نصوص أدبية
مامند محمد قادر: القطار الذي قد يصل

في قلب ارض منسية، تمتد بلدة صغيرة، ملتفة حول محطة قطا عظيمة مشيدة من الحجارة وصمت عتيق، منذ أجيال والناس في البلدة ينتظرون القطار، لا احد رآه، ولا احد سمع هديره، ومع ذلك، لم يفقدوا الأيمان بأنه سيأتي ذات صباح، أو ربما ذات مساء، ليأخذهم الى حيث الحياة كما يجب أن تكون، لا كما أجبروا على عيشها،كل شيء في البلدة يدور حول هذه الفكرة:
ألحلاق يسأل زبائنه متى تظنون انَ القطار سيصل؟
المدرسون يعلمون الاطفال كيف يحزمون حقائبهم استعدادا للرحيل،
و الشيوخ يتحدثون عنه كما يتحدث المتدينون عن يوم الخلاص،
و في كل فجر يعلو صوت العم احمد، مدير المحطة، عبر مكبر الصوت المهتريء:
" السادة المسافرين،. القطار القادم الى بلدتنا سيصل في اي لحظة، الرجاء الوقوف خلف الخط الأصفر "
فيبتسم الناس، ويقفون للحظات، ثم يعودون الى حياتهم مثلما ييئس المرء من أمنية لم تتحقق لها،
لكن ذات يوم جاء شاب غريب الى البلدة، كان اسمه رشيد، بعينين مليئتين بالشك وخطى لا تعرف الرهبة، سأل رجلاَ مسناَ عند المحطة:
- " منذ متى تنتظرون القطار؟"
أجابه العجوز، وهوينظر نحو الأفق:
- منذ ولادة الصمت، ومنذ ان وعدونا أن ننقل،
قال رشيد بحدة:
- " وهل جاء؟"
اجابه العجوز بأبتسامة راضية:
- " ليس بعد، لكنه سيأتي، الأمر مسألة وقت،"
لكن الوقت في البلدة لم يكن يقاس بالساعات، بل بالأمل،
لم يكن رشيد مؤمنا بالموضوع، راح ينبش في السجلات القديمة، يتقضى الأحاديث النفسية، يحلل الخرائط والاصوات والأوهام، فلم يجد أثرا لحركة القطار، فصرخ في الساحة الرئيسية:
-" ايها الناس! انتم لا تنتظرون قطارا، بل تهربون من مواجهة وجودكم هنا، بلا جهة، بلا نهاية، بلا بداية، القطار لن يجيء، لكن لم يرد عليه احد. لم يكن في أعينهم غضب، بل شفقة،
في اليوم التالي، وجد نفسه وحيدا في المحطة، لا مارة، لا الاطفال، فحمل حقيبته ومشى، سار على القضبان الصامتة، قضبان لا تفضي الى شيء سوى البعيد، السماء فوقه كانت بلا لون، والريح لا تحمل سوى صدى قديم، لكن ظل يسير، وفي ليلة لا قمر فيها، بينما هو في منتصف صحراء الزمن، سمع شيئا،
صفارة بعيدة وضعيفة، غائمة كالحلم، لكنها كانت هناك،
توقف، هل هذا هو القطار؟! أم انَ قلبه بعد طول انكار، بدأ يشتاق للأيمان بشيء، بأي شيء؟ لم يعرف، لكنه ابتسم، وواصل السير نحو الصوت.
***
قصة قصيرة
د. مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي