نصوص أدبية
أمينة شرادي: حديث رجلين
كانت عيادة الطبيب غاصة بالمرضى. كل ينتظر دوره. كانت هناك حالة من الصمت التي خيمت على المكان. لا تسمع سوى صوت التلفاز المعلق أعلى الحائط كأنه رقيب على حركة كل واحد منهم. في الجانب الأيسر من قاعة الانتظار، كان رجلان، منسجمين في حديث طويل. لا يعيران أي اهتمام لأي حركة داخل القاعة. كانا ينتظران أيضا دورهما.
كانا يلبسان لباسا تقليديا. يبتسمان تارة وتارة يصمتان. أحيانا ترى أيديهما في صراع مع الكلمات كأنهما في مرافعة وكان كل واحد منهما يريد أن ينتصر.
قال الأول صاحب الجلباب الطويل وداكن اللون ورفيع الجسد وحاد النظرات:
-لقد أصبحت المعيشة لا تطاق. لا يستحمل ما نعيشه اليوم.
ابتسم الثاني، قصير القامة، بجلبابه الفضفاض وطيب الملامح:
-صحيح، في السابق، كنت أستطيع أن أشتري الخضر واللحم بمائة درهم.
أجابه الرجل الأول وهو يضرب كفا بكف:
- تقاعدي لم يعد يكفيني حتى لمسائلي الشخصية. حتى تكلفة زيارة هذا الطبيب لم أستطع دفعها. لولا مساعدة ابني المسكين الذي يشتغل في احدى المصانع.
ابتسم الرجل الثاني وقال له:
- ولدك طيب معك. الله يخليه لك.
استوطن الصمت المكان. نظرات غامضة وغير راضية لا على الانتظار الذي طال ولا على وضعيتهما.
ثم أردف الرجل الثاني وقال له:
- أتدري كم وجدت ثمن زيت الزيتون اليوم؟ لا تصدق.
- - كم؟
- مائة وعشرون درهما. انه الجنون. يظلون يغنون في الإذاعة والتلفاز بأهمية الزيت البلدي وضرورة استهلاكه. كيف يمكن ذلك اليوم؟
وتجهم وجهه بعدما كان شعلة من الفرح والرضا. ونظر الى الأرض كأنه يبحث عن شيء فقده.
سأل الرجل الأول السيدة التي في الاستقبال عن دوره. أجابته بانه سينتظر قليلا.
فرك يديه ومسح وجهه ولحيته واستغفر الله. ثم قال للرجل الثاني:
- لم أعد أستطيع شراء زيت الزيتون. انه غالي جدا والمسكين في هاذ البلاد يضيع.
- إذا رغبت نشترك في لتر واحد ونتقاسمه بيننا حتى لا نحرم منه.
ضحك الرجل الأول واقترب منه كأنه سيفشي سرا:
- الحصول على نصف لتر كأنك لم تحصل على شيء. خليها على الله.
وأضاف:
- حتى ثمن اللحم في ارتفاع. هل نقتسم اللحم أيضا؟
- ستفرج من عنده. همس اليه الرجل الثاني وصمتا في انتظار عودة الفرج.
التفت اليه وسأله بصوت غير مسموع:
- أخذنا الحديث ولم أسألك عن سبب مجيئك عند الطبيب؟
ابتسم وعادت علامات الرضى وقال له:
- آلام في المفاصل عند كل حركة. أصبحت شبه عاجز.
ضحك الرجل الأول وقال له:
- السن يا أخي لا يرحم. يجب فقط أن نهتم جيدا بصحتنا.
وسأله الرجل الثاني نفس السؤال:
- وأنت؟ ما سبب زيارتك للطبيب؟
- آلام في ظهري.
وعلا صوتهما وأطلقا العنان لضحكات مجلجلة، وابتسم كل الحاضرين بالقاعة.
دخلت سيدة تدفع رجلا على كرسي متحرك. واقتربت من السيدة المسئولة عن الاستقبال وقالت لها:
- هل حان وقت دخوله عند الطبيب؟
- انتظري قليلا، سيدخل الآن.
لم يفهما الرجلين ما يحدث.. كيف يدخل هذا الرجل حين وصوله دون أن ينتظر دوره.
استفسر الرجل الأول عن الأمر، شرحت له أن الطبيب يستقبله فور وصوله بسبب وضعه الصحي. لم يعجبه جوابها. طلبت منه أن يصبر، سيدخل بعده مباشرة.
عاد وجلس الى جانب صديقه. وهو يتمتم:
- أينما ذهبت يجب ان تنتظر. وضعه الصحي؟ أنا أيضا حالتي الصحية لا تستحمل الانتظار.
طبطب على كتفه الرجل الثاني وهو يبتسم بشكل خجول:
- لا عليك. الصبر مفتاح الفرج.
- حياتي كلها صبر. أينما ذهبت لا أسمع سوى الصبر. أريد فقط أن نتعامل بعدل.
ظل الرجل الأول مطأطأ رأسه، يحرك رجليه في كل اتجاه كأنه تائه. قال له الرجل الثاني:
- الانفعال سيضر بصحتك. وأنت لا تتوفر على ثمن زيارة طبيب آخر.
رمقه بنظرة حزينة ثم انفجر ضاحكا كأنه سمع نكتة. وأجابه وهو يحاول أن يعدل من جلسته:
- كلامك صحيح يا رجل ومن الهم ما يضحك.
أسند ظهره على الحائط وأغمض عينيه وبقي الرجل الأول يراقب ما يحدث أمامه من حديث يتطاير في فضاء غرفة الانتظار. فجأة، فتح الرجل الثاني عينيه، وقال له:
- هل سمعت بالفضيحة التي وقعت أمس بالمستشفى المركزي؟
علامات الاستفهام تستوطن ملامحه وقال له:
- لا أعلم. ليس لدي أصدقاء، حتى المقهى لم أعد أرتادها لأنني لا أملك ثمن كأس القهوة.
- اسمع يا سيدي، يوجد طبيب جراح لا يقبل ان يقوم بالعمليات الا بمقابل من عند المريض.
- هذا ممنوع. لأنه مستشفى عمومي.
ضحك الرجل الثاني، وطلب منه أن يسمع بقية الحكاية:
- دفع المريض المبلغ المالي لكنه وثق العملية كلها دون أن يدري الطبيب.
ابتسم الرجل الأول وقال له:
- رجل شجاع. لو أن كلنا نتحرك هكذا لما انتشر الفساد وتغير حالنا.
- صحيح، كشف امر الطبيب. وجاء مكانه طبيب آخر. وفرح الرجل لكن وجد أمامه عراقيل أخرى لم يكن ينتظرها. منها يجب عليه الانتظار من جديد حتى يحين موعد العملية.
وظل الرجل الأول صامتا، فارغا فاه. وقال:
- هل هذا انتقام منه؟
- فسر كما تشاء ولن تفهم شيئا.
ثم أضاف:
- هل سمعت بمصيبة مثل هذه؟ يعني محكوم علينا الانتظار.
وتاه بنظراته ثم تابع:
- لدي حلم، رقيق وأخاف عليه من هبة النسيم. أخاف أن حكيت عنه يتبدد ويختفي.
ابتسم الرجل الأول ووضع يده في جيبه وقال له:
- ما هو هذا الحلم الغريب؟
- أحلم بحياة أخرى كلها عدل ومحبة. بحياة لا يكون الانتظار هو قدري، بحياة يكفيني معاشي ..
- لا تحلم كثيرا يا صديقي.
وخرجت ساعتها السيدة المكلفة بالاستقبال من عند الطبيب وقالت للباقين في قاعة الانتظار:
- معذرة، الطبيب جاءته مكالمة مفاجئة، سيضطر للخروج الآن وسيعود بعد ساعة.
قام الرجل الأول وتبعه صديقه والغضب يتطاير من عينيهما قال لها الأول:
- حرام عليك، منذ الساعات الأولى من الصباح، ونحن ننتظر..
وقال لها الثاني:
- حرام على الطبيب، كان عليه أن ينتظر مثلنا ويستقبلنا ثم يذهب الى موعده. هل الانتظار مكتوب علينا نحن فقط؟
ثم اقترب منه الرجل الأول وقال له بكل سخرية:
- بالفعل، حلمك ضعيف جدا، ولا يستطيع ان يعيش للحظات.
وانطلق كالسهم الى داخل غرفة الفحص، وجد الطبيب يستعد للخروج. كلام كثير من الطرفين يتطاير في الفضاء.
تبعته السيدة المكلفة بالاستقبال، محاولة تهدئة الوضع واخراج الرجل. لكن هيجانه جعله أكثر قوة ودفع كلاما ناريا يعاتب الطبيب. حاول الرجل الثاني، التدخل لإطفاء نار الحريق التي اشتعلت بين الاثنين، صرخ الرجل الأول بكل قوته موجها كلامه الى الطبيب:
- لو أنك صبرت مثلنا بعض الدقائق، واستقبلتنا. لما حصل كل هذا.
ظل الرجل الثاني صامتا. كأن الاحداث تتابعت بسرعة شديدة ولم يستطع استيعاب ما يحصل. اتكأ على الحائط القريب منه في غرفة الطبيب وأسند رأسه وأغمض عينيه وشعر بتعب شديد مفاجئ ثم سقط أرضا.
حاول الطبيب اسعافه. سيطر على الرجل الأول هلع وقلق، كيف حدث كل هذا؟ يتساءل ونظراته فارغة وحزينة، يتمنى أن يعود صديقه الى الحياة. انتظار ثقيل كالجبل.
خرج الطبيب من غرفة الفحص وملامحه لا تبشر بخير. قال له:
- لقد قدمت له كل الإسعافات الضرورية. ما علينا الآن سوى الانتظار.
توجه اليه بنظرات حادة تحمل تعب وآلام سنين وقال له:
- لو أنك صبرت مثلنا لبضع دقائق، واستقبلتنا، لما حصل كل هذا.
***
أمينة شرادي