نصوص أدبية
ناجي ظاهر: غابة الاسرار
قبل أن تلتقي به في الموعد والمكان المحدّدين.. الساعة السادسة والنصف في قاعة الزمن الجميل، كتبت إليه عبر الماسنجر تسأله عمّا إذا كان يعرف مَن هو العاشق الجديد، مرفقة سؤالها عمّا إذا كان بإمكانه التكهن بمن يكون، ومجيبة بطريقة غامضة أنه أبعد ما يكون عن الشك فيه. أما ما كتبه لها ذلك العاشق فقد تربّع على عرش الماسنجر متخذًا شكل سؤال: "فهمنا أنك سلطانة الغرام.. هل يهمك أن تعرفي مشاعري السُلطانية تجاهك.. ليتك تقبلينني فارسًا مغوارًا يا سيدتي". هذا الموقف أعاده إلى الماضي البعيد، يوم التقيا قبل العشرات من السنين ونشأت بينهما علاقة مودة وصداقة ومزاح. حينها التقيا في قاعة الشكر الجزيل، ومع أنه لا يتذكّر الآن ساعة ذلك اللقاء بالتحديد، إلا أنه ما زال يتذكّر، كيف اتخذ كلّ منهما مجلسه قُبالة الآخر، وشرعا في حديث تخلّله دخول هذا الكهل أو ذلك الشاب المشرئب بعنقه زهوًا وتشوفًا، وخروجه من القاعة بعد أن تطبع حضرتها قبلة على أحد خديه متبعة إياها بقبلة أخرى إضافية على خده الآخر. كان يعرف في ذلك اللقاء بالضبط.. كما عرف طوال سني علاقته المديدة بها أنها امرأة معروفة.. امرأة جمهور.. لذا أوصل إليها ما أراد إيصاله
عبر أغنية لوديع الصافي.. "بترحلك مشوار قلتلها يا ريت.. قالت لكن اوعى تغار.. حوالي العشاق كثار.. قلتلها بطلت خليني في البيت.. قالت". منذ ذلك اللقاء الحافل بالغموض ترافق الاثنان هي واصلت غاراتها على جمهرة عشاقها أو محبيها.. للتخفيف، وهو واصل الغناء.. خليني في البيت.. لكن دون أن يبقى في البيت.
بعد خمس دقائق من اللقاء بينهما.. هي وهو، كانا في طريقهما.. بناءً على اقتراح ذكي منه.. إلى زيارة صديقهما القديم الجديد، الصديق المغرم بها .. بصمت. هي كانت ترسل الابتسامة تلو الأخرى، محاولة استفزازه للإجابة على سؤالها عمّن يكون العاشق الجديد، وهو كان يفكر في سبب سؤالها.. وفي خاطره رغبة جامحة في معرفة من يكون ذلك العاشق الصنديد. ورغم أنه أراد أن يترك السؤال مفتوحًا على جميع الاحتمالات، ليؤكد لها ما حاول أن يرسّخه في ذهنها حول رزانته وحكمته، فقد كان مشغولًا طوال الوقت بمن يكون ذلك المقصود. ترى هل يكون ذلك الصديق القديم الجديد؟ نعم نعم قد يكون هو.. فقد دأب منذ غارتهما الأولى عليه في بيته المتواضع في أعماق الغابة، قبل حوالي العقد من الزمان، حتى الغارة الأخيرة.. في الأسبوع الماضي، وربّما حتى هذه الجارية الآن، دأب على استعراض مغامراته الغرامية مشيرًا إلى صولاته وجولاته عبر محطّات الفيسبوك ومساربها المجهولة الخفيّة.. حيث تتجوّل هناك جنّيات ألف ليلة وليلة وسلطانات الزمان. كان ما إن يأخذ الاثنان.. هي وهو.. مجلسهما المعتاد على المقاعد ذاتها، حتى يشرع في السرد المشوّق عن غاراته وغرامياته.. موجّهًا الحديث إليه هو.. وليس إليها هي.. وكأنما هو يريد أن يحكي مع الكنّة لتسمع الجارة.. كان يصوّر نفسه كأنما هو معبود جمهورية النساء.. مُشيرًا وغير مُصرِّح.. إلى هذه المُعجبة التي لفتتها كتاباته فاتصلت به.. وعرضت عليه حبّها أو عشقها.. غير مهتمة لزوجها النائم في الغرفة المجاورة.. أو تلك الساحرة الفاخرة.. كان يتحدّث عن النساء بالجُملة.. الامر الذي فرض السؤال: إذا كان يوجد لديه كلّ هذا الكم من النساء والورود.. لماذا هو يُسمّع صديقته كلّ تلك الحكايات؟.. قبل هذا.. لماذا هو يرويها له.. على مسمع منها..
الامر الآخر الذي فرض نفسه وهما يمضيان باتجاه بيت صديقهما العاشق المتخفّي.. ما لبث أن تطوّر وتقدم بسرعة بارقة.. فقد دخل على الخط صديق له.. كان ما إن يدخلا.. هي وهو.. بيت صديقهما حتى يخرج من بيته المجاور ليدخل حيث يجلس الجميع.. تتوسطهم سلطانة العشق الأبدية.. ليتخذ بعدها مجلسه مسترقًا نظراته المتيّمة إليها دون أن يمكّن أحدًا من ضبطه متلبسًا بنظراته المغرمة صبابا.. ترى هل هذا هو العاشق الجديد؟ هل هو ذلك المتسلّل إلى ملكوت صديقته متلفتًا حذرًا.. معتقدًا أن أحدًا لا يراه وكأنما هو علاء الدين يضع على رأسه طاقية الاخفاء.. فلا يراه أحد، في حين هو يحوم حول تلك المعشوقة الأبدية.. حالمًا بنظرة فابتسامة فموعد فلقاء؟. هل يتوجّه إليها قبل أن يدخلا بيت صديقهما في أعماق الغابة.. ويعلن لها عن معرفته بهوية عاشقها الجديد.. رغم تأكيدها صعوبة الإجابة. وربّما استحالتها.. كون هذا العاشق غير متوقّع؟.. هل يقدّم لها تلك الإجابة لتعرف أي صديق صدوق هو وأي سند حكيم لها في رحلتها الجبلية الصعبة؟ ما إن قرّر يفاجئها باكتشافه الارخميدي هذا.. حتى شعر باقترابهما الشديد من بيت صديقهما.. هناك في أعماق الغابة.. متشابكة الأشجار.. ترى ماذا سيحدث عندما يدخلان.. هما الاثنين.. إلى بيت صديقهما؟ وأطلّ طيف ذلك الصديق عليه من بين أوراق الأشجار.. استرق نحوهما.. بالأحرى نحوها.. ابتسامة غامضة كعادته.. وشرع يروي عن مغامراته وغاراته الغرامية.. موجّهًا الكلام إليه.. على أمل أن تسمع الجارة.. فتحنّ وتئن..
سارت هي بخطى حيية متردّدة فيما سار هو وراءها، تعلو وجهه زوبعة من التساؤلات.. لقد عرف الإجابة.. العاشق الجديد.. المستبعد من كل قائمة واحتمال.. هو ذلك الجار المتخفّي.. مسترق النظرات الابدي.. "وجدتُها"، هتف بينه وبين نفسه.. وقبل أن يقدّم لها الإجابة على طبق من صداقة خالدة.. رنّ خلويها.. فأدنته من أذنها اليمنى بسرعة وسرّية غير معهودة.. وراحت تتحدّث بثقة مَن ترفض عاشقًا ترامى على أعتابها..
- هل هذا هو العاشق الجديد؟ سألها صديقها.. مرافقها الحائر.
- لا ليس هو.. ردّت.
- هل هو صديقنا صاحب البيت..؟ عاد يسألها.
- لا ليس هو.. عادت ترد.
- هل هو ذلك الجار المتخفّي.. تابع السؤال.
- لا ليس هو.. تابعت الإجابة.
- من يكون إذا لم يكن لا هذا ولا ذاك.. سألها بحنق من أغضبه الغموض القاتل.
- ألم تعرف بعد أيها الاحمق.. ألم تعرف مَن هو بعد كلّ هذا الكم الهائل من السنين؟ نفرت به. أما هو فقد بقي صامتًا.. وقرّر دون إرادة منه.. قرّر النكوص.. والعودة من حيث أتيا.. سار وسارت هي وراءه.. كانت الساعة تقترب من السابعة.. وانطلق الاثنان في الغابة متشابكة الأشجار.. والاسرار.. أيضًا..
***
قصة: ناجي ظاهر