين

والتفاتة ساحرة.

صديقة.. لا يهم...يمكن أن أروِّضا لتصبحَ إنسانا.

والمفاجأة الكبرى ستحدث يوم الاختبار الأخير.

دخلنا معرضا للأحذية، تطلّعت في الرفوف، وزجاجة العرض.. هزّت رأسها، إلى العامل الذي رحّب بنا بابتسامة واسعة:

- هل لديكم حذاء عادي، كلّ الأحذية التي رأيتها بكعب عال (والتفتت إليّ): أنا طويلة لا أحب الحذاء بكعبٍ عالٍ، ما رأيك؟

- نعم نعم معك حقّ

ثمّ خرجنا إلى محل للملابس، فتطلعت في الأزياء المعروضة، وهمست لها:

- اختاري واحدا وسنأتي إليه في يوم آخر فليس معي نقود كافية!

-  أحبّ صراحتك.

تأكّدت أنّها تجربة ناجحة. تجوّلنا في المول، وخاطبت آخرين ولا أحدَ يشكّ في أنّها دمية، وعندما وصلنا إلى البيت، صُدِمت أمّي من المفاجأة، وهي ترى فتاة ما برفقتي.

قالت (أسيل) تستبق اللحظة:

-  مرحبا خالتي أم (نريمان)!

أمرتُها بلطف:

- لو سمحت ارتاحي في غرفتي سأكلّم أمّي كلاما خاصا!

-  من هذه كيف...؟

فدلفتْ على عجل، ووضعتُ إصبَعِي على فمي ألفت نظر أمّي ألّا تتكلّم، سحبتها من يدها برفق إلى المطبخ ورددت الباب:

- هي ليست فتاة حقيقيّة يا أمي إنها اللعبة التي اخترعتها.

فبهتت كأنّ على رأسها الطير كما يصفون، وقطبت حاجبيها:

- لعبتك؟

- نعم.

- معقول؟ دمية؟ لماذا إذن تخشى الحديث وتجعله سرّا بيننا؟

- الحقّ إنّي أحسست أنّها بدأت تعتمد على نفسها وتتصرف باستقلال في بعض الحالات ولو سمعتْ منّي عنها أو من أيّ شيء آخر أنّها دمية.. أظنّها تدمّر نفسها فأخفق في امتحاني.

عندئذ غابت أمّي في ضحكة عميقة:

- مجنون أم عاقل؟ من يصدق. لا تجنّني .

- أرجوك، الوضع ليس نكتة.

- أعدك! وسأخاطبها دائما بكلمة ابنتي.

- (نريمان) أيضا و(جالا) أيضا.

- لا تقلق، مع إنّي لحدّ الآن لا أصدّق ما تقول.

خرجت من عند أمّي إلى غرفتي، وجدت (أسيل) جالسة على حافة السرير. يدها تحت حنكها:

تفكّر

توغل في تأمّل ذي ملامح..

شاردة

مشتتة

هالة من الصمت

حزن شفّاف يرتسم على وجهها.

كانت تطوّق رأسها بيديها

- ما بكِ؟

- لا شيء

- أرجوك؟

- لِمَ لَمْ تقدّمني لأمّك ثمّ هل أنا غريبة لتخصّها وحدها بحديث خاص؟

قلتُ ضاحكا كما لو أنّي أُقنع شخصا حقيقيا:

- سأشرح لك كلّ شيء بعد قليل، يمكنك أن ترتاحي.. خذي بعض القيلولة.. واسمحي لي أن أفتح سحّاب فستانك.. ألا تغيّرين ثيابك لترتاحي؟

استدارت بغنج، فتسللت يدي إلى السّحّاب ثمّ انحرفت إلى حيث البطاريّة أسفل كتفها الأيسر، فضغطت على زرٍّ أسفل المربع، فأضحت جثّة هامدة حملتها بيديّ إلى السّرير.

3

وجاء اليوم الموعود

بعد ثلاثة أشهر سعيت بكلّ ثقة الى الامتحان...

لقد جعلتُ من (أسيل) تنام نوما طويلا منذ رفعت الشريحة عنها، في الوقت نفسه، اتفقت مع أمّي و(جالا) وأختي على أن أجعلها تفيق في اليوم المتفق عليه، فيبدين طبيعيّات معها، ووعدتُ (جالا) أن أصنع لها لعبة مثلها تقدر أن تخاطبها بكلّ يسر. وكنت أعمل على أن أوسّع من قدرتي عليها، بدلا من أن أكشف عن كتفها، أطوّر قليلا في الجهاز ليعتمد على (الريموت كونترول).

بدا النبض يسري فيها، فراحت تتململ وتمسح جبينها بيدها، حركتْ ساقيها ثمّ تمطّتْ، وقالت:

- الله ...يبدو أنّي نمت البارحة نوما عميقا.

- ما أجملك وأنت غاطه في سابع نومة.

- كم الساعة الآن؟

-  السابعة. لديّ موعد في الكليّة اليوم ستذهبين معي سأقدّمك للجميع هيا لا تكوني كسولة ارتدي ملابس الخروج!

 تركتها وخرجت إلى الصالة حيث كانت أميّ تعدّ مائدة الفطور.. قالت (جالا) بلهفة:

- متى تخرج (أسيل)؟

إخفضي صوتك وانسي أنّها دمية!

تناولتُ بعض الجبن والزيتون، ورشفت قدح الشاي وأنا واقف، قالت أمي:

- لماذا أنت على عجل إذا كان موعدك الساعة العاشرة؟

-  عليّ أن أقابل البروفيسور (إلياس) قبل الندوة أو المؤتمر الطلابي الذي آمل أن ينتهي إلى خير.

قالت أختي:

- إن شاء الله.. يا رب حتّى لا تتورّط مرّة أخرى في اختراع صعب غير مضمون!

ابتسمت أمّي مقاطعة:

- لا تظنّي أخاك يوقف اختراعاته (والتفتت إليّ) سأدعو لك وآمل ألّا تورّط نفسك في قضايا غير مضمونة تخصّ مستقبلك كما قالت أختك.

بهزّة من كتفي:

- لذة الاختراع في جدّته وطرافته وإلّا لِمَ سمّي اختراعا.

جالا تقول حيث التفتت إلى باب الغرفة:

- سأسلم على (أسيل).

وحالما أطلّت بملابسها الأنيقة وتسريحتها الرائعة نزلت (جالا) من كرسيها وهرعت إليها تصافحها:

- صباح الخير خالتي!

- صباح الخير حبيبتي (انحنت تقبلها) واعتدلت، فتساءلت أمّي:

- هل تفطرين معنا حبيبتي (أسيل)

-  أشكرك جدا خالتي ربما بعد ساعة فلا أشعر بالجوع الآن.

وخرجنا..

تفاءلت ببداية الصباح مع أمّي وأختي. وكانت (جالا) الصغيرة ممثلة رائعة، وقد دخلتُ الجامعة ومعي اختراعي الذي لم يلتفت إليه أحد من زملائي.

كلّ معه اختراع ما..

من صنع قلما إلكترونيا

أو جرس باب

ومن اخترع روبوتا ينظّف البيت.

وهناك من عمل فايروسا مفيدا يطيل عمر اللاب توب الافتراضي

أشياء طريفة..

جديدة لم أحسد أحداً عليها.

اليوم فقط كشف كلّ منهم عن اختراعه. وبقي اختراعي في عالم الخفاء. لم أُطْلِع عليه أحداً. أجبت جوابا دبلوماسيا. قلت إنّي سلمته إلى البروفيسور قبل يوم. والحقّ إنّي قطعت على الجميع فضولهم حين أعلنت للجميع أنّ الفضل في اختراعي الجديد يعود للدعم ا الهائل غير المحدود الذي قدّمته لي خطيبتي (أسيل)!، فأحاطتني صيحات الاستحسان والتبريكات ثمّ نادى الدكتور باسمي.

تركتها بين أصدقائي الطلبة والطالبات، وقابلت البروفيسور الذي بادرني:

- ماذا عن اختراعك؟

- سيدي هي مع زملائي في الخارج، كل جهدي سيدي أنّني وازنت بين شحنة العواطف والشحنة الإلكترونية هذا يعني أنّ للدمية إحساسا أو نوعا من الإحساس الآدمي فأرجوك أن تتفادى معها كلمة دمية، وأن يتعامل معها الميع بصفتها الآدميّة المكتسبة..

- جيد علينا ألا نشعرها بالإهانة، ومن الأفضل أن نعقد لها ندوة تتحدّث فيه معهم، سأطلب منها الدخول وسأخرج اشرح لزملائك الطلبة الحقيقة لكي لا يقع أي منهم في الخطأ.

خرج ودخلت بعد لحظات (أسيل) وهي في غاية السعادة.

- ماذا قال لك البروفيسور؟

- إنسان رائع ...سألني أيتها الجميلة أنت خطيبة تلميذي (رامز) تفضلي لمكتبي! رائع حقّا.

- تريدينني أن أغار؟

لقد اعتادت لجنة الجامعة العلميّة أن تعقد ندوة لأفضل اختراع، وكانت لعبتي الكبيرة، الآنسة الجميلة هي التي وقع عليها الاختيار، ورضخوا لشرطي فأعلموا زملائي التلاميذ أن يتحفّظوا خشية من استفزاز المشاعر الإنسانية وتغليبها بما يُسمَّ استفزازا وإهانة على التيار الإلكتروني الذي مازجها، جلسنا أنا و(أسيل) على المنصَّة بصفتي الطالب الأكثر نجاحا، وقدّمتها لهم بصفتها خطيبتي، فدعوتها إلى الجلوس معي.

فحطت بخفة ورشاقة إلى المنصة، وجلست جنبي.

هكذا بدأت الندوة، شكرت أستاذي البروفيسور، والجامعة ثُمَّ أذنت بالأسئلة.

وقف الطالب (نبيل) الذي اخترع جرس باب حسّاس:

- أيّ الفصول أحبّ إليك؟

- الشتاء.. أشعر أنّي لا أرغب في الصيف!

وتوجهت بالسؤال إليّ الطالبة (نجلاء بدر) التي اختصت باختراع فريد يقوم على تيار الكرتوني يسري في بدلة فيجعلها دافئة في الشتاء:

- هل علاقتك بخطيبتك جاءت عن حبّ؟

ارتبكتُ قليلا:

- إبساليها هي!

-  يكفي أنّي أحبّه الآن وفي المستقبل!

استبقت نجلاء الحضور بضحكة خفيفة، وسأل (ماجد غانم) وهو مهندس يكتب الشِّعر الحديث:

-  هل تكتبين الشّعر؟

- نعم

صعقت لجوابها وتوجّست بعض الشّر، لم أمارس كتابة الشعر أو يلفت نظري من قبل، تهامس الزملاء، وقال (ناصح غانم)صاحب اختراع المسدس الإلكتروني:

-  لو تقرئين بعضا من شعرك؟

تأملت قليلا ونظرت لحظة إلى الأعلى كأنّها تستوحي شيئا ما

-  حسنا.. كما تحبّون (راحت تقرؤ بصوت عذب ذي أنوثة صارخة):

عن حكاية الإنسان

حدثنا الحجر

قال لنا بصوته الرزين

في البدء كانت الأحزان والشجون

فأدركت بأنّها

من المحال تحيا وحدها تفترش البكاء والنحيب

فانفجرت ببعدها السحيق، انفجرت

من الحنين للخلود

وانتشر الفرح المنشود

صفّق الجميع، وابتسم البروفيسور، وقامت (سنيّة مضر)، وهي طالبة فضّلت أن تؤجّل سنة التخرّج إلى العام القادم:

- هل كتبت شعرا في خطيبك.؟

-  اسمعي صديقتي:

حينما تبتسم

أعرف مكانك وإن كنت تبعد عنّي مسافات طويلة

أمّا إذا حزنت أو عبست

فإنّي لا أعرف أين أكون

عندئذٍ سألتها الطالبة (إيمان صدقي):

- هل لك أن تحدِّثينا عن الماضي القريب أو البعيد كما تحبّين، كيف نشأت والتقيت بخطيبك، هل هو قريبك؟

ساورني القلق من جديد، ربّما هو سؤال استفزازي تفرغ فيه (آمال) بعض عقدها، طالبة مغرورة متكبّرة، من عائلة أرستقراطيّة.. تزوّجت من صاحب منصب وهي في المرحلة لثانوية وطُلّقت العام الماضي:

= الحقّ صديقتي أنا دائما أحبّ الحديث عن المستقبل. التفكير في الماضي يعيقنا عن تحقيق بعض مشاريعنا. الماضي انتهى والذي انتهى لا وجود له برأيي.

سألتني الطالبة (فرح راقي) وأظنّ أنّها قدّمت تصميما لروبوت ماكنة تنظيف:

- هل تفضّل أن تعيش مع أهلك بعد الزواج أم تستقلّ عنهم.

أجبتُ بضحكة:

- هذا السؤال يجب أن يوجّه إلى (أسيل)

فاندفعت بكلّ براءة:

-  أمّه سيدة عظيمة، وأنا مرتاحة لأخته وابنتها (جالا)!

وقام الطالب محمود نجم صاحب اختراع الحذاء الإلكتروني:

- آنسة (ما رأيك) بالكذب؟

كان السؤال مفاجئا وربما يوازي فكرة آمال، مع ذلك أجابت بهدوء:

-  أرى أنّ الكذب هو الحالة الوحيدة التي نجدها تمنحنا الحريّة أكثر من الحقائق الأخرى فهو يجعلنا نحلم ونحقّق ما نرغب فيه من دون رقيب ولا إكراه.

ساد صمت بعض لحظات، قطعته بصوتها الدافئ:

ربّما لأنني ضيفتكم لذلك وجّهتم أسئلتكم إليّ أشكركم فهذا يدلّ على أنّي كسبت أصدقاء جدد!

عندئذ انتبه البروفيسور (إلياس) إلى أنّ اللعبة (أسيل) ربّما تنتبه إلى شيء غير طبيعي حين تطول الندوة، ولعلّ أحدا يفاجئها دون أن يعلم بسؤال مثير يعيدها إلى عالم الإلكترونات البحت فأشار إليّ بيده، ونهض يثني على الآنسة خطيبتي ولطفها وعلى النّدوة التي كان بودهِ لو طالت لولا ازدحام برنامج التخرج، فانفض اللقاء المثير الذي أصبحت بعده معيدا في الجامعة.

***

القسم الثاني

مقابلتي مع الطبيب المختص (مجدي نعيم) أعادتني إلى زمن اللعبة من جديد...

بالحسابات التقليدية عقد كامل مرّ على انعقاد الندوة التي شغلت اهتمام الكثيرين من الباحثين، ووسائل الإعلام، وأثارت الفضول.

كنت قد أخفيت كلّ ما مرّ من سنوات عن (أسيل)!

حوادث جديدة انبثقت

اختراعات جديدة ظهرت

حروب

دول احتفت ونشأت دول جديدة

إنّه من السهل أن أوقف بالريموت كونترول الشحنة فأجعلها تنام إلى الأبد!

هل هناك من يسألني عن الضمير؟

بعض الأحيان أشعر بالأسف، والخيانة، أو يؤنبني ضميري بخاصة عندما أتذكّر جوابها عن الكذب. لا أخفي أنّي كذبت على الجانب الإلكتروني فيها. خلقت إنسانا عرف أمي وأختي وابنتها، عاش معهنّ، وتنفّس هواء البيت، إنسان مزدوج، مشاعر إنسانيّة، وشحنة إلكترونية تدور إلى ما لانهاية، لو قدرت لفصلت إنسانيته عن الإلكترون.

شخص مصطنع وبعض روح!

أمّا الآن فأنا بحاجة ماسّة إلى ذلك الإنسان من جديد!

مخلوق.. جعلته يدير شؤونه بنفسه، واضطررت لمصلحة في نفسي أن أكذب عليه. سألتني ونحن في الطريق إلى المنزل:

-  استفزّني سؤال الآنسة عن الماضي!

قاطعت:

- تقصدين (آمال)؟

- نعم سؤالها عن الزمن!

- أوّلا هي ليست آنسة. مطلّقة، ثانيا لم أفهم ما تقصدين بالاستفزاز!

- وجدت نفسي معك في هذه الدنيا، فجأة، هكذا... فجأة لا أعرف عن نفسي كيف وُلِدْتُ، وكيف قضيت طفولتي، كلّ ما أدركه أنّي خطيبتك وسعيدة معك!

تأكّدت من أَنّ قَلَقَا ًما يساورها شكّ، ورغبة في المعرفة، فشعرت ببعض السعادة وتأنيب الضمير، فلجأت إلى الكذب:

- هل تصدقينني إذا قلت لك إنّ أمّك قريبة لأمّي وأنّ بيتكم انهار بسبب زلزال، وعثر المنقذون عليك بين الأنقاض، ويبدو أنّك فقدت ذاكرتك التي تتعلّق بالماضي!

فشدّها ذهول ثقيل:

- الله.. فهمت الآن فهمت، وهل تحبّني حقّا؟

- لا تظنّي أنّها شفقة.

- ماذا تتوقّع هل تعود لي ذاكرتي من جديد؟

- ليس ببعيد!

وعندما وصلنا البيت ودخلنا غرفتي، رفعت وجهها نحوي، أغمضت عينيها، وهمست:

- ما دمت تحبني على الرغم من عوقي، قبلني ضمّني، اجعلني أحسّ بأنوثتي.

لففتها بين ذراعي ورغبة تدفعني لأن اكتشف مدى الإحساس الذي راودها كونها امرأة ناضجة، فوضعت فمي على فمها، كانت هناك حرارة تسري في شفتيها، حرارة ناعمة لكنّي كنت أقبّل قطعة دافئة من البلاستك الشبيه تماما بالجلد، مادة فيها حرارة تسري، فتسللت يدي إلى ظهرها وضغطت على الزرّ لتعود جثة هامدة من جديد.

فكرة لا أحتاجها عبرت بها الامتحان بدرجة امتياز...

هكذا اختصرت تجربتي الطريق ...

وخلال العقد الذي أعقب التجربة الرّاقية، تغيّر الوضع في بيتنا، جاء زوج أختي من الخارج، وبنى بيتا قريبا من بيتنا، تزوّجتُ بعد سنتين من تخرّجي... زوجتي (أورفي) مدرسة في المعهد الصحّي عاشت في وئام مع أمّي..

في السنة الخامسة توفيت والدتي...أمّا أبي فقد تلاشى من ذهني تماما. يقال: إنّ زوجته هجرته فبقي يلفّ الشوارع مثل شحاذ، ولو جاء إلى بيتنا لقبلته على مضض، وأظنّه يعرف موقفي منه، فلم يجرؤ على المجيء إليّ.

الحدث الوحيد الذي يقلقني هو زوجتي!

تزوّجتها عن حبّ، كانت تحمل الماجستير في علم البايولوجي، ولديها مختبر خاص تمارس فيه عملها الحرّ بعد الدوام، لا أنكر أن القدر نفسه يتدخّل بقوّة ليحدد علاقتنا بالآخرين، وبأقرب الناس إلينا. لا أنكر أنّي كذبت على خطيبتي (أسيل) أمّا هذه المرّة فكلّ شيء بات مبنيّا على الصراحة.

لم أخطط للزواج قط.

وتركت الأمر للمصادفة..

ففي كثير من الأحيان تحلّ المصادفة وحدها أصعب العقد.

وقد

تجلّتْ بشكلٍ جليٍّ يوم طلبني المعهد الصحّي في أن أرتب لهم البرامج، والكومبيوترات، استعانوا بالكليّة، فرشحتني يوم كنت معيدا، فذهبت إلى هناك ...

في المعهد قابلتها..

لا أؤمن بلفحة الحبّ الأولى، وأتذكّر خطيبتي (أسيل) التي تنام الآن بهدوء نومتها الأبدية وتجهل ما يحدث في العالم وفي بيتنا حيث وُلِدَتْ. التقت عيوننا، ابتسمت لي المدرسات والطالبات هناك. ابتسمت لي المديرة العجوز، أمّا ابتسامة (أورفي) فكانت مميّزة.

طعم خاص

رونق جديد.

حياة جديدة

وازداد ت ثقتي بالقدر ثانية ساعة سألتني أمام المديرة إن كنت أرضى أن أمرّ على مختبرها في مركز المدينة لأنظّم لها البرامج الإلكترونية، مقابل أيّ مبلغ، فاعتذرت عن الزيارة إن كان هناك أجر.

دفعتني اللهفة، وأحلام شفافة للذهاب، الوقت التاسعة مساء إذ لا يراجعها أحد من المرضى، استقبلتني بحرارة، وصرفت السكرتيرة، راودني إحساس أنّ نغمتها في هذه اللحظة، لحظة وجودنا معا، تصبح أكثر رقّة منها حينما تحدّثت معي أمام المديرة والأخريات.

تكررت الزيارة، وأخرى وثالثة.

كان يمكن أن أنهي العمل دفعة واحدة سوى أنّ هناك دافعا جعلني أتحايل.

في الليلة الثالثة الأخيرة، بدأت الكلام.

تجرّأت:

- أنا آسف، انتهى العمل، ولن أراك مرّة أخرى.

نظرت إليّ نظرة ذات دلالة:

-  تقدر أن تأتي متى تشاء.

مرّ يوم على زيارتي الأخيرة للمختبر، الحقّ شعرت بفراغ هائل، هو أكثر من الفراغ الذي شعرت ساعة جعلت اللعبة (أسيل) تدخل في سباتٍ تامٍّ يمتد إلى مالانهاية لتبقى في قبو البيت علامة من علامات ناجحة كثيرة عملتها في حياتي.

يوم

يومان ثلاثة

نسيت الدمية، سخرت من نفسي، من عواطفي حين تتعلق بلُعْبَةٍ صنعتها بيديّ، هل أكون عبدا أو عاشقا لشيء ما، مهما كان، هو في الأساس لتسري فيه الحياة بطريقة مصطنعة:

بها خدعت الآخرين فظنّوها حيّة

وكذبت عليها

بمرور أسبوع نسيت الدمية

الآن الوضع يختلف

أشعر بشيء ما ينقصني

طوال الخمس سنوات في الجامعة كانت مشاعري هادئة،

لا رغبة في الحب

شعور بالراحة

لأفكّر باختراعات طريفة أخرى

معنا في كليّة الهندسة فتيات بعضهن غير جميلات وأغلبهن في منتهى الأناقة، هناك من زملائي من أحبّ واختار زميلة، وقد يكون القدر أخّرني، مع أنّي أعدّ تجربتي السابقة.. تجربة الخطوبة، حبّا من طرف واحد.. من طرف (أسيل) التي ذقت معها أوّل قبلة في حياتي.

الآن الوضع اختلف تماما

لم أخطّط لحب اندفعت إليه بإرادتي على وفق خطوات غير مفتعلة!

رفعت سمّاعة الهاتف، فجاء صوتها الرقيق:

- ألو؟!

- ألو آنسة (أورفي)، كيف حالك؟

- بخير وأنت؟

- بخير (من دون مقدمات) هل تقبلين دعوتي للعشاء الليلة!

سمعت ضحكتها الخفيفة الرقيقة:

-  المفروض أن أتعشى مع أمّي وأخي، لكن إذا كنت مصرّا سأتصل بهم هاتفيا!

-  مصرّ لأنّي على ما يبدو أشتقت إليك!

قلتها بجرأة غير معهودة إذ ظننت التردد نفسه سيغلبني كما فعلت مع (أسيل)

-  لحظة..

غابت دقيقة، فخلتها انزعجت من صراحتي، وعادت ثانية إلى الخطّ:

- أشكرك جّدا أين ترغب أن أنتظرك؟

- سأمرّ بعد دقائق عليك لنذهب إلى مطعم السّفينة!

2

هناك على الماء التقينا

الفتاة الأولى الحيّة التي اندفعت للخروج معي

اللقاء الأوّل..

لقاء بعيد عن التكلّف غيّر حيّاتي بشكل آخر

كان الشط وأضواء السّفينة يتراقصان أمامنا ولا يحول بيننا وبين نفثات الماء إلّا زجاج النافذة. قالت:

- لا تؤاخذني هذه المرّة الأولى التي أخرج فيها مع رجل غريب، أنا أستاذه وصاحبة مختبر للتحاليل لكن لا أعرف.. هناك دافع جعلني أقبل دعوتك!

-  لن أسئ الظنّ بك قطّ.

- أنا أيضا.

قلت بهزة من رأسي..

- هل تحدّثينني عن نفسك؟!

عقبت بنظرة ذات دلالة:

- باختصار

- أكيد وإلّا لن نجد شيئا نقوله في اللقاءات القادمة.

بضحكة بريئة:

- هل هناك لقاءات قادمة؟ أنت واثق من نفسك.

- مثلما أنت واثقة من نفسك، إنّي في لهفة لسماع أي شيء.

- أكاد أعيش في سعادة تامة فليست هناك من منغصات سوى غياب أخي الذي هاجر إلى إسبانيا وانقطعت أخباره عنا. لا ندري هل هو حيّ أم ميت وما يزيدنا هَمّاَ ًمعاناة أمّي من غيابه!

مجاملا بأسف واضح:

-  إن شاء الله يعود!

- أنا أرثي لأمّي فكم تودّ لو تعرف أنّه حي لترتاح..

فتفاديت الموضوع:

-  إن شاء الله يعود (وغيّرت الموضوع) يمكن أن أسأل سؤالا جريئا، هل تنزعجين؟

- أبدا.

تردّدت قليلا:

- هل فكرت وأنت في الجامعة أن ترتبطي أو تُعجبي بزميل ما أو أيّا كان.

رفعت رأسها إليّ، وتابعت بنظرة ذات كبرياء:

-  أنا واثقة من نفسي. كان هدفي الوحيد الدراسة والماجستير، ربّما تجاهلت مشاعري، ثمّ لا تنس الحبّ والإعجاب يأتيان بغير علم وإنذار سابق.

ضحكت، ولو لم يكن في السفينة زبائن، لقهقهت:

-  مثل الحالة التي نحن عليها الآن؟

فأشاحت بوجهها خجلا:

- ألم أقل إنّك متفائل.

مع ذلك فقد كذبت عليك كذبة بيضاء.

كانت تخفض صوتها عندما وصل النادل يحمل بقية الطعام:

- كذبة واحدة فقط لا أكثر.. وإلا سأقول عنك كذّاب.

لا أريد أن أمرر عليها أمورا مثلما فعلتُهُ من أكاذيب مع خطيبتي، أريد أن أبدأ خطوتي معها بكلّ وضوح:

- الحق برمجة الكومبيوتر لن تأخذ منّي أكثر من ساعتين أو ثلاث غير أنّ هناك دافعا قويّا ألحّ عليّ أن أتلاعب بالزمن فأجعله مثل خيط المطاط يطول ويطول إلى يومين. رغبة في أن أراك!

-  ألم تخش أن يقطع؟

- هذا لو جعلته أطول. (التفتت إلى حبّة زيتون التقطتها بالشّوكة، وقالت، وهالة من السّرور تشعّ من وجهها):

-  حسنا حدّثني عن نفسك!

- مادام الأمر يهمّك يا عزيزتي، أنا أعيش مع أمّي المعلمة المتقاعدة في بيتنا الواسع، أبي طلّق أمّي وعمري 4 سنوات لذلك لا أحبّ أن أسمع سيرته. لا أكرهه، مع ذلك لا أحبّه.

أعارتني انتباها استثنائيّا:

- هل لي أن أعرف سبب الطلاق؟

- خيانة. امرأة أخرى، يبدو كان يشعر ببعض النقص لأنّ أمّي أغنى منه، أنا الآن مرتاح معها ومع وأختي وابنتها وسوف تغادرنا لتعيش في بيت قريب منّا مع زوجها الذي رآى أن يصفّي أعماله في الخارج ويؤسس مشروعا هنا.

وسكتُّ...

 لحظة صمت مرّت، فالتقطت قطعة لحم ورفعتها في الهواء أمام فمها، فنكست رأسها خجلا:

-  أرجوك نحن في مكان عام وهذا أوّل لقاء!

قلت ضاحكا:

- تعنين هناك لقاء آخر.. الآن ازددت ثقة واطمئنانا.

وصمتتْ، وصمتُّ، كانت عيناي وعيناها تلتقيان وتسرحان بعوالم شتى متراقصة الألوان كما هو الضوء الهابط على الشطّ الذي لا تفصلنا عنه سوى نافذة السّفينة!

3

ثمَّ

كان هناك أكثر من لقاء..

دائما أمرّ عليها بعد المغرب فنمشي على الكورنيش

نجلس في الحدائق

نثرثر

نتحدّث عن المستقبل

لا أخفي أنّي تعلّقت بها

تيقّنت تماما من شعورها

حتّى وجدنا أنّ لقاءاتنا لا بدّ أن تنتهي فطلبت من أختي مكالمتها ودعوتها للبيت، والحقّ أنّ أمّي ارتاحت لها، ووجدت أن (أورفي) سدّت الفراغ الذي تركته أختي بعد أن غادرت البيت لتعيش مع زوجها في بيتهما..

كانتا في منتهى الانسجام

وكنت في غاية النشوة

امرأة تحقّقت فيها جميع مواصفات الدمية (أسيل)

أو

كأنّها هي

أمّا الأمر الذي نغّص عليّ حياتي فقد تجلّى في عجز (أورفي) عن الإنجاب.

أمي ماتت ولم تحقق حلمها

ظلّت تحلم أن يكون لها حفيد جميل أو حفيدة مثل (جالا)

حتّى

اكتشفنا السبب عند زيارتنا لطبيب العائلة الدكتور (مجدي) الذي أكّد أن حالتي طبيعيّة وأنّ بويضات زوجتي سليمة غير أنّها تعاني من تشوّه في الرحم.

أعرف أنّ (أورفي) تنازلت كثيرا، عرضت عليّ فكرة الزواج خلال حياة والدتي، فأعرضت عن ذلك. أدرك أنّها تحبني بشكل مفرط، أمّا أنا فلا أرغب قطّ في أن اسبب لها أيّ الم.

حزن.

معاناة

مهما يكن، أراها تقول نعم، وأعماقها تغلي، أنا على يقين من ذلك. هناك في عيادة صديقي الدكتور (مجدي)خرجت بنتيجة قديمة جديدة. قال لي كأنّه يذكّرني باختراعي القديم:

- ما رأيك بطفل الأنابيب أو أن تؤجّر رحما؟

صمتت فترة، فقطع عليّ صمتا:

- هل اقتنعت أم تفكّر.

- تأجير رحم يعني أن تزرع حيامني وبويضة زوجتي في رحم امرأة أخرى؟

- بالضبط، والنتيجة مضمونة نقدر أن نختار حيامنا من حيامنك فنجعله خاليا من الأمراض وبعض الموروثات الجينيّة السلبيّة، ويمكنك أن تتفق مع سيدة وإن كانت عجوزا لئلا تثير غيرة زوجتك، هناك نساء يفعلن ذلك لوجه الله يحببن أن يرين السعادة على وجوه الآخرين وأخريات بحاجة للمال.

كدت أقفز من على الكرسيّ

كيف تجاهلت الدمية عقدا كاملا؟

تجاهلتها والعالم يغلي

أحداث عالمية

حوادث

أفراح

اغتيالات

ولادات

- لا هذا ولا ذاك البديل موجود هي مشروع تخرجي. الدمية الأنسان وهي الآن نائمة في القبو ما رأيك؟

استلهم الفكرة فاغرا فمه من الدهشة:

- ما دمتُ طبيبا يؤمن بالعلم أقول لا مانع!

- سآتيك بعد أن أبعث الدمية للحياة لتستوعب بويضة زوجتي وأرجوك ألا تذكر أمامها أنها دمية!

- لك ما تشاء.

4

كانت أمامي فرصة جديدة

عالم الإلكترونيات والتجميل تطوّر عما كان عليه قبل عشر سنوات، وعلاقة جامعتنا بالجامعات الصينية تطوّرت كثيرا، صرنا نقدر على خلق تفاصيل الجسم البشري من جديد، ونعيد صياغة الجلد واللحم بشكل أقرب ما يكون من الحقيقة، أقدر أيضا أن أمحو ما أشاء من الشريحة القديمة، وأضيف معلومات جديدة. البطاريّة نفسها على وفق المجهود العلمي الجديد يمكن أن تبقى نشطة لاثني عشر شهرا.

رحت أعمل في تحسين الجسد

وأشحن الشريحة بما أرغب

معلومات جديدة

إضافات، وحذف

أحاسيس

دنيا جديدة أماني

لم أخبر زوجتي بعد بل حدّثها الطبيب عن طفل الأنابيب واستئجار الرحم، كانت زوجتي في المختبر حين استفاقت الدمية، هذه المرة جعلتها خادمة في البيت، خلقت لها أما ولدتها في بيتنا. كانت حاملا بها من أب توفي قبل أن تولد. طبعت صورا للأب والأمّ المزعومين.. ولم أغفل عن اختلاق هويّة مصطنعة لا أحد يقدر على التفريق بينها وبطاقة التعريف لحقيقية.

ذكريات جميلة في البيت.

الأم والبنت عاشتا معنا

تبنيناها بعد وفاة والدتها..

وجعلتها تتعرّض لحادث سير أفقدها ذاكرتها التي عادت إليها بالتدريج، قلت لها نحن أنا وزوجتي لن نتركك، ستنالين أجرا مضاعفا منّا، ولك أجر في السماء جراء عملك الإنساني، زوجتي لا تقدر على الحمل.. تشوهات في الرّحم.. نستطيع أن نزرع الحيمن والبويضة فيك، هل تقبلين؟

تساءلت وهي ترمش ثمّ تتأمّل دون أن تحرّك جفنيها:

-  ألا تظنّ هذا حراما.

- أبدا ستصبحين زوجتي الثانية لكن أرجوك لا تذكري ذلك أمام (أورفي).

- لن أكون أقلّ كرما منك فأنت رعيتني طوال فترة غيبوبتي، ولم تتخلّ عنّي

ولكي أبعث فيها إحساسا أكثر بالأنوثة، بدأت أغازلها. قلت لها كم أنت جميلة، أنا معجب بك كثيرا، فنكست عينيها إلى الأرض، ولزمت الصمت، تضرّج وجهها بلون أشبه ما يكون بحمرة الخجل، وفي هذه الأثناء، سمعت مفتاح الباب الرئيسي يلف، فدخلت علينا (أورفي):

وقفت في الممر مستغربة لحظات وقالت وهي تخلع حذاءها:

- عندنا سيدة في البيت.؟

لا أخفي أني لم أخبرها.. أحببت أن أفاجأها، فقلت في غاية الانشراح:

- أقدّم لك أسيل ابنة المرحومة ( ) التي كانت عندنا في البيت؟

غمزت بعيني غمزة ذات دلالة، وتوجهت إلى الخادمة:

-  لو سمحت أسيل دقائق لأعود إليك.

فالتفتت إلى سيدة البيت:

- هل أعمل لك العشاء سيدتي؟

توارينا عنها في الغرفة، أغلقنا حلفنا الباب، بدت (أورفي) مستاءة جدا، فرمت حقيبتها على حافة الفراش، وقالت بعصبيّ’ ظاهرة:

- كيف لم تخبرني عمّا تخطّط له من قبل؟

-  يتيمة مسكينة لا أحد عندها غيري.

- ولو.. كان يجب أن أعرف.

- جميلة؟

ردّت بكبرياء:

- لا يهمني لا تكن سخيفا.

داعبت حنكها بسبّابتي والإبهام، وقرصت بخفة خدّها:

- هل تذكرين يوم حدثتك عن تخرّجي، والجامعة، والدمية.

هزت رأسها، ومازال بعض العبوس مرتسما على قسماتها:

- مالك تتكلّم بصوت خافت كأنّك خائف منها؟

- لأنّي لا أريد أن تعرف أنّها دميّة!

لحظة المفاجأة صدمت الطبيب نفسه، في بادئ الأمر شكّ، واستوعب الحالة بصورة سريعة.. من يصدّق أنّ نسيجا شبيها بلحم البشر يمشي في الشارع، ويدخل عيادة الطبيب، في غرفة خاصة مارسنا الحب، واستعان صديقي الدكتور بممرضة ثمّ انتقل إلى الدمية التي ظنّها بشرا. كانت تحمل كلّ مواصفات البشر، أفضل بدرجة بعيدة من الدمية الأولى خطيبتي (أسيل).

شيء واحد فقط بقي من سلفتها الأولى

الاسم وحده

هناك عشر سنوات تغيّر فيها كلّ شيء، كنت معيدا فأصبحت طبيبا، ودّعت حالة العزوبية، العالم كلّه تغيّر.. لست حالة شاذّة وحدي...

انتظرت زوجتي بفارغ الصبر

كنت أراقبها

أطلّ بعينيها...

وحالما خرج الطبيب من المختبر، ومعه|(أسيل)جرت إليها (أورفي) وقالت وهي تحتضنها وتقبلها كما لو كانت تعي أنّها ليست لعبة...

- وديعتي عندك.

صاح الطبيب مبارك لكم الحمل

وردت (أسيل) بابتسامة واسعة!

- سيدتي خادمتك.

- بل أختي

وخرجنا ثلاثتنا ونحن نحلم بالمولود الجديد.

7

فضلت (أورفي) أن يكون المولود البكر أنثى....

وعمل الطبيب جهده في أن يشطب من الحيمن والبويضة كلّ سلبيات الوراثة، وأمراض ترافق الجنين، وكنا متفقين على أن يكون المولود الثاني ذكرا...رحنا نتابع الأيام بلهفة وشوق حتّى تمنيت لو قدرت على أن أشق بطن (أسيل) فأرى شكل الطفلة التي انتظرتها طويلا....

وقد اندفعت معها بشكل جنوني ربما بعث الألم في نفس زوجتي...

عاملتها بصفتها أنثى حقيقية

لعلني أزعجها فيتأثر الجنين

أذهب إلى الغرفة أجلس معها ساعة قبل النوم، أو أدعوها للجلوس معنا في الصالة لنتابع التلفاز.. بعض الأحيان تأتي (أورفي) من المختبر مبكرة فنلف بالسيارة على المدينة ونتنزه على طول الكورنيش، ولم نخف. كنا نخرج للعمل، ونتركها وحدها (أورفي) تدرّس في المعهد بضع ساعات في الصباح ثمّ تعود إلى البيت، تعمل الطعام، وفي بعض الحالات تجد أورفي تعمله، كلما وجدت فرصة اتصلت بالبيت لأطمئن، تقول عبر الهاتف أنهما منسجمتان، تتحدثان في شؤون كثيرة، عن الرياضة والسياسة والزواج.

لا تأمرها

وتتناسى أن ضرّتها دمية.

أحيانا تترك (أسيل) تحدّثني قبل أن تغلق الهاتف.

وحين تكون (أورفي) على وشك المغادرة إلى مخترها. لا أحد يصدّق أنّي أفرح كثيرا إذ أعرف أنّ دخلها ذلك اليوم كان قليلا، تفرح أيضا، تقول لي بكلّ طيبة، إنّ الدخل الأقل يعني مرضى أقل، راتبنا نحن الإثنين يكفينا، ويزيد، فلم أفرح بنقود تأتيني من تعاملي مع الدم وأشياء قذرة أخرى. لا أدفعها للحديث عن خصوصيّة العمل وأسراره غير أنّها تخبرني عن وقائع بدافع الرغبة في الكلام أو مجرّد الإعلان عن آلة غريبة تثير الدهشة.

حدثتني عن سيدة متزوّجه اكتشفت أنّها تعاني من مرض السيلان...

لم تعد المريضة، ولا تدري (أورفي) كيف عالجت المريضة مشكلتها.

أنا نفسي وقعت في الخطيئة.

مجبرا كنت.

أقسم أنّي فعلت الخطيئة بدافع الحرص.

لو كنت خائنا لمارست الخيانة مع طالبة من طالباتي أو أيّة امرأة...

أمّا مع (أسيل) فالوضع مختلف تماما...

تحققت شكوكي في نفسي، ونقطة ضعفي ساعة غادرتنا (أورفي)، كانت (أسيل) قد تركت الصالة إلى غرفتها، بقيت في الصالة لحظات أتابع التلفاز...

وقتها

شعرت كأنّ شيئا ما ينقصني..

ابتسمت وأنا أستعيد كلمة (أورفي) أحبّك، ولن أحرمك من أن يصبح لك طفل.. تقدر أن تتزوّج...

أظنّها تظهر ما ليس في قلبها..

مسحت على شعرها، ونهضت إلى غرفة (أسيل)، طرقت الباب، فسمعت صوتها: أدخل...

وأردفت مباشرة:

- علام تطرق الباب؟ لم تضع بيننا حواجز؟

- هل أنت بحاجة إلى شيء ما؟

 نهضت من على السرير، ووقفت قبالتي:

- لقد خرجت!! هل تجلس معي؟

قرأت سحنة حزن.. أو دلال بعينيها...

مثلما هو قلق قرأته على وجه خطيبتي الأولى

أو

على (أسيل) التي أجريت عليها بعد عشر سنوات عمليّات تجميل

تشبهُ

إلى حدٍّ ما شدّ الوجه ونفخ الشّفاه....

بدهشة أقول:

- ما بك؟ من أجل الجنين وصحتك أرجوك.

بحسرة طويلة:

- من حقّي عليك ألّا تهملني!

- تعرفين أنّي مشغول جدّا!

باعتراض وهزّة رأس:

-  لكنك تقضي معها وقتا أطول (وأردفت)محتدّة تنام هناك تسهران. أمّا أنا...

ببعض الحدّة:

-  أوّلا هذه طبيعة حياتي، ثانيا يجب عليك أن تذكري اسمها (أورفي) (ذكرت الجنين المزروع فيها، وخشيت من أن تنتقل حدّة انفعالها إلى التأثير سلبا فيه) يا عزيزتي لا تهوّلي الأمر أعدك...

مقاطعة بدلال:

- يعني تحبّني؟ تحبّ أمّ بنتك؟

- طبعا هل تشكين؟

اقتربت منّي تطوِّق عنقي بيديها:

قبلني.. خذ شفتيّ

لا أخفي

كانت هناك رغبة جامحة تدفعني لأن أكرر التجربة ثانية..

لا أتصوّرها خيانة.

لا أحبّ أن أجد أسبابا ومسوِّغات.

بعض الرغبة تدفعني أن أعدّها إنسانا ذات أحاسيس.

مهما يكن فهي أمّ ابنتي..

هويت بشفتيّ على شفتيها...فأحسست بحرارة البلاستك اللين الممتزج بخلايا وأنسجة تكاد تشبه جلد الإنسان.

أو

أظنها بشرا تاما مادامت تحمل جنينا منّي

في المرّة الأولى رفعت شفتي خطيبتي بعد لحظت.. لقد تركت في هذه اللحظة القبلة تستمرّ

وتستمر

وعندما رفعت شفتي وجدت جسها يرتجف...بدت مأخوذة بنشوة غامرة، فدفعتها برفق إلى الفراش...

استلقت على ظهرها. وأغمضت عينيها..

فمددت يدي إلى جيبي، وضغطت على زر الريموت كونترول....

8

لا أبالغ

المولودة رائعة جدا...

في صورة ملاك

في بياض أمي، وجهها مدوّر مثل وجه (أورفي)، في الأشهر الأولى فضّلت أن تتمتع زوجتي بإجازة من عملها في المعهد الصحيّ، فتبقى فترة الصباح مع طفلتنا (نور) سميتها نور على اسم أمي ثمّ بعد أن أصل إلى البيت بعد الظهر تغادر إلى مختبرها.

كانت في غاية السّعادة، تراقب (أسيل) مراقبة حذرة، ولعلّها رأت بعض التأفف، قلت لها إنّ الدمية ترى نفسها الآن أمّا، أشبه بالزوجة الثانية. رحت أضحك حين كررت العبارة.. هل تغارين إذا قبلتها؟ الحديث جرى همسا في غرفة النوم، خشية من أن تسمع، فيراودها-  حسب هواجسي-  إحباط ما. والحقّ لم يكن هناك ما أخشاه على الطفلة يوم كانت بداخلها لكنْ صعب عليّ أن لأجرح مشاعرها ولو كانت من مادة بلاستيكيّة وأنسجة تشبه الآدميّ. لأنني نفسي غذيّتها بمشاعر آدميّة هي أحاسيس، هي من عينات لتساء مختلفات.

كنت أعدها بشرا

بشرا صنعته بيديّ

أمّ ابتتي.

إبداعي

حين تغادر أورفي، ونصبح وحدنا، أشعر أنّ هناك جانبا من شخصيّتي يتجسدّ في (أسيل)

روحي

بعض أخلاقي...

وأراها في الوقت نفسه، تؤدّي دورها مثل أمّ حقيقيّة وأفضل!

تبدل حفّاظة (نور)

تشطفها

تضع الحليب في الرّضّاعة.

تخضّها

ثمّ تدسها في فمها

وحالما تنهي الصغيرة وجبتها، تنحني عليها فتضمّها إلى صدرها تجعل رأسها على كتفها حتّى تتجشّأَ، فتطبطب على ظهرها وتغنّي بنغم عذب:

أرقدي بسلام صغيري

تحفظك الملائكة الجميلة

وعندما تستيقظين سأقدّم لك لعبة جميلة

أعجبتني الأغنيّة، وقد نسيت نفسي، فقلت وعقلي في تلك اللحظة مشتت بين أغنية (أسيل) وأغنية غنتها لي أمّي:

-  ماما ستأتي ما

بعد قليل تأتي ما

معها لعبة جميلة!

فنظرت إليّ بشزرٍ أو نظرة عتاب قاسية:

- أنا ما كيف تأتي ماما ألست معها؟

- أنا آسف يا عزيزتي هي مجرّد أغنية سمعتها من أمّي!

فوضعت (نور) التي غطّت في النوم بعد أن تجشأت وجست جنبي:

- ما بك هل زعلت؟

- لا لا تفكّري بذلك!

- هل تحبني؟

- بلا شكّ أنت أمّ ابتني!

- لكنك منذ مدّة لم تقترب منّي.. لم تلمسني أو تقبلني؟

- لك الحقّ أعدك!

ووجهت لي نظرة حزينة:

- هل تتخلّى عنّي؟

في هذه اللحظة راحت تلعب في ذهني خاطرة قديمة جديدة سوف أعيدها إلى السبات الأبدي، فأمسح من ذاكرتها ما أشاء، وأثبت ما أشاء، ونجعلها أمّا بعد سنتين أو سنتين، لطفل جميل نسمّيه (وجدان) باسم أخ زوجتي المفقود في إسبانيا. وعندما، جاءت (أورفي) من المختبر اخبرتها أنّ الدمية طلبت منّي أن أقبّلها كتمت ضحكة عميقة، وهزّت كتفيها وعي تقول:

- تظنّ نفسها حقّا زوجة ثانية.

كنت عادة أضغط على زر الريموت فأجعلها ترقد فترة الليل، وحين نسمع صوت الصغيرة تنهض (أورفي) فتغيّر الحفّاظة أو ترضعها،، وعندما يأتي فجرا آخر، نبدأ حياة جديدة وكأنّ شيئا لم يكن.

لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

تلك الليلة رقدت ولم أنتبه إلى أني لم أضغط على زر الروموت، رافقت (أسيل) إلى الفراش، ويبدو أنّي نسيت أن ألمس الزر بما يكفي، أو لعلني بالخطأ ضغطت مرّة أخرى...

رقدت

أو

دخلت في سبات بانتظار الفجر

ولم يكن هو كذلك

بل

تظاهرت بالنوم، ولو رآها أي مخلوق لظنها راقدة بهدوء لا فرق بينها وبين الآدميّ النائم سوى الأنفاس!

لم أدر أنّها ممثلة عظيمة

وأنّ هناك جانبا من الشرّ عجزت عن أن أمنعه عنها..

في الصباح حين استيقظت (أورفي) لتطمئن على (نور) ...سمعت صرختها من الغرفة المجاورة، فهرعت. لم أكن أصدق

كأنني في خواء

أمام كارثة

أورفي محمرة العينين، تضرب بيديها على خدها وتلطم وجها وهي تصرخ.. نور ..أسيل

كانت الغرفة خالية من الإثنين

فتّشنا في كلّ مكان

في البيت

الحمام

الحديقة

وتيقنت أن الدمية خطفت ابنتنا

كانت البطارية التي تحركها وتغذيها من الصناعة الحديثة التي تدوم مدّة سنة، ولم أجرؤ على أن أضغط على الزر لئلا تكون في مكان قريب منا فتتوقف فجأة وتسقط نور من بين يديها!

وفي لحظة الفزع

والقلق

والخوف

دفعنا أمل ما

أمل ضئيل إلى أن نحرج من البيت نصيح في الشوارع: أسيل نور أين أنتما...نور...

***

د. قصي الشيخ عسكر - روائي

 

في نصوص اليوم