نصوص أدبية

منذر الغزالي: الاختيار

في مدينة ألمانية صغيرة، كان أحمد يجلس في صفوف معهد لتعليم اللغة، محاولاً التأقلم مع عالمٍ جديدٍ ومختلف تماماً عن حياته السابقة. أمامه كانت تقف إلسا، معلمة اللغة، امرأة في الأربعينيات من عمرها، ملامحها مفعمةٌ بالرصانة والقوة، إلّا أنّ عينيها تحملان نظرة حذر، خاصةً عندما تتحدّث معه. وجهها الناعم، ذو الحمرة الطبيعية، وشفتاها الصغيرتان، تضفيان لمسةً رقيقةً إلى ملامحها، في حين كانت نظارتها المستديرة تخفي عينين رماديتين، لم تفقدا بريق الجِدّ الذي يظهر في محادثاتها. كان يشعر بأنها، على الرغم من صرامتها الظاهرية، تخفي شجناً عميقاً؛ لمس هذا من كلمات الشكر الرقيقة التي يتلقاها منها، وهو يساعدها، بعد انتهاء الحصص، في جمع أغراضها العديدة وحملها إلى سيارتها.

مع توالي الأسابيع، بدأ أحمد يلتقط إشاراتٍ صغيرة: طريقة تصحيحها لنطقه، إصرارها على نبرة الصوت الصحيحة، وكيف تأخذ ركناً هادئاً، بين الحصص، لتقرأ كتاباً. كان يلاحظها بصمت، بينما كانت تدرك نظراته دون أن تقول شيئاً. عيناها تظهران مزيجاً من الحذر والفضول.؛ شيءٌ ما، في هذا الرجل، يثير فضولها. ربما هي نظرته العميقة، أو ربما شروده الدائم، والطريقة التي يحاول بها إخفاء قصةٍ يبدو أنها أثقل من أن تُحمل. سألته ذات مرة وهما يخرجان من المعهد: "كم مضى على وجودك في ألمانيا؟". "عشرة أشهر"، أجابها وأكمل: "لكنها بطول سنين"

- وهل تعمل هنا؟

- ليس بعد، أحاول أ تقان اللغة أولاً، ثمّ البحث عن عملٍ مناسب. في سوريا كنت صحفياً، لكن هنا...

"لكن هنا أنت مجرّد لاجئ"، أكملت إلسا الجملة، ثم أضافت بسرعة: "آسفة، لم أقصد". ابتسم أحمد ابتسامةً خفيفةً: "لا، أنتِ محقّة. هناك كان لي مهنةٌ، هويةٌ، لغةٌ أتحدّث وأكتب بها. هنا، وبعد عشرة شهور، ما زلت أتعلّم كيف أقول للناس مرحبا". فتحت إلسا صندوق سيارتها، ووضع أحمد الأغراض بداخله. "شكراً لك"، قالت بابتسامةٍ مهذبة، "أراك في الدرس القادم". مضت إلسا بسيارتها، ومشى أحمد باتجاه محطة الترام، يستعيد كلمات إلسا، وأسئلتها، وسرح ذهنه بعيداً، إلى ليلةٍ مظلمةٍ قبل سنة... كان الظلام يخيم على نوافذ المدينة المقفلة، ولا يُسمع في الليل البهيم سوى أصوات القذائف ورشاشات البنادق التي لا تتوقف. وأحمد يراجع ذاكرة هاتفه المحمول، يتأكد أنه لم يبق فيها أي صورة، أو مقطع فيديو يو3ّق جرائم النظام، بعد أن جمع أوراقه وأقراصه المدمجة وأتلف ما يمكن أن يقع بين أيدي أجهزة الأمن؛ يسابق الزمن كي يحمل حقيبته الصغيرة ويتسلل، تحت عباءة الليل، هارباً، قبل أن يقبضوا عليه.

زوجته جيهان تقف عند باب الغرفة، وجهها شاحب كقطعة ورق تجيب عن طلبه الملحّ: "سمر، الأمر جدّي وخطير، مفترق طرق. وأنا أتمنى إن نكون دائماً معاً."

- ابق هنا إذن، أنت صحفيٌّ ناجح، وأنا مدرّسة في الجامعة. ما الذي ينقصنا لنكون في سعادة؟"

- سمر، لن نعيد الجدال، المسألة لم تعد مسألة مبدأ فقط، المسألة الآن مسألة واجب، واجب الأسرة تجاه أحد أفرادها، واجب الزوجة تجاه زوجها."

"لا أستطيع، أحمد. أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني ترك كل شيء؟"، نظرت إليه بعينين دامعتين واحتضنته بقوة: "اذهب أنت، وسألحق بك. لا يمكنني المغادرة الآن"

شعر أحمد، حينها، أن الطرق قد بدأت تفترق بينهما، وأن المسافة التي ستفصلهما قريباً قد تكون أكبر من مجرد حدود جغرافية.

مرّت شهور قاسية على أحمد بعد انتهاء الدروس، الأيام تشبه بعضها، والأمسيات طويلة يقضيها وحيداً، يفكّر في حياته السابقة، وما آلت إليه الأمور، يتحدّث بالساعات مع زوجته، يسألها عن قدومها، ويكون جوابها: "عندما يحين الأوان".

بعد خمسة أشهر، بدأت الحياة تفتح لأحمد طريقاً جديدةً. في أحد الأيام، تلقى اتصالاً غير متوقّع من إلسا، تخبره عن حاجة بلدية قريتها إلى عمّالٍ موسميين، وأنها ترى في هذه الفرصة بوابةً يدخل منها إلى أعماق اللغة ويكتسب مهاراتٍ تساعده على الانسجام في هذا العالم الجديد. اصطحبته بسيارتها، وساعدته في تقديم أوراق العمل، ولكن ما لم يخطر بباله، هي الدعوة التي تلقاها لقضاء مساء السبت في منزلها. في تلك الليلة، تلقّى رسالةً من زوجته، كانت رسالةً اعتيادية، مثل كلّ رسائلها اليومية، تسأله عن أحواله وتخبره عن حياتها، دون أي ذكرٍ للحاق به. قرأ الرسالة بنظرات باردة تشبه كلماتها الباردة، نظر إلى النجوم المنتشرة في السماء... "غداً سيبدأ عملٌ جديد، تجربةٌ جديدة، وفصلٌ جديدٌ من حياتي، وبعدها سأزور معلّمة اللغة في بيتها... أول إنسان يدعوني إلى بيته منذ أن قدمت إلى هنا"

كانت الطاولة الصغيرة معدّةً بعناية في شرفة المنزل المطلّة على حديقةٍ صغيرة، بتنسيقها البديع تعكس روح صاحبتها. لم يكن المشهد مجرّد دعوةٍ للعشاء، بل كان أشبه بمشهدٍ من روايةٍ تُكتب تفاصيلها بعناية. أحمد، الذي لم يتوقع يوماً مثل هذه اللحظة في حياته، وجد نفسه أمام تجربةٍ جديدة تحمل في طياتها مزيجاً من الحميمية والغرابة. إلسا، المرأة التي كانت دائمًا تحفظ مسافة بينها وبين الآخرين، فتحت له باباً إلى عالمها الخاص. أحضر معه باقة زهور وكتاباً عربياً مترجماً، هديّةً صغيرة، قال: "منزلك جميل وأنيق"، ابتسمت إلسا، وهي تضع الزهور في المزهرية: "تنازل عنه زوجي عند الانفصال" توقفت لحظة، ثمً تابعت: "المنزل كبير، لامرأةٍ وحيدة". "معك حق، المساحات الصغيرة تمنحنا شعوراً أكبر بالأمان"، أكّد أحمد كلامها، فنالت كلماته إعجابها، دون أن تظهره.

تناولا العشاء، وتحدّثا عن الطعام، والعادات المختلفة، والأماكن التي زارها، والكتب والموسيقى. قال لها مبتسماً: "في سوريا، الطعام هو إحدى الطرق لإظهار الحبّ والاهتمام"، ضحكت إلسا وقالت: "في ألمانيا أيضاً، في عائلتي على الأقل.  كانت جدتي تقول دائماً إن الطعام الجيد يفتح القلوب المغلقة"

كانت تلك الأمسية لحظةً فارقةً، مشهداً سيتردّد داخل أحمد كنبضٍ لا ينقطع. كانت المرأة التي رآها، بكل هذا الجمال والأناقة، غير إلسا معلمة اللغة. ظلّ يتذكر تفاصيلها الصغيرة؛ كيف تميل رأسها عندما تستمع باهتمام، ضحكتها الخافتة عندما يقول شيئاً مضحكاً، لمعان عينيها في ضوء الشموع. تساؤلات عديدة كانت تعصف برأسه: "ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟".

في أحد الأيام، بينما كان يعمل في حديقةٍ عامة، رنّ هاتفه. كان رقم سمر. "مرحباً،" أجاب، محاولاً إخفاء توتره. "أحمد، كيف حالك؟" جاء صوتها واضحاً رغم المسافة. "بخير، والحمد لله. كيف حالك أنت ووالدتك؟" "نحن بخير. والدتي تتحسن ببطء. أحمد... أردت أن أخبرك أنني حصلت على ترقيةٍ في الجامعة. أصبحت رئيسة القسم في الكلية". "مبارك،" قال أحمد، محاولاً أن يبدو متحمساً. "أنت تستحقّين ذلك." انتهت المكالمة وأغلقت الخط. لم يتسنّ له حتى أن يخبرها عن عمله. تنهّد، وارتعش لفكرةٍ مؤلمةٍ تركتها مكالمة زوجته المقتضبة. في خضمّ هذه المشاعر المتضاربة، وجد نفسه يفكّر في إلسا، في الراحة التي شعر بها في منزلها، في الطريقة التي تفهمه بها، رغم لغته الركيكة. كان يعلم أن هناك فجوةً كبيرةً بينهما: في العمر، في الثقافة، في الخلفية، لكن كان هناك أيضاً شيءٌ يجمعهما، شيءٌ أعمق من العلاقات العادية، وأعلى من الاختلافات الظاهرية. بفضولٍ وشوق، وشيءٍ من الشجاعة، كتب لها رسالةً نصّية: "أدعوك مساء السبت القادم للعشاء في مكان تختارينه. سكني المشترك لا يليق بضيفةٍ مميزةٍ مثلك". ضغط زرَّ الإرسال، ثم انتظر ردّها وكأنّ الزمن قد توقّف عند تلك اللحظة.

مع الوقت، بدأ حذر إلسا يلين؛ زياراته لها في البيت صارت أمراً اعتيادياً، رحلات السبت إلى المناطق القريبة أصبحت عادةً مشتركةً بينهما. كانا يستكشفان الغابات والمتاحف والحقول، يتحدثان عن الأدب والموسيقى، وعن تجارب حياتهما المختلفة. أحمد، الذي كان يشعر دائماً بالغربة، وجد في تلك اللحظات شيئًا يشبه الوطن. إلسا، المطلّقة منذ سنتين بعد زواجٍ دام عشرين عاماً، بدأت ترى فيه إنساناً لا يُمثّل تهديداً، بل إمكانيةً جديدةً للسعادة.

في إحدى رحلاتهما، قرّرا زيارة غابةٍ واسعة، أشجارها معمّرةٌ، تتشابك فروعها في الأعلى لتشكّل سقفاً أخضر كثيفاً. "هذه الغابة تذكّرني بحكايات الأطفال، كنت أتخيّل، دائماً، أنّ الساحرات والأقزام يختبئون بين هذه الأشجار"، قالت إلسا وهي تمشي بجانب أحمد على درب ضيق مغطّىً بأوراق الخريف. ضحك أحمد، وقال: "يبدو أن الخوف من المجهول شعورٌ إنساني مشترك". كانت السماء تتلبّد بالغيوم، وتحوّلت الرياح إلى عاصفة، وبدأ المطر ينهمر بغزارة. التجآ إلى جدارٍ حجريٍّ قديم، استند أحمد على الجدار، محدّقاً بإلسا، كان شعرها الأشقر ملتصقاً بوجهها، وعيناها تلمعان من الإثارة والخوف.  قال أحمد: "هذا يذكّرني بمشهدٍ من رواية فيوض الربيع[1]. كانا، أيضاً، في عمق الغابة حين فاجأتهما العاصفة، فالتجآ إلى الكهف[2]". نظرت إليه إلسا، وكأنها ترى شيئاً جديداً في عينيه: "وماذا حدث بعد ذلك؟" ابتسم أحمد ابتسامةً غامضة: "ستعرفين عندما تقرئين الرواية".

عند العودة، سألت إلسا فجأةً، وهي تتأمّل قوس قزح: "ماذا حدث بعد ذلك؟"، انتبهَ انها ما زالت تفكّر بتلك العاصفة، أجابها بكلمةٍ واحدة: "تبعها". "تبعها؟" همست لنفسها غير متأكّدةٍ من المعنى. استعاد أحمد في خياله تفاصيل الرواية، كأنّه يستعيد شيئاً دفيناً في قلبه. "أحياناً تُظهر الطبيعة ما نحاول أن نخفيه"، قالها بهمس، وابتعد خافضاً عينيه. نظرت إليه بصمت، ثم تابعت طريقها.

تلك اللحظة ظلت ترافق إلسا؛ كان في كلماته، وفي نظراته شيءٌ ما، جعلها تشعر بخفقان قلبها يتسارع، وبينما كانت جالسةً على السرير، فتحت هاتفها تبحث عن رواية تورغنيف وتقرأ ملخّصها. أدركت معنى الكلمة التي قالها أحمد بحذر: "تبعها". شعرت كأنّ الغرفة قد امتلأت بنورٍ خفيٍّ. كتبت له رسالةً على الواتساب: "لقد كان يومًا مميزًا بفضل وجودك... سانين!"، ضغطت زر الإرسال، وشيءٌ ما في داخلها كان ينبض بفرحٍ. بعد دقائق، وصل رد أحمد: "وأنتِ جعلت هذا اليوم لا يُنسى... جيما[3]." ابتسمت إلسا؛ كان هناك شيء حميم في تبادل هذه الأسماء، كأنهما يتشاركان سراً لا يعرفه أحدٌ غيرهما. ذلك المساء كان بدايةً لشيءٍ جديدٍ بينهما، شيءٍ جعل العلاقة تتجاوز حدود الصداقة؛ الكلمات أصبحت أقرب، النظرات أكثر عمقاً، لكن خلف تلك اللحظات الدافئة كانت التحديات تلوح في الأفق. كانا يلتقيان كلّ أسبوعٍ تقريباً، يتشاركان الوجبات والأحاديث والضحكات؛ لكنْ كلاهما كان يحمل أعباء الماضي، وكلاهما كان يخشى المستقبل.

في إحدى أمسيات الشتاء، كانت إلسا تجلس بجانب نافذتها، تتأمّل الحديقة الصغيرة التي بدأ الثلج يتراكم على أطرافها، وأحمد يقف بجانبها ملامساً مسند الكرسي، يحمل كوباً من القهوة بين يديه وكأنه يحاول الاحتماء بحرارته. كان الليل هادئًا، لكنّ داخلهما كان يعجّ بصراعات كثيرة.

"أتعرف، أحمد؟"، أكملت إلسا حديثاً كانت قد بدأته، ونظرتها شاردة عبر زجاج النافذة، "زوجي لم يكن يحتاج إلى سببٍ كبير لينهي كلّ شيءٍ بيننا. ربما كنتُ السبب، ربما كان هو، لا أعرف؛ لكني كنت دائماً أشعر أنّ هناك زاويةً في حياته لا يُسمح لي بالدخول إليها، ثم اكتشفت أنّ تلك الزاوية كانت مكاناً لامرأةٍ أخرى."

- هل تعتقدين أنّ الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحبّ امرأةً أخرى، يخونها؟ أم أنه فقط يتبع قلبه؟

- الخيانة ليست في الحب، أحمد. الخيانة في التخلّي. في أن تترك شخصاً كان يثق بك، مهما كانت الأسباب.

- لكن ماذا لو كان الحب الجديد حقيقياً؟ ماذا لو كان أقوى من كلّ شيء؟

- الحب الحقيقي لا يُبنى على أنقاض علاقةٍ أخرى. إنه يحتاج إلى أرضٍ صلبة، وليس إلى قلبٍ ممزّق.

شعر أحمد بأنّ شيئاً ثقيلاً يحاصره من الداخل، يكاد يخنقه. نظر إليها طويلًا. لم يتوقّع أن يكون الحديث بهذه الصراحة. حاول أن يجد كلماتٍ ليقولها؛ لكنه شعر أنها لحظة تتطلب أكثر من المواساة. "إلسا..." قال بتردّد. "أظن أن الأمر صعب جداً عليكِ. لكن هل هذا يجعلكِ تشعرين أن لا مجال للبدء من جديد؟". ابتسمت إلسا ابتسامةً خفيفة. "البدء من جديد؟"، قالت وهي تتأمل بريق الكوب بين يديها. "هل تعرف ما هو الجزء الأصعب يا أحمد؟ أنني لستُ متأكدة ممّا إذا كنت أريد أن أبدأ من جديد. أحيانًا أشعر أنّ الماضي هو جدارٌ لا يمكن تجاوزه، وأحياناً أخرى أعتقد أنه مجرد ظلٍّ يلاحقني".  أحمد كان صامتًا، يشعر بارتباكٍ. حديثها هذا جعل فكرة مصارحتها بمشاعره أكثر تعقيداً. كيف يمكنه أن يعترف بما يشعر به وهي تتحدث عن جرحها القديم، وهو نفسه يعيش مع عقدة زواج لم يكتمل في مداه؟

- زوجتي رفضت أن تلحق بي. هل هذا يجعلني خائناً إذا أحببت امرأةً أخرى؟

- ربما هي لم تلحق بك لأنها تخشى أن تفقد نفسها هنا؛ كما أنني أعرف كيف يشعر الإنسان عندما يُترك. زوجي تركني من أجل امرأةٍ أخرى، ولم يكن الأمر عن الحب فقط، بل عن الأنانية.

- أحيانًا أشعر أنني أعيش بين عالمين، وبنفس الوقت لا أنتمي إلى أيٍّ منهما. هل هذا يجعلني أنانياً؟

- السؤال الحقيقي، أحمد، هو: هل تستطيع أن تختار؟ لأن البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية.

"أعتقد أن الماضي لا يتركنا بسهولة؛ لكنني أظن، أيضاً، أنّ لكلّ إنسانٍ الحق في محاولةٍ ثانية"، قالها أحمد بصوتٍ هادئ، محاولًا أن يخفي اضطرابه الداخلي. كانت الكلمات قليلةً، لكنها تحمل ثقلًا عاطفياً كبيراً، كلّ كلمةٍ كانت تحفر في أعماقه. الليل كان شاهداً على صراعٍ بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين ما يمكن أن يكون وما يجب أن يكون. نظرت إليه إلسا، بعينيها اللتين تعكسان سنواتٍ من التجارب: "وأنت؟ هل تستطيع البدء من جديد؟". لم يكن سؤالها مجرّد فضولٍ بسيط، كان مرآةً وضعتها أمامه، تعكس حقيقته المجردة، شعر أنه عارٍ أمام هذا السؤال. أخذ نفساً عميقاً، ثم قال: "لا أعرف. أحيانًا أعتقد أنني أُمسك بحبلين في نفس الوقت، لكنني لا أستطيع التخلي عن أي منهما. وأحيانًا أشعر أنني أضيع بينهما.". ابتسمت إلسا مرةً أخرى؛ لكنها، هذه المرة، كانت ابتسامةً حزينة، ترافقت مع نظرةِ مباشرة في عيني أحمد: "ربما أننا جميعاً نحاول الإمساك بأشياءٍ نعلم أننا قد نخسرها في النهاية. لكن السؤال هو: هل نخسرها لأننا لا نحاول بما يكفي، أم لأننا نحاول أكثر مما ينبغي؟"

في تلك الليلة، ظلت ابتسامة إلسا ونظرتها تتردّدان في خياله، كان يعلم أنها محقّة، وأنه لا يمكنه الاستمرار هكذا. أخرج هاتفه وفتح تطبيق الواتساب؛ كان آخر اتصالٍ مع سمر قبل أسبوعين. كتب لها رسالةً طويلة، يشرح فيها مشاعره، ويخبرها أنه لا يستطيع الاستمرار في هذه العلاقة المعلقة. كتب أنه أحبّها بصدق، ويقدّر السنوات التي قضاها معها، لكنّ طريقيهما تباعدا: "أنتِ بنيتِ مستقبلكِ هناك، وأنا بدأت في بناء حياةٍ هنا. لا أريد أن نستمرّ في خداع أنفسنا. لم يعد هناك مستقبلٌ مشتركٌ بيننا. أتمنى لكِ كلّ الخير والسعادة، وآمل أن تتفهمي قراري."، ضغط زر الإرسال، شعر أنّه ينهي جزءاً عزيزاً من حياته.

مرّت الأيام، إلسا تفعل ما بوسعها لتدمج أحمد في الحياة الجديدة؛ لكن، للحقيقة، ليس بدافع الإيثار فحسب، فقد اعتادت وجوده، وأحاديثه، ونقاشاته، وحتى صمته وشروده. أما أحمد فكان يحاول أن يوازن بين ما يريد وما يفرضه عليه ضميره. تلقّى رسالةً من زوجته، كانت كلماتها تفيض بالاتهامات، ما يشي بكبريائها الجريحة؛ تطلب منه أن يعيد التفكير بقراره "المتسرّع"؛ لكنّ تلك الكلمات، التي كانت تشبه محاولةً مترفّعة لاستعادة شيءٍ ضائع، لم تستطع أن تخفي حقيقة تخلّيها عنه في لحظاته الأصعب. أرسل لها ردّاً سريعاً، يحسم الأمر ويُخبرها بأنه وجد حقيقته مع إلسا، وأنه لن يظلّ عالقاً في علاقةٍ لا تحمل له سوى القيود.

في أوائل الربيع قرّرا، أحمد وألسا، زيارة قصر التنين، أحد المعالم التاريخية الشهيرة في المنطقة. كان القصر، بأبراجه العديدة، يبدو في الأفق مثل أسطورةٍ نُسجت تفاصيلها بين الجبال السبعة المشرفة على نهر الراين. أثناء عبورهم النهر، كانت إلسا تقف بجانبه على سطح العبّارة، شعرها الأصفر يتمايل مع الريح في مشهدٍ مغلّفٍ برومنسيةٍ آسرة، كإحدى أميرات القصر الذي تروي لأحمد أساطيره وحكاياته الساحرة.

صعدا سفح الجبل في دربٍ متعرّجٍ تحفّ به الكروم، توقفا عند مزرعةٍ صغيرةٍ تديرها عائلة محلّيّة، حيث قدّم لهما المزارعون كأسًا من النبيذ الطازج. ارتشف أحمد الكأس ببطءٍ. إلسا، بابتسامةٍ خفيفة، حذرته من تأثير النبيذ، لكنه تجاهل تحذيرها، واستسلم للنشوة الخفيفة التي بدأت تتسرّب إلى روحه.

وصلا متعبين أخيراً، دخلا القصر وتجوّلا في غرفه وقاعاته، مستمعين إلى المعلومات التاريخية التي يرويها المرشد السياحي. "أخبرت زوجتي أنني لا أستطيع الاستمرار في علاقتنا المعلّقة"، قال أحمد فجأة. نظرت إليه إلسا بدهشة: "حقاً؟ وكيف كان ردّها؟". "أعتقد أنها تشعر أيضاً أن علاقتنا بحكم المنتهية".

وقفا في إحدى شرفات القصر، كان وادي الراين يخترق الحقول والغابات مثل شريطٍ فضيٍّ يزيّن ثوباً أخضر، والقرى على جانبيه مثل حبات الياقوت الأحمر، المنظر يثير في النفس إحساساً بالجمال لا يمكن مقاومته، وشعاع الشمس يتسلّل بين الأوراق ليعكس على وجه إلسا ألوانًا ذهبية. تلفّت أحمد نحوها، رأى في عينيها فرحاً هادئاً؛ لكنه عميق، كأنّ الطبيعة نفسها تعكس ما في داخلها، وتدفعه إلى التعبير عن شيءٍ لا يستطيع قوله بالكلمات. اقترب منها قليلاً، مسّ شفتيها القرمزيتين بقبلةٍ شفافة، تكاد لا تُحَسُّ؛ لكنها كانت كافيةً لتترك أثراً عميقاً في نفسها. إلسا، رغم أنها نجحت في إخفاء ردّ فعلها، وتابعت النظر إلى الطبيعة كأنّ شيئاً لم يحدث، لكن داخلها، كان شعورٌ عذبٌ، كأنما نورٌ نقيٌّ يتسلل إلى روحها. لم تغمض عينيها، ولم تهتز شفتاها أو جفناها، وكانت لا تزال تنظر نحوه نظرتها المحدّقة ذاتها، لكنه لاحظ أن صدرها ارتفع أكثر اثناء تنفّسها، قالت بنبرةٍ متماسكة: "ماذا يعني هذا؟". انحنى أحمد برأسه قليلاً، وكأنّ كلماتها أثقل من أن يواجهها مباشرة: "إلسا، أعلم أن ما بيننا ليس بسيطاً. وأعلم أنني لا أملك الحق في أن أطلب منك أي شيء، لكن تلك القبلة، لم تكن مجرّد لحظةٍ عابرة. شعرتُ بشيءٍ حـقيقيٍّ… عميق.". تحرّكت إلسا ببطء، تحاول أن تُخفي أثر كلماته على وجهها: "حقيقي؟ ربما كان كذلك بالنسبة لك، ولكن ماذا عني؟ كيف أسمح لنفسي أن أكون ظلاً يقف في طريقك وأنت لا تزال مرتبطًا؟". رفع نظره نحوها، وكأنّ كلّ كلمةٍ تخرج منه تأتي من أعمق مكانٍ في روحه: "ظلٌّ؟ أنتِ كلّ شيءٍ عدا ذلك، إلسا. وجودكِ أعاد لي شيئاً كنت أظن أنني فقدته إلى الأبد؛ لكنني لا أريد أن أجعلكِ تشعرين أنكِ في موقفٍ مستحيل". تدير وجهها نحو الأفق، تتحدّث وكأنها تخاطب الطبيعة التي أمامها: "الأمر ليس عنك فقط، أحمد. إنه عنّي أيضاً. لا أستطيع أن أخوض هذا الطريق وأنا أعرف نهايته. رأيت ما تفعله مثل هذه العلاقات... إنها لا تمنح سوى الألم". يقترب منها قليلاً، صوته هادئ لكنه مليءٌ بالصدق: "ولكن ماذا لو كنتُ أحاول أن أجد طريقاً جديداً؟ ماذا لو شعرتُ أنّ حياتي تحتاج إلى شيء أعمق؟". تنظر إليه إلسا مرةً أخرى، عيناها تلمعان بالثقة والحزم: "هل تقول لي هذا لأنك تحبني؟ أم لأنك تشعر بالوحدة؟ هناك فرقٌ كبير، أحمد، وأنا لن أكون حلاً لوحدتك". يتنفس ببطء، يدرك وزن كلماتها، لكنه لا يتراجع: "أحبكِ، إلسا. وهذا ليس عن الوحدة أو عن الفراغ. إنه عنكِ. عن كيف تجعلين العالم يبدو مختلفاً، عن كيف أشعر بأنني على قيد الحياة عندما أكون بقربك". كان يتحدّث بسرعة، يؤكد لها، بشغفٍ، حبّه العميق. سألها بكلماتٍ واضحةٍ لا تقبل الرفض: "قلتِ مرةً أن منزلك واسعٌ عليك، ما رأيك أن أستأجر الطابق الثاني؟ أريد أن نعيش معاً". اقتربت إلسا من حافة الشرفة، عيناها تجولان في الأفق، لكنّها لا ترى سوى انعكاسات داخلها..."أحتاج إلى وقت، أحمد. هذا كله جديد وسريع. أحتاج إلى التفكير". "أفهم ذلك،" أومأ أحمد، محاولاً إخفاء خيبة أمله. "سأنتظر"، قال وهو يدرك أن اللحظة تبتعد عنه ببطء، وأنه قد يخسرها دون أن يستطيع إيقاف ذلك.

لم يتواصل إلسا وأحمد كثيراً في الأسبوع الذي تلا زيارة القصر، كان يحترم رغبتها في الحصول على مساحةٍ للتفكير، على الرغم من أن الانتظار كان يمزّقه من الداخل، وكان يتساءل كثيراً إن كان قد تسرّع وأفسد كلّ شيء بتلك القبلة. في هذه الأوقات القاسية تلقّى رسالةً من سمر تقول فيها بلغةٍ تعليمية، أشعرته بالتقزّز: "قدّمتُ إجازةً بدون مرتّب، وسآتي لأنقذك من نزوتك مع تلك العجوز، وربما تغيّر رأيك ونعود معاً". شعر بأن روحه تنسحق تحت وطأة كلماتها؛ ولم يجد رغبةً حتى في الردّ، "المسافة بيننا بعدت كثيراً، كأني لم أعرفها من قبل!"، قال في نفسه بأسىً ومرار. تنهّد بعمق، وضع يديه على ركبتيه كما لو كان يحاول إمساك نفسه من الانهيار، وبدل أن يكتب رداً على رسالة زوجته، اتصل بإلسا: "اسمعيني إلسا، زوجتي اختارت منذ البداية وتخلّت، وليس أنا… هي جزءٌ من معاناتي… أن تقف مع القاتل من أجل منصب، أو منافع أخرى، فهذا تخلٍّ. أن أكون مطلوباً من أجهزة النظام، وأهرب إلى هنا، وترفض هي التنازل عن مركزها الوظيفي، فهذا أقسى من التخلي... إن كنتُ رفضتُ أن أحكي عنها في البداية، فكيلا أستدرّ العطف منك، أو من غيرك، وها أنا أحكي، الآن، كي أبرّر ذاتي، كي لا أخسرك، إلسا...  أن تأتي سمر أو لا تأتي، لم يعد يعنيني، هي ستأتي لأنها تريد أن تكسب كلّ شيء، هي ستأتي كي تظلّ ممعنةً بحصاري، هي ستأتي لكي أظلّ مربوطاً إلى خياراتها، هي ستأتي لتبرّر، بوجودي معها، خيارها الأناني.. أشعر أنها شريكةٌ باضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري"

أنهى أحمد حديثه دون أن يمنح إلسا فرصةً للرد، كان مهموماً، يشعر بثقلٍ لا يبرح صدره. رغم إدراكه لصدق المشاعر التي تجمعهما، يعلم أن الظروف التي تفصل بينهما أقوى من أن تُتجاهل. لقد بات واضحاً له أنّ الحبّ، شأنه شأن الحقيقة، يحتاج إلى من يدافع عنه، كي لا يطغى عليه الظلم. وبات يعلم أيضاً أن الحياة لا تنتظر القرارات المؤجّلة، فهي تمضي دون أن تلتفت، تاركةً خلفها قصصاً غير مكتملة وأحلاماً لم تتحقق.

***

قصة قصيرة

الكاتب منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 25.05.22025

.........................................

[1] فيوض الربيع، رواية للكاتب الروسي إيفان تورغنيف

[2] مشهد الكهف، مشهد مفصلي في الرواية، حيث ان سانين تخلى بعده عن خطيبته ويتبع ماريا، زوجة صديقه.

[3] ، جيما، هي خطيبة سانين، وحبيبته الإيطالية.

في نصوص اليوم