نصوص أدبية
مجيدة محمدي: الحياةُ غُرَفٌ

أم الغرف، غرفة خضراء، حُدودُها بلا جُدران، بل من دفءِ كَفّينِ مُمتدَّتينِ إلى الضّوء.
غُرفةٌ تُشبهُ حضنَ أمٍّ تُسمّى جنة،
غُرفةٌ تشبهُ فجرَ العيونِ قبلَ أنْ تُبصرَ اللّونَ،
غُرفةٌ بلا وقتٍ، بلا ذاكرةٍ، بمَنفذٍ وحيد إلى العالَمِ.
(1)
في غُرفةِ الطّفولةِ كانَتِ الجدرانُ لوحاتٍ بِخُطوطٍ مُرتعشة،
كانتْ هُناكَ دُميةٌ بعَينٍ واحِدةٍ تُحدِّقُ في الغَدِ،
وكانَتْ نافذةٌ تُرَحِّبُ بالشّمسِ كأنَّها ضيفٌ حَبيبٌ لا يعودُ مَرَّتين.
هُناكَ في الزَّاوِيَةِ كانَ الحُلمُ يُبنى مِثلَ قَلعَةٍ مِن وَرق،
والخَوفُ يَختبئُ تَحتَ السَّريرِ مِثلَ قِطٍّ مَحشورٍ في ظِلِّ الغَفلة.
(2)
في غُرفةِ الحُبِّ،
تَتمَدَّدُ السُرر كأنّها قُصائدُ بلا قوافٍ،
وتَتَشابَكُ الأيادِي كأغصانٍ تُخفي العُشَّ عنِ العاصِفَة.
المَرايا تَخجَلُ مِن نَفسِها،
والضَّوءُ يَتَسلَّلُ خَفيفًا كَأنَّهُ يَخشى أن يُوقِظَ العِناقَ.
تَحترِقُ الشُّموعُ، لكنَّ العِشقَ لا يَصيرُ رَمادًا.
(3)
في غُرفةِ الأبناء،
الجُدرانُ مُلَوَّنَةٌ بِضَحكاتٍ عَابِرَة،
والأبوابُ تَرتَجِفُ مِن وَقعِ الخُطى المُتَسارِعَة.
هُناكَ في الرُّكنِ الصَّغيرِ، دُميةٌ جَديدةٌ،
وهُناكَ في الرُّكنِ الآخَر، أحلامٌ مُستَقبَلَةٌ لم تُفتحْ بَعد.
الغُرفةُ تَكبَرُ، وَلكنَّ الأطفالَ يَغادِرونَها دُونَ أن يَلتَفِتوا وَراءَهُم.
(4)
في غُرفةِ المَرض،
الجُدرانُ تُصغي إلى الأنينِ كأنَّها أمٌّ عاجِزَة،
والسَّريرُ أجنحَةٌ مكسورةٌ لا تَطير.
المَصلُ يُقطِّرُ الوَقتَ في العُروقِ،
والتَّنهُّداتُ تُعيدُ تَرتيبَ الهواءِ بِلا فائدة.
هُناكَ عِطرٌ مَنسِيٌّ على الطَّاولة،
وهُناكَ نافِذَةٌ مُغلَقَةٌ على غَيمَةٍ لا تَبكي.
(5)
في غُرفةِ السِّجن،
الأيّامُ مَحصُورَةٌ بينَ قَضبانٍ ضَيِّقَة،
والزَّمَنُ يُعيدُ وَجهَهُ المُتَشَابِهَ كَأنَّهُ وَجهُ الحارِس.
هُنا الأحلامُ تَختَنِقُ،
وهُناكَ الزَّوايا مُثَقَّبَةٌ بالأمَلِ القَليلِ كَسَطحِ القَمَرِ المُعتِم.
الجِدارُ مَحفورٌ بِأسماءٍ أَكَلَها الوَقتُ،
والأبوابُ لا تَفتَحُ إلّا عَلى لَيلٍ طَويل.
(6)
في غُرفةِ الوَحدَةِ،
الصَّمتُ جِدارٌ، والمَاضي بابٌ مُوارَب،
الصَّدى يَعودُ مِثلَ زائِرٍ لا يُرِيدُ أن يَغادِر،
والنَّظرَةُ تَرتَطِمُ بالسَّقفِ كَأنَّها سُؤالٌ لا يُريدُ إجابةً.
هُنا يَنبُتُ المَساءُ كالعُشبةِ،
وهُناكَ في الزَّاوِيَةِ، يَتَكدَّسُ الوَقتُ بِلا مَعنى.
(7)
في غُرفةِ المَوت،
الهواءُ ثَقيلٌ كأنَّهُ صَمتُ الأشجارِ قَبلَ السُّقوط.
المَرايا لا تَعكِسُ شَيئًا،
والسَّريرُ مَرتَب مِن غِياب.
هُناكَ ساعةٌ مُتَوَقِّفَة،
وهُناكَ بابٌ مَفتوحٌ إلى مَكانٍ لا يَعودُ مِنهُ أحَد.
(8)
الحَياةُ غُرَفٌ،
بَعضُها يَتَّسِعُ للحُلمِ،
بَعضُها يُغلَقُ بِالألَم،
بَعضُها يُضِيءُ بِالمَحبَّةِ،
وبَعضُها يُطفَأُ بالمَوت.
كُلُّ الغُرَفِ نَدخُلُها،
كُلُّ الغُرَفِ نُغادِرُها،
لكنَّ بَعضَها يُسافِرُ مَعَنا في أعمَاقِنا،
كَأنَّهُ طريق لا يَنتَهي.
***
مجيدة محمدي - تونس