نصوص أدبية
جواد المدني: إبحارٌ في زورقٍ بلا دِفَّة

قَيَّدَتْني غُربتي بِحَبلِ الأسئِلَةِ،
تُذَكِّرُني أَنَّ البحرَ خَيْرُ رَفيقٍ عندَ خوفي،
وهَواجِسِ المَجهولِ، وفي كُلِّ مُعضِلَةٍ،
أَهرُبُ إليهِ كُلَّما يَصفَعُني لَيْلٌ طَويلٌ…
يَستَقبِلُني…
يُفَتِّشُ ما بَيْنَ قَلبي والضُّلوعِ،
وحينَما لا يَجِدُ “مَمنوعاتٍ”،
يُصادِرُ قَلبي، ويَترُكني مُقَيَّدًا،
أُبْحِرُ وَحيدًا مِنْ غيرِ أَنْ أَسأَلَهُ…
*
بَعدَ “بَرَاءتي” عانَقَني، وأَجْلَسَني بَيْنَ أَمْواجِهِ،
يُطْعِمُني أَسْماكًا، وطَحالِبَ مِنْ سُكَّرْ…
أَسْمَعُ ثَرثَرَةَ نُجومِهِ وهيَ تُراقِبُني،
وحِيتانٌ تَسخَرُ مِنِّي،
وتَنثُرُ فَوْقَ جُنوني عَنبَرًا…
خارِطَةُ العُمرِ وُشِمَتْ على جيدِ سَحابَةٍ،
أَفْواهُها فاغِرَةٌ… وضَفادِعُ مِنْ خَوفٍ تُمطِرْ،
تَرجُمُ رَأسي، فَتَعودُ إِلَيَّ ذاكِرَتي،
تَحتَضِنُ وُجوهًا عادَتْ في أَجمَلِ مَنظَرْ…
*
مَهْلًا أَيُّها الصَّبْرُ، تَوَقَّفْ عن جَلدي…
فَلَم أَعُدْ أَقوَى على الإِبْحارِ وَحدي،
فَشِراعي مَزَّقَتْهُ مَخالِبُ الرِّيحِ،
وَهُمومٌ تَلتَفُّ حَوْلَ خاصِرَتي، تُحاوِلُ صَدِّي،
فَلا المَجاذيفُ أَلِفَتْ أَنامِلي،
ولا الأَمواجُ تُقَاوِمُ شَراسَةَ مَدِّي…
*
الأَسْماكُ مِنْ حَوْلي تَفِرُّ بَعيدًا،
وكَأَنِّي بَيْنَ أَسْرابِها قِرْشٌ تَنمَّرْ،
وشِباكُ صَحْبٍ تَقَطَّعَ خُيوطُها،
تَجَمَّلوا بالزَّيْفِ خَلْفَ الكِمّاماتِ،
كَذِئبِ اللَّيْلِ عن نابِ الوَقيعَةِ كشَّرْ…
والجَسَدُ المُتَهالِكُ يَخافُ مِنْ جائِحَةٍ تُرْديهِ،
وحُلمُهُ باتَ رَمادًا، ثُمَّ تَبَعْثَرْ…
لا يَدري:
هَل بَيْنَ شَهِيقٍ وزَفيرٍ يَكْمُنُ؟
أَمْ تَحتَ أَظافِرِ المَجْهولِ عَمَّرْ؟
*
ها أَنَذا… أَضَعْتُ بوصَلَةَ الأُمْنِياتِ،
عَواصِفُ الحِيرَةِ تَتَقاذَفُني،
وأَمواجُ التِّيْهِ تَسْحَبُني إِلى المَجْهولِ،
أَرَقٌ يُشاكِسُني، ويُقَلِّبُ دَفاتِري، ولَيْلٌ تَجَبَّرْ،
وأَنا ما بَيْنَ لَسَعاتِ قَنادِيلِ اليَأْسِ،
وإِرْهابِ الظُّلْمَةِ، وبَطْشِ الغُرْبَةِ،
أَتَلَمَّسُ خُيوطَ الفَجْرِ، وأَظَلُّ أُناجي:
رَبًّا تَعَهَّدَني في مَهْدي وتَلَطَّفَ بي يافِعًا،
وبِرَحْمَتِهِ، لا يَتْرُكْني وَحيدًا،
فِي دَوّامَةِ الزَّمَنِ،
كَزَورقٍ بلا دِفَّةٍ، ولا سارِيَةٍ… أَتَقَهقَرُ
***
جواد المدني