نصوص أدبية

نصوص أدبية

يــكادُ الصقرُ أنْ يَفنَى سُعَاراً

ويــأنَفُ  جِــيفَةً عِــندَ اَلْعُقَابِ

*

وَيَــبْقَى  دَائِــمًا شَــهْمًا كَرِيمًا

يُــخَالِفُ كُــلَّ ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ

*

يَــعَافُ مَــوَائِدَ اَلْأَنْــذَالِ زُهْدًا

إِذَامَــا اَلــنَّاسُ دَفَّــتْ كَالذُُّبَابِ

*

يَـــرُومُ اَلــطَّيِّبَاتِ وَلَا يُــبَالِي

إِذا اَلْــجَنَبَاتُ شُكَّتْ بِالْحِرَابِ

*

فَمَنْ يَرْضَعْ حَلِيبَ اَلْعِزِّ طِفْلاً

يَــعِشْ حُــرًّاعَزِيزًا لَا يُحَابِي

*

وَمَــنْ لِــلْأُسْدِ دَوْمًــا كَانَ نِدًّا

مُــحَالٌ يَرْتَجِي فَضْلَ اَلْكِلَابِ

*

دَعِ اَلْأَنْــذَالَ تَــأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ

وَتَــرْفُلُ بِــالْحَرِيرِ مِنَ اَلثِّيَابِ

*

فَلَمْ  تَخْفِ اَلثِّيَابُ ذُيُولَ خِزْيٍ

وَإِنْ  أَخْــفَتْ ذُيُــولاً لِــلدَّوَابِ

*

فَــمَنْ بِالْحَيِّ يَعْرِفُ كُلَّ لِصِّ

وَعَــاهِــرَةٍ تَــخَــفَّتْ بِــالنِّقَابِ

*

سَــيَبْقَى اَلْخِزْيُ لِلْأَجْيَالِ إِرْثًا

وَلَوْ فَلَتَ الخَسِيسُ مِن اَلْعِقَابِ

***

عــبـد الناصرعـليوي الـعبيدي

 

أحياناً

يَتدفقُ عِطراً

وأريجاً يَنْضَحَهُ شِعراً!

*

أحياناً

يُبْدِعَهُ النثرُ!

*

أحياناً

تأتيهِ الحُمَّى

في شكلِ قصيدٍ أعمى!

*

أحياناً

لاتكفي قصيدةْ

لنُزُوحِ دِماءِ وَرِيدَه!

*

أحياناً

لامعنى يُفْهَمْ

إلا بغمِوض يتكلَّمْ!

*

أحياناً

من دون تَصَنُّعْ

يُبدعها وبكل تَمَتُّعْ!

*

أحياناً

يتعاطى ألَمَاً

كي يُنْضِجَ للجائعِ لُقَمَاً!

*

أحياناً

تحرمهُ الومْضَةْ

ٱلام مخاض اللفظةٔ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

لَم يبق

للقلب العربي

نبض سوى غزة

وغزة هنا،

وغزة هناك

وغزة أنا،

وغزة

اتساع الأفق الحر،

مساحة ضيقة

تكفي لضبط

شساعة الحقيقة

ومن انتحل خطابة،

وادعى مُناكِ

**

على قدر بعدكِ

هأنت قريبة،

وللعدو شبه حياة

تحت دبابته

ينتقي خوفه

في صافرات الإنذار،

واسمك جدار فاصل

بين السماء

وعري عروبة

في حانات ليلها

فمن يحفظ العذراء؟

مَن سِواكِ؟

**

وأنتِ

بقية من صمود

لن تتعب

وهل يتعب الحر

من حريته؟

يا مرآة الله

في الأرض

ماذا بعد السياج؟

إلى أين الممشى؟

وكل الطرق

تؤدي إلى غزة،

إليكِ ممشانا

وإلينا ممشاكِ

**

حُبك خطيئة

يقول الخائن العربي،

حبك ليالٍ سوداء

يقول الحاكم العربي،

حبك جريمة لم نقترفها

يقول الشارع العربي،

حبك فضيحة

يقول العالم،

حبك هزيمة

يقول العدو،

حبك منتهى

يقول الشهيد

ويهواكِ.

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: تعرفني هذي الأرض الخافتة

 

ليسَ في وطَني حِدأةٌ تُغنّي، اللصوصُ الأوفياء، لدينِ السَرِقة، جعَلوها تَجوع، في بَلدِ الفِئران.

2

أخفى خَلفَ عَينَيه، سِرّهُ المُقدّس، بينَ جَفنَيه، في كلّ رَمشَة، يَقطُرُ الوَرَع، واختلاسُ النَظر، الى غَنيمةٍ عَمياء.

3

أُصِبتُ بعَمى الأشكال، رأسُ شاة، بجِسمِ ضَبع، جميعُ ثيرانِ الوطَن بلا قرون، عدا الحَمير.

4

ما الذي رأَيتَ، لمّا نَظَرتَ خلفَ كتِفِك، أشياؤُكَ الجَميلةُ لن تَلحَقَ بك، فادّخرْ شَهقاتِكَ، لمَوسمٍ آخر.

5

ذهَبتَ بَعيداً، لم تَحسبْ من قَبل، خُطواتِكَ بعدَ الأفُق، فصِرتَ في المَغيب، تَحسدُ الشُروق.

6

أسلحَتي الكثيرة، لمّا أُرغَمُ على استِخدامِها، في رمَقي الأخير، تقتُلنُي.

7

حينَ انكَفَأتَ على وجهِك، على طريقٍ مُستَوية، كانَ لعَينيكَ رأيٌ آخر، أفصَحَتْ عنهُ، لغيرِك.

8

تَمنّيتُ لو أنّ الحُبَّ أرحَبَ مما كان، لم يَحتملْ كلّ انفِراجي فيه، فانفَجَر.

9

ما كُتبَ عليكَ أيّها الجَبين، لم يتركْ فيكَ موضِعاً صَغيراً، يدومُ ابتهاجي فيه، كقِصّةٍ تُروى.

10

لا تَسَلني عن احمرارِ عَينَيّ، ذلكَ أدنى النَزف، من قلبٍ، يَسحَلُ الخَفَقان.

11

ما تراهُ من رَعشةِ يدي، ليسَ إلّا انتقاماً، من أفكارٍ، رسَوتُ بها، على شاطئٍ، ليسَ لي.

12

أحسدُ الصَقر، ليسَ مثلي، لا أحدَ يَسرقُ منهُ الفرائس، بحيلةٍ صَغيرة، وينجو.

13

لم أحرقْ جَميعَ السفُن، خلفي، فقد عبرتُ على خشَبَة، ضلّت المسار.

14

أغمَضَ عينيه، أطفأ الشَمس، يخشى أشباحَ اليقَظَة، أشباحُ الظَلام، بلا أجنحَةٍ، أو أسنان.

15

حينَ قَرَعَتْ أجراسُ الكنائس، موسيقى بيتهوفن، سَمعتُ عَزْفَ العودِ في المآذِن، هذا ما قلتُهُ، تحتَ التعذيب، بتهمةِ الفَرَح.

عادل الحنظل

تَعكِسُ الحكايا

حكايَةَ طفلٍ

هامَ في ملاعبِ الشَّكوى

وسَقَطَ

مُعَفَّراً بِبعضِ أحلامهِ

التي انْدَثَرَتْ

قبلَ أن يَبلغَ الفطاما

وشابٍ

نَسيَ نَفْسَهُ

على مُفتَرقِ اللهفَةِ

لِصَبيَّةٍ

نامَ الحبقُ على يَديها

يوماً

واسْتَفاقَ

على جرحٍ  إيلاما

حكايةَ رجلٍ

باعَ عمرَهُ

على نَوافذِ الصَّبرِ

يُحَطِّبُ أضلاعهُ

ليَشتري

لسيدَةِ الوقتِ

تفاصيلَ مزيفةً

وضِحْكَةً يابسةً

وبعضَ المَرايا ..

***

سلام البهية السماوي

 

حُلُمٌ طارَ  وحِيداً

حُلُمٌ نامَ طويلاً في عُيُونِكْ

دونَ أنْ يُوقِظَهُ بَوْحُ رمُوشِكْ

مرّتِ الأيّام تعدو،

وَهْوَ قابِعْ

بَيْنَ طَيّاتِ جُفُونِكْ

لا يُبالي بِمَواجِعْ

يَحْفُرُ المعنى عمِيقاً

عَلَهُ يُصْبِحُ واقعْ

*

عِنْدَما أضْناهُ طُولُ الإنتظارْ

فرّ  مِنْ عينيكِ مَذْعُوراً

وطارْ ......

وهو  يَشْدُو

هَلْ يصيرُ الحُلْمُ واقعْ

أَمْ يظلُّ الحُلْمُ ضائعْ؟

***

رَمْلٌ أسْوَد

عِنْدَما خَلْخَلَتِ الأرضَ زلازلْ

وَ بِنا اِهْتَزَتْ دُرُوبٌ ومنازلْ

فَجْأةً تاهتْ خُطانا

فوجدْناها تَسِيرْ

بدروبٍ لَمْ نَجِدْ فيها سِوانا

فَمَشِيْنا..

وَ مَشِيْنا..

ذاتَ فجرٍ فاجَأتْنا

إنّها قَدْ وَضَعَتْنا

وسطَ صحراءَ كئيبةْ

لا نرى أُفْقاً لَها

*

صارَ  لونُ الرّملِ أسْوَدْ

صارَتِ الصّحراءُ تَمْتَدُّ، و تَمْتَدّْ

لَمْ نَعُدْ نُبْصِرُ  ما كُنّا نراهْ

قيلَ أنْ ندخُلَ في هذا المتاهْ

كلُّ ما كانَ لديْنا قَدْ تبدّدْ

وكِلانا

لَمْ نَعُدْ نَعْرِفُ ماذا قَدْ دَهَانا

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

إلى الأديب رحمن خضير عباس، الكاتب العراقي الذي حمل في قلبه وطنًا جريحًا، وسار في دروب الغربة حاملًا ذكريات العراق والأمل بالحياة. إليك، أيها الحالم الذي لم تخنقك القيود، ولم يُطفئ غربتك ضوء الروح. قصتك التي نُسجت من شظايا الألم والحنين تعكس قسوة الرحيل ولطف الحنين. من العراق إلى سوريا وليبيا والجزائر، إلى دفء المغرب وبرد كندا، عشت تجربة عابرة للحدود، تحمل فيها معك حب وطن لم يعد موجودًا إلا في قلبك. لك، أيها العابر بين الأوطان، الذي نسج خيوط الحكمة من الألم وجعل من كل مدينة محطة للتأمل والتعلم، أهدي هذه القصة كتحية لروحك الشامخة، ولرحلتك التي تستمر في إلهام الكثيرين.

***

الهروب إلى اللامكان

قصة قصيرة

جلس رحيم على ضفاف المحيط، يراقب الأمواج المتلاطمة كأنها أحلام تتكسر على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في حركتها المتواصلة والمتغيرة، تشبه حياته الهاربة من وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى قفص حديدي، يلتهم كل روح تحلم بالحرية. هرب رحيم من ذلك القفص، باحثًا عن السلام في بلاد أخرى، لكنه لم يكن يعلم أن العالم كله قد بات قفصًا أكبر، تغمره الغربة ويطغى عليه الحنين. سافر إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، ظنًا منه أنه سيجد فيها نجمة الأمان تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، لكنه سرعان ما اكتشف أن الحلم لم يكن سوى سراب، وسوريا امتداد لصحراء حياته، حيث كان الكابوس يرافقه في كل خطوة. تركها وراءه واتجه إلى ليبيا، آملاً أن يجد استقرارًا يحذف من ذاكرته تمائم الخرافة. غير أنه وجد ليبيا معسكرًا ضخمًا محاطًا بالجدران والأسوار العالية، حيث الأوهام تحاصر كل زاوية والشواطئ بدت كالصحراء، صامتة، تجسد عزلته الداخلية. وفي المغرب، جلس رحيم على حافة المحيط، وسط تيه الأقاصي، محاطًا بعالم يتغير من حوله، لكنه يظل ثابتًا كشرارة في بلاد الحطب، تنطفئ لتشرق من جديد. كان الوطن قد خنق صوته منذ سنوات، لكن ذكراه لم تبرح قلبه، كدمعة الأرض التي كلما أمطرت نشرت الصحو في مدائن الغضب. والآن، وهو مثقل بذاكرته التي تضيء ثم تنطفئ في مدارات روحه، يراقب العالم يغرق في صمت مطبق، غريبًا في أرض لا تعرف سوى التيه.

جلس رحيم على ضفاف المحيط، متأملاً الأمواج المتلاطمة أمامه، كأنها قطع من أحلامه التي تحطمت على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في انكساراتها المتكررة، تُذكّره بحياته المتغيرة، التي قضى معظمها هاربًا من قفص كبير، وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى سجن من الحديد، يلتهم الأرواح الحالمة بالحرية. كأنه يترك وجهه المحترق تحت مداس الوقت، محاولاً الخروج من غمد اسمه المستعار، لعبور هذا الموت الرمزي الذي يطارد روحه. ترك العراق وراءه، بحثًا عن السلام في مكان آخر، لكن العالم بأسره كان قفصًا أكبر، تمتد قضبانه في كل اتجاه، يلفه الغربة ويغمره الحنين. سافر رحيم إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، باحثًا عن الأمان والحرية. كانت سوريا في مخيلته كنجمة بعيدة تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، حلم مضيء وسط ظلمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سراب. كأنه يراقص طرائد الوجع على إيقاع الكوابيس، كانت سوريا امتدادًا لصحراء حياته، حيث كانت كل خطوة فيها تحمل معها عبء الكوابيس الماضية. ثم انتقل بعدها إلى ليبيا، ظانًا أنها ستكون واحة هدوء في صحراء التيه، لكنها لم تكن سوى معسكر ضخم تحيطه الأسوار العالية، غارقة في عزلة موحشة. كانت الشواطئ هناك كالصحراء القاحلة، صامتة، تفتقد الحياة، كأنها لوحة فارغة تعكس الصمت والوحدة التي اجتاحت كل زاوية من روحه. وكأن العالم مجذوب بالهذيان، بينما رحيم يركض خلف خطاه المتعثرة، محاولًا أن يحلق في رؤى قلبه الممزق. كان هو الخيال الضاحك التعيس، والانتظار يلتهم أنفاسه بين أنيابه. في وسط هذه الرحلة، كان هو ضوء الخرافة، بينما قنديله المتمثل في تجاعيد الوداع لا يتخطى مداه، يظل عالقًا بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يغمره صمت الكون العميق.

الجزائر كانت محطته الثالثة، ولكن حتى هناك لم يجد ما يبحث عنه. المدن بدت وكأنها غارقة في نوم عميق، صمت طويل يخيم على أرواح الناس، وكأنها طوت نفسها في سباتٍ أبدي. كانت أرواحهم مغتربة، وقلوبهم موصدة أمام نسائم الحرية، وكأن الاستعمار قد رحل بجنوده، لكنه ترك خلفه ظله الثقيل، يُرزَح به على أكتاف الناس كعبء لا يُحتمل. وكأن المدن نُسجت من ثوب عقلٍ ملطخ بالسكون، غارقة في رتابة الأيام، فيما العصافير جفاها الوسن وتبدد غناؤها في مفترقات الحزن. وفي نهاية الرحلة، وقف رحيم على أعتاب المغرب، حيث لم تكن وجدة مجرد مدينة أخرى في مسار هروبه، بل كانت نقطة تحول في حياته. هناك، التقى بابتسامة شرطي مغربي على الحدود، وكأن تلك الابتسامة كانت أشرعة الإبحار نحو عالم جديد، عالم لم يعهده من قبل، لكنه أحس فيه بألفة غريبة، كأنه عاد إلى حضنٍ كان يفتقده طيلة العجاف من عمره المسكين. في تلك اللحظة، استشعر رحيم أنه يبتعد عن فحيح الوقت وصدى الريح، يقترب من نقطة سكون جديدة. استقر رحيم في المغرب، وبنى هناك حياة جديدة، لكنها لم تكن مجرد حياة عابرة؛ كان ينسج من خيوط الأيام وشاحًا من الصداقات، يجتمع فيه مع آخرين هاربين من أوطانهم، تمامًا كما هرب هو، كأنهم كلهم قد أغتسلوا برائحة الصمت، وأخذوا يتلمسون وجوههم الموغلة في الحزن، يبحثون عن دفء في مدائن الغروب.

المغرب جمعهم كأنهم فلاسفة يلتقون في مقهى ليخططوا لعالم جديد، عالم ينشد فيه الإنسان الحرية ويتنفس دون قيود. ورغم بناء حياته الجديدة، ظل العراق محفورًا في قلب رحيم، كجبل شامخ يطل من بعيد على أيامه الجديدة، لكنه كان جبلًا غارقًا في الضباب، بعيدًا، مستحيلاً العودة إليه. وعندما جاءه خبر إعدام صدام حسين، كانت دموعه تتساقط كأمطار حزينة على أرض جرداء. لم يكن يبكي على صدام، بل كان يبكي على العراق، على وطن أُعدم معه في تلك اللحظة. في كل مرة يعود فيها رحيم إلى المغرب، كان الأمر أشبه بفتح نافذة تطل على ماضٍ ضائع، يتجول في شوارع وجدة ومراكش وتارودانت وكأنه يستكشفها لأول مرة. تلك المدن كانت تحتفظ بذكرياتها كلوحات زيتية معلقة على جدران الزمن، تعيش في ذاكرته، تمامًا كما ظل العراق يعيش في قلبه. لكنه كان عراقًا منسيًا، موجودًا فقط في الأحلام، بعيدًا عن متناول الواقع.

استقر رحيم في كندا في نهاية المطاف، ولكن حتى في تلك البلاد الشاسعة لم يجد دفء الشوق الذي اعتنقته أنامله في المغرب. كانت كندا بالنسبة له قفصًا آخر، قفصًا من جليد لا يذوب، بارد وقاسٍ، كأنه يحفر في تقاسيم روحه مداه، يغمره الصقيع الذي امتد ليعانق كل زوايا قلبه. في تلك البلاد البعيدة، حيث الصمت يبتلع الأصوات، والثلج يغطي كل ذكرى، كان رحيم كمن يطوف بصمت في جنائن رعشته، يسأل نفسه: "إلام نطوف بصمتٍ جنائن رعشتنا؟". ومع كل ذلك، كان يعود إلى المغرب من حين لآخر، وكأن تلك العودة تحمل رائحة ماضيه الدافئة، أو كأنها شرفة يطل منها على حياته التي لم تكتمل. يجلس على تلك الشرفة، حيث كل أمس مضى كان يضج بهمسات الشجون، يعيد تشكيل الصور التي بُنيت في خياله، لكنه لم يستطع يومًا أن يكتمل. كان الزمن يتسرب من بين يديه كالرمال، كأنه يحاول أن يضمّ نبضات قلبه المتشظية في سواقي الجنون. "ربما سأعود إلى العراق يومًا ما"، فكر في نفسه، لكن صوته كان خافتًا كصدى بعيد، يعلم في أعماقه أن العراق الذي عرفه لم يعد كما كان. اختفى العراق مثل النجوم التي تخفت خلف غيوم الزمن، ابتلعه النسيان كما يبتلع غبار الأحلام فوق صحراء لا نهاية لها.

***

زكية خيرهم - النروج

 

أناالآن في غرفة قاتمة.. صامتة، أمعن النظر في الظلام، أحاول استدراجه ليبادلني الحوار؛ عله يخفف شيئا مما بي، أو يجد معي حلا، لكل التساؤلات التي أثقلت رأسي، منذ نعومتي.أتقلب على أشواك التفاصيل الدقيقة، عابرا دهاليز تنفتح على أنفاق..  أضيع فيها كلما حاولت تحديد وجهتي وانتمائي.

أجاهد ذاكرتي.. منذ متى وأنا هنا. ربما مذ فتحت عيني على هذا العالم المترامي في قسوته،الشرس في احتوائه،الظالم في أحكامه.

لم أشعر يوما بانتماء حقيقي إليه، ولا شعرت بأن هناك ما يربطني به..

منذ متى وأنا هنا. منذ تلك الفجيعة؟لا بل قبلها حين كنت نطفة في رحم أعياه الانتفاض؛ كي يلفظني،لكن الأقدار شاءت أن أستمر وأنمو؛لأصيرنطفة.. فعلقة، فجنينا،ففضيحة

.كانت غربتي كبيرة، مذ خرجت إلى هذا العالم.

أذكر أني كنت أستجدي الرحمة والرأفة والحنان، بأنين وصرخات متتالية؛ كي ألقى شيئا من الاهتمام،وأستمد بعضا من القوة..  جرعة حليب كانت تكفي، كي أغلق فمي، أنزوي كأي شيء لا حاجة للآخرين به، وبوجوده.مرت الأيام متشابهة، بعد رحيل البطن التي حملت كتلة الحزن، التي حلت؛ كي تزيد من كآبة وعبوس الكون.

أتنقل من يد إلى يد: منها التي تحنو، ومنها التي كانت تزجرني؛ كأنما تحملني ذنب مجيئي، إلى هذا العالم، وأنا ضيف غير مرغوب به.. كان بكائي موالا لا ينتهي؛ مما جعل حتى القلوب الرؤوفة تمل وجودي، وتفكر في التخلص مني، وهي تصرخ: اسكت.. اخرس ايها اللقيط—يا ولد الحرام --.لقب سمعته مذ وعيت الحياة، لكني لم أستوعب معناه، إلا بعد ما بلغ الجرح مداه،وأنا بين أحضان امرأة، كانت تقول أنها خالتي.

حضرت سيدة سمينة، أنيقة، متبرجة، بنظارات كبيرة سوداء. دار بينها وبين الخالة حوار طويل، في النهاية قالت الخالة:هذه أمك الجديدة.. يجب أن تذهب معها.

أخبروني من قبل،حين كنت أبحث عنها بدموعي، أن أمي سافرت بعدما وضعتني، في رحلة طويلة الى الله،ولن تعود:كيف عادت..؟

هل كانت معتقلة، ثم أطلقت السماء سراحها؛ لتحررني أيضا من براثن القسوة؟رغم صغري إلا أني فهمت شيئا، من حوار العيون الذي دار في حضرتي. القسوة تجعلك تكبر بسرعة؛ لتنفذ الأوامر قبل أن تعاقب. أدركت أنه علي أن أرحل من هنا، مع هذه السيدة الغريبة، التي كانت توزع الابتسامات، في كل الجهات.تمنيت من كل أعماقي أن تكون أمي؛ علها تغذي، ولو قليلا من الجوع المزمن بأعماقي، للحب والحنان.

لكني لم أرتح لنظراتها، وابتساماتها..  وحركاتها.ركبت السيارة إلى جانبها. كانت تنظر إليّ وتبتسم. شعرت للحظات بالأمان والطمانينة. لم أرفع بصري عنها.كنت أود لو اعتقلت تلك النظرات والابتسامات؛ كي لا يفارقني الشعورالجميل الذي انتابني تلك اللحظة.

وصلنا البيت الكبير، المحاط بحديقة جميلة. لحظات من الفرحة النادرة،حلقت فيها الابتسامات عاليا؛ حين أخذتني السيدة زينب بين أحضانها، تداعب الحزن الذي نما بداخلي.كنت أسترجع ملامح الأطفال، شغبهم، دلعهم؛ كما بدأت أتخلص من الصمت والانزواء، وسط اللعب،التي حركت فيّ حب الحياة، وحب الاستطلاع.كبرتُ، كبرتْ اللعب، شاخت، فقدت جمالها، تقلصت الابتسامة؛حين ذكرتني السيدة زينب، التي رفضت منذ البداية أن أناديها ماما، وانتهت إلى زجري وضربي، على أي تصرف يصدر عني. استرجعت لقبي: اللقيط.. الغبي المنبوذ.استعاد الخوف مكانه بين ضلوعي، استوطن الرعب أرجائي. عدت أبحث في الظلمات عن صديقي القديم، نديمي الذي كان دائما يجالسني ويحاورني، عدت إلى الصمت والانزواء،في الركن البعيد، من الصالةالفخمة، كان مكاني، في انتظار الأوامر التي لا تنتهي؛ لأن البيت لا يخلولليلة من الضيوف، الذين يحضرون للعب القمار، والشرب، وتعاطي كل ألوان الرذيلة.بلغت العاشرة من عمري، تعرفت على كل الزوار والضيوف، كما خبرت الطريق؛لاقتناء كل ما تحتاجه السيدة، من أكل، وشرب، وخمر، وحشيش.. و.. و.. ، كما كنت ألهث، لنداء من تأخرت عن الموعد؛ لأن هناك من ينتظرها.فكرت مرارًا في الهروب؛

كي أنأى عن هذه الوساخة، لكن بدا أني نتاجها،لذلك صعب علي التخلص منها، كما صعب تلمس طريق العودة إلى خالتي، التي رمتني بكل بساطة، كأي شيء انتهت صلاحيته.

استخدمتني السيدة شغالا، وطباخا، بستانيا،وقوادا، ولمّا أتجاوز الرابعة عشر من عمري.لم ألج روضا ولا حضانة ولا مدرسة، ولا تلقيت تربية غير ما شربتني السيدة زينب من ذل وهوان؛ سيتناسل ويتكاثر مع الأيام.كنت كلما جن الليل، وأطبقت الغربة أتساءل: أين أمي..؟

أين أبي؟

أين أهلي؟

وتبقى الأسئلة دائما معلقة بلا جواب.

لم أستشعر يوما رابطا نحو إنسان أو مكان. كل الوجوه والملامح، كانت ترمقني بنفس النظرة.. وأنا صغير: كانت شفقة. حين كبرت صارت: اشمئزازا.ما ذنبي؟ أنا لم أختر أمي ولا أبي، ولا حددت تاريخ وصولي إلى هذا العالم، ولا رافقت السيدة زينب باختياري !كنت تجاوزت الخامسة عشرة من عمري، حين حضر رجل غريب إلى الدار. لم أره من قبل. استقبله الجميع بالبشاشة والترحاب الكبيرين، خصوصا السيدة،التي كانت فرحة زيادة عما تعودت منها. جلس الرجل، أطلق نجم الجهل والخوف والغموض حوله..  بعدما أكل وشرب، نادتني السيدة مبتسمة على غيرعادتها، وهي تتغنج:اسمع يا خالد هذا الرجل مهم جدا، وكبير جدا، وكريم جدا،يمكن أن يسهل لنا أمورا كثيرة، ويغدقنا بالهدايا إن نحن أرضيناه. لم أفهم كلامها

وتلميحاتها.دنت مني أكثر، ضمتني إليها،وهي تنقر أذني:اسمع يا ابني يا خالد، أريدك أن تستحم، وتغير ثيابك؛ لتكون أبهى من القمر !مازلت لم أفهم شيئا. عادة كان اهتمامها بالفتيات اللواتي تصطادهن من المدينة، ومن المناسبات كالأعراس والحفلات،تستدرجهن إلى البيت، تغريهن ببعض الملابس والحلي المزيفة؛ فيرقص الفقروالحرمان فرحا، وهو لايدري أنه في طريقه إلى مذبحة الكرامة والكبرياء وعزةالنفس.رفعت عينيّ نحوها في دهشة واستغراب.أدركتْ أني لم أفهم بعدُ مرادها، فحّتْ بكل وقاحة:هو يريدك أنت، وسيدفع لك قدر ما تريد وتطلب، وكلما احتجت شيئا، سيلبي، المهم أن ترضيه.لذعتني حرارة غريبة سرت في أوصالي، نار تتسلقني، دمي يختنق في عروقي. تصبب العرق من كلي.انسحبت من أمامها، وأنا لا أصدق ما سمعت.أكانت تتكلم بجدية..؟

أكانت تقصد فعلا، ما فهمت بعد عناء طويل؟انزويت في غرفة صغيرة حقيرة بالحديقة؛ حيث البقايا، وأنا سواء. لم تترك لي فرصة استجماع ما تبعثرمني، ولا التقاط أنفاسي، بلها لحقت بي، وهي تلوح بالنقود، بحنكة قوادة:خذ ياخالد. كل هذا لك. وإن أرضيته؛ سيعطيك أكثر وأكثر.كنت دائما أرى شابا واثنين بين الضيوف، لكني لم أفهم يوما، أن هذا كان المبتغى من وجودهم، لم تكن أعمارهم تتجاوز السادسة عشر، وكنت أظن، أنهم حين يختلون بالرجال في غرفهم، إنما كان من أجل خدمتهم، إحضار ما يحتاجون من طعام، وصب ما يطلبون من خمر.اليوم فقط فهمت. اليوم فقط كرهت العالم، بقدر ما كرهني.. حقدت على البشر، بقدر ما اشمأزوا مني.

واليوم فقط قررت أن أختار دربي، لوحدي، ودون أن أستشير أحدا، أو يتدخل في اختياري.صرخة منها أعادتني إلى مكاني:

ماذا تنتظر يا خالد.. أرى أنك لم تستعد بعد؟لا أعرف ماذا دهاني، كأن شخصا آخر تلبسني.أهمهم:حاضر..  سأجهز في الحال، سأفعل كل ما يريد ويطلب، سأجعله يعشقك، ويعشق الدار، ولن يبرحها أبدا.

نظرت إليّ باندهاش؛ فلم يسبق أن كلمتها بهذه اللهجة.

خيم الليل: موسيقى..  رقص..  غناء..  خمر.. و.. و..

هم الرجل بالوقوف..  أومأت لي بعينيها؛ كي أرافقه.

ابتسمت لها، اتجهت نحو المطبخ، حملت بعض الفاكهة وقنينة ماء، دخلت الغرفة..  كان الضيف هناك، راح يتحرش بي،وأنا أصب له الكاس تلوالأخرى، تمدد على السرير، ويداه تطلبني. لم يخجل من طفولتي، ولا من شيبه، ولا من أولاده الذين كان قبل قليل يتباهى بنجاحهم.

صببت كأسا أخرى، وهو يستدعيني بيديه وعينيه وشفتيه. شعرت بشيء يصعد إلى رأسي، أخرجت السكين من سروالي،طعنته في بطنه.. في صدره.. في كل جزءمن جسده. لم يصرخ..  كانت فقط أنات وآهات، لم تبلغ البهو الكبير.طعنته مرات أخرى، كنت أريد أن أقتص للطفولة التي اغتصبها الزمان، وهذاالوحش، وكل أمثاله.ناديت بتماسك أحسد عليه: سيدتي.. سيدتي.. لا أدري مابه.هرعت إليه.. ما إن دخلت الغرفة، حتى انهالتْ عليها الطعنات،بنفس القوة

والشراسة.. فقد كنت قوي البنية.. والقهر علمني كيف ادافع عننفسي.. تهالكت على الأرض، أحاصر بنظراتي الجثتين، والدماء التي لونت السجاد.أخرجت النقود التي سلمتني، رميتها على وجهها الذي لم يشعرني يوما بالطمانينة، ولا الأمان ولا الإنسانية.تناولت الهاتف من جيبها، اتصلت بالشرطة.

أنا اليوم بين أربعة جدران، بين رفاق الحزن والغربة والألم، في بيت يطلقون عليه: إعادة التاهيل.. أو دار الإصلاح.. أعمارنا لاتتجاوز الثامنة عشر،على جبين كل واحد منا قصة، كتبها القدر عند الولادة، أو ربما قبلا.. ها نحن نحاول التكيّف مع القسوة، علّنا نستطيع يوما الاندماج في الغابة !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أَو :

" اللهْ وياك عبّوسي "

***

أُناااااااااديكَ " عبوسي "

وأَعْني : حمودي الحارثي

أُناااااااااديكَ من آخر العالمِ

يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهْ

كمْ هيَ الحياةُ قاسية

وآااااااااااااااااااااااااااااااااااااهْ

كمْ هي الأَقدارُ فاجعة

حيثُ أَنَّ جسدَكَ النحيلَ

سيُصبحُ قبراً في منفى

ونورُ روحِكَ المَرِحَة

سيكونُ سراجاً في بغداد

حتى يضيءَ بلادَ الرافدينْ

وقلوبَ الناسِ المقهورينْ

فيُلوّحونَ لكَ حيثُ لا مسافاتٌ

ولا " حجي راضي ولا أَبو ضويَّه

ولا منتهى محمد رحيم "

حبيبتُكَ وصديقتُكَ النقيّة ،

وطفلتُكَ التي تأبى أَنْ تكبر ،

حتى حينَ غادرتكَ وحيدةً

إلى هنااااااااااااااااااااااااااكْ

وأَعْني : إلى فردوسِ الأَبديةْ

***

بعيونٍ نازفةٍ

وقلوبٍ راعفةٍ

رأَيتُ أَصدقاءَكَ الطيّبينْ

وكلَّ مُحبّيكَ النبلاءِ

يهمسونَ ويُرتِّلونَ

حزانى ومقهورينَ

في موكبِ توديعِكَ

ورحيلِكَ الحزينْ :

" " الله وياك عبوسي

الله

وياك

ع

ب

و

س

ي "

***

سعد جاسم

2024-8-20

 

(مهداة الى مقام الزهراء عليها السلام)

نَـهْـجُ الرسالةِ، فـي خُـطاكِ تألـقٌ

ومَعاني إسْــمُـكِ ، قـدوةُ الأسماءِ

*

لِأَبِـيـكِ امٌّ أنـتِ) وصفُ قَـداسـةٍ)

فاقــتْ صِياغَـتُـه، مــع الأجْـواءِ

*

حَظِـيَــتْ نساءُ العالمِين بـسِــيرةٍ

قـــد عُطِّرَتْ بـنَــسائـم الإيــحـاءِ

*

وَرِثَتْ من الهادي البشير مَعالِماً

فَـتَـجَـسّدَتْ  فــي سِــيرةِ الأبـناءِ

*

سـارَتْ وإشْـراقُ النبـوةِ ســاطِـعٌ

كالـــشمس فـي آفـــاقـهـا للـرائي

*

يامـَن تُـرِدْنَ رَزانَـةً ، ومَـكـانــةً

فـالاقْــتِــداءُ  بــهـا ، الــى الآلاءِ

*

أجْـواءُ وحيٍ في حَـراكِ رِسـالـة

في صبْرِ قـلْبٍ في اقـتحامِ عَـناءِ

*

بِــنــباهَــةٍ ، بــتــأمُلٍ ، بــتَــدَبّـرٍ

بـتَــحسُــسٍ ، بالمستـوى الـبَـنّاءِ:

*

اهــدافُ تلك المُـفـرداتِ تَهــيّأتْ

وتَــفَـعّـلتْ ،  بِـنَـباهَــة الزهـراءِ

*

مِــن أجْــلِ آمالٍ ، لهــا أهـدافُهـا

صـوْبَ المعالي في سُـموِّ عَطاءِ

*

مَــنَـحَ الإلــهُ مَـواهِــبـاً خــلّاقَــةً

قــد وُثِّـــقَـتْ في سيـرة العُظماء

*

قـمرانِ فـي افُق المَسير تَـقـارَبـا

بـإرادةٍ ، مِــن مُــبـدِعٍ مِـعـطــاءِ

*

شــاءت ارادتُــه ، وجـلَّ جـلالُـه

أنْ تــبــدأ الخـطـواتُ بالـنُجَـبـاءِ

*

يـفـنى الزمانُ ومَـوقِـفٌ لكِ دائم

ضِـدَّ الطغـاةِ ، يَـشُجُّ عُمْقَ الـدّاء

*

لمّا الحقـيقةُ قـد رأتْـكِ صَدىً لهـا

والحقُ أوصلَ صـوتَـه للـنـائـي :

*

زَهَــت البـِقـاعُ بنـورها وبـهائهـا

وَصَفَتْ بهـا الأجواءُ في الأرجاء

*

يا مُهْجَـة المُختار، صَوْتُـكِ هـادِرٌ

قــد ارعَـبَ الكفـارَ، فـي الانْحـاءِ

*

لــمّـا أتـاهُــم ، أنّ بِضْـعـةَ أحـمـدٍ

كالسـيف مَـنْطِـقُهـا عـلى الأعـداءِ:

*

خارَتْ قواهم مِن حروفٍ اوْدَعَتْ

يأسَاً بهم ، في خــطـبةٍ عَــصـماءِ

*

عَـزْمٌ لــنا الذكـرى ، بكُـلِ مُـلِـمَّـةٍ

تــنأى بــنا دومـا ، عــن الظلْـمـاءِ

*

إنّ التـبَـرُّكَ ، فـي صِـفـاتِـكِ رافِـدٌ

يَهَبُ التفوّقَ ، فــي خُطى العَـلـياءِ

*

يا مَولــدَ الزهـراءِ ، يومُـك خالِــدٌ

زادُ الخَطيـبِ ، ومَصدَرُ الشعـراءِ

***

من الكامل

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

دَمٌ على الطَّفِّ أمْ نبضٌ منَ الألَقِ

فكلُّ ذرّةِ رَمْلٍ .. فيهِ مُحْتَرَقي

*

وكلُّ قَطْرةِ ماءٍ في مَسَارِبِهَا

دَمْعٌ جَرَىْ غُصَّةً مِنْ عَيْنِها الْوَدِقِ

*

فكَمْ إمامٍ هَوَىْ ما بَيْنَ مِرْجَلِها

مُقَدَّسٍ مِنْ سَلِيْلِ طاهرٍ وتَقي

*

الطَّفُّ مُستبِقٌ ، والطَّفُّ مُؤتلِقً

وكلُّ مَنْ يهتدي قد كانَ في السَّبَقِ

*

والطَّفُّ مِنْ ثورةِ الأحرارِ رايتُهِ

مَنْ سارَ مُلتحِقاً في خَيْرِ مُلتَحَقِ

*

الطَّفُّ مَكرَمَةٌ ، والخيلُ مَفرَزةٌ

مِنَ البدورِ الَّتي غطّتْ سنا الأفُقِ

*

هبَّتْ على رئتي ريحٌ ، وعاصفةٌ

أمسيْتُ في هَبِّها طيفاً مِنَ القلقِ

*

لكنَّها أسفرَتْ.. عنْ جَمْعِ كوكبةٍ

مِنَ النُّجومِ سرَتْ مِنْ سابعِ الطَّبَقِ

*

لقيتُها بارقاً ألقى الإلهُ بهِ

وهادياً سارياً في خافقي الطَّلِقِ

*

هذا الحسينُ سليلُ الحقِّ قائدُهُمْ

فافتَحْ كتابَكَ وانشُرْ صفحةَ الفَلَقِ

*

حبُّ الحسينِ جرى في مهجتي ودمي

فصارَ مِنْ سَـنَدٍ عُودي ، ومُرتَفَقي

*

يا مُلهِمي في هواهُ ، شُـدَّ ناصيتي

بالوَصْلِ مِنْ حبِّهِ والنًّزفِ مِنْ عَرَقي

*

أنا الَّذي ثاقباتُ النَّجمِ أرديتي

ألبسْتُها لغتي والَّلهْفَ في نُطُقي

*

وقفْتُ أسألُ أرضَ الطَّفِّ فانْتَفَضَتْ:

دمُ الْغَوالي ، علَى وَجْهِي ، وَفي رَمَقي

*

مرَّتْ على ساحتي خيلٌ وساريةٌ

ومرَّ كلُّ بَغِيٍّ ، فاسِقٍ ، خَرِقِ

*

تَشَابَكَ الْقَومُ فاشْتدّتْ ملاحِمُهُمْ

نَواصِيُ الْخَيرِ في صنّاجةِ النَّزَقِ

*

وقَفْتُ أنظرُ في الْآفاقِ مُقتفياً

ريحَ الحسينِ بإشْراقٍ وبالمَلَقِ*

*

ناديْـتُـهُ ، وعروقُ القلبِ في لَهَـبٍ

والنَّارُ في أضلعي والجَمْرُ في حَدَقي

*

يا سيّدَ الطَّفِّ، يا مَنْ في مقاتلِكمْ

قد زُلزلَ الكونُ زلزالاً ، ولم يُفِقِ

*

نهرَ الشَّهادةِ، إنّي صوبَ مَنهلِكُمْ

شددْتُ أوردتي خيلاً لمُنطلَقي

*

حتّى أتاني بشيرُ النَّهْلِ مُصطحِباً

بدراً تماماً سقاني عَذْبَ مُندَفِقِ

*

وشـعَّ مِـنْ وجهِـهِ نـورٌ لِـيغـمـرَني

فكنْتَ أنتَ سراجي غامراً غَسَقي

*

يا سيدي، يا إمامَ الثَّائرينَ هُدىً

كي يقتفوا أثراً مِنْ دربِكَ الغَدِقِ

*

ملأتَهُ بندىً مِنْ طِيْبِ منبتِكُمْ

لا خاشياً سيفَهمْ أو حومةَ الفِرَقِ

*

بئسَ الذينَ تبارَوا في مذابحِكُمْ

فأصـبحُوا لعنةً ، في شَـرِّ مُنزلَقِ

*

يا قِبلةَ الحقِّ والأفلاكُ في رَهَبٍ

ملائكٌ حولَكُمْ بالنَّجمِ والشَرَقِ

*

الطُّهرُ في بيتِكمْ آياتُ سيرتِكُمْ

فعمَّ عِشقاً بأعماقِ القلوبِ بقي

*

يا ابنَ الذينَ أشـاعُوا مِنْ منـاقبِهِمْ

الزُّهدَ في سيرةٍ والجُودَ في الخُلُقِ

*

وابنَ النَّبيِّ الذي تسمو كواكبُهُ

وحيدرٍ ومِنَ (الدُّريِّ في الغَسَقِ)*

*

أنا ابنُ بيتِ وليٍّ ... كلُّهُ غَضَبٌ

مِنْ أولِ الشَّبِّ حتى آخِرِ الرَّمَقِ

*

لِما لقِيْتَ، وما لاقَتْ مَحارِمُكمْ

منْ غلَّةِ الحقدِ والنَّكباءِ والحُرَقِ

*

أنا ابنُ مَنْ شرّعوا جَمْعاً، ومِنْ وَلَهٍ

بأهلِ مَنْ طُهِّروا، عَهْداً وفي العُنُقِ

*

قد أسلمُوا لطريقِ الحقِّ رايتَهُمْ

فكانَ سِفْرُ هُداكمْ خيرَ مُعتَنَقِ

*

ساروا على هَديِكمْ ، والطَّفُّ سائقُهُمْ

فاستنشقوا ريحةَ الفردوسِ في الطُّرُقِ

***

عبد الستار نورعلي

.....................

* الدُريّ في الغَسَقِ: أي الكوكب الدُريّ المُشِعّ في الظلام. وهنا كناية عن فاطمة الزهراء عليها السلام.

* المَلَق: التضرُّع والدعاء

* كتبتُ القصيدةَ في العام الماضي بـ(24) بيتاً، وحين نويْتُ هذه الأيام نشرها ثانيةً بمناسبة ذكرى عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، مررْتُ عليها، فإذا بي أجدُني زِدْتُ عليها عشرةَ أبياتِ جديدة.

 

نَبْضُ الدَّهْشَةِ

أَفْلَتَ مِنِّي كَوَرَقَةِ خَريفِ

شَهقَاتٌ غَرِقَتْ بِالحُلُمِ

قُبَيْلَ شَغَافِكَ أُرَمِّمُ وَطَناً

أَتَرَقَّبُ إِيحَاءَ قِيثَارَةٍ

نَغَمَاً لا يَفْنَـــى

**

خَارِجَ الأَرْضِ أتَنَفَّسُكَ

وُجُودٌ وَ تَلَاشَي

أُغَازِلُ شَبَقَ الأَثِيرِ

لأَلِدَكَ نَجْمَةً

**

بَخُوْرَاً  دِمِشْقِيَاً

يَنْثَالُ مِنْ خَفَقِ الأَزَلِ

يَمْتَطِي الشُّعَاعَ

شُعْلَةُ الوَدَقِ تَجْتَاحُنِي

رَشْقَةُ عِطْرٍ

**

ذَهَبٌ يَطيرُ

رَعْشَةٌ مَاسِيَّةٌ

تَرْتَشِفُ الأُفُقَ

**

أَجْنِحَةُ البَرْقِ تَأْسِرُ الزَّمَنَ

اخْطُ منِّي  تَرَاتِيْلَ  المَطَرِ

الحُبُّ الكَوْنِيُّ رَقَصَاتٌ حُرَّةٌ

طَيْــــفُكَ

اِلْتِفَاتَةُ وَجْدٍ هَائِمَة

***

سلوى فرح - كندا

 

أقف الآن هنا

بين زاويتينِ باردتين

جليد، ثلج، هواء يعوي

يجوح، يهز ويهتز

بين رمانتين وحنظلتين

بين زهرِ لوز

زهر شوك وصبار

أقف

لأرقبَ المدى

يتسع ويضيق

يصفو ويتعكر

أرى السحب

تتبادل مواقعها، تتداخل

تتشكل، تتكتل

تنسحب وتنفصم

سوداء أحيانًا

كحزن وردةٍ يتيمة

بيضاء في أحيان

كفرحة ذئب

في فمه فريسة

تتلوَّى، تطفح عيناها

برعب وفجيعة

*

أنا الآن

بين ذاتي وذاتي، وذاتي

أبحث عني

عن ذاتي التي كانت ذاتي

عن ذاتي التي بين يدي

عن ذاتي التي هاجرت

هجرتني فهجرتها

عن ذاتي التي تنتظر خلف السنين

عن ذاتي الملوِّحة

بالغربة والاغتراب

*

خطوة هنا

لأمي

خطوة هناك

لأبي

رابية يفتتها الوقتُ

يسحقها الدهر

خطوة لأختي

لأخي

يأكلها شفق نهم جائع

خطوة لي

لي أنا

مرصوفة فوق موج من شذا

فوق بحرٍ من مدى

تتقدم

تحثُّ خطاها نحو هاوية

ترتفع فوق هامة جبل

تسقط في دائرة من هلام

كثيف

كضباب يتكالب على ذاته

يتحول دخانًا

بلا نارٍ أو نور

خفيف

مثل ريشة نعام أو طاووس

تتمزق من ريح صحراء مغبرة

*

كم بحثت عن الموت

في قواميس النهاية

في أسرار بلاغة الزوال

في أدغال العتمة

وغابات الضياء

مدفوعًا برغبة الاندماج

في مفردات الغامض المجهول

بلونِ فراشة كحلية

مهروسة الجناح

بشوق المتيم

كنت أبحث

عن رؤيتي ورؤاي

عن ينبوعي المغلق

عن خطوتي وخطاي

عن هجرتي من ذاتي

إلى ذاتي

من وطني المتخم بالطين

والحمأ والصلصال

من زهرة الأقحوان في ظل زيتونة

إلى زهر حنون ودحنون

يلتقط الشمس

من مغربها

مشرقها

من مغاربها

مشارقها

ليحشرها

في صياح ديكٍ مخضل بالندى

هديل حمام يتنفس الصبح

حقل شعير

ينام في الفضاء

يلتحف الليلَ

يتدثر الأسحار

غزالة حبلى

سليلها يشي بها[1]

*

لم أكن أعلم يومًا

كيف أبدأ

وكيف أنتهي

البدايات تتداخل

في النهايات

ظل أو ظل لظل

شبح في مرآة لا تطيق ذاتها

ولا تعشق الأشباح

بيداء تغطس في بيداء

رمل بيدِ ريح هوجاء

ماء في منخل أو غربال

صدأ على أسنان الزمن

ألم في رأس المكان

هروب من ناي حزين

يشدو لخراف السهول

فتثغو

فرحًا أو حزنًا

*

قيل:

كنت يومًا عدمًا من عدم

غيبًا مخبأ في جرة طين

مجهولًا أكلته النار

تحول نثارًا

ابتلعته عواصف وهج

فتلاشى كتلاشي التلاشي في التلاشي

كائن أو شبه كائن

ذوبته شموس

شيء من شيء يتشيأ

ومتشيئ لا يعلم عن تشيئه شيئًا

كشيء خارج من اللاشيء

شيء يسأل عن شيء في اللاشيء

والشيء يعوي، يجوح

يبحث عن شيء في الشيء

*

بحث في البحث

عن بحث

كنت فيه يومًا

صليل سيف

أو ركوة بئر

شعاع جديلة

يحملني إلى ذاتي

إلى أنا

إلى أناي.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

21/2/2017 ميلادي - 24/5/1438 هجري

......................

[1] السليل: صوت الغزال.

كن بريئا كوردة لم تنبت

كن غامضا كليلة انتحار

كن مزعجا كالشك

كن وحيدا كنهر وسط غابة تحترق

كن حرا كغيمة في قصيدة

كن غريبا كجنازة مجهول

كن حياديا كالموت

كن عصيا كذئب تحت قمر

كن بعيدا بكل ما أوتيت من عزلة

ولا تكن ظل أحد

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان/ هذا العالم لا يشبه أمي

 

لا...

لم تَعُدْ بديارِنا (الأزهَرا)

***

أنا لا أُحِبُّ مَدائِحاً وَ مِراءا

وَأُجيدُ في نَعْيِ العزيزِ رِثاءا

*

كَرِهَتْ تقاليدَ الهِجاءِ قصائدي

فَإذا بِشعري يَستفيقُ هِجاءا

*

وَعلى صُراخِ صغارها ونساءها

نَصَبَ القصيدُ سُرادِقاً وَ عَزاءا

*

وَمَآتِماً للصابرينَ على البَلا

لِيَزيدَني خَرَسُ الشيوخِ بَلاءا

*

عَتَبي على أعلى المنائِرِ أُخْرِسَتْ

وَبَدتْ وَأدْيِرَةَ الفلاةِ سَواءا

*

أَتَهَدّمتْ أرْكانُها وَتَصحَّرَتْ

وَأحالَها ذَنَبُ الطُغاةِ سِواءا ؟

*

أرثيكَ أم أرثي الكِنانَةَ بعدما

هَجَرتْ بواسِلَ أهْلِها القُدَماءا

*

فَبِها وَليُّ الأمْرِ غِرٌّ سادِرٌ

بِفجورِهِ قد أخجلَ العُملاءا

*

وَكِلابُ طاغيةِ البلادِ تَسعّرتْ

وَنُباحُها سَحَرَ الفُلولَ فضاءا

*

هُمْ ينبحونَ على الشهيدِ وأهْلِهِ

وَيباشرونَ مع الظلامِ عُواءا

*

شَتَموا الأعاجِمَ جاحِدينَ لِأنّهم

رَفعوا لِغَزّةَ رايَةً وَ لِواءا

*

طَعَنوا بإيمانِ الأُلى بَذلوا الدِما

وَتَعهّدوا أنْ ينصروا الضعفاءا

*

شَطَبوا الشهادةَ من معاجِمِنا كما

بصلاتِهم لم يَذْكروا الشُهداءا

*

عَربُ الهَوانِ تخلّفوا حينَ إرتقى

جُلُّ الأعاجمِ نخْوةً وَسَخاءا

*

وَلِأزهرِ الإسلامِ قُمْتُ مُعاصِياً

عَجَباً أراكَ تهادنُ الطُلَقاءا

*

أَتَرى الجياعَ تلوكُهم نارُ الوَغى

وتظلُّ تلهجُ خُطْبَةً وَدُعاءا.

*

خَلَعوا عِمامَةَ خائِفٍ مُتَوَجِّسٍ

لِيَصيرَ في قَدَمِ الخَئونِ حِذاءا

*

طَفَقَ المُعَطَّلُ خاصِفاً وَرَقَ الخَنا

وَمَضى يُوارِبُ سَوْءةً فَأساءا

*

رَهَباً إلى عَتَباتِهِ وَأصولِهِ

فَبَدا المُبَجّلُ للأنامِ خَواءا

*

أَسَفي على وَهَجِ الأشاعِرَةِ الذي

وَهَبَ العَقيدَةَ هَيْبَةً وَبَهاءا

*

خَرِستْ طيورُكَ لا تُغرّدُ مُذْ رأتْ

سَحَراً غُصونَكَ كالهَشيمِ هَباءا

*

ذَبُلَتْ زُهورُكَ والجُذورُ تَيَبّسَتْ

وَبَكتْ دِلاءُكَ في الرُواقِ جِباءا

*

زَبَداً طَفوْتَ على المياهِ بِنيلِها

وَذَهبْتَ إذْ عَطشَ الصِغارُ جُفاءا

*

كَثُرَ الشيوخُ على المنابِرِ إنّما

ظَهروا لِطوفانِ الكِرامِ غُثاءا

*

حِمَمُ القِيامةِ خَلْفَ سورِكَ تَرْتَمي

وَحَفَرْتَ في كَنَفِ الدُهورِ خِباءا

*

حَسَبوكَ إِذْ وَجَبَ النَفيرُ أمامَهُمْ

فَغَدوْتَ مُذْ غَدَرَ الفُلولُ وَراءا

*

دَفَنوا رُفاتَكَ عندَ آخِرِ كَبْوةٍ

وَعلى المُقطّمِ أسكنوكَ عَراءا

*

تَهِبُ الفَتاوى في الصغائِرِ حاذِقاً

وَعَنِ المَجازِرِ سادراً تَتَناءى

*

دُرَرَ الصِحاحِ تَلوكُها مُتَوارِياً

وَمُفَسِّراً سُوَرَ الكِتابِ حَياءا

*

فَكَأنَّ ذاكرَةَ الشُيوخِ تَصَدّعتْ

وَمَحَتْ بُراقَ رَسولِنا وَحِراءا

*

هَتَفَ الخطيبُ اللوْذَعِيُّ مُجَلْجِلاً

وَحَشا الحَواصِلَ غَبْرةً وَ هَواءا

*

وَكَسا العُراةَ بَلاغَةً مَثْقوبةً

وَلِسانُهُ مَنَحَ العُراةَ كِساءا

*

وَإمامُ أزهَرِنا الوديعُ مهابةً

غَفِلَ الشدائدَ واستطابَ رَخاءا

*

يخشى الفراعِنَةَ الصِغارَ ويَتَّقي

فمتى يُلبّي للجهادِ سَماءا

*

وَوزيرُ أوقافُ البلادِ مُباهِياً

جعلَ التَمائمَ للجياعِ دواءا

*

مَسَخَ التصوّفَ خِرْقةً وَعَوائداً

لِيُحيلَ نابِتةَ البلادِ جِراءا

*

قُتِلَ الأُلى حفظوا العهودَ وَشُرِّدوا

فَلِمنْ تُردّدُ يافُؤادُ نِداءا.

*

فَدِماءُ غزّةَ عندَ (رابِعَةَ) إبتدا

فتفجّرتْ كَبدُ الجِوارِ دِماءا

***

د. مصطفى علي

 

بالأَمسِ أحببتُ وردةً

كُلَّما كُنتُ أغادِرُ

كانت تَحبِسُ عِطرَها

إلى أنْ يحينَ موعِدُ العَودةِ

*

بالأمسِ تَعَلَّقْتُ بِنَجمَةٍ

ظَلَّت تُسامِرُني طِوالَ الّليلِ

لَكنَّها حينَما

اجتاحتْ عَينَيَّ جُيوشُ الكَرَى

بَعيداً في العَتمةِ

ومِن غيرِ وَداعٍ

عَنّي توارَتْ

لِلمَرَّةِ الأَخيرةِ

*

بالأمسِ تَوَلَّعْتُ بِغَيمةٍ

رسمتُ لها ألفَ صُورةٍ وصُورة

وأرسلتُ لَها

من زَفَرَاتِ الرُّوحِ

ألفَ قُبلةٍ وقُبلة

قاومَتْ غَضَبَ الرِّيحِ

وزَمْجَرةَ الرَّعدِ

حتَّى بِقُربي أكثرَ تَبقى

وحين اشتَدَّ وَطيسُ الوَغَى

تَناثرَتْ فَوقَ وَجهي مَطراً

تَارَةً يَذرِفُ دَمعاً

وتارةً بالصَّبابَةِ يَبوحُ

*

بالأمسِ هامَ فُؤادي

بِبَسمَةٍ

صارتْ شَمسَاً لأيَّامِي

وصِرتُ لَها الوَلُوعَ الشَّغُوفَ

فاكفَهَرَّتْ نُفُوسٌ

وتَجَهَّمَتْ وُجوهٌ

فهَرَعَتْ هارِبةً

وفي أوراقِ الذِّكرى انْدَّسَتْ

تبتغي السَّلامَةَ

*

بالأمسِ نَادَمْتُ دَمعَةً

تَبكي إنْ بَكيتُ

وتَرقُصُ طَرباً

حينَما تَنتابُني فَرحَةٌ

دَبَّتْ الغَيرَةُ في كُلِّ العيونِ

ذاتَ مَرَّةٍ

فصارتْ مِلحاً أسودَ فوقَ خَدِّي

وانطفأَ ذاكَ البَريقُ

*

بالأمسِ مُغرماً كُنتُ بهَمسةٍ

عن كُلِّ ما يَسِرُّني تُفْصِحُ

عَذبَةٌ مِثلُ مَاءِ النَّبعِ

كُلَّما مِنهُ نَهِلتُ إليهِ أَعُودُ

تَعالتْ قَعقَعةُ السِّلاحِ

فَصَامَ النَّبعُ

وصَمَتَ الهَمْسُ

وصارَ سَيِّداً العَويلُ

*

بالأَمسِ وَقَعْتُ في حُبِّ كَلِمةٍ

حُرُوفُها قليلةٌ

إنْ حَضرَتْ

فِردَوساً يُصبحُ الكونُ

وبراكينَ حِقدٍ

حين تَغيبُ يَصيرُ

بينَ شَفتَيها يَضْحَكُ البِرُّ

ويُزَغرِدُ القِسْطُ

أَرهَقَهم بَوحُها

فخافوا نُشُوزَها

فلا أوامِرَ إِفْكِهم أطاعَتْ

ولا للمُخاتَلةِ رَضَخَتْ

وحينَ أعيَتْهُم الحِيلةُ

في أوَّلِ سَاعاتِ الفَجرِ

رَجَمُوها

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم-  السويد

 

العراة يكرعون إغفاءة الوقت في سراب الهدنة ..

يمسحون الطريق من وحشة الصمت ..

يقدحون زناد الهمس،

ويفرون إلى نهاية المنحدر ..

عندما نقود أوهاما عطنة بلهاء،

إلى الحتف الأخير ..

نذوق فجرا نظيفا،

وفكرة تتغذى من نهر الخلاص ..

نفعل ذلك، كجرعة زائدة أو لفحة نار مبرمة ..

ثم نتلوى هاربين إلى روح متعبة ..

سعار مبتور يبرر الهجران.

*

في الانتظار،

نعذر النص الشعري،

ونقرأ في الهامش منه،

قدرتنا على مواجهة عنف العالم..

لماذا ننثر أزهارنا إذن، ولا نطلق الضحكات؟

لماذا يسكر الشعراء، في قطيع التناص، ولا يعبثون بأهوائهم؟

لماذا تنفر المواعظ من آثار الدماء المسفوكة، على قارعة الإلغاء أو اللغو ..

*

قلنا، إن مشيئة الانكتاب،

فوق كل علوم النحت،

تداول الخطاب، ..

أي بلاغة، ليست شيطانا،

ولا تقبل الهزيمة...

فنحن براء منها ...

قل شعرا،

فقط ،

أو اصمت ..

هكذا ، سيمنحك الرب،

قولا فوق أي اعتبار..

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

القاعة تضج بالموسيقى. الكل فرح بحفل زواج ابن صديقي المقرّب هيثم، قبل قليل دخلت القاعة ترافقني صديقتي. انا ادللها باسم ياسمينة السمينة. هيثم رحّب بنا. فهو يعرف قيمتي الفنية جيدًا. أمسك يدي ليجلسني في مقعد قريب من مجموعة لم استلطفها. جلست هناك مجاملةً له، إلا انني ما لبثت أن انتقلت إلى جناح خاص هناك. في إحدى زوايا القاعة المُشرفة على المشهد كاملًا. انتقالي هذا لم يعجب مدير القاعة. فهرع إلي طالبًا مني أن اعود إلى حيث اجلسني والد العريس، غير انني رفضت بشدة. وغمزت لياسمينة مؤكدًا لها أن ما اريده سيكون وان جلال، مغنيها المفضل، ما زال فعّالًا في مجال الغناء. صحيح ان الجميع خذلوه، وتخلوا عنه، هذا تزوّج من شرشوحه مثله فاستغنى بالتالي عن الموسيقى وعن اهلها. ذاك اقعده المرض فباع آلته الموسيقية وانصرف ليعمل سائق تاكسي خصوصي، وذاك سافر تاركًا وراءه انّات وحسرات الة تنتظر ان نعود إليها جميعًا. لقد مضى على تلك الايام، ايام العز اكثر من ثلاثة عقود، ومع هذا بقيت وحيدًا صامدًا في وجه العاصفة، احمل الة العود واتسلح بها، فهي حبيبتي وملجاي الاول والاخير.. واكاد ان اقول هي زوجتي الباقية. كلهم ذهبوا وانا بقيت صامدا في وجه العاصفة الهابّة منذ سنوات. يقترب مني مدير القاعة يطلب مني بأدب يليق بفنان مخضرم مثلي، ان اعود إلى حيث كنت، أرفض بشدة، فيتوجه إلى هيثم، والد عريسنا، يهمس في اذنه، ليأتي الاثنان حيث اجلس انا ومشجعتي التاريخية في البلد ياسمينة السمينة الرائعة، يطلب مني الاثنان ان انتقل إلى حيث جلست في السابق، أرفض بشدة اكبر، مرفقًا رفضي بكلمات اعتقد انهم جميعا يعرفون ابعادها. أقول: اعتقد انك سمعت باسم الفنان جلال ابو جليل. انا من اطربت القاعات واحييت الافراح في الشوارع والساحات. انا لن انتقل يا سيدي. إلى موقع اقل من هذا اللائق بي وبفنّي. لن انتقال واذا كنت مُصرًا على مثل هكذا انتقال، فإنني افضل أن اترك العرس لكم لأغادر القاعة الى لا رجعة.. بإمكانكم جميعًا ان تعموا بفناني هذه الايام واغانيهم الهابطة.

ما ان سمع صديقي والد العريس تهديدي هذا حتى توجّه إلى مدير القاعة راجيًا منه ان يبقيني حيث انا.. فما كان مني إلا ان استند على خلفية الكرسي، واخرج علبة السجائر المارلبورو اللائقة بفنان مثلي، وقبل ان اشعلها امتدت يد مدير القاعة تشعلها لي.. لاهتف به.. الآن اعتقد انك عرفت من يكون الفنان جلال ابو جليل. هكذا عاد الهدوء وسط ضجيج الموسيقى وصخبها في القاعة المتعبة.

ارسلت نظرةً منتصرة إلى ياسمينة السمينة، فبادلتني بنظرة محبّذة:

-اعرف قيمتك.. اعرفها جيدًا.. لا تقلق.. انت فنان حقيقي.. اهل هاي الايام بفهموكاش.. قالت فأرسلت نظري باتجاه منصة الغناء.

-اما غناء فارغ.. اولاد مبارح بحتلوا المنصات واحنا الاصل بنقعد نتسمع.. قلت، فردت ياسمينة قائلة:

-كان على صديقك هيثم ان يدعوك انت.. انت الاصل والعراقة.. انت اكبر من كل هؤلاء الصغار..

شحنتني كلمات ياسمينتي بقوة اخرى اضافية. ارسلت نظرة صقر اعرفه جيدًا.. إلى البعيد. والله ما انا عارف على ايش بترقص كل هاي النسوان. وين كان اولاد هاي الايام لما كان جلال ابو جليل يجوب البلاد طولًا وعرضًا.. قلت لها:

-اعتقد انه يعرف ان جميع اعضاء الفرقة تخلوا عني من زمان. لكن دعيني افكر.

ران بيننا صمت، فيما انطلق المغني الولد، في زعاقه.. الغريب أن الجميع كان يرقص وينفعل مع ترهاته. شو كنها تغيرت الاذواق؟ وين فن الستينيات.. والسبعينيات.. راح طوني حنا وسامي كلارك.. تركوا الساحة لأغاني الهيشك بشك؟ انجنت الناس.. صابها جنون الغناء؟.. هذه الذكريات دبت الحركة في اطرافي، فعاودني شيطان الاغاني، اضمرت امرًا.. ارسلت ابتسامة نحو مرافقتي الغالية، فبادلتني الابتسامة سألتني:

-تريد ان نغادر؟

اشرت إليها بيدي ملمحًا ان انتظري وسوف ترين ان ابا جليل لا يُهزم.. لم يهزم ولن تقدر عليه الايام. وتحرّك دم الغناء في جسمي كله، فرفعت يدي مشيرًا لهيثم.. ما ان رأى اشارتي حتى ركض باتجاهي. استوقفته بإشارة اخرى:

- بعجبك هذا الغناء؟ سألته، فتجاهل سؤالي. قال:

- مرّقلي هالسهره.. الناس مبسوطة شو بدنا اكثر من هيك؟

- بس كان ممكن تكون الناس مبسوطة اكثر لو.. قلت، فسارع هيثم للقول:

- لو ماذا؟

- لو انني اعتليت المنصة وقدّمت روائع ايام زمان.

ابتسم والد العريس، مستمهلًا إياي. توجه بخطى ثابتة نحو منصة الحفل. همس في اذن المغني الفلعوص الصغير، وعاد. وقف قبالتي:

- لا بأس.. سيخلي لك المنصة.. هو أيضًا يعرفك ويعرف قيمتك الفنية العالية.

انصرف والد العريس، فيما ارسلت نظرةَ انتصار نحو مرافقتي ياسمينة السمينة، فبادلتني هذه نظرة مساوية، لتدبّ بيننا حماسة عمرها آلاف السنين. مدّت ياسمينة يدها إلى يدي، شدت عليها فشددت على يدها. كانت تلك اولى علامات انتصارنا في تلك الليلة. وتابعنا انتظارنا. ليمضي الوقت ولأشاهد عددًا من المحتفلين يبدأون بالانسحاب. انتبتني حالة من القلق. اشرت إلى والد العريس، فجاء. ادنيت فمي من اذنه وهمست فيها: ابتدأ الناس بالمغادرة. الم يحن دوري في الغناء؟ انصرف هيثم وفي فمه وعد مؤكد بأن اعتلي المنصة وألهب القاعة المنتظرة. انتابتني حالة من القلق وانا ارى المشاركين ينسحبون واحدًا تلو الآخر. عندها وقفت. واندفعت بقوة عمر من الصمت.. اندفعت باتجاه منصة الغناء. انتزعت مُكبّر الصوت من يد المغني الجاهل. وابتدأت.. يا ليل يا عين.. اغمضت عيني.. وانطلقت اغني مستعيدًا امجاد الزمان الاول.. ولم افتحهما الا على تصفيق مرافقتي.. كانت آخر من تبقى في القاعة.. وخيّمت اجواء.. تشبه اجواء مغني ايام زمان.

***

قصة: ناجي ظاهر

ندخل من بوابات اوروك النكبة

الأبواب المدهونة باللون الأسود

ونرى اشجار الدفلى

تصطاد فراشات الأزهار

ونرى تموز المتجمد في الفقرات

يتذكر فعلاً سبع مراحل

تتفرع من قيمٍ

وحضارات الوادي الموصوفْ بالألواح الطينية

حضاراتٌ في تاريخ النهرين

أزمانٌ تخلق فيها الوثبات!

وزمانٌ بَشَر بالعقل

وحدائق فكريةْ

تتعالى فيْ الرايات

تنبتُ قداح التبشير

في ريحٍ شرقية

صبحٌ ومساءْ

تتبرعم من ثورات

ومزارعها تمتد بعيدا

تُسقى من دجلةْ

تحي فرات الآخذ في التجفيف القسري

وخلايا تنشر افكاراً حرةْ

قالوا، وحكوا

عن زمنٍ ساد الغصات*

وضحاياه العصر تراكم من آهات

وطنٌ أصبح غصة من غصات..

كنا في الداغستاني

نلمحه في كل صباح

يغسل في عتبات الطرقات الفوقية

سعياً ابداً خلف الوهم الشاذ

حط على افئدة الصبيان

سجل وجدان القنطار من الاحزان

ليعيد مساوئ ماضيهم

وَيُشيدَ الذل عبارات الأمة

" أمة لا عنوان

أمة قربان

أمة برهان "

امة تبغي العصيان

أحصنة ٌ تركب في الفلوات

وافراساً شهباً للشهوات

ليهب العقل يجاور سر التاريخ

وليكشف حقب القتل هوية اسماء

تتعاطف في رؤيا الفسحة

في كل مكانْ

تتنقل في الازمان

وحوافر تزحف في اثار البنيان

فتدق القلب تدق الجدران

ما مر الوقت بلا زيفٍ او تزييف

وبلا قهرٍ والفصل خريف

في زمن الحرس الغربان

والتلفاز المغشوش بإسم الدين

يزيد هموم القوم ضباب

يطرح نفس الأسماء بلون داكن

وتنابلة الدعوات على المذياع

حطوا فتحات الانبوب سراب الكلمات

وانفرد القربان رهان

والقاطع في السفرات يغني القحط الانسان

صاح بأعلى صوتٍ

الرابوت نشيد الكدح الملعون على الأبواب

ودمٌ يتدفق من موتى احياء

أيكون الصوت التقديس مزامير الساعة؟

أيكون النبض طبول الاحياء؟

أتكون السكين غزاة الغربيين

هَموا في الظل التبشير بما هو آت

صاحوا الانسان التابوت على الاكتاف

مدنٌ أغوانية تلطم ليل نهار*

في خازوقٍ موعودٍ للتضليل

تُخضعه الكلمات المسمومة

تجعله رمزاً في زمن ٍمن نكبات ْ

تذبحهُ سكين غزاة خلف البحر المنفي

صاحوا في الاصحاب

يُحكى ان الاغرابْ

جاءوا سكنوا المدن النهرية

سدوا شلالات مياه الأعين

وضعوا كلمات التهديد

في صيغٍ تخديرية

وحكايا نسجوا للتعميم

خدعوا الوعي التبصير

في المدن الأسطورية

مدنٌ قدسية

وكورال عبيد التقديس على طول المسرح

ونشيد ينشد للتدريس بالطاعة الأبدية

أيعيد التاريخ المشي على الارجل دون الرأس؟

هل نسمح خوفاً أو صمتاً ان يثرم عظم عراق الخير؟

ما هذا "الطنطل*"

هذا اللص خداع الشعب الكادح

اين الهمة في غلق الأبواب

اين النخوة في فتح مزاريب العقل

ما هذي العصمة في تاريخٍ الحصة

يا مدن العزل الملغومة بالسم الترياق

يا جرح الوطن المنكوبْ

بالكذبة التدميرية

بالنكبة المأساوية..

وقاموس الأشرار؟!

***

مصطفى محمد غريب

1 / 8 / 2024

..........................

* الغُصَّةُ: هي انْسِدادُ مَجْرَى الهَواءِ في المَرِيءِ بِسَبَبِ وُصولِ جِسمٍ غَرِيبٍ إليه،

* الإغوانا هي نوع من الزواحف ذات الدم البارد

* طنطل هو شخصيَّة خُرافيَّة ضاربة في التراث الشعبي العراقي

أحبُ العراقَ

وماءُ العراقَ

ونخلُ العراقْ..

وأعشق طير الماء

يمرحُ بين القصبْ..

وروحي تسافر بين النخيل

وعند سواقيَ شط العربْ..

**

تُعِدُ خِصالاً، تُعِدُ شمائلْ..

فماذا تقولُ سعاد ،

عن السد

الذي هدمته القبائلْ..؟

تقول تخطى العراق رياح الشمال

وبات يدافع عن مثابات بابلْ..

**

قرأت قصيدتها ألف مرة

وفي كل صبحٍ

أزمُ شفاهي

لكي أستعيد لهاثي

وأنظر حتى يجئ المساء

لعلي أغافلُ وجه الجدار المهدمْ..!

فماذا أرى في العراق سوى جسم محطمْ..

فماذا تقول سعادُ

عن السد الذي هدمته القبائلْ..؟

وكيف ترى عقم الزمانِ

أيشفي قلوباً

ويبني  معاقل..؟

فهل تنسينَ قهر العراق

أم تلوذين في صمت

تهينين أسم العراق

وشعب العراق

ونخل العراق

ودماء نراها تراق..؟

فلا أحدٌ يحمي

مياه الخليج سوى العراق..

**

يظل شِعْرُكِ رائداً

ومن أمنياتي

أن تقولين شعراً يسمونه الكبرياء..

يشق عنان السماء

يمتشق السيف

ويقضي على الصمت

وكل أقبيةٍ بناها الهراءْ..!!

***

د. جودت صالح

ازمير- تركيا

17 / 12 / 2023

 

....حين تفحصت تالا عيون مناد العز النظرة، أوجست خيفة عن تعب الحياة البادية بالتمام على ملمح وجهه المرهق بهم الحياة. لم تتمهل بل ارتمت أنثى البحيرة بلا تفكير مكابرة على مقاس جسده، ثم احتضنته بالشد الطري، وبحب يخرج عن تكبيل طبيعة الامتلاك الأنثوية.

لم تتحرك ساعتها رغم مشهدهما المُنافر لطبيعة المكان في عوالم البداوة، بل تسمرت في مكانها وهي تجثو قياما على رؤوس أصابع رجليها علوا. لم ترفع نظرتها ثانية، بل بقيت ساكنة تتحسس حرارة اللقاء، و مدى صدق مشاعر دقات قلب مناد العز المتضاربة والمتهالكة مع إكراهات القبيلة المشعوذة.

كان مناد العز لحظتها سلطان زمانه، ومن عشيرة هارون الرشيد في حريم نساء العشق، داخل موانع قبيلة آيت أمياس، وعلى مشاهد من رؤوس أخوية الشر والفزع المتحركة بعرفية المقدس والمدنس. كان تقايس الأجسام بين تالا ومناد العز يماثل مشاهد من فيلم هندي. كان فضول روح استراق المشاهدة والتمحيص الدقيق لمآلات نهاية عناق تصالح الذات وقرينها الروحي. كان السؤال عن حب قد يجمع قبيلتين متناحرتين منذ الزمن القصي.

همس مناد العز بلطف عند مسامع تالا، ما بك أنثى البحيرة؟ ما بك وأنت ترتعدين خوفا؟ لم تعر تالا سؤال مناد العز بدا من الإجابة المستفيضة، بل تابعت احتكاكها الجسدي، ونهمها في ملاطفته على مسامع ورؤية القوم. خوف مناد العز على تالا من إرهاق نفسها المكهربة، ومن تفريط زيادة التعب بقولها: (أنا عييت مناد)، جعله يتوسد جلوسا على الأرض، ويدنيها بالقرب من عيونه، ومسمع دمعات العشق والتعب والفزع من ذاك المستقبل الخفي في ظل تحركات أخوية الشر القاتلة.

تحكي تالا وهي تسند عيونها رؤية للأرض المنبسطة بينهما، شدة حبها لمناد العز، تحكي عن الخوف الذي بدا يتزايد عندها من شدة كوابيس أحلام، وحلم دائم يتكرر عندها كل ليلية قمرية. تقول: أنها ترى (الكرمة/ شجرة التين) تحترق بما تحتويه من مفسدات الشعوذة والخرافة، ترى يد مناد العز تشتعل نارا، ولا أحد من القبيلة يُقبل على المساعدة، وإطفاء النار التي تلتهم جسده.

ابتسم مناد العز من هذا الحلم الفطري، ولم يُعلقْ عليه بالتحليل، ولا بالشرح، ولا بالتفسير بمرجعية كتاب ابن سيرين، بل قال: العلم عند الله، وبه المستعان، ثم سمع من تالا قولها: ونعم بالله العلي القدير....

في شط البحيرة النيرة بمياهها الباردة، ارتمت تالا غطسا، وتحركت عوما مسرعا بلا مجاديف مساعدة. كان مناد العز الذي لم يقدر يوما على المغامرة في العوم بمياه البحيرة متحمسا للحاق بأنثى البحيرة، ولو للحظة واحدة تحل فزعه من مكونات البحيرة الداخلية، وفي لحظة سريعة، وبلا تفكير مسبق، ارتمى في الماء البارد، لكنه فزعه بدا يزيد، مما جعله يُعلي من صوت صياحه، ومن خوفه المتجدد بالتكرار كلما اقترب من البحيرة. خرج مناد العز مسرعا واتمى على الشط الندي. حين لحقت به تالا خوفا، بدأت تمتص شيئا من خوفه وفزعه الملتصق لزاما بماء البحيرة المتغير الأطوار، علمت بما شاهده من جماجم عند قاع البحيرة العميق، علمت من حكيه المتقطع بالنفس السريع الضيق"كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ/ قرآن كريم"، أن تلك الأرواح الفوضوية تناديه لإحداث الخلاص، ومعاقبة الظلمة من أخوية الفزع. علمت منه أن يدا تشدها أشواك تحاول مرارا خنقه وقتله داخل البحيرة الخرافية...

***

محسن الأكرمين

فصل من رواية: عندما يعود الرجال

أَفَــلا  تَــرُدُّ أَيَّا (جَمِيلُ) عَلَى (هَنَا)

سَــقْفُ الــكرَامَةِ قَــدْ غَدَا مَشْرُوخـا

*

وَدَخَــلْتَ يَــا سَــبْعَ الــسِبَاعِ بِحُفْرَةٍ

سَــتَــذُوقُ فِــيهَا الــسُّمَّ وَالــزَّرْنِيخا

*

إِذْ مَــا صَــمَتَّ فَــقَدْتَ آخِــرَ حُجَّةٍ

أَقْــنَــعْتَ  فِــيــهَا سُــذَّجًا وَفُــرُوخا

*

مِــثْــلَ الــنَّعَامَةِ إِذْ تُــخْبِئُ رَأْسَــهَا

وَالــجِــسْمُ يَــظْهَرُ بــارِزًا مَــنْفُوخا

*

فِــي أَحْــسَنِ الأَحْوَالِ كُنْتَ مُهْرِّجًا

قَــزَمًــا حَــبِــيسًا خَــائِفًا مَــمْسُوخا

*

أَوْ  أَنْ تَــرُدَّ، تَصُونُ بَعْضَ كِرَامَةٍ

لَــكِــنْ  سَــتَــأْكُلُ بَــعْدَهَا الــبِطِّيخَا

*

لَا ضَــيرَ إِنْ مَــاتَ الــفَتَى بِكِرَامَةٍ

فِــي  مَــوْتِهِ قَــدْ يَــصْنَعُ الــتَّارِيخَا

*

لَــكِنْ  خَــبُرْتُكَ يَا (جَمِيلُ) مُخَادِعًا

لِــحَــبِيبِكَ  الــغَالِي تُــمَسِّحُ جُــوخا

*

وَبِــزَعْمِ  زَرْقَــاءَ الــيَمَامَةِ شَاهَدَتْ

شَــخْصَيْنِ لَــيْلًا يَــدْخُلَانِ الــكُوخَا

*

بِــرِوَايَةِ الــجِيرَانِ عَــنْهُمْ أَدْرَكَــتْ

كَــانَــا سَــوِيًّــا يَــصْــنَعَانِ طَــبِيخا

*

فَغَدًا إِذَا كُشِفَ السِّتَارُ وَصَحْصَحَتْ

سَــنَرَاكَ  تُــظْهِرُ لِــينَةً وَرُضُــوخا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

نسر الوقت المطارد

الان يبحث عن ملجا

عن ظل شجرة

في صحارى

ايامه القلقة

راسما على مرايا

الشك واليقين

شموسا نجوما واقمارا

فاردا جناحيه البنفسجين

ميمما صوب نبع

احلامه امانيه

ورؤاه المضيئات

فرحا فرحا اراه

معانقا مدارات

قوس قزح الصباح

والشفق الازرق

مغنيا للبرق للبنفسج

للخصب وللمطر

***

سالم الياس مدالو

 

تغرق في بحر من الخرافة واللامعقول تلك المرأة التي تمتلك مسحة من جمال رباني.. لا تعرف مساحيق التجميل ولا تعيرها أهمية في حياتها تبدو كفتاة ريفية تحمل سحر الطبيعة رغم بلوغها عقدها الثالث.. لم تحصل على فرصة للتعليم سوى انها تجيد القراءة والكتابة..

لكنه أحبها وتعلق قلبه بهذه المرأة فهي تمتلك براءة طفلة أحيانا وأحيانا أخرى قد يصفها البعض بالسذاجة وقلة الادراك..

تعاني من نحافة معتدلة لكنها تعتبرها احدى منغصات حياتها اضافة الى مشكلتها الرئيسية والتي تؤرق مضجعها وتشعرها ان الحياة غير عادلة معها..

عدم قدرتها على الانجاب جعل منها متطفلة على شؤون الآخرين لكن زوجها يبدي لها حبه ويحاول ان يمحي من تفكيرها ضرورة هذه المسألة أو أهميتها لديه.. وقد آمن بهذه المقولة.. ان الذرية من الله سبحانه..

تبقى هي غريبة الأطوار.. وخصوصا في تعاملها مع جاراتها ربما لملء فراغها ولكن يبقى تدخلها الغير مبرر بمشاكلهن قد يغيظ مشاعر زوجها ويقلق روحه.. فقد تبرعت لجارتها بإحضار دواء لشيخ عليل عندهم.. (وللعمر متاعبه)..

جلبت له نبتة وتراهن بحماس وانفعال وتجزم انها علاجه الشافي.. تسترجع أنفاسها وتمضي في بيان قدسية هذه النبتة وان احدى النساء المباركات قد زرعتها بجانب نخلة مباركة ايضا وانها قد تجشمت عناء المسافة لتجلبها لهم وقد وجدتها فكرة رائعة لتقديم المساعدة لهذا الشيخ العليل الذي طالما كان يواسيها ويستمع لتكرار أحاديثها..

لكن الشيخ شعر بتوعك أشد من الأمس وغدت ساقاه غير قادرتين على حمله وكلامه أخذ يتباطأ.. ثم ضاقت أنفاسه..

وجدت نفسها على حافة هاوية وهي تتحاشى

ضربات النسوة الموجعة على أم رأسها في عزاء الشيخ..

يتأفف زوجها غضبا وهي تقص عليه الحادثة جملة وتفصيلا.. لكنه في النهاية ينفجر ضاحكا وهي تضمد جروحها وتتألم وتشعر بحرقة شديدة في عينيها.. تهرع الى باب دارها مرات عديدة.. للتأكد انهم لم يلحقوا بها..

اما قصتها مع جارتها الأخرى وصاحبتها المقربة فتبدو أشد غرابة من سابقتها..

كانت تواسي جارتها وتشاركها احزانها لخيانة زوجها لها الذي تزوج من امرأة أخرى متناسيا عهده القديم لها وقصة الحب التي جمعتهما وحبه لطفليه..

نصحتها هي ان تجمع أغراضها وتأخذ طفليها وتتوجه لبيت أهلها فهو لا يستحق ان تبقى معه..

قدمت نصيحتها لجارتها.. لكنها أحست ببرودة تسري في قدميها وشعرت بضربات قلبها أقوى من المعتاد..

أخذ الشك يداهم روحها هي الاخرى ثم يتسرب الى مسامات عقلها فيوحي لها بأفكار غريبة قاتمة بشأن زوجها هي.. يصاحبها القلق والأرق وهي تراقب تحركاته ورسائله واتصالاته تلفونيا وربما دفعتها هذه الشكوك ان تتبع خطواته خارج المنزل.. فربما يخونها هو الاخر ثم يتزوج من امرأة أخرى..

تقصد قارئة الفنجان ليطمئن قلبها.. وقد سردت لها كل القصة ومخاوفها على زوجها.. فما كان من قارئة الفنجان الا ان تستغل هذه المعلومات ولتخبرها ان فنجانها يحمل لها أخبارا سيئة وبأن زوجها قد تزوج فعلا بامرأة أخرى منذ زمن بعيد.. فتصاب بنكسة قلبية..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

هذا قلبي

اسكنيه كما تشائين

غرفةٌ للحلم

غرفة للأغاني

وغرفة للحب

*

هو لك،

ولك رؤاي

اقرئيها

كم أنت جميلة فيها

كي تعرفي

أنكِ ليلي هناك

وأني دونك تعبي

*

لك ان ترحلي

عن قصائدي

حيث الشقاوةُ

والدلالْ

وأن تلقي بالذكرى

تحت سماء انتظاري

وتنسحبي

*

لك أن تعودي

إليها متى شئتِ

ولي حضن

يمتد شطآنا

فلا تحزني

جرحك ألمي

وحزنك غضبي

*

واستريحي

على يدي

كما يحلو للعزلة

استريحي من حوار

المرايا وما حولك

من صخبِ

أحبك كما أنت

وأحبك،

كحب الثوار للحرب

***

فؤاد ناجيمي

.......................

* من ديوان/ كي أستريح من أي عطب رومانسي

 

أَلا يا قَلْبُ يَكفيكَ احْتِراقا

فَصَدْري مِنْ وُجوهِ المَوتِ ضاقا

*

فَمازِلنا نَرى والْمَوتُ قاسٍ

لِغَزّةَ قِبلَةَ الحُرِّ ائْتِلاقا

*

لَنا في غَزّةَ الأحبابِ وِردٌ

فَأضْحَتْ كُلُّها بالدّمعِ ماقا

*

وَوَرْدٌ مِنْ شُقوقِ الصَّبرِ يَنمو

كَأنَّ بِهِ مِنَ المَوتِ انْعِتاقا

*

وَطِفلٌ تُشرِقُ الضّحِكاتُ مِنهُ

كَأنّ عَلَيهِ مِن مَلَكٍ نِطاقا

*

تَرَكناهُم بُطونًا ضامِراتٍ

وأطْعَمنا البَنادِقَ والزّقاقا

*

نُطيقُ مِنَ الأسى هَوْلًا وَضيقًا

وَلا مِصْرًا تَذودُ وَلا عِراقا

*

وَلَوْ أجسادُنا نَطَقتْ رَأَيتُمْ

مِنَ البُركانِ في دَمِنا احْتِراقا

*

ولمّتْ نائباتُ الدّهرِ تَترا

سَكِرتُم حيثُ لا أحَدٌ أفاقا

*

وَغَشّى الموتُ مِنْ هولِ الضّحايا

فَلَمّا نامَتِ الأرواحُ فاقا

*

فَلا سَلِمَتْ مِنَ الحَربِ الثّكالا

وَلا آهاتُها فَكّتْ وِثاقا

*

فَصَبرٌ إنّ وَعدَ اللهِ حقٌّ

سَنَلقى مِن أَحِبّتِنا عِناقا

***

سماح خليفة - فلسطين

 

الغيوم تتساقط

من عيون المارة المنكسرين

(الدموع من عنق الحصان)

الأجنحة في سلال السهو

الجسر مليء بالنجوم

وخيول اللامبالاة

سيعبرون وتبقى زهرة الأقحوان

السماء قنبلة زرقاء

تضحك بندقية الغول في الهاوية

تنضج لكمات الحضور الذهني

في حلبة الرماد

تينع الحواس في الحرب

أشكر جدا صفاء الينابيع

في مخيال المقاتل

أشكر عباد الشمس على فصاحته

النوافذ على سرقة دموع الأسرى

لم يعد ثمة متسع من الضوء

مضطر لأعقد صفقة تبادل

لكن أوقفوا الحرب حالا

لأجمع أشلاء كلماتي المقطعة

صلواتي العذبة التي مزقها القناصة

داخل صدري

لأنبش كما هائلا من الأنقاض

هناك أطفالوا سقطوا من شجرة قلبي

بوابل من الرصاص الحي

الملاك الأحمر الصغير

بفمه الأقحواني العذب

وضحكته المليئة بالذهب

لنعقد صفقة أبدية لا رجعة فيها

أحرر شياطينكم من الأسر

مفاهيمكم الهشة عن الضوء

والمحبة والحقيقة والجمال

الغربان التي تسكن خرائب أرواحكم

شرط أن توقفوا الحرب

تطردوا طائرة الأباتشي

من حديقة رأسي

تطلقوا جميع الأسرى

من معتقلات العدمية واللامعنى

لي جثث متفحمة تحت الأنقاض

عائلة من الفرح اليومي

ملطخة بالدم

أصدقاء كثر من الفراشات الملونة

مضطر لأعقد صفقة مع الفراغ القاتل

شرط أن يهشم كلارنيته

ويكف عن مناداتي

بإيقاع سريالي

يفرد جناحيه العملاقين

يؤم الأقاليم النائية

مضطر لأعقد صفقة

مع وحوش متناقضاتي

مع المرآة التي تمضغ وجهي في العتمة

مع حيوانات غريزتي المتوحشة

مع الندم الأشقر

الذي يقفز مثل لاعب الجمباز

على حافة رأسي

مضطر لحرق مراكب الصمت

والصراخ بحنجرة طائر حزين

أمام كنيسة النهار

مضطر لإفراغ العالم

من طحالب المسكوت عنه

ما تبطنه المياه من كلمات متجمدة

بتخفيف الوطء على أديم الأرض

بالتحديق في حركات الأشياء

بمساءلة عيون الغرقى

مضطر لإسعاد النملة

بوجبة صغيرة  من الذرة

مضطر لأحرر الوردة من ثعالب الشر المحض

قوس قزح من عويل المقاتلات

شجر الفستق من تأويل العدو

ما تبقى من الضوء

من جنازير القتلة

لأحرر الشرفة والبستان

إبتسامات النساء الحلوة

الغد من كثافة الأقنعة

مضطر لأعقد صفقة مع المستقبل

أزجر الغيوم بعصا الساحر

أمدح حقول الأرز

تحت تصفيق أجنحة الكراكي

وأقول للحرية : أنت أصل الأشياء.

***

فتحي مهذب - تونس

 

أرسل أبي الشاب الختيار المُسنّ نظرة ملأى بالحزن الممزوج بالأمل. شدّ على يدي الفتية القوية وهو يقول لي: لقد دنت لحظة الرحيل. حاولت أن اقاطعه معترضًا فتابع يقول: لا تقاطعني يا ولدي. الموت حق وأنا لست استثناء فيه. آبائي ماتوا وآباؤهم ماتوا. أجيال وأجيال مضت في طريق اللا رجعة.. طريق السفر الابدي والموت. هَمت دمعة من عين أبي وتابع بعد توقف وجيز: هذا ليس المهم. المهم الآن هو أن أنقل إليك ما تناقله أبناء عائلتنا التفاحية، أبًا عن جد وجدًا عن أب. ربّما تعرف يا ولدي أننا سُمينا باسمنا هذا لأننا نُحب التفاح ونميل إلى خدوده الورديّة.. نتناوله بشهوة ونكتفي بروائعه. وأنا أريد أن أوصيك بما أوصاني به أبي وبما أوصى به جدي أبوه. عليك أن تبحث عن تفاحتك الخاصة. حتى تجدها.. لا تستعجل الامور. فالتفاح كثير ومُعظمه مُغرّر. أما أقلّه فإنه يمتلك الحقيقة. ابحث عن تفاحتك يا ولدي.. لا تتسرّع في العثور عليها، حتى لا تضيف نفسك بإرادتك إلى قائمة مَصروعي التفّاح مِن أبناء سلالتنا المتتابعة..

ما إن نطق أبي كلماته الاخيرة هذه حتى مال برأسه وأسلم روحه إلى باريها. لم يدع لي أن اسأله عن تفاصيل أكثر حتى لا أكون واحدًا من مصروعي التفّاح من أبناء سلالتنا وأفارق. مددت يدي إلى عيني أبي المفتوحتين. أغمضتهما. هَمت دمعة مِن عيني وانصرفت تاركًا الدموع لأمي وإخوتي ومَن دخل الغرفة من أبناء عائلتي الكبيرة. خرجت إلى الشرفة وأنا أفكّر في أبي وفيما قاله لي انا ابنه البكر. لقد عاش أبي أكثر من مئة عام، وكان واحدًا من مُعمّري عائلتنا التفاحيين المحبوبين وأكاد أقول المخلّدين. هل أرادني أبي أن اعيش عمرًا مديدًا وعيشًا رغيدًا كما عاش هو؟ هل أرادني أن اتابع منطلقًا على آثاره الرائعة المشهود لها؟ ثم هل أراد أن يكشف لي عن سرّ حياته وروعته؟ ربّما عليّ ألا أنفي جانبًا من هذه الاحتمالات. ففيما يتعلّق بطول العُمر والوراثة بإمكاني أن أجيب بالإيجاب، فكلّ أب يُريد لابنه، خاصة بكره أن يعيش طويلًا وأن يكون صورةً منه، مِن انجازاته وسعاداته. هنا استوقفني احتمال أن يكون أبي أراد أن يكشف عن سر عيشه الهنئ المريء.. فما هو هذا السر؟ أما كان عليك أن تعيش يا أبي لحظة أخرى كي تخبرني بذلك السرّ، فتوفّر عليّ مُعاناة الاكتشاف المُضني والبحث المُعني؟ يا الله كم هي هذه الحياة قاسية.. تعطينا كلّ شيء وتحرمنا من شيء واحد أو أكثر فنقضي أعمارنا نبحث عنه، لنجده فيعيد إلينا توازننا المُفتقد.. او نفتقده طول العمر فنعيش في أم المتاهات.

تحرّكت في الشرفة رائحًا غاديًا. أرسلت نظراتي المُتمعّنة في كروم التفاح الممتدّة قُبالة بيتنا. كان الليل قد شرع في الهبوط. رويدًا رويدًا، حتى ناست عيون الغابات أو كادت أن تنام. الحّ عليّ سر تفاحة أبي، فخرجت مِن بيتنا الفاره الكبير، فيما جاء الرجال.. دخلوا بيتنا. أرسلت نظراتي إليهم يدخلون واحدًا مقتفيًا اثر سابقه.. ومضيت طائرًا باتجاه كروم التفاح الممتدة أمامي، الغناء في روحي وقلبي.

مشيت ومشيت ومشيت.. حتى تعبت كنت حينها قد توقّفت قُبالة شجرة تفاح صبيّة غضّة الاهاب، كانت الشجرة منخفضة تكاد تلامس ثمارُها التراب ولما ترتفع بعد فروعها في السماء عاليًا. درت حولها دورة وأخرى ثانية.. في الدورة الثالثة مالت علي غصونها مادّة إليّ حبّاتها هدية إلهية.. هبة من الله.. فما كان منّي إلا تناولت إحدى الحبّات بيدي وأنا أتساءل.. ترى هل سيمنحني التفاح سرّه.. مثلما حدث مع آبائي الميامين وأجدادي.. خاصة المحظوظين؟ وبما أنه لم يكن أمامي مِن مفرّ غير أن أخوض التجربة كما خاضها الاجداد والآباء، كلّ منهم في أعقاب الآخر، فقد قرّرت أن اتلهّى بقضم تلك التفاحة الموهوبة لي.. فمن يعلم ربّما وفقت من أولى محاولاتي.. أما.. واذا لم أوفق.. فإنني سأنفّذ التجربة وفق طريقة العبقري الايطالي الفخم ليوناردو دي فنشي.. سأشرع في العمل أولًا بعده سيكون حظّي واحدًا من اثنين. إما. التوفيق وإما الفشل؟ وإذا متّ؟ سألت نفسي وتابعت مجيبًا إياها: إن يقين التفاح أفضل من الشكوك القاتلة. هكذا تجرأت وتابعت قضم تفاحتي الاولى.. في عالم التجربة. لا أنكر أن طعمها كان حامضًا قليلًا.. بل إنه مال إلى نوع من المزاز. ومع هذا قلت لنفسي أنا الآن في امتحان العمر، فإما القين البديع وإما الشكّ المُريع. هكذا وجدت نفسي أخرج عن طوري لينتابني شعور أنني أعيش على حافة عالم، فإما أغادر إليه وإما أعود إلى عالم الآباء والاجداد.. لمواصلة ما عاشه أبطال عائلتنا.. ناسين مصروعيهم التفاحيين مِن الآباء والاحفاد. لا أدري كم تناولت من التفاح، وكم مضى عليّ من الوقت. وغبت عن الوجود. عندما عدت وفتحت عينيّ كأنما أنا اكتشف الحياة مجددًا، رأيت وجه أمي الحبيب يُطلّ عليّ من قريب. ما إن رأتني أمي افتح عينيّ حتى سرت ابتسامة غامضة في محياها: ما كان عليك أن تأكل كلّ هذا الكمّ الهائل من التفاح الفجّ يا ولدي.. أردت أن اهتف بها بما لديّ من رغبة في اكتشاف ذلك السرّ التفاحيّ الذي أعجز والدي الموت عن الافضاء إلي به، إلا أنها وضعت يدها على فمي مانعة إياي من الكلام وهي تهتف بي: المهم أنك نجوت وعدت إلى الحياة.. انتبه يا بُنيّ.. أرجوك أن تنتبه لنوع التفّاح الذي تتناوله.. وألا تبالغ في عشوائيتك في تناوله.. حبّة واحدة تُغني عن شجرة مثقلة الاغصان تغني عن العشرات والمئات من الثمرات..

اراحتني كلمات أمي قليلًا.. بالضبط مثلما أراحتها عودتي إلى الحياة، وعدنا إلى بيتنا الكبير.. في الايام التالية حاولت أن أنسى كلمات أبي في لحظاته الاخيرة، خاصة تلك التي تتعلّق بعشاق التفاح من عائلتنا التفاحية، ومصروعيهم، غير أنها ما لبثت أن الحت عليّ، فهل أبقى خارج التجربة فأسلّم تسليمًا أشبه بالموت؟ أم أقتحمها فافوز بتلك اللذات التي فاز بها شعراؤنا وحكماؤنا المقدامون الجسورون؟.. استفزني هذا التفكير، فاندفعت خارجًا من بيتنا الفاره الكبير "، ما قيمة الحياة وأنا لا أعرف أسرار تفاحها وعيشها؟"، سألت نفسي وأنا اندفع أكثر بعيدًا عن بيتنا وقريبًا من تذكّر والدي بإطلالته الشبابية الابدية.. مشيت في كروم التفاح. اتنقّل مِن كرم إلى كرم، مثلما يتنقل غزال نافر من شجرة إلى شجرة، وبقيت ماشيًا إلى أن أخذ منّي التعب مأخذه، فنمتُ تحت شجرة تفّاح عالية مُرتفعة.. جذورها قريبة منّي في الارض.. وثمارها تتألق مثل الكواكب الدرّية في السموات العليين.. تُرى هل أحببتني أيتها الشجرة الحنون الغالية؟ أشعر بهذا.. الشجرة تمدّ لي إحدى ثمارها، تضعها في فمي وما إن يبتلع فمي نصف تلك الثمرة حتى تجود علي بنصفها التالي الآخر.. فأتناوله كأنما أنا أول مَن تناول التفّاح في كوننا الفسيح.. مترامي الاطراف هذا.. شعور بالرضا ينتابني.. هل أحتاج إلى تفاحة أخرى؟ وقبل أن تجود عليّ تلك الشجرة السخيّة المعطاء بحبّة أخرى.. أشعر بالشبع.. فازورُّ بوجهي هاربًا من حلمي إلى يقظتي.. شاعرًا أنني عثرت أخيرًا على تفاحة مشابهة لتفاحة آبائي وأجدادي.. لكن هل عثرت عليها حقًا؟..

الآن وقد تردّدت العشرات والمئات والالاف من المرات على تلك الشجرة.. نمت في حضنها وحلمت بكواكبها الدُرّية المتألقة في السماوات العليين.. وقارب عمري المائة.. أشعر أنني عرفتُ سرَّ تفاحة أبي.. آه.. ما أحلى هذا الشعور.. أن نعرف السرّ ولا نعرفه في الآن ذاته..

***

قصة: ناجي ظاهر

لون ذهبيّ

أوراق الأشجار الصفراء تناثرت في الهواء

كان سرب السمك الذهبي يتراقص في البحيرة

**

غزّة هيروشيما

نطقت عن غزّة هيروشيما

ناكازاكي

كانت شاهدة العصر

**

الموت

أين سيمضي الموت

ولا عنوان له في أيّ مكان.

بندقية أبي القديمة لصقت  على الحائط جنب قرون غزال

بينهما نسجت عنكبوت عشا

**

الطالع

استفاق من غيبوبته ليجد أنّه فقد يديه

كانت قارئة الكف  تقرأ يده كلما جاء إلى الحارة مجازا من الحرب

***

قصي الشيخ عسكر

وَقَدْ  يَسْطُو عَلَى الأَشْعارِ لِصُّ

إِذا أَغْـــواهُ بِــالإِعْجابِ نَــصٌ

*

فَــيَــنْــحَلُهُ وَيَــنْــسُبُهُ سَــرِيــعاً

كَــأَنَّ الــشِّعْرَ مَــغْنَمَةٌ وَقَــنْصُ

*

وَيَــفْعَلُ ذاكَ مُــخْتَتِلٌ مَرِيضٌ

تَــهيجُ  بــنَفْسِهِ عُــقَدٌ وَ نَــقْصُ

*

فــلَمْ يُــتْقِنْ مِنَ الأَشْعارِ بَحْرًا

وَكُــلُّ كَــلامِهِ خَــرْطٌ وخَبْصُ

*

فَـــإِنَّ الــشِّــعْرَ مَــوْهِبَةٌ وَفَــنٌّ

كَــلَامٌ  قَــيِّمٌ مَــا فِــيهِ رُخْــصٌ

*

وَبَــحْرُ الــشِّعْرِ لُــجِّيٌّ عَــميق

وَإِنَّ الــشِّعْرَ إِبْــحارٌ وَغَــوْصٌ

*

وَباتَ  اللِّصُّ أَهْلَ الدَّارِ يَشْكُو

وَيَــبْدُرُ مِــنْهُ إِصْرارٌ وَحِرْصُ

*

فَــكَمْ قَدَحَ الْعَواهِرُ فِي عَفِيفٍ

وَعابَ على بَهِيِّ الوَجْهِ بُرْصُ

*

لِــنَلْفِظْ، كُــلَّ مُــخْتَلِسٍ دَعِــيٍّ

يُــخالِجُ فِــكْرَهُ هَوَسٌ وَرَعْصُ

*

إِذا عَــصَفَتْ رِياحُ الْحَقِّ يَوْماً

فَلَنْ يقوى على الأَرْياحِ دِعْصُ

*

رِداءُ  الــشِّعْرِ لَــنْ يَــبْقى نَقِيًّا

إِذا  مـــا مَــسَّهُ دَرَنٌ وَعَــفْصُ

***

عـبد الناصر عليوي الــعــبيدي

لو ينحني شجر الحلم قليلا

كما الظل على الجدار

كما حبات الهواء

في صمتك الرهيب

لأختبيء من عيون السؤال

من النفس المتقطع على أبواب الشفاه

لأحملك لغزا مفتوحا على آخره

يكشف مدى فشلي

في استيعاب ما يقذفه الغموض

من شظايا نار متقدة

في جب أمس غاب

في تنهدات الشراشف البيضاء

في أرق الليالي ....وظلام الغمام

وما تبقى من الرؤى على قارعة الشحوب

أنا الآن.. وأنقاض الانتظارالمهزوم

بصمة.. على شاطيء مهجور

عيناي محطة لعودة

قد تكون.. وقد لا تكون

وحده السراب هنا

دليل العتمات المفتوحة على مصراعيها

لريح الهواجس المسترسلة

مازالت دمعاتي

تمشط جدائل الذكريات القادمة

تنسجها شموسا بحجم العيون

تعويذة لفرحة مؤجلة

غرست منذ الولادة في مهد الأمنيات

هكذا أمشي كما لو أني

أرتدي جبال الذهول

موثوقة بخيوط حلم

إلى جدع تمن لا يهتز ....

أجمع أخبار الصمت

في شوارع عمر بلا سنوات

أستشرف غدالا يأتي

حلق تنهيدة لم تعد تجدي

أمشي دون عناء تحت السهر

تقودني عيون الأرق المتآمر مع الوقت

فكيف أدخل مغارة اللامبالاة

واللاجدوى تفرض الحصار ؟

*

لم تحدثني أمي يوما عن وباء النسيان

حين ينتهز القلب كومضة برق

تخترق الذكرى دون استئذان

على الطرف الآخر.. الآن..

دمعات تحصي الأنفاس

ودقات الفرح الغائب

فتنزف العيون احمرارا

كشفق ذبيح ينسج المساءات أشواقا

غارقة في أدغال الحزن

كل شيء انتهى على عجل

رهافة الإحساس

مضاجعة وهم  يطرب للصدى

عيون ماء  غنت الشعر

على مسرح الفوضى

حتى غدوت زهرة برية

ذابت في هجير العشق

أنا اليوم انحني على ضعفي

التهم سلاميات مواجعي

أصوب فيالقي نحو صوت غائم

لم يتمكن من قصم ظهر المسافات

في دخان احتراقي....أسبح

حتى آخر معنى للصبر؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

حين يركض العمر

ويتغاضى

عن جزع الطريق

الذي يدرك

آخر المطاف

وعن بكاء

ذراع الخنجر

التي حولت

شقوق الأرض

إلى مقابر

تخاطب النسيان

بالذكرى

فيمشي مذعوراً

شارد الفكر

يقلب النظر

بين

الأسماء والتواريخ

يحسب الفارق

الذي تعرفه كل

الروزنامات

بين

معضلةالميلاد

و

حتمية الموت

وكم تحفظه

طازجاً كالفكرة في

رأس خاوية إلا من برد

يا إنسان في زمن الحرب

تدور العجلة

عكس حروف البدء

فتصبح كل الطرق

رهائن منسية

خلف البوابات

تلد الأشجار

النايات

تتمايل من وجعٍ

الريحُ تمر

و

اللحن حزين جارح

يا إنسان في زمن الحرب

ينسى الوقت

تفاصيل الأحياء

يصلبنا أرقاماً

في لائحة المذعورين

المزروعين كأشجار الشوك

هنا وهناك

وعلى خاصرة الهامش

نتحول تعباً يكتب

على جوع نصبر

على قهر نصبر

على مرض

لا يتركنا

ولا يأخذنا نصبر

على حلم مبتور

بأيدِ القتلة

نغفو

وعلى جرحٍ يركضُ

باقي العمر

ونحن نكابر ...!

***

أريج محمد

13/8/2024

 

عندما يستيقظ قوس قزح

ويفرك عينيه البنفسجيتين

وتسقط الوانه الزاهية

يتسرب المطر الى مخادع الغمام

2

قصيدة كأنها وتر مشدود

لم يعد يتحمله العود

نبراته مرتبكة

تلفظ انفاسها كأنها سيمفونية لم تتم

او قصيدة لم تكتب بعد

عن شتات الاغتراب

تنام في ظل اعشاش العناكب

3

في زمان التفاهة والعبثية

ثمة شعراء يتسكعون

في مراعي لاغنام جاهزة للذبح

كانهم تماسيح تسخر من ابتسامة الموناليزا

4

في جيبي جواز سفر غير مختوم

وتحت ابطي خريطة عربية مبتورة الاطراف

وهويتي صورة متلاشية لمجهول تاءه

4

لقد وضعوا على شاهدة قبري

كفنا مستعملا

وحفنة من ديدان الارض

وبرادات موتى

وملكان

5

لشعراء الحانات

انجاز عظيم

ابتكرته الثمالة

اسمه القيء النتن

***

بن يونس ماجن

 

بلى، بلى

فالطائر الأزرق،

هذا الشعب المُجنّح،

ليس مستعدًّا للنسيان

يهرب من الحشود

يتحاشى الاحتفالات

ها هو يطير

ويبتعد في تحليقه

دائماً

بعيدًا بعيدًا

بينما تُوَجَّه له اتهامات

الارتفاع !

*

إنّه خروج حملة

ضدّ أحقادٍ تلوح في أفق

أدغالِ المتوحشين

*

فوق

الطيارين والأسلحة

فوق

الدخان والدموع

فوق

الخُطب والأبواق

فوق

الصخب الأولمبي

*

إنّه بعثةُ استكشاف

في رؤوس أطفال

مفصولةٍ عن الأجساد

*

بعثةٌ تقتفي آثار قلوبهم

النُّسْغُ فيها وطلقاتٌ

من أجنحةٍ وآفاقِ المستقبل

*

مهلًا، مهلًا

فالطائر الأزرق

كما هو نداء الأرض

ترجع أصداؤه

في جذور الحياة

ضدّ أنغام الموت الخادعة

واغراءات الرقص

في الخُطب السامّة

*

الطائر الأزرق

لا تعوّلوا على إغرائه

فهو غير مستعِدّ لاستعطاف

غمْز النظر المثقوب

في القمح المفتول

ولا خشونة أصوات موسيقى

تقذفها بعض الحبّات المسمومة

*

فقد راوده استماعُه النافذ

لِقهقهات النار ودماء الذكرى

بهواجس الزمن

نحّاتِ العقاب

سيفٍ مسلول يتوعّد المستوطنين

وسُرّاق المعبد

*

فهاهي الشعلةُ

شراراتٍ وارتعاشات

وها هي ذاكرتها

تنكسر

وها هو إرثها

يحترق

*

لكنّ الشعلة تقاوم

فواجبها النجاة

من أجل غزة

هذه الإنسانية الممزَّقة

غزة غزة غزة

مخنوقة تبكي

آمالُها

الخيانات

*

تسعى الشعلة

جاهدة

للتذكير بجذورها السماوية

فتوقِظ ذكرى غزة

علّةَ وجودها

بينما هم

يرغمونها على أن تكون قناعًا

لِما تعجز الكلمات عن تسميته

*

اُصمُتوا! اُترُكوهم يَقتلون! اُصمُتوا

مرحى مرحى بالابادة! النصر لِلسُّقوط!

لم تشبع الهمجية بعدُ من وحشيتها …

*

وترفع الشعلة،

جمرةً مخنوقة،

صوتَها الحزين بنشيد

يردّد صداه نحيبُ الكون

*

اِستمعوا، اِستمعوا

إلى هذا البكاء،

من ينوح؟

أليست أرواحنا

ممزقة بصمت

الأنظمة المجرمة؟

*

أنظروا، أنظروا هناك

هل ترونه؟

إنه الطائر الأزرق

دائما في السماء

يترقب الأعماق البعيدة

حيث مرقد الشهداء

بحثًا عن غد

تطوّر منذ زمان سحيق

واعدٍ بفلسطين

قَدَر شعلة

لن ترتعد أبدًا

أمام ثقب الغرب السوداء

المتعطّش لدماء الأطفال والنساء

***

حمّودان عبد الواحد

 

انتظر الفجر يأتي

وأترقب خيط النور

على رأس السروة الباسقة..

جاء الفجر

وترقب قدوم الظهيرة الساخنة

انتظر قدوم الغداء

وجاء الغداء يسد الرمق

ثم انتظر العصر

وراح يزحف مع هبوط ضوء الشمس

وانتظر ما وراء العشاء

بعدها ، انتظر قدوم الليل

ونام تعباً من الانتظار

وقبل أن ينام

أنتظر الفجر يأتي

وجاء الفجر

وظل ينتظر وينتظر وينتظر

حلقة مفرغة

هي حلزون الإنتظار

وبين إنتظار وإنتظار

أدرك أن كل الانتظارات

قد تبخرن

وتطايرن كالغبار

وأصبحن غباراً في الماضي

لا أحد يحسه أو يتلمسه أو يراه

إنه مجرد غبار في الذاكرة

ليس له وجود

كل ما كان في الأمس تحول إلى ماض

والماضي لا أحد يمسك خيوطه

إنه مجرد خيالات تعلقن في الذاكرة

تبهت صورهن وتتلاشى تدريجياً

ثم تتراكم عليها صور أخرى وأخرى

تبهت وتتهرأ وتتلاشى

على خطى حلزون الحلقة المفرغة

في دورة الغبار

التي يأكلها الزمن القادم

زمن مضى، فأمسى غباراً

وزمن حاضر يبهت، ليمسي غباراً

وزمن لم يولد بعد،

في الإنتظار..!!

***

د. جودت صالح

14/8/2024

..............................

(*) في ضوء فلسفة الوجود والعدم للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر

مرآةٌ في غُرْفَةِ فُنْدُقْ

تُبْصِرُ أشخاصاً تَجْهلُهُمْ

لا تدري مِنْ أينَ أَتَوها

أو  مِنْ أينَ يجيئونْ

لا تعرفُ مَقْصَدَهُمْ

أو  كَمْ سيُقِيمُونْ

**

مُنْذُ سِنِينٍ

كانَتْ عاملَةٌ في الفُنْدُقِ

تأتي عِنْدَ الظُّهْرِ

و لا تَدْرِي

مَنْ سَكَنَ الغُرْفَةَ، أو يَسْكُنُها

لكِنَّ المِرآةْ

تبقى صامتةً تُبْصِرُ  ما يجري

عاملَةُ الفُنْدُقِ تَرْقَبُها

تمضي الأيّامُ فتَعْشَقُها

تَتَمَرّى فيها،تَسْأَلُها

عمّا رَصَدَتْ في ماضِيها،

أو  حاضِرِها

و المرآةْ

تبقى صامتةً

صَمْتَ الأمواتْ

**

يَئِسَتْ عاملَةُ الفُنْدُقِ، قالتْ

إنّ المرآةْ

لا  تُسْمِعُنِي

ما يُفْرِحُنِي

فلماذا لا أتخيّلُ وحدي

أشياءً ممّا شَهِدَتْ

بَدَأَتْ تَتَوَهّمُ أحْلاماً

و تُطَرِّزُ  أوْهاماً

تتخيّلُ شيئاً ممّا عَرَفَتْ

لكِنْ فَشَلَتْ

والمرآةْ

ضَحِكَتْ، ضَحِكَتْ، ضَحِكَتْ ...

صَرَخَتْ، ثُمَّ بَكَتْ

***

شعر: خالد الحلّي

قصص قصيرة جداً

مَكبوس

لا أكادُ أجزمُ بأنَّ الرؤيا في المنام تتغيَّر مجرياتها وتفاسيرها حسب المكان، ففي  بيتٍ قديمٍ البناء، صغيرِ المساحة، لا يكفي عائلتنا بتاتاً، كانت أحلامي ورديَّة، عجبي أن يتكرّرَ فيها أنَّنا نسكن  بيتاً جديداً كبيراً، فبالإضافة إلى غرفة النوم، لديَّ غرفةُ مكتب، سأصبح بتواجدي المُنتظم فيها مؤدّياً لطقوس الكاتب المحترف .

تحقَّق الحلم، وانتقلنا إلى بيتٍ جديد. كان أول ما تبادرَ في ذهني حين أغفو غفوتي الأولى في هذا البيت، أن أحلامي الملوَّنة، هنا، ستحلِّقُ بي إلى روضةٍ خضراء، روضةِ مزهرةٍ بأجمل أنواع الورود، ومثمرة بأطيب أنواع الفواكه والخضراوات. وفيها بيتٌ ذو تصميمٍ معماريٍ باذخ، تتوّفر داخلهُ كلُّ وسائل الراحة.

ما حدثَ أنَّني كلَّما غفوتُ في مقامي الجديد، يزورني كابوسٌ لعين، فأفزّ من نومي مذعوراً، غرفة نومي الواسعةُ بدأت تتصاغرُ ... تتصاغر، حتى اصبح حجمها بحجم جسدي، وفراشي الوثير تحوَّلَ إلى ............

لا أستطيع نطقها لأنَّ الكابوسَ هجمَّ عليَّ من جديد، فأصبحتُ فاقدَ القدرةِ على كلِّ شيء. ثمّةَ صوتٌ يجاورني: لا تحلم باتّساع، لا تطمعْ كثيراً، الطيُّبون واقعهم مزرٍ، هو خيّاطُ أحلامهم وكوابيسهم .

**

عينُ الموت

لا أحدَ يعرفُ ماذا كانِ في خلدِ ممثّلنا الراحل، وهو يؤدّي دورهُ أمام الكاميرا، كان يتحدَّثُ عن الموت مع ممثلٍ آخر، كان يسألهُ، عينٌ عليه، وعينٌ على الكاميرا، (ماذا رأيت في الموت؟)، إذ ذاك ما الذي أوحى له بأن عينَ الكاميرا هي عينُ الموت، وكأنها تتحدّى كلماته، وبأنها ستنقضُّ عليه، فسقطَ على الأرضِ جثةً هامدة !

**

تشييع نهر

كان شديدَ الرغبةِ في تعلّم السّباحة، ودَّ لو تعلَّمها منذ الصِّغر، والآن، وقد مضى به قطارُ العمر إلى مشارفَ الكهولة، أدركَ أنَّ فرصةَ عبوره نهرَ الفرات في مدينتهِ عوماً، قد غادرتهُ إلى غير رجعة، مردِّداً  مقولة.. إنَّ التعلمَ في الصغر كالنقشِ في الحَجر.

هواهُ كبيرٌ  في ممارسةِ السباحة، رغبةً في فكِّ أسارِ يومياته من روتينها القاتل، فالعومُ في نهرٍ جارٍ يمنحهُ الطاقةُ على التجدُّد، فكلُّ دقيقةِ عومٍ هي غسيلُ مللهِ وكآبتهِ في مياهٍ جديدة، غير مياهِ الدقيقة السابقة، فقد قالَ الفيلسوف أوغستين؛ إنّك لا تنزلُ النّهرَ مرَّتين.

في يومٍ غارب، مشى في شوارعَ خاوية، إلى النهر، الذي طالما حلمَ في السباحة به، صاحَ ضاحكاً: تحقَّق حُلمي في عبور النهر بعد عشرات السنين.

لكنَّها ضحكةٌ دامعة، فقد عبرَ النهرَ مشياً، كما السائرُ في جنازةِ نهرٍ كبير، تحملُها ما لا يُعَدُّ من أذرعِ الحالمينَ بسباحتهِ يوماً !!

**

بابٌ ونافذة

كانَ يحلمُ بها دائماً، تزورُه في بيتها القديم، وليس بيتاً آخر، كانت لا تعاتبهُ على عدم زيارتهِ لها في مكانها الجديد، بل تتواشجُ تفاصيل الزيارة مع أمورٍ حياتيَّةٍ شتّى، كأنَّ وحشةَ هذا المكان لا تُشغلُها كثيراً.. ويخجلُ من تلقاءِ ذاتهِ إزاءَ عدم زيارتها هناك. فقط مرَّةً واحدة.. لم تتكرَّرْ..عتبٌ دفينٌ في داخله يتولّد، عندما يستيقظُ متذّكراً تفاصيلَ ضبابيَّةً عن تلك الأحلام.

لكنَّهُ في أعماق ذاته يتمنّى ألاّ يحلمَ أنَّهُ زائرُها المتوَّحدُ في ذلك المكانِ الموحشِ المعتم، ففي حالتها زائرةً لبيتها القديم، تتحرَّكُ بحيويَّة، رغمَ كبرِ سنِّها وجلالةِ قدرِها لدى الجميع. واعتادَ رؤيتها تمارس ما ألفَ منها من أعمالِ البيت، من دون تحسّبٍ أنَّها سترحلُ إلى ذلك المكان الضيق.

لكنّهُ يخشى ألاّ يستطيعَ ممارسةَ أيِّ شيءٍ في مكانٍ تزدادُ توصيفاتهُ قتامةً وهموداً. قد يستطيعُ في الليلةِ الأولى أن يرسمَ باباً ونافذة.. ولكن في الثانية.. يشيّعهُ القلمُ والورقةُ من مدادِ وحشتهِ الهشَّةِ إلى العناوين الشاحبةِ لصحف الغد!! !

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

لقد أقبل الشتاء إلينا باكرًا، وكان الجو باردًا، حتى إن النَفَسَ التي خرجت من أفواهنا، كانت مجرد مليمترات قبل أن تتجمد. مشينا في مساحة بيضاء ناصعة، وغطى الثلج أجسادنا، حتى لم يعد من الممكن تمييزنا، بَدَونا كأشباح تتحرك في وحشة الأرض وصمتها. قوة مسلحة تخترق طرقًا صخرية، لا حياة فيها، عالَمًا ساكنًا كأنه أفق مجهول الأبعاد.

ساد الصمت في كل مكان، ولم نفتح فمنا بكلمة واحدة، لئلا تتجمد أنفاسنا، وتفسد جهودنا، وتقودنا إلى الهلاك، والضلال. في هذه اللحظة تذكرت نكتة عبد الله آغا، عندما كان يتحدث عن رحلته مع بعض مقاتليهم، في أجواء باردة تحت الصفر. قال: إنه نادى على مقاتليهم من بيشمرگة حزبهم:

ـ حمه، نوري، صادق… ولكن لم يرد أحد منهم.

وأضاف بتواضع:

ـ وحالما وصلنا الى أحد الكهوف، وأشرقت الشمس، وإذا بصوت يصدح في الهواء؛ يردد الأسماء: حمه، نوري، صادق…

عندما سئل عن مصدر الصوت، أجاب بثقة كبيرة:

ـ عندما ناديتهم في المرة الاولى، بدا صوتي متجمدًا من قسوة البرد، وما إن بزغت الشمس، حتى ذاب حرارتها كلماتي وأصبحت مسموعة.

لم يكن في حساباتنا أي شعور بالتسلية أو قضاء وقت ممتع، فهطول الثلج بهذه الغزارة يعد عائقًا حقيقيًا في مسيرتنا الطويلة، ثم إن الرياح السامة في هذا البرد القارس كانت تصفع وجوهنا، وتمر عبر مسامات قُفازاتنا الرقيقة، كأنها سكاكين قاصِلة تترك شروخًا خلفها.

وفي المنحدرات الحادة تنفث الريح الثلوج؛ فتتطاير باتجاه الطريق الضيق الواقع بين السفوح العالية، والهاوية السحيقة؛ فتخفي الأرض الصلبة عن الأنظار. كان هذا المقدار المتراكم على الأرض كافيًا لمواصلة المشي، وتحريك القدمين بخطوات متقنة لتتناغم مع استقبال الأرض لها. كلما استمر تساقط الثلوج، ونفخ الريح لها من المنحدرات المطلة على الطريق، وتجمعها أكوامًا؛ أثقلت حركة القدمين من التقدم بسهولة؛ لأنهما تغوصان فيها.

لو كانت البغال معنا في رحلتنا؛ ليسرت علينا مشقة البحث، واتخاذ الحذر؛ لأنها متمرسة في تناغمها مع الأرض فضلًا على ذلك، فهي تمشي على أربع، وقادرة على فتح الطريق، مما تفسح لنا الفرصة في تتبع آثار حوافرها؛ والأنكى من ذلك، هو ما نحمله من حقائب على ظهورنا، وعلى أكتافنا أسلحتنا الشخصية، وحول بطوننا مخازن الرصاص، وهذا ما يزيد الطين بلة.

تلك الإرادة الفذة كانت في العمق، صفة الأنصار، لا تستسلم للموت ببساطة، تجده على الرغْم من هيجان العواصف، وضراوة الأعاصير في كنف الثلوج، والصقيع منتصبًا بقامته العمودية متحديًا الأهوال الشاقة.

***

كفاح الزهاوي

مقطع من روايتي القادمة

أرغفةٌ حائِرةٌ أضاعَت النَّار

كلماتٌ تغرقُ في حِبرِها

هرمَّت  الشوارع

تاهَ الوَردُ...عن نــــــــداه

في خُطوطِ الذَّاكرة

أميالٌ حلم

تنبت على ضفتيك

وبيني وبينَك

قوس قُزَح

وصفصافة حنين

*

شفتاي نايات ايلول

تغفو في عيني عصفور

تنتظر المطـر

ورَوحِي تَجثو

على أنفاسِكَ المُتعَبة

تُبَلِل رِيقَك

تُراقِبُك

كيفَ تلمِسُ طرفَ المَوت

وتُحيكُهُ  يَاسَمينَاً أبَدِيا

*

اختبئُ بينَ

آهاتِ الرَّحيل

وغَفوَةِ الريـح

غداً يزهِرُ اللَّيلُ

وقـد  يأتي بِعاصِفَة

بعدَ السَّيل

تُرى...... ما لونُ عَينَيك !.

***

سلوى فرح - كندا

 

الحب

لا يحتمل الصراخ

هو طفل

لا يكبر إلا

في شفاه الهدوء

قبلة حينا

وحينا همسَة

*

الحب

مهنة ليل

وعادات حزن

جميل تهوي

بالنفس إلى نفسها

لتغدو للروح روحا

تمضي بها أُنْسَا

*

الحب

أغنية

تنأى وتدنو

بالساهرين

وتلقي العشاق

رعشة لينتشي

الحضن بعد لمسَة

*

الحب

حين تملأ صورتَها

عليك المساء

وتنصرف منك

إليها غائبا

لِتُشفي نظرة

وتُبعث حِسَا

*

الحب

كل ما لم تقله

لها بعد

وما لن تقل

وكيف القول

والنطق عند

الجمال ينسَى

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: كي أستريح من أي عطب رومانسي

 

في نصوص اليوم