نصوص أدبية

جودت العاني: هو والنافذة والبئر..؟

احتسى قهوته في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، بعدها اخذ يرد تحية الصباح لأصدقائه الذين لا يتعدون عدد اصابع اليد الواحده. تطلع نحو السقف، ودار دورة كاملة في زوايا الغرفة ثم استقر نظره صوب النافذة التي اخذت من تفكيره الكثير من الجهد والوقت بدون معنى.. وهو يعلم ان لا جدوى ترجى من ذلك ما دامت النافذة هي الحد الفاصل بين وهم الحقيقة وحقيقة الوهم، طالما تساءل، هل للواقع وجههه النهائي ؟

سمع صراخ صبية في الشارع يتحلقون حول عربه يبيع صاحبها المثلجات وكان احدهم منزوياً، ربما ليس في جيبه نقودا أو إن عائلته تعيش الكفاف ومصاريف العيش باهظة قد لا تكفي حتى لتسد فم صاحب الايجار الجشع..

فكر، ماذا عساه ان يفعل لهذا الصبي؟ اطل من النافذه ونادى على بائع المثلجات ان يقدم لذلك الصبي شيئا منها، ورمى له بقطعة نقود.. والغريب في الأمر رفض الصبي تقبل المثلج وقال له لا اخذ شيئاً من أحد.

ولكن أنا اخذت المقابل من ذلك الوجه المطل من النافذة.

اجابه : ولكني لم ادفع شيئاً ولا اخذ من احد.

تراجع نحو عربته ونظر بإستغراب الى الوجه الذي يطل من النافذه.

من هو هذا الصبي الذي يرفض ان يأخذ شيئاً من أحد.

اجاب بائع المثلجات إنه احد ابناء حارتنا..

ولكن لماذا يرفض ؟

سأخبرك عنه حين افرغ عربتي والتقيك في باحة الموتيل عند العمة هند.

ترك النافذة وجال بنظره في أنحاء الغرفة ثانية واخذ قصة كانت مركونة عند حافة المكتبة للقاص الأمريكي (إدغار آلن بو) التي تتحدث عن فنائه الخارجي الذي تزينه أصص واشجار باسقة وزهور، وكان كعادته لا يكف عن تقديم الحبوب للطيور الجائعه عند الصباح وهي تتزاحم عند نافذته وكأنها تعرفه حين تراه يسقي الأصص اليانعة.

غاص في هذا الكتيب الذي قرأء قصته عدة مرات وفي كل مرة يكتشف شيئاً جديداً في معانيه.. وحين انتهى من قراءة القصة وضعها جانبا وعاود التحديق في تلك الفتحة التي تفضي إلى الضوء حيث الفوضى العارمة.

وهكذا كان النور الذي لا يكف عن التسلل مع فوضى الخارج عبر نافذته حتى بات هو والشارع نقيضان في متلازمة لا فكاك منها، رغم أنه كان يتقصد إغماض عينية طويلا ولكن الضوء والنافذة لا يفترقان في ذاكرته حتى خارج وعيه.

شعر بأنه سجين داخل جسده وعليه أن يحرر نفسه، فأغمض عينيه ونام، ولم يكن وحده في قيلولته، فقد نام جسده معه ايضا.. غاب عن الوعي وجسده ظل يقضاً ودقات قلبه كان لها إيقاع لم يتوقف من أجل أن يبقى على قيد الحياة، وحين حلق بعيداً شعر بأنه كان سجيناً في جسده المسجي على السرير، لقد انسلخ الآن تماما عن ذلك الكائن الذي يسمونه الجسد، وأخذ ينظر إليه من أعلى وهو في حركة دائبة بين النافذة وزوايا السقف والباب المقفلة دون أن يتورط في النظر الى الضوء المشبع بضوضاء الخارج، بينما جسده كان راكداً دونما حراك عدى إيقاع ضربات القلب في صدره الضامر.. كان يراه كتلة من اللحم مسجية على السرير لا أحد يستطيع تحريكها، وليس بمقدوره أن  يتحكم بها ولكنها لا تستطيع ان تتحكم كلياً في تصرفاتها بفعل التوازن الغريب في نظام النوم واليقظة والحركة والإشتهاء.. عاد يسأل نفسه : أين هي اشكالية الأسبقيات؟ هل تكمن  في مخيلته أم في الخارج؟

قال ذات مرة مع نفسه اللجوجة، لولا تفكيري، لما كان هناك ضوء ولا خارج ولا نافذة، ولكن الحقيقة، هو موجود وكذلك الخارج والضوء والنافذة قبل أن يفكر.. فمن يسبق من؟ الفكر أم المادة؟

يبدو ان الاشكالية تكمن في مخيلته التي لا تكف عن التساؤلات، ولكن التغاضي عن الفكر وهو إنعكاس للواقع بإعتباره جزءا منه في متلازمة وجودية صارخة، يعد أحد أهم هذه الاشكاليات.

بعد هذه المداخلات الفكرية العبثية التي لا جدوى منها قرر الذهاب الى باحة الموتيل ليلتقي ببائع المثلجات وليريح تفكيره العبثي الذي يدعو الى الرثاء.. وغالبا ما يردد مع نفسه، " متى أكف عن هذا الهراء، لقد تعبت فعلا رغم أني حاولت أن أضع نهاية لهذا السجال العبثي ولكن دون جدوى ".

مرت ثلاثة أرباع الساعة حتى دخل الى البهو بائع المثلجات بملابسه الملطخة بالالوان الأحمر والأصفر وغيرهما تفوح منها رائحة عطرة، وقال : لا أطيل عليك إنه يتيم فقد أباه في حادث مأساوي وأمه قد تزوجت لحاجتها إلى معيل والزوج رفض الإنفاق على إبنها والإبن يتكفله جده من أبيه وهو ليس ميسور الحال، الأمر الذي يجد نفسه بين عالمين فقدانه لوالده وفقدانه لوالدته بحكم الضغط والإكراه وبين حنان الجد غير الميسور وقسوته أحياناً.

فهمت، ولكن كيف نساعده وهو لا يأخذ شيئا من أحد؟

أجابه : لم لا نمد جده ببعض المال لكي يعين الولد؟

ولكن، هل يقبل الجد ذلك؟ وكيف نقنعه ورأسه صلد؟

يا إللهي، كم أنت صعب ويابس اخشى عليك ان تنكسر في يوم ما، تسد كل المنافذ ولا تفتح طريقا للعبور.. دعنا نجرب.

نجرب ماذا؟

نجرب الإستثناء من قاعدة المنطق العقلي.

ولكن، كيف؟

نذهب إلى مختار الحي ونتشاور معه في هذا الشأن، وربما يقتنع بإيصال المال بطريقته إلى الجد.

أتمنى أن يكون ذلك سهلاً وبدون أستفزاز.. ربما أن الولد قد ورث عن جده العناد في أن لا يأخذ من أحد.!

إنك، على ما يبدو تضع العصي في دولاب العجله، ولا تريدها تدور.

لا،  ما أقوله هو الإحتراس.

الإفراط في الإحتراس يعيق الحركة.. نتمنى أن لا يكون قد ورث ذلك:

لا مختار ولا هم يحزنون، سنضع النقود في يد الجد من اجل الخير وبطريقة لا إستفزاز فيها.

نقول يا عم، هذا مبلغ حاولنا تقديمه الى إبن إبنك الوحيد ورفض استلامه وقال لا آخذ شيئا من أحد وكان مصراً على رأيه بعناد، ولكن جده قد لا يأخذ منك هذا المال ويسأل، لماذا تقدمون المال الى حفيدي اريد فقط أن أعرف.؟

اجابه: رأيناه جالساً وحيداً والآولاد يشترون من بائع المثلجات ويمرحون ويلعبون إلا هو وحده كان منزوياً، وقلنا إنه قد لا يملك نقوداً، وعندما قدم بائع المثلجات له شيئا منها رفض وقال لا آخذ من أحد.. لذلك جئنا اليك بهذا المال لتعطيه إياه ليشتري ما يشاء.

اجاب الجد.. يمتلك المال ولكنه يرفض قبول المال من أحد، ليس لآنه عنود، ولكن لا يريد فحسب.. دعوه وشأنه.

عادا خائبين من لغة الجد القاسية وحين وصلا رأس الحي وبالقرب من بائع المثلجات لم يجدا الطفل ولا حتى الاطفال عدا البائع الذي قال إنهم ذهبو يسبحون في النهر القريب خلف بيوتهم في ظهيرة ذلك اليوم.

عاد الاطفال جميعهم من الشاطئ عدا هذا الصبي.. قال احدهم انه رآه يسبح والآخر رأه يخلع ملابسه ويكورها ويضع عليها حجارة، وقال آخر إنه سمعه يريد أن يعبر النهر إلى الضفة الأخرى.. وغالبا ما كان يفعل ذلك ويراه الجميع واقف فوق صخرة كبيرة في الضفة الأخرى من النهر يقفز منها ويعاود الكره ثم يعبر النهر إلى حيث اصدقائه وحارته.. لم يعد هذه المره، قفز من الصخرة وغاب.. عاد الاطفال الى بيوتهم ولم يعد.. انتفض الحي يبحث عنه دون جدوى.. أين اختفى.. يوم يومان ولم يظهر.. حتى ان البعض بدأ يتسائل : ما قصة هذه القفزة التي لم يخرج منها.. ثلاثة ايام مضت لم يره احد واستنفرت طوارئ النهر فعاليتها بحثاً عن جثة.. والنتيجة لم يظهر له من أثر. قال احدهم لم لا نسأل عن الصخرة، وسخر اخرون منه عدا واحد اشار الى ان في الصخرة لغز، لم لا نفتش عن هذا اللغز؟

قرر ثلاثة منهم العبور الى الضفة الاخرى من النهر بقارب، وسألوا بعض البيوت وكانت إجابة أحد كبار السن كانت شافية.. ماذا قال هذا المسن؟

قال: الجميع علموا أولادهم السباحة وحذروهم القفز الى الماء من الصخرة عدى الجهة اليسرى وحذروهم دون أن يفصحوا عن مخاطر الجهة اليمنى وقالو لهم القفز من اليمنى ستبتلعكم (جنية) النهر.. اقفزوا من اليسرى ولم يقولوا لهم الحقيقة إلا ذلك المسن الذي اجاب بأن في الجهة اليمنى للصخرة هناك تحت الماء فتحة لبيت قديم جداً مغمور بالماء فمن يقفز من اليمين يجد نفسه بين حيطان وسقف وظلام دامس ولن يخرج منها حياً، واضاف المسن لقد خرجت من تلك الغرفة المغمورة بإعجوبة بعد أن دخلتها من فتحة وسرعان ما اصطدم رأسي بالجدار والجدار الآخر ثم السقف وكدت ألفظ أنفاسي ولكن حين فتحت عيني لم ارى سوى فتحة مضيئة بنور الشمس فاندفعت إليها وخرجت منها طلبا للهواء.. وعرفت حينها إنها كانت غرفة في بيت قديم غارق منذ عقود.. فربما ستجدون جثته عالقة في سقف الغرفة المطمورة.

سمع الغواص القصة من الرجل المسن قبل أن يباشر الغوص وقال : هل تعتقدون بأني جاهل أو مجنون.. لا اريد أن يكون مصيري مجهولا بين (الجنية) والحيطان المغمورة بالماء..!!

***

د. جودت صالح

21/ مايس 2025

.......................

رواية: في فصول

في نصوص اليوم