نصوص أدبية

نصوص أدبية

أَنَا لَا أَرْفَعُ رَأْسِي تَكَبُّرًا،

بَلْ لِأَنَّ فِي دَاخِلِي سَمَاءً

تَأْبَى الاِنْحِنَاءَ.

كِبْرِيَائِي لَيْسَ جِدَارًا،

بَلْ أُفُقٌ أُطِلُّ مِنْهُ عَلَى نَفْسِي،

وَأَرَى فِي الصَّمْتِ أَوْسَعَ مِنْ كُلِّ ضَجِيجٍ.

أَنَا لَسْتُ أَعْلَى مِنْ أَحَدٍ،

لَكِنِّي لَا أَقْبَلُ أَنْ أُخْتَصَرَ فِي ظِلٍّ.

كِبْرِيَائِي…

صَلَاةٌ سِرِّيَّةٌ فِي مِحْرَابِ الْعِزَّةِ،

هَمْسُ رُوحٍ تَعْرِفُ قَدْرَهَا،

وَتَبْكِي حِينَ تُـمَسُّ الْكَرَامَةُ.

لَا أَحْتَاجُ تَصْفِيقَ أَحَدٍ،

وَلَا اعْتِرَافَ السُّطُوحِ.

يَكْفِينِي أَنْ يَظَلَّ وَجْهِي فِي مِرْآةِ نَفْسِي نَقِيًّا كَقَطْرَةِ مَطَرٍ لَمْ تَمَسَّهَا يَدُ الْأَرْضِ.

الْكِبْرِيَاءُ لَيْسَ أَنْ أَقُولَ "أَنَا"،

بَلْ أَنْ أَكُونَهَا كَامِلَةً

حِينَ يَغِيبُ كُلُّ أَحَدٍ.

أَسْمَعُ فِي دَاخِلِي نِدَاءً قَدِيمًا :

«اِنْهَضْ، لَا تُطْفِئِ النُّورَ كَيْ يَرْضَوْا عَنْكَ،

فَمَنْ اِنْحَنَى ضَاعَ ظِلُّهُ.»

أَمْشِي بِخُطَى الصِّدْقِ،

أَتْرُكُ وَرَائِي ضَجِيجَ الزِّحَامِ،

وَأَمْضِي،

وَفِي قَلْبِي نَارٌ تَعْرِفُ مَتَى تَشْتَعِلُ

وَمَتَى تَصْمُتُ كَجَمْرَةٍ نَبِيلَةٍ.

أَنَا لَسْتُ حَجَرًا،

لَكِنِّي لَا أَلِينُ لِمَنْ يُرِيدُ كَسْرِي.

كِبْرِيَائِي سَكِينَةٌ تَتَوَضَّأُ بِالْجُرْحِ،

وَتَكْبُرُ كُلَّمَا صَبَرْتُ.

هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي لَا يَرَاهُ الْعَابِرُونَ،

لَكِنَّهُ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ

حِينَ أَكُونُ وَحْدِي.

كُلُّ صَمْتِي شُمُوخٌ،

وَكُلُّ نَظْرَتِي وَعْدٌ،

وَكُلُّ كَلِمَةٍ لَا أَقُولُهَا،

سُورٌ يَحْمِي زَهْرَةَ نَفْسِي مِنَ الرِّيحِ.

الْعِزَّةُ لَيْسَتْ صُرَاخًا،

بَلْ أَنْ تَمْضِيَ فِي صَمْتِكَ وَاثِقًا،

وَفِي وَجْهِ الْخُذْلَانِ… مُبْتَسِمًا.

كِبْرِيَائِي :

أَنْ أَرَى نَفْسِي فِي الْعَاصِفَةِ،

وَلَا أَرَى الْعَاصِفَةَ فِي نَفْسِي.

أَنْ أَقِفَ،

حِينَ يَسْقُطُ الْجَمِيعُ.

أَنْ أَظَلَّ نَقِيًّا،

حِينَ تَتَّسِخُ الْوُجُوهُ بِالتَّصَنُّعِ.

أَنَا لَمْ أَتَعَالَ،

لَكِنِّي تَعَلَّمْتُ أَنَّ مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الطِّينِ،

يَفْقِدُ وَجْهَ السَّمَاءِ.

كِبْرِيَائِي لَيْسَ عُلُوًّا،

إِنَّهُ جُذُورٌ فِي الْعُمْقِ،

تَسْقِيهَا التَّجَارِبُ،

وَتَحْرُسُهَا الدُّمُوعُ.

مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ،

اِسْتَغْنَى عَنْ كُلِّ مِرْآةٍ.

وَهَا أَنَا…

أَمْشِي بِنُورٍ لَا يُطْفِئُهُ مَدْحٌ،

وَلَا يَزِيدُهُ ذَمٌّ،

نُورٌ خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ،

وَصَارَ جَنَاحًا.

أَنَا لَا أُقَايِضُ صَمْتِي بِثَمَنٍ،

وَلَا أَبِيعُ وَجْهِي فِي سُوقِ الْوُجُوهِ.

كِبْرِيَائِي هُوَ هَذَا التَّوَازُنُ الدَّقِيقُ

بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ،

بَيْنَ الضَّعْفِ النَّبِيلِ،

وَالْقُوَّةِ الرَّحِيمَةِ.

مَنْ يَظُنُّ الْكِبْرِيَاءَ قَسْوَةً،

لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الاِنْكِسَارِ بِكَرَامَةٍ.

أَنَا لَا أَنْحَنِي،

لِأَنَّنِي حِينَ أَنْحَنِي

أَفْقِدُ مَلَامِحَ نَفْسِي.

وَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَبْقَى وَاقِفًا،

حَتَّى لَوْ كُنْتَ وَحِيدًا،

فَالْوَحْدَةُ مَعَ الْعِزَّةِ

أَرْحَمُ مِنَ الْجُمُوعِ مَعَ الذُّلِّ.

***

بقلم: سليمان بن تملّيست - تونس

جربة في 2025/10/27

 

تحيّرتُ منْ شوقي إليك ِ ولوعتي

أنارُ جحيم ٍ أنْت ِ امْ أنت ِ جنّتي

*

تلاقينني والقلب ُ يرقصُ نشوة ً

وارجع ُ مهموما ً أنادم ُ حَسْرتي

*

وتبديْين َ لي في ألْف ِ حال ٍ وصورةٍ

فأيّة حال ٍ سوف َ ترسمُ ريشتي

*

أكفكف ُ أحيانا ً دموعي وتار ة ً

أ ُغرّدُ مثْل َ الطيرِ من فرْط ِ فرحتي

*

وأهرب ُ منْ لقياك ِ لكنني أرى

خيالك ِ قُدّامي كأنك ِ كعبتي

*

وأغفل ُ عنْ ذكْر ِ الهوى متناسيا ً

فتلسعُني ذكراك ِ لسْعة َ جمْرةِ

*

فتسخر ُ بالنسيان ِ ذاكرتي وقدْ

صَحتْ خطواتي عنْد َ موطئ عثرتي

*

وأرجع ُ منْ حيث ُ ابتدأت ُ كعادتي

أُفكّر ُ ما بين اشتياقي وخيبتي

*

أحاذر ُ ممّا قدْ يجئ ُ به ِ غد ٌ

فيغرقني التفكير ُفي كلّ خطوةِ

*

أخاف ُ من الأيام، منْ دورانها

يفرّقنا عن بعضنا دون َ رجْعة ِ

*

فقدْ تقتل ُ الحُب َّ الشديد ّ حماقة ٌ

وقدْ يُطفئ ُ الأشواق َ بعضُ تعنّت ِ

*

فتصبح ُ دُنيا العاشقين َ مملّة ً

وباردة ً كالثلْج ِ مِنْ غيرِ جذوةِ

*

أخاف ُ بأن ْ تجري الرياح ُ حبيبتي

بغير ِ الذي قدْ أمّلتْهُ سفينتي

*

ويُلْغي شراع ٌ مُرْغما ً خط ّ سَيْرهِ

وترمي بنا الأمواج ُ في كل ّ وجهة ِ

***

أعيدي إلى نفسي الأمان ّ وحاولي

بأنْ تنقذيها منْ شكوك ٍ وحَيْرةِ

*

أريني الغد َ الآتي حنانا ً وعالما ً

مِنْ العطْف ِ لا مِنْ كبرياء ٍ وقسْوةِ

*

كما أنت ِ كوني فطرة ً وبراءة

فإنّك ِ لَوْ تدرين َ أجمل ُ لوحة ِ

*

بقيّة ُ حُب ّ في فؤادي تشدّني

إليك ِ فصونيها بلمْسة ِ رقّة ِ

*

فإنْ أنت ِ أبديْت ِ التسامح َ مرّة ً

سيكبر ُ في قلبي الهوى ألف َ مرّة ِ

*

أشيح ُ بوجهي عنك ِ وجها ً مقنّعا ً

وأهواك ِ حتّى الموتِ وجه َ حقيقة ِ

*

ولي أمل ٌ أنْ يرجع َ الحبُّ صافيا

ويفتح َ أبواب َ السماء ِ بكلمة ِ

*

فنرقى إلى حيث ُ الأعالي تضمّنا

كنجمين ِ من تلك النجوم ِ البعيدة ِ

*

نسافر ُ في كون ٍ من الضوء ِ ساحر ٍ

فنحن ُ بلا حُب ّ مجرّد ُ طينة ِ

*

هو َ الحب ّ نورُ الله فينا وإنّهُ

عزاء ٌ لنا في عالم ٍ متزمّت ِ

*

وبالحب ّ أغنى الناس ِ نحن ُ وإننا

لأطول ُ عمرا ً منْ حياة ٍ قصيرة2086 alsaedi

لا تشغليني بالحديث لأنني

في الصمتِ يشغلني الهوى الغلابُ

*

وأرى الجمالَ إذا صمتُّ مفكرا

إنَّ الحديث َ عن الجمال ِ حجاب ُ

*

إنَّ التفكّر َ في الجمال ِ عبادة ٌ

تجلو الفؤادَ فتُفتح ُ الأبواب ُ

*

الحسْن ُ معنى ً كالمحبّة ِ ساكن ٌ

أعماقنا لا صورة ٌ وثياب ُ

*

إنّي ليبلغني التفكّر ُ نشوةً

أضعاف َ ما تاتي به ِ الأكواب ُ

*

كُثْر ٌمحاريبُ الجمال ِ وإنّما

الكون ُ كلُّ الكون لي محراب ُ

*

سألوا : أأنت ِ حبيبتي فأجبتُهم ْ

بالصمْت ِ، فالصمْت ُ العميق ُ خطاب ُ

*

إن َّ الإ جابة َ حين َ يفتضح ُ الهوى

عبث ٌ ، ففي بعض ِ السؤال ِ جواب ُ

*

ولكم أثاروا في غيابي شكّهم

لِم َ قدْ عشقتُك ِ؟ ما هي َ الأسباب ُ

*

إنّي أحبّك ِ هكذا بتجرّد ٍ

معنىً ، فما الأسماء ُ والأنسابُ

*

في الحب ِّ تنصهر ُ الفروق ُ ويختفي

نَسَب ُ الحبيب ِ وتسقط ُ الألقاب ُ

*

لا شئ َ غير ُ الحب ِّ يجمعنا معا ً

إنْ لم ْ نعشْه ُ فإنّنا أغراب ُ

***

جميل حسين الساعدي

...........................

* هاتان القصيدتان من مجموعتي الشعرية (طقوس) الصادرة عن دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة جمهورية مصر العربية

لستُ في قبريَ وحدي

أنا من نافذة داخلَ صدري أرصدُ العالمَ

في أخطائِهِ يغرقُ للقاع،

ويطفو

وهو في النزْع الأخير

والسكاكينَ التي تُغمدُ في أقمِطة الأطفال

والليلَ الذي يَدفنُ في الأحداق أسمالَ الضحايا

والملايينَ التي خوفاً من النيران

صارتْ – دونَ أن تدري – فراشاتٍ

على النيران تهوي، وتطير

لم يكنْ موتيَ بالأول هذا

فقد اعتدتُ على الميتات من قبلُ

كما اعتدتُ على رجلي إلى الموتِ أسير

غيرَ أني بعد موتي

كنتُ أشتاقُ لبيتي وصِحابي فأعودُ

حامِلاً نعشي على ظهري

وجلدي كَفني

مُودِعاُ للميتة الأخرى جراحي وصليبي في الحَفير

بعدَ كَرّاتِ قُرونٍ بينَ موتٍ وانبعاثٍ

صِرتُ روحاً هَرّأتهُ الطلقاتُ

هائماً، يبحثُ في كون من النيران

عن خِدنٍ،

وبَيتٍ،

وسَرير

***

شعر: ليث الصندوق

 

مثنوياتٌ ورباعياتٌ عربية

مهرجاناتُ للشعرِ قامتْ ولمْ يحضرِ الشعراءْ

لأنَّ قصائدَهمْ نورُ حقٍّ يَشعُّ بِهِ النبلُ والكبرياءْ

**

بالهلاهلِ و الهللويا ودقِّ الدفوفْ

هَلَّلوا للمزيَّفِ حتى يكونَ المزيفُ شاعرْ

كتبٌ ملأتْ في رفوفٍ صفوفْ

هراءٌ!، فمِنْ أينَ جاءَ البيانُ الذي يجعلُ الشعرَ ساحرْ

**

الجوائزُ جاهزةٌ والدروعْ

احتفلْ! ليسَ مِن شأنكَ الآنَ أمٌّ تنوحُ وطفلٌ يجوعْ

**

ببغاءٌ يقدِّمُهُ ببغاءْ

ويرتِّلُ آياتِهِ ويقولُ: عظيمْ

وانْ هوَ الّا الكلامُ السقيمْ

يسوِّقُهُ في احتفالِ الرياءِ رياءٌ يفوقُ رياءْ

**

الوجوهُ الجميلةُ حاضرةٌ، والغواني هنا

والقلوبُ الجميلةُ غائبةٌ في المنافي وما وجدتْ سكنا

**

مهرجانٌ تلا مهرجانْ

والهزيمةُ ماثلةٌ في الزمانِ وعابثةٌ في المكانْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

ماذا تعني لك الحرب

الحرب تعني أن تقف في نقطة ما

بين النوم والصحو

أن يبقى صوت آلتها يملأ أيامك بالنشاز

الحرب أن تتعلم الفرار

أن تقدس فكرة الموت على الحياة

أن تدرك أنك لست بناج

طالما أن هنالك موت يومي

موت مجاني

وجوع كافر

أسر وحصار وحرائق

أوبئة وظلام

الحرب خوف

خوف من كل التفاصيل

التي يمكنها أن تشرح إنك على قيد الحياة

وسؤال أبله

يقف على قارعة الذعر

هل أنا حي

الحرب جحيم الدنيا

يتمثل في عبرات

ونظرات مذعورة

وجسد منهك

الحرب وثيقة لاجئ

طابور عند مخيم

أسرى في عنق أجندات منسية

وقبور مفتوحة

وجثث جثث يا للهول

ومشاف لا تعمل

ومدارس في ذمة أجراس صدئة

ومدن نسيت كيف يكون هطول الضوء

وجرحى جرحى

ودمامل في القلب

ووجع في الروح

وحكومات لا تتهجى وجع الإنسان

ومشورات وإدانات

سفريات ومطارات

وسجاد أحمر يشبه جدا وجه النيل هناك الآن

الحرب خارطة للعجز

تأخذك وترميك على وقع هواها الأرعن

لا تملك إلا أن تذعن يا مسكين

فمع أول طلقة

صوتك أصبح في عداد المفقودين

وضاع البيت

وكل الرفقة

بصرك شاخ فأين طريق الرجعى

الشارع شائك

المشهد شائه

وزواريب الساسة ضيقة نزقة

إذا ما التفتت نحوك

وواسعة واسعة جدًا

كمضمار لسباق التصريحات

وعقد الصفقات

الحرب إني هنا

أتلفت في حيرة

وأحاول أن أكتب نصًا

نصًا يشبه شرخًا ممتدًا

أو

يشبه أرملة وطفلة يتيمة

لا لا

بل يشبه صرخة إنسان عالق

تعلو تعلو

وما من سامع

الحرب أن تصبح كالأوطان

لا تموت

تبقى واقفة

ولكنها تنزف أولادها

وتتعلم ألا تموت دفعة واحدة

***

أريج محمد احمد

27/10/2025

في الليلْ

وأنا ألتحفُ الحرفَ

تراءى لي خيالٌ..

قالَ:

ما الذي أسهركَ الليلةَ؟

قلتُ:

إنَّهُ الحرفُ،

رفيقي

في طريقي،

منذُ أشرعْتُ

كتابَ العشقِ

في عينيَّ،

ناداني،

فلبَّيْتُ،

تعوَّدتُ الأرقْ،

كلَّما أوغلْتُ فيهِ

ثمَّ أوغلْتُ..

إنفلَقْ!

عن مصابيحَ،

وأنهارٍ،

ووردٍ،

وحكاياتٍ،

قلوبٍ عامراتٍ..

بثمارِ مِنْ ذهَبْ،

دانياتٍ..

طَبَقاً فوق طبقْ؛

إنْ زرعْتَ الحقلَ

في صدركَ

عشقاً،

وألَقْ....

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول/أكتوبر 2025

تِلاوةُ الصِدقِ، رُوحُ الحُبِ مَـنْهـجُهــا

وفي التصنّع رَمْــشُ العــين يَضْطرِبُ

*

الصمْتُ عن سوء فَهْمٍ، جَفْـنُه خَـجِــلٌ

والصمتُ عــن خِــبْرَةٍ، عيناه تَرتَقـِبُ

*

اذا قـَـصَدتَ وِصالاً، تَــبْغــي عِـفَّــتـَه

يهــابُـك الــشكُ والتزيــيفُ  والرّيـَـبُ

*

مَلامِــحُ العينِ، طِيبُ القلبِ يَرسمُهـا

وللأنـامِــلِ إيــعــازٌ، لـــه سَــــــبَــبُ

*

حُـــسْـنُ الـتــرنّمِ، لاعَــزفٌ يـرافــقُـه

لأنـّــه خَـــيــرُ مــا جادَت بـــه الكــتبُ

*

(يــامن يعُـــزُّ عــلـينا أن نــفارقهـم)

ســـلوا القــوافــي وصالاً، فيه نَقْـترِبُ

*

فـــي جــنّــة الأدبِ الرفـــيع مَـــنازِلٌ

فـــيها الخلــود، فــلا مالٌ ولا ذهــبُ

*

لمّــا الزمـــانُ، بـــه مراحِـلُ عُــتْــمَةٍ

لابد أن يــتــشظى الســأمُ والنَّـصَـبُ

*

غُــصنُ البــديعِ، إذا الوصالُ لــه دعا

يدعـــو البيانَ، لِـرِفْــــقَـةٍ بهــا يُــنْسَبُ

*

فـــواصِل الحُبِ، لا تُـخْـشى بَــوادرُها

إنْ زانــها مِــن رَحــيق العِــفّــةِ الأدبُ

***

من البسيط

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

سَأُفَكِّرُ فِي الصَّدَى وَأُمَدُّ نَفْسِي

فَوْقَ لَوْحِ الْحُلْمِ، أُصْغِي لِلسَّمَاءِ

2

سَأُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الضَّوْءِ حُرًّا

نَحْوَ لَفْظٍ فِي مَدَارِ الانْتِهَاءِ

3

وَأُمَجِّدُ مِلْحَ نَفْسِي، ثُمَّ أَمْشِي

فِي مَسَارَاتِ الشُّرُودِ إِلَى فَنَاءٍ

4

يَا صَدَايَ الْمُسْتَطِيلُ عَلَى يَدَيَّ

كُنْ لِيَ النَّجْمَ الْخَفِيَّ بِلَا دُعَاءٍ

5

كُنْ دَلِيلِي، إِنْ تَعَثَّرَتْ خُطَانَا

فِي مَنَافِي الْوَهْمِ، أَوْ فِي انْطِفَاءٍ

6

كُنْ نَبِيًّا، كُنْ ظِلَالِي، كُنْ حَنِينِي

فِي كُتُبِ الْغَيْبِ، أَوْ فِي انْطِوَاءٍ

7

كُنْ سَمَاءً، تَرْسُمُ الظِّلَّ الْمُبَاحَا

فِي مَدَادِ اللَّيْلِ، أَوْ فِي جِهَاتٍ

8

كُنْ صِرَاخًا فِي جُنُونِ الصَّمْتِ، إِنِّي

أَخْتَنِقُ فِي الضَّوْءِ، أَوْ فِي خَفْقَتَيْنِ

9

أَتْرُكُ الْأَرْضَ الَّتِي لَا تُجِيبُنِي

وَأُفَكِّرُ فِي السُّؤَالِ وَفِي فَنَاءٍ

10

أَرْسُمُ الْمَعْنَى وَأَحْفُرُ فِي صَبُورِي

ثَغْرَ أَيَّامِي، وَأَكْتُبُ فِي عَنَاءٍ

11

لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ أَنِّي وَجْهُ صَبْرٍ

يَتَمَشَّى فِي مَدَى نَفْسٍ شَقِيَّةٍ

12

لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ هَذَا الصَّوْتِ، يَبْكِي

فِي مَدَى الظِّلِّ، وَفِي شَفَةِ نِدَاءٍ

13

قَدْ دَلَوْتُ اللَّيْلَ مِنْ جُرْحِي وَمَشَيْتُ

فِي نُزُوفِ الْمِلْحِ، حَافِيَةُ الْمَدَى

14

وَارْتَقَيْتُ اللَّوْنَ، حَتَّى لَمْ أَرَ غَيْرَ

نَارٍ تَسْتَفِيقُ مِنَ الصَّدَى

15

كُنْتُ فِي خَفْقَاتِهِ صَوْتًا خَفِيًّا

يَنْزِفُ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الْبُكَا

16

وَبَكَتْ فِي الْمَاءِ أَحْلَامِي وَمَاتَتْ

كَنُدَافٍ ضَلَّ فِي بُرْجِ الْهَوَى

17

وَأَنَا أَمْشِي، وَرَائِي لَا أَرَانِي

غَيْرَ حَطَّابٍ يُفَكِّكُ مُقَلْتَيْهِ

18

وَبِوَجْهِي كُلُّ وَجْهٍ كُنْتُ أَرْسُمُهُ

قَبْلَ أَنْ يَسْتَنْبِتَ الْأَشْوَاكَ فِيَّ

19

مَنْ يُرَتِّبُ دَمْعَتِي فِي كَفِّ هَذَا

اللَّيْلِ؟ وَمَنْ يَأْوِي إِلَى ظِلِّي وَيَحْتَجُّ عَلَيَّ؟

20

كُلَّمَا اخْتَلَيْتُ بِأَشْلَاءِ الرُّؤَى

قَالَ ظِلِّي: مَا اسْتَقَرَّتْ خُطْوَتَاكَ

21

كُلُّ شَيْءٍ فِي دِمَشْقَ تَنَفَّسَ النَّارَ

وَبَاتَ يُهَجِّسُ الْأَشْبَاحَ فِيكَ

22

كُلُّ نَايٍ قَدْ بَكَى، وَالْغَيْمُ كَانَتْ

دَمْعَةً أُخْتِي الَّتِي مَاتَتْ دُونِي

23

هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي فِي صَوْتِهَا

قُرْبَةُ الْمَاءِ وَنَفَحَاتُ الشُّجُونِ

24

مِثْلُ نَجْمٍ كَانَ يَبْكِي فِي الرُّبَى

كُنْتُ -إِنْ أَدْمَيْتُ- أُغَنِّي لِلظُّلُومِ

25

وَسَأُصْغِي، كُلَّمَا ضَاعَتْ خُطَايَ

إِلَى الصَّدَى، يَشْهَى بِقَافِيَةِ السُّفُونِ

26

وَسَأَبْنِي، فِي الْخَرَائِطِ نَبْتَ نَفْسِي

كَيْ أُرَتِّقَ مِنْ جُرُوحِي مَا أُفُوقُهُ

27

رُبَّ ظِلٍّ كَانَ يَمْشِي فِي دِمَائي

قَالَ لِي: امْضِ، وَدَعْنِي لِلرِّيَاحِ

28

كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ يُصْغِي لِي وَيَبْكِي

وَأَنَا أُصْغِي لِنَفْسِي فِي الْجِنَاحِ

29

يَا أَنَا! كُنْتَ النُّزُوحَ وَكُنْتَ شَوْقِي

كُنْتَ دَمْعِي حِينَ أَضْحَى فِي الزَّمانِ

30

لَسْتُ أَعْلَمُ، كَيْفَ أَخْتِمُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟

وَكَيْفَ الْغَيْبُ يَحْفُرُ فِي جِنَاني

*

الكودا (نشيد الرؤيا)

قُلْتُ: يَا صَوْتِي، أَعِدْنِي لِلْبِدَايَاتِ،

أَعِدْنِي فِي صُدُورِ النَّارِ طِفْلًا

قُلْتُ: يَا نَفْسِي، تَجَلِّي، وَاسْجُدِي لِي،

فِي انْكِسَارِ الرُّوحِ، أَبْنِي لَكِ مَحِلَّا

مِنْ حَرَائِقِنَا نُفَصِّلُ وَجْهَنَا الآتِي،

وَنَكْتُبُ فِي انْشِقَاقِ الضَّوْءِ فُصْلَا

لَسْتُ أَعْلَمُ، أَيْنَ يَأْوِي الْحُلْمُ، لَكِنْ

فِي مَدَى الْمُفْتُونِ، قَدْ يَصْبُو، وَيُصْلَى

فَاصْعَدِي يَا نَفْسُ، إِنِّي قَدْ غَسَلْتُكْ

بِالرُّؤَى، وَالْمِلْحِ، وَالدَّمْعِ المُبَلَّى

وَارْفَعِي نَصِّيَ صَهِيلًا فِي الْمَدَارِي،

وَاجْعَلِي مِنْ شَعْرِيَ الْمَذْبُوحِ هِلَّا!

***

د. سعد محمد مهدي غلام

.....................

* هذه القصيدة ليست نَواحًا تاريخيًّا على مجاز الأندلس أو نحيبًا على ضفاف الفرات، بل هي شرفةٌ مطلَّة على الجرح الوجودي حين يُصغي الإنسانُ لصوته العميق في صمت الخراب. "صَهِيلُ النُّبُوءَةِ" سفرٌ شعريّ ينوس بين نداء الذات ونبوءة المجهول، يَشقّ فيه الشاعر خطاه فوق نار اللغة، ويكتب بدمه طريقه في الرمال، حيث الغياب لغةٌ، والمستقبل عُرْيٌ، والماضي جَمْرٌ تحت الجفن. هو ليس مديحًا ولا هجاءً، بل نجوى لزمن لم يكتمل، وأثرٌ لظلٍّ لا يزول.

كلُّ هذا قد مضى..

ماذا تبقّى لكَ أيُّها الليلُ

إلّا أَن تجُرَّني من أَطرافكَ،

تأُزَّ الَّذي اصطفّتْ مواجعُهُ حجراً في جفون الأيام

ترمي بهذا الصَّلصالِ البريءِ

في فجرٍ وصل متأخرا إليه

*

اُكتُبْ لي عن جُرحكَ

أو كيف يقرأُ المُشرَّدونَ حِكمتهُم

كيلا ينامَ بين سطوري وجهُكَ العابس.

أيها الليلُ الراكد،

افتحْ لي نافذةً... ضوءَ قصيدةٍ

أو من بابكَ العتيقِ درباً

يمرُّ منهُ طيرُ ذكرياتكَ المستحيل

يسرقُ ريشَةَ خيالكَ من نهرٍ يبِسَ قلبُهُ

ومات في يده القمر.

*

يرسمُ نخلةً وحيدةً هدَّها الأَرق

وشمساً لا تمرُّ على السُّكارى

*

سَئِمَ الحُبُّ يقول

كلّما غفا على ظلِّ طفولتهِ

حسبَ ثمة بَهجةً تشعُّ من نجمٍ بعيدٍ

عليه أَنْ يحرّره

يُطلقه في البراري

بين غزلانِ كلماته وفمه المفتوح.

*

لا بأسَ أَنْ جرّني الحلم من ثيابي

لأصعد إلى رحلتي

أَنتَ السّائلُ والمحروم

اذهبْ لثلاثِ قبلاتٍ

وتوكّل على الحبِّ

*

هكذا يلوذُ بنبضهِ الشمعُ

يجرُّ أنفاسه

ويتَعافى قبلَ الموت

رعشةً من ضياء

***

زياد كامل السامرائي

 

لم تكن على ما يرام،

قلبُك يرتجفُ مثلَ عصفورٍ غضّ،

وعلى مقربةٍ منك

حقلٌ كبير،

تحاولُ أنْ

تمدَّ منقارَك،

لكنَّ ما يؤخِّركَ

ذلكَ التردّدُ الذي جُبلتَ عليه

منذ كنتَ صغيراً،

تخافُ الموت.

*

عبرتَ الأولى،

لكنّكَ في الأخرى

رفعتَ الراية،

وركضتَ إلى الموت

كعاشقٍ قبَّلَ جبينَ محبوبتِه،

ثمّ أغمضَ عينيه

على ضوءٍ لا يشبهُ النهار،

ولا الليل،

ضوءٍ خفيفٍ

كأنَّهُ غفران.

*

ثمّ ابتسمَ،

كأنّهُ أدركَ — متأخّرًا —

أنَّ الموتَ ليسَ سوى

ظلٍّ آخرَ للحياة،

وأنَّ الحبَّ، حينَ يكتمل،

يذوبُ في المعنى،

ويتركُ الجسدَ

مثلَ قشرةِ ضوءٍ

على حافّةِ الوجود.

*

ومنذ تلكَ اللحظة،

لم يُعرفْ إنْ كانَ الطائرُ قد مات،

أمْ طارَ أخيرًا

إلى ما وراءِ الحقل.

*

هناك،

لم يعدْ قلبُك يرتجف،

ولا عصفورُك يختبئُ في الظلّ،

بل صارَ الحقلُ بيتَه،

وصارتِ الرايةُ غصنًا أخضرَ

ينامُ عليهِ

سلامُك الأخير.

***

د. جاسم الخالدي

في صباحٍ ممطر، تمامًا عند الساعة السابعة، استيقظ من نومٍ ثقيل كالمجنون، كمن ضاع في متاهة الغربة ونسي جغرافية المكان. كان يعاني ألمًا حادًا، دون أن يجد له تفسيرًا.

بدأ يتفرّس في الساعة المعلقة على الحائط المهترئ. أوهمه البصر أن الزمن تغلغل كدودة الأرضة، ينهش أحشاء الجدار. راقب عقارب الساعة وهي تدور بجنون فوق جدارٍ مأكول، كأن الزمن يفرّ من ذاته في مضمار سباقٍ لا نهاية له، نحو المجهول.

رقمٌ جديد يُضاف إلى سلسلةٍ لا يتذكر بدايتها. فالأيام المتشابهة تحمل ذات المرارة في طعمها، وكل شيء بات مثيرًا للتساؤل وسط ضبابٍ كثيف.

ــ لا يتذكر من هو، ولا ما كان يزاوله في الماضي. هل بات ظهور علامات الهرم وشيكًا؟

ربما بدأت الخلايا الناشطة تذوب في طواحين المياه، وتتبدد بين جزيئات النسيان.

يمضي الوقت بتأنٍ، كسلحفاة لا تعنيها مسافة الطريق. وصخب الماضي العتيق يدوي في تجاويف الرأس، على هيئة إشارات غير مفهومة، بينما يشتد الألم في الخلايا التي تستذكر الأحداث المؤلمة والمفرحة.

ــ هل انبثق من العدم؟

ــ هل عاش حياته كلها في الخفاء؟

ــ ما موقعه في دورة الحياة؟

ــ لماذا هو هنا وحيدًا في هذا العالم الجديد الذي يكتنفه الغموض؟

أسئلة متشابكة وسريعة تفاجئه وسط فوضى فكرية عارمة، تحت وطأة اختناقٍ يلفّ حنجرته ويمنع الهواء من الانزلاق في قنوات التنفس.

إنها معاناة هذا الذي يُدعى إنسانًا. يولد بذاكرةٍ قوية، يحفظ فيها أسرار الكون وعلومه الواسعة ومعارفه الغنية، وينطلق إلى عالم البحث والاستكشاف. وبعد التحولات التي تصيب خطوط الدماغ، يبدأ بالشعور وكأنه عاد إلى الحياة بعد الموت.

إن الاستيقاظ من النوم والشعور بالألم دون سببٍ واضح، يضعه في دائرة من الشك والإحباط، ويحفّز وعيه بالواقع والمعاناة الإنسانية، حين يبدأ بالتفكير في وجوده ومعنى حياته.

إن هذا الصراع يتفاقم تدريجيًا في زحمة الذكريات وينطوي على واقع مملوء بالإحباط، واليأس، والحزن، كصوت تصدع الصقيع تتكسر تحت وطأة الإقدام  على أرصفة الحياة.

وبينما كانت الخلايا الذابلة تهمس بما تبقى من الذاكرة، شعر بشيء يشبه النور يتسلل من شقوق الجدار. لم يكن ضوءًا، بل احتمالًا. اقترب منه، لا ليعرف من هو، بل ليختبر ما تبقى من إحساسه بالزمن.

ربما لا يحتاج أن يتذكر كل شيء، بل أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون. في تلك اللحظة، لم يعد الألم سؤالًا، بل صار بداية جديدة، وإن كانت بلا إجابة.

وحين هدأ الصخب في اروقة الدماغ، أدرك أن الحياة ليست ما نتذكره، بل ما ننساه ونظل نبحث عنه. ربما لم يكن الألم سوى نداء أخير من الخلايا الذابلة، تهمس له:

ــ الوعي لا يموت، بل يتأخر فقط.

***

كفاح الزهاوي

أتذكّر تلك المرّة الأخيرة التي حملتني خطواتي إلى بيت استاذتي ماريا بعد رحيل زوجها، وقد ثقلت على صدري مخاوف لم أفلح في تبديدها. كنت كمن يُساق إلى غياب غير مسمّى، يحمل في داخله رجفة لا يفسرها العقل. وحين بلغت الدار التي طالما ارتدتني بظلّها الوارف، فوجئت بالفراغ يفتح ذراعيه لاستقبالي. لم يطلَّ وجهها من نافذة الباب كما اعتادت أن تفعل، ولم يطرق سمعي وقع حذائها في الرواق. صمتٌ كثيف كان يخيّم على المكان، حتى شعرت أن الجدران نفسها تسرد عليّ غيابها بصوت مكتوم.

جلست على الدكّة الحجرية أمام الباب، كأنني أحرس غيابها بقلقٍ يثقل نظراتي، أترقب الطريق بعينين متوجستين، لعلها تعود من جولة قصيرة في الحيّ، أو يسبقها ظلها المتهادي من بعيد. كم من مرّة فتحت لي هذا الباب بعينين غارقتين في دموع الفرح، تحتضنني بحنوّ الأم وتقول بصوتٍ متهدّج:

" أنت وحدك من لم يخذلني ويحرص على زيارتي؛ بوفاءٍ يفوق حتى وفاء أبنائي."

كانت كلماتها تلك ترسم على قلبي ندبة حنان وجرحًا صامتًا في آن؛ فهي تكشف وحشتها الخفيّة، وتعرّي غياب الأبناء عن حضنٍ ما زال ينتظرهم.

ذلك الانتظار عند عتبتها لم يكن انتظارًا عابرًا، بل وقوفًا على تخوم الغربة نفسها؛ حيث الزمن يتباطأ حتى يكاد يتوقف، والدقائق تتمدد كأنها دهور تبتلعني في صمتها الثقيل. كنت أشعر أن المكان يتآمر مع القلق ليطيل غربتي عنها، وأن جدران البيت تتنفس غيابها كأنها فقدت نبضًا كان يمنحها الحياة.

وفجأة، انشقّ الصمت على وقع خطوات تقترب من السلم. انتفضت واقفة، يسبقني قلبي كطائرٍ مذعور، وتهيأت لمدّ يدي إليها، لأحمل عنها بعض عناء الدرج، كعادتي كلما التقيتها. في لحظة خاطفة ارتسمت صورتها في خيالي: ميرا بملامحها التي جمعت بين صرامة السنين ودفء القلب، بضعفها الذي يخفي قوّة نادرة، وبحزنها الذي يفيض حنانًا. لكن القدر أدار وجهه عني، فإذا بي أمام وجه آخر: جارتها.

حييتها بارتباك، وما كدت ألتقط أنفاسي حتى باغتتني بكلمات سقطت عليّ كالصاعقة:

"ماريا لم تعد تسكن هنا… لم يبقَ سوى ابنها، يتردّد بين الحين والآخر."

كان وقع العبارة أشدّ قسوة من الصمت الذي سبقها؛ إذ اختزلت كلّ شيء في جملة قصيرة، جملة حملت في طيّاتها غيابًا كاملًا، واقتلاعًا موجعًا لجذور الألفة التي ربطتني بها. أحسست في تلك اللحظة أن الأرض تميد بي، وأن الأبواب جميعها أوصدت في وجهي دفعة واحدة.

تجمدت ملامحي. سألتها بلهفة يائسة: "وأين هي الآن؟" فأجابت بهزّة رأسٍ ثقيلة، تحمل في طيّاتها أكثر مما تحتمل الكلمات: "لا أعلم. ابنها يأتي ويذهب، ونادرًا ما أراه، ولا أعرف عنه الكثير."

عندها اجتاحني شعور مباغت بالتيه، كأنني فقدت خيطًا نادرًا كان يشدّني إلى المعنى، وبدأت فكرة الفقد تترسخ داخلي رويدًا رويدًا. كيف يُعقل أن تنقطع أخبارها فجأة؟ وكيف يغيب أثرها هكذا، وهي التي شكّلت لي سندًا وصحبة وملاذًا لا يعوَّض؟

كانت زياراتي لماريا طقسًا من طقوس الروح، أكرره مرتين أو أكثر كل شهر منذ تخرّجي. فما بدأ بيننا يومًا بعلاقة أكاديمية متينة، حيث كانت أستاذتي المشرفة ورئيسة قسم الاقتصاد في الأكاديمية، تحوّل مع الأيام إلى صداقة إنسانية عميقة، صداقة تسقيها التجارب، ويظللها الاحترام، وتغذّيها الألفة. كنت أجد في رفقتها صدىً لوجه أمي الغائب، وملامح دفءٍ عائلي افتقدته منذ أن غادرت العراق قبل أكثر من عقد. بيتها كان أشبه ببيتٍ ثانٍ، يردّ لي بعض ما سُلب مني من شعور الانتماء، وحضور زوجها بجانبها كان يضفي على المكان طمأنينة العائلة الحقيقية.

بعد ان عصفت بها رياح السياسة فألقتها في بلغاريا، ماريا إيفانوفج، ابنة يوغسلافيا لم تكن وجهًا عابرًا في سجل الأكاديميا، بل روحًا متوهجة تشع حضورًا إنسانيًا نادرًا. في عقدها السابع، كانت تجلس بيننا بوجه صاغته يد التجارب كما يصوغ النحات تمثالًا من صخرٍ عنيد، عينان غمرهما الحزن، لكن خلف سدولهما كان يطل بريق لا ينطفئ من مودة وحنان. حملت قلبًا أنهكته العلة، غير أنّه، على وهنه، ظل رحبًا كسماءٍ مفتوحة، يفيض بالعطاء لطلابها ولزملائها وكل من طرق بابها. وفي قاعات الأكاديمية، بدت مثال الصرامة والنبوغ، إلا أنّ إنسانيتها الشفيفة كانت تنسج حول تلك الصرامة ثوبًا من رقةٍ ودفء، فتقربها من الأرواح اقتراب الأم من أبنائها.

غادرت الدار مثقلاً بالأسئلة، يرافقني صدى خطواتي كأنه عزاء مبكر يشيعني. كنت أمشي وفي داخلي مقاومة صامتة لهذا الغياب المفاجئ؛ فماريا لم تكن مجرّد أستاذة عابرة في حياتي، بل كانت جسرًا يعيدني في كل مرّة إلى معنى الانتماء، إلى جذور الإنسان في قلب إنسان آخر. وفي الطريق إلى مساكن الطلبة حيث أقيم فيها، كنت أشعر بالقرار ينضج بداخلي دون أن أصرّح به: لن أترك خيطها ينقطع. لا بد أن أجد سبيلًا يقودني إليها.

كان عليّ أن أذهب إلى قسم الاقتصاد، القسم الذي حمل بصماتها حتى آخر لحظة قبل تقاعدها، علّي أعثر هناك على اثرٍ يقودني إليها، أو يفتح أمامي نافذة صغيرة تطلّ على مصيرها. أسير بخطى متسارعة، تتنازعني مشاعر متناقضة؛ قلق ينهش صدري، وحنين يلوّح لي بصورتها وهي تروي ذكرياتها الصارمة، وأمل خفي يهمس بأن اللقاء القادم لم يُغلق بعد. فقد كنت أعلم في قرارة نفسي أن بعض الوجوه لا يطويها الغياب، لأنها تستقر في أعماق الروح، لتظلّ حيّة فينا ما حيينا.

كانت زيارتي الأولى للقسم بعد التخرج تحمل مزيجًا من الحنين والارتباك، كأنني أعبر من بوابة الزمن إلى ماضٍ ما زال ينبض في قلبي. استقبلتني السكرتيرة بابتسامتها المشرقة ودفئها الذي يشبه العناق الخفي، ثم دعتني إلى مشاركتها فنجان قهوتها الصباحية. كان بيننا ألفة قديمة تنسجها خيوط الصداقة التي جمعتنا بماريا، فبادرتها بالسؤال عنها، وقد كان اسمها يراودني كأغنية غامضة لا تفارق الذاكرة.

أخبرتها بما جرى في زيارتي الأخيرة، وكيف طرقت باب ماريا دون أن أجدها، ثم سألتها عما إذا كان لديها خبر عنها، إذ كنت أتشبث بخيط من الأمل في أن أستعيد تلك اللقاءات التي اعتدت أن أستنشق منها شيئًا من المعنى.

لكنها فجأة أطلقت تنهيدة طويلة، كأنها تحمل في طياتها ثِقَل حكاية مؤلمة، ثم نظرت إليّ بعينين غيمهما الشجن وهمست:

ـ ألا تعلمين؟ تُقيم الآن في أحد بيوت العجزة.

ارتجفت الكلمات في أذني كصفعة باردة، فقلت مرتبكة، وكأنني أتشبث بالإنكار:

ـ ماذا تقولين؟ قبل اقل من شهر فقط كنت عندها. صحيح، بدا عليها الإعياء، غير أنها طمأنتني بابتسامة صبورة، وأكدت لي أنها ما تزال تتابع علاجها بانتظام.

أطرقت السكرتيرة بحزن وأضافت:

ـ نعم… لكن سرعان ما انهارت صحتها، واحتاجت إلى رعاية خاصة لم تجدها في بيتها بعد أن انقطع عنها أبناؤها، وتركوها وحيدة في مواجهة جسد يخذلها يوما بعد آخر

تجمّدت الكلمات على شفتي، كأنها حجارة ألقيت في بئرٍ غائر، فيما تسللت مرارة حارقة إلى عروقي. ارتسمت أمام ناظري صورتها كما تركتها آخر مرة: جلستها الوادعة قرب النافذة، أصابعها المرتجفة تعانق فنجانها كمن يستجدي دفئًا ضائعًا، وعيناها تواريان خلف بريقٍ خافت وجعًا أثقل روحها. كيف تُختزل حياة كاملة في غرفة باردة تُسمّى بيتًا للعجزة؟ أيُعقل أن تُطوى صفحات العمر بكل ما حفلت به من تعبٍ وصبرٍ وعطاءٍ جليل، ليكون الختام عزلة وصمتًا وخذلانًا؟ أهذا جزاء السنين التي أنفقتها في البذل والعطاء، أن تُزاح كرامتها جانبًا وتُلقى إلى الهامش، كأنها لم تكن يومًا منارة للعلم ودفء للأمومة؟

قلتُ بصوت مرتجف، أحاول أن أتمالك حرارة قلبي:

ـ وهل تعرفين عنوانها الآن؟

أومأت برأسها وهي تحاول أن ترسم ابتسامة شاحبة وقالت:

ـ نعم… بل أنوي زيارتها في نهاية الأسبوع. وإن رغبتِ، يمكننا أن نذهب معًا.

حينها انبثق من أعماقي لهف يفيض عن القدرة على الإخفاء، وقلت بسرعة امتزجت فيها المرارة بالأمل:

ـ بكل سرور… وبكل شوق.

شعرت في تلك اللحظة أن قرار الزيارة لم يكن مجرد مبادرة إنسانية، بل وعدًا أصدرته لروحي قبل أن يكون لماريا؛ وعدًا أن أمسك بيدها من جديد، أن أقتسم معها صمتها وأوجاعها، وأن أكون شاهدة على نورها الأخير، مهما خفت ضياؤه في بيت لا يليق بامرأة بقامتها حملت في قلبها تاريخًا من العطاء والابداع.

ومنذ تلك اللحظة، أخذتُ أتهيأ للقائها. كان الطريق إلى بيت العجزة في خيالي أشبه برحلة نحو عتمةٍ تتربص بالقلب. تخيلته شارعًا طويلاً تصطف على جانبيه أشجار بلا أوراق، أغصانها ممدودة كالذراعين المتسولين، والريح تعبث بها فتزيدها انكسارًا. كأن كل شيء يتهامس في أذني عن وحشة تنتظرني في نهاية الطريق.

كنت أرى بعين الخيال بابًا ثقيلاً من حديد يفضي إلى فناء صامت، لا تُسمع فيه سوى وقع الخطوات المترددة وزفرات الريح التي تتسلل بين الشقوق. جدران رمادية عارية من أي حياة، نوافذ مغلقة على أسرار ساكنيها، ستائر باهتة تشبه وجوهًا فقدت لونها مع الأيام. المكان كله ينهض كرمز للفقد، لانسحاب الحياة إلى أركان مهملة، حيث الأرواح تنتظر ببطء النهاية.

تخيلتُ الممرات الطويلة الضيقة، تفوح منها رائحة عقاقير ممزوجة بذكريات ذابلة، والأصوات الخافتة لأجساد تتنفس بجهد، وأنين مكتوم يتسلل من غرف متقابلة. لا شيء يُسمع سوى صرير عربات متحركة أو وقع خطوات ممرضة متعجلة. حتى الزمن نفسه هناك بدا لي وكأنه يتثاقل، يجر قدميه ببطء قاتل.

كنت أتصور ماريا جالسة في إحدى تلك الغرف، عيناها شاخصتان نحو فراغ بعيد، كأنها تنتظر زائرًا يوقظ في روحها بقايا حياة. رأيتها تبتسم على استحياء حين يدخل وجه مألوف، ثم تعود فتغيب في صمتها الطويل. شعرت أن كل ثانية من رحلتي إليها ستكون امتحانًا لقلبي: هل أستطيع أن أمد لها يدًا تحمل بعض دفء؟ هل أقدر أن أُعيد إلى روحها شيئًا من نورٍ رفض أن يخبو رغم كل ما أحاط بها من عتمة؟

كان الطريق إذن أكثر من مسافة تقطعها الخطى؛ كان معراجًا في داخلي، مواجهة مريرة مع هشاشة الإنسان حين يُترك عاريًا أمام قسوة الوحدة. وكلما اقترب الموعد، كان قلبي يضج أكثر، بين خوف من أن أراها منطفئة تمامًا، ورغبة جامحة في أن أُثبت لها أن ثمة يدًا ما زالت تمتد نحوها، لم تتخل عنها، ولم تجحدها كما فعل أبناؤها.

وحين همستُ لنفسي في النهاية: "سأقابلها"، شعرت أنني أستعيد بعض المعنى الضائع في داخلي. لم يكن الأمر مجرد زيارة عابرة، بل وعدًا أن أكون معها في وحشتها، أن أشاركها صمتها، وأن أكتب معها آخر سطور كرامتها في عالمٍ لم يعد ينصت إلا للزيف.

عند وصولنا إلى بوابة بيت العجزة، ارتسم في داخلي شعورٌ ثقيل يشبه الغيم الداكن الذي يسبق المطر. المكان بدا صامتًا أكثر مما ينبغي، جدرانه باهتة وأبوابه مصفدة بإحكام، حتى الهواء كان مثقلاً برائحة العقاقير الممزوجة بملح الدموع القديمة. تقدّمت نحونا موظفة الاستقبال بابتسامة متكلّفة، سرعان ما ذابت في رتابة صوتها وهي تطلب منا أن ننتظر قليلًا ريثما تتهيأ ماريا لاستقبالنا.

جلسنا في قاعة الانتظار التي ازدانت بمقاعد خشبية قاسية، تتوزع عليها وجوه متعبة، بعضها غارق في الصمت، وبعضها الآخر شارد في فضاء بعيد لا نراه. عقارب الساعة بدت كأنها تخطو مثقلة بالأغلال، حتى مضت ساعة كاملة ونحن ننتظر على أحرّ من الجمر. وفي النهاية أطلت الموظفة لتعتذر بلطف بارد قائلة: "لقد رغبت أن تبدو أمامكم في أحسن حال، ولهذا تأخرنا." كانت كلماتها كسكين يمرّ على قلبي ببطء، إذ كيف يكون الجمال والتهيؤ غاية من غايات مَن أثقلها المرض؟ لكنني تماسكت، أدرك أن الأمر بالنسبة لماريا ليس ترفًا، بل بقايا كبرياء تحاول أن تحافظ عليه رغم انكسار الجسد وتناقص الذاكرة.

وفي الطريق المؤدي إلى غرفتها، لحقت بنا الموظفة نفسها بخطوات مسرعة، ثم همست: "الأفضل أن تنتظروها في غرفة استقبال الضيوف، سأصحبها إليكم حالًا." شعرتُ لوهلة أن تلك الغرفة ستكون فاصلاً بين عالمين: عالم الذاكرة الذي كنت أتشبث به، وعالم الغربة الذي أُجبرت ماريا على النزول فيه.

وما هي إلا لحظات حتى أقبلت بخطوات مترددة، نظراتها تائهة كأنها تستيقظ من حلم بعيد. بدت مذهولة، تحدق في وجوهنا وكأنها تفتش عن ملامح لم تعد مألوفة لها. هببت نحوها أحتضنها بنظراتي وبكل ما في شوق، ألقيت عليها تحية تتشبث بالدفء، وحاولت أن أستعيد بشاشتها التي كنت أعرفها، لكنها لم تكن هي نفسها. كان بيننا جدار خفي من الغربة، فصلٌ صامت جعلني أشعر أنني أقف أمام ظلّ ماريا لا ماريا نفسها.

ومع ذلك، جمعت بقايا قوتها ورحبت بنا بطريقتها، ابتسامة باهتة تحاول عبثًا أن تستعيد إشراقها القديم. جلسنا متقابلين، وساد لحظةً صمت مربك، قبل أن تبدأ بالكلام بصوتٍ هادئ يكاد لا يُسمع، تحدثت عن أحوالها وكأنها تريد أن تطمئننا، ثم ذكرت، بفرحٍ طفولي، أنها وزوجها كانا بالأمس في حفلة بهيجة حضرها البروفيسور كروكوف والرفيق يوري وآخرون.....

تجمّدت الدماء في عروقي، إذ كنت أعلم يقينًا أن زوجها وجميع من ذكرتهم قد غادروا الحياة منذ زمن بعيد. عندها أدركت الحقيقة التي طالما خشيتها: ذاكرتها لم تعد ملكًا لها، الزمن انسحب من عقلها تاركًا فراغًا مريرًا، والأسماء التي ترددها ليست سوى أطياف تستيقظ من ماضٍ بعيد لتملأ حاضرها الموحش.

أطرقتُ برأسي كي أخفي دمعة باغتتني. كان المشهد قصيدة فاجعة تُتلى بلا كلمات، قصيدة لا يُنشدها سوى صمت ميرا، وعيناها اللتان تبرقان بغربةٍ أليمة، كأنها تسير في متاهة لا أبواب لها ولا مخرج.

كنت اراقبها وأنا أحمل ثِقلاً ينوء به القلب: كيف لإنسانٍ قضى حياته عطاءً أن يُكافأ في شيخوخته بهذا النسيان الفاجع؟ وكيف لروحٍ ملأتها الحياة يومًا أن تُختزل في ظلال متكسرة من ذاكرة ممحوة؟ ومع ذلك، كنت أشعر في أعماقي أن حضوري، ولو للحظات، هو محاولة لإعادة تثبيت خيط رفيع بين عالمها الممزق وبين الحقيقة التي ما زلت أحملها عنها، خيط يربطها بإنسانيتها التي يأبى النسيان أن يمحوها تمامًا.

حين نهضنا لنودّعها، شعرتُ وكأن الهواء أثقل من أن يُستنشَق، كأن كل ذرة فيه تئنّ تحت وطأة الفقد. مددتُ يدي نحوها، ارتجفت أصابعها بين أصابعي كعصفورٍ صغير فقدَ جناحيه، وارتسمت على وجهها ابتسامة غريبة؛ نصفها حيّ، ونصفها الآخر محجوب خلف ستارٍ سميك من الغياب. نظرتُ إليها مطولًا، كانت عيناها تائهتين، كأنهما تسألان: من أنتما؟ ولماذا اتيتما؟ ثم تعودان لتفرّان إلى عالم آخر لا أراه. حاولت أن أخبرها أنني هنا، أنني ما زلت تلك التي عرفتها، أنني لم أتخلّ عنها… غير أن الكلمات كانت عالقة في حنجرتي، تتكسر قبل أن تبلغها.

وفي لحظةٍ خاطفة، أحسستُ أنني أنا نفسي ماريا؛ جسدٌ حاضر، وروحٌ تتسرب من بين أصابعه. رأيتُني أودّع العالم وأنا بعدُ واقفة، أراقب من بعيد حياتي وهي تنسلّ مني ببطء، أصدقاءً، ذكرياتٍ، أماكن، وجوهًا عزيزة. أحسستُ أنني أنا الغريبة عن نفسي، غريبة عن الأسماء التي تتردّد في رأسي كأنها تعود لشخصٍ آخر عاش مكانِي ذات يوم.

حين اقتربنا من الباب، التفتنا نحوها، رفعت يدها المرتجفة كأنها تُلوّح للغائبين، لا للواقفين أمامها. في تلك الإيماءة شعرتُ أن وداعها لم يكن لنا فحسب، بل وداعٌ للحياة برمّتها. دموعي انسكبت في داخلي، ولم أجرؤ أن أدعها تظهر؛ كنت أخشى أن تفضح هشاشتي، أن تزيد من انكسارها وهي التي لم يبقَ لها سوى صبرٍ متهالك.

خرجتُ من المكان مثقلةً، لكن قلبي كان ما يزال عالقًا خلف تلك الجدران الرمادية، عند سريرٍ بارد ونافذة نصف مفتوحة. كنت أشعر أنني تركتُ جزءًا مني هناك، جزءًا صار يتكلم بصوتها، يتنفس أنينها، ويذوي في عزلتها. كنتُ أنا وهي معًا، نتقاسم صمتًا لا يعرفه سوانا: صمت الفقد الذي يذبح بلا دم، ويترك في الروح جرحًا لا يندمل.

وكلما ابتعدت خطواتي، كان داخلي يتمزق أكثر، كأنني أنا مَن أُغلق عليّ الباب في بيت العجزة، أنا من تُركت وحيدة بين جدران عارية، أنا التي تودّع العالم بصوتٍ مبحوح لا يسمعه أحد.

***

سعاد الراعي - المانيا

مِـــنْ كُـوَّتِـيـنِ، لآلِــئٌ عَـسَـلِيَّةْ

تَـسْبِي الـقُلُوبَ بِوَمْضَةٍ سِحْرِيَّةْ

*

لَوْ تَلْقَى (هُولَاكُو) وَكُلَّ جُيُوشِهِ

وَقَـفُـوا جَـمِـيعًا يَـضْـرِبُونَ تَـحِـيَّةْ

*

ذَاكَ الَّـذِي قَـهَرَ الـمُلُوكَ بِـعَصْرِهِ

مَــنْ ظَـنَّ تَـهْزِمُ جَـيْشَهُ حُـورِيَّةْ

*

فَــكَـأَنَّ نَـظْـرَتَـهَا بِـأَلْـفِ قَـذِيـفَةٍ

غَـرَزَتْ بِعُمْقِ القَلْبِ أَلْفَ شَظِيَّةْ

*

مَــا عــادَ يَـنْـفَعُ مَـلْـجَأٌ أَوْ مُـنْقِذٌ

قَـــدَرِي بِـأَنِّـي لِـلْـعُيُونِ ضَـحِـيَّةٌ

*

يَـا فِـتْنَةً صَـبَّتْ جُـفُونُكِ خَـمْرَهَا

فَـسَـكِرْتُ مِـنْـهَا بُـكْرَةً وَعَـشِيَّةْ

*

إِنِّـي رَأَيْـتُ ضِـيَاءَ وَجْـهِكِ كَـوْكَبًا

يَـهْـوِي.. فَـيُـحْدِثُ هَــزَّةً أَرْضِـيَّةْ

*

سَأَظَلُّ أَرْحَلُ فِي هَوَاكِ مُسَافِرًا

رُوحِــي تُـلَاحِـقُ نَـظْـرَةً غَـجَرِيَّةْ

*

وَأَعُـودُ مِـنْ تِـيهِي إِلَـيْكِ كَـأَنَّنِي

قَــدَرٌ يُـلَاحِـقُ خَـطْـوَتِي الأَبَـدِيَّةْ

***

بقلم: عبد الناصر عليوي العبيدي

 

توهّمْ أيّها العربيُّ كيلا

يظنَّ الخلْقُ أنّكَ عُدْتَ ذَرّا

*

وقلْ مرِحًا لمن يبغي جوابًا

بأنّكَ بالمهادِ أحَطْتَ خُبْرا

*

وأنّك قد هجرْتَ الأرضَ إذْ لمْ

تعُدْ تُخفيْ عليكَ الأرضُ سرّا

*

إلى العلْياءِ مُحتلّا لكيلا

تظلَّ على السّماويّين حِكْرا

*

وباهِ بفتحِكَ العلياءَ غرْبًا

تطاولَ ظلُّه أنْ زارَ بدْرا

*

ولا تُخفيْ عليهمْ أنّ طيّ

السّماء وما تلا يحْتاجُ شهْرا

*

وأنّ الغيبَ من بعدِ السماوا

تِ آتٍ دورُه مهما تورّى

*

توهّمْ يَفهَموا لِمَ لمْ يعودوا

يروْنكَ منذُ قرنٍ مرّ دهْرا

*

يروا لِمَ لمْ يعودوا يلتقونَ

السّما في أرضِها سُنَنًا وذِكْرا

*

وما خبِرَتْ عصورٌ من أُمورِ

الدُّنى وطِباعِها شِعرًا ونَثرا

*

وما ألقاهُ ربُّكَ مِنْ أسامٍ

لآدمَ في السّما كتُبًا وحِبْرا

*

توهّمْ يُدركوا لِمَ لمْ يعودوا

يرونَ لمجدِكَ العربيِّ نصْرا

*

لِكيلا يحسبَ الأغرابُ عنهُ

بأنّك بِعتَ أرضَ الحشْرِ قهْرا

*

وأنّكَ بتَّ تسكنُ ما الغروبُ

ابْتنى من جُمْجُمِ الإنسانِ فِكْرا

*

وأنّك بتّ تعبدُ ما اليهودُ

افترتْ في غيْبةِ الإيمانِ كُفْرا

*

توهّمْ، إنّ طولَكَ دونَ وهمٍ

سيبقىْ لو بلَغْتَ الألفَ فِترا

*

لكي تُحْصى إذا أحصَوا وإلّا

فهُمْ مُسْتكثرونَ عليكَ مِترا

*

لكي يُبقوا منَ الماءِ الذي لَمْ

يعُدْ لكَ أيّها المغلوبُ بِئرا

*

وفي الأرضِ المُبارَكةِ التي لَمْ

تعُدْ لكَ أيّها المقلوبُ شِبرا

*

وفي التاريخِ إنسانًا وأرضًا

ودينًا أيّها العربيُّ ذِكرا

*

توهّمْ وابْقَ للأكوانِ سوقًا

تُضِفْ لبقاكَ يومَ الفرزِ عُذرا

*

وإلّا فالذي لا نفعَ منه

عليه اسْتكثرَ الأحلافُ قبرا

*

وما مِنْ واهمٍ إلّا ونقّى

ليكبُرَ وهمُهُ زيفًا وخَمْرا

***

أسامة محمد صالح زامل

ويلي إنْ جرَّبَ قدَّ نشيدِ الموتِ رصيدا

أوقدَ في عُنُقِ المزمارِ الضاري قنديلا

قرّبَني من دربِ الزوبعِ أضناني

صيّرَني مخلوقاً أنفضُ أعضائي رثّا

أتقلّبُ مطعونا

أنتظرُ الآتي والمُهلةُ في جُرفِ النهرِ المُنهارِ

أتحرّقُ كالعِهنِ المنفوشِ ضَراما

لأفكُّ القيدَ الساحبَ من صدري أسراري

لا يُسعفُ لا يستثني

مُستاءٌ منّي حدَّ النزفِ وفقدانِ الوزنِ

أشجاني وأصابَ التاجَ برأسِ السهمِ

وأزالَ الشارة من ضوءِ مفاتيحِ الرؤيا

هل أبقى شيئا ؟

جلببتُ الوهنَ بحافي أقدامِ الأُمِّ

كي لا ترقى عينٌ بَرْقا ..

ألقيتُ عصا إزماعِ الترحالِ

أدفعُ شرّاً جارَ وعدّا

وأَفكُّ مقاماتِ الحُزنِ العالي قيدا

يسّاقطُ بين الخطرةِ والأخرى دمعا

ويُعاودُ عدَّ الضيقِ المُستشري أنفاسا

يتحرّقُ بالذِكرى وبريشِ الأهدابِ سَخاما

ما من أحدٍ مدَّ الجسرَ صِراطاً شَرْطا

مأساةً تتلو مأساتا

وحشٌ يتربصُ أفعى سودَ الأنواءِ

ضَبٌ أحدبُ لا يستوفي شَرْطا

جمرُ سوادٍ في عينِ الكُحلِ.

***

عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

هَذِهِ الأَرْضُ

رَقْعَةٌ لِلْمُقَامَرَةِ،

يَخْسِرُ الأحرار الرِّهَانَ،

فَتُبَاعُ النِّسَاءُ بِأَبْخَسِ الأَثْمَانِ،

وَيَذُوبُ الْعَدْلُ فِي صَمْتٍ طَوِيلٍ،

يَحْيَا فِي هَوَانٍ بَيْنَ صُرَخَاتِ الْجِيَاعِ

وَأَلَمِ الْيَتَامَى،

وَعُيُونِ اللَّيْلِ الَّتِي تُرَاقِبُ الْخَرَابَ

خَلْفَ كُلِّ بَابٍ، وَفِي كُلِّ زَاوِيَةٍ وَجَعٌ يَنْتَظِرُ.

*

إِنَّ شِعْرِي يَشْهَدُ عَلَى الْعَارِ،

عَلَى الْجُوعِ،

عَلَى خُدُودٍ جَفَّ احْمِرَارُهَا مِن كَثْرَةِ الدُّمُوعِ،

كَأَهْوَارِ الْعِرَاقِ،

وَيَسْمَعُ صَرْخَاتِ جَارَتِنَا الَّتِي يَأْكُلُ مَاءُ الشِّتَاءِ بَيْتَهَا،

وَيَسْتَحِي الصِّغَارُ مِن صَرَاخِهِمْ،

وَتَتَوَسَّمُ السِّنُونُ بِالصَّبْرِ وَالْبَلَاءِ.

*

تَلَأْلَأُ عُيُونُهَا بِالذِّكْرَيَاتِ،

وَاللَّيْلُ يَنْسُجُ طُولَهُ عَلَى مَدَاهَا،

يَهْمِسُ لِلرِّيحِ بِمَا تَبَقَّى مِنْ أَمَلٍ ضَائِعٍ، مَضَى وَفَاتَ.

*

تَتَوَقُّ إِلَى رَجُلٍ ذَهَبَ بَعِيدًا عَن مَدَاهَا،

تَشْتَهِي عِناقًا بَعْدَ طُولِ غُرْبَةٍ وَشِقَاقٍ،

وَكُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهُ وَعْدٌ أَنَّ الْوَطَنَ لَا يَمُوتُ،

وَأَنَّ الْحُبَّ قَادِرٌ عَلَى الصُّمُودِ رَغْمَ الْخَرَابِ.

*

أَنَا عِرَاقِيٌّ، وَأَصْلِي عَظِيمٌ،

جُذُورِي مُزدهرة كَرِيمَةٌ

تخامر دجلة والفرات

هي جذور تَأْبَى الإنفلات

وَإِنْ أَطَاحَتْ بِهَا صَوَاعِقُ وَرُعُودٌ،،

سَتَظَلُّ شَامِخَةً،

كَالنَّخِيلِ فِي أَقْسَى الصَّحْرَاءِ،

كَالنَّهْرِ الَّذِي يَصِرُّ عَلَى الْجَرْيَانِ،

وَكَالْقَمَرِ الَّذِي لَا يَنْسَى أَنْ يُنِيرَ اللَّيْلَ لِلْحِيرَانِ.

*

هَذَا الْعِرَاقُ الْجَمِيلُ،

وَطَنُ الْعَزِّ وَالْبَهَاءِ،

كَيْفَ يَحْكُمُهُ الْجَهَلَاءُ وَالْمَوْتُ وَالْغَبَاءُ؟

وَكَيْفَ تَبْتَسِمُ الْأَرْضُ،

وَهِيَ تَغْلِي مِنَ الظُّلْمِ،

وَتَبْكِي عَلَى مَا حَلَّ بِهَذَا الْوَطَنِ السَّمَاءَ؟

*

لَنْ أَصْمُتَ، لَنْ أَسْتَكِينَ،

لَنْ أَتخاذَلَ وَلَنْ أَلِينَ،

سَأَصْرُخُ بِاسْمِ كُلِّ وَجَعٍ،

بِاسْمِ كُلِّ قَلْبٍ جَائِعٍ،

بِاسْمِ كُلِّ عَيْنٍ تَبْكِي فِي خَفَاءِ

وَلَا تَعْرِفُ الْأَمَانَ.

*

سَأَحْمِلُ جُذُورِي كَمَا تَحْمِلُ السَّمَاءُ النُّجُومَ،

وَسَأُغَنِّي لِلْغَدِ رَغْمَ الهلاك

سَأَبْنِي عَلَى رَمَادِ الْوَجَعِ أَمَلًا،

وَسَأَشْهَدُ لِكُلِّ شَهِيدٍ،

وَسَأَرْسُمُ الْحُرِّيَّةَ فِي صُورَةِ الْقَلْبِ وَالدَّمِ،

وَسَأَحْلُمُ بِوَطَنٍ يَعُمُّهُ النُّورُ وَالأَمَلُ،

وَتَزْهُو فِي قُلُوبِ أَحِبَّائِهِ وَيُغَنَّى لَهُ فِي كُلِّ دَارٍ وَزَاوِيَةٍ.

*

هَذَا وَطَنِي،

وَهَذِهِ أَرْضِي،

سَيَبْقَى الْعِرَاقُ شَامِخًا فِي صَحْرَائِهِ وَأَهْوَارِهِ،

فِي قُلُوبِنَا، فِي دِمَائِنَا، فِي حُلْمِنَا الْأَبَدِيِّ،

وَنَزْهُو بِاسْمِ كُلِّ الشُّهَدَاءِ،

وَنُمْضِي بِصُمُودٍ لَا يَعْرِفُ الْانْكَسَارَ،

حَتَّى يَزْهُو الْوَطَنُ مِنْ جَدِيدٍ،

وَيَعُمُّهُ ضَوْءُ الْحُبِّ وَالْأَمَلِ.

***

باقر طه الموسوي

 

(نظم قصيدتين غزليتين جميلتين وكتب تحتهما مهداة إلى لا أحد)..!!

***

* الاقنعة ..

سقطت في مصيدة النسيان

أحجية مديدة ..

تصارع الأجيال

تمتطي الأهوال

تشتكي الشوارع

الرعناء

والهوجاء ،

والمدن البعيدة ..

تلك هي القصيدة العنيدة..

**

العقل لا يقاد بالعصا

ولا الأوامر البليدة ..!!

**

تمازجت

تلاقحت نفوسنا

على الهواء

في العراء

عند مدخل الهراء

هاجرت حروفها العنيدة ..

نحو فوهة الجحيم

كلما تحجرت دموعها

وسال فيضها

كأنه الغمام حائرا

يجول في رحاب

غيمة طريدة ..!!

***

الحمام والغمام ..

رأيتها

تراقب الحمام

في المنام ،

وترتوي

من كأسها

المداف في المدام ..

ثم غادرت الى البعيد

غيمة تحوم في سمائها

تخاف من عيونها اللئام ..

أهذه طرائد المنام ..؟

**

تقول لي

متى نعود عند منبع الوئام..

نغرس الوعود

لا الرعود

في مسالك السلام ..؟

من يرتق الخيارم..؟

من يمسح الغمام..؟

من يطفيء السعار

في مضاجع النيام..؟

**

تقول لي

تعال نحتمي من هفوة القدر..

تعال كيفما تريد

أينما تريد

نركب البحار

في قوارب النجاة..

لا نجاة ، لا حياة

في متاهة القدر..

اريد أن أعوم في نهر

اريد ان اجول في العواصف

الهوجاء

في الصحراء والمعابر المثيرة

في الدروب والمسالك المطيرة ..

اريد أن أمازح القدر

احارب الاشباح

في الصحراء

في الانهار

في السعر..

تحت رحمة المطر..

هل يسبح التنين في النهر..؟

**

تقول لي ..

متى نعود

نمخر الرياح في السحر..؟

ونبتني الصروح

في مسالك الجروح

كلما تكاثر النباح

عند مدخل الخيام

حين يبدأ الوطر

يهيم في العراء

كلنجوم

في سمائنا تعوم ..

ألا ترى النجوم ..؟

تموت كل يوم

في الطريق

في المنام

تحت رحمة الخيام..

يمحق القدر..!!

***

د. جودت صالح

19/10/2025

 

خَطَرَتْ ببالي فكرةٌ مجنونة،

تسلّلت من خيوط المصلِ ... المتشابكة

*

لِمَ لا تتخلّى عن هذا الجسدِ المتخشّبِ كجدارِ صمتٍ قديم،

وتنضمّ إلى السّربِ؟

*

سِربُ الفراشاتِ لا يشيخُ،

ولا يُوقِظُهُ وجعُ المفاصلِ،

ولا يسألهُ أحدٌ عن بطاقةِ الصِّحّةِ،

و لا اوراق التأمين ..

*

لِمَ لا تَتَخارج من لحمِكَ المريضِ،

تتسرَّبُ من شقٍّ بين ضلعين،

وتصيرُ شيئًا خفيفًا،

كالنَّسمةِ التي تتطفّل على أحاديثِ البناتِ حين يُخبئنَ أسرارَهُنَّ

في زجاجاتِ العطرِ،

أو حين يكتبنَ على المرايا أسماءً محظورة؟

*

لِمَ لا تُطارِدُ الأطفالَ في لهوِهم،

تُمسكُ بظلٍّ سقطَ منهم،

تضحكُ من سذاجةِ العالم،

وتنحني لتُقبّلَ جبهةَ الضحكةِ قبل أن تشيخ؟

*

أريدُ أن أتنصّلَ من ثقلِ الـ"لا"،

من كلِّ النواهي التي تربطني كحبالٍ إلى شوك الإدراك،

أن أُفرغَ رأسي من معنى العُمر،

وأملأَهُ برفيف الأجنحة.

*

يا جسدي،

كفى نواحًا على ما فَسَد،

سأُهجرُك الليلةَ كما يهجرُ الحلمُ عَينِ النائم،

وأترُكُكَ هنا،

لأتعافى في فضاءِ الفراشات،

حيثُ لا مواعيدَ للألم،

ولا قيدَ لعمر الصباح....

***

مجيدة محمدي

أسكبُ بعضي على بعضي

لأُرمّمَ موضعَ الوجعِ

أتشعّبُ في ذاكرةِ الحزنِ

كشجرةِ لبلابٍ

أُسكتهُ حيناً

ليعودَ متمرداً

كثرثرةِ ماءِ النهرِ

يستفزُّ أمَّ غريقٍ

بُغتة

ليحلَّ أوجاعها نِياحاً

مثل قلقٍ ثقيلٍ

يُثقلُ كاهلَ عاشقٍ

امتدَّ له حَدسُ الشكِّ

أو الغيْرةِ

هكذا هو الوجدُ

يتسللُ لروحي على مهلٍ

مخلفاً ريقاً مرّاً

وجُنونا يُشبهني ...

***

كامل فرحان..

اِنني معها

وهيَ تحملُني في الفؤادْ

وشريانُهُ دافقٌ أبجديُ الودادْ

*

ربَّما مانعتْ

ربَّما صانعتْ

ربّما هربتْ

ربّما كذَّبتْ

ولكنني معها

*

اِنني معها

قالَ لي كوكبٌ غائبُ

وأكدَّها كوكبٌ آيبُ

*

تقولونَ: محضُ جنونْ!

وأنا مؤمنٌ بالكواكبْ

أصدقائي الكواكبُ لا يكذبونْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

في دُجىً

يتدلّى من غصنٍ كسيرْ،

كنتُ أجني اسميَ المنفيَّ

من شَفَةِ العَسيرْ،

وأُريقُ النورَ

في غَيمٍ صغيرْ

2

جئتُ لا أملكُ وجهًا،

غيرَ ظلٍّ في السُّكونْ،

وجُرُفْ

ينزفُ التاريخَ

في صمتِ السُّجونْ،

كنتُ أمشي،

والخطى تَغفُو على فَوضى الظنونْ

3

لا دليلَ الآنَ إلا

شهقةٌ

من فمِ الغيبِ الغريقْ،

كلُّ شيءٍ كان يمضي

نحو أنفاسي،

ويبكي ثم يضيقْ

4

يا أنا،

أيُّ شتاتٍ يتّسعْ؟

والرؤى

تتكسرُ الأسماءُ فيها كالقِطعْ،

يا أنا،

هل كنتُ حبرًا

يتدلّى من ورقْ؟

أم صدى يمضغُ وجهي

حين أفنى في الشّفقْ؟

5

ها هنا

مدينةٌ

تُقْفِلُ أبوابَ الصباحْ،

واليتامى

يتقاسمْنَ التراتيلَ المُباحْ،

والأناجيلُ التي كانتْ تُضيءْ

غادرتْها النارُ

إلا في الجراحْ

6

كنتُ أكتبْ

كي أُزيحَ الصمتَ عن لوني المُريبْ،

وأُعيدَ الضوءَ للمعنى

إذا ما ذاب في الحُلْمِ الغريبْ،

كنتُ أحبو

بين جمرِ البدءِ،

أستجدي الرّحيقْ

7

كنتُ أُعلي نُطفَةَ الأسماءِ في

مَقلَتي، والرملُ يمحو سِيرتي،

كلّما خفّتْ رؤايَ، اتّسعتْ

8

لمْ أجدْ فيّيَ غيرَ الانشطارْ،

صوتُ منفيٍّ يدوّي في المدى،

وجدارٌ فيه أنفاسي تغارْ

9

ها أنا أسألُ ظِلّي: من دمي؟

هل وُلدنا، أم كُنِنّا فُقدَةً؟

أم نسينا أن نكونَ كما نبتَتْ؟

10

سوف أمضي، والعباراتُ طِلاءْ،

أكتبُ الصمتَ، وأغفو في الظلالْ،

وأُعيدُ البدءَ: حبرًا وارتقاءْ

*

خاتمة (نثرية)

في انتهاءِ الحبرِ يُولدُ ما يُرى،

حين يغفو الضوءُ في جفنِ السؤالْ،

تبتدي الأشياءُ من وهجِ العَمى

كلُّ ما كنّا،

ظلالٌ

في اتّساقِ اللامدى

كلُّ ما نُخفيه

يمضي

نحو ما نُخفيهِ...

مرّتْ أسماؤُنا،

وانْثَنَتْ في الريحِ

أنقاضًا تُرى

***

د. سعد محمد مهدي غلام

حـوريـةُ الـبـحـرِ

بـيـن الـوجـدِ والـخَـفَـرِ

تـحـكي الى الـحـورِ

مـا تـحـكي عـن الـبـشـرِ

عـن حـبِ فـارسِـهـا

عـن طـلـعـةِ الـقَـمـــرِ

عـن لـمـسـةِ الـحـبِّ

إنْ مَـرّتْ عـلى وتــرِ

عـن الـنـجـومِ الـتي

أغـرتْ مـحـاسـنُها

الـراهـبَ الـبـحـرَ

في لـيـلِ الـهـوى الـغـجـري

فـهـلْ تُـرى تـلـتـقي

والـركـبُ في ســفـرِ

**

حـوريـةُ الـبـحـرِ

مـا زالـتْ عـلى أمــلِ

عـلى انـتـظارِ أمـيـرٍ

مَـرَ فـي عـجــلِ

لـلآن تـذكـرهُ

والـطـرفُ في خـجـلِ

فـهـل تُـرى تـلـتـقي

بـالـفـارسِ الـبـطـلِ

يـومًـا بـلا مـوعـدٍ

مـن بـعـد مُـرتـحـلِ

كي تُـطـفـئ الـشـوقَ

في سـيـلٍ مِـن الـقُـبَـلِ

**

حـوريـةُ الـبـحـرِ

هـل تـشـكو مِـن الـسـأمِ

ومِـن تـغـيـرِ حــالٍ

فـاضَ بـالألــمِ

ومِـن حـبـيـبٍ

جـرتْ ذكـراهُ كـالـحُـلـمِ

وهـل سـتـبـقى

لـتـحـيـا مِـحـنـةَ الـزمـنِ

في غُـربـةِ الـروحِ

أو في غُـربـةِ الـوطنِ

نـعـم ســتـحـيـا

عـلى الـبـاقي مِـن الامــلِ

فـالـحـب أقــوى

مِــــــن

الالامِ والـمِــحَـنِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / فايلا في 22 نيسان 1998

 

في الحَـزْم والعَــزْمِ والإيمانِ والفِطَنِ

وفـي التـآلـف، تـكـبـو شِـدةُ المِـحَـنِ

*

صَـفّـوا النـّوايـا، فللـتـاريــخ قـولـتـُه

في صفحة الدُّرِ، أوفي صفحة الدَّرَنِ

*

لا للتـطـرّفِ والـتهـريـج، في خَـوَرٍ

فـساعــةُ الحسْـم تاريخٌ مِــن الزمن

*

تـأبـى الأصالـة إلا أن يــكــونَ لـهـا

كفٌّ تصولُ بها، في المَرْكب الخَشِنِ

*

(فـرّقْ تـسُـدْ) فعّـلوها في صفوفكم

حتى سَـقَـوْكم بـها كأساً مـن الوَهَـنِ

*

إلامَ يـبـقى الخـلافُ الـمُـرُّ مُـنْـتـجَعا

تـســقيه سِــرّا أفاعي الغرب بالفتن

*

لــو لم يـرَ الطـرفُ الغـازي تـفـرّقـكم

مـا كــان فــكّرَ فــي غـزوٍ، ولـم يَكُنِ

*

تـعـدو الذئـابُ، اذا الأسـوارُ غائـبـةٌ

والعـيـنُ غـافِـلةٌ، مِـنْ شِــدّة الـوَسَنِ

*

إنّ التـخـلـفَ فــي وعـي الأمـور لــه

سَــلْـبٌ يُـؤثّـرُ، فــي سِـرٍّ وفي عَـلَـن

*

والجِـدُ فـي الحَـسْمِ يـبدو مـن بـَوادِره

في هَـيْـأةِ السيف، أو في هَيْأة الرَّسَـن

***

(من بحر البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

عَيْنَاكِ تُزْهِرُ فِي الرُّؤَى أَحْلَاما

وَأَنَا الْغَرِيقُ أُلامسُ الْأَوْهَامَا

*

كَمْ  رَاوَدَتْنِي فِيكِ أَلْفُ حِكَايَةٍ

تَهَبُ الْمَسَاءَ قَصِيدَةً وَهُيَاما

*

يَا مَنْبَعَ الْإِحْسَاسِ كَمْ أَسْقَيْتَنِي

دِفْءَ الْحَنِينِ، فَصُغْتُهُ أَنْغَاما

*

فَتَوَضَّأَ الكَلِفُ الصَّدِيُّ بِمَائِهَا

وَصَلَاتُهُ فِي الْمُقْلَتَيْنِ أَقَامَا

*

قَدْ كُنْتِ فَجْرًا فِي ظَلَامِ تَوَجُّسِي

فَأَضَاءَ وَجْهُكِ لَيْلَهُ إِلْهَاما

*

يَا نَاعِسَ الطَّرْفَيْنِ مَا أَصفاهُمَا

فَجَّرْنَ مَا بَيْنَ الضُّلُوعِ غَرَاما

*

أَهْوَاكِ رَغْمَ الْحُزْنِ رَغْمَ تَوَجُّعِي

وَكْتَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْهَوَى الْآلَامَا

*

تَبْقَيْنَ فِي رُوحِي الشَّغُوفَةِ هَمْسَةً

تُحْيِي وَتُطْفِئُ فِي الْفُؤَادِ ضِرَاما

*

اللَّهُ يَعْلَمُ كَمْ شقيتُ من الْهَوَى

أَتْعَبْتُ بَيْنَ دُرُوبِهِ الْأَقْدَامَا

*

يَا مَنْ تُمِرِّينَ الصَّبَاحَ عَلَى يَدِي

لِيُسِيلَ مِنْ هَمْسِ النَّدَى أَنْسَاما

*

كَمْ غَادَرَتْ عَيْنَايَ شَطَّ سَوَادِهَا

وَرَمَتْ عَلَى نَخْلِ الرُّمُوشِ سَلَاما

*

لَوْ دَامَ قُرْبَكِ لَحْظَةً مَا غَادَرَتْ

رُوحِيَ الحَيَاةَ، وَلَا ارتضيتُ خِتَامَا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

سيقولُ لنا التأريخُ

أنَّ السُّطورَ مشانقُ

وما بَينَهُما

مقصلةُ الكلامِ

وأنَّ النّاطقَ الرسميَّ

بِمَوتنا

هوَ الجوعُ

واللامعقولُ

وفي صناديقِ القلوبِ

رسائلُ سوداء الملامحِ

تشي بالحقدِ المبينِ

والتخلّفُ جاثمٌ

على مفاتيحِ الصّدأ

وخلفَ الأقفالِ

سجونٌ

اختَلَطَ فيها الواقعُ

بالمستحيلِ

والخيرُ بالشّرِّ

والحقُّ بالباطلِ

وها نحنُ

نؤرجحُ زمننا

بينَ هاويَتينِ

وأرواحنا

بينَ مَوتَينِ

ونرصّعُ الحزنَ

بالآهِ المعَتَّقةِ

بالشَّجنِ

حينَ ينمو الهمُّ

على أجنحتنا المكسورةِ

نستمدُّ ضعفنا

من قوَّتهم

ويَستَمدّونَ قوَّتهم

من ضعفنا

هكذا باتَتْ

معادلةُ الحَياة ...

***

سلام البهية السماوي

 

ذهل لقمان لِمَا رأى

و بالصّمت تصلّب وما اشتفى

ألقى على أرصفة الحلم وصاياه

و ما آواه المدى

لا وشم في المدى لأيّ مدن

فيها تقرّى وتدبّر...

*

سقط منّي معطفي - قال -

و أُشْرِبْتُ كؤوس الريح والأسى

مدائني الّتي رتقت ضلعها في مقلة الشمس

بأضلعي

تحتحتت من تحت أظفاري نعناعا

على موائد الضّنى...

في عطفة نائية

قد دعّني إنليل

و التفّ على النّهى

في الشطآن والحدائق، رسا الدّجى

و في النّهور والقرى.

انعقدت أ لسنة الرّمان

في أكفّ وقواق تمكّن...

وغرّدت له الشحارير

أطنبت عطاء وتناوبت...

تجاسر الوقواق،

احتطب في الجسور،

استكفّ ريحها.

و في المدائن

تأذّن بجوع وخراب ومقاصل...

اختلج النهار

انعطف ناحية بئر تتهدّمُ.

لا ماء في البئر ولا قميص أنتظر منها

كي أبصر...

*

أفتقد اليوم حفيف ثوب أيّوب على عصايَ

كي أرى .

منّي تفرّ لغتي

و تتهدّم جسوري والأماكن.

نسيتُ ما رتقتُ من عشب تخمّر

على الطين الْتَكَسَّرَ.

و أَحْصَبَتْ عنّي المرايا، كلّها

و صدَّعَ الحَصَبُ معصمي...

*

يا أيّها النّجم الْغَفَا !

هلاّ رددتَ لغتي وريح إبرتي؟؟؟

و بهما أَرْتُقُ عين عمر الْتَغَطّشَتْ

لَمَّا تَفَحَّمَتْ...

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

منزعجة حيال تصرفه الغير اللائق فهي تشعر بحالة من قرف ومقت حين تتذكره...كان يلاحقها طوال شهور. تراه في الامكنة التي ترتادها على الاكثر.  يبتسم لها ابتسامة تكاد لا تعرف لها معنى....لكن جرأتها ولسانها الحاد يدفعان عنها تطفله.  يسمع ضحكتها الهازئة التي تخلصها منه. الرجل الذي غزا الشيب ذوائبه.  عافه قطار الزمن ولا أحد يعرف سبب عزوفه عن الزواج وقلة اختلاطه مع الاخرين.  منذ صباه يتفاخر بما ورثه.  مزرعة وقصر مشيد تظلله الاشجار على ضفاف نهر الفرات

تبدو حانقة وقد احمرت وجنتاها غضبا. تحاول الصبية ان تجفف دموعها في غرفة الباحثة الاجتماعية المنعزلة عن فضول الطالبات.  تسرد حكايتها مع الرجل الذي أخذ يضايقها...ثم تضع رأسها فوق حافة المنضدة وهي تنشج باكية.  وبالتأكيد كانت بحاجة ماسة لتفريغ شحنة غضبها بهذا الحديث الذي بدا للباحثة كأنه ضرب من خيال مراهقة صغيرة تحاول اختلاق القصص الحزينة.

...كانت لا تقوى على مجابهة نظرات الباحثة لعينيها.  رغم انها تحتمي بستائر الغرفة الداكنة الا ان خيوط الشمس المنعكسة من خلال زجاج النافذة تكاد لا تتيح لها فرصة مناسبة للشعور بالطمأنينة والاستقرار في جلستها.

تقول بصوت تتكسر نبراته. ما حدث لم يكن بالحسبان فقد لمحته يخرج من دارنا ووجدت أهلي يهيمون اعجابا بخصاله وكرمه الباذخ

بخجل تطلب رأي الباحثة.  إزاء الموقف وتطلب مساندتها ووقوفها بجانبها. إذ انها ستغدو كيمامة يخدعها سربها في رسم مساراته. انها تائهة وحيدة في فضاء مخيف. ربما تكسر الريح جناحيها فتقودها لمصير مجهول

أوجست الباحثة خيفة في نفسها تجاه مشاعر الصبية الغضة ان صح ما تدعيه. لكنها فضلت الصمت لحين تفهمها الموضوع بالضبط

تقول الباحثة. ودعتني بقلب منكسر وعيون تحكي قصة أيامها الحائرة. عانقتها وتظاهرت بافتعال ابتسامة ممزوجة بهدوء شددت على يدها. ستكونين بخير. وسيكون غدك هو الاجمل

تنهدت ورمقتني بنظرة حادة كأنها تعاتبني. حملت حقيبتها تتثاقل خطاها لترسم بؤسها ومحنتها شيعتها نظراتي حتى اختفت عند حافة سور المدرسة

كيف أفلح بتلبية نداء استغاثتها وكيف أشرح لها أسبابي التي لا ترقى لمداركها الغضة. أداؤها في الفهم مازال فتيا. فهي قد ولدت قبل حلول الالفية الثالثة بعامين وحسب. بمعنى. انها لم تعبر الخامسة عشرة من عمرها بعد

. وبالرغم من ذلك وربما. لسوء حظها استقبلتها أحضان لا تعبأ بقدوم أنثى...وتتعامل معها تعامل الجاهلية الاولى في وأد بناتها  الفرق هنا. ان الوأد قد يكون رميها في احضان رجل بعمر ابيها

حتما ستنحصر مسؤوليتي كباحثة اجتماعية داخل سور المدرسة وبالتأكيد هناك خطوط ليس بمقدوري تجاوزها. لكن الصبية تمتلك عالمها المرهف بعيدا عن عالم أسرتها وقريتها

أغمضت الباحثة عينيها. وضحكت ضحكة حائرة ماذا بوسعي ان افعل.؟؟ هل احرضها على أهلها وهل من قوة ستحميني؟ وهل دوري ينحصر إلا في السماع؟.

شعرت بموجة من الندم تجتاح نسيج روحها إذ ان الصبية ذكرتها بماضيها. ارتشفت قهوتها دفعة واحدة دون ان تشعر بمذاقها.... وهي تفكر بزمان قد مضى لكن حسرته تكاد تضايق أنفاسها ان عادت بذاكرتها لتلك السنين.  فقد كانت تسمع ضجيج المآتم ونحيب الثكالى يرافقها قرع طبول الحرب!! وليس هناك من طرق بابها للزواج. فكانت تنتظر. وتشاطر مالك الحزين همومه

إذن يتوجب عليها مساندة الصبية. غير انها بذلت جهودا كبيرة في بادئ الامر ولكن دون فائدة أمام اصرارهم.  فحاولت على الاقل اقناعهم بعودة الصبية لمدرستها

التغيير الذي طرأ على احساس الباحثة ذكرها أيضا بلقب الانسة الذي رافقها منذ سنين.  كيف يتسنى لها ان تتخلص منه وقد أنجبت الحرب وريثا قد أزهق الارواح جوعا.  بما يسمى بالحصار. ثم أخذت الحرب تتكاثر على مدى سني عمرها

لتبقى الباحثة تبحث عن أمانيها

بعد حلول المساء عادت الصبية من مدرستها.  تفاجأت بتجمع النسوة في دارها.  من أقاربها وجيرانها وهن بأجمل زينتهن... يؤدين رقصة (الدبكة) بادرت احداهن وسحبت يدها لتشاركهن. لكنها تغنجت بدلالها المعهود. ثم اعتذرت. ان لديها امتحان في الصباح الباكر.  انفجرت النسوة بضحكات متواصلة وكأنها فجرت فيهن طاقة مخزونة للضحك

حملت احداهن إناء كبير تفوح منه رائحة الحناء وأخذت تخضب يديها الصغيرتين. وبادرت أخرى تغني بصوتها الشجي

...ارتجفت الصبية واندهشت حين قالت أمها ان الحفلة مخصصة لعقد قرانك

تأكدت هي. ان لا جدوى من بكائها وصراخها أمام ارادة أسرتها الطاعنة بأميتها. عادت المرأة تخضب يديها (تختار أمها من بين النسوة من هي مشهود لها بكثرة الانجاب لتقوم بهذه المهمة)..

أخذت النسوة تقدم التهنئة للصبية لكنها كانت غارقة بخيالها في مدرستها وتفوقها في درس الرياضيات.  وإعجاب مدرسة اللغة العربية بأسلوبها في درس الانشاء حين طلبت منها ان تقرأ موضوعها في الصفوف الاخرى

لكن الرجل العجوز سبق طموحاتها ودفع مالا كثيرا. لكنه انصاع راضيا لمطلب أسرتها وبما طرحته الباحثة الاجتماعية لإكمال دراستها

مازالت الباحثة تفكر في المفارقة المذهلة. مفارقة ان تزوج الصبية مبكرا وان تترك هي في زوايا النسيان

كانت تفكر في حل لتلميذتها لكنها انشغلت في معضلة الوأد وأدها منسية. ووأد الصبية. هي حفرتان. حفرة التذكر وحفرة النسيان

ان تكوني مطلوبة يا طفلتي من عجوز غني

يعادل نسياني في الزمان وفي المكان. متشابهة هي الفصول. يا طفلتي

عادت الصبية لمدرستها.  تحمل حقيبتها وتحمل معها لقبا جديدا.

(أصغر سيدة). عادت مطرقة الرأس. تنبئ صفرة وجهها. بإحباطها وإذلالها

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

استيقظ “هو” في صباحٍ لا يشبه الصباحات. الضوء الذي انسرب من شقوق النافذة لم يكن ضوءًا، بل رمادًا باهتًا يسقط فوق الأشياء. جلس على طرف السرير، شعر أنّ الأرض تميد تحته ببطء، كما لو أن شيئًا في داخله يتهدم بصمت.

لم يكن يعرف منذ متى بدأ هذا الانهيار. ربما منذ اليوم الذي فقد فيه وجهه في مرآةٍ لم تعد تُعيد ملامحه كما كانت. كان يرى فيها رجلاً شاحبًا بعينين زجاجيتين، تشبهان حفرتين امتلأتا بالخوف.

خرج إلى الشارع.

المدينة كانت هادئة على نحوٍ مفزع، والوجوه تمضي كأنها أطيافٌ بلا ملامح. حاول أن يتذكر أسماء الناس الذين يحبهم، لكنه لم يجد إلا أصواتًا بعيدة تتهشم في ذاكرته. كان يشعر بأنه يسير في حلمٍ ثقيلٍ لا نهاية له، وأن كل خطوة يخطوها تُغرقه أكثر في ضبابٍ داخلي لا ينجلي.

في داخله كانت حربٌ صغيرة، لكنها أشرس من كل الحروب.

لم تكن بينه وبين العالم، بل بينه وبين نفسه. هناك جيوش من الخوف تتحرك في صدره، فرسان من الذكريات القديمة يطعنون قلبه في كل لحظة. كان يسمع صليل أفكاره المتعارضة، يرى الدخان يتصاعد من روحه، يشمّ رائحة احتراقه، ولا يستطيع أن يصرخ.

توقف عند جدارٍ رمادي وراح يحدّق في الشارع. كل المارة يبدون كأنهم يسيرون في اتجاهٍ واحد، أما هو فكان عالقًا في منتصف الطريق، لا يعرف إلى أين يذهب.

فجأة لمح وجهًا في الزحام — وجه امرأة كانت يومًا تشبه الربيع. لم يكن متأكدًا أهي هي حقًا أم أن قلبه اخترعها لينجو من وحدته.

ابتسمت له، أو ظنّ أنها ابتسمت، فتحرك نحوها، لكن كلما اقترب، تراجعت الصورة، تلاشت شيئًا فشيئًا، حتى ذابت في الهواء كالبخار.

توقف، ارتجف، أدرك أن الحب لم يكن سوى وهمٍ آخر… جرحٍ جديد يضاف إلى حربه القديمة. ذلك الوجه الذي ظنّه خلاصه لم يكن إلا مرآةً لحزنه، وهكذا عرف أنه لا يهرب من أحد، بل من نفسه.

عاد إلى بيته بعد أن أُطفئ النهار في عينيه. جلس أمام النافذة، ينظر إلى السماء. كانت رمادية كقلبه، والغيوم تسير ببطء كجنودٍ متعبين. تساءل بصوتٍ خافت: هل انتهت الحرب؟ أم أنني ما زلتُ في أولها؟

لم يأتِه جواب.

غير أن قلبه خفق فجأة كما لو أن شيئًا ما في داخله انهار نهائيًا. ابتسم ابتسامة صغيرة — كانت أشبه باعترافٍ خفيّ بالهزيمة.

في تلك اللحظة، سكن كل شيء. لم يعد يسمع الأصوات في رأسه، ولا وقع الحرب في صدره. شعر أنه يذوب ببطء، كما يذوب الجليد في يدٍ دافئة.

وعندما أطلَّ الصباح من جديد، كان كل شيء كما هو — المدينة، الجدار، السماء الرمادية — إلا هو، فقد صار ظلًّا يمشي في ضوءٍ لا يراه أحد.

***

قصة قصيرة بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

لحظةً بلحظةٍ،

كنتُ أرنو إلى السماء.

ما لفتَ انتباهي

طائرُ النورسِ،

يحلّقُ في أوّلِ الصبح،

وحينَ ينتصفُ النهارُ

يَرجِعُ إلى حيثُ

يستطيعُ الوصول.

*

تتبعتهُ بعينَيَّ،

كأنّي أبحثُ عمّا يهربُ مني،

عن لحظةٍ صافيةٍ

تملأُ قلبي بالهدوء.

في صمتِ الموجِ،

وفي رقّةِ الضوءِ،

كانت الحياةُ تهمسُ لي

أن لكلّ روحٍ مسارًا،

وكلّ سفرٍ نهايةً

إلى حيثُ تستطيعُ العودة.

*

ثمَّ أدركتُ أنّي،

كذلك الطائر،

أسافرُ في فضاءاتٍ لا تُرى،

أبحثُ عن أفقٍ غيرِ معلن،

عن سماءٍ تقبلُ أحلامي.

لكنّ قيودَ الأرض،

تذكّرني بأن العودة ضرورية،

وأنّ لكلّ حريةٍ حدودا،

وان لكلّ ارتفاعٍ سقفا

لا يختلّ إلا بالوعي.

*

حينَ تلتقي الشمسُ بالبحر،

ويختفي طائرُ النورسِ خلف الأفق،

أشعرُ أنّ الوقتَ ليس ملكي،

وأنّي جزءٌ من رحلةٍ أكبر،

رحلةٍ بين الحلم والواقع،

بين التطلّع والحدود،

بين ما نستطيع وما يهربُ منا،

بين لحظةٍ تمرّ

ولحظةٍ تبقى.

*

وفي النهاية، تعلمتُ أنّ السعيَ

ليس للوصول وحده،

بل لأن تكونَ واعياً

بقيودك وأحلامك،

بأن تحلقَ كما يحلق النورس،

حتى وإن اضطررتَ للعودة،

ففي كل رحلةٍ،

حتى القصيرة منها،

تكتشفُ معنى الحرية،

وتلمسُ غموض الحياة،

وترى أنّ السماء،

مهما اتسعت،

تظلُّ مكانًا لاكتشاف الذات.

*

توقّفتُ عن تلك الهواية،

وعاهدتُ نفسي

أن لا أعودَ إلى ذلك الطريق،

حتى أرى طائرَ النورسِ

يطلُّ ثانيةً،

ويخطُّ بجناحِه:

أن لا وقتَ

يستحقُّ أن يُهدَر.

***

د. جاسم الخالدي

 

لَمْ أَكُنْ غَيْرَ ارْتِجافِ الرِّيحِ

في جَسَدِ الغُيُومْ

كُنْتُ أَلْمَحُني

عَلَى كَتِفِ المُدَى

أَزْهُو وَأَنْفَصِلُ

كَأَنِّي المَاءُ

يَسْكُنُ في زُجَاجٍ لَا يُحِبُّ الشَّكْلَ

لَكِنْ... يُقَلِّدُ الانْكِسَارْ

2

أَنْتِ لَا تَأْتِينَ، لَا تَغِيبِينَ

تَتَمَوْجِينَ كَنَبْضِ نَفْسٍ

لَا تُجِيدُ تَخَيُّلَ المَوْتِ

كُنْتِ فِي جُرْحِي نَدًى

كُنْتِ تَحْتَ الجِلْدِ

أَشْتَاتَ التَّهَاوِي

كُنْتِ تُهْدِيني نَجَاةَ القَطْرِ

مِنْ أَوْرَاقِ نَارْ

3

نَتَقَارَبُ...

يَفْتَرِقُ الكَفُّ عَنِ الكَفِّ

يُلْتَصِقُ الظِّلُّ

بِالظِّلِّ الَّذِي لا يَثْبُتُ

فِي خُطَانَا

نَنْفَصِلُ فِي وَهْجِ لَمْسَتِنَا،

نَلْتَحِمُ فِي عُرْيِ مَا يَخْفَى

وَلَا يُدْرَكُ فِي اللَّفْظِ المُبَاحْ

4

أَيُّهَا اللَّمْسُ الَّذِي يُذْكِي بِيَاضَ الصَّمْتِ

خُذْنِي،

كَمَا يَأْخُذُ العُرْيُ ظِلَّهُ،

كَمَا يَأْخُذُ النَّزِيفُ مَاءَهُ

لأُكْمِلَ فِي الجَسَدِ انْكِسَارَ اللَّفْظِ،

أَوْ أَتَجَلَّى فِي الضِّيَاءِ...

بِلَا وُجُودٍ

أَوْ بِلَا أَلَمٍ يُفَسِّرُ مَنْ أَنا

5

فِي ضُلُوعي نَبْضُ مَنْ نَسيَ الرُّؤى

وَتَنَامَى كَالسُّؤَالِ المُنْحَدِرْ

كُلُّ جُرْحٍ فِيكِ مَاءٌ،

كُلُّ مَاءٍ فِيكِ نَفْيٌ،

وَالمَعَاني تَسْتَحِمُّ بِخَفْقَةٍ

ثُمَّ تَذُوبُ كَمَا البُخَارْ

6

هَلْ أَنَا ظِلٌّ؟

أَمِ اسْمٌ يُشْبِهُ الإِشَارَةَ في يَدِ النَّافِذةِ؟

هَلْ أُسَاكِنُكِ لِأَنْسَاكِ،

أَمْ أُقِيمُ عَلَى فُتَاتِ الحُلْمِ

فِي جَسدِ الغُيُومْ؟

7

أَنْتِ لَا تَجْرِينَ في عِرْقي

وَلَكِنِّي أُصَابُ بِكِ

كَمَا يُصابُ البَحْرُ

بِالرِّيحِ الَّتي تَنْسى اتِّجَاهَها

أَنْتِ خَارِطَةٌ،

وَنَبْضي بَلَلٌ في الهَامِشِ المَطْويِّ

في دَاخِلِ هَوَانا

8

هَذِهِ اللَّحْظَةُ كَانَتْ

رَجْعَ لَفْظٍ لَمْ يُقَلْ،

رَعْشةَ الصَّدْرِ الَّذي يَبْكي

إِذَا لَامَسهُ النَّوْمُ الخَفيفْ

9

فِي عِنَاقٍ يَصْطَفِي فِينَا الحُطامْ،

نَتَجاذَبُ نَفْسَنا،

وَنَعِيشُ في الأَشْلَاءِ

مَا كُنَّا نُسَمِّيهِ اكْتِمالاً،

ثُمَّ نَنْسَى،

ثُمَّ نُوجِعُ مَا تَشَكَّلَ

مِنْ هَوَانا... في الضَّريبةِ

10

لَسْتِ أَفْقي،

وَلَسْتُ أَنَا أَبِي،

نَتَناسَلُ كَالظِّلالِ

في مَسامِ العَالَمِ،

لَا نُشْبِهُ مَنْ كَانُوا،

وَلَا نَثْبُتُ فِي نَفْسٍ تَقُولُ: أَنا

11

في ضَرَبِ الأَشْيَاءِ،

أَسْقُطُ مِنِّي،

وَأَصْعَدُ في جَسدٍ

لَا يُسَمِّي نَفْسهُ

إِلَّا بَعْدَ الأَلَمِ

12

تَسْأَليني:

مَنْ يُقيمُ في خَطْوةِ الجَسدِ؟

أَقُولُ: هُوَ مَا يُبَالي

مِنْ نُفُورِ اللَّمْسِ، أَوْ إِنْسِجامِ الصَّدَى

هُوَ مَنْ يُقيمُ على مَدًى يُفْنيهِ

ثُمَّ يُعيدُهُ، بِلَا سَببٍ

13

كُنْتِ كَالماءِ،

وَكُنْتُ الجَرَسَ الَّذِي

يَقْطَعُ أَسْوَاتَ المَجَازِ

كُنْتِ خَيْطَ النَّفْيِ،

أَمْشِي فِيهِ،

وَأَكْتُبُ مِنْكِ نَفْسي

14

لَمْ أَكُنْ لي،

كُنْتُ أَنْتِ

في دَمي أَصْغَى إِلَيْكِ اللَّفْظُ،

في نَبْضي تَلاوحَ وَجْهُكِ كَ سِرٍّ

في يَدِ الأُفُقِ البَعيدِ

15

مَا الَّذي يُمْكِنُ

لِلْحُبِّ

إِلَّا أَنْ يَفْقِدَ نَفْسهُ

فِي وَقْتِ المُقامِ،

وَأَنْ يُقيمَ في انْهيارِهِ

كمَنْ يَبْني في العَدمِ

16

في جُرْحِنَا مِرْآةُ جَسدٍ

تَتَكَسَّرُ في شِفَاهٍ تُغْوِينا

وَتُبْصِرُنا

وَنَحْنُ نَحْترِقُ

17

كَيْفَ أَخْرُجُ مِنْ دَمي

وَأَنا نَفْسي

في انْهِدامِ نَفْسي؟

كَيْفَ أَتْرُكُني عَليْكِ،

وَأُسَمِّيكِ اسْميَ الثَّاني؟

وَأَنَا لَا أَمْلِكُ

إِلَّا خَفْقةً،

وَرَغْبةً

تُراوِغُ شَكْلَها

18

في خَاتِمةِ الشَّهْوةِ،

كُنَّا نَبْكي

لَا مِنَ الأَلمِ،

وَلَا مِنَ الفَقْدِ،

بَلْ لِأَنَّ المَكانَ

لَمْ يَتَّسِعْ لِكُلِّ مَا فينا

19

فَضيقٌ هُوَ الجَسدُ

على مَنْ عَاشَ بِلا وَجْهٍ،

وَبِلا أَجْفانْ

20

وَفي نِهايةِ النِّهَايةِ،

قُلْنا:

هَذا الهَوَاءُ… يُشْبِهُنا

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

كلُّ زهْرٍ فيهِ شيئٌ من شذاكِ

كلُّ درْبٍ فيهِ وَقْعٌ لخُطاكِ

*

فهنا يرسلُ لِي الموجُ صدى

أغنياتٍ ردّدتها شفتاكِ

*

غائبٌ في آخرِ الدنيا أنا

وبعيدٌ عنكِ لكنّي أراكِ

*

مثلما أنتِ معي حاضرة ً

مثلَ ظلّي في سكوني وحراكي

*

إنّهُ البحرُ يُناديني فهلْ

قدْ سحرتِ البحرَ قبلي فالتقاكِ

*

لستُ أدري ما الذي يضمرهُ

أسرورٌ فيهِ أم فيهِ هلاكي

*

أنا آتٍ لستُ أخشى ليلهُ

فعلى الموجِ شعاعٌ مِنْ سناكِ

*

أنتِ منّي وأنا منكِ فمنْ

ذا الذي حوريّةَ البحرِ دعاكِ

*

ستعودينَ إلى الأرضِ وإنْ

ضمّكِ البحرُ إليهِ واحتواكِ

*

سوفَ أصطادُكِ يا حوريّتي

أنتِ والبحر جميعاً في شباكي

*

أنتِ منْ ألهمني الشعرَ فما

كانَ لي شيطانُ شعرٍ يا ملاكي

*

كلُّ سحْرٍ آسرٍ أبطلتهُ

ليسَ في القلبِ مكانٌ لسِواكِ

*

قدْ هجرتُ الناسَ والدنيا معا

لمْ يَعُدْ يشغلني إلّا هواكِ

***

جميل الساعدي

........................

* القصيدة سبق وأن نشرت، لكنني أعيد نشرها استجابة لطلب الأخ الأديب والمترجم جمعة عبد الله في معرض تعليقه على قصيدة الأخ الشاعر طارق الحلفي. والقصيدة من وحي سفرتنا الى كوبا أنا والصديق المرحوم صباح النواب أخو الشاعر مظفر النواب.

ماذا جرى لديك الحيّ يا ترى؟ فجأة، ودون مقدمات، انقطع صياحه. لم يعد يوقظنا عند الفجر كعادته، أم أنّه أزعج الجيران بصياحه، عند الفجر والظهر والعصر. كما تقول لالة ورديّة، صاحبة الديك ومربيّته؟

فقس في خمّ بيتها. خرج من البيضة بحجم الإبهام. تدرّج رويدا رويدا، حتى كبر، نبتت له قبعة وريش أرجوانيّ منفوش وجناحان، وسلطة على دجاجات الحيّ، وأشباه الديكة. ديك الحي من سلالة حرّة. قويّ العظم. ابن البلد. شهم. حر. ورث الإباء عن أجداده. خرج من تحت حضن أمه ليس كالديكة التي تفقس في علب كأطفال الأنابيب. لٌقٍّب بديك الحي. واختفت كل الديكة في أرجاء الحي. كأنّها فقدت صياحها. لا صياح سوى صياحه. لا سلطة إلاّ سلطته.

تربى ديك الحي في خمّ لالة وردية. رعته مذ كان في قلب البيضة محّا وأحّا. هو من سلالة محليّة أصيلة. أطعمته أمّه من قمح وشعير البلدة. وكانت لالة ورديّة تباهي به جيرانها، وتمنّي النفس، بأن يعيش زمنا طويلا. وكم قيل لها: بيعيه في السوق الأسبوعي، واشتري بثمنه قطعة قماش خضراء اللون، لتبيّضي بها وجهك أمام زوا ر المقام الزكيّ للوليّ الصالح سيدي معمر بومكحلة، يوم الوعدة. لكنّ، رفضت، وصرخت قائلة:

- أبيع خلخالي، ولا أبيع ديكي.

يبدو أن القدر أدار ظهره لأمنيتها. وأصابها في مقتل. وفي قرّة عينها فجأة.. وما حيّر لالة ورديّة وأرّقها، وأفرغ في قلبها أكوابا من الهمّ والقلق، هو كيف اختفى الديك الأنيق فجأة؟ كان قبل اختفائه في صحة الأسد. لم تظهر عليه علامات قلق أو مرض أو كآبة. كان مساء اختفائه سعيدا، وهو يقفز فوق دجاجات الحيّ، يتبختر كالملك في مملكته، والأمير في إمارته. يقف أمام أشباه الديكة مختالا، مرفوع الهامة، يرمقهم بعيني الصقر، فتفر من أمامه، ومن خلفه. لا يجرؤ أحد منهم على تحدي نظراته، وحركات جناحيه. فكل الدجاجات حرث له. وهو لباس لهنّ، وهنّ له ثياب في كل فصل.

تغزو التكهنات والهواجس المرة جوانحها. تردد، متمنيّة ألا تكون صادقة:

- هل ألّمت به أزمة قلبية، فأزهقت روحه فجأة؟ أم غدر به ابن آوى في غفلة من أمره؟ أم اختطفه لصوص الدجاج بعد انتصاف الليل، وباعوه في سوق بلدة مجاورة بربع ثمن ديك غبي ّ، هرم، منتوف الريش والذيل؟

لم يحدث أن غاب ديك الحي كل هذه الأيام الثلاثة، منذ استلم، بل استولى على سلطة الدجاج. لقد فرض نفسه ومنطقه وسياسته. ألغى العقد القديم في جمهورية الدجاج، بحجة تخلفه، وعدم تماشيه مع نظام العولمة. وفرض عقدا جديدا تقدميّا. وكتب في مادته الأولى:

- المجد والخلود لي.

ولمّا احتجّ بعض أشباه الديكة، الذين ظنّوا في لحظة أنّهم ديكة حقيقيّون، أو أرادوا أن يصبحوا كذلك، وخرجوا، ذات صباح، إلى الشارع في مسيرة حاشدة، رافعين لافتات الرفض لتلك المادة، صارخين:

- الدجاج يريد إسقاط النظام. ارحل أيّها الديك..

أعدمهم ديك الحي، ورماهم لقيمات سائغة للقطط الجائعة.

لم يكن ديك الحي رحيما بمعارضيه. فهو يعلم أنّهم يعارضون من أجل المعارضة فقط. ومن أجل الظهور على شاشات التلفاز، وفي المعلقات على واجهات المحلات والساحات. هم كائنات دجاجية وديكية، تحترف الفوضى، وتبيع في سوق الأحلام سرابا. وهم أشبه بفطريات الكهوف، عندما تتشبّع بالرطوبة. هم مثل طحالب البحر، حين ترميها الأمواج على حافة الشاطيء الصخري.

ومن يومها، اطمأنّ ديك الحي. تخلّص من مغص المعارضة، التي صدّعت رأسه، وشوشت عليه راحته، وقيلولته. وكادت أن تنقل لدجاجاته وباء العصيان أو التمرد.

والحق أن لالة ورديّة هي سبب استبداد الديك وديكتاتوريته التي لامست حدود الفاشية أحيانا. فقد ربته منذ كان كتكوتا على أن يكون هو الأول دائما في كل شيء. لا أحد يصيح قبله، وإن تأخّر صياحه لظرف ما، كأن يغلبه النعاس بعد سهرة حمراء مع دجاجة عذراء. لا أحد ينقب الحب قبله. وكل الدجاجات يؤدين له الحب والولاء والطاعة. أما أشباه الديكة، فما عليهم سوى الرضا والتصفيق بالأجنحة، والقفز طربا له. كما علّمته لالة ورديّة حب الذات إلى درجة النرجسية. حيث صار يُرى - قبل اشتداد عوده - بعد آذان العصر، وعند الأصيل، يمدح نفسه. يجمع حول بعض الكتاكيت، ويأمرهم بالرقص حوله، وهو جالس وسط الدائرة، كشهريار، وقد استمرت معه هذه العادة أياما وشهورا، حتى أصبحت طقسا من طقوسه المفضّلة. كما ورثته أيضا المشي باختيال كمشي الأسد بين الظباء.

-2-

من ذا الذي سيصيح بعده في الحي؟ صحيح، أنّه ديكتاتوري، نرجسيّ، سلب من دجاجات الحي، وأشباه الديكة، حريتهم. حرمهم من حريّة التعبير والتفكير. حوّلهم إلى مجرد كائنات تدب على رجلين، ولها مناقير منتهية الصلاحية. لكنّه فرض النظام في الخمّ وخارجه. لولاه لعمّت الفوضى بين معشر دجاج الحي.

ديك لالة ورديّة ليس له بديل، ولا مثيل. أحيانا يجود الدهر بدرّة في كل مائة سنة. فمن الصعب على لالة ورديّة تحمّل وقع هذه المصيبة، التي ألّمت بها على حين غرّة. كيف اختفى في لمح البصر، كنيزك هوى في البحر. وفي ليلة مقمرة. وهو الذي كان لا يشكو من شيء، ينغّص عليه يومياته المرصعة بالمرح والسعادة. تأتيه لالة ورديّة بحفنات القمح والشعير. تغيّر ماءه في كل صباح، بعدما تنظّف الإناء بالماء والصابون. تكنس الخمّ في كل مساء، فلا تغادره إلا وهو خال من أدنى شائبة.

وجاءت العمة لالة خيرة، وقد لفت سمعها غياب صيحات ديك الحي، تسأل عن السبب. قالت متعجبة:

- ماذا جرى للديك، يا لالة وردية؟ منذ ثلاثة أيام لم نسمع له صياحا.

- لا أدري ماذا حدث له – كذلك ردّت لالة ورديّة بنبرة حائرة – انتظرت ظهوره منذ انقطاع صياحه، ثم سألت عنه الجيران، وبحثت عنه في كل الضواحي، لكنني لم أعثر له على ريشة، كأن الأرض انشقت وابتلعته، يا سبحان الله.

- ظننت أنّك ذبحتِه أو بِعتِه. جئت عاقدة النيّة والعزم على لومك ومخاصمتك على فعلتك.

- معاذ الله من ذلك. أبيع نفسي أو أذبح معصمي، ولا أقدم على التفريط فيه.

- لقد افتقنا صياحه يا لالة ورديّة.

- أما أنا فقد افتقت النوم، وطعم الحياة.

-3-

بدا الحي كأنّه مهجور من قاطنيه. أما الدجاجات فقد أصابتهنّ الكآبة. إلا أنّ أشباه الديكة شعروا بالغبطة والحريّة. استأسدوا على الدجاجات. وصاروا يقفزون على ظهورهن طول النهار، يجرون وراءهن الساعات تلو الساعات. ينزعون من مناقرهنّ الحب عنوة. ويركبونّ على ظهورهنّ دون عشق أو حب. عمت في الخم الفوضى. لم تعد لالة ورديّة تلتفت إليه، ولو بنظرة عاجلة. ذهب الذي كان يوقظها والجيران قبل بزوغ الفجر. ومازالت ترجو الله، وتدعوه في صلواتها، أن يعود ديك الحي من غيبته سالما، غانما، معافى من كل أذى.

تقول لالة ورديّة:

- لم يسبق لديك الحي، أن اختفى عن الأنظار والأسماع كل هذه المدة. ثلاثة أيام عند لالة ورديّة مقدارها سنة أو تزيد. كان من عادته في فصلي الصيف والربيع أن يغيب عن الحي صبيحة أو أمسية. أحيانا، وعندما ينشر الربيع بهاءه، ويُلبس الأرض حلّة خضراء كالزمرد، يخرج رفقة دجاجة فائقة الجمال، كي يمارس طقوس الحب العذري في أحضان النسائم الطريّة كالماء المنساب بين الخمائل. وتارة، عندما يحط الصيف رحاله، وينصب خيامه، ويدق أوتادها. يصطحب الدجاجات ذات الكتاكيت إلى حقول القمح القريبة، بعد حصادها، ويدربها على كيفية التقاط الحب، والحذر من الصقور والنسور السمراء. لكنّه يعود قبل انتصاف النهار، أو حلول الأصيل.

وتقول لالة وردية:

- أنّ ديك الحيّ، لا يخفى على أحد من أهل الحيّ. فقد صار صياحه مميّزا، ومسموعا من الضواحي القريبة. وصار يُعرف بـ(ديك لالة ورديّة). وكم من مرة سعىت إليها العجائز- الخبيرات في عالم الديكة الأصيلة – تبتغي منها إعارته يوما أو بعض يوم لدجاجاتهنّ. لكنّهنّ كنّ يصطدمن برفضها القاطع، خوفا عليه من أعين الحساد.

كانت تقول لهنّ:

- هاتوا بدجاجاتكنّ، يسرحن يوما أو بعض يوم رفقته.

- ألا يثير ذلك فتنة الغيرة لدى دجاجات الحي؟

- بلى. لكن سنحجزهنّ في الخمّ؟

وحدث ما لم يكن في الحسبان. ففي غفلة من لالة ورديّة، وأثناء تقديم الحب للدجاجات (المعتقلات) في الخم. نسيت أن تحكم غلق الباب. دفعته بعض الدجاجات دفعة واحدة وبقوة. وخرجن مطلقات سيقانهنّ للريح. وكانت المعركة الداميّة بينها وبين الدجاجات المجلوبة من الضواحي، لأجل التلقيح. وبدأت النقنقة وانفتحت الأجنحة والأظافر وهاجت المناقير. ولأول مرّة عجز ديك الحي عن فرض الانضباط، وحسم الموقف. كانت دجاجات الحي في هيجان عارم. عيونهنّ تقطر لوما أحمر. اتّهمنه بالخيانة، وكنّ يرددن:

- يا خائن الملح والعشرة.

حاول ديك الحي شرح حيثيات الموقف. فالأمر لا يعدو – في نظره - كونه خدمة إنسانيّة عابرة. لا تسمو إلى درجة الخيانة. فهو لم يخن أبناء الحي. ولم يفش أسرار قومه للأعداء، ولم يكن حركيا في صفوف الغزاة. ولم يفرّط في شبر من تراب الحيّ. وكان بإمكانه أن يذهب- وفي غفلة منهنّ – إلى دجاجات الضواحي، ويقضي في أحضانهنّ يوما أو بعضه، ويعود سالما، غانما. لكنّه – كما يقول – رفض، وعند لالة ورديّة الخبر اليقين.

لم تسلم دجاجات الضواحي من الرفس والنقب والنتف. عدن إلى أهاليهنّ مكلومات الجسد والروح. نادمات على رحلتهنّ المشؤومة. ناقمات على تلك العجائز الهرمات اللائي فقدن أحاسيس الغيرة وتقدير العواقب الناجمة عنها. واتفقت على تهشيم البيض فور إلقائه، لحرمان تلك العجائز منه. ورفضن حضنه. حتى تُسترد كرامتهن، ويعاد لهنّ الاعتبار بين دجاجات الضواحي، ودجاجات لالة ورديّة. لقد أُهدرت كرامتهنّ، ونلن من الإهانة ما لا يتحمّله ظهرجبل أرعن الذؤابة. واحتدم الخلاف بين العجائز ودجاجاتهنّ، حتى وصل بهم المطاف إلى محكمة بشريّة محايدة، التي قضت بأن الأمر لا يستدعي سوى المصالحة بالتراضي. لأنّ نيّات العجائز كانت حسنة. وإنّما الأعمال بالنيّات. ولم يقصدن أبدا إلحاق الضرر بالدجاجات. وعليه، تقوم العجائز باسترضاء دجاجاتهنّ، نزولا عند رغبتهنّ، بما يلي:

- زيادة كميات الأكل اليومي. وإعادة تجديد أرضية الخم وسقفه وطلاء جوانبه. وجلب اعتذار مكتوب من لالة ورديّة نيابة عن دجاجاتها المعتديّات.

ربّما كانت هذه الخطوة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي أفاضت الكأس. لقد رأى ديك الحي في تلك المصالحة هدرا لكرامته، وتفريطا في مكانة الحي.

قال بتهكم ومرارة:

- لم يكن الأمر يستدعي اللجوء إلى محكمة بشريّة، ولو كانت محايدة.

ولمّا سُئل عن العيب في ذلك، قال:

- ما دخل البشر في شؤوننا. ليتهم يقيمون العدل بينهم. إنّهم يفكّرون بالمنطق المادي فقط.

قالت لالة ورديّة:

- لولا لطف الله بخلقه، لحدثت مجزرة رهيبة.

- كنّا نبغي من وراء ذلك خيرا. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

كذلك أردفت قائلة.

و بدا للالة ورديّة أنّ اختفاء ديك الحي عائد – وهذا شبه مؤكد – إلى استبعاده من عملية الصلح. رغم أنّه ضلع رئيسي في المعركة الناشبة بين دجاج الحي ودجاج الضواحي. لقد حاول فك الاشتباك بين الطرفين دون انحياز لطرف على حساب طرف. لكنّه لم يفلح في ذلك. فقد كانت دجاجات الحي عازمة على الانتقام لشرفهنّ. كانت إحداهنّ تردد:

- لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم.

ولأول مرة، منذ خرج من بيضة أمّه، شعر بالعجز والفشل والهزيمة في معركة الحياة. بل ورمق في عيون دجاجات الحيّ غيظا ورعونة وإصرارا على الأذى، وتمردا على أوامره، وعتابا بلون الوعيد. أحس أنّ هيبته قد غاصت في الوحل. انتهى فيه ذلك الديك، الذي إذا انتصب وتمطى وصاح فجرا أو ضحى أو ظهيرة أو عصرا، وقفت له دجاجات الحيّ، وقفة الجنديّ للضابط الحازم تحيّة وإجلالا.

كان يمكن أن يختفي بأسلوب أكثر تحضرا وديمقراطيّة؛ وذلك بدعوة دجاجات الحيّ إلى اجتماع رسميّ، وإعلان استقالته، والدعودة إلى انتخابات مسبقة، وتكريس مادة في دستور جمهوريّة الدجاج، تُلزم الجميع على احترام مباديء التداول على السلطة. ويكون الجميع تحت السلطة القضائية، مهما كان المنصب. ولكنّ كل هذا استبعد. لأنّ سيادة الديك المحترم، لا يؤمن - أصلا- بمبدأ التداول على السلطة، فهو إما مقتول غدرا. أم مطاح به في انقلاب عسكريّ، أو خالد إلى أن يأتيه اليقين.

و حتى إن نظّم انتخابات (ديمقراطيّة ونزيهة)، فهي صوريّة فقط، ومن أجل الظهور بلباس ديمقراطيّ، على جسد ملك جبّار. إنّه يؤمن بنظريّة الحكم الشامل والجذريّ؛ وملخّصها، أنّه، إذا تمردت دجاجات الحيّ عليه، غيّرهنّ، وأتى بدجاجات جديدة. أما هو فثابت ثابت ثابت، إلى يتولّى أمره ملك الموت. كما قيل - والعهدة على راديو الأرصفة – أنّه فكّر في إضافة مادة إلى الدستور، تجبر الدجاجات وأشباه الديكة، بأن يشيّدوا له بعد مماته - إن مات طبعا – تمثالا من ذهب في قلب الحيّ، كي تُؤدى له طقوس الولاءات والطاعات والزيارات.

عجيب، أمر ديك الحيّ. كيف اختفي، وفي يده كل هذا الجبروت وهذه السلطات؟

(تمت)

***

بقلم الكاتب الروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

عادة ما تولد الفكرة من توتر الذهن أمام المدهش وغير المعتاد. يكسر حدث ما ألفة رتيبة مع وقائع غير متجددة، فيوقد الذهن شعلة تسري في المعاجم: حروف تلتقي، وكلمات تحن إلى استوائها على رصيف العبارة. يلتقط المؤلف مسودته ثم يشرع في تحديد معالم كذبته المقبلة. قيل أن الإبداع يتطلب المواجهة ومناداة كل لون باسمه، حتى وإن تأرجح قوس قزح فوق رأسك كحبل يشتهي الرقبة! لكن مشكلة حُسني أنه من صنف الرخويات، يكره رائحة الدم، ولا يطيق الكتابة بشفرة حلاقة.

 كان في مقتبل خربشاته حين استدعاه "الباشا" ليُحدثه عن افتتانه بالشباب الذين يُعبرون عن انتمائهم بنضج، ولا يتهيبون العصي والبنادق المحشوة ببارود تالف. لم يعلق بذاكرته غير دوي الصفعة الأولى، وسيل اللعنات التي اقتلعت أجداده من رحاب الفردوس لتلقي بهم في جحيم "دانتي".

إنه اليوم في عنفوان خربشاته؛ يتردد بين صالونات الفن متحينا فرصة الإدلاء برأي في لوحة رسام مغمور، أو مزهوا بكشف ثغرات في تجربة قصصية لحسناء لم تستجب لنداء الغريزة. وحده اليوم ناقد يحظى ببهجة الكاميرا وحفاوة الاستقبال. المسكينة أنيتا الغجرية، تتابع عن كثب كيف يلقي بها جحوده في عتمة النسيان. أرملة مقامر فر بجلده من جحيم فرانكو ليصرف عمره في تهريب اللوحات الرخيصة والتحف المسروقة من غرف الأميرات. وحَّدهما الدم الغجري، وما تخثر في النفس من أنين "الكالديراري". تلك الرحلة التي نثرت العارفين بأسرار البرونز في أنحاء القارة العجوز. إنها اليوم تدين له بثراء حرك شهوة الطامعين في البلدة. لكن حسني أدمن طرق الباب حتى ولج. تذكر إصراره على أن يكون ترياقا لوحشتها، وأبلغ في الحرص على أموالها من صيرفي يهودي.

 تصدر عن القلب تنهيدة وهي تتطلع لصورة حفل الزفاف. بدت يومها جذلى في ثوب أبيض أحال فارق السن بينهما إلى مزحة. حسني شاب طيب أجل، لكنه لا يحفل بمن تطأه قدماه في رحلة الصعود إلى المجد. يرتمي في حضنها شاحبا كعود قصب، ثم سرعان ما يسترد قواه الخائرة ليصفق الباب خلفه ويرحل.

تتابع كل ليلة خميس مداخلاته على الشاشة. لا يمل من كيل التهم ورشق الجهات الوصية على القطاع. جرأته وانحيازه للمسارات الهشة أكسباه حضورا لافتا في أدبيات الموجة الصاعدة. أب روحي؟ ربما، لكن حادثة الصفعة لا تزال كامنة في شقوق أحلامه المزعجة. حسني شاب طيب، أجل، وسيذكر حتما أنها كانت مجاله الرحب للإفصاح عن مخاوفه، أنيتا هي التعويذة التي تشفي روحه المتورمة، وتمسح بيد حانية حبات العرق البارد المكورة على جبينه كلما قفز من سريره مذعورا.

 يصر على أنها مجرد صفعة، وتذكرة عبور من بدايات الطيش إلى نضج وواقعية تستوعب قواعد اللعبة. لن تمنحك جرأة البوح سوى مقعد خلفي في الذاكرة، فالشعوب هي الشعوب، قد تحمد لك صيحات في الوادي ثم تستسلم لخدر النوم اللذيذ. كف عن ملاحقة خيط أحلامه الواهي لينساب كالحية على بطنها في الردهة الموصلة إلى المجد.

 لم يكن لذرائعه وقع في نفس أنيتا المصقولة مثل سيف محارب؛ فللمجد مرقاة واحدة مستقيمة كظل سنديانة، لا تمنح شرف الصعود إلا لمن خط بمداد الروح صدق انتماء للوجع الإنساني.

 يضحك حسني حين تحثه على أن يرفع رأسه بين الفينة والأخرى كي لا يألف الانحناء. ربما غاب عن أنيتا وهي تبدد الخوف الرابض في شقوق أحلامه، أن كاتبا من صنف الرخويات لا تأسره احتمالات السمو! 

***

حميد بن خيبش

الى صديقي حسام العبادي

حينَما حَدّقَتُ فيها

أينَعَتْ حوريّةُ البَحرِ

بغاباتِ القَصَب

ونما البَردِيُّ في حَضرَتِها

والزنابِق

وشحتها بزهورٍ من ذَهَب

فتَمَطّتْ

طارَ من بينِ يَدَيها

سِربُ وزٍّ وغَمامٍ من بَجَع

نَزَلَتْ تَسعىٰ إليّ

فَيئُها غَطّىٰ عَليّ

لثَمَتْ لي شَفَتي

ثمّ قالت

فيكَ من طَيشِ الخُلود

واريجٌ من مياهِ الآلِهة

عبَرَتْ بي مَوجَةُ البحرِ

الى مَرجِ الكُهولَة

كجَناحٍ فزَّ من غَفوَتهِ

طارَ بي الحاضِرُ يَسأل:

عن ممَرّاتِ الطُفولَة

نحوَ أهوارِ العراق

**

طارق الحلفي

 

هيَ الأرضُ... مِهبٌّ للرُّكودِ،

تدورُ كما يدورُ الحَجَرُ في فمِ النّهرِ،

تتآكلُ أطرافُها

من شدّةِ ما تُعيدُ ذاتَها إلى ذاتِها.

*

كيفَ تجذبُ وقتَكَ إذًا،

من بين أنيابِ الغياب؟

كيفَ تُحرّكُ واقعًا

تحجّرَ من فرطِ الحذر؟

الجبالُ تتهامسُ ساخرَةً، من رامَ القمّةَ،

يُصلبُ على سلّمٍ من هباء.

*

ثمّةَ في الهواءِ من يُطفئُ مصابيحَ الحلمِ،

من يُقايضُ الارتفاعَ، بأمانِ الحفرة،

ومن يهمسُ، ابقَ هنا،

في قاعِ الضّجيج،

فالأعلى مكتظٌّ بالوحشةِ.

*

كلّما صعدتَ،

سقطَ ظلّكَ عليكَ.

كلّما أنشدتَ، ابتلعَك الصدى ...

كلّما لامستَ النُّورَ،

عادتْ إليكَ أصابعُ العتمةِ

تُعيدُ ترتيبَك من جديدٍ....

*

ما الذي يدفعُكَ،

أيّها المتعبُ،

إلى حفرِ ملامحِك في الرصيفِ،

كأنّك تبحثُ عن وجهِك القديمِ

تحتَ الغبار؟

*

الحجارةُ تشيخُ،

الخطى تُجرّ أذيالَها كأسرى،

والهواءُ مُثقلٌ

بأنينِ من لم يُكملوا الحكاية...

تسيرُ،

كأنّكَ تعتذرُ عن البقاءِ حيًّا،

كأنّ الطريقَ ليستْ لكَ،

بل لجثثٍ تتدرّبُ على النهوض.

*

العصافيرُ تُذبحُ في السّماءِ

دونَ شاهدٍ أو محكمة،

والشجرُ يُجلدُ في صمتٍ

حتى يُقرَّ بخضرته.

*

يا الله،

هل هذه القيامةُ

تُجرَّبُ قبلَ الإعلان؟

هل نحنُ نُصلبُ

كي لا ينسى التاريخُ رائحةَ الألم؟

*

يا الله،

ارفعْ عنّا هذا الليلَ

الذي لا ينتهي،

نحنُ — أبناءُ الطينِ والرغبةِ —

سئمنا التّحوّلَ إلى رمادٍ

كلّما حاولنا أن نُضيءَ.

*

نحنُ الرّعاعُ الممنوعونَ من الحُلمِ،

نكتبُ على حوافِّ العدمِ،

"هنا مرَّ إنسانٌ

حاولَ أن يصيرَ نجمًا،

فسقطَ...

من فرطِ االنور "

***

مجيدة محمدي

رقصةُ التَّقَلُّبِ في ساحاتِ الحِبر

​كَانُوا هُنَا..

بالأمسِ القريبِ سِهاماً

في خاصِرةِ الكلماتِ

يَنسِجونَ مِن الهمسِ قُيُوداً

لِيَدِ الآخرِ أوْ يَدِ الأُخرى

وَالآنَ هُمْ:

خِلاّنُ مِسكٍ

يَرتَشِفُونَ نَبِيذَ الودِّ

مِنْ كأسٍ أَعَارَتْهُ المَصَالِحُ

أَلَقَاً

​وَأَنا المُتَفَرِّجُ

في زَاوِيةِ الصَّمتِ أَقِفْ

أَسْتَغرِبُ كَيفَ تَمُوتُ الخُصُومةُ

في لَحظَةٍ..

لِتبعَثَ صَداقَةٌ مَوهُومةٌ

تَحْتَ رَايَةِ تَمْرِيرِ (تَفعِيلَةٍ)

لِكِتابٍة

لِجَائزةٍ

لِصَدى

​نَعَمْ مُتَفَرِّجٌةٌ..

وَلَكِنْ لَسْتُ سَاذَجَةً كَي أَتْبَعْ!

فَمَا عَادَ يُغرِينِي ضَيَاءٌ

مُستَعَارٌ مِنْ لِصٍّ

وَمَا عَادَ يُرضِينِي صُحبةُ

مَنْ بَاعُوا النُّفُوسَ لِبُرْجٍ مِن وَرَقْ

​أَرَى الوَهَجَ الأَدبِيَّ كَي لا يخْفَى

يَسْتَمدُّ الآنَ زُوراً

مِن شَاشَةٍ

مِن خَوَارِزمِياتِ دَعْمٍ

يَصُبُّهَا ذَكَاءٌ صَارَ صِنْدُوقاً

لِتَلمِيعِ التُّرّهَاتِ

فَيَرتَفِعُ صَوتُ النّصِّ الزَّائفِ

فَوقَ صَوتِ القَلبِ الصَّادِقِ

المَنسِيِّ في الرُّكْنِ البَعِيدِ

​هُو (بَرِيْقُ الإِنسانِ الآليِّ)

لا شَيءٌ مِن رُوحٍ!

​يَا لَلعَجَبْ!

الأَدبُ قَنطَرةٌ

وَلَيسَ رُوحَاً أوْ غَايَةً

أَرَى المهازلَ تَرْتَدي

ثَوْبَ القَفْلَةِ الصَّادِمَةِ

عَلى خَشَبَةِ النِّفاقِ

​لَن أَرْتَدِي قِنَاعاً مِنْ رِياء

وَلَن أُصَفِّقَ لِقَلْبٍ

يَعرِفُ الوَجْهَيْنِ

والخُطُوَاتِ المُتَبَدِّلَة

أَنَا الحَقِيقَةُ

الصَّامِتَةُ

التي لا تَنسَحِقْ

​فَيَبقَى الصمتُ هو أبلغُ استهجانٍ

لِهذا الرقصِ المُتقنِ

حَولَ مَذبَحِ المصلحةِ

***

مرشدة جاويش

 

لطالما أدهشني هذا السقوط الهندسي.. كأن الدومينو تحاول أن تشرح لنا سرّ الحياة: أن النظام قد يولد من الفوضى، وأن الفكرة لا تشتعل إلا بعد سقوطٍ متتالٍ لشيءٍ فينا."

خطة الدومينو وهندسة السقوط

جلس سُهيلان أمام طاولة خشبية صغيرة، وعلى الطاولة صفٌّ من قطع الدومينو المصطفّة بدقة. لم تكن لعبةً للتسلية هنا فحسب، بل خريطةٌ لوعيٍ تأمل طريقته في السقوط. تذكر كيف أن كل قطعة عندما تميل، لا تهوي إلى العدم؛ بل تستند إلى من يجاورها.

 في ذلك المشهد البسيط رأى فلسفةً للمعركة: سقوط منظّم خيرٌ من ثبات فوضوي، والنهوض المُرتّب أقوى من الاحتشاد العشوائي.

أرسل النداء إلى جنوده، لكن كلماته لم تكن نداءً لحمل السلاح فحسب، بل دعوةً للاعتبار: "سنرتب صفوفنا كما تُرتّب الألوان في لوحة. كل لونٍ يحمل دورًا، وكل دورٍ يرتكز على الآخر. لا نبحث عن سحق العدو، بل عن أن نُعدّ أنفسنا لنقف حين يسقط الآخرون."

قسم الجيش إلى مستويات لونية: المشاة في المقدمة، كطبقةٍ من الظلال التي تختبر أرض المعركة، الرماة على الأطراف كخطِّ ضوءٍ يقوّم الزوايا، والفرسان كنبضٍ يربط المركز بالأفق. لم تُخفَ على الجنود رمزية الألوان؛ فقد صار كل درعٍ يكتسب تدرجًا من الرماد إلى الفجر، يذكّر من يسقط أنهم على وشك أن يقبعوا في حضن رفيق لا في فراغٍ بلا معنى.

خطةُ الدومينو لم تكن مجرد ترتيبٍ مادي؛ كانت هندسةَ سقوطٍ محسوب. سُهيلان علّمهم أن يتركوا فراغاتٍ صغيرة بين الصفوف، فراغاتٌ تسمح بالحركة، بالامتصاص، وبالتحويل، عندما ينهار صفٌّ أمام العدو، لا يستغلّ ذلك الفوضى ليلبسها سيفًا. بل يُولي رفاقه مهمّةً: تحويل هذا السقوط إلى متنفسٍ لإعادة التشكل، إلى نقطة ارتكازٍ جديدة.

 السقوط هنا ليس هزيمةً نهائية، بل إيقاعٌ يعاد عزفه بوعي.

وصلت الأخبار عن تقدم "دراكون " بجيوشه المدهشة في العدد لكن الفاقد في التنظيم. دراكون اعتمد على زعزعة النفوس؛ أشعل الخوف كشرارةٍ تمسح بها العقل، وظنّ أن الفوضى ستولد الانهيار التام. لكنه لم يعِ أن سُهيلان قد صاغ جيشه كلوحةٍ متآزرة، وأن كل سقوطٍ فيها سيُحتضن، لا يُهمَل.

حين اشتعلت المواجهة على حافة السهل، بدا الأمر لأول وهلة وكأن الدمار قادم؛ خطوطٌ تنهار، وصرخاتٌ تعلو. لكن سُهيلان ظل هادئًا.

 أمر بالانسحاب الجزئي لمجموعةٍ معينة — انسحابٌ محسوب جعله يبدو وكأن جيشه يتهاوى.

دراكون انتفض، يرى الفرصة في الاضمحلال الظاهر، فاندفع.

هنا بالذات نشطت هندسة السقوط: الفراغات التي تركها سُهيلان تحوّلت إلى قنوات، وتحولت حركات الانسحاب إلى أمواجٍ تعيد تجميع الصفوف من الخلف.

الجنود الذين قيل عنهم إنهم سقطوا، قاموا ووجدوا أيادي رفاقٍ ترفعهم، ودرعًا يستكمل مكانهم.

دراكون في يقينه المتقدس بأنه كسر توازن العدو، وجد نفسه في مواجهة نسقٍ لم يفهمه؛ جيشٌ لا يظفر بوقوعٍ نهائي للآخر، بل يتعامل مع السقوط كدرسٍ ومرحلةِ انتقال. رأسه الإستراتيجي تعثّر أمام هذا الاتساق، وقلّب التكتيك إلى ورطةٍ فكرية: كيف تهزم عدوًا ينهض حتى حين يسقط؟

في الساعة التي خمدت فيها أصوات الحرب، وقف سُهيلان على ربوةٍ صغيرة يطل على ساحة الصراع. لم يحمل رايةً حمراء تنذر بالنصر الدموي، بل رفع رايةً رمادية كالفجر، لون التوازن بين ضوءٍ وظل. اقترب منه جنديٌ شاب، وقد فرش غبار المعركة وجهه، همس: "هل كان هذا الانتصار؟" ابتسم سُهيلان بهدوء وأجاب: "ليس الانتصار في إسقاط الآخر، بل في أن نعرف كيف نعيد ترتيب قطعنا عندما تسقط. النصر أن نكون هندسةً تبقى إنسانيةً، لا آلةً تهشم."

وهكذا صارت "خطة الدومينو" أسطورةً تُروى؛ ليس لأنها علمت كيف تُوقع القطع، بل لأنها علمت كيف تجمّل السقوط، وكيف تجعل من كل سقوط فرصةٍ لسندٍ ولصنعةٍ أجمل. ومنذ ذلك اليوم صار يُقال في الميادين: إن الذين يعلمون هندسة السقوط هم وحدهم من يعرفون معنى النهوض، وأن أروع انتصارٍ هو أن تُنقش عبارات الرفق على شظايا الانهيار.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

 

يَا أَنْتَ، حِينَ تَبْلُغُ الحَافَّةَ، وَيَتَثَاقَلُ الهَوَاءُ فِي رِئَتَيْكَ، وَتَبْدُو الأَرْضُ حَجَرًا تَائِهًا فِي فَضَاءٍ لَا يَرْحَمُ، حِينَ لَا يَبْقَى فِيكَ إِلَّا نُقْطَةٌ هَشَّةٌ مِنَ الضَّوْءِ، اِغْمُضْ عَيْنَيْكَ، وَانْزِلْ إِلَى أَعْمَقِ نُقْطَةٍ فِيكَ، هُنَاكَ مَنْبَعٌ صَغِيرٌ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِسْلَامَ.

*

إِنْ لَمْ تَعُدْ تَقْوَى عَلَى التَّحَمُّلِ، فَادْخُلْ إِلَى ذَاتِكَ كَمَا يَدْخُلُ الغَرِيبُ كَهْفًا مِنْ نَارٍ وَمَاءِ. قُلْ لِنَفْسِكَ: مَا الَّذِي جَعَلَنِي أَخْتَارُ الحَيَاةَ فَجْأَةً؟ ثُمَّ أَصْغِ جَيِّدًا… فَالأَجْوِبَةُ لَا تَأْتِي مِنَ الخَارِجِ، بَلْ مِنَ الأَنْسِجَةِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي تَنْسُجُ الحَيَاةُ بِهَا مَعْنَاهَا حَوْلَكَ. فِي قَلْبِكَ — رُبَّمَا — شَجَرَةٌ صَغِيرَةٌ، لَمْ تَرَهَا قَطُّ، لِأَنَّكَ كُنْتَ مَشْغُولًا بِالظِّلَالِ.

*

تَذَكَّرْ… حِينَ قَرَّرْتَ أَنْ تَبْقَى حَيًّا، لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُ خُطَّةً وَلَا خَارِطَةً، بَلْ كَانَ فِيكَ وَمِيضٌ وَحْشِيٌّ نَقِيٌّ قَالَ لَكَ دُونَ كَلَامٍ: لَا تَزَالُ هُنَاكَ مَعْرَكَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُخَاضَ، أَوْ قُبْلَةٌ لَمْ تُعْطَ، أَوْ أُغْنِيَةٌ لَمْ تُكْتَبْ، أَوْ مَدِينَةٌ تَنْتَظِرُكَ لِتَفْتَحَ نَوَافِذَهَا.

*

فَكِّرْ فِي هَذَا السَّبَبِ… فِي تِلْكَ الِارْتِعَاشَةِ الأُولَى الَّتِي جَعَلَتْكَ تَخْتَارُ الحَيَاةَ، فِي ذَلِكَ الاِسْمِ، أَوِ الوَجْهِ، أَوِ الضَّوْءِ، أَوِ الكَلِمَةِ، أَوِ الحُلْمِ. هُنَاكَ يَكْمُنُ مَنْبَعُ القُوَّةِ — لَا فِي الصُّرَاخِ — بَلْ فِي النَّبْضَةِ الخَفِيَّةِ الَّتِي تَتَّقِدُ مِثْلَ شَمْسٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَ جِلْدِكَ.

*

الحَيَاةُ لَيْسَتْ جَبَلًا يَصْعَدُهُ الأَقْوِيَاءُ، بَلْ غَيْمَةٌ يَرْكُضُ تَحْتَهَا المُنْهَكُونَ وَيَصِلُونَ رَغْمَ الارْتِجَافِ . أَنْ تَبْقَى، لَا يَعْنِي أَنَّكَ لَمْ تُهْزَمْ، بَلْ يَعْنِي أَنَّكَ أَعْلَنْتَ هُدْنَةً مَعَ الأَلَمِ لِتُرَبِّيَ فِي صَدْرِكَ طَيْرًا صَغِيرًا اسْمُهُ الرَّجَاءُ.

*

وَحِينَ يَشْتَدُّ اللَّيْلُ، وَتَتَكَاثَرُ الأَصْوَاتُ الَّتِي تَدْعُوكَ إِلَى السُّقُوطِ، اِرْكَعْ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، لَا لِتَنْهَارَ… بَلْ لِتَسْمَعَ الأَرْضَ. سَتَهْمِسُ لَكَ سِرًّا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ: كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَكَ يُرِيدُكَ أَنْ تَبْقَى. الهَوَاءُ، وَالبَحْرُ، وَأَصْغَرُ وَرَقَةٍ عَلَى شَجَرَةٍ فِي زَاوِيَةٍ مُعْتِمَةٍ، كُلُّهَا تُرَاهِنُ عَلَى لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ… لَحْظَةِ نُهُوضِكَ مِنَ العَدَمِ.

*

فَلَا تَمُتْ، يَا مَنْ فِي دَاخِلِكَ شَمْسٌ لَمْ تُشْعَلْ بَعْدُ، فَلَا تَمُتْ، يَا مَنْبِعَ الأَنْهَارِ الصَّامِتَةِ، فَلَا تَمُتْ، لِأَنَّكَ حِينَ اخْتَرْتَ الحَيَاةَ، صِرْتَ جُزْءًا مِنْ إِيقَاعٍ كَوْنِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ.

*

اِبْقَ… وَلَوِ ارْتَجَفَتِ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِكَ، اِبْقَ… وَلَوْ تَكَسَّرَتِ اللُّغَةُ فِي فَمِكَ، اِبْقَ… لِأَنَّكَ أَنْتَ السَّبَبُ الَّذِي تَبْحَثُ عَنْهُ، وَأَنْتَ حِينَ تَفْتَحُ عَيْنَيْكَ، تُعْطِي هَذَا الكَوْنَ سَبَبًا آخَرَ لِلْوُجُودِ.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

 

مرت ثلاث شهور دون اتصال، او سؤال منه، تاركها تغوص في بحر من الحيرة، وفي كل مرة تبعث له برسالة، يصلها الرد خذلان وانتظار بات لا يحتمل.

كانت تمشي ببطء في الأزقة الضيقة، تخشى أن توقظ وقع خطواتها، حبات الرمل التي تكسو الشارع الذي مازال نديا، محتفظا بقطرات المطر، مثل قلبها نابضا بالأمل..لا يجف أبدا.

لم تكن تؤمن بالخرافات يوما، حيث كانت تقولها وترددها دوما: " لا يعلم الغيب الا الله ".

ها هي اليوم تحمل فنجانها بيدها مستسلمة لهواجسها، متوجهه لبيت العرافة أم جابر، التي تتناقل النساء همسا، وتتحدث عن قدرتها وموهبتها التي تثير الحيرة والغموض في وجوه الأخرين.

كانت تجلس القرفصاء متقوقعة حول نفسها، نحيلة الجسد، خافته الصوت، تراقب بعينيها الكلمات قبل أن تصل الى أذنيها، قلبها يخفق سريعا، وكأنه يمد يده نحو السماء، داعيا من الله أن لا يخذلها.

انتظرت بفارغ الصبر محدثة نفسها: هل سترى أم جابر، الخط المرسوم في اعلى الفنجان؟ هل ستقول لي هناك اتصال؟ هل ستعرف أنه رحل، وأني لن أتوقف يوما عن تصديق ذلك!

دفعت أخر دنانيرها، وكأنها تشتري وعدا، لا تنبؤا.

أمسكت العرافة الفنجان، أمالته نحو صدرها، وهي تمد عنقها، حدقت به طويلا.. صمتت.

- فنجانك ملئ بالمفاجآت اليوم، أنني لم أشاهد مثله قط!! رفعت أم جابر أصبعها برمزية، أرى ديكاً يقف على جدار عالي!

انتفضت الفتاة من مكانها، شهقت: ماذا يعني ذلك؟!

أجابت العرافة بهدوء: يعني أن هناك خبرٌ سارٌ سيصل اليك.

اقتربت منها وهي تزحف بأمل، انفرجت سرائرها بابتسامة عريضة.

- وماذا بعد؟

- أنظري، هناك خط طويل مرسوم بشكل دائري في أعلى الفنجان.

فرحت في سرها، تنهدت، محدثة نفسها: هذا ماكنت أنتظره سألتها ماذا يعني ذلك؟

- سيأتيك أتصال منه، ربما عبر الهاتف.

هزت برأسها نعم، مع أنها لم تر أي خط، سواء كان قصيراً أو طويلاً!! كانت فقط تتشبث بكل ما يسمى " علامة ".

رفعت أم جابر حاجبيها، وهي تٌحدق طويلا في قعر الفنجان: هل أنت على علاقةِ قديمةِ به؟

-  نعم نحن نحب بعضنا.

- لا أقصد هذا، هل التقيتما لوحدكما سويا في مكان ما؟ وهل كان هناك تماس جسدي بينكما؟

- توهج وجهها واحمرت وجنتيها كلا أبدا!.

صمتت ام جابر، قالت بتردد: أرى رجلا وامرأة يجمعهم سرير واحد، لكن وجهيهما في أتجاهين مختلفين، ربما تكونين أنت، أو تكون هي!

- ماذا تقصدين "هي"، نعم لربما هو على علاقة بغيرك! والله أعلم.

لم تبكي، لم تجب، فقط ظلت تراقب حركات العرافة وتنتظر ما تقوله.

تابعت العرافة: أرى سلما مكسور الدرجات، تصعدينه عدة مرات، دون أن يؤدي الى باب، أنت تتقربين منه دوما، لكنه يشيح بوجه عنك، تنهدت ثم استأنفت القراءة من جديد.

- نعم انقطعت أخباره عني.

- ارى امرأة ببطن منتفخ، لا أحد بقربها وحيدة تصارع المخاض،هل لك أخت أو قريبة حبلى؟

هزت رأسها ببطء، لا تعرف ما الذي يعنيه ذلك!.

- أطرقت العرافة قائلة: أنه الحزن، فهو ينمو مثل جنين في بطنك، لا يريد الخروج، أنت تحملين هما كبيرا يا أبنتي ..

ثم فجأة تغيرت نبرة صوتها، قطبت حاجبيها، وقلبت الفنجان في نصف دائرة، عليك بالحذر..

 - ماذا هناك؟ سألتها بخوف.

-  ارى ثعبانا في قعر الفنجان.

قربت الفنجان من وجهها، لعقت أصبعها المصبوغ بالحناء، وضغطت على صورة الثعبان وكأنها تسحقه.

وضعت الفنجان على الأرض ونهضت.

-  خلاص.. قالتها العرافة وكأنها تختم قـدر، او تغلق بابا.

لم ترد، أعطتها أخر ما تبقى من دنانيرها، نهضت بهدوء، وضعت حجابها فوق رأسها، مشت نحو الباب، في الخارج كان الغروب قد بدأ، رفعت رأسها نحو السماء، لا طيور، ولا شيء في الأفق، شعور بالغربةِ يسيطر عليها، وهي تمشي على غير هدىٍ، عيناها تحدقان في الارض والخذلان يترأى أمامها، أخرجت هاتفها وكادت تعيده الى الحقيبة،

لكنه أهتز فجأة، نظرت الى الشاشة، لم يظهر لها أسمُ، هناك فقط رقم مجهول، رفت ابتسامة خفيفة على وجهها، ثم تلاشت وبدون أن تضغط " رد "، أغلقت الشاشة وأكملت طريقها.

***

نضال البدري

 

الغصن الذي كنت أقف عليه يافع أخضر، يبدو أنه قد شرب من العين المجاورة ما يكفي، اليخضور البارد وهو يغازل أظافري ألهمني الشجاعة، عندما تنفس الغصن صعد الدخان إلى نخاعي، شعرت بالدوران، ورغم ذلك استمريت أراقب كيف تتدرب فراخي على الطيران، لكنهم تهوروا وعادوا حيث تركت أمّهم في عمق الغابة، اتفقنا بأن تحاكي لآخر مرة ذكريات عشنا الذي بنيناه الربيع الفارط.

هروب الفرشات بطيء جدّا، أدخل اليأس إلى قلبي، جعلني أفقد الأمل في نجاة عصفورتي وفراخي، عجّت السماء بدخان أسود كثيف، طال أعيننا أنا والفراشة التي لجأت إلى الشجرة مثلي، وقد وصلت بجناح واحد، حطت وكانت مرهقة جدا، حين أيقنت بأن اللهب قد أكل أجنحة ما تبقى من الفراش بكيت.

النسور مرت فرحة بقوة جناحيها، صعدت إلى علو لا تراه أعين النار، الفراشة المعطوبة تناشدني لأطير بها إلى مكان آمن، ألسنة اللهب تتراقص متوعدة كل أخضر ويابس في غابة أولاد قدور، أما أنا فلم أكن خائفا على نفسي بسبب الماء الذي يحيط بالشجرة، لكن قلبي كان يتمزق خوفا على عصفورتي وفراخي، أكاد أخرج من عقلي، ومن حين إلى آخر أهمس للفراشة المسكينة بأن فرصة النجاة لا تزال متاحة لنا، زرعت فيها الأمل وعدت مجدّدا لأفحص الطيور لعلي أرى أسرتي من بينهم.

ورغم قلقي أمام هول النار لم أهمل الحشرات وهي تعبر الماء لتتسلق الشجرة، كتمت تغريدي حتى تشعر بالأمان ثم تتمكن من النجاة، كل الكائنات تطلب النجدة في هذا اليوم الملتهب المشؤوم، لا أحد لديه الوقت ليفترس الآخر في غابة أولاد سالم:

- الأرض تتكلم كل اللغات أيتها الفراشة، فالعمالة صارت تَنبُت في جيبونا لأنها مِنّا وفينا.

في حين كانت الفراشة تبحث عن إجابة، أقبل سربٌ من العصافير وملأ أيك الشجرة، راحت عصفورتي تتجاوز صفوف الطيور حتى حطّت بمحاذاتي فأعادت إلي روحي:

- أبشر يا زوجي العزيز فإنني حيّة أرزق وأن الفراخ كلهم بخير، إلّا ذلك الفرخ اللئيم الذي كان يتعبنا مرارا بمغدرته العش وهو لا يزال صغيرا.

هويت بظهري لأمكن الفراشة المعطوبة من الصعود، وطلبت منهم جميعا الاستعداد للمغادرة قبل وصول النار إلينا، فزقزق فراخي بمنقار واحد وطلبوا مني التريث حتى يتأكدوا من نجاة أو هلاك أخيهم الغائب.

الزواحف وهي فارة من النار حفرت في الأرض وصنعت سواقي عدّة، فتدفق الماء وسرى بين الأعشاب ناحية النار فتوارت قليلا، ثم تدخلت خراطيم مياه يحملها إنسان يلبس بدلة زرقاء داكنة، كانت خراطيم الماء قوية، ظلت تضرب على وجه النار حتى مسخته وصيرته رمادا.

شيئا فشيئا انقشع الدخان وصفت السماء، بينما نحن نتنفس هواء نقيا إذ بالفراخ تشير بأجنحتها مبتهجة، نظرنا فرأينا على مد البصر ذلك الفرخ اللئيم قادما من بعيد، يرفرف بجناحيه وكأنه علِم في التو أن الطبيعة على قدر ما هي جميلة ومنعشة فإنها مخيفة أيضا.

في الناحية الأخرى أولاد قدور هبوا مشمّرين على سواعدهم يحملون المعاول معولين على حفر مزيد من العيون، توزعوا عبر أنحاء عديدة والغابة تردد هديرهم وأصوات معاولهم، تفجرت العيون من كل ناحية ففرت النار ومن خوفها سقطت في البحر.      

***

عبد الباقي قربوعه / الجزائر 2025

       

في نصوص اليوم