نصوص أدبية
سعد غلام: نَشِيدُ الغَيْمَةِ الخَضْرَاء
(أسفارُ الماءِ في ظِلِّ الرُّوحِ)
أَمْضِي إِلَيْكِ بِثَبَاتٍ، وَكُلُّ نَافِذَةٍ
تُبْكِي شَكَايَا النَّهَارِ عَلَى فَمِ الشَّجَرْ،
وَيَفِيضُ مِنْ كَفِّ الغِيَابِ عَلَى يَدَيَّ
رَحِيقُ ظِلَالٍ تُرَدِّدُ مَا انْطَفَى،
وَتُذَكِّرُ النَّاسَ بِالأَمْسِ البَعِيدِ
2
وَيَمِيلُ لَيْلٌ كَانَ يَحْرُسُ خُطْوَتِي،
وَيَفُكُّ عَنْ قَلْبِي مَفَاتِيحَ السَّفَرْ،
وَيُعِيدُ مِنْ نَبْضِي حِكَايَةَ مُهْجَةٍ
ضَلَّتْ، فَنَادَتْ ضَوْءَهَا يَوْمًا ظَهَرْ
3
وَيَمُدُّ فِي صَدْرِي الظَّلِيلَ نَدَاهُ،
حِينَ ارْتَوَى قَلْبِي، وَبَاحَتْ سِرَّهُ،
وَتُفِيقُ مِنْ لَحْنِ الغِيَابِ حَكَايَةٌ
كَانَتْ تُخَبِّئُ فِي النُّشُورِ قَدَرَهَا
4
أَمْضِي إِلَيْكِ بِثَبَاتٍ،
وَفِي ظِلَالِكِ تَفْتَحُ الأَنْهَارُ أَسْئِلَةً،
وَيُشْعِلُ جَفْنُكِ المَطَرَ الأَخِيرَ
عَلَى جِرَاحِ المُنْتَظَرِ، فَتَنْزَوِي
5
وَيَجِيءُ مِنْ عَيْنِ السَّمَاءِ مَسَافِرٌ
يَرْفُو خُطَايَ إِذَا تَبَدَّدَ نُورُهَا،
وَأَرَى فِي الأَفْقِ البَعِيدِ مَآذِنًا
تَتْلُو هُدُوءَ الرِّيحِ، تَرْعَى سِرَّهَا
6
وَأَمْضِي بِصَمْتٍ،
فَيَصْعَدُ فِي دَمِي وَجَعٌ
كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ جِرَاحِ المُنْحَدَرْ،
وَيَعُودُ صَوْتُكِ فِي دَمِي مُتَأَلِّقًا
كَالوَتَرِ يَبْتَغِي غِنَاءَهُ إِذِ انْحَدَرْ،
وَتُفَاجِئُ الرُّوحَ ارْتِعَاشَةُ نَفْسِهَا
حِينَ ارْتَفَعْنَا فَوْقَ أَوْهَامِ البَشَرْ
7
هٰذَا السَّفَرُ الطَّوِيلُ
يَسْتَخْرِجُ الأَحْلَامَ مِنْ أَعْمَاقِنَا،
وَيُعِيدُ لِلرُّوحِ انْفِعَالَ شُعُورِهَا،
حَتَّى إِذَا اخْضَرَّ المَدَى فِي نَبْضِنَا،
قَامَتْ غُيُومٌ تَسْتَبِيحُ حُضُورَهَا
8
وَأَمْضِي بِثَقَةٍ،
وَحَتَّى الرَّمْلُ يَحْمِلُ خُطَايَ
كَأَنَّهُ اعْتِذَارٌ ضَاعَ فِي تَرَنُّحِي،
وَحَدَائِقُ القَمَرِ المُضَرَّجِ تُدَوِّي
بِأَنَاشِيدِ الحَنِينِ وَالسُّوَرْ
9
كَمْ كَانَ فِي عَيْنَيْكِ مَاءٌ يُوقِظُنِي
إِذْ جَفَّ فِي صَدْرِي البَقَايَا وَانْحَسَرْ،
قَدْ كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ فِي خُطُوَاتِ مَا
ضَاعَتْ، وَرَجَّعَ صَوْتَهَا شَيْءٌ سُمِرْ،
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُقِيمَ سَمَاؤُنَا
سَفَرًا يُعِيدُ إِلَى النُّجُومِ مَنِ انْحَدَرْ
10
يَا لَيْلُ، يَا صَهْدَ السِّنِينَ الطَّوِيلِ،
تَمَدَّدَتْ فِي صَدْرِي الغُيُومُ،
فَصِرْتُ غَيْمَةً أُخْرَى،
وَصَارَتْ رُوحِيَ الخَضْرَاءُ تُرَتِّلُ دَمْعَهَا
وَتَرِفُّ كَالنُّجُومِ المُشْرِقَاتِ إِذَا دَجَى،
وَتُصْغِي لِلْوَتَرْ
11
يَا غَيْمَةً خَضْرَاءَ، يَا نَفْسًا
يَصْعَدْ كَأَنَّ ضِيَاءَهُ مِنْ رُوحِنَا انْفَجَرْ،
إِنِّي أَرَى سِرًّا يُلَوِّحُ فِي يَدَيْكِ، فَهَلْ
أَخْفَيْتِ مِنْ وَقْتِ المَحَبَّةِ مَا سَطَرْ؟
إِنِّي سَمِعْتُ خُطَى المَدَى تَتَفَتَّحُ
كَيْ يَرْفَعَ الحُزْنَ الَّذِي فِينَا اسْتَقَرْ
12
لَوْ كُنْتِ لِي دُونَ النَّاسِ،
لَخَبَا التَّبَثُّرُ فِي دَمِي،
وَلَصِرْتُ وَجْهًا يَسْتَعِيدُ نُشُوءَهُ،
وَأَمْطَرَتْ فِي يَدَيْكِ تَفَاؤُلَهْ
يَمْشِي عَلَى كَتِفِ القَدَرْ
**
الكودَا
وَيَعُودُ مِنْ رِحْلِي نَشِيدٌ آخَرُ،
يَرْفَعُ فِي دَمِي الضِّيَاءَ إِذَا حَضَرْ،
فَأُرَتِّلُ الأَحْلَامَ فِي رِئَتَيَّ،
وَأَمْشِي فِي غَيْمِكِ سَاكِنًا
حَتَّى يَسْكُنَ الوَتَرْ
***
د. سعد غلام






