نصوص أدبية

الحسين بوخرطة: سم مزيج الشجاعة والخوف

استشرى الخوف في النفوس

الشجاعة والصدق في النضال نشاز ......

الصمت مصدر نجاة في حياة تحتضر ....

***

لم يكن "سلام" يومًا رجلاً عادياً. كان يشبه شجرة نمت في صخر، جذورها لا تخترق الأرض بل تفتتها. حين التحق شابًا بجهاز أمني في إمارة سيكا، لم يكن يبحث عن جاه ولا سلطة، بل كان يفتّش عن موقع يستطيع فيه الدفاع عن وطنه من الداخل، من عمق الجحيم ذاته.

تقلّب في مهامه كمن يتقلّب على الجمر. وظيفيًا كان تحت سلطة والٍ فاسد، أما وجدانه، فكان مسكونًا بقبيلة نضالية آمن بأنها صوت الحق في أرض تكاد تنسى معنى العدل. انتمى لها بكل جوارحه. قرأ صحفها، تظاهر تحت راياتها، وأحيا في شوارع الإمارة صدى شعاراتها. لكنه، كغيره، لم يكن يعلم أن الزعيم الترابي الذي تتغنّى به المقالات وتقدّسه الصور، كان يمضي ليله في موائد الحاكم، يفاوض على حصته من صمت القبيلة. استغل هذا الزعيم منذ شبابه إلى شيخوخته موقعه كمقرب من رئاسة الإمارة وحاشيتها. ربما كان يلعب دور الوساطة بين الزعماء المركزيين ومصادر القرار. استمر مستغلا كتمانه أسرار الإمارة إلى أن وافته المنية.

في البدء، صُعق سلام تذمرا. ثم أنكر. ثم برّر. لكنه في النهاية، كبُر داخله اليقين بأن بعض الأصوات ترتفع فقط لتُخفِي صوت الخيانة.

مرّت السنوات. لم تكن الأيام في سيكا تمرّ، بل كانت تُجلد. كل يوم كان جلدة جديدة على ظهور الشجعان. شيئا فشيئا، بدأت الشجاعة تتراجع. ليس هربًا، بل إنهاكًا. وبدأ الخوف يتسلل كضباب خفيف، لا يُرى لكن يُشعر به.

أدرك سلام أن ما يسري في دمه لم يعد شجاعة صافية، بل مزيجاً ساماً من الرجولة والوجل، من الصمود والرغبة في الفرار. تحول ذلك المزاج إلى مرضٍ لا علاج له، كأن روحه أصبحت رئة مصابة بتليّف لا يُشفى.

لكنه لم يصمت. لم يعرف للسكوت طريقاً. وقف في ساحات الصراخ حتى حين خلت من الحناجر. خاطب شباب القبيلة:

"يا أبناء الأرض... لا تصدّقوا أن الصمت حكمة. الحكمة التي لا تُنطق تذبل. والشجاعة التي تُدفن بالخوف تخرج من قبورها على شكل استسلام."

كانوا ينظرون إليه بدهشة. رجل في نهاية الخمسين، بهيئة شيخ أنهكه المرض، وعينان لا تزالان تلمعان بشرارة لا تنطفئ. لم يطلب منهم أن يحملوا الرايات، بل أن يحملوا نفوسهم بلا خوف.

أحدهم، شاب يُدعى فهد، سأله ذات مساء:

"سلام، ما نفع شجاعتك اليوم؟ ما الذي تغير؟"

ابتسم سلام، وأشار إلى صدره:

"ما تغير؟ قلبي. لم يمت."

ثم همس:

"ربما أموت غدًا، لكني أريد أن أموت واقفًا، شاهقًا، لا نادمًا ولا ناسيًا من أكون."

***

الحسين بوخرطة

فصل من رواية سيرة سلام "مرثية كفاءة نضالية"

في نصوص اليوم