نصوص أدبية
ناجي ظاهر: بنطلون الفيس
توقّف قُبالة مرآته الحبيبة في غرفته الوحيدة منذ رحلت والدته قبل ثلاثة أعوام.. لم يقف مثل تلك الوقفة. لمع في ذهنه موعده بعد حوالي الساعة مع معللته بالوصل الفني والانتيمي، سوّى شعره على طريقة محبوبه الابدي الفنان الأمريكي.. العالمي الفيس برسلي، أرسل ابتسامة تعمّد أن يجعلها اقرب ما يمكن من ابتسامة محبوبه الخالد ذاك. صدح بصوته العربي ولكنته الإنجليزية بمقطع من أغنية حّبّ اشتهر هو أيضًا بها أيام العزّ عندما كان يعتلي المنصات ويبهر السيدات والبنات. صوته ما زال قويًا بل قد يكون في مستوى صوت الفيس، ولماذا لا يكون كذلك. ألم يسمع كلمات الاعجاب به وبصوته الرنّان خلال فترة نافت على العقد ونصف العقد.. وما زالت ماثلة في ذهنه كلّ يوم وكلّ ساعة. رغم أنه توقّف عن الغناء منذ نحو الثلاثة عقود.. لأسباب لا يحبّ أن يذكرها.. لكثرة ما اشتملت عليه من عازفين حساد أرادوا عرقلة مسيرته الصاروخية.. فانفضّوا من حوله. تاركين إياه وحيدًا يعيش على ذكرى أيام مضت. وأفراح لمعت كباقي الوشم في ظاهر اليد. صحيح أنه تحدى الجميع وصمد فترة من الزمن بعد انفضاض أولئك عنه غيظًا وحسدًا ونكاية.. هو الفنان الخلّاب الجميل الذي ادخل الاغنية الأجنبية إلى بلدته المقدّسة.. فأطرب من لا تطرب وأشجى من ليس بها شجى!! كانت تلك السنوات وأيامها العذاب هي الاجمل في حياته.. ورغم أنه قضى كلّ تلك السنين يحيا وحيدًا إلى جانب والدته المحبة (رحمها الله)، فان الامل لم يغادره يومًا وخالجه في أنه سيعود وسوف يتابع رحلته الصاروخية في دنيا الفن والغناء العالمي.
ابتعد عن مرآته.. حبيبته الأبدية المعلّقة في صدر غرفته، سار بخطوات وئيدة ميّزته هو العازب الابدي ورفعت أسهمه في عالم الجميلات الفاتنات، في أيام العزّ خاصة. لمعت في خياله صورة تلك الأجنبية الزائرة العاملة الجديدة في مدينة البشارة، فدنا من باب خزانته العتيقة. تناول قميصًا تعمّد أن يكون واسعًا فضفاضًا ليظهر جمالياته هو الفنان المُغنّي على لياقته البدنية بانتظار الجولة الثانية من جولات خوضه بحيرة الفن الهادئة سطحًا الموّارة بالصخب والعنف عمقًا.. طولًا وعرضًا. ثم مدّ يده بتؤدة باحثًا عن بنطلونه المزركش على طريقة فناني هذه الايام. "مؤكد أن هذا البنطلون سيسحر تلك التي سيلتقي بها بعد قليل في المركز الإنجليزي الثقافي في المدينة. بحث وبحث وبحث.. لم يجد بنطلونه. مؤكد أن صديقه تلميذه المعجب به الفنان الهاوي السائر على طريقه قد غافله وأخذه. ربّما رغبة وتأملًا. لقد رأى دائمًا في ذلك الشاب استمرارًا له، لهذا لم تستول عليه فكرة السرقة بقدر ما نبقت في ذهنه فكرة المحبّة. أضف إلى هذا اعتقاده الجازم أن ذلك الشاب ينتمي إلى الجيل الجديد. وأنه يختلف عنه.. في وقاحته وصلافته وقلة خجله.. في أن يفعل كلّ شيء من أجل الوصول الى المنصّات العربية والعالمية دون خشية أن يخسر شيئًا. ليته كان واحدًا من هؤلاء ليته كان فنانًا بلا تاريخ لتنازل قليلًا عن عناده ولحاول اللحاق بالركب لكن على طريقته الخاصة.. طريق القيم العالية والمبادئ السامية.. وليس طريق التسرّع والجنون.
تمعّن في الساعة الكبيرة القديمة المُثبتة قُبالة مرآته الوفية المخلصة، كان الوقت يجري كأنما هو موجة تلحق موجة في رغبة منها لان تطالها. "الوقت يمضي بسرعة"، قال لنفسه، وتابع:" أنا يجب أن أرتدي أي بنطلون آخر.. لا يمكن أن أفوّت موعد لقائي.. بوابة مستقبلي ووجودي، السكرتيرة الجديدة للمعهد الإنجليزي. لقد ألتقى بتلك السكرتيرة في احتفال أقامه أصدقاء له في البلدة اليهودية المجاورة، وهو ما زال يتذكّر، وهل ينسى؟، لحظة اعتلى منصة الغناء، بعد أن دعاه صديق له لتقديم وصلة من الاغاني الامريكية.. كانت تلك من أجمل اللحظات، فقد تمعّن في وجوه الحاضرين.. الحاضرات تحديدًا.. وصدح بصوته القوي رغم التقاعد القسري طوال الأيام والسنين الماضية.. لقد لفت اهتمام تلك المرأة انتباهه. لهذا ما إن ترجّل عن المنصة. حتى صب اهتمامه كله على تلك المعجبة الإنجليزية في مدينة البشارة ..متجاهلًا ارتقاء الفنان الشاب مرافقه المنصة مثل فارس عهد النوادي واسرارها. وراح يصدح بصوته الشبابي. لقد كان عليه أن يصبّ جُماع اهتمامه على تلك السكرتيرة الجديدة للمركز الثقافي الإنجليزي في البلد. أما ضحكتها فقد أوحت له أن الأبواب المغلقة قد فتحت أمامه، فنًا وغرامًا، وزاد انفتاح الأبواب الموصدة أكثر فأكثر عندما اقترحت عليه زيارتها الموعودة.
أرسل الفيس العربي نظراته الصقرية نحو الساعة ذاتها.. "الوقت يمضي بسرعة"، قال وأضاف" عليّ أن أكون دقيقًا في الموعد فالإنجليز لا سيّما في بلاد العرب وبين ظهراني أبنائهم يقيّمون الانسان، خاصة الفنان وفق التزامه بالمواعيد.
وجرى باتجاه المركز.
بعد كدّ وتعب توقّف قُبالة مبنى المركز الإنجليزي. أزال العرق من على وجهه.. سوّى ملابسه. "القميص في عالم والبنطلون في عالم". قال لنفسه. وفكر لحظة في العودة وتأجيل الموعد. إلا أن رغبته المعمرة دفعته لأن يمضي باتجاه مدخل المركز. الصوت المنبعث من غرفة السكرتيرة دفعه للتوقف والاقتراب من باب غرفتها ليرى من شق الباب الموارب تلميذه النجيب.. وقد ارتدى بنطلونه ذاته.. واضعًا رجلًا على رجل ومتحدّثًا بثقة لا حدود لها.. فكر إزاء تلك الكارثة الجديدة ماذا بإمكانه أن يفعل.. يدخل إلى غرفة السكرتيرة ليعلمها درسًا بالعربية مفاده أنه لا يجوز دعوة فنانين في وقت واحد؟.. أم ينتظر تلميذه العاق لينتزع من على نصفه الأسفل بنطلونه العزيز الغالي.. بعد أن استمع إلى صوت تلميذه الشاب يغني داخل الغرفة بقوة.. جرأة وشجاعة.. كان لا بدّ له من العودة من حيث أتي.. حالمًا بانتظار فرصة قادمة.
***
قصة: ناجي ظاهر