نصوص أدبية

نصوص أدبية

احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.

- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.

شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.

كانت تعبر زقاقا مظلما حين تعثرت بذيل فستانها الأبيض. أمسكت يد بمعصمها. يد باردة تتعرق، بينما حر الأنفاس يدنو من رقبتها.  تسارعت دقات قلبها وهي تركض في غير اتجاه ثم تدلف إلى مقهى بوراس. تتعالى الزغاريد وإيقاع الدف. يد مخضبة بالحناء تلامس بطنها المنتفخ. مهلا، ليست حناء بل دما.. دم؟ انتفضت من نومها فارتخت يد باردة.

رحل!

على حجرها تهدهد الصبي لينام، وتبحث سبل التخلص من عمه الجلف. طلبها للزواج فرفضت. راودها فتمنعت، وصاحت منذرة بفضح سلالة ابن الحرام الذي يأكل لحم أخيه ميتا.

- الولية مجنونة!

وفي مقهى بوراس أسند ادعاءه بضائقة طوقت عنق والدها بحبال الديون. إنهم مجانين! غير أنها لم تكترث. في حضنها قرة عين سيكون عزاء الحاضر، وثمرة صبرها العلقمي. لن يكون لها شريك فيه. هو ظلها وسندها، وأمنية كل أرملة صغيرة في مهب الريح!

كبر قرة العين واشتد عوده. لا يثير وساوسها إلا حرصه على أن يجالس عمه في مقهى بوراس. في النهاية هو عمه، والظفر لا يطلع من اللحم. أقنعت نفسها بأن الزمن يسدد بصيرة الغافل، ولا يقطع حبل القرابة، ليجد المرء يوما من يهيل عليه التراب، ويغفر له زلاته. بيد أن الزمن كان له رأي آخر!

تمددت على الفراش بصعوبة، بينما أسرعت الجارة لوضع جبيرة على الكاحل ولفه برباط محكم. غشت عينيها سحابة من دمع خفيف لكنها تكابر.

الولد سر أبيه، وطيفه الحاضر كلما استبد بها القلق. نظراته، وشروده المستمر كأنه يلتمس في أحلام اليقظة بابا سحريا. جل تصرفاته تشي بأنه هو! حتى نشوة الكيف سرت إليه كاللعنة. جذبته يومها من ياقة قميصه، وألقت حقيبة الظهر قبل أن تركلها:

- إلى أية هاوية يجرك عمك الجلف هذه المرة؟

-الشمال.

- ولِم؟

- سأهاجر.

- إلى أين؟

- لا يهم، إذا أردت البقاء هنا مغروزة كالوتد فهذا شأنك!

يحلفون برأس وليهم المدفون أعلى التلة، أنهم لم يروا قط أشرس منها لما داهمت المقهى. جحظت أعينهم المحمرة، وطار من الأدمغة خدر الكيف وهم يتحاشون ضربة منجل أفلت منها بأعجوبة. ركضت خلفه فتعثرت بأذيال ثوبها. شدت على الكاحل بمنديل ثم واصلت مشيتها المكابرة.

لم يرها أحد بعد ذلك، لكنهم عاينوا زجاج قلب يتحطم!

***

حميد بن خيبش

يا زهرةً من عطر الكواكب،

يا ميسم الضوء في غيم الوجود،

يا من وُلدتِ من رحم الدعاء،

ومن حليب الكبرياء،

ومن سُهاد العيون المشرعةِ على فردوسٍ ،

بك إكتمل...

*

كوني مختلفة،

كالآية التي تنزلُ في صمتِ الجبل،

كالنهر الذي لا يثني عن مجراه سوى أمرِ السماء.

لا تُشبهيهنَّ، لا تكرري الملامح المستهلكة،

ولا تنقشي وجهكِ بكحلٍ ليس منكِ،

بل اصنعي من روحكِ مرآة،

ومن خطواتكِ قصيدة لا تُقرأ إلا بماء القلب.

*

كوني راقية،

لا كمن يتصنّعن الرقيّ في تفاصيل زائفة،

بل كمن تُنبت سنابلَ المعنى في أرضٍ قاحلة.

ارفعي حاجبَ الكبرياء لا استعلاءً،

بل تذكيراً بأنّكِ سيدةُ الوقت حين يتأخّر الزمن،

وأنّكِ حارسةُ الضوء في المدن المطفأة.

*

انثري الخير،

كأنّكِ النسيمُ العابرُ على جراحِ الغيم،

مرّي ولا تُفسدي،

امسحي على الجبين المكسور ولا تسألي،

فمن عرف العطاء لا ينتظر شكراً،

ومن أعطى النور لا يطلبُ إلا ألّا يُطفأ.

*

كوني الجمال،

لكن لا كما يراه العابرون في واجهات الزجاج،

بل كما تعرفه الأرض حين تُورق،

وكما تهمس به الأشجار للريح.

كوني جمالاً يليق بالصمت،

يليقُ بالمعرفة،

يليقُ بالقلب إذا صدق.

*

لا تكوني متاحة،

فالماء إن انسكب في كل وعاء فقد طعمه،

كوني كالنجم، بعيداً بما يكفي ليشتاق إليه العاشقون،

ومضيئةً بما يكفي ليدلّي بكِ المارقون طريقهم.

ضعي الكرامةَ تاجاً،

ولا تمضي إلا إن استحقّ الطريقُ خطوك.

*

كوني ملكة،

لكن لا تطلبي عرشاً من ذهب،

ابني عرشكِ من حكايا الأمهات،

من دعوات الجدّات،

كوني ملكةً تمشي في السوق بثوب القطن،

وفي قلبها قصورٌ من المعنى،

وعلى كتفها نسرٌ من الحلم.

*

كوني الأخلاق،

ولا تسمحي لظلّكِ أن يخطئ درب الشمس،

إن ناداكِ الليل، فقولي له: "أنا بنت الفجر"،

وإن راودكِ الطين، فاغسلي يديكِ بماء الزهر،

*

ولا تنسي،

أنّكِ أمانةُ الوجع،

ووصيّةُ أمٍّ كانت ترى فيكِ خلاصَ الحلم،

وبابَ النجاة من صخبِ العالم،

فلا تبيعي نقاءكِ بثمنٍ بخس،

ولا تمنحي قلبكِ لمن لا يعرفُ قراءةَ النبض.

*

يا ابنتي،

كوني كما تشائين،

لكن لا تنسي أن تكوني كما أرادكِ الله،

طاهرة، قويّة، سامقة،

جميلةٌ كالصلاة،

وأصيلةٌ كالحقيقة.

***

مجيدة محمدي - تونس

 

كديكِ الفجرِ للحُسنى ينادي

على عَربِ الحَواضِرِ والبَوادي

*

يؤذّنُ في رُبى يَمَنِ النشامى

فتنهدمُ القصورُ على النوادي

*

لِإحدى الحُسْنَييْنِ ألا هَلمّوا

فقد وَجَبَ التيمّمُ في العَتادِ

*

كأنّ بلالَ كَبّرَ مستعيدا

مُعلّقةَ الفوارسِ للجِيادِ

*

أَذانَ الحقِّ في أُذُنِ الصحارى

بِحيَّ على الصلاةِ معَ الجِهادِ

*

لكي يقْتصَّ من شرِّ البرايا

سكارى الوهْمِ في أرضِ المَعادِ

*

صدى صوتِ الشهامة أم صهيلٌ

يشقُّ الصمتَ في دُنيا العِبادِ

*

صَهيلٌ للأصائِلِ أم رُعودٌ

لِصولاتِ الخيولِ كما العَوادي

*

(لِيَحْيى) صوتُ من أحيا مراراً

بصَيصَ النارِ في قلبِ الرَمادِ

*

على جَبَلِ الرُماةِ أراهُ يعدوا

(سريعاً) في مقارعةِ الأعادي

*

أبى إلّا الوقوفَ مع اليتامى

قراراً دونَه خرطُ القَتادِ

*

يخطُّ إمامُهُ عهدَ الغيارى

ويسخرُ من سماسرةِ الحِيادِ

*

فصبراً صادقَ الوعْدِ المفدّى

وطوبى للتوهّجِ والعِنادِ

*

فَيا جَبَلاً تَألَّمَ للعَطاشى

سترويكَ الروائحُ والغَوادي

*

أميرَ البحرِ هل للبحرِ معنى

سوى الطوفانِ أو وَجَعِ النفادِ

*

فدى قَدَميْكَ حكّاماً تماهوا

مع الأعداءِ في أقصى البلادِ

***

د. مصطفى علي

 

في مدينة ألمانية صغيرة، كان أحمد يجلس في صفوف معهد لتعليم اللغة، محاولاً التأقلم مع عالمٍ جديدٍ ومختلف تماماً عن حياته السابقة. أمامه كانت تقف إلسا، معلمة اللغة، امرأة في الأربعينيات من عمرها، ملامحها مفعمةٌ بالرصانة والقوة، إلّا أنّ عينيها تحملان نظرة حذر، خاصةً عندما تتحدّث معه. وجهها الناعم، ذو الحمرة الطبيعية، وشفتاها الصغيرتان، تضفيان لمسةً رقيقةً إلى ملامحها، في حين كانت نظارتها المستديرة تخفي عينين رماديتين، لم تفقدا بريق الجِدّ الذي يظهر في محادثاتها. كان يشعر بأنها، على الرغم من صرامتها الظاهرية، تخفي شجناً عميقاً؛ لمس هذا من كلمات الشكر الرقيقة التي يتلقاها منها، وهو يساعدها، بعد انتهاء الحصص، في جمع أغراضها العديدة وحملها إلى سيارتها.

مع توالي الأسابيع، بدأ أحمد يلتقط إشاراتٍ صغيرة: طريقة تصحيحها لنطقه، إصرارها على نبرة الصوت الصحيحة، وكيف تأخذ ركناً هادئاً، بين الحصص، لتقرأ كتاباً. كان يلاحظها بصمت، بينما كانت تدرك نظراته دون أن تقول شيئاً. عيناها تظهران مزيجاً من الحذر والفضول.؛ شيءٌ ما، في هذا الرجل، يثير فضولها. ربما هي نظرته العميقة، أو ربما شروده الدائم، والطريقة التي يحاول بها إخفاء قصةٍ يبدو أنها أثقل من أن تُحمل. سألته ذات مرة وهما يخرجان من المعهد: "كم مضى على وجودك في ألمانيا؟". "عشرة أشهر"، أجابها وأكمل: "لكنها بطول سنين"

- وهل تعمل هنا؟

- ليس بعد، أحاول أ تقان اللغة أولاً، ثمّ البحث عن عملٍ مناسب. في سوريا كنت صحفياً، لكن هنا...

"لكن هنا أنت مجرّد لاجئ"، أكملت إلسا الجملة، ثم أضافت بسرعة: "آسفة، لم أقصد". ابتسم أحمد ابتسامةً خفيفةً: "لا، أنتِ محقّة. هناك كان لي مهنةٌ، هويةٌ، لغةٌ أتحدّث وأكتب بها. هنا، وبعد عشرة شهور، ما زلت أتعلّم كيف أقول للناس مرحبا". فتحت إلسا صندوق سيارتها، ووضع أحمد الأغراض بداخله. "شكراً لك"، قالت بابتسامةٍ مهذبة، "أراك في الدرس القادم". مضت إلسا بسيارتها، ومشى أحمد باتجاه محطة الترام، يستعيد كلمات إلسا، وأسئلتها، وسرح ذهنه بعيداً، إلى ليلةٍ مظلمةٍ قبل سنة... كان الظلام يخيم على نوافذ المدينة المقفلة، ولا يُسمع في الليل البهيم سوى أصوات القذائف ورشاشات البنادق التي لا تتوقف. وأحمد يراجع ذاكرة هاتفه المحمول، يتأكد أنه لم يبق فيها أي صورة، أو مقطع فيديو يو3ّق جرائم النظام، بعد أن جمع أوراقه وأقراصه المدمجة وأتلف ما يمكن أن يقع بين أيدي أجهزة الأمن؛ يسابق الزمن كي يحمل حقيبته الصغيرة ويتسلل، تحت عباءة الليل، هارباً، قبل أن يقبضوا عليه.

زوجته جيهان تقف عند باب الغرفة، وجهها شاحب كقطعة ورق تجيب عن طلبه الملحّ: "سمر، الأمر جدّي وخطير، مفترق طرق. وأنا أتمنى إن نكون دائماً معاً."

- ابق هنا إذن، أنت صحفيٌّ ناجح، وأنا مدرّسة في الجامعة. ما الذي ينقصنا لنكون في سعادة؟"

- سمر، لن نعيد الجدال، المسألة لم تعد مسألة مبدأ فقط، المسألة الآن مسألة واجب، واجب الأسرة تجاه أحد أفرادها، واجب الزوجة تجاه زوجها."

"لا أستطيع، أحمد. أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني ترك كل شيء؟"، نظرت إليه بعينين دامعتين واحتضنته بقوة: "اذهب أنت، وسألحق بك. لا يمكنني المغادرة الآن"

شعر أحمد، حينها، أن الطرق قد بدأت تفترق بينهما، وأن المسافة التي ستفصلهما قريباً قد تكون أكبر من مجرد حدود جغرافية.

مرّت شهور قاسية على أحمد بعد انتهاء الدروس، الأيام تشبه بعضها، والأمسيات طويلة يقضيها وحيداً، يفكّر في حياته السابقة، وما آلت إليه الأمور، يتحدّث بالساعات مع زوجته، يسألها عن قدومها، ويكون جوابها: "عندما يحين الأوان".

بعد خمسة أشهر، بدأت الحياة تفتح لأحمد طريقاً جديدةً. في أحد الأيام، تلقى اتصالاً غير متوقّع من إلسا، تخبره عن حاجة بلدية قريتها إلى عمّالٍ موسميين، وأنها ترى في هذه الفرصة بوابةً يدخل منها إلى أعماق اللغة ويكتسب مهاراتٍ تساعده على الانسجام في هذا العالم الجديد. اصطحبته بسيارتها، وساعدته في تقديم أوراق العمل، ولكن ما لم يخطر بباله، هي الدعوة التي تلقاها لقضاء مساء السبت في منزلها. في تلك الليلة، تلقّى رسالةً من زوجته، كانت رسالةً اعتيادية، مثل كلّ رسائلها اليومية، تسأله عن أحواله وتخبره عن حياتها، دون أي ذكرٍ للحاق به. قرأ الرسالة بنظرات باردة تشبه كلماتها الباردة، نظر إلى النجوم المنتشرة في السماء... "غداً سيبدأ عملٌ جديد، تجربةٌ جديدة، وفصلٌ جديدٌ من حياتي، وبعدها سأزور معلّمة اللغة في بيتها... أول إنسان يدعوني إلى بيته منذ أن قدمت إلى هنا"

كانت الطاولة الصغيرة معدّةً بعناية في شرفة المنزل المطلّة على حديقةٍ صغيرة، بتنسيقها البديع تعكس روح صاحبتها. لم يكن المشهد مجرّد دعوةٍ للعشاء، بل كان أشبه بمشهدٍ من روايةٍ تُكتب تفاصيلها بعناية. أحمد، الذي لم يتوقع يوماً مثل هذه اللحظة في حياته، وجد نفسه أمام تجربةٍ جديدة تحمل في طياتها مزيجاً من الحميمية والغرابة. إلسا، المرأة التي كانت دائمًا تحفظ مسافة بينها وبين الآخرين، فتحت له باباً إلى عالمها الخاص. أحضر معه باقة زهور وكتاباً عربياً مترجماً، هديّةً صغيرة، قال: "منزلك جميل وأنيق"، ابتسمت إلسا، وهي تضع الزهور في المزهرية: "تنازل عنه زوجي عند الانفصال" توقفت لحظة، ثمً تابعت: "المنزل كبير، لامرأةٍ وحيدة". "معك حق، المساحات الصغيرة تمنحنا شعوراً أكبر بالأمان"، أكّد أحمد كلامها، فنالت كلماته إعجابها، دون أن تظهره.

تناولا العشاء، وتحدّثا عن الطعام، والعادات المختلفة، والأماكن التي زارها، والكتب والموسيقى. قال لها مبتسماً: "في سوريا، الطعام هو إحدى الطرق لإظهار الحبّ والاهتمام"، ضحكت إلسا وقالت: "في ألمانيا أيضاً، في عائلتي على الأقل.  كانت جدتي تقول دائماً إن الطعام الجيد يفتح القلوب المغلقة"

كانت تلك الأمسية لحظةً فارقةً، مشهداً سيتردّد داخل أحمد كنبضٍ لا ينقطع. كانت المرأة التي رآها، بكل هذا الجمال والأناقة، غير إلسا معلمة اللغة. ظلّ يتذكر تفاصيلها الصغيرة؛ كيف تميل رأسها عندما تستمع باهتمام، ضحكتها الخافتة عندما يقول شيئاً مضحكاً، لمعان عينيها في ضوء الشموع. تساؤلات عديدة كانت تعصف برأسه: "ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟".

في أحد الأيام، بينما كان يعمل في حديقةٍ عامة، رنّ هاتفه. كان رقم سمر. "مرحباً،" أجاب، محاولاً إخفاء توتره. "أحمد، كيف حالك؟" جاء صوتها واضحاً رغم المسافة. "بخير، والحمد لله. كيف حالك أنت ووالدتك؟" "نحن بخير. والدتي تتحسن ببطء. أحمد... أردت أن أخبرك أنني حصلت على ترقيةٍ في الجامعة. أصبحت رئيسة القسم في الكلية". "مبارك،" قال أحمد، محاولاً أن يبدو متحمساً. "أنت تستحقّين ذلك." انتهت المكالمة وأغلقت الخط. لم يتسنّ له حتى أن يخبرها عن عمله. تنهّد، وارتعش لفكرةٍ مؤلمةٍ تركتها مكالمة زوجته المقتضبة. في خضمّ هذه المشاعر المتضاربة، وجد نفسه يفكّر في إلسا، في الراحة التي شعر بها في منزلها، في الطريقة التي تفهمه بها، رغم لغته الركيكة. كان يعلم أن هناك فجوةً كبيرةً بينهما: في العمر، في الثقافة، في الخلفية، لكن كان هناك أيضاً شيءٌ يجمعهما، شيءٌ أعمق من العلاقات العادية، وأعلى من الاختلافات الظاهرية. بفضولٍ وشوق، وشيءٍ من الشجاعة، كتب لها رسالةً نصّية: "أدعوك مساء السبت القادم للعشاء في مكان تختارينه. سكني المشترك لا يليق بضيفةٍ مميزةٍ مثلك". ضغط زرَّ الإرسال، ثم انتظر ردّها وكأنّ الزمن قد توقّف عند تلك اللحظة.

مع الوقت، بدأ حذر إلسا يلين؛ زياراته لها في البيت صارت أمراً اعتيادياً، رحلات السبت إلى المناطق القريبة أصبحت عادةً مشتركةً بينهما. كانا يستكشفان الغابات والمتاحف والحقول، يتحدثان عن الأدب والموسيقى، وعن تجارب حياتهما المختلفة. أحمد، الذي كان يشعر دائماً بالغربة، وجد في تلك اللحظات شيئًا يشبه الوطن. إلسا، المطلّقة منذ سنتين بعد زواجٍ دام عشرين عاماً، بدأت ترى فيه إنساناً لا يُمثّل تهديداً، بل إمكانيةً جديدةً للسعادة.

في إحدى رحلاتهما، قرّرا زيارة غابةٍ واسعة، أشجارها معمّرةٌ، تتشابك فروعها في الأعلى لتشكّل سقفاً أخضر كثيفاً. "هذه الغابة تذكّرني بحكايات الأطفال، كنت أتخيّل، دائماً، أنّ الساحرات والأقزام يختبئون بين هذه الأشجار"، قالت إلسا وهي تمشي بجانب أحمد على درب ضيق مغطّىً بأوراق الخريف. ضحك أحمد، وقال: "يبدو أن الخوف من المجهول شعورٌ إنساني مشترك". كانت السماء تتلبّد بالغيوم، وتحوّلت الرياح إلى عاصفة، وبدأ المطر ينهمر بغزارة. التجآ إلى جدارٍ حجريٍّ قديم، استند أحمد على الجدار، محدّقاً بإلسا، كان شعرها الأشقر ملتصقاً بوجهها، وعيناها تلمعان من الإثارة والخوف.  قال أحمد: "هذا يذكّرني بمشهدٍ من رواية فيوض الربيع[1]. كانا، أيضاً، في عمق الغابة حين فاجأتهما العاصفة، فالتجآ إلى الكهف[2]". نظرت إليه إلسا، وكأنها ترى شيئاً جديداً في عينيه: "وماذا حدث بعد ذلك؟" ابتسم أحمد ابتسامةً غامضة: "ستعرفين عندما تقرئين الرواية".

عند العودة، سألت إلسا فجأةً، وهي تتأمّل قوس قزح: "ماذا حدث بعد ذلك؟"، انتبهَ انها ما زالت تفكّر بتلك العاصفة، أجابها بكلمةٍ واحدة: "تبعها". "تبعها؟" همست لنفسها غير متأكّدةٍ من المعنى. استعاد أحمد في خياله تفاصيل الرواية، كأنّه يستعيد شيئاً دفيناً في قلبه. "أحياناً تُظهر الطبيعة ما نحاول أن نخفيه"، قالها بهمس، وابتعد خافضاً عينيه. نظرت إليه بصمت، ثم تابعت طريقها.

تلك اللحظة ظلت ترافق إلسا؛ كان في كلماته، وفي نظراته شيءٌ ما، جعلها تشعر بخفقان قلبها يتسارع، وبينما كانت جالسةً على السرير، فتحت هاتفها تبحث عن رواية تورغنيف وتقرأ ملخّصها. أدركت معنى الكلمة التي قالها أحمد بحذر: "تبعها". شعرت كأنّ الغرفة قد امتلأت بنورٍ خفيٍّ. كتبت له رسالةً على الواتساب: "لقد كان يومًا مميزًا بفضل وجودك... سانين!"، ضغطت زر الإرسال، وشيءٌ ما في داخلها كان ينبض بفرحٍ. بعد دقائق، وصل رد أحمد: "وأنتِ جعلت هذا اليوم لا يُنسى... جيما[3]." ابتسمت إلسا؛ كان هناك شيء حميم في تبادل هذه الأسماء، كأنهما يتشاركان سراً لا يعرفه أحدٌ غيرهما. ذلك المساء كان بدايةً لشيءٍ جديدٍ بينهما، شيءٍ جعل العلاقة تتجاوز حدود الصداقة؛ الكلمات أصبحت أقرب، النظرات أكثر عمقاً، لكن خلف تلك اللحظات الدافئة كانت التحديات تلوح في الأفق. كانا يلتقيان كلّ أسبوعٍ تقريباً، يتشاركان الوجبات والأحاديث والضحكات؛ لكنْ كلاهما كان يحمل أعباء الماضي، وكلاهما كان يخشى المستقبل.

في إحدى أمسيات الشتاء، كانت إلسا تجلس بجانب نافذتها، تتأمّل الحديقة الصغيرة التي بدأ الثلج يتراكم على أطرافها، وأحمد يقف بجانبها ملامساً مسند الكرسي، يحمل كوباً من القهوة بين يديه وكأنه يحاول الاحتماء بحرارته. كان الليل هادئًا، لكنّ داخلهما كان يعجّ بصراعات كثيرة.

"أتعرف، أحمد؟"، أكملت إلسا حديثاً كانت قد بدأته، ونظرتها شاردة عبر زجاج النافذة، "زوجي لم يكن يحتاج إلى سببٍ كبير لينهي كلّ شيءٍ بيننا. ربما كنتُ السبب، ربما كان هو، لا أعرف؛ لكني كنت دائماً أشعر أنّ هناك زاويةً في حياته لا يُسمح لي بالدخول إليها، ثم اكتشفت أنّ تلك الزاوية كانت مكاناً لامرأةٍ أخرى."

- هل تعتقدين أنّ الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحبّ امرأةً أخرى، يخونها؟ أم أنه فقط يتبع قلبه؟

- الخيانة ليست في الحب، أحمد. الخيانة في التخلّي. في أن تترك شخصاً كان يثق بك، مهما كانت الأسباب.

- لكن ماذا لو كان الحب الجديد حقيقياً؟ ماذا لو كان أقوى من كلّ شيء؟

- الحب الحقيقي لا يُبنى على أنقاض علاقةٍ أخرى. إنه يحتاج إلى أرضٍ صلبة، وليس إلى قلبٍ ممزّق.

شعر أحمد بأنّ شيئاً ثقيلاً يحاصره من الداخل، يكاد يخنقه. نظر إليها طويلًا. لم يتوقّع أن يكون الحديث بهذه الصراحة. حاول أن يجد كلماتٍ ليقولها؛ لكنه شعر أنها لحظة تتطلب أكثر من المواساة. "إلسا..." قال بتردّد. "أظن أن الأمر صعب جداً عليكِ. لكن هل هذا يجعلكِ تشعرين أن لا مجال للبدء من جديد؟". ابتسمت إلسا ابتسامةً خفيفة. "البدء من جديد؟"، قالت وهي تتأمل بريق الكوب بين يديها. "هل تعرف ما هو الجزء الأصعب يا أحمد؟ أنني لستُ متأكدة ممّا إذا كنت أريد أن أبدأ من جديد. أحيانًا أشعر أنّ الماضي هو جدارٌ لا يمكن تجاوزه، وأحياناً أخرى أعتقد أنه مجرد ظلٍّ يلاحقني".  أحمد كان صامتًا، يشعر بارتباكٍ. حديثها هذا جعل فكرة مصارحتها بمشاعره أكثر تعقيداً. كيف يمكنه أن يعترف بما يشعر به وهي تتحدث عن جرحها القديم، وهو نفسه يعيش مع عقدة زواج لم يكتمل في مداه؟

- زوجتي رفضت أن تلحق بي. هل هذا يجعلني خائناً إذا أحببت امرأةً أخرى؟

- ربما هي لم تلحق بك لأنها تخشى أن تفقد نفسها هنا؛ كما أنني أعرف كيف يشعر الإنسان عندما يُترك. زوجي تركني من أجل امرأةٍ أخرى، ولم يكن الأمر عن الحب فقط، بل عن الأنانية.

- أحيانًا أشعر أنني أعيش بين عالمين، وبنفس الوقت لا أنتمي إلى أيٍّ منهما. هل هذا يجعلني أنانياً؟

- السؤال الحقيقي، أحمد، هو: هل تستطيع أن تختار؟ لأن البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية.

"أعتقد أن الماضي لا يتركنا بسهولة؛ لكنني أظن، أيضاً، أنّ لكلّ إنسانٍ الحق في محاولةٍ ثانية"، قالها أحمد بصوتٍ هادئ، محاولًا أن يخفي اضطرابه الداخلي. كانت الكلمات قليلةً، لكنها تحمل ثقلًا عاطفياً كبيراً، كلّ كلمةٍ كانت تحفر في أعماقه. الليل كان شاهداً على صراعٍ بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين ما يمكن أن يكون وما يجب أن يكون. نظرت إليه إلسا، بعينيها اللتين تعكسان سنواتٍ من التجارب: "وأنت؟ هل تستطيع البدء من جديد؟". لم يكن سؤالها مجرّد فضولٍ بسيط، كان مرآةً وضعتها أمامه، تعكس حقيقته المجردة، شعر أنه عارٍ أمام هذا السؤال. أخذ نفساً عميقاً، ثم قال: "لا أعرف. أحيانًا أعتقد أنني أُمسك بحبلين في نفس الوقت، لكنني لا أستطيع التخلي عن أي منهما. وأحيانًا أشعر أنني أضيع بينهما.". ابتسمت إلسا مرةً أخرى؛ لكنها، هذه المرة، كانت ابتسامةً حزينة، ترافقت مع نظرةِ مباشرة في عيني أحمد: "ربما أننا جميعاً نحاول الإمساك بأشياءٍ نعلم أننا قد نخسرها في النهاية. لكن السؤال هو: هل نخسرها لأننا لا نحاول بما يكفي، أم لأننا نحاول أكثر مما ينبغي؟"

في تلك الليلة، ظلت ابتسامة إلسا ونظرتها تتردّدان في خياله، كان يعلم أنها محقّة، وأنه لا يمكنه الاستمرار هكذا. أخرج هاتفه وفتح تطبيق الواتساب؛ كان آخر اتصالٍ مع سمر قبل أسبوعين. كتب لها رسالةً طويلة، يشرح فيها مشاعره، ويخبرها أنه لا يستطيع الاستمرار في هذه العلاقة المعلقة. كتب أنه أحبّها بصدق، ويقدّر السنوات التي قضاها معها، لكنّ طريقيهما تباعدا: "أنتِ بنيتِ مستقبلكِ هناك، وأنا بدأت في بناء حياةٍ هنا. لا أريد أن نستمرّ في خداع أنفسنا. لم يعد هناك مستقبلٌ مشتركٌ بيننا. أتمنى لكِ كلّ الخير والسعادة، وآمل أن تتفهمي قراري."، ضغط زر الإرسال، شعر أنّه ينهي جزءاً عزيزاً من حياته.

مرّت الأيام، إلسا تفعل ما بوسعها لتدمج أحمد في الحياة الجديدة؛ لكن، للحقيقة، ليس بدافع الإيثار فحسب، فقد اعتادت وجوده، وأحاديثه، ونقاشاته، وحتى صمته وشروده. أما أحمد فكان يحاول أن يوازن بين ما يريد وما يفرضه عليه ضميره. تلقّى رسالةً من زوجته، كانت كلماتها تفيض بالاتهامات، ما يشي بكبريائها الجريحة؛ تطلب منه أن يعيد التفكير بقراره "المتسرّع"؛ لكنّ تلك الكلمات، التي كانت تشبه محاولةً مترفّعة لاستعادة شيءٍ ضائع، لم تستطع أن تخفي حقيقة تخلّيها عنه في لحظاته الأصعب. أرسل لها ردّاً سريعاً، يحسم الأمر ويُخبرها بأنه وجد حقيقته مع إلسا، وأنه لن يظلّ عالقاً في علاقةٍ لا تحمل له سوى القيود.

في أوائل الربيع قرّرا، أحمد وألسا، زيارة قصر التنين، أحد المعالم التاريخية الشهيرة في المنطقة. كان القصر، بأبراجه العديدة، يبدو في الأفق مثل أسطورةٍ نُسجت تفاصيلها بين الجبال السبعة المشرفة على نهر الراين. أثناء عبورهم النهر، كانت إلسا تقف بجانبه على سطح العبّارة، شعرها الأصفر يتمايل مع الريح في مشهدٍ مغلّفٍ برومنسيةٍ آسرة، كإحدى أميرات القصر الذي تروي لأحمد أساطيره وحكاياته الساحرة.

صعدا سفح الجبل في دربٍ متعرّجٍ تحفّ به الكروم، توقفا عند مزرعةٍ صغيرةٍ تديرها عائلة محلّيّة، حيث قدّم لهما المزارعون كأسًا من النبيذ الطازج. ارتشف أحمد الكأس ببطءٍ. إلسا، بابتسامةٍ خفيفة، حذرته من تأثير النبيذ، لكنه تجاهل تحذيرها، واستسلم للنشوة الخفيفة التي بدأت تتسرّب إلى روحه.

وصلا متعبين أخيراً، دخلا القصر وتجوّلا في غرفه وقاعاته، مستمعين إلى المعلومات التاريخية التي يرويها المرشد السياحي. "أخبرت زوجتي أنني لا أستطيع الاستمرار في علاقتنا المعلّقة"، قال أحمد فجأة. نظرت إليه إلسا بدهشة: "حقاً؟ وكيف كان ردّها؟". "أعتقد أنها تشعر أيضاً أن علاقتنا بحكم المنتهية".

وقفا في إحدى شرفات القصر، كان وادي الراين يخترق الحقول والغابات مثل شريطٍ فضيٍّ يزيّن ثوباً أخضر، والقرى على جانبيه مثل حبات الياقوت الأحمر، المنظر يثير في النفس إحساساً بالجمال لا يمكن مقاومته، وشعاع الشمس يتسلّل بين الأوراق ليعكس على وجه إلسا ألوانًا ذهبية. تلفّت أحمد نحوها، رأى في عينيها فرحاً هادئاً؛ لكنه عميق، كأنّ الطبيعة نفسها تعكس ما في داخلها، وتدفعه إلى التعبير عن شيءٍ لا يستطيع قوله بالكلمات. اقترب منها قليلاً، مسّ شفتيها القرمزيتين بقبلةٍ شفافة، تكاد لا تُحَسُّ؛ لكنها كانت كافيةً لتترك أثراً عميقاً في نفسها. إلسا، رغم أنها نجحت في إخفاء ردّ فعلها، وتابعت النظر إلى الطبيعة كأنّ شيئاً لم يحدث، لكن داخلها، كان شعورٌ عذبٌ، كأنما نورٌ نقيٌّ يتسلل إلى روحها. لم تغمض عينيها، ولم تهتز شفتاها أو جفناها، وكانت لا تزال تنظر نحوه نظرتها المحدّقة ذاتها، لكنه لاحظ أن صدرها ارتفع أكثر اثناء تنفّسها، قالت بنبرةٍ متماسكة: "ماذا يعني هذا؟". انحنى أحمد برأسه قليلاً، وكأنّ كلماتها أثقل من أن يواجهها مباشرة: "إلسا، أعلم أن ما بيننا ليس بسيطاً. وأعلم أنني لا أملك الحق في أن أطلب منك أي شيء، لكن تلك القبلة، لم تكن مجرّد لحظةٍ عابرة. شعرتُ بشيءٍ حـقيقيٍّ… عميق.". تحرّكت إلسا ببطء، تحاول أن تُخفي أثر كلماته على وجهها: "حقيقي؟ ربما كان كذلك بالنسبة لك، ولكن ماذا عني؟ كيف أسمح لنفسي أن أكون ظلاً يقف في طريقك وأنت لا تزال مرتبطًا؟". رفع نظره نحوها، وكأنّ كلّ كلمةٍ تخرج منه تأتي من أعمق مكانٍ في روحه: "ظلٌّ؟ أنتِ كلّ شيءٍ عدا ذلك، إلسا. وجودكِ أعاد لي شيئاً كنت أظن أنني فقدته إلى الأبد؛ لكنني لا أريد أن أجعلكِ تشعرين أنكِ في موقفٍ مستحيل". تدير وجهها نحو الأفق، تتحدّث وكأنها تخاطب الطبيعة التي أمامها: "الأمر ليس عنك فقط، أحمد. إنه عنّي أيضاً. لا أستطيع أن أخوض هذا الطريق وأنا أعرف نهايته. رأيت ما تفعله مثل هذه العلاقات... إنها لا تمنح سوى الألم". يقترب منها قليلاً، صوته هادئ لكنه مليءٌ بالصدق: "ولكن ماذا لو كنتُ أحاول أن أجد طريقاً جديداً؟ ماذا لو شعرتُ أنّ حياتي تحتاج إلى شيء أعمق؟". تنظر إليه إلسا مرةً أخرى، عيناها تلمعان بالثقة والحزم: "هل تقول لي هذا لأنك تحبني؟ أم لأنك تشعر بالوحدة؟ هناك فرقٌ كبير، أحمد، وأنا لن أكون حلاً لوحدتك". يتنفس ببطء، يدرك وزن كلماتها، لكنه لا يتراجع: "أحبكِ، إلسا. وهذا ليس عن الوحدة أو عن الفراغ. إنه عنكِ. عن كيف تجعلين العالم يبدو مختلفاً، عن كيف أشعر بأنني على قيد الحياة عندما أكون بقربك". كان يتحدّث بسرعة، يؤكد لها، بشغفٍ، حبّه العميق. سألها بكلماتٍ واضحةٍ لا تقبل الرفض: "قلتِ مرةً أن منزلك واسعٌ عليك، ما رأيك أن أستأجر الطابق الثاني؟ أريد أن نعيش معاً". اقتربت إلسا من حافة الشرفة، عيناها تجولان في الأفق، لكنّها لا ترى سوى انعكاسات داخلها..."أحتاج إلى وقت، أحمد. هذا كله جديد وسريع. أحتاج إلى التفكير". "أفهم ذلك،" أومأ أحمد، محاولاً إخفاء خيبة أمله. "سأنتظر"، قال وهو يدرك أن اللحظة تبتعد عنه ببطء، وأنه قد يخسرها دون أن يستطيع إيقاف ذلك.

لم يتواصل إلسا وأحمد كثيراً في الأسبوع الذي تلا زيارة القصر، كان يحترم رغبتها في الحصول على مساحةٍ للتفكير، على الرغم من أن الانتظار كان يمزّقه من الداخل، وكان يتساءل كثيراً إن كان قد تسرّع وأفسد كلّ شيء بتلك القبلة. في هذه الأوقات القاسية تلقّى رسالةً من سمر تقول فيها بلغةٍ تعليمية، أشعرته بالتقزّز: "قدّمتُ إجازةً بدون مرتّب، وسآتي لأنقذك من نزوتك مع تلك العجوز، وربما تغيّر رأيك ونعود معاً". شعر بأن روحه تنسحق تحت وطأة كلماتها؛ ولم يجد رغبةً حتى في الردّ، "المسافة بيننا بعدت كثيراً، كأني لم أعرفها من قبل!"، قال في نفسه بأسىً ومرار. تنهّد بعمق، وضع يديه على ركبتيه كما لو كان يحاول إمساك نفسه من الانهيار، وبدل أن يكتب رداً على رسالة زوجته، اتصل بإلسا: "اسمعيني إلسا، زوجتي اختارت منذ البداية وتخلّت، وليس أنا… هي جزءٌ من معاناتي… أن تقف مع القاتل من أجل منصب، أو منافع أخرى، فهذا تخلٍّ. أن أكون مطلوباً من أجهزة النظام، وأهرب إلى هنا، وترفض هي التنازل عن مركزها الوظيفي، فهذا أقسى من التخلي... إن كنتُ رفضتُ أن أحكي عنها في البداية، فكيلا أستدرّ العطف منك، أو من غيرك، وها أنا أحكي، الآن، كي أبرّر ذاتي، كي لا أخسرك، إلسا...  أن تأتي سمر أو لا تأتي، لم يعد يعنيني، هي ستأتي لأنها تريد أن تكسب كلّ شيء، هي ستأتي كي تظلّ ممعنةً بحصاري، هي ستأتي لكي أظلّ مربوطاً إلى خياراتها، هي ستأتي لتبرّر، بوجودي معها، خيارها الأناني.. أشعر أنها شريكةٌ باضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري"

أنهى أحمد حديثه دون أن يمنح إلسا فرصةً للرد، كان مهموماً، يشعر بثقلٍ لا يبرح صدره. رغم إدراكه لصدق المشاعر التي تجمعهما، يعلم أن الظروف التي تفصل بينهما أقوى من أن تُتجاهل. لقد بات واضحاً له أنّ الحبّ، شأنه شأن الحقيقة، يحتاج إلى من يدافع عنه، كي لا يطغى عليه الظلم. وبات يعلم أيضاً أن الحياة لا تنتظر القرارات المؤجّلة، فهي تمضي دون أن تلتفت، تاركةً خلفها قصصاً غير مكتملة وأحلاماً لم تتحقق.

***

قصة قصيرة

الكاتب منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 25.05.22025

.........................................

[1] فيوض الربيع، رواية للكاتب الروسي إيفان تورغنيف

[2] مشهد الكهف، مشهد مفصلي في الرواية، حيث ان سانين تخلى بعده عن خطيبته ويتبع ماريا، زوجة صديقه.

[3] ، جيما، هي خطيبة سانين، وحبيبته الإيطالية.

دموع ضوء تعتلى جبين الفنار، تَلمَح صمت موج مهاجر تحت قبعة الليل، تكتحل مشاعر المساء بهمهمات الظلام، تعزف لحن اللقاء على شفا الغربة،، يتسلل الوقت أثير عتمة، يتأرجح الهذيان برهام الشجن، كي لا يتنفس الموج هدير الغرق، تتسلق غيوم اللهفة منسأة برد ناعسة الذكرى، متّشحة ريحا مجونا، ماكرا يتوارى خلف لازورد البحر سطوع ضباب، جريحة أنات لؤلؤة تستيقظ توا عند انسكاب حلم محارات موءودة البرق، تصرخ دلافين الوجد بصمت أقاصي الحزن، ما بين نشوة نجوم الحواس وثمالة الغرام تتراقص نغمات ناي، يكاد يتلألأ الغزل دموعا تعتصر فؤاد حورية البحر في أماسي الرحيل، تنهيدة وداع هذيان الحنين، يتأنى طيف عاشق مسافر، لا يبدو أنّهُ سيفارق ميناء عشقه، ربما دمعة برق تضئ ملامح أشرعة الهجرة، أو رشفة غسق تروي آهات الغياب، علّه يطل ضيفا في مرافئ البقاء يؤنس ساحل الانتظار بهمس ضجيج التلاقي، كلما يختلسنا الزمن من أوهام العمر نضيع بشغف العتاب ونتمتم رب مصير نام قدره، لتستردنا شواطئ الدروب!!.

***

إنعام كمونة

  2/6/2025

قصائر1(10)

قدَماي

لن تعبرا حدودَ الوطن.. معاً

تجنّسَتْ إحداهُما مع الغُرباء

واستأصلوا من الأخرى

كاملَ الجنسية

**

2

ارتَحِلْ، قدرَ ما تشاء

فأنتَ.. لمّا لم تجد في نهايةِ الطَواف

مربَطَ الحَبل

تَمَسّكتَ بالنوايا..

كعابثٍ بالرَمل.

**

3

الصراخُ في داخلي..

بلا صَوت

صَداهُ خلّفَ في جَبهَتي

بضعَةَ خُطوط

يجعَلُها الابتسام..

في غاية ِ الغَباء

**

4

في صراعي معي،

نَزَعتُ أجنحَةَ السِنين

لأخرجَ منتصراَ

بأقلّ النُدوب

راضياَ..

بسُخريةِ الحُفَر

**

5

لا بريقَ في عَينَيها..

لا دموع

كلّ رغبتِها

أن يختَفي الباحثونَ عنها

كسلعةٍ مكسورة

في قمامةِ العُقول

**

6

ناوَلَني كأساً.. كأنّ روحَهُ فيها

يا صاحبي

كفَفتُ عن الثَمالة

لم تعُد أوردَتي تُطيق

لا تصِدّ

هكذا هَمَسَتْ..

جُموعُ الملائكة

**

7

أعودُ مراراً

مراراً..

بلا كلَل

الى نَخلةٍ أرضَعَتني

بلا فِطام

**

8

لم تكفِني الأعوام

لأمخرَ المُحيطَ الذي في داخلي

أخفيتُ أيضا.. جميعَ اكتشافاتي

لأبسطَ الخرائطَ القديمة

في كلّ عيد

**

9

الشمعةُ التي احترَقَتْ لغيري

صنَعتُها..

وحينَ أحترِقْ

سيَرجمونَني..

بما سالَ منّي

**

10

سأعودُ.. حتماً

قلتُها بحُرقَة

بعدَ أن قَضَمتُ آخرَ يومٍ..

في حرّيتي.

**

11

لا تُحدّثيني عن الشَوق

كعشتار..

أخبري قلبَكِ أن يرتدّ.. مثلي

لنحترق

بلا ثعابين.. وتُفّاح

**

12

عندما صارَ الوطنُ سجناً

لم أجدْ سجيناً معي

كان جميعُ الناسِ..

سجّانين

**

13

توقّدتُ كالجَمْر

تحتَ أمطارِ تشرين

حين لامسَ شعرُكِ المُخضَلّ جبهَتي

يدعوني..

الى وليمةِ حُبّ

بلا بلل

**

14

في باب سليمان*

آثارُ أقدامي على ضِفةِ النَهر

الطينُ يحفظُ الذكرى

لكنّهُ ظامئ

رحَلنا عنهُ..

أنا.. والماء

**

15

لستُ جاحداً

ظننتُ أني عرَفتُ ذاتي

بعدَ ارتقاءٍ وهُبوط

ثم اكتشفتُ أخيراً

جَهلي بنفسي

**

د. عادل الحنظل

.......................

1 دأبتُ أن أسمّي نصوصي هذه قصصا قصيرة جداً تماشيا مع ما هو مألوف في هذا النمط من الكتابة الأدبية. لكنني لم أجد في هذا المسمّى ما يعبّر عن أسلوبي الذي أسير عليه، فلا يحوي أي نص على جوهر القصة التي تمتاز بحدث يبدأ وينتهي بصرف النظر عن عديد الكلمات. والنصوص هذه ليست أيضا من الشعر رغم بعض اللمسات هنا وهناك فيما يشبه تركيز الشعر المنثور. لهذا ارتأيت أن أعدل الأسم الى قصائر تعبيرا عن قصر النصوص وتكثيفها بلا إضفاء سمة الشعر أو القصة.

* باب سليمان هي القرية التي ولِدتُ فيها وتقع جنوب مدينة البصرة

بارداً صارَ فِنجانُ قَهوتِها

تَلاشَتْ رَغوتُهُ

غابتْ في تَفاصيلِ العَتمَةِ

لكنَّ الجَوَى طَفقَ

في فضاءاتِ الخَواءِ يَجولُ

وئيداً كانَ الزَّمنُ يَجري

يحملُ على كَاهلِهِ

أثقالَ عمرٍ

وعُهوداً من الخيباتِ

تَسلَّلَ منِّي الشَّجَى

يبحثُ عن بقايا ملامِحِها

قالت من غير أن تَنطَقَ

وحضرتْ من غيرِ أنْ تأتي

فصارَ الغيابُ حُضوراً

وأصبحَ الصَّمتُ

أبلغَ من الكَلامِ

حكايةُ فِنجان قَهوةٍ

من غَيرِ سُكَّرٍ

إن ترتشفْ مِنهُ

فعلى ثناياهُ أنهارٌ من العَسلِ

تَفيضُ

آثارُ شفاهٍ على الحَوَافِ

تَارةً يَرسِمُها شَغفٌ

وتارةً تُبعثرُها الأوهامُ

أيقظني صَقيعُ الفُراقِ ذاتَ صَباحٍ

فأدفأتْني مَلامِحُ ذِكرى

حين جاءَ المساءُ

*

كُلَّما إنطفأ الوَهْجُ

في فِنجانِ قَهوتِها

أشعلَ الوَجدُ في حَناياهُ

جذوةً أبداً لا تَخمَدُ

مرَّاً أتجرعُه حيناً

وحيناً منِّي الآهاتِ يَغترفُ

يُتقنُ كُلَّ الأسرارِ

والبوحُ من غيرِ حروفٍ

على الأطرافِ يَرتَسمُ

فنجانُ قهوةٍ على سَطحهِ

حِكاياتٌ شَتَّى

وصورٌ رتَّبتهَا أقدارُ المَرايا

وفي أعماقِه أمواجٌ ولَظَى

وفي الغورِ بقايا ثُمالَة

مَأتمٌ من أحزانٍ

وتأوهاتٍ وأنينٍ

رفيقُ الدَّربِ في الأفرَاحِ يَغتَبِطُ

وفي الأتراحِ وجومٌ وابتئاسٌ

قالوا تَنسى

إن تعشقْ أخرى

فكيفَ أنسَى وهي

في كُلِّ وجوهِ نِساءِ الدُّنيا؟

ضَوءٌ خافتٌ في الرُّكنِ يَخبو

وشبحُ كَهلٍ يَتراءى

وعلى الطَاولةِ العَتيقةِ

وردةٌ يتيمَةٌ ذابِلةٌ

وفِنجانُ قهوةٍ

فارقَته منذُ دُهورٍ

ارتعاشاتُ الرَّغوةِ

***

بقلمي: جورج عازار

إيه ...

ما الذي خلفّته؟!

سلالة انشطارية

أحفادها

يترصّدون

ليصطادوا  بشراهة

عزّلا

لا حرز لهم

إلّا من تميمة

لقول توارثوه

لعلّه

ينجّهم

من السقوط في قعرها

غواية تزيّن

قباحة الصيادين

**

تعسا

لسلالة

تعلّقت خطاياها

سفها

بذيل

غراب مسكين

**

ولأنهم يتناسلون

ولأنهم

يلوذون بحكمته

أضحى

المسكين

منتوف الريش

**

كان عليه

أن يتغاضى

ويتركه

لحيرته

ولو أنه فعل

ربما

لرُدِمت بئر

لا تزال تفور

غليانا

لتصهر

أحلاما قانية السحنة

**

ليتك لم تهتد

وليته

لم

يمنحك حكمته

أمنية

يطلقها أدراج الريح

حفيد أثقلته آثام

لسلالة

تبتكر عثرات

تبحث

عن حكمة جاد بها غراب

مبتلى

***

إبتسام الحاج زكي

خرجت تلك الليلة من بيتك وأنت تحملين سعادة العالم بين يديك. كنت مبتهجة ومسرورة كطفلة يوم العيد. لدرجة أنك سلمت على جارتك التي كنت لا تطيقينها لأنها كانت بالنسبة اليك فضولية الى درجة الكره. لأنها تتدخل في خصوصيات جيرانها. لكن ذلك اليوم، كنت سعيدة، ترقصين من الفرحة كالفراشة في فصل الربيع.

ونسيت ساعتها ما قالته لك جارتك في يوم من الأيام، عندما تدخلت في حياتك الخاصة، وقالت لك من باب النصيحة حسب رأيها" يجب عليك ألا تتأخري كثيرا خارج بيتك، سيتكلم الناس.." يومها كرهتها كره المظلوم للظلم. لكن، تلك الليلة، كانت ولا كل الليالي، استغربت كيف جلست الى جارتك وحكيت لها عن خصوصياتك التي كنت ترفضين أن تتدخل فيها. قلت لها" سأسافر مع زوجي الى الخارج. وسنقضي عطلة الصيف هناك." لست أدري لماذا حكيت لها ذلك. وأنت تعرفينها جيدا وتعرفين نظراتها الحادة التي تنغرس في جلدك وتخترقه. قلت لي يومها "أنا لا أومن بهذه الخزعبلات...حكيت وكفى". وتابعت دون أن تنظري الي، كأنك تخافين من نظراتي " كنت سعيدة، جدا، جدا، وكنت محتاجة الى أن يشاركني أي أحد سعادتي. هذا ما وقع." وانسحبت من امامي كمن يشعر بالذنب.

ما ان غادرت بيت جارتك، حتى رن هاتفك، وفجأة، تغيرت ملامح وجهك الذي كان شعلة من الفرح، واستوطن المكان صمت رهيب وثقيل. رفضت العودة الى بيتك وتهت وسط الزحام. بعينين مفتوحتين لكن بدون هدف. مكالمة جعلتك تتهمين جارتك من جديد بأنها حسدتك لما حكيت لها. وأنها امرأة تصيب بعينيها ...تغير كلامك عن العين والحسد وعن جارتك. لم أفهم ماذا أصابك ولم أعرف محتوى تلك المكالمة التي جعلتك تتوهين عن سعادتك وكأنك وسط عاصفة رملية قلبت كيانك كله.

تركت الحرية لقدميك، عدت الى أمكنة الأمس القريب وتهت بين حيطانها ونباتها وأشجارها وسكانها وكلابها. شوارع أصبحت غاصة بالمارة حتى التخمة. أجساد تتمايل في كل اتجاه مثل أوراق الخريف التي تهجر عشها وتتنكر للونها الأخضر الجميل وتضيع بين الأقدام. سألتك وأنا أحمل خوف العالم بين ضلوعي" ماذا أصابك؟ من الذي هاتفك؟" تركتني بلا جواب. ومشيت طويلا وبدون هدف محدد. كان دماغك عند نقطة الصفر. سألت نفسك وأنت ماشية "هل يمكن أن يصل الدماغ الى نقطة الصفر؟ هل يمكن للدماغ ان لا يفكر في شيء معين؟" كانت أنوار المدينة تتراقص أمام خطواتك وآهاتك، كأنها نجوم. توقفت قليلا ربما تذكرت أنك تركتني بلا جواب وقلت لي" لقد كان قاسيا معي، قال لي بأنه يفضل ألا أسافر معه. وسكت."

تذكرت ساعتها يوم التقيت به، كان وسيما ورقيقا، تقدم نحوك وأنت تنتظرين سيارة أجرة وقال لك " كم الساعة من فضلك؟"

التفت اليه وأجبته بسرعة شديدة "انها الساعة الواحدة." وندهت على تاكسي وابتلعتك زحمة المكان وضجيج السيارات.

لكن ذلك اللقاء، كان بداية للقاءات متكررة. حيث ظلت صورته عالقة بمخيلتك. كأنك تعرفينه منذ زمان. وبخت نفسك ساعتها وقلت "لماذا لم أنتظر قليلا؟ لماذا ذهبت بسرعة؟".

كان لصوته تأثير كالسحر، حيث يتغلغل بين الضلوع ويستقر في القلب ويحدث بلبلة جميلة ورعشة قاتلة. ربما كان ذهابك بتلك السرعة هو نوع من الهروب من سحره الأخاذ. وتكررت اللقاءات بينكما، في نفس المكان وفي نفس الساعة. هل للقدر يد في ذلك؟ ربما سألت نفسك هذا السؤال. لقد اصابك سحره. كنت سعيدة، وكنت تحاولين أن تتظاهري باللامبالاة. لكن هو كان صبورا ويتودد اليك بكل أدب. ربما لمح تعبيرات وجهك التي فضحتك رغم صمتك الطويل.

وقفت قرب محل لبيع الملابس الجاهزة، نظرت كثيرا لكن نظراتك كانت فارغة. استوطنتك تلك المكالمة التي غيرت مزاجك صباحا وجعلتك تفقدين صوتك وتجف دموعك في مآقيك. تمهلت قليلا ونظرت طويلا الى الفراغ الذي امامك، كنت هادئة، لكن كان هناك بركان بداخلك ممكن أن ينفجر في أي لحظة. أخذتك ذكرياتك الى اللحظات الهادئة التي قضيتها معه، تبتسمين تارة، وتستوطن ملامحك غابة من الحزن تارة أخرى. كأنك تعاتبين نفسك على لقاءك به أول مرة. تعاتبين نفسك على العيش معه. تعاتبين نفسك على الاستمرار وأنت تنزفين دما ودموعا. سألت نفسك من جديد، لقد تعبت نفسك منك، كنت قاسية معها قساوة الجلاد الذي ينفرد بضحيته ويهلكها ضربا حتى يهجر اللحم العظم:" هل لتربيتي دخل في حياتي الحالية؟ لماذا أقبل الصفعة تلو الصفعة، وأظل متعلقة به؟"

استحال ليلك الى طريق طويل، حالك هجرته النجوم، ولا أثر لبصيص نور في الأفق. همست لنفسك "لماذا يحدث لي كل هذا؟".

عدت الى بيتك، وأنت منهكة من التعب. ولجت غرفتك بشكل آلي وغيرت ملابسك بشكل آلي، قررت أن تهتمي بنفسك ولا تتركيها للإهمال والنسيان.

هاجمتك ساعتها كل الذكريات التي كانت تشعل النار في روحك وعقلك، ذكريات كنت تجملينها وتجعلينها تتفوق على الألم حتى تستطيعين العيش. لكن كانت هناك ذكرى من تلك الذكريات احتلت مكانا ما في وجدانك، و رفضت الانسحاب. طفت الى السطح بشكل قوي، وفرضت نفسها عليك كأنها تريد أن تقول لك "كمن كنت طيبة وساذجة. " لم تنسي، يوم غضب وغادر البيت، كأنه غادر حياتك. لأنك كنت تحبينه بشكل غير طبيعي. قلت لي يومها، انه كان هائجا كثور أخرجوه لينتقم من كل من يعترض طريقه. كان يرفع صوته ويضرب بيديه على المكتب ويعاتبك. قلت لي يومها، أنه قال لك بصوت قاسي جدا" لست في مستوى أن أتناقش معك. لا تفهمين كلامي، تتكلمين كجاهلة.."

كأنك لم تسمعي شيئا، وكأنك لم تتذكري شيئا. اتجهت صوب الحمام، وتركت الحرية للماء تنساب على جسمك، وشعرت ساعتها أنك أقوى من كل الذكريات الأليمة، وتمدد جسدك بكل الهدوء الذي افتقده العالم ورحت في نوم عميق على أمل أن يأتي الغد بسرعة، ذلك الغد الهارب منك.

***

أمينة شرادي

 

تساؤل؟

تسأل صاحبي، فقلتُ لهُ:

إني أراكَ تحيطُ نفسكٌ بالحروفِ

وأظنُها حمّالة ًتواقةً متناغمه

وأراكَ تجهدُ نفسكَ في الغيومِ

متسائلًا:

ماذا بها

ما حولها

ما الخاتمه؟

وتريدُ بعدَ الصبرِ أن تبقى

على ما كنتَ في

أوضاعكَ المتلائمه!

مهلًا فكلُ قراءةٍ

تغريكٌ أو تلهيكَ

قد تبدو لغيركَ صادمه

وتكون في منأى من القلق الشفيف

والحزنُ يحرسُ بابهُ ويلازمه!

فاجعل لنفسكٌ إن رغبتٌ

أملًا يليقُ بها فتحسنُ خاتمه!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

طَفَرٌ.. طَفَرْ

تدري وأدري ما الطَّفَرْ!

*

خَبَرٌ.. خبرْ

صُحُـفٌ تَمُـــرْ

على الجراحِ بلا خبرْ!

*

بَشَرٌ.. بشرْ

هل في الأطِبَّاءِ بَشَرْ؟!

*

حَجَرٌ..حجرْ

طفلٌ بكفِّهِ

يَدْحَرُ الشِّرْكَ البهيم

ويَحملُ الوطن الأغرْ!

*

خطرٌ.. خطرْ

لُكَعٌ سريع الانِتحالِ ...

وباحتيالٍ قد خَطَرْ!

*

حُفْرٌ .. حُفرْ

وقَعَ الذي

للشعب أوّل من حَفَرْ!

*

بَـقَرٌ..بـقرْ

ترعاها (جارتنا)

وتَمْلَحُهَا (قَطَرْ)!

*

ضررَ.. ضررْ

الضر يأتي

من (تَجَمُّع - مُؤْتَمَرْ)!

*

وتَـــرٌ..وتـــرْ

قلبي على (بلدي) انفطر!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

من كتاب: (رمال القلق)

 

هل كنتُ أنا نفسي،

عندما مشيتُ في طُرُقٍ من طينٍ وذكريات،

أحمل جسدي كأنه وثيقةُ نفي،

وأقدامي تُعاني من سُكرِ الجهات؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين لامستُ خدَّ الغيم،

واعتذرتُ من النهر لأنني لم أكن ماءً؟

حين قبّلتُ المرآة،

فانشقّ وجهي عن وجهٍ آخر،

أغرب من الحُلم،

أصدق من الكذبة التي ألبستني اسمي؟

*

أأنا مَن ابتكرَ خرافته؟

أم كنتُ المروِيَّ في الأسطورة؟

مجرد بطلٍ تخلّى عنه السردُ في المنتصف،

فسقطَ من الورق؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

عندما قلتُ،  "أنا"،

وصوتي خرجَ من فمِ الغياب؟

كأنّ اللغة خانتني،

كأنّ الحروفَ تبخّرت في حلقي،

وتركتني مجرّد صدىً يبحثُ عن كهف.

*

هل كنتُ أنا،

أم كنتُ إرثًا لعابرين نسوا أن يُطفِئوا الشمعة،

فاشتعلت بي الأزمنة؟

*

في الصباحاتِ التي لم تأتِ،

وفي الليالي التي لم تذهب،

كنتُ أعدُّ صمتي حجارة،

وأبني منها سلّماً إلى ذاتي.

فإذا بي أصلُ إلى لا أحد.

إلى لا أنا.

إلى ما قبل الاسم.

إلى الطين الأول،

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين خانتني الصور،

وأصبحتُ تأويلاً لمجازٍ ضائع؟

و سؤال مشاة الأبدية الذي لا يجيبون عنه.

*

هل كنتُ أنا نفسي،

أم كنتُ كلّ من رآني

ووضع في عينيّ حلمًا لا يخصني؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين نظرتُ إلى الطفل في داخلي

ووجدته يشبهني أكثر مني؟

*

يا ذاتي،

يا مُراوغةً كالغيم،

هل أستطيع أن أحبكِ،

وأنتِ لا تستقرّين في أي مرآة؟

*

سأظلّ أسأل،

كلّما انقسمَ الصباح إلى وجوه،

وكلّما ناداني شيء من بعيدٍ يشبهني،

هل كنتُ أنا نفسي،

أم كنتُ شبحًا يتقن التقمّص،

*

وهل…

في كلّ ما عبرتُه من لحظات،

كانت الحياة تمشي بي

أم كنتُ أنا مَن يَحلم بالحياة؟

..........................

ذلك الشيخ كوّم الأسئلة،

ثم، مضى .................

***

مجيدة محمدي - تونس

 

أصدّقُ الأغنية أم

هسيس الموج ...اصدّق؟

اصدّق رسائل الحبّ... والأشعار القديمة ..

أم أصدّق الشهقة تمزّق موت العالم ..؟؟

**

قل لي:

هل أصدّق ..الامنيات المعلّقة

أم أصدّق هروبك إلى ظلالك؟؟

هل اصدّق مجازك..؟...

أم تحيّات الصّباح الباردة ..؟؟

انا أصدّق:

هسيس الموج

الشهقة

هروبك الآمن..

التّحيات الباردة

أصدّق كلّ هذا

وأُكذِّبُني.........

***

حياة بن تمنصورت

 

أُراقِبُ طَيْفَكِ قادِمًا لِيَأْسِرَني،

ويأخذَني بعيدًا، دونَ أَنامِلِ يديكِ…

أذابَ رحيقُ الشوقِ في دمي،

أمنياتٌ تجري في شراييني،

داعَبَتْ أهدابَ جفنيكِ،

غَرَسْتُها على تضاريسِ يدي،

وأبحرتُ بها صوبَ مرافئِ الصبرِ…

*

أُفَتِّشُ عنكِ،

هِمتُ على وجهي في المنافي،

أرتشفُ من أحزاني طَوْرًا،

ومن أشواقي أُخرى،

علّي أرسو

عندَ شاطئِ عينيكِ…

*

كمْ تمنيّتُ أن أبلغَ

مَنابعَ الأمطارِ،

وأُحلّقَ في حُلمِكِ بعيدًا،

حتى تغورَ كلُّ العيونِ،

وتجفَّ الأنهارُ…

لأعودَ مرةً أخرى،

أُفَتِّشُ عنكِ

ما بينَ أماني العيدِ

وبيْنَ مياسِمِ الأزهارِ…

*

أُراقِبُ فراشةَ عيدِكِ

وقد حطّتْ على راحتيكِ،

أُداعبُها،

فتُشيرُ لي بجناحيها نحوَ البحرِ…

*

أهرَعُ صوبَ شواطئِهِ،

أُعانقُ أمواجَ الرغبةِ

تحتَ دوائرِ الماءِ،

فتلسعُني قناديلُ الوهمِ،

لترميني عندَ مغارةِ خريفِ العمرِ،

مُكَبَّلًا بسلاسلِ الخرافةِ…

*

أُراقِبُ يديكِ،

تَضفِرانِ من حُلْمي

جدائلَ لحورياتِ البحرِ

***

جواد المدني

 

مثلما

لا تجرح النحلة الوردة

هكذا

هو عنفي

2

الليالي أم سرّهن الدفين

بل لأيّ مما ائتمنت تخون

*

كلما يدعيك حلم غريب

كذّب القلب مارأته العيون

*

حسبك الليل سادرا بالأماني

تدعيه هواجس وظنون

*

حيثما تحتفي النجوم بسر

يعتري الليل خاطر مجنون

*

يستفزّ الماساة من كل عصر

يجتليها فتستكين القرون

3

الزمن من دون ضمير

يعيش معنا

لا يهجرنا

ثم بعد مشوار

يعقر ارجلنا

يشوه وجوهنا

في النهاية

يرمينا الى الحفر

4

بيني وظلي

خكاية غريبة

راهنته ان اتبعه بوما

فيتبعني يوما آخر

لم أخلف وعدي

فجاة منذ بضعة ايام لم يتبعني

اشك في ان يكون ضل الطريق

هل ارداه رصاص طائش

اما ان يغيب فلا تحملني رجلاي إليه

فذلك ابعد عن ظني

5

مادمت سآكل خبز الزقوم

كي أحلف أني

ساظل أسير عينيك

وحدهما

فلا أضل طريقي

فالاولى

ان تجعلي قيدي

شريطا من الامس

فترهنيني

عند ساقية

تحرسها فراشة شاردة الالوان

6

للوردة مثل النورس

أغنية يكملها الموت

***

قصي الشيخ عسكر

أنثرُ الأوراقَ للريحِ

بحثًا عن همسةٍ من صوتك،

أجدُ كلمةً خطَّها دمُك،

تزهرُ بينَ السطورِ نداءً،

وتُشعلُ في القلبِ وهجَ الخلود.

وإذ بي أسمعُ صدى الحروفِ يجيبني:

أنا الفكرُ الحرُّ، لا ينحني،

أمضي كنورٍ يتحدّى الدجى.

تصفَّحوا التاريخَ، تجدونني

جذوةً تتقدُ في دربِ الحياة.

حُلمي حياةٌ تُعمِّرُ الأرض،

وصوتي نشيدُ التغييرِ العميق،

فما زلتُ أنبضُ في الكلماتِ حياةً،

وأبعثُ في الدروبِ ضياءً.

وإن غابَ صوتُ الجسدِ،

يظلُّ الفكرُ شعلةً لا تنطفئ.

في دربٍ معتمٍ، في الطرقاتِ الوعرة،

كنتُ أمشي...

أواجهُ العواصفَ الدامية،

براعمُ الربيعِ تلفحها ريحٌ مجهولة،

والنجومُ تائهةٌ في ليلٍ بلا صمامٍ ولا أمان.

لكنني أقسمتُ أن أقاوم،

وقفتُ صامدًا أمامَ موجِ البحرِ الهائج،

لم يرعبني سيوفُ الطغاةِ الجُدد.

ولا أزيزُ الرصاص،

يشقُّ الهواءَ كصرخةٍ مذعورةٍ

تترددُ في أعماقِ الزمن،

ولا سيوفُ الطغاةِ الجُدد.

حملتُ قيثارتي وغنّيتُ نشيدَ الحرية،

ورسمتُ على راحتي أوراقي،

لتكونَ جسرًا بينَ الأجفانِ الساهرة.

أفرشُ الورودَ بينَ الأشواك،

أزرعُ شجرةً بعدَ شجرة،

ترقبُ بزوغَ فجرٍ ذهبي،

يشرقُ متلألئًا في الأفق.

علَّ العصافيرَ تجدُ الأمان،

ويحملُ الهواءُ العليلُ نَفَسَ الحقيقة،

لمن لا يزالُ يحلمُ بالضياءِ.

لكنني كنتُ أخشى الغدر،

من القريبِ... ومن البعيد،

فالرياحُ العاتيةُ تعصفُ كلَّ يوم،

تقتلعُ براعمَ الحقولِ دونَ رحمة،

ويُطوِّقُني الشكُّ كليلٍ طويل.

فجأةً... دخلتُ نفقًا معتمًا،

حُجِبَت الشمسُ عن عيني،

ولفَّني صمتُ الظلام،

لكنني أبصرتُ الأفقَ البعيد،

فما دامَ في الأرضِ إنسانٌ كريم،

سيولدُ الفجرُ رغمَ الجراح.

قلتُ في نفسي:

الموتُ أهونُ مِن حياةِ مذلّةٍ،

إن خُنتُ يومًا نجومَ المسيرِ.

أقسمتُ،

أن أُبقي صوتي حيًّا،

حتى ولو مزّقته الريحُ ومضى.

تكالبت سياطُ القهرِ على جسدي،

تتغلغلُ في أعماقي كنارٍ حارقة،

فاستجمعتُ صوتي كي يعلو على الألم،

فانقضَّ سوطُ العذابِ كمن يلتهمُ ظلي،

متوغّلًا في أعماقي.

فحينها، قطّعوا يدي... وثقبوا خاصرتي،

كأنهم أرادوا دفنَ حُلمي،

لكن الحلمَ لا يُدفن،

جذورهُ تمتدُّ في الأرض.

تكالبَ السوطُ على جسدي،

يتوغّلُ نحوَ أعماقي،

فاستجمعتُ إرادتي في صوتي،

وهتفتُ:

خذوا جسدي...

لكنني لن أُفشي السِّرَّ!

سأظلُّ أمضي، وفي يدي كلمتي،

وفي روحي عهدي،

وفي صدري حكايةُ وطنٍ لن يموت.

لكنكم لن تطفئوا صرختي!

لن أتركَ الحرفَ يذبلُ في رمادِ الصمت،

وهبتُ روحي... كي تزهرَ الحياة.

***

سهيل الزهاوي

- هل قررتَ أين ستدفن؟

- نعم، في المقبرة القديمة. هناك على الأقل سوق أسبوعي يؤنسني ضجيج باعته. أكره صمت المدافن لأنه يزيد الوضع بؤسا.

- ومن قال أنك ستشعر بالوحدة؟

بدا الأمر نكتة قبل شهر، أما الآن فهي تُجري معي الترتيبات اللازمة للرحيل. دنيا بنت كلب! ولأنني ابن ناس فبطن الأرض خير من ظهرها هذه الأيام. طمأنت جاراتها بأنها أعراض شيخوخة مزمنة، وأن ثلاثين عاما من العشرة تشهد على لحظات جنوني. تأوهت إحداهن وهي تسرد فجيعة الترمل. الوحدة سم زعاف ينهش قلبها منذ رحيله.

- من يذهب للموت برجليه؟

- أنا !

طرقت باب جلول الفأر، وجددت وصيتي للمرة العشرين بأن يضع أسفل اللحد حجارة مبلطة. إلى أن ينخر الدود عظامي فمن حقي الاستمتاع بنومة هادئة. وبعد أن ينصرف المشيعون يتولى بيديه اللئيمتين غرس نبتة صبار عند رأسي. أرجو أن ينغرز شوكها في لحوم السكارى والمشردين، ويخدش أكف الطامعات في خيوط كفني، لجلب الحبيب ورد المطلقة.

لو كان للجنين في بطن أمه حكمة شيخ مثلي لما خرج! من يشتري هذا التعب من دنيا لئيمة وبنت كلب؟ ابتسم كعادته وهو يبلع ريق التشفي. متى يزيح هذه الجيفة عن كتفيه؟ تعوّد في سائر الأيام ألا يبدأ عمله إلا حين تفرغ النسوة من موشح لطم وندب ونواح، وأحيانا بعد أن تمر قسمة التركة في أحسن الظروف. لم يعترض مساره المهني شيخ مثلي، يفاوض ويساوم، ويعيد النظر في تصميم داره الآخرة!

انحنى جلول ليسحب نعله البلاستيكي، ثم جذبني بسأم معتاد. ماذا تتوقع من حفار يحصي عجائز البلدة وشيوخها؟ غنيمته هذا الصيف اثنتا عشرة جيفة، ما بين ميت حتف أنفه، أو غريق في السد المجاور. همس في أذني شامتا:

-لا تنس أن تحرر في الشيك مبلغا معتبرا!

عدت إلى البيت مساء فوجدتها منقبضة. على التلفاز نشرة الأخبار السعيدة، حيث تصطف الكوارث والجوائح قبل أخبار الفن والغولف. الكل سعداء، بمن فيهم المذيعة التي تحافظ على ابتسامتها وسط قتلى وجرحى زلزال مدمر في مكان ما. ألم أقل لكم أنها دنيا بنت كلب؟ تهتز طربا أو تثور غضبا، فيكون لحمنا ودمنا قربانا لتخف وطأة الحياة!

نمت قبيل الفجر بعد مشاهدة فيلم ويستيرن من الستينات. كالعادة يحاول راعي البقر أن يضع حدا لاعتداءات السكان الأصليين على المستعمر الطيب. أحب الريش الذي يضعه الهندي على رأسه، كأنه يحلق بالذاكرة إلى مدى لا تبلغه البنادق والأكاذيب. من الطريف أن أمريكا تطلق على قطع عتادها الحربي ألقاب زعماء وقبائل من الهنود الحمر، لكنها في الآن نفسه تدفن وجودها تحت نعالهم. ذاك هو سر المقبرة!

الموت لا يخيفني، فهو مجرد ستارة ترخي ظلا للحقيقة كي لا تنغص على الأحياء بعدنا وجودهم؛ فنحن في النهاية سنموت جميعا، لكن من حقي أن أخطط لرحلتي كما أشتهي، وهذا ما لا تحاول هي أن تفهمه.

-قال خطيب المسجد يوما أن القبر أول منازل الآخرة، وأنا أشتهي منزلا يليق براحتي الأبدية. سواء كان المرء عاقلا أو مجنونا فله نهاية تنتظره.

-لكنك تستعجل النهاية، ولك حياة عليك أن توفيها حقها.

-لا حق للحياة عندي سوى أني قبلت بها مرغما. ألا تري كيف يفضل أحدهم الانتحار بدل أن يواجه أخطاءه ونزواته؟ لقد عشتها ورضيت بها، وهذا يكفي!

مالت على كتفي لحظة ثم أجهشت بالبكاء.

-أعلم أن هموم العيش سحبتهم واحدا تلو الآخر، لكنها سنة الحياة. نربيهم كما ربانا الآخرون لتحلق الأجنحة في الأفق الغادر.. أفق النسيان واللامبالاة.

-قلبك من حجر!

-كل القلوب تنبض فذاك قدرها، لكن الإنسان يشتهي طول حياته أن يهز شجرة الخلود، ويقضم من ثمرتها فرارا من قدره.

هكذا هم الأبناء، يتوقعون أن العمر سيمهلهم حتى يرتبوا أحلامهم جيدا، ثم ينقلبوا فراخا من جديد. لكن وطأة الحياة لا تسعفهم. ألم أقل لك أنها دنيا بنت كلب؟

رأيت في المنام أني محمول على الأكتاف. أكتاف عريضة كلوح مصقول، لكن ليس فوقها رؤوس. نعم لا رؤوس ولا ملامح. الموت رحلة معدومة الهوية، فكل ما تصطحبه هو عملك، هكذا قال الشيخ، فإما أن تتنعم بثمار جهدك النبيل، أو تصرف أبديتك متقلبا على الجمر، نعم، كالذي تقلبت عليه أم كلثوم وهي في انتظاره!

ناديتها فلم تجب. سحبت الغطاء مازحا لتنهرني لكنها لم تفعل. وضعت كفي على الجبين المتغضن بتجاعيد السنين، فسرت قشعريرة تمنيتها.

ألم أقل لكم أنها دنيا بنت كلب؟

***

 حميد بن خيبش

لا النّصرُ آتٍ ولا الديّانُ ناصرُنا

وتلك أُخرى لمِن هادوا على العرَبِ

*

واللّيلُ في نصفِنا يرتاحُ مُنتَصِفًا

وما اكْتفىْ الفجرُ من راجيهِ بالطّلبِ

*

والنّصرُ في أصلهِ فجرٌ وإن طلعَ الـ

أصلُ تلا النّصرُ شمسًا دونما حُجُبِ

*

ونحنُ في كثرةٍ لكنْ متى رُبحَ ال

وَغَى بمَفْخرةِ الأموالِ والعَقِبِ

*

ونحنُ من يعربٍ أكرمْ بهِ نسبًا

لكنْ متى اعْترفَ الميدانُ بالنَّسَبِ

*

ونحنُ من صفوةِ الأخلاقِ جَبْلَتُنا

لكنْ متى كفَتِ الأخلاقُ للغَلَبِ

*

وعندنا الذّكرُ نتلوهُ وإن غلبَتْ

عليه فينا بناتُ اللّهوِ والطّربِ

*

وعندنا أحمدٌ -صلّوا عليه- وإنْ

عزا له الحُمْقُ ما فينا من التّعَبِ

*

والمجْدُ كاتبُنا حتّى وإن هجَر ال

الحيَّ ولم يبقَ منهُ غيرُ ذي الكُتبِ

*

والدّهرُ صاحبُنا حتّى وإنْ سبَق ال

أكوانَ فيما علينا انْصبَّ من غضبِ

*

واللهُ في صفّنا حتّى وإن حكمَ الْ

بلادَ من سوّرَ الإيمانَ بالذّهبِ

*

وكلُّ هذا ويأبى النّصرُ مدَّ يدٍ

لنا ونأبىْ جدالَ النّصرِ في السّببِ

*

لكنّنا نَقبَلُ الإصغاءَ إنْ شرحَ الْ

خُسرانُ أسبابَهُ في حلّةِ الكذِبِ

*

فإنْ يقُلْ غيرَ ما تهوىْ مسامِعُنا

قلنا أصابَ أعادينا منَ العرَبِ

*

فوحدةُ العُرْبِ قيدُ كلّ منهزمٍ

في كسرِهِ عتقُه من تهمةِ الهَرَبِ

*

ووصفةُ الحقّ آه كلّ مرتجفٍ

في حرقِها العذْرُ للموصوفِ بالذّنَبِ

*

ويُبهجُ اللّيلَ ما نُبديه من حججٍ

ويُعجزُ الفجرَ ما نُلقيهِ من خُطبِ

*

فيمكثُ النّصرُ في صَفْحاتِ هازِمنا

ويتبعُ الخُسْرَ أسرابٌ من الكُربِ

*

أينَ زمانُك يا بن العاصِ ها رجعَ الْ

روميُّ في يدِهِ رُمحٌ من اللّهَبِ

*

والصّفرُ من زحمةِ الأصفارِ في وطني

الكبير يشكو فيُحصى الموتُ بالنّسبِ

*

هادوا ولمّا نهُدْ والهَودُ يصحبُهُ

ما يفتنُ الفجرَ من علْمٍ ومن أدَبِ

*

والنّصرُ في جسمهِ يجريْ دمٌ وهوا

بنكهةِ التّينِ والزّيتونِ والعِنَبِ

*

أنفاسُهُ من هوا قُدسٍ ومَطْعَمُهُ

من طُهرٍ امتدّ من سينا الى حَلَبِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

على النافذة

آثر بارز لشفتين.

لا المطر الغزير

ولا الغبار الكثيف

تمحوه

- صورة لشفتين

صادقتين

- لمقاتل

لم يرجع أبدا.

- لشاعر

لم يدرك بأن الحب

سراب غريزة الوجود.

- من أم

تودّع ابنها،

مستيقنة

انها لن تراه ثانية

إذا رجع.

- لعامل

إلى منزل

بناه بساعديه

قبل أن يدمر،

وقد ظل

جدار الشباك واقفا..

كلما تبقى

خلف أثر الشفتين:

طلقات طائشة،

ديوان محروق،

زوج من النعال،

واطار صورة مكسورة-

للذكريات

***

سوران محمد

........................

A kiss

On the window

The traces of lips

visible

neither the heavy rain

nor the thick dust

wiped it away

a  shape of honest lips

-of a soldier

never to return.

-of a poet

who did not realize that love

a mirage of existential instinct.

-of a mother

In her last meeting with her son,

convinced

that she would never see him

when he returned.

of a worker

to the home he built

before it was destroyed

but the window still unbroken...

all that remained

behind the traces of lips:

unfeeling bullets

a burnt collection,

a pair of slippers,

a broken image of memories

............................

ماچ

پەنجەرەکە

شوێنی  دوو لێوی

 لەسەر بوو

نە لێزمەی باران،

نە تۆزی ڕۆژگار

نەیسڕیبووەوە..

وێنەی

 دوو لێوی ڕاستگۆ:

- هی خەباتکارێ

کە هەرگیز نەگەڕایەوە.

- هی شاعیرێ

کە نەیزانی

عيشق سەرابێکە

غەریزەی بوون

دەینەخشێنێ.

- هی دایکێ

لە  خواحافیزیی کوڕەکەی،

کە دەیزانی

ئەو دێتەوەو

چیتر ئەم نابینێتەوە.

- هی کرێکارێ

بۆ مەنزڵێ

دوای خاپوور بوون

تەنیا دیواری پەنجەرەی

 دوو لێوەکە

وەك خۆی مابوو..

لەمدیوی پەنجەرەشەوە:

قەوانێکی بەتاڵ،

 دیوانێکی سووتاو،

جووتێ نەعل،

چوارچێوەی وێنەی-

یادگارییەکان...

بەجێما مابوو

*

 كلُّ ليلهْ

 

الحبيباتُ يرجعنَ ليْ

وأنا أتسامرُ والموجَ عندَ الفراتْ

كلُّهنَّ أتينَ الى ضفتي

طالعاتٍ مِن القاعِ نحويَ

أوْ هابطاتٍ مِن النجمِ وهو يحدِّقُ في سرِّ نهرِ الفراتْ

منازلُهنَّ ضياءْ

منازلُهنَ مآلاتُ ماءْ:

مرَّةً في الغيومْ

مرَّةً في النجومْ

مرَّة في قلوبِ النباتْ

مرَّة في شغافِ البناتْ

وأقربُهنَّ الى الروحِ روحي الجميلةُ والناطقهْ

فبِهنَّ الحياةُ حياةْ

وبِهنَّ الضفافُ بِكلِّ اريجِ ضفافِ الفراتِ مشتْ

لِتُقبِّلَ هذا الفتى

وايّانَ راحَ وأنّى أتى

ستأتيهِ أرواحُهنَّ بأجسادِهنْ

وتأتيهِ أجسادُهن بأرواحهنْ

تميسُ ـ وقد وقّعَ الماءُ والنورُ فيها ـ ترانيمَ ممسوسةً عابقهْ..

***

شعر كريم الأسدي

...........................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في الثاني والعشرين من آيار 2025، في العراق

 

في أواسط خمسينيات الزمن الجميل، كان للسينما سحر لا يُقاوم في عيون الصبية، أولئك الفتية الذين لم تُرهقهم بعدُ هموم الحياة، لكنها كانت تعني لهم أكثر من مجرد شاشة تتحرك عليها الاحداث، كانت نافذتهم إلى عوالم لا تُحصى، ومتنفسًا رحبًا يهربون إليه بعد عناء يوم دراسي طويل أو خلال عطلة تكاد لا تسع أحلامهم الصغيرة.

مع انحدار الشمس نحو المغيب، كانوا يتقاطرون نحو ساحة "السعدي" كما لو أنهم مدفوعون بنداء خفي، يحملون كتبهم ودفاترهم، جادون في مراجعة دروسهم استعدادا للامتحان، لكن ما يختلج في صدورهم شيء آخر؛ السينما، حلم المساء، ورجاء الطفولة. يناقشون خطتهم اليومية: من سيذهب؟ كيف؟ وبأي نقود؟

ولأن جيوبهم وياقات دشاديشهم التي يخبئون فيها نقودهم خوفًا من ضياعها، كانت خاوية في الغالب، أو لا تحمل إلا الفتات، كانوا يفرغون ما لديهم من قطع معدنية على الأرض، يحصونها بأعين يملؤها الرجاء. فإن استوفت ثمن تذكرة واحدة، حينها يبدأ الطقس المعتاد/ القرعة. من سيكون سعيد الحظ الذي تُفتح له أبواب الفردوس المظلم؟ من سيجلس وحده في مقعد متآكل، يحدّق في الشاشة بانبهار، ليعود إليهم راويًا ما رأى؟ غير مكتف بالسرد، بل عليه ان يمثل، يصرخ، يبكي، يضحك، يُقلّد البطل والشرير، وكأنهم جميعًا كانوا هناك.

ولكن، إذا حضر عادل، صاحب الدهاء والعيون اللامعة، انقلبت المعادلة؛ فما من مأزق إلا وخرج منه بفكرة ماكرة، تُدخلهم جميعًا إلى السينما.

كانت السينما، بجدرانها العالية التي تعانق السماء، أشبه بقلعة حصينة يحرسها الزمن، ويصعب اقتحامها على من لا يملك الثمن. يحيطها سور مرتفع يتجاوز الثلاثة أمتار، كجدارٍ امام الفقراء بين الحلم ومرآه. غير أن القدر، كما لو أنه يهوى مداعبة الصغار، حيث زرع نخلة معمّرة بجانب السور، باسقة، يمتد جذعها كذراع أمّ حنون تحتضن مغامرة. كانوا يلقّبونها بـ „العمة"؛ تلك العجوز الطيبة التي لا تخذلهم حين يشتد الحنين إلى الشاشة الكبيرة.

عادل، الفتى الذي خُلق وفي يديه موهبة التسلق، نظر إلى أصدقائه بعينين تشعّان مكرًا وضوءًا، وقال مبتسمًا بثقة لا تعرف التردد:

"سأدخلكم جميعًا... وبتذكرة واحدة."

دخل أولًا من الباب الرئيسي، قطع الحارس تذكرته وسمح له بالعبور. وما إن خفتت الأضواء وبدأت الإعلانات، حتى غادر القاعة بذريعة شراء مشروب او شيء آخر. اعطاه البواب بطاقة خروج مؤقتة، بطاقة صغيرة، لكنها مفتاح الخطة الجريئة.

استغل عادل تبدّل البواب وزحام الداخلين، خرج حيث ينتظره أصحابه خلف السور. ناول أحدهم البطاقة، بينما هو تسلّق النخلة بخفة من اعتاد معانقتها، قفز إلى سطح الحمامات، ثم انزلق إلى داخلها، وخرج بهدوء وكأنه كان يقضي حاجته، عاد إلى القاعة وجلس عند صديقه بعض الوقت، ثم كرر الدور نفسه من جديد.

بهذه الحيلة البديعة، دخلوا واحدًا تلو الآخر، وكلٌّ منهم يختزن دهشة الطفولة في قلبه. لم يكن الفيلم وحده ما يستحق المشاهدة... بل الرحلة إليه كانت، بحد ذاتها، عرضًا لا يُنسى.

في إحدى مغامراته هذه، والتي أبهرت الصبية وعلّمتهم أن الفقر لا يقف في وجه الذكاء، خرج عادل، كعادته، يحمل بطاقة الخروج الصغيرة بين أصابعه كمن يحمل مفاتيح كنز، عازمًا على تكرار خطته في إدخال أصدقائه إلى السينما الواحد تلو الآخر. غير أن الحظ هذه المرّة لم يبتسم كما عهدوه، فقد تنبّه أحد الحراس لشيء ما. لاحظ بعين متشككة أن عدد المقاعد المشغولة في القاعة لا يتطابق مع عدد التذاكر المقطوعة، وما إن لمح عادل يغادر مجددًا بحجته المعتادة لشراء طعام، حتى أوقفه، وجرّه إلى مكتب الحرس.

في المكتب، تعالت الأصوات، توالت عليه التهديدات كالصفعات، وانهالت عليه الأسئلة كالسياط، أحدهم هدّده بالشرطة، وآخر لوّح بيده وكأنه يهمّ بضربه، لكن عادل، بعينيه الذكيتين وصدره المرفوع، على صغر سنه، لم يزده الخوف إلا صلابة. وقف أمامهم منتصبًا كفرسان الحكايات، بعينين تشعّان كبرياءً، وقال بثقة:

الواثق

"اشتريت تذكرتي وهذه بطاقة خروجي، لم أخالف قانونكم، وإن كنتم ترون غير ذلك، فهاتوا شرطتكم... سأشتكي عليكم!"

ثم رمى البطاقة في وجوههم وقال باحتقار العظماء:

"خذوا بطاقتكم، لا أريد مشاهدة فيلمكم، ولن أدخل "سينماكم" بعد اليوم

خرج بخطى ثابتة، لا يلتفت، كأنما خرج من معركة لا من السينما. لم تكن الهزيمة في نظره أن يُطرد، بل أن يَخذِل أصدقاءه، وهو الذي لطالما كان رسول أحلامهم إلى الشاشة. لقد أنجز مهمته، أدخلهم جميعًا، وخرج وحده، منتصرًا بروحه، وفخورًا بأنه جازف من أجل لحظة فرح تقاسمها معهم.

ومنذ ذلك اليوم، ظلّت صورته محفورة في ذاكرتهم، لا تمحوها الأيام ولا يغشاها النسيان. يتناقلون حكايته كلما اجتمعوا، يروونها لأبنائهم وأحفادهم بفخر وحنين لتلك الأيام الجميلة، وسط ضحكات ناعمة وإعجاب لا يخبو بذكائه، كما تُروى بطولات الأساطير الخالدة.

وهكذا ظلّ عادل حيًا في ذاكرتهم، قلبًا لا يعرف الهزيمة، وعقلًا يفتح الأبواب المغلقة.

***

سعاد الراعي

الى روح الانسان والشاعر الحقيقي

موفق محمد

***

قبلَ أَنْ أُغادرَ البلادَ

كنتَ قدْ بكيتَ عليَّ

وأَنا الآخرُ

كنتُ بكيتُ عليكْ

وفي تلكَ اللحظاتِ الفاجعةِ

ومن خللِ غيوم الدمعِ

ونشيجِ القلبِ الراعفِ

قُلتَ لي:

- كيفَ تستطيعُ إحتمالَ

بردَ المنافي

ومخالبِ الغربة القاسية؟

لحظتها اجبتك

غاضباً ومشتعلاً:

- بردُ الغربةِ

وثلوجُ المنافي

ولا ذلُّ الطغاةِ القساة

وتهديداتِ القتلة

ومخاوفِ المخبرين

الذينَ يتجسسون

حتى على انفاسِنا

وكرياتِ دمِنا

وأَصابعِنا وقلوبِنا الواجفةْ

ولاتنسَ وشاياتِ العسسِ

والدركِ والجندرمةِ الواقفةِ

فوقَ خلايانا ومساماتِنا

واكبادِنا النازفةْ،

وإِياكَ تنسى نهيقَ

ونباحَ الشعراءِ المداحينْ

وسمومَ الكَتَبةِ المأجورينْ

وطعناتِ الظلاميينَ والطائفيينْ

والغزاةِ المتوحشينْ

وكتّابَ التقاريرِ من الذؤبان

والغلمان والخصيان

وابناء الزنا والخنا

والمتعة الـمُقْرِفَةْ

وأَرجوكَ صديقي لاتنسَ

خياناتِ الأَعدقاءْ

والتافهينَ والسُفهاءْ

وذوي القلوبِ المريضة

والضمائرِ الواقفة

قابَ قتلينِ

وقاب موتينِ

وقابَ قبرينِ

من الظنون والشكوك العاصفة

ولا تنسَ الجناةَ والزناةَ والرواةَ

وافاعيلَ البغايا والخطايا والمطايا

والنوايا الزائفةْ

**

ها أنا أرتجفُ الآنْ

في مجاهيلِ الزمانْ

وثلوجِ الغربةِ المُلتهبةْ

وأَرى أَولاديَ

وأصدقائي النبلاءْ

وأَرى وطني الأوَّلَ

في التلفازِ محروقاً

ومخنوقاً بين نارينِ

وأَرى شعبي شريداً

ووحيدا وشهيداً

في مهبِّ العاصفةْ -

وحتى بلدي الآخرُ

من الشًبّاكِ أَراهُ

وكم يحُزنُني

أَنَّهم كلُّهم عاجزون

أَنْ يمنحوني لحظةَ دفءٍ

وحنانٍ ولمسةَ عاطفةْ

ولذا أَشعرُ

أَنَّكَ تتعمد أن توهمني

بانَّكَ قد عشت َ كلَّ شيءْ

وشفتَ كلَّ شيْ

في الوطنِ العليلْ

وفي غيابةِ الحبِّ

وفي هاويةِ الجُبِّ

والفرح القليلْ

وفي الظلامِ الطويلِ

وأَعني: ظلامَ العراقِ

الطويييييييييييييييلْ

حيث الخراب والجحيم

والخسائر النازفة

وبعدها الكثيرالكثييير

والمُذلُّ والأَقلّ ُمن القليلْ

وها نحنُ الآنَ

والعالمُ والوجودُ

والناسُ والكائناتُ

والطبيعةُ والخليقةُ

والحقيقةُ والحياةْ

نعيشُ بآخرِ الأنفاس

ونمضي الى قيامةِ العدمِ

الثقيلِ الثقيييييييييييييييييلْ

وياأَيَّها الرجلُ الأًصيلْ:

وياأَيُّها الشاعرُ النبيلْ

ماأَروعكَ وماأَبهاكَ

لأَنَّكَ كنتَ قادراً

على تَخيّلِ وتَحَمّلِ

قسوةِ وكذْبَةِ

وغربةَ العيش

في مكانٍ اسمه:

الوطن الجميل

ولازلتَ مُخْلصاً للشعرِ

ومازلتَ مُهَيّئاً للحُلْمِ

بأَشياءَ هائلةٍ

كالعودةِ للبيت في أَيِّ وقتٍ

وإمتلاكِ فسحةٍ من الأمل

وعشقِ امرأةٍ كانتْ تنتظرُكَ

على أحرٍّ من العطرِ

والزهرِ والجمرِ والحبِّ

والشغفِ المستحيلْ

تُرى يا صاحبي

وحبيبي وخِلّي

ويا صديقي البابليُّ

العتيدُ والعنيدُ

والعاشقُ الحلّي

مَنْ فينا السعيد؟

ومَنْ فينا الوحيد؟

مادامَ كلانا الآن

هُنا ...أَو هُناااكَ

حيثُ الغربةُ السوداءُ

تسكنُنا وتقهرُنا وتذبحُنا

منذُ النطفةِ الأُولى

ومنذُ الصرخةِ الأُولى

ومنذُ الدمعةِ الأُولى

ومنذُ الرحلةِ الأُولى

ومنذُ الوحشةِ الأُولى

ومنذُ الميتةِ الأُولى

وحتى قيامتِنا الأَخيرة.

***

سعد جاسم

 

ماذا لو انسكبت الذاكرة من رؤوسنا مثل ماءٍ في إناءٍ مثقوب؟

ماذا لو صرنا نَصحو فجأةً، غرباء عن أنفسنا،

ننظر في المرآة كما لو كانت نافذةً لشخصٍ آخر؟

ليس لنا ماضٍ نستند إليه،

ولا جرحٌ قديم نتحسّسه كلّما مرّت ريح.

*

كأم تغمض عينيها عن طفلها

لن نعرف اسم أول حبّ،

ولن نميّز ملامح من رحلوا،

ولن نفهم لماذا نبكي حين نسمع لحنًا معينًا،

أو لماذا نخاف من غرفٍ بعينها.

*

سننسى كيف كانت الأم تضع يدها على جبيننا إذا اشتعلت الحمى،

وسننسى أن ضحكة الاب كانت موسيقى خفيّة،

نُطفئ بها الليل.

*

سنفقد طريق العودة إلى الأماكن الصغيرة،

زقاق المدرسة،

بائع الكعك،

شجرة التين التي كانت تؤمن بأسرارنا أكثر من أهلنا ،

*

سنفقد أصدقاءنا القدامى ،

لأنّ الذاكرة لن تجد لهم عنوانًا.

سنراهم في الشوارع، فنبتسم كمن يرى وجهًا مألوفًا في حلم،

ثم نُكمل المسير دون أن نعرف لماذا اقشعرّ الجلد.

*

سننسى كيف كنّا نضحك حين نركض تحت المطر،

وكيف كنّا نرتبك أمام من نُحب،

سننسى الأخطاء الجميلة التي علمتنا الحياة،

والكلمات الغبية التي قالتها قلوبنا بصدق.

*

ولكن، هل سنجني شيئًا؟

ربما،

*

ربما سنحبّ الناس بلا ذاكرة سابقة،

سننظر إلى الوجوه كأنها لوحات بلا توقيع،

جميلة، دون أن نعرف لماذا.

سنصافح العالم بأيدٍ بيضاء،

لا تذكر من طعنها،

ولا من ضمّها.

*

سنبدأ القصّة من سطرها الأول،

بدون ندم،

بدون توقّعات.

*

لكن، ماذا عن الحنين؟

من أين يولد حين تُخرس ذاكرته؟

أين يسكن من لا ماضٍ له؟

وأين يذهب مَن لا أحد يتذكّره؟

*

ستسقط أسماءنا،

ويسقط وجه الايمان كما تعلّمناه،

فنبحث عنه في كل تفصيلة،

في قوس قزح،

وفي صراخ المواليد،

وفي يدٍ لا نعرفها، تمسك بنا حين نتعثّر.

*

أيّ ألمٍ هو ألّا نعرف لماذا نحزن؟

أن نستيقظ بانقباضٍ في القلب،

ولا نجد لصاحبه صورةً أو اسمًا أو سببًا.

*

كحبيبةٍ غضوب، نتمنى ان تعود،

وتدخل علينا بنظراتٍ ساكنة،

وتفرش على الطاولة كل الصور،

كل اللحظات،

كل الخسارات،

كل الضحكات.

لنعود، نحن، بكلّنا،

تمامًا كما نحن.

***

مجيدة محمدي

في اليوم الأول للحرب،

تعرّت نخلتنا من خضرتها،

طعنةٌ في الجذع،

وسقوطٌ مبكر.

*

في اليوم الثاني،

تحوّل موقدُنا إلى كومة رماد،

تتناثر حوله بقايا ريشٍ،

وعظام، وأحشاء.

*

في اليوم الثالث،

صار بابُنا مدخلاً لموضعٍ ناءٍ

في أول القرية.

*

في اليوم الرابع،

التقيتُ صدفةً بجنديٍّ

يحمل على كتفه جذع نخلة.

تأملتُه جيدًا، فعرفتُه:

كان جذع غرفتنا التي تُركت دون سقف.

*

في اليوم الخامس،

وجدتُ غرباء

يتربعون على سجادة

كانت أمي قد علّقتها على السياج

لتطهّرها من بقايا خوفي.

*

في اليوم السادس،

سلّمتُ على نخلتنا،

فردّت عليّ ببقايا حشفها اليابس.

*

في اليوم السابع،

لم أجد البيت، ولا النخلة.

وجدتُ أطلالًا كانوا يسمّونها "الوالدة".

*

في اليوم الثامن،

عدتُ طفلاً لأحمل الحطب،

فصفعني ظلّي،

وقال: تأخّرتَ كثيرًا على موتك.

***

د. جاسم الخالدي

يرتادُ الوهمُ سلاسلَ أصداءِ التجوالِ

ويُنادي فيحارُ بأيِّ قناعةِ ترتيلٍ ينثالُ

مُهَجٌ تفترشُ الوصلَ سبيلا

شَبَحٌ يرفضُ أنْ يُرخي حبلا

أسفٌ يتفتّلُ أسمالا

سَئمتْ أجرتْ شَرْخاً في الرأسِ المعصوبِ

جَرَحتْ في وصلٍ خدّا

صاحتْ مَنْ يغمُسُ في جُرْحٍ نابا

مَنْ يُجري خلفَ بحورِ الهمِّ شِراعا

آهٍ لو ماجَ اليمُّ وأقلعَ طودا

أوقدَ في الكوّةَ نبراسَ المشكاةِ

غضبٌ يجري في أصلِ الويلِ

من ضَجَرِ العبءِ المُزري

حيثُ الريحُ مراوحُ موجاتِ القهرِ الفِطري

وحمولةُ أثقالِ الوصلِ

مِرسالاً ورسولا

يدخلُ في طقسِ النَفَسِ البحري

عِرْقاً من شجرِ الدرِّ المختومِ رحيقا

يتدلّى مشدوداً قنديلاً بحريّا

ثُعباناً أسودَ ذبّاحَ الأجراسِ

حالَ الراهبِ مقطوعِ الرأسِ

يتقلّبُ في آهاتِ البحر صعوداً ونزولا

سهماً لعبورِ مصدّاتِ الرملِ

معصوبَ العينِ كليلا

ويموتُ عليلا.

***

د. عدنان الظاهر

نيسان 2025

(مادمتَ قد خربتَ حياتكَ هنا.. في هذا الركنِ الصغيِر،

فهي خرابٌ أينما كنتَ في الوجودِ)... كافافيس

***

العلامةُ الفارقَة

فرشتُ علاماتي الفارقةِ

وألقيتُ أسميَّ

رفعتُ رنينَ حروفهِ كطيٍر محتدمٍ من لونِ ترابهِ

العالقُ على الطلعةِ

في نقطةِ حدودِ

أتيتُ من تاجِ النخلةِ من أصغرِ جنياتِ السواقي الغافيةِ بين الأضلعِ

فرشتُ كلَّ الخرائطِ ، بحرائقِها النائمةِ بين إيقاعاتِ النسيانِ

هي الحدودُ وأنا الطيُر

تعكزتُ على لسانِ العربِ الطويلِ

الشاهقُ على كلِّ شفةٍ

الحائمُ فوقَ قلوبِنا من محيطِ الماءِ

إلى تخومِ البراري

الراسيَ كوهج الشمسِ فوقَ خرائبِ المدنِ

**

2- أغلال

تدحرج

لسانيَّ المقطوعَ هائجاً على كلِّ رصيفٍ بلا كلماتِ

يلوحُ بكابوسِ النهارِ

ثمةَ بحرٍ بزرقةٍ متعاليةٍ

ٍوثمةَ أطلالٍ بعيدة

الشمسُ ساطعةُ تتوهُج فوقَ بندقيةٍ بلا ساترٍ

ما العلاقةُ بين سطوعِ الشمسِ وفوهةِ بندقيةٍ باردةٍ ؟

تلكَ التي تتلعثمُ بها جدرانِ المنازلِ

التي اندستْ كحليبٍ يشربَهُ الطفلُ بقنينةٍ مِنْ أسمالِ الحروبِ

بينما أيامُنا عناوينٌ بارزةٌ تشبهُ زاويةَ السائلِ والمجيبْ

على شاشةِ أعمارِنا

بين وابلٍ من عتمةٍ المساءِ

**

3 - ممرّ

للنارِ ممرٌ يخرمُ في الأفقِ

للصورةِ تتكللُ بالجدارِ

كهفٌ في الجدارِ

حجرٌ ملقى مِنْ زمنٍ سحيقْ

تفاجئُني نتبعُ دهراً

منهكاً بما فاتَ

مثقلاً بما يأتي في الطريقِ

**

4- حاجزٌ

عصافيٌر ترفرفُ

أم لغطُ العيونُ يعتلي سرجَ الهواءِ

ينشرُ من عصبِ الخوفِ رفيفَ الوداعِ

والهواءُ ثملٌ على وسائدِ الموتِ يصقلُ دروعَ الوغى

ُمدى تتبخترُ بيننا وقاماتٌ قلاع

**

5- هواءٌ لا يتذكرْ

يداكَ العاريتانِ من ملامحِي

ِالناصعتانِ من غبارِ الهزائم

يداكَ التي فتحتَ فوهةَ الألمَ وجلستَ تراقبَه

يداك َتلكَ المترعتانِ بكلِّ ما لا يذكر

يداكَ التي كلما نفضتُهما بعنايةِ

تطايرَ الشرر

تركتَني على مفرقِ الطريقِ

والهواءُ يدخلُ بتأشيرةِ العدمِ

***

رضا كريم

 

حصار

محض اختيار

خوفا

على طهر أنفاسها

قصيدتي المكنونة

بأخاديد خطوة

بإحكام

سُبِكت عثراتها

ففطرتها

لا تروق لصانعي العثرات

**

ولأنها استعصت

وأبت إلّا انحيازا لحروفها

ها هي

تحلّق بطهر أنفاسها

لئلّا تطالها

نتانة أنفاس مسخ

**

أليس من هدوء؟!

وكأنها

فتحت أبوابا تنثُّ روائح سامّة

تأتي

على السائل

وتلتهم السؤال

**

إلّاها عباءتي

تلملم

ولتغدو

بوصلة لخطوة حيية

لكنها عصّية

على الاحتواء

***

إبتسام الحاج زكي

شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.

قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.

يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.

رن هاتفه إشعارا باستلام رسالة. ألقى نظرة على الخلطة المروعة من حروف وأرقام، فإذا هو رجاء من رفيق السكن بأن يدبر له مبلغا لسداد فاتورة علاج. تظاهر بالفهم وهو يجيب بخلطة مماثلة. حروف وأرقام بدأت كمزحة على الهاتف، واستقرت لغة لإنسان التيه. أعجبته مفردة التيه، فتخيل نفسه جرذا يحفر متاهته الخاصة بسعادة بالغة. لعلها الحياة في إحدى معانيها التي تأبى السير باستقامة.

اضطرب نور الشمعة فانكفأ مجددا على خياله، يعتصر حبكة لقصته الجديدة. فجأة شق السكونَ هدير محرك يقترب. فتح باب القسم بحذر فإذا بسيارة تتوقف وينزل منها بضعة شبان. حيوه بلطف زائد ودعوه لوليمة.

 لكني مشغول قليلا. هل يمكن التأجيل لليلة أخرى؟ -

- في الحقيقة نود استشارتك في أمر مهم. لن نأخذ من وقتك الكثير.

تأرجحت بهم سيارة رونو عدة مرات وهي تلتهم الطريق الترابي. مازح السائق قائلا أنه أفضل من شوماخار، ولو شارك في سباقات الفورمولا لكان له شأن آخر. طمأنه أحدهم بأنه قادر على السير فيها ليلا وهو مغمض العينين.

-طمأنك الله بالخير!

أثارت الفرملة سحابة غبار، فتريث قليلا قبل أن ينزل. لاحت من البوابة مائدة بالبهو عليها صنوف الحلوى والشاي. تظاهر بالاحتشام كعادته، فأقسموا أن يدخل أولا، إذ لا أحد غيرهم بالدار. حاول أن يفك رباط حذائه فمنعوه. مد يده إلى طبق حلوى وارتشف من كأس الشاي قبل أن يسأل عن سر هذه الدعوة المستعجلة:

- نريد أن تعلم الإسبانية.

-جميل، وأنا أيضا!

تبادلوا نظرات استغراب قبل أن يسأل أحدهم:

- ولكنك أستاذ!

-صحيح، غير أن الأستاذ لا يُدرس كل لغات العالم. أنا على سبيل المثال أدرّس العربية والفرنسية. بإمكانكم تعلم الفرنسية إن شئتم.

-  لكننا نرغب في تعلم الإسبانية.

-ولماذا الإسبانية تحديدا؟

- لأننا..

تبادلوا مرة أخرى نظرات تشي بالتردد في كشف سر خطير، لكن سرعان ما رد أكبرهم سنا:

- في الحقيقة يا أستاذ نحن عازمون على الحريك*. دبّرنا كل شيء، إلا أن الوسيط أخبرنا بضرورة تعلم شيء من الإسبانية للإفلات من قبضة خفر السواحل.

مد أحدهم يده خلف وسادة، وأخرج دليل تعليم الإسبانية للمبتدئين، ومجموعة قصص للأطفال.

- هل يكفيك هذا؟

- سألقي نظرة وأحسم موقفي غدا..

- لن تُخيب رجاءنا بالتأكيد، فأنت ترى أن البلدة لا تصلح إلا مقبرة للموتى. مُجبرون على ركوب الخطر في سبيل طرف د الخبز**.

- والبحر هو الآخر مقبرة.

- لكن ميتة واحدة خير من مرارة العيش بالتقسيط!

ملأوا جيوبه بالفستق، وربتوا على كتفه ليكون لهم سندا في هذا الهروب الأليم.

فتح باب الحجرة، ثم استأذن العفاريت لإضاءة شمعة يحذوها أمل!

***

حميد بن خيبش

......................

(*): لفظ دارج يحيل على الهجرة السرية.

(**): لقمة العيش في الاصطلاح الدارج بالمغرب.

حِين دَعَوْهُ لِيَقْرَأَ شِعْرًا

فِي أُمْسِيَةٍ شِعْرِيَّةْ

اِحْتَارَ اَلشَّاعِرُ مَاذَا يَخْتَارْ

مِمَّا كَتَبَهُ مِنْ أَشْعَارْ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدَ عَنْ شُهَدَاءٍ رَحَلُوا

دُونَ خِيَارْ

أَوْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِمَّا دَوَّنَهُ

عَنْ تَخْرِيبِ دِيَارٍ،

وَسُيُولِ دَمَارْ

عَنْ عَالَمِنَا اَلْغَارِقِ

بِالدَّمْعِ وَبِالنَّارْ

مَاذَا يَقْرَأُ؟

هَلْ تُجْدِي اَلْأَشْعَارْ؟

هَلْ تَكْبَحُ كُلَّ نَوَايَا اَلْأَشْرَارْ؟

هَلْ تَحْمِينَا

مِنْ كَارِثَةٍ تَأْتِي

أَوْ إِعْصَارْ؟

**

كَانَ اَلشَّاعِرُ مُنْغَمِسًا فِي اَلْأَفْكَارْ

وَهْوَ يُتَمْتِمُ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدِ حُبٍّ لَاتَفَهَمُهَا

مَعْشُوقَتُهِ

فَتَغَارْ

كَانَتْ فِي وَلَهٍ تَرَقَبُهُ

وَهِيَ تُتَمْتِمُ خَلْفَ اَلْأَشْجَارْ

أَتَمَنَّى أَنْ يُجْدِي اَلشِّعْرُ،

وَأَنْ تُجْدِيَ اَلْأَشْعَارْ

***

شعر: خالد الحلّي

أقولها بوضوح

من دون أن أغلقَ عيناً

وأفتحَ عيناً

أني أكره الأيادي الضاغطة على القامات

لتجعلَ الجميعَ أقزاماً

ليس لوطنٍ كرامة

ما دام ساسته

يتّخذون من شعبه أحصنة لعرباتهم

أيها الوطن الغافل

أنا أكره متعجرفيكَ

بأنوفهم التي يمخطون بها

على مَن هم دونهم في الطول

حتى في نومهم لا يكفّون عن المخاط

لذلك يلتصقون بمن يلمسونهم

**

أيها الوطن القاسي القلب

على مدى تاريخك المثقّبِ بالطعنات

أمّرتَ علينا نحن أبناءَكَ البررة

مَنْ ألبَستُهم أحذية أكبرَ من أجسادهم

ليقنعونا بأنّ رحلة المجد تبدأ من القدمين

ومنحتُهم خبزنا

فاتخذوا منه دواليبَ لعرباتهم

ليجعلونا نركض وراءَهم لاهثين

ومنحتهم أيادينا

لينسجوا من أصابعها شباكاً لاصطيادنا

فما الذي أبقيته لنا

حتى جباهنا صاروا يُطالبوننا بالتنازل عنها

مدّعين أنها أرضٌ زراعية

ورثوها عن أجدادهم

**

لم تتوقف بعدُ ساعة الزمن

ثمة مفاجآت مخبّأة للغد

أيها المنتفخون كالبالونات بالغاز الفاسد

أسلحة المعركة المقبلة هي الدبابيس

والإبر

***

شعر: ليث الصندوق

كان يتوارى خلف قناع خفي، يعبر محيطات الكون دون أن يلامس طعم الحياة. كاد اليأس أن يطبق على عنقه، ليختنق الليل في أنفاسه الأخيرة، ككلب يلهث تحت لهيب الصيف، يبحث عبثًا عن نسمة نقية.

كان يعيش في صراع دائم بين واقعه الملموس ومكنونه النفسي العميق، فالكشف عن ذلك المكنون يعني التخلي عن القناع الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصيته، بل ربما كان السبب في عزلته وانطوائه.

ترددٌ يضطرب في أعماقه كموج البحر، يرتفع عاليًا مهددًا بابتلاع سفينةٍ عمره تتخبط وسط العاصفة، لتلقي بها في دوامةٍ من الغرق. هكذا يبدو الصراع خلف القناع، متغيرًا وفق الظروف والمواقف، ومحمّلًا بمزيج من المخاوف ــالخوف من الحكم، والرغبة في الانتماء، والسعي للحماية العاطفية، والبحث عن السلطة والتأثير، في بيئات العمل والعلاقات الاجتماعية.

يجد نفسه في عتمة الحياة، هائمًا فوق غيمة معزولة في فضاء مترامٍ، كأنه يطفو بلا وجهة. يجلس متوترًا، ظهره مستند إلى كرسيه، يرفع رأسه ببطء، مختلجًا بين التردد والانكسار، وعيناه تتسلل من خلف قناع قاسٍ، تتأمل الأفق المتواري وسط الضباب الكثيف. ذلك القناع الذي أذاقه مرارة الوهم، وغلفه بعزلة مصطنعة، يقيد روحه كما يقيد صمتُ الليل العابر أسرار النفس.

يحاول أن يلتقط شظايا الذكريات المبعثرة ـــأيام المراهقة، الأمسيات الهادئة، ضحكات الأصدقاء التي كانت يومًا قريبة، لكن شيئًا ما يعبث بكيانه، شكوك وتوقعات تتناسل في ذهنه، تذكّره بأنه مختبئ خلف عالم غامض، عالم شيده بنفسه من أفكاره المتأصلة.

تتلاطم داخله الصدمات المتكررة، تغرس في وعيه فكرة البقاء داخل ذلك السجن المظلم، حيث الفوضى تضجُّ في زواياه، وحيث القناع الذي ارتداه للاحتماء، أصبح هو ذاته القضبان التي تعيقه عن كشف الأبعاد الحقيقية لوجوده.

كان ضجيج الدماغ يحيط به كموج متلاطم ينهال عليه من كل صوب، وأغنية حزن قديمة من زمن مضى تهمس في الفراغ، تتسلل بين الجدران كأصداء زمن مضطرب، تمتزج مع الفوضى الساكنة داخله.

في زاوية بعيدة، مطرقةٌ تهوي على الخرسانة، تبعث رجفةً في الأرض كأنها تعيد تشكيل وعيه وفق إيقاع جديد. حملت الرياح هذا الصخب المتداخل، لم يعد مجرد أصوات، بل كيانًا حيًا يتغلغل في المسافات، ينساب من السماء، يصعد من الأعماق، يخنق الفراغ، يحتل نبضه ويتمدد في صمته المتلاشي.

وهنا جاءت لحظة المواجهة الحاسمة، لحظة انكشاف الحقيقة وتبدد ذلك الوهم الراسخ. تجمّعت كل أسباب الشقاء منذ أن اخترق شعورٌ مجهولٌ روحه واستوطنها كماردٍ يحرك هواجسه عكس التيار، يعبث بيقينه ويدفعه لرؤية الأشياء بمنظور جديد، رغم وضوحها الذي لم يتغير.

لم يكن يعلم ما الذي يخفيه له ذلك العالم الغامض، ولا ما تحمله همسات الليل الطويل من أسرار. سار بلا هدى نحو الضباب، كأنه يخطو داخل فم حوت جائع ينتظر فريسته. كان الضباب يحيط به كوشاح رمادي، يسرق ملامحه، يحتضنه ببرودة خفيفة تخترق روحه. تأمل كفيه المفتوحتين، كأنما يبحث عن حقيقة ضائعة بين خطوطهما. وحين لامس وجهه بعد هنيهة، لم يعد يميز بين بشرته والقناع الذي التصق بها، حتى كاد يصرخ من الألم—ترى، هل بات القناع جزءًا لا ينفصل عن شخصيته؟.

ثم، دون أن يدرك كيف، بدأ الضباب يبتلعه، أو ربما كان هو من يذوب فيه. هل كان يتحرر، أم كان يختفي؟ لم يعرف، ولم يكن هناك من يخبره بذلك.

***

كفاح الزهاوي

أهبط في ماء أسمائها عاريا

من تواريخ ما كنت أو كان

***

1. فَائِرُ اُلتَّجَلِّي

مِنْ رِوَاقِ اُلْبُرُوقِ تَدَلَّتْ

ضَفَائِرُهَا مَلَكُوتُ اُشْتِعَالِي

اُرْتَدَيْتُ لَهَا بُرْنُسًا

نَسَجَتْهُ أَنَامِلُ سُهْدِي

وَ قُلْتُ:

(لَكِ اُلذَّاتُ صَلَّتْ عَلَى وَتَرِ اُلصَّحْوِ

مُنْذُ عُرُوقي اُرْتَوَتْ مِنْ ثُدِيِّ اُللُّغَهْ

وَ رَمَتْنِي بِأَنْفَاسِهَا رَقَصَاتُكِ

لَسْتُ أُجِيدُ اُلتَّشَكُّلَ فِي غَيْر كَأْسِ اُلزَّمَانِ

وَ فِي كَرْمَةٍ مِنْ وَهِيجِكِ

تَرْفَعُ مَكْرَ اُلْمَكَانِ،

تُسَبِّحُ بِاُسْمِكِ فِيَّ اُلْكَوَائِنُ؛

كَيْفَ أَرَاهَا إِذَا لَمْ تَكُونِي بِهَا؟.)

**

2. أَزِقَّةُ بَحْرِ اُلتَّشَابُه

خَدَرًا أَتَصَبَّبُ

خَطْوَتُهَا شَجَرٌ فِي دَمِي

مُثْمِرٌ بِيَوَاقِيتَ

بَاسِمَةٍ كَاُلْغَرَانِيقِ،

أَيَّ بِحَارٍ أُعَانِقُ

كُلُّ اُلْمِيَاهِ بلَوْنِ اُلْغَرَقْ؟

نَغْمَةً

مَوْجَةً

شُعْلَةً

أَتَلَوَّبُ

عَنْ تُرْبَةِ اُلنَّفْسِ هَجْسِي اُفْتَرَقْ

وَ اُلزَّمَانُ قَرَاطِيسُ

تَنْزِفُ فِيهَا اُللُّغَاتُ،

بَخُورُ اُلتَّآوِيلِ يَغْمِزُنِي بِاُلسَّنَابِلِ

هَلْ أَمْتَطِي اُلْبَقَرَاتِ اُلَّتِي اُنْدَلَعَتْ

فِي أَزِقَّةِ بَحْرِ اُلتَّشَابُهِ؟

أَمْ أُرْضِعُ اُلْوَقْتَ نَأْيًا؟

تَدَلَّتْ عَلَيَّ

اُنْبَلَسْتُ

فَوَاكِهُهَا جَنَّةٌ مِنْ عَبِيقِ اُلرُّؤَى

كُلَّمَا قَطَفتْنِيَ وَاحِدَةٌ

هَدَلَتْ أُخْتُهَا

بِسِلاَلِ اُلْغَوَايَةِ

حَتَّى اُشْتِبَاك اُلْفَضَاءاتِ فِي نُقْطَةِ اُلْمُنْتَهَى.

**

3. طَلاَسِمٌ تَتَفَيَّأُ اُلْجَسَدَ

وَرْدَةٌ صَوْتُهَا

تَتَقَطَّرُ فِي أُذُنِي

مِثْلَمَا لُؤْلُؤُ اُلْغَيْبِ

لاَ مُنْتَهَاهَا عُرُوجِي،

فَأَيُّ فَمٍ يَلْقُطُ اُلتَّسْمِيَّهْ

مِنْ لَهِيبِ اُنْفِتَالاَتِهَا

حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهَا اُلزَّبَدْ؟

أَوْ تَلُفُّ غَيُومَ اُلصَّدَى؟

نَبْضُهَا لاَزَوَرْدُ اُمِّحَائِي

لَهَا اُلْحَدْسُ يَنْقُشُ أُخْيُولَةً

وَ أَسَاوِرَ مَجْلُوبَةً

مِنْ كُنُوزِ اُلْغَرَابَةِ.

أَعْرِفُ أَنَّ طَلاَسِمَهَا تَتَفَيَّأُنِي

مِثْلَمَا يَتَفَيَّأُ ظِلُّ اُلرَّدَى جَسَدِي

كُلَّمَا اُقْتَرَبَتْ شُلَّ حِسِّي

مَحَاسِنُهَا طَعْنَةٌ مِنْ عَقِيقٍ

وَ إِيقَاعُهَا طَلْعَةٌ مِنْ عُذُوقٍ

هِيَ اُلْأَرْضُ؛

فُسْحَتُهَا اُلْيُتْمُ

كَيْفَ إِلَى سِرِّ سُرَّتِهَا أَهْتَدِي؟!

**

4. تَبَرُّؤٌ مِنَ اُلدَّمِ

كمْ تَرَدَّى بُرُودَ اُلْخَسَارَةِ فِي دَرْبِهَا عَاشِقٌ

كَمْ لِجُوعِي رَمَتْ كِسَرَ اُلسُّهْدِ

حِينَ تَغَذَّتْ بِرُوحِي،

لِبَسْمَتِهَا جَمْرَةُ اُلظَّنِّ

وَاُلْعَبَقُ اُلْقُدُسِيُّ

تُسَرِّبُ فِي اُلدَّمِ خَيْلاً مِنَ اُلْحَيْرَةِ اُلْأَزَلِيَّةِ

إِنْ صَادَهُ وَرَلُ اُلْإِغْتِبَاطْ

هَلْ أُسَمِّي أَحَابِيلَهَا قُبْلَةً

وَ مَرَاوِدَهَا وَقْفَةً

ببَيْنَ أَعْرَافِ نَزْفِي؟!

إِذَا دَاهَمَتْنِي بِلَيْلِ اُلسِّيَاطْ؟!

فِي شِغَافِي شُمُوسُ شَذَاهَا مُعَرْبِدَةٌ

وَ عَلَى كَفِّهَا

أَتَقَرَّى اُنْشِطَارِي

وَ أَهْبِطُ فِي مَاءِ أَسْمَائِهَا

عَارِيًا مِنْ تَوَارِيخِ مَا كُنْتُ أَوْ كَانَ،

إِنِّي اُنْخِطَافٌ تَبَرَّأَ مِنْ دَمِهِ.

(دَمُهُ

كَاُلتَّوَاطُؤِ

يَصْعَدُ هُوِّيَّةً مِنْ عَمَاءْ

وَ اُلْفَضَاءَاتُ كِبْرِيتُ فَجْعٍ

يُلَوِّحُ مِنْدِيلُهَا لِلْخوَاءْ)

لاَ سُلاَلَةَ تَرْبِطُنِي بِجُذُورِ اُلدَّياجِي

اُشْتِهَائِي مَحْوٌ

وَ خَطْوِي مَغَازِلُ

(مَنْ يَكْسُ سَوْءَةَ هَذَا اُلْوُجُودْ

اُلْوُجُودُ اُلَّذِي يَتَلَأْلَأُ بُؤْسا

عَلَى حَافَةِ اُلْوَقْتِ؟

جُمْجُمَةُ اُلرُّعْبِ تَضْحَكُ

مِلْءَ اُغْتِبَاقِ اُلْمَدَى)

كَيْفَ مِنْهَا أَفُكُّ مِنْهَا عُرُوقِي

إِذَا نَاوَشَتْنِي؟

وَ أَلْقَتْ عَلَيَّ بِأَسْبَابِهَا؟

سِحْرُ سُلْطَانِهَا نَفَسِي

بِهِ أَدْرَأُ غَائِلةَ اُلْكَوْنِ عَنِّي

وَ أَمْضِي

إِلَى سُبُلٍ

أَوْرَقَتْ فِي اُلْبَصِيرَةِ

لاَ مُنْتَهَاهَا بَهَاءٌ وَلُودْ.

**

5. مِسْمَارُ ضَوْءٍ

خَرَقَتْنِي كَمِسْمَارِ ضَوْءٍ

عَلَى شَفَتِي طَائِرٌ مِنْ تَلاَوِينِهَا

يَنْقُرُ اُلْكَلِمَاتِ اُلَّتِي أَنْبَتَتْهَا جِرَاحِي

اُلْأَصَابِعُ تَشْرَبُ مِنْ صَدْرِهَا وَهْوَهَاتٍ

كَمَا نَارُهَا تَشْرَبُ اُلْعُمْرَ مِنِّي

اُمْتَزَجْنَا كَقَطْرَةِ نُورٍ

عَلَى حَافَةِ اُلْمُشْتَهَى.

**

6. جُؤَارُ اُلسَّرِيرِ

فِي اُلضُّحَى

اُسْتَيْقَظَتْ خَلَجَاتُ سَرِيرِي

رَأَتْ فِيهِ بَعْضِي

وَ بَعْضِي اُخْتَفَى

جأَرَتْ

(يَا اُلَّتِي مِنْ رِوَاقِ اُلْبُرُوقْ؛

هَلْ تُسَمِّينَ هَذَا سَنَاءْ؟.)

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

قَيَّدَتْني غُربتي بِحَبلِ الأسئِلَةِ،

تُذَكِّرُني أَنَّ البحرَ خَيْرُ رَفيقٍ عندَ خوفي،

وهَواجِسِ المَجهولِ، وفي كُلِّ مُعضِلَةٍ،

أَهرُبُ إليهِ كُلَّما يَصفَعُني لَيْلٌ طَويلٌ…

يَستَقبِلُني…

يُفَتِّشُ ما بَيْنَ قَلبي والضُّلوعِ،

وحينَما لا يَجِدُ “مَمنوعاتٍ”،

يُصادِرُ قَلبي، ويَترُكني مُقَيَّدًا،

أُبْحِرُ وَحيدًا مِنْ غيرِ أَنْ أَسأَلَهُ…

*

بَعدَ “بَرَاءتي” عانَقَني، وأَجْلَسَني بَيْنَ أَمْواجِهِ،

يُطْعِمُني أَسْماكًا، وطَحالِبَ مِنْ سُكَّرْ…

أَسْمَعُ ثَرثَرَةَ نُجومِهِ وهيَ تُراقِبُني،

وحِيتانٌ تَسخَرُ مِنِّي،

وتَنثُرُ فَوْقَ جُنوني عَنبَرًا…

خارِطَةُ العُمرِ وُشِمَتْ على جيدِ سَحابَةٍ،

أَفْواهُها فاغِرَةٌ… وضَفادِعُ مِنْ خَوفٍ تُمطِرْ،

تَرجُمُ رَأسي، فَتَعودُ إِلَيَّ ذاكِرَتي،

تَحتَضِنُ وُجوهًا عادَتْ في أَجمَلِ مَنظَرْ…

*

مَهْلًا أَيُّها الصَّبْرُ، تَوَقَّفْ عن جَلدي…

فَلَم أَعُدْ أَقوَى على الإِبْحارِ وَحدي،

فَشِراعي مَزَّقَتْهُ مَخالِبُ الرِّيحِ،

وَهُمومٌ تَلتَفُّ حَوْلَ خاصِرَتي، تُحاوِلُ صَدِّي،

فَلا المَجاذيفُ أَلِفَتْ أَنامِلي،

ولا الأَمواجُ تُقَاوِمُ شَراسَةَ مَدِّي…

*

الأَسْماكُ مِنْ حَوْلي تَفِرُّ بَعيدًا،

وكَأَنِّي بَيْنَ أَسْرابِها قِرْشٌ تَنمَّرْ،

وشِباكُ صَحْبٍ تَقَطَّعَ خُيوطُها،

تَجَمَّلوا بالزَّيْفِ خَلْفَ الكِمّاماتِ،

كَذِئبِ اللَّيْلِ عن نابِ الوَقيعَةِ كشَّرْ…

والجَسَدُ المُتَهالِكُ يَخافُ مِنْ جائِحَةٍ تُرْديهِ،

وحُلمُهُ باتَ رَمادًا، ثُمَّ تَبَعْثَرْ…

لا يَدري:

هَل بَيْنَ شَهِيقٍ وزَفيرٍ يَكْمُنُ؟

أَمْ تَحتَ أَظافِرِ المَجْهولِ عَمَّرْ؟

*

ها أَنَذا… أَضَعْتُ بوصَلَةَ الأُمْنِياتِ،

عَواصِفُ الحِيرَةِ تَتَقاذَفُني،

وأَمواجُ التِّيْهِ تَسْحَبُني إِلى المَجْهولِ،

أَرَقٌ يُشاكِسُني، ويُقَلِّبُ دَفاتِري، ولَيْلٌ تَجَبَّرْ،

وأَنا ما بَيْنَ لَسَعاتِ قَنادِيلِ اليَأْسِ،

وإِرْهابِ الظُّلْمَةِ، وبَطْشِ الغُرْبَةِ،

أَتَلَمَّسُ خُيوطَ الفَجْرِ، وأَظَلُّ أُناجي:

رَبًّا تَعَهَّدَني في مَهْدي وتَلَطَّفَ بي يافِعًا،

وبِرَحْمَتِهِ، لا يَتْرُكْني وَحيدًا،

فِي دَوّامَةِ الزَّمَنِ،

كَزَورقٍ بلا دِفَّةٍ، ولا سارِيَةٍ… أَتَقَهقَرُ

***

جواد المدني

 

أبناء الطين المجفف بالحب الغازي…

لا يعرف شيئًا عن النتوءات التي ترقد في خاصرة الجبال،

ولا يفهم لِمَ تُغني الصخور العتيقة في البلاد حين تشرق الشمس على شقوقها.

و كيف تتحسس يد العجوز التراب كتحسسها رأس الحفيد.

*

أيها الغازي…

نحن حين نعجن خبزنا، لا نكتفي بالدقيق،

نمدّ أيادينا إلى الذاكرة،

نذرّ فيها زعتر الأمهات،

وريحان النوافذ الذي شهد صيف الحصاد،

نخبز الرغيف في تنورٍ من الحنين،

ونرسم على وجهه تجاعيد جدٍّ مات واقفًا في أرضه،

كشجرة زيتون تعلّمت الصمت من كثرة ما مرّت عليها الريح.

*

لا تأكل معنا،

فأنت لا تعرف كيف يُغمس الخبز في الزيت والملح والدعاء.

أنت لا تسمع نشيد الأرض بعد المطر،

حين تتلو الغيومُ أسماءنا…

وحين يُنبت الوادي وجوه أسلافنا،

زاحفين من الطين،

بعيونٍ شديدةِ القدم،

وأحذيةٍ من سُخام المعارك القديمة.

*

أيها الغازي…

نحن لسنا من تراب عابر،

نحن من طينٍ يُجفف بالحبّ،

نُغمس في الشمس،

ونُترك على حوافّ الأيام حتى يزداد الجلدَ صلابة.

*

نحن الذين وُلِدوا من رحم التراب، والرماد،

جئتنا متوهّمًا أن التاريخ حجر يمكن قذفه،

لكنّك لم ترَ الأظافر التي حفرت الحكاية على صدر الكهف،

ولم تسمع غناء المزامير حين نكبد الضباع فصول الخسارات الكبرى.

*

أيها الغازي…

هل جرّبت أن تُقَبِّل أرضًا فتبتلعك؟

هل سمعت عن قرى تنام وهي تلد أبناءها من الحجارة؟

فنحن نُولد من رحم الصخر، المبلّل بالصبر،

*

أيّها الغازي…

أيّها العابر بين الحُجب،

أيّها المطمئن إلى خوذةٍ تلمعُ تحت شمسٍ ليست لك،

قفْ حيث لا ينبت ظلك،

فالأرضُ التي دنوتَ منها ليست أرضًا… بل ذاكرة.

*

أيّها الطامع،

لم يعلّمك أحد كيف تقرأ الأرض بعد المطر،

كيف تُدمي الأقدامُ الترابَ

فتُكتب أسماءُ الأجداد بحروفٍ مبلّلة بالعرق،

وكيف تُنبت الزهور من صُراخ الولادة الأولى،

من رعشة الخوف الأولى،

من شهوة الأرض الأولى.

*

نحن أبناء الطين،

الذي جُفف بالشوق،

بدموع الحصّادين،

بضحكات العشاق في البساتين،

نحن الذين نُغني للعشب،

حين ينبت في باحة الدار.

نُكلم الينابيع بصوت الجدات،

ونربط أبوابنا بخيوط المطر.

*

نحن أبناء التراب الذي لا يُشترى،

ولا يُمْحى!!

*

أيّها الغريب،

أصابعك لا تعرف ترتيبَ الحصى في الطريق،

ولا كيف يُخبَّأ مفتاح الدار تحت أصيص الزهر،

ولا ماذا يعني أن تقف تحت شجرةِ تينٍ

في تموز،

وتُقسم بشفاهٍ يابسة  ، أنك تنتمي....!

*

لك خوذتك،

ولنا أغنية الجدّة حين تهبُّ الريح،

لك سلاحك،

ولنا الدفء المتسرّب من فُرن الطين،

لك الخرائط المزيفة،

ولنا خطوطُ الكفِّ،

حين تُفتح في وجه الشمس وتقرأ الأرضَ كما تُقرأ القصائد.

*

نحن أبناء الطين المجفف بالحب،

ولدنا من ظلال الشهداء،

ومن حكاياتٍ عتيقة،

ومن صمتٍ ينام بين ضلوع الأرض،

لكنّه إذا استيقظ…

زلزل الجبل.

***

مجيدة محمدي

استشرى الخوف في النفوس

الشجاعة والصدق في النضال نشاز ......

الصمت مصدر نجاة في حياة تحتضر ....

***

لم يكن "سلام" يومًا رجلاً عادياً. كان يشبه شجرة نمت في صخر، جذورها لا تخترق الأرض بل تفتتها. حين التحق شابًا بجهاز أمني في إمارة سيكا، لم يكن يبحث عن جاه ولا سلطة، بل كان يفتّش عن موقع يستطيع فيه الدفاع عن وطنه من الداخل، من عمق الجحيم ذاته.

تقلّب في مهامه كمن يتقلّب على الجمر. وظيفيًا كان تحت سلطة والٍ فاسد، أما وجدانه، فكان مسكونًا بقبيلة نضالية آمن بأنها صوت الحق في أرض تكاد تنسى معنى العدل. انتمى لها بكل جوارحه. قرأ صحفها، تظاهر تحت راياتها، وأحيا في شوارع الإمارة صدى شعاراتها. لكنه، كغيره، لم يكن يعلم أن الزعيم الترابي الذي تتغنّى به المقالات وتقدّسه الصور، كان يمضي ليله في موائد الحاكم، يفاوض على حصته من صمت القبيلة. استغل هذا الزعيم منذ شبابه إلى شيخوخته موقعه كمقرب من رئاسة الإمارة وحاشيتها. ربما كان يلعب دور الوساطة بين الزعماء المركزيين ومصادر القرار. استمر مستغلا كتمانه أسرار الإمارة إلى أن وافته المنية.

في البدء، صُعق سلام تذمرا. ثم أنكر. ثم برّر. لكنه في النهاية، كبُر داخله اليقين بأن بعض الأصوات ترتفع فقط لتُخفِي صوت الخيانة.

مرّت السنوات. لم تكن الأيام في سيكا تمرّ، بل كانت تُجلد. كل يوم كان جلدة جديدة على ظهور الشجعان. شيئا فشيئا، بدأت الشجاعة تتراجع. ليس هربًا، بل إنهاكًا. وبدأ الخوف يتسلل كضباب خفيف، لا يُرى لكن يُشعر به.

أدرك سلام أن ما يسري في دمه لم يعد شجاعة صافية، بل مزيجاً ساماً من الرجولة والوجل، من الصمود والرغبة في الفرار. تحول ذلك المزاج إلى مرضٍ لا علاج له، كأن روحه أصبحت رئة مصابة بتليّف لا يُشفى.

لكنه لم يصمت. لم يعرف للسكوت طريقاً. وقف في ساحات الصراخ حتى حين خلت من الحناجر. خاطب شباب القبيلة:

"يا أبناء الأرض... لا تصدّقوا أن الصمت حكمة. الحكمة التي لا تُنطق تذبل. والشجاعة التي تُدفن بالخوف تخرج من قبورها على شكل استسلام."

كانوا ينظرون إليه بدهشة. رجل في نهاية الخمسين، بهيئة شيخ أنهكه المرض، وعينان لا تزالان تلمعان بشرارة لا تنطفئ. لم يطلب منهم أن يحملوا الرايات، بل أن يحملوا نفوسهم بلا خوف.

أحدهم، شاب يُدعى فهد، سأله ذات مساء:

"سلام، ما نفع شجاعتك اليوم؟ ما الذي تغير؟"

ابتسم سلام، وأشار إلى صدره:

"ما تغير؟ قلبي. لم يمت."

ثم همس:

"ربما أموت غدًا، لكني أريد أن أموت واقفًا، شاهقًا، لا نادمًا ولا ناسيًا من أكون."

***

الحسين بوخرطة

فصل من رواية سيرة سلام "مرثية كفاءة نضالية"

أرانيْ كُلّما واعدْتُ أمْسي

وجدتُكِ فيه زائرةً لأمِّي

*

كأنّكِ قد علِمتِ بأنَّ أمسًا

أوَى أُمّي غدا لي كلَّ همِّي

*

أُقيمُ بهِ وأولِجُ فيهِ يومي

فيومٌ دونَ أُمٍّ محضُ شُؤْمِ

*

ألا أنعِمْ بها أمًّا تُسوّي

الزّمانَ فلا يعودُ أبًا لغَمِّ

*

فآثرْتِ النّزوحَ إليهِ روحًا

ليَلْقىْ وهمُكِ الموْلودُ وهْمِي

*

بعينيِّ الأسى دونَ العيونِ الـ

لتي في صفوِها صادفْتُ رسْمِي

*

وجفْنيهِ وراءَهُما الجفونُ الـ

لتي من سحرِها اسْتوحيتُ نظْمِي

*

ونارٌ دونَها الشّفَتانِ فيما

مضَى لم تنطفيْ إلّا بلَثْمِي

*

وسرْدُ الصّمتِ مُكْتَتِمًا جديثًا

خلا اسْمي فهْو في كيفِي وكمِّي

*

أتيتِ لتُعْتِقي في نورِ أمّي

صِبًا سجّنتِهِ من غيرِ إثْمِ

*

وأنتِ بموطنٍ يُفنَىْ صباهُ

بسِجنِ عدوّهِ من غيرِ حُكْمِ

*

فهلْ سكن العدوُّ بنا فصِرنا

نُطاوعُهُ علينا دون علْمِ؟

*

أمِ اجْتازَتْهُ قسْوَتُنا تُجازي

الصِّبا فينا أيادينا بلجْمِ

*

وأنتِ بموْطنٍ تفديهِ أمٌّ

ربا فيْ حِضْنِها في دارِ يُتْمِ

*

وإذْ خرْتِ النّزوحَ لدارِ أمْسي

فأنتِ حقيقةٌ بنعيمِ أمِّي

*

وأَمسي حاضري وغَدِي وأمّي

لأَمْسِي حظُّهُ المودي بخِصْمي

*

أُحبّكُ ما حييتُ؟! بلىْ فأُمّي

فلسطيني الّتي تجْري بدَمِّي

*

ويبقى للنُّهى والقلبِ منّي

سؤالٌ في دميْ يسريْ كسُمِّ

*

لماذا حينَ واعدْنا غدًا غا

بَ حُلْمُكِ تاركًا للرّيحِ حُلْمِي

***

أسامة محمد صالح زامل

في قريةٍ صغيرة محاطة بأشجار الصنوبر والضباب، كانت هناك عادة قديمة: حين يُعقد وعد بين اثنين، يُقدَّم أحدهما للآخر سوارًا مصنوعًا من خيوط ملونة تنسج تحت ضوء القمر.

يُقال إن تلك الأساور لا تنكسر إلا إن خُذل الوعد. وكل من يفقد سوارًا، يُقال إنه يفقد بعض ظلَّه.

في إحدى زوايا القرية، عاشت ليل كانت ترتدي خمسة أساور في معصمها الأيسر، لكل واحد منها قصة، وكل قصة بقايا حلم. قالوا لها: "أنتِ محظوظة، كم من الوعود تحيط بك. كانت تبتسم في صمت ثقيل. كانت تعرف جيدا أن من يحمل الوعود لا يعود حرًا.

في إحدى الليالي، وبينما كانت تسير قرب النهر، شعرت بسوار يشدّ على يدها كالقيد.  نظرت إلى الماء، وهمست:

 "لم أعد أُريد أن أحمل ما لا يُحمَل."

فكّت الأساور واحدًا تلو الآخر، ورمتها في النهر، دون دمعة، دون وداع. كل سوار سقط بهدوء ضاع في الطين كأنه نهاية جملة نُطقت منذ زمن بعيد في النهار كانت الشمس ساطعة وظل ليل طويل. تغني أساور الوعود وهم واساور الكبرياء ذهب

***

رائدة جرجيس

مترددا أمام الصراف الآلي سحب بطاقته قبل معرفة الرصيد. خفقة قلب تؤذن بأن ما تبقى من راتبه لا يكفي لتجهيز وليمة لأخيه العائد من غربة في ربوع كندا الساحرة.

غربة! وابتسم بسخرية حين نطت إلى ذاكرته عشرات الصور التي يغص بها حساب الأخ الأصغر في انستغرام: مسكن بالعاصمة تسيجه حديقة ومسبح ومرآب للسيارة. وزوجة من بغداد هرّبت ملامحها الأشورية إلى أوروبا قبيل الزحف الأمريكي على كبرياء صدام حسين وآبار نفطه. ومقاولة تحلب وزارات العالم الثالث مقابل استشارات ودراسات تذهب أدراج النسيان.

- أنا الغريب المغترب في وطني. ثلاثون عاما أحمل فوق رأسي خبزا تأكل منه طيور الوزارة وغربانها. يرحل وزير وحاشيته، ويأتي وزير آخر وحاشيته. وبين هذا وذاك تتدلى كروش، وتتضخم أرصدة، ويتخرج أبناء مترفون من جامعات أوروبا ليستكملوا الرضاعة من ثدي الوطن الأم، بينما راتبي كنقش صخري، لا يتبدل ولا يتغير.

هبت ريح خفيفة كنست وريقات الخريف المتعبة. دس يديه في جيوب معطفه ثم انطلق كسهم إلى بيت الوالدة. تلك عادتنا حين تبعثر الدنيا ما في القلب من طمأنينة. قبّل جبهتها ويدها ثم اضطجع في فناء الدار. رن الهاتف بعد لحظات ليستعجل الرئيس حضوره لاجتماع طارئ:

- زميلكم الذي كان راقدا بالمستشفى وافته المنية. والإدارة كما تعلمون لم تحظ بعد بمخصصات لإظهار التكافل مع موظفيها، لذا أقترح التبرع بمبلغ محترم لتأدية واجب العزاء.

خفقة قلب تؤذن بأن ما في محفظته ليس محترما بما يكفي، لذا سارع لإبداء مقترح بتثبيت حصالة تودع فيها المساهمات بكل أريحية. ضربة معلم تنفس زملاؤه على إثرها الصعداء. ليس وحده من يئن تحت وطأة الإفلاس إذن! أما المدير الذي لم يجد بُدا من الموافقة فقد سدد واجب العزاء مقدما، على أن يسترده من الحصالة متى سنحت الفرصة. شهامة!

على الجمر كان إبريق الشاي يغلي بحماس، بينما صوت الوالدة يردد للمرة الألف ما علق بذهنها من أبيات ملحون قديمة:

الصلاة من الله عليك يا العدناني

يا عين الوجود سلطاني

يا روحي وراحتي طه المحبوب

 ألا مَثلُه احْبيب محبوب..

بضع رشفات من شايها حلت عقدة لسانه، فشكا إليها الغلاء ومصاريف الأولاد بعد انتسابهم للجامعة. ثياب جديدة وهواتف، وأتوبيس تزحف تذاكره اليومية على خمس راتبه. يخجل الأولاد من طلبهم المتكرر فتكون الأم رسولهم إلى جيبه الموقر. هيت لك !

مسدت بيدها ما تبقى من شعر رأسه، وهي تلهج ببساطة العيش التي اكتنفت أربعين سنة من حياتها مع المرحوم:

- كانت البَركة تحُف كل شيء حتى الوجع، أما أيامكم هذه فلا الولد يشبع، ولا الروح تقنع. الله يستر!

قبّل يدها ثم انسحب بخفة. لا يدري لم يُتعبه حديث النهايات المفعم برائحة الموت. أين البركة في طفولة جائعة وحافية؟ عاشت أمه كغيرها من آلاف الأمهات، لا تأبه لتفاصيل الحياة. يد تدور مع الرحى، وأخرى تجمع الحسنات بسبحة من الخرز. رضا وتسليم لم يذقهما منذ زمن، كأن الهموم خُلقت لجيله الذي يمضي حائرا بين الرحم والقبر.

طرق الباب ففتحته وهي تبدي قلقا لتأخره على غير العادة. أومأت برأسها إلى وجود ضيوف بالداخل فأظهر اشمئزازه. لا شك أن خلف الزيارة ما سيرفع ضغط دمه. مد يده مصافحا فسارع الجار لاحتضانه وتقبيله، أما الزوجة فأكثرت من دعاء الستر والحفظ، والنجاة من أي مخطط يحيكه الشيطان وأعوانه من الإنس والجن. تذكّر مخطط الحصالة فانفرجت أساريره لأنها لن تحلم بدرهم واحد قبل سنة. لِيحكّ الرئيس صلعته ندما على وثوقه بكتيبة من المفلسين!

التمس الجار إجراء حفل خطوبة ابنته هنا. الصالون رحب وردهة الدار تستوعب أقارب العريس المنتظر. حك جبينه ثم لم يجد بُدا من الموافقة. الجار للجار سترة. باشرت زوجته على الفور ترتيب المخدات فأقسمت الجارة أنه واجب عليها.

رن هاتفه قُبيل الفجر بلحظات فهب من سريره كقط مذعور. جلبة وأصوات نداء كأن المتصل في مخيم للكشافة. بدا الأخ المهاجر غير مكترث وهو يطلب أن يُقله من المطار.

- صندوق التاكسي صغير ولا يتسع لجلب الأمتعة. عجّل بإحضار سيارة نقل!

غير متردد أمام الصراف الآلي وضع بطاقة السحب، ثم ضغط بسبابته قبل أن يشعر بخدر في يسراه، وهوة تحضنه بلا استئذان!

***

حميد بن خيبش

 

سُمّيتِ قاهرةً! هل تقهرينَ عَدا؟

قلوبَ مَنْ وهبوا ما يملكونَ فِدا

*

أُنْبيكِ لم تقهري ذبّاحَ غَزّتِنا

لكنْ قهرتِ الذي صوْبَ السماءِ عَدا

*

صدقاً ولم تقْهَري في عَهْدِ مُنْقَلِبٍ

إلا بَني شعبَكِ الأحرارَ والسَنَدا

*

أرثيكِ قاهرةَ الناجينَ من شَرَرٍ

لُؤماً وناهِرَةَ الراجينَ منكِ نَدى

*

نادوا عليكِ وراءَ السورِ وا أسفي

نادوا ولم تسمعي للراحلينَ نِدا

*

نادوا عليكِ حُماةُ الأرضِ كي تَلِدي

جيلَ العُبورِ الذي أوفى بما وَعَدا

*

الشاذِليُّ بذاكَ اليومِ رَدّدَها

اللهُ أكبرُ قبلَ الفجرِ واتَّقَدا

*

ياعابرينَ شواطي النارِ بي عَتَبٌ

هل غابَ عنكمْ لظى تشرينَ وابتعدا

*

وعينُ جالوتَ في التاريخِ هل سُمِلتْ

أمْ عُهْرِ سامِلِها للعالمينَ بَدا

*

ضنَّ الغيارى غداةَ الحُلْمِ أسكرهم

تأتي الشقيقةُ (بالنُعمى) تَمُدُّ يَدا

*

تلكَ التي سكنتْ في خاطري زمناً

ضاعتْ فتاهتْ خطى العُشّاقِ محضُ سُدى

*

كُبرى الشقائقِ إذْ تعمى بصيرتها

تمشي لِهاويةٍ ظلماءَ دونَ هُدى

*

شقيقةٌ أنكرتْ قُرْبَ العَريشِ أخاً

قد ذبّحوا أمّهُ والبنتَ والولدا

*

تنمو شقيقتهُ الكبرى ورُبّتَما

فاقتْ بلا حَسَدٍ جيرانَها عَددا

*

وكلّما كَبُرتْ وَلَّتْ حكومتها

للثائرينَ تشدُّ الحَبْلَ والمَسَدا

*

لاكتْ بسكّينها أكبادَ صبيتِهِ

وغرّزت في قلوبِ النازفينَ مُدى

*

شيخٌ بغزّةَ يرجو الغوثَ من عطشٍ

لكنّهُ لم يذقْ من نهركِ المَددا

*

النيلُ يكفي عطاشى الكونِ قاطبةً

وتسكُبينَ له الزقّومَ والزَبَدا

*

نادى ونادى وراءَ السورِ جارتَهُ

مُسْتصْرِخاً إنّما لم تلْتَفتْ أبَدا

*

أوتارُ حنجرةِ الظامي تَسحُّ دَماً

كعازفٍ للورى لحْناً بدونِ صَدى

*

صُمّاً ينادي، سماواتٍ بها صَمَمٌ

زخّتْ هنا حِمَماً، سَحّتْ هناكَ ردى

*

أوْما لِسُكّانِ واديها العَريقِ فَما

هَبّوا لِنجدَتِه بل لم يَجِدْ أحَدا

*

أتتبعينَ دُويْلاتٍ مصنّعةٍ

وتجهلينَ ضفافَ النيلِ والبَلدا

*

وتلجمينَ ضميرَ الشعبِ لو غضبا

وتنكرينَ دَمَ الأحرارِ والشُهدا

*

شَمّ الرياحينَ ليلاً حولَ خيمتها

فجاءها راجياً يستعطفُ الوتَدا

*

فَهالَهُ إذ رأى الأوتادَ خاويةً

لم تشتعلْ نخوةً أو تتقدْ رَشَدا

*

جنودُ هامانَ قد صاروا لها حَرَساً

يقتصُّ من لائذٍ لو حَجَّ أو قَصَدا

*

فهبّتْ الريحُ من سيناءَ عاصفةً

وهدّمتْ خيمةَ الأعرابِ والعَمَدا

*

يا طالباً من لئيمِ الدهرِ مكرمةً

هلْ فاقدُ الشيء يعطيك الذي فَقدا؟

*

فَعمدةُ الخيمةِ الصفراء مُتّخِذٌ

تابوتَ مَنْ ذبّحوا الأطفالَ مُلْتَحَدا

*

يا أرْمَدَ القلبِ والعينينِ كُنْ حَذِراً

إنَّ العَمى آفَةٌ قد تتبعُ الرَمَدا

*

يَحِثُّ فِرْعونُها هامانَ يأمُرُهُ

رَدْمَ السبيلَ إذا ما ضامئٌ وَرَدا

*

كأنّهُ سادِرٌ في غيّهِ ثَمِلٌ

بَلْ سامريٌّ لغيرِ العِجْلِ ماسَجَدا

*

إخشيدُها أودعَ التلمودَ مُهْجَتَهُ

لِيرضعَ اللؤمَ من أسفارها أمَدا

*

أبواقُ كافورِها المجذومِ نابحةٌ

ليلاً وناهشةٌ من طِفْلَةٍ كَبِدا

*

نامتْ نواطيرها عن غدرِ ثعلَبِها

فعاثَ في حقلِها الميمونِ مُنفردا

*

ساقَ الحُداةُ لوادي النيلِ قافلةً

وكم فقيراً الى أمِّ الجياعِ حَدا

*

لكنّها لم تَرَ الصدّيقَ يوسفَها

حتى يكيلَ لها كُرمى لِمَنْ وَفَدا

*

فالنيلُ جافى فراتَ اللهِ مبتعداً

عن شطِّ دجلةَ والخابورِ أو بردى

*

ما أكثرُ الجندَ في سيناء يا أبَتي

وحينما أزِفتْ تاهوا بها بَددا

*

الغوثُ يا والدي قد جَاءَ من يَمَنٍ

من صَعْدَةَ العزِّ صوْتُ الحقِّ قد صَعَدا

***

د. مصطفى علي

 

من كل ناحية ينخرْن في جسدي

يا منبع الحزن والآهات والكمدِ

*

قد كنت أحسب أن السانحاتِ مضتْ

يا هذه النفس بِينِي عن هنا ابْتعــدي

*

قد تُهْتُ فيكِ سنينًا لا حنين لها

وكنتُ فيها هباءً دونما سنـــــــدِ

*

لكنني، وأنا المغبونُ في خَلَـــــدي

أكتـِّم الآهَ، والأحوالُ طوعُ يدي

*

يا نفسُ هذا خيالٌ جامحٌ وهوى

يا هذه النفحة البيضاء، فاتَّقدي

*

أطارد الفرحة العرجاء منفــــــــردا

هذا السراب، وذاك الظامئ الأبدي

*

كل المحامد ضاعت في الزمان سدى

الآن تُوقِعُني في غمرة الحســـــــــد

*

تلك المعارك سادت في الحياة لنــــــا

أورتْ زناد الجوى، أوهتْ به جَلَدِي

*

لا أستطيع فكاكًا ما حللت بها

ولا أريد بقاءً ضلّ بالجسد

*

هذا قصيديَ لا أرضَى له بـــدلا

هذا أنيسيَ في نومي وفي سهدي

*

يصوِّر النفس، والأحزانُ صامدةٌ

يجسِّد البوح، لم يُنقِص ولم يزدِ

*

يطير فيَّ هُمامًا لا يخاف نــوى

لا ينحني لهبوب الريح كالوتد

***

طارق يسن الطاهر - السودان

 

في نصوص اليوم