نصوص أدبية

الحسين بوخرطة: انحناءة الوفاء والشرف

في عطلته الصيفية، تعوّد سلام أن يخصص الفترات الصباحية من كل يوم لتصفح الكتب في مكتبات العاصمة. كان يبدأ يومه بتأمل العناوين، ويتمعن في نبذ المؤلفين المعرفية والمهنية، ويولي أهمية خاصة لدور النشر والتوزيع، ثم يمر بعينه على جداول المحتويات قبل أن يغوص في ملخصات الأغلفة الخلفية.

في اليوم العاشر من برنامجه الاعتيادي، وبين رفوف مكتبة الصفاء، استوقفه مخطوط سياسي نادر بخط يد أمير سيكا نفسه. كان العنوان جذابًا، مثيرًا للتأمل: "بروتوكول الوفاء".

مارس سلام طقوسه المعتادة في تصفح الكتب، ثم توجه بسرعة إلى أمين الصندوق، دفع الثمن متلهفًا، وخرج مهرولًا كمن وجد مفتاحًا لغز طالما أرّقه. جلس في المقهى المجاور، متعطشًا لابتلاع مضامين هذا النص وتحليل شيفراته. همس لنفسه: "اللهم أعني على سبر أغوار رسائل الأمير".

تأمل العنوان من جديد، وتمتم بصوت خافت: "أنا دون شك أمام منجز تاريخي، يجسد حكمة أمير خَبِرَ فن السلطة ودهاليز النخب". ارتشف كوبين من القهوة، وأتم القراءة الأولى في أربع ساعات. ثم تمدد على الأريكة، ناظرًا نحو السقف المزدان بثريا فاخرة صُقلت بأنامل حرفيي الإمارة. ابتسم في رضا، وأفكاره تداهمه بلا استئذان، وهمس: "هذا النص أضاء لغزًا غامضًا لازم مساري المعرفي منذ شبابي... دون أن أجد له جوابًا مقنعًا".

في الصفحة الستين، قرأ: "الأمير لا ينحني احتراما ووفاء إلا لعلم الإمارة...".الصفحة السبعون: "علم الإمارة يُجسد قداسة التراب وسيادة الأمة...". الصفحة الثمانون: "تحية العلم عند أمراء سيكا تظل من أرقى الطقوس. الانحناءة تتم بأرفع لباس رسمي، يتزين فيه الأمير بأوسمة وطنية ودولية شاهدة على السيادة والمكانة. حتى حذاؤه المصقول بعناية، وعطره الراقي، يحملان رمزية تربط السلطة بالمعرفة والفن والجمال".

الصفحة الخامسة والثمانون: "يعبر الأمير عن حرصه الدائم على تجديد السيادة الوطنية في استقباله لقادة الدول الكبرى. وقفته منتصبة، خطواته محسوبة، نظرته مباشرة، وابتسامته خفيفة ومهيبة، ومصافحته حازمة تنطق بالوقار".

الصفحة التسعون: "الأمير لا ينحني إلا للعلم الوطني والمصحف الكريم. سلوكياته رمزية سيادية بامتياز. فهو رمز للأمة، حامي ثوابتها، مجسد لهويتها ودينها ووحدتها".

الصفحة المئة: "استقبال الأمير للمسؤولين ليس مجرّد بروتوكول، بل طقس ذو دلالة سياسية وثقافية. انحناءة الشرف، المصحوبة أحيانًا بتقبيل اليد أو الكتف، ليست خضوعًا، بل احترام للتراتبية الدستورية، وتعبير عن الانضباط المؤسساتي في حضرة السيادة العليا".

الصفحة 105: "إن مدلول التراتبية في الاستقبالات هو دعوة للمسؤولين للانضباط في أدائهم السياسي. كل حركة، كل نبرة، كل إيماءة يجب أن تعكس الوعي بهيبة الدولة وحدود الدور التنفيذي داخلها".

في الخاتمة، كتب الأمير: "أنا هكذا... أميركم... مسخّر لخدمتكم، غيور على مصالحكم، أنفتكم أنفتي، وسيادة وطننا أمانة في أعناقنا. حين ينحني المسؤول أمامي، فهو لا ينحني لشخصي، بل للرموز التي توحدنا. إنه انحناء سلوكي للشرعية، مرآة لما يجب أن يكون عليه رجل الدولة: منضبطًا، وفيًّا، خاضعًا للأدب المؤسسي لا للأهواء".

أغلق سلام الكتاب ببطء، كأنما أنهى صلاة صامتة. نظر إلى انعكاسه في زجاج المقهى، وعدّل هندامه. نهض واقفًا، ابتسم ابتسامة خفيفة، وهمس لنفسه: "الآن فقط... فهمت". ***

الحسين بوخرطة

 

في نصوص اليوم