نصوص أدبية

نصوص أدبية

اعتليت المنصّة المرتفعة العالية في المعهد الاسباني القائم في مدينتي المحافظة المقدّسة. تمعّنت في الحضور. لفت نظري صديقي الرسام الفوضوي الممسوس. كان يقف قُبالة لوحته الوحيدة المعروضة هناك على أحد الجدران المنخفضة في القاعة. تمعنت فيه وفي لوحته وانا أفكر فيه وفيها. لقد لامني لان الجميع بمن فيهم اداريو المعاهد البريطانية والفرنسية والأمريكية وآخرهم في بلدتي البشارية المعهد الاسباني، يدعونني بصفتي شاعر المدينة لإلقاء الشعر في معاهدهم خلال هذه المناسبة أو تلك، لامس لومه هذا شغاف قلبي فما كان منّي إلا أن اقترحت عليه أن يرسم ثورًا يواجه مصارعه بقرنين واهنين وعينين دامعتين. نفّذ صديقي ما اقترحته عليه وتمّ الاتفاق على أن تعلقها سكرتيرة المعهد هناك إشارةً وتلميحًا إلى ما امتازت به بلادهم وعُرفت به في مجال مصارعة الثيران. لم يطل انتظاري لأن يلتفت إلي صديقي الرسام الهُمام، فقد رأيت سكرتيرة المعهد الفاتنة تتوجّه إليه.. وتلفت نظره إلى أننا سنبدأ البرنامج وأنني.. أنا صديقه ومرافقه الشاعر اعتليت المنصّة للبدء في القراءة والانشاد.

مشى صديقي الفنان متمايلًا بُسمنته الزائدة نوعًا ما وكرشه يمشي أمامه، سار وراء سكرتيرة المعهد وفاتنته الخلابة، حتى وصلا إلى المقعدين الاولين في الصف الأول، القريب جدًا من منصّة الالقاء. وجلسا. ران صمت جميل اعتدت على مثله في مثل تلك الحالات والمواقف، وكان الوقت قد حان واللحظة أزفت لأن ابتدئ بتلاوة الشعر. ابتدأت في القراءة همسًا، وعندما لاحظت أن هناك مَن يريد أن يسمع في الصفوف الأخيرة من القاعة. رفعت صوتي. رفعته وأخضته.. أخفضته ورفعته.. وكنت أترنّم مثل زاهد متعبّد في محبّة مدينته الغراء. ما إن وصلت إلى ذكر أشجار جبال مدينتي وعيشة أهلها بين ازهارها الساحرة الملونة، حتى رأيت نظرات تلك السكرتيرة الناعمة تنغرس في كلّ كلمة وحرف ومعنى.. متجاوزة عيني إلى ما أتوقعه من مناظر تلك البلاد.. بلادها التي اقام بها أجدادي وأجدادها فيما بعد أكثر من ثمانية قرون من الزمان. غرست عينيّ في عينيها. ولم أعد أرى سواها في القاعة. بالضبط مثلما شعرت. خلال ثوان بتنا نحن الاثنين فقط في دائرة واحدة. وبقيّة افراد الحضور في دائرة أخرى أقرب ما تكون وأبعد ما تكون. انتهيت من قراءة قصيدتي وفوجئت بعينيّ تلك السكرتيرة الفاتنة تطلبان مني أن أعيد القراءة. فأعدتها وأنا أشبه ما أكون بإنسان أثمله الوجد. عند انتهائي من تلك القراءة صفّق لي جمهور الحاضرين بحرارة غير معتادة. غير أنني لم أر من بينهم سوى اثنين، صديقي الرسام المغبون وتلك الفاتنة الاسبانية.

في القاعة الفاتنة التف حولي جَمع من الناس، وطلب بعض منهم أن أوقّع له على ورقة او كتاب كان يحمله بيمينه. وانفض الجمع ليبقى الاثنان المعنيان حولي وقريبًا منّي. السكرتيرة ذهبت إلى شأنها في الاشراف على الأمسية ومواصلة انجاحها لها، وصديقي الرسام توقّف إلى جانبي مثل صنم حائر النظرات وهمس لي:

-ألم تر إلى اهتمام تلك الفاتنة بك.. كانت ستأكلك بعينيها اللامعتين.. ولولا رهبة الموقف لدخلت إلى ازهار جبالك وأشجارك.. لتقيم هناك.

ابتسمت لصديقي وأنا افكّر في ثَوره المطلّ من لوحته على عالم قاس مجنون. لم أجبه. كنت متداخلًا في تلك اللحظة المختلفة في حياتي وأنا أتساءل هل ما رأيته في تلكما العينين كان حقيقة أم حلمًا. بالنسبة لي كنت متأكدًا أنني إنما أعيش واقعًا من أعلى الرأس حتى أخمص القدم. لكن ماذا من ناحيتها. لأنتظر. وقبل أن أتوقّف عن التفكير فيها. اقتربت منّي وبيدها صينية عليها ثلاثة فناجين ملأى بالقهوة العربية الاسبانية المعتّقة. قدّمت الفنجان الأول لي وهي تواصل نظراتها الهائمة في دنيا الشعر ومسقط راسي.. وجبال مدينة الناصرة. بعدها قدّمت فنجانًا لي. هنا أرسلت نظرة إلى صديقي الرسام الواقف متكلّسًا إلى جانبي مثل إله مخذول. وقدّمت اليه الفنجان. رفضه في البداية وعندما ألححت عليه تقبّله وراح يقبّل حفافة وأكاد أقول شفتيه بنهم وجوع فائقين.. أو من عالم آخر. ناولتني فاتنتي الفنجان الثاني، وهي تغمز لي عاتبة وموحية أنها إنما أرادت أن تُقدّم لي الفنجان الأول. وليس الثاني. فهمت ما قالته عيناها. ووعيته تمام الوعي.

اقتعد ثلاثتنا مجلسًا خاصًا حول طاولة لا يمكّن حجمها المحدود المتواضع أكثر من ثلاثة أشخاص من الجلوس حولها. وكنت أفكر في تلك المرأة ولمعة عينيها العمميقة.. بعيدة الغور.. ناسيًا مَن هي ومِن أين أتت، ما هو وضعها الاجتماعي. مِن أي مدينة.. ومَن هم أهلها. كان تفكيري كلّه مُنصبًّا عليها. لكن عندما استفاق الشاعر الذكي الحسّاس في داخلي. خطرت لي خاطرة فكيف ستستمر علاقتي بها؟ وكيف سأحافظ عليها من عيون الرقباء والعذّال في بلدة تحسب على أبنائها كلّ حركة ونأمة؟.. وما هو المطلوب منّي الآن وقد عثرت على جوهرة حياتي ومُستقر أحلامي.. اشعاري وأمنياتي.. وخطرت لي خاطرة ما لبثت أن ابتدأت بتنفيذها. نظرت في عينيّ صديقي الرسم الرانيتين إلى المحبّة بعد حرمان.. والمعزة بعد إذلال.. كان أقلّه عدم الاعتراف به وبرسمه وبالتالي عدم دعوته إلى المنصّات الكبيرة. ورأيت فيهما نوعًا من اللوم. فلماذا أنت وليس أنا؟.. وهنا أمسكت بيده وأنا أدعو فاتنتي وانطلقنا مُجتمعين باتجاه لوحة الثور والمصارع. توقّفنا قُبالتها ونحن نتأمل بها. بعد لحظات سألتها. عن رأيها في اللوحة. وقبل أن تُجيب راح صاحبها.. صديقي المغبون.. يرتّب قميصه فادخل ما خرج من أطرافه داخل بنطلونه، محاولًا إخفاء كرشه. رتّب نفسه وهو ينتظر رأي سكرتيرة المعهد بحيطة وترقب.. فرأيها أهم من كلّ الآراء بالنسبة له على الأقل. ناهيك عن أن هذا الرأي هو مَن سيجعله يتنفّس فوق الماء بعد زمن طال من انتظار التنفس فوقه، وربّما يفتح له العديد إذا لم يكن كلّ الأبواب الموصدة. تمعنت السكرتيرة في اللوحة مركّزة على عيني الثور الرانيتين إلى عيني المصارع فيها. وأشارت إليهما. فهمت بحساسيتي المُرهفة أنها ستسأله عن سبب ذلك الضياع الظاهر في عيني الثور. فسارعت إلى قطع الطريق عليها قائلًا: لقد أحب صديقي الرسّام، وهو بالمناسبة الأقرب إلى نفسي في مدينة التاريخ والحضارة. أن يكرم معهدكم الاسباني بلوحة تقدم شيئًا من حضارته وملامحها التصارعية الرائعة. وصلت رسالتي إلى رفيقتي. فراحت تتحدّث عن مصارعة الثيران وعمّا كتبه شاعر إسبانيا الثوري الإنساني عن صديقه مصارع الثيران بعد صرع ثور هائج له. اندمج ثلاثتنا هذه المرّة في الحديث. وحقّقت ما أردت تنفيذه من فكرة خطرت لي. هكذا بات مُرافقي محور الحديث. وهكذا تمكّنت مِن إخفاء مشاعرنا الجيّاشة، أنا وسكرتيرة المعهد، في حلمها وغرامها المفاجئ، مثل غيمة اسبابانية اندلسية قادمة من مرافئ بعيدة. بسرعة كبيرة تمكّنت من تحويل صديقي الرسام إلى ما تبقى من أحاديث شارك بها آخرون خاصة من فاتنات الجنس اللطيف. وطالت تلك الأمسية متخذة من مصارعة الثيران الاسبانية مدارها في توقفاته واستمراراته. وكنت كلّما لمست من المحيطين أنهم يلاحظون إلى اهتمام تلك السكرتيرة الفاتنة بي، صرفتهم إلى مواصلة الحديث عن مصارعة الثيران وعمّا تقوله لوحة صديقي ومُرافقي الرسام مِن آلام وعذابات. لا تعرفها إلا القلوب المُحبّة المتيمة شوقًا وتوقًا.

***

قصة: ناجي ظاهر

حَيْرَةُ الأيّامِ تَمْشِي، أَيْنَمَا تَمْشِي خُطايْ

هِيَ لا تَبْعُدُ عَنِّي لحظةً

وَ لِهذا صارَ عُمْرِي حَيْرَةً

وَ رُؤايْ

أصْبَحْتْ تَنْهَلُ مِنْ نَهْرِ رُؤاها

إنَّها تملأُ دربِي

وَأَنَا لَسْتُ أَرَاهَا

إنَّها تَجْهَلُ في أيّ المَحَطّاتِ،

اِسْتَهَلَتْ مُبْتَدَاها

وَهْيَ لا تَعْرِفُ

في أيِّ المَحَطّاتِ سَيَأْتِي

مُنْتَهَاهَا

= 2 =

حَيْرَةُ الأيّامِ فَيْضٌ مِنْ شُجُونْ

أَيْنَمَا كُنْتُ تَكُونْ

حَيْرَةٌ تَفْتَحُ أبْوابَ الأرَقْ

مِنْ مَسَاءٍ لِمَسَاءْ

وَهْيَ صوتٌ وَصَدَى

في دمائي والمَدَى

تَزْدَريني

وَأنا أشْحَذُ مِنْها الاِبْتِسَامْ

دونَ أنْ أشْهَدَ بَسْمَةْ

دونَ أنْ أَسْمًعَ،

هَمْسًا أو كلاَمْ

= 3 =

عِنْدَما داهمَ عَيْنيّ الكَرَى

صِرْتُ في النّوْمِ أرَى

أنْجُمًا حائِرةً دونَ شُعاعْ

وَسَماءْ

غاب في حَيْرَتِها لونُ الضّياءْ

كُلُّ ما كُنْتُ أراهْ

كانَ حائرْ

**

حَيْرَةُ الأيّامِ تَمْشِي، أَيْنَمَا تَمْشِي خُطايْ

فَمَتَى تَغْرُبُ عَنِّي؟

وَمَتَى تَفْتَحُ لِي أبوابَ سِجْنِي؟

***

شعر: خالد الحلّي

معارضة قصيدة الشّاعر مصطفى الجزّار

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

***

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

*

هانتْ عَلى الأعرابِ أعراضُ الثّرى

فَاستَعجَلَ الطُّغيانُ يُرسِلُ عَسكَرَةْ

*

وَاستَفْرَسَتْ فينا المَنايا والرَّدى

أطماعُهُ بَينَ الوَرى مُتفَجِّرَةْ

*

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أوطانِهِم

وَهُمُ العَبيدُ وَقَدْرُهُم ما أحقَرَهْ؟

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ؟

*

فَالحاكمُ المَسؤولُ تُسبى أرضُهُ

وَيَدُقُّ أقداحَ الشّرابِ المُسكِرَةْ؟

*

وَتُراقُ أعراضُ النِّسا مِن يَعْرُبٍ

وَخُيولُهُ في أرضِها مُتمَسمِرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

*

كم أثقلَتْنا في المدامع غَصَّةٌ

مِن غيرِ ذَنبٍ حينَ نَرجو المعذِرَةْ

*

يا أُمّةً غَدُها يَموتُ مُدرَّجًّا

بِدموعِها تَبكي الأَسى مُتحَسِّرَةْ

*

يا أُمّةً تَبكي لِتاريخٍ مَضى

وَاليومَ تسألُ: أينَ تلكَ المَقدِرَةْ؟

*

قولوا لِعَبلةَ إنّ فارسَها هُنا

سَيَجيءُ بَطشًا كان ربي قَدَّرةْ

*

هلّا سألتِ الخَيلَ يا ابنةَ مالِكٍ

كيفَ الرّماحُ تُذِلُّ كُلَّ مُجنزرَةْ؟

*

وعنِ القتالِ سَلي نُسورًا أُشبِعَتْ

وَسَلي العِدى عَن سَيفِنا ما أقدَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

***

للشّاعر د. نسيم عاطف الأسديّ

..........................

مصطفى الجزّار: "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرَة

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

***

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

    لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

*

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فالشِّعرُ في عصرِ القنابلِ.. ثرثرة

ولْتبتلع أبياتَ فخرِكَ صامتًا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجزٌ

*

واجعلْ لها مِن قاعِ صدرِكَ مقبرة

فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّها

*

وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الغرغرة

وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفًا!

*

تحتَ الظّلالِ، وفي اللّيالي المقمرة

اكتبْ لها ما كنتَ تكتبُه لها

*

هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مُقفِرَة؟

يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي

*

وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟

هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ

*

عبدًا ذليلًا أسودًا ما أحقرَه

يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً

*

نسبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ مُعسكَرَه

مُتطرِّفًا.. مُتخلِّفًا.. ومُخالِفًا!

*

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

*

أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِرَه

في الجاهليّةِ...كنتَ وحدكَ قادرًا

*

فالزّحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطرة

لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهرَهُ

*

بينَ الدّويِّ.. وبينَ صرخةِ مُجبرَة

وحصانُكَ العَرَبيُّ ضاعَ صهيلُهُ

*

كيفَ الصّمودُ؟ وأينَ أينَ المقدرة!

هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

*

متأهِّباتٍ.. والقذائفَ مُشهَرَة

هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ

*

ولَصاحَ في وجهِ القطيعِ وحذَّرَه

لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى

*

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

*

في قبرِهِ.. وادْعوا لهُ.. بالمغفرة

فدَعوا ضميرَ العُربِ يرقدُ ساكنًا

*

لم تُبقِ دمعًا أو دمًا في المحبرة

عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ.. وريشتي

*

تترقَّبُ الجِسْرَ البعيدَ.. لِتَعبُرَه

وعيونُ عبلةَ لا تزالُ دموعُها

***

للشّاعر مصطفى الجزّار

القصيدة الاولى:

هذا الغروبُ كغورِ الروحِ مُكْتئبُ

تظلّهُ مِنْ مجاهيلِ الأسى سُحـــبُ

*

هذا الغروبُ تراتيلٌ مُعذّبةُ

أفاضها خافق أحلامُهُ الشُهُـــبُ

*

قد امتزجتُ بهِ ظلا كما امتزجتْ

جداول في مصبٍّ راحَ يصطخبُ

*

الأرضُ في لونها المخفي قد بَرزت

ظلا للونِ ظلالِ الليــــل يقتربُ

*

وفي السماءِ إذا ما زانها شفقٌ

مجامرٌ من هيامِ الروحِ تلتهبُ

*

كانّما هيَ حبّات القلوبِ وقدْ

تناثرتْ مِنْ جوى في النفسِ يحتجبُ

*

كأنّ نهرا وراء الغيْبِ أوصلني

بالأرضِ أمواجهُ الأنسامُ واللهبُ

*

والماءُ إذْ يتهادى مِنْ علٍ صببا

يبثُّ شكوى غريبٍ راحَ ينتحبُ

*

هذي هي النفسُ أشتاتٌ مُشتتةُ

راحتْ بكلّ مفيض السحْرِ تُنتَهـبُ

*

أحسُّ لحْنا عجيبا راحَ يُبْدعهُ

الماءُ والظلّ والأضواءُ والعُشُبُ

*

ما أجمل اللحْنَ لمْ تسمعْ بهِ أذنٌ

لكنْ يحسّ بهِ الوجدانُ والعَصَبُ

*

يا للمُذابِ أسى يا للصريع جوى

مِنْ نسمة مِنْ ديارِ الأهْلِ تقتربُ

*

تقاذفتهُ الليالي عن مرابعهِ

فهْوَ الشجيّ لذكْرِ الصحْبِ يضطربُ

*

وهْوَ المشوقُ لدنيا السحْرِ يعصرهُ

وَجْد إليها ويُذكي نارَهُ طَرَبُ

***

القصيدة الثانية:

النهرُ ساجٍ وصفْوُ الليلِ مُنتشرٌ

ينسابُ في كلِّ شئ غايةَ البُعُدِ (1)

*

كأنما الليلُ إذْ يمتدُّ راهبةُ

راحتْ مُفكّرة في معبد الأبدِ

*

كأنَّ دُنيا مِنَ الإلهام قدْ فُتِحَتْ

فراح دفّاقُها ينصبُّ مِنْ صُعُدِ

*

فانزاح عنْ كُلِّ شئ ما يُحجّبُهُ

وحُرّرتْ مُهْجَة مِنْ ربْقة العُقَدِ

*

كأنما النفسُ إذْ حَلّتْ سكينتُها

في عالم بمعاني اللطْف مُحْتشدِ

*

تمازجتْ في مداها كلُّ خاطرةٍ

بخاطر أزليٍّ غير ذي أمَدِ

*

لا الأمس تذكرُ منهُ ما يُكدّرها

ولا ترى حكمة في حمْل هَمِّ غدِ

*

ومشهد للمراعي راح يوقظها

مِنْ غفْوة الظهْر لحْنُ الصادحِ الغَرِدِ

*

والشمسُ تبعث مِنْ انوارها لُججا

زحّافة في امتداد غيْر ذي أَوَدِ(2)

*

والأرضُ مُخْضلّة خضراءُ طافحةُ

بالطِيْب ترفل في أبرادها الجُدِدِ

*

والنهرُ يبعثُ أنغاما مُحبّبة

تسهو بها النفسُ مِنْ همٍّ ومِن كَمَدِ

*

قد أورد النفس دنيا غير عالمِها

فتّانة السحْر لَمْ تُولَدْ ولَمْ تَلِدِ

*

حتّى إذا امتدَّ ظلٌّ واعتلى شفقٌ

وغيّب الشمس مجرى ثمَّ لَمْ تَعُدِ

*

ولاح في الأفْق نجْم جِدُّ مؤتلقٍ

وأوشك الدرب أنْ يظلــمَّ أوْ فَقـَدِ(3)

*

وراح راعي غنيمات يجدُّ خُطى

سعْيا إلى حيث يلقى راحةَ الجَسَدِ

*

تغيّرتْ صورُ الأشياء والتحفت

بُرْدا جديدا بما في الكون مِن بُرُدِ

*

وانساب نورُ فوانيس مُعلّقةٍ

يُفاخرُ الشُهْب في الإشراق عَنْ بُعُدِ

*

ثم استطالتْ أحاديث مُشوّقةُ

يبدو على الليل منها الضَعْفُ إنْ تَزِدِ

*

تكاد تدرك في قول يفوه بِهِ

طفل معاني ما دارتْ على خَلَدِ

*

وللنفوس طِباع حَسْب منشأها

يعيا لها الفكْرُ إذ يأتي بمُعتَقدِ

*

وما الخلود بمُسطاع فنبلغُهُ

لكنْ يظلُّ حليف الشوق والأبَدِ(4)

***

جميل حسين الساعدي

............................

القصيدتان هما نموذجان لبداياتي الشعرية، حينما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة

(1) ساجٍ: هادئ، وقد ورد في القرآن الكريم

(والليل إذا سجى): أي إذا هدأ

(2) الأود: هو الإعوجاج والميلان

(3) أو فَقَدِ: ألمقصود أو فقد اظلمّ، وقد حذفت اظلم، وذلك للدلالة عليها فيما قبلها .. في صدر البيت

(4) بمسطاعٍ: في الأصل بمستطاعٍ، وقد حذفت التاء للتخفيف، وفي   الشعر العربي القديم الكثير من هذا القبيل

كراقصٍ على أوتار العدم،

يدعوني بنداءٍ خافت،

أشبه بترنيمة حلمٍ يُحتضر،

وأنا، المُتعطشة لليقين،

أركض خلف ظله الذي لا ظل له.

*

في كل خطوةٍ، يزداد البُعد قُربًا،

والقربُ يتبدد في غبارِ الخداع.

رمالٌ تتراقصُ حول قدمي، تعزف لحن التيه،

والشمسُ فوق رأسي تُغني أغنية الاحتراق.

*

أيها السراب، أأنت ماءٌ يختبئ في قلب الوهم؟

أم أنك مرآةُ رغباتي، تعكس شوقي ولا تُطفيه؟

كيف يكون للحقيقة وجهٌ يشبهك،

وأنتَ لا وجهَ لكَ إلا الخديعة؟

*

الطريقُ طويلٌ كأبديةِ الجهل،

والأرضُ عطشى كقلوب المهاجرين.

أنا أسيرٌ بين ماضٍ لا يمضي،

ومستقبلٍ يُعانق الفراغ بلا اكتراث.

*

رأيت في عينيك مدينةً من وعودٍ،

بواباتها من نور، وقصورها من حلم.

لكن حين اقتربت،

وجدت الظلال تُلقي ظلالها،

والنور يتلاشى كأن لم يكن.

*

كذبةُ لا تموت، أنت!

الحقيقة التي لا تُمسك،

حُلم يوقظني على ألمِ الصحو،

والغيمة التي لا تُنجب المطر.

*

كالهائمة في مملكتك.

أُطاردُ خيوطًا من ضوءٍ يتبدد،

في كل خطوةٍ، أتعلم أن الطريقَ ليس طريقًا،

وأن الماءَ ليس ماءً،

وأن السرابَ ليس إلا أنا،

وجهي المنعكسُ في مرايا الفقد.

*

كيف تكون بكل هذا الحضور،

كأبديةٍ قاتمة،

كوهم أبدي،

***

مجيدة محمدي - تونس

مُلْكا مشاعا صرتِ... لامتصاص غضب ..

قد يخدش وجه عالم مكتسب

بعد عملية تجميل .. خطيرة ومكلفة

هو وجه غانية تجيد استدراج الوعي ..

إلي الهاوية

زعماء الممالك الفايسبوكية

رسموا عليها .. خارطة للموت

قسموها بين القبائل .. بالقسطاس

قالوا= ....عيثوا في الوهم

سكرا..

رقصا..

غناء ..

وشعرا ..

ثم اسبحوا في الرماد

تخففوا من ضجر التابو

حتى إذا هاج الجوع...وماج القهر ..

كنتم أجدر بأسا ...يزدرد المرار ..

في تغذية راجعة ..

ترسخ الذل في جوف الفجيعة

*

على الجباه يموت التاريخ ...حسرة

والأقلام شهود إقتلعها الطوفان

ألواحا تطفو أعلى منسوب الخديعة

عين البراق على الزند

الطرائد جيف ...فاح استسلامها

نتانتها تخنق الأرصفة

الحدائق لمت خضرتها..

للعصافير أشارت: أن ارحلي بعيدا

كيما تصيبك ...فياريس الجرائد

بيانات الرفض ...الموبوءة بالايبولا

شعارات التمرد ...الأ صابها الزكام

ضمدي أجنحتك بعيدا

لا تنقري الشجر ...في غابات الوطن ..

مهما أمعن الجوع=

فهو رجس من عمل الطغيان

قد يغيبك إلى أجل ...غير مسمى

فتغدو الشوارع ...مرتعا للجثث

*

من يطلق الشمس قنابل

تشتت الملتئم ...تحت قبة اللعنة ؟

تلجم دلال المصائب

وهو يزهو بحنجرته...بين ديوك عمياء ..

تنضج في خطبه الجلود...تصفر الخدود

تطرح الحوامل أجنتها...قبل الأوان

*

على ملمح البحر...ألف حيرة وعلامة ..

تقذف الملح في الجراح=

كمحاولة أخيرة...لإيقاظ الموت السريري ..

المغادر في رحلة مبهمة ..

تقتحم باب المجهول

تاركة المعلوم لحيتان الألفية الثالثة

تعيق لولبة الازمان بتداخل الحدود

تفصيل الخرائط

ليصير النسيان جوهر الوجود

*

ولما كانت المذبحة الألف

بعد تمكين الأذى ...من جمجمة الوطن

سعال الزوايا أنهك البلاد والعباد ..

قوض مسافات الضوء

لتتضوع السرائر...في نقمتها الضريرة

والأجنة في ربيع الزيف ...تجلوها الرياح

لعبة ذائبة في القبل

حضنا يدغدغ الفطرة

والعرق معيار انتماء

*

ما سكتت شهرزاد ...عن اللامباح

عاصفة من التناقض ..

تتآلف تحت جناح الدمار

وسط المخاض العام...ينحشر التلف ..

على أسفلت الهزيمة ...يتفتت

ذبالا...يمنح صخر الطريق مناعة الصبر

وشهريار على رأس المقصلة ..

يمنح الرؤوس المتدحرجة ..

صكوك الخذلان !

***

مالكة حبرشيد

المغرب

 

أهدي هذه القصيدة

لمدينتي الحبيبة ميسان.

***

ثمل أفتح ذراعي

احتضن فجرا عبقا

برائحة الغرين الذهبي

ونديا بضفاف ميسان

الستة تحتفي بي

دجلة تجري الهوينى

تترقرق دمعا في عيني

بين الأهداب

**

رؤوس شيوخها المندائيين

متوجة بزنابق الماء

ولحاهم الطويلة

تضئ غبشة الفجر

كالأيام الخمسة البيضاء*

**

ينساب الكحلاء

فضة بين جذوع النخل

ومهيلات تمخر النهر*

تنوء بذهب الأرياف

تحمله فوق الأمواج

تتمايل كإمرأة حامل

وعلى الأرصفة المشمسة

جذلة تتقافز العصافير

لإلتقاط حبة قمح

احتفالية رائعة وفرح غامر

عذب ساحر ذاك العالم

متشح بالبساطة

برئ من الصخب

**

متوار خلف ضباب الزمن

رخية حياة الناس

رغم شظف العيش

**

ميسان سليلة سومر

أنهارها الثلاثة مرايا صقيلة

حين رحلوا عنها

وإختفوا بين جدران القصب

ضفروا لها جديلتين

من أوراق البردي

فغسلتهما بمياه الهور

وجففتهما بشمس تموز

واستلقت هانئة

تحلم

بالكريستال الأزرق

بعناقيد البني

بإنكيدو وجلجامش

***

صالح البياتي

........................

1- المهيلات، مفردها مهيلة: وهي سفينة شراعية.

2- البرونايا: عيد الخليقة، أو البنجة، الأيام الخمسة..    

ندلّل الهزيمة بالحزن ونهرب للأمام،

أو نرتد إلى الخلف.

كما الجدران لا صوت لها…

اهرب للماء

للشوارع...

للحروف....

لا طعم للأشياء…

مرةٌ هي الكلمات وغريبة هي الوجوه،

وحده الرحيل يسابق الخطى

أريد أن أسكر قبل الظلام

وقبل انتهاء الطريق…للعدم

قبل أن أسمع بيان ذوي الياقات،

قبل أن يسكرني الندم….

تتعثّرُ قدماي

لا يعرفان خط السير...

كان صوتها يهبُ شراعي الريح،

ويهدي بوصلة القلب،

فأبحر في ظلام الليل إليها ….

يغسلني رذاذ الموج وتجففني الريح

صوتها بوصلتي،

أخذته الأمواج، ينوح الآن ينوح...

وانا محى الموج حروفي وضاع القلب

لا صارية في الأفق تلوح…

اصرخ...الماء رمل في العيون

هل ترى عيناكِ عينيّ؟

الموج ظلام والشراع كفن،

بوصلة القلب فقدت المدى،

والشفاه غربتها المراسي، آه من الصور...

مرسى واحد في هذا العمر.. مرسى واحد كنا،

نتوسده وننام عميقا كالموتى من شدة الغياب

كأس واحدة لا تكفي لعبور البحر،

فليل الهزيمة ثقيل كالغرق…

أرجوك كأس أخرى كي ارفع ذراعي فوق الموج،

علني اعبر صوب قاع البحر

كأس أخرى... ليتكِ في الكأس قُبل

ما أخبرت ربي أنى قبلتها قبلَ السفر..

قبلتها قبل السفر...

قبلتها...قبلتها...قبل السفر؟

***

كريم شنشل

 

* ليلة بوم

بوم أنا،

ليلة شؤم بينكم

الظلام قادم،

الظلام قادم

فاقترب أكثر ممن تحب

**

* أحمر يشتد

سواد خلف كواليس

رب مشهد،

آن له التجلي،

وأحمر يشتد،

يشتد،

ويشتد،

أنت على موعد مع الشر

**

*هدايا

حسناء في أحمر

مرآة أفعى،

بساط أحمر

طريق نحو التلاشي،

زهور حمراء

هدايا قلب مريض،

إنه جحيم بارد

هذا العالم سينما

**

* لا خبر

لا تصدق

كل الضحايا

ربما كانوا الجلاد،

لا خبر،

للحدث

جانب آخر،

لا تر بعين واحدة

**

*ها قد

لا يحبونك

سراياهم جهات

عن يمينك،

عن ظاهرك،

عن حلمك،

عن يسارك،

عن باطنك،

عن يقظتك

ها قد تسللوا،

إنهم أسوء مما تظن

**

*جاثوم منتصف وقت

صوتك قتيل

أيها الجهوري

له قبر،

وللعتمة أسماء وشاهد،

وكصرخة منجم

لا تصل،

ولا ترتد

لا شيء يبعث على النور هنا

***

فؤاد ناجيمي

.....................

* نصوص مظلمة، من المجموعة الشعرية: بكائية تمثال الحرية

إنّ النصوصَ الــتي تَـنْـسى عـلاقَــتَـهـا

بأرض مَــوْلِـدِهــا، لا خُــلْـدَ يـأويــهــا

*

وقِــيل مَــنْ لــم يكن، فـي كـفّه حَجَــرٌ

فــفي لــسانـه سَـــهْـمٌ، يرمي طاغيهـا

*

فــكيـف يَجـْـرأ مَــن أمسى، بلا وطـنٍ

يـُصافـِحُ الخَـصمَ، والأحـداثُ ترويها

*

كــلُّ الخُطى ترتَـقي إن كـان هاجِـسُـهـا

صوْبَ الفَـضِيلَةِ، لا اطـماع تُـلـهِــيـهـا

*

شُـــمُّ الأنـوفِ، فضاءُ الـعِـزّ مَنـزِلُهـم

ومَــن تَـعــوَّدَ ذلاً ، خـابَ بــانــيـهــا

*

قــلــبُ الـجــبــان، اذا غَــذتْـــه أوردةٌ

مِــن الـتخــلّــف يـبقى فــي مَـهاويـهـا

*

مَــن يـدَّعــي الشـأنَ لا يقـوى مواصلة ً

وذو الاصالــة، فــي عِـــزٍّ يـُؤديــهـــا

*

والإبـتــسامــةُ، إنْ ابْــدَتْ تـــكلــفــهـا

تُـــوحي بِراقِـد نَــتْــنٍ، فــي ســواقيهـا

*

اســتـيقـظي يــا قــوافي واسْــكبي دِيَـمَـاً

فــتُـربـَــة الـمَجْــدِ تـُسـقى مِـن مَـعالــيها

*

وعَــنِّـفـي مــن أبـاح الشــعـر تَــسْلـِـيــةً

لـلخَـصـْم ، فــيـه يُــداري حالَــه فــيها

*

الــشعــرُ يُــؤنـِسُ، إنْ كــانت بـِمُـقْـلَـتِه

حُــسن الــنوايــا، وصَـفْــوٌ فـي مَرامِيها

*

ليــس المــودّاتُ، فــي تزويق احـرفها

إن لــم تكن مــن شغاف القـلـب تُـلـقـيها

*

واللـفـظ يـهْـوى انـسجـامـا فـي تَسَلْسُلـِه

لــكي تــفــوق المعــاني، فــي مَـبانِـيهـا

*

مَــن يرتضي الـذلَ في صَمْـتٍ، تُرافِقُه

مــع الضياع طِبــاعٌ كــان يـُـخْـفِـيهــا

***

(من البسيط)

شعر: عدنان عبد النبي البلداوي

 

بكلِّ حروف الهـــوى اللائِقهْ

سأروي لكم قصتي العابِقهْ:

*

أنا ما اسْتَطَعْتُ المنام.َ. ولَمْ

أَذُقْ راحةً.. ليــلتي الســابِقهْ

*

وسَــــامَرْتُ ما عِشْتهُ بُرهـةً

نَهــــــــــاراً.. وكانتْ لهُ ذائقهْ

*

فأَحْسَستُ أنَّـــهُ قُرْبي بَـــدَا

لطيفاً بِنَظْرَتِهِ النَّــــــاطِقهْ!

*

خَطَــــــا طَيْفَهُ لِعِنـــاقي هنا

سَبَقْتُ أنا الخطوة اللاحِقهْ!

*

عَـــــــرَفْتُ بِـأنِّي أَلِيـــــقُ بِـهِ

لأَّني ورَبَّ الهوى صَــــــادِقهْ

*

وأَنَّي أَرَاهُ بِـوجـــــدِ فؤادي

مَـــــــــــــلَاكَاً زكيًّا بِكُلِّ ثِــقَهْ

*

وأَنَّـــهُ رُوحــي.. عليــل الهوى

حيـــــاتي بِـهِ.. ولَـهُ عــاشِقهْ!

***

محمد ثابت السميعي – اليمن

(مقامة)

في صَبيْحَةِ يَومٍ شِتويٍ بَردَهُ يَقْرِسْ.

ذَهَبْتُ لأَتَفَقَدَ حِمَاريَ أَبَا (الحَيْرانِ) المُؤْنِسْ.

فَوَجدْتُهُ قَدّْ غَادَرَ مَربَطَهُ دُونَ أَنْ يُنبِسْ.

تَصوَّرتُ أَنَّ عِصابَةً خَطفَتْهُ بالليّْلِ المُبلِسْ.

جُنَّ جِنُوني ورِحتُ بَيْنَ الأَزقَةِ أَبحَثُ عنهُ ولأَخبَارِهِ أَلتَمِسْ.

فَوَجَدّْتُ حِمَاريَ أَبَا (الحَيْرانِ) قَدّْ أَقامَ بالنَّاسِ مَجْلِسْ.

يَخْطُبُ في القَوْمِ وبأَعلى الصَّوتِ؛ دون خَوّفٍ يُخْنِسْ.

يَهتِفُ بصَوّتٍ جَليٍّ تكادُ روحُهُ تَخرجُ ويَفْطِسْ!!!.

يَصيحُ بالنَّاسِ:

أَينَ الكهْرَباءُ .... يا عِبَادَ اللهِ؟؟؛ إِنَّ حَالَنَا مُقرِفٌ مُبْئِسْ.

صَرَفتُمْ آلافَ آلافَ الملايين؛ والكهرَبَاءُ وَضعُها مُيْئِسْ!.

قُلْتُ يَا حَبْيّبَ رُوْحي يَا أَبا (الحَيْرانِ) قولُكَ الحَقُّ والحَقُّ يُخْرِسْ.

قَالَ لي عَزيْزي أَبُو (الحَيْرانِ):

يا (ابْنَ سُنْبَه)، اسْكُتّْ ... واجلِسّْ مَعَ النَّاسِ ولا تَهْمِسْ.

فإنَّ السُكوتَ هو الرَدَى .... والسُكوتُ أَمْرٌ مُنْحِسْ.

وَ اسْتَمَرَ حَبيبي أَبو (الحَيْرانِ)، يَخّْطُبُ بالنَّاسِ وبسَاقِهِ يَرفِسْ.

مُسْتَرسِلاً بنَقّْدِ الحُكُومَةِ؛ لا يَفْتِرُ ولا يَهدَأ ولا يَهْمِسْ.

يُحَدِّقُ بوجُوهِ النَّاسِ، ويُحَمّْلِقُ كأَنَّهُ عَرّافٌ مُتَفَرِّسْ.

يَحثُهُمّْ على مُواجَهةِ الحُكومَةِ بوَجّهٍ مُكّْفَهرٍ مُعّْبِسْ.

وَ كأَنَّهُ رَئيْسَ حِزبٍ قويٍّ مُحْمِسْ. (أَحمَسْ: شجاع).

لَطَمّْتُ وَجْهي وصَرَخْتُ صَرْخَةَ مَلْسُوعٍ أَخْرَسْ.

قُلتُ:

يا حَبيْبي يا حِمَاري يا (أَبا الحَيرانِ):

مَاذا تَقُولْ؟، فقولُكَ خَطيرٌ بِذَا المَجْلِسْ.

سَتُحارِبُكَ الحُكومَةُ والأَحزابُ ... وسَتَعلَمُ أَيُّها الحَبيْبُ المُؤنِسْ؛

أَنَّ قَوّلي هَذا؛ هُوَ قَوْلُ صَّديقٍ مُخّْلِصْ.

قَالَ حِمَاريَ بغَضَبٍ شَديدٍ أَهوَسْ:  (أهْوَسَ: مَنْ أصَابَهُ مَسٌّ مِنَ الجُنُونِ).

صَهٍ (يا ابنَ سُنْبَه)؛

إِنَّ النَّصيحَةَ عِندَنا واجِبٌ وطنيٌ أَقّْدَسْ.

فَخِطابُنَا بالنَّاسِ قولٌ جَميّْلٌ لا يُوْكَسْ. (وكَسَ الشَّيءُ: نقَص).

فَهَلّْ نَترُكُ النَّاسَ يُعيْدونَ التَّجارِبَ مَعَ كُلِّ سَارقٍ مُخْتَلِسْ؟.

قُلتُ نَعَمْ يا عَزيْزي يَا (أَبا الحَيرانِ):

قولُكَ الحَقُّ والحَقُّ أَبْلَجٌ مُشّْمِسْ.

قَالَ رَفيْقِي (أَبُو الحَيْرانِ):

إِذَنْ (يا ابْنَ سُنْبَه)، أُسّْكُتْ وانْصِتّْ ومَعَ النّْاسِ إِجّْلِسْ.

أَلمْ يُوافِقُ مَجْلِسُ النُوّابِ على اختيارِ هَذا الوَزيْرِ المتَمَرِسْ؟.

أَلَمْ تُثْبِتُ وِزارَةُ الكهْرَبَاءِ؛ فَشَلَها المتَغَلِّسْ؟. (الغَلَسْ: ظُلمة آخر الليل).

قُلتُ: نَعَمْ يَا صَديقي، يَا حِمَارَنا العَزيزَ المُخلِصْ؛

يا خَيرَ مَنْ تَحَدَثَ بهذا المَجْلِسْ.

لَقَدّْ قُلْتَ وقَولُكَ الحَقُّ يَا حِمَارِيَ الكَيِّسْ.

إِنَّ للحَيَاةِ رِجَالاً غَيْرَنَا     يَبْغُونَ الْيُسْرَ مِنَ المُفْلِسّْ.

***

محمّد جَواد سُنبَه

كاتب واعلامي

لو أنّ الصبحَ لم يَعْرِفْ خطاكِ،

هل كان سيصحو؟

ولو أنّ الليلَ لم يهدأ بصوتِكِ،

هل كان سيهدأ؟

*

كيف لو كانَ الوقتُ

مجردَ عبورٍ،

لا يَعرفُ شغفَ انتظارِكِ،

ولا دفءَ حضورِكِ؟

*

ماذا لو انطفأتِ

كالقمرِ؟

هل كانتِ السماءُ

ستبقى سماءً؟

*

يا مَن تجمعينَ

بين صرامةِ الجبالِ

ورقّةِ النسيم،

كيف أقرأ ملامحَكِ

ولا أضيعُ في متاهاتها؟

*

لا أريدُ أن أكتبَ عنكِ شعراً،

فالشعرُ قد يخونُ.

أريدُ أن أزرعَكِ

نخلةً

لا تهزّها رياحُ الغياب.

*

كلُّ ما فيكِ

يروي عطشَ الروح،

وكلُّ ما فيَّ

ينتظرُ قطرةً منكِ

تُعيدني إلى الحياة.

***

جاسم الخالدي

 

ماذا لو انحنت السماء قليلاً لتلامس جباهنا؟

هل سنرفع أعيننا لنرى انعكاس أرواحنا في زرقتها؟

أم أننا سننكمش في ظلال أفكارنا، نخشى اتساع الأفق؟

*

ماذا لو توقفت الأرض عن الدوران للحظة؟

هل سنشعر بارتباك في قلوبنا،

كما لو أن الزمن أطلق سراحنا فجأة؟

أم أننا سنصرّ على عدّ الثواني، نبحث عن نغمة اعتدنا عليها؟

*

ماذا لو سقطت الشمس في البحر؟

هل سيشتعل الأفق بنار جديدة،

تكتب للكون صفحة أخرى من الضوء؟

أم أننا سنقف على الشواطئ،

نراقب المياه تغمر أقدامنا بلا مبالاة؟

*

ماذا لو انكسرت الريح؟

أيعقل أن تصبح الأصوات أوضح،

كأنّ العالم يهمس بحقيقته في صمتها؟

أم أننا سنبكي فقدان العاصفة،

نبحث عن صخبٍ يبرر وحشتنا؟

*

ماذا لو تحوّلت الغابات إلى مدن،

وصار كل غصن طريقاً، وكل ورقة نافذة؟

هل سنصير أسرى جدراننا،

ننسى أن الأرض كانت تغني في عروق الشجر؟

أم أننا سنبحث عن جذورنا بين حجارة الإسفلت؟

*

ماذا لو تكلّم الحجر؟

هل سيخبرنا عن أعباء الزمن الملقى على كتفيه؟

أم أنه سيضحك من صمتنا الطويل؟

*

ماذا لو؟

سؤالٌ يفتح نوافذ القلب على عالم لا نهائي،

على احتمالات تسبح في فضاء الروح،

على طرق غير معبّدة تنتظر الخطوة الأولى.

*

ماذا لو أجبنا على كل الأسئلة بسؤال آخر؟

هل سنكتشف أننا كنا الإجابة منذ البداية،

وأن "لو" ليست سوى مرآة،

تعكس ما نخشى أن نراه في أعماقنا؟

*

ماذا لو كان الكون حكاية نصفها مكتوب،

والنصف الآخر ينتظر أصابعنا المرتعشة،

لتكتب النهاية أو تبدأ البداية؟

***

مجيدة محمدي /تونس

 

لِي مِن الصَّمْتِ القَليلِ

وَرَقٌ مِن دَفْتَرِ اللَّيْلِ وكُرْسيٌّ

سَرِيرٌ مِن أزاهيرِ البَنَفْسَجِ

وجَناحانِ مِن القدَّاحِ..

عَرْشٌ مِن سُكونٍ

اضَعُ الحَرْفَ على عَيْنِ البِدايَةِ

كَي اَطيرَ

لسْتُ أَدرِي ما اَلمَصِيرُ

فالمَسَافاتُ بِنا امْتَدَّتْ بَعيدًا

وبَعيدًا صُرْتُ صِنْوًا لِلأَثيرْ

*

نِتَفٌ مِن ثَلجِ أيام الطُّفُولَة شاغلتني

فابْتَكرَتُ قِصَّةً أحكي بِها شَرْطُ اعتِزالي

كَيْ أعيدَ الدِّفْءَ لِليَقظَةِ مِن كفِّ الضَّياعِ

وأُغْطّي عَتَباتِ الفَجْرِ وَردًا

قَبْلَ أنْ أمْضي وَحيدًا

مَعْ رِياحٍ فَطَمَتْ ضَحْكةَ يَوْمي

فَوْق جِسْرٍ عَبرتهُ الأمنِياتُ

وأنا أحمِلُ زُوَّادَةَ صَبْري

حَفْنَةً مِن مَشْهَدٍ حُوصِرتُ فِيهِ

بعَصافيرٍ مِن الماءِ

وبَرقًا مِن يَدَيْنِ

وابْتِسَامَةْ

**

طارق الحلفي

كانَ كلُّ شيءٍ على ما هو عليهِ، كما يعتقدُ لغايةِ خروجِهِ، صباح ذات يوم، من بيتهِ، حاملاً حقيبتهُ، التي تضمُّ حاسبةَ (لابتوب)، فضلاً عن مفاتيحٍ وأوراقٍ وهويّاتٍ رسمية، وغيرِ ذلك مما يثقلُ الحقيبة، حتى بدأتْ تتهرّأُ، كما يَشعرُ أحياناً، بأنَّه بدأَ يتهرّأ، مثلَ تلك الحقيبة، وأنَّه يحمّلُ نفسهُ، تفاصيلَ أعمالٍ ومشاعرَ، أكثرَ من طاقتهِ، إلى غايةِ مطابقةِ نفسهِ مطابقاتٍ طبيعيَّة، مثلا إنّهُ سهليٌّ أكثرُ من السَّهلِ نفسهِ، وصحراويٌّ أكثرُ من الصحراءِ ذاتِها، بين الاخضرارِ والاصفرارِ تاهتْ علاماتُه. غالباً ما يقدِّر من يراهُ بأنَّهُ أكثرُ من عمرهِ الحقيقي.

وصلتْ سيارةُ الأجرةِ التي تقلُّه كلَّ يومٍ إلى مقرِّ عملهِ في إحدى صحف المدينة، عرفَ ذلك، مثلما كلّ مرةٍ، من خلال منبِّه السيّارة..           

            2

خطا أولى خُطواتهِ على عتبةِ البيت، فرأى أمامهُ صحراءً لامتناهيةً غباريّةَ الفضاء، اختفتِ المدينة، بكلِّ ما فيها، بل أصبحَ كلُّ ما فيها صَحراويّاً. أفقٌ مترامٍ بالبدوِ والخيامِ والمواشي والأحصنةِ والجِمال، هل هذا التحوُّلُ هو بفعلِ ما دهمهُ من أفكارٍ فتحولَّتْ واقعاً، عَرف عن نفسهِ التكيُّفَ مع ما هو واقع، والتحركَ وفقَ الحالةِ الجديدة. ولكنْ كيفَ يكونُ الإخلاصُ لهذهِ الحالة، وقد فرَّ منه آخرَ ما يذكّرهُ بالعالم، أينَ الحقيبة، فهو الآن كمنْ أصبحَ عارياً لا ترتديهُ أيُّ ذاكرةٍ لما مضى قبلَ ساعةٍ من الآن، وبذا دخلَ نفقاً معتماً من النِّسيانِ لكلِّ شيء، ما عادَ يتذكَّرُ بأنَّه بانتظارِ سائقِ سيارةِ أجرة، ما يمرُّ به شيءٌ يختلفُ عن فقدانِ الذاكرةِ، الذي هو حالةٌ فرديةٌ لذاتٍ إنسانية، ما حدث.. إنَّ الطبيعةَ فقدتْ ذاكرتَها.

كلُّ جغرافيا أصبحتْ صحراويّةً، وكلُّ مدنيّةٍ أصبحتْ بدويةً، سارَ ذاهلاً لا يعرفُ نفسهُ، لا يعرفُ سوى أنَّ عليهِ أن يسير، وكالمسطولِ تقودهُ قدماهُ، اقتربَ منهُ رجلُ يعتلي فرساً، توقف قربهُ وترجّل، طالباً منه أن يصعدَ الفرس، ومضيا..

كالمتطامنِ لحالهِ الجديدة، أخذَ ينظرُ لما حوالَيْهِ، إنَّها صحراءُ العربِ، كما قرأَ عنها، أو كما شاهدَها في الأفلام، يتنقلونَ من موقعٍ إلى آخر، بحسب الماءِ والكلأ. أولى خَطراتهِ، كانتْ إلى أينَ يذهب، ومن ثّمَّ إلى أين يعود، هو ذاهبٌ لأجلِ الذهابِ فقط، فالصحراءُ تُغري بالمسير، ليسَ هناك محدّداتٌ اصطناعية، ولكنه لم يستطعْ تعريفَ تلك المحدّداتِ بما يُسَمّى مدينة. فقدانُ الجغرافيا أو هبوطُ جغرافيا بديلةٍ أدّى إلى فقدانِ الذاكرة، أو هبوطِها إلى مرحلةِ (الزهايمر).

في غمرةِ خطراتهِ التي بدأتْ تتدفقُ، بما يمكنُ لها أن تصدَّ تيارَ تآكلِ الذاكرةِ فيه، نسيَ أن يفتحَ حديثاً مع صاحبِ الفرس، الذي أنقذهُ من السيرِ راجلاً في بيداء، لا يتذكرُّ بأنّه قطعَ شبيهةً لها في حياتِه.

سأل صاحبَ الفرس من أينَ أتى، فأجابَ:

- لا أدري، وجدتُ نفسي قربَك، وأنا أعتلي فرساً، وكمن يقومُ بعملٍ يعيشُ من أجله، طلبتُ منكَ أن أساعدكَ على صعودها، وأنا أترجّل، كمن يطلبُ أجراً على ذلك، أو لأنّكَ كبيرُ السّن، وأنا ما زلتُ شابّاً.

-أجر؟ تساءل - ولكنني لا أملكُ شروى نقير، كما تقولُ العرب.

حاولَ الشابُ التفكيرَ في معنى هذا، أي في تحديدِ العلاقةِ بينهما الآن، لكنّهُ أقلعَ عن التفكير، بالقول:

- لا يهم، إنّها مساعدةٌ لرجلٍ مسنٍّ مثلك.

شكرَ المسنُّ الفارسَ الشاب، بحسبِ تحديدِ الأخيرِ للفارقِ بينهما في السّن، لأنَّ الأوّلَ لا يعرفُ قبلَ لحظاتٍ هذا التحديد، ولذا بادره بالقول:

- إلى أين نحنُ ماضيان؟

فأجابهُ الشاب محتاراً:

- أنتَ الذي يحدُّد ذلك، لا أنا، إنْ قلتَ لي عدْ، سنعود..

فكَّرَ المسنُّ بالأمر، فقال:

- هذه صحراءٌ مفتوحةٌ قد نتيهُ فيها، إن مضينا بعيداً، عن نقطةِ انطلاقنا، وأينَ هي، لقد عفتْها الرمالُ المتحركة، تبّاً لها- قال - كأنَّها ماسحةُ الذاكرة.

ثم استغرقَ في التفكير، كمن يريدُ أن يبعثَ أمراً ما زالَ في المنطقةِ الرمادية، ومن ثمّ دمدمَ بصوتٍ عالٍ:

- هذا فعلٌ شيطاني. مسحَ الذاكرة، ليصبحَ كلُّ شيءٍ عايشناهُ من آلامٍ ومآسٍ في قبضةِ النسيان، لتصبحَ ذاكرتنا صفريّةً، كي يُعادَ ملؤُها من جديدٍ بأطنانٍ من المآسي المحليةِ والمستوردةِ، يا إلهي.

كان الشابُّ يُصغي باستغرابٍ وذهولٍ إلى كلماته، وكأنّها وصفٌ دقيقٌ مثلما هو حزين، لحالهما الآن.

لنعدْ- قالَ - بحزمٍ، قبلَ أن تمسحَ الرمالُ المتحركةُ كلَّ شيء، لنعدْ إلى نقطةِ الانطلاق، قبلَ أن تجرفَها الرّمال، وقبل أن تغيب الشمس، فنكون بين فكّي ليلٍ قد يغيب فيه القمر، وصحراء أقلَّ ما يقال عنها، إنّها مفترسةٌ، بكوابيس وحوشها التي ستحاصرنا من كل الجهات. هيّا.. لكي نفوِّتَ على الفعلِ الشَّيطاني فرصةَ مسحِ ذاكرتنا تماماً، لقد عرفْنا لعبتهُ، لم تعدْ لدينا القدرةُ على البدء من جديد – وأضافَ- ليس من المعقولِ أن ليسَ هناك نقطةٌ دالّة ..

3

إختطّا طريقَ العودة، قبلَ أن يشتَّدَ هبوبُ الرّياح، فتهيّج الرمالَ المتحركةَ وشهوتَها إلى محوِ كلِّ شيء.. دقّقا النظر، وكلاهما فيه لهفةٌ في العثورِ على نقطةِ إنقاذٍ لمسارِ حياتهما، فلمحَا من بعيدٍ، نهيراً جنوبيَ الرُّقعةِ التي انطلقا منها، فأسرعا المسير، كان على الفرس أن يشدُّ لجامَه، أمّا الشابُّ فكانَ يعدو.

حين اقتربا ممّا يَقصدان، وجدا ذاهلينِ أنَّ أناساً كثيرينَ، سبقوهم في التجمعِ قربَ النهير، فاتَّضحَ أنَّهُ يتشكَّلُ من غدرانٍ، تجمَّعَ الناسُ بخيامِهم قربَها.

لا يعرفُ كيف قادتهُ قدماهُ إلى خيمةٍ بعينها، وجدَ فيها امرأةً وثلاثَ بناتٍ وولدين، هم ستةٌ إذاً، قبلَ أن يدلفَ، التفتَ إلى الوراء، فوجدَ أنَّ الشابَّ وفرسه قد ابتعدا، كمن يبحثانِ عن موطئِ قدمٍ لهما في هذه الخيام.

 واكتشفَ أنَّ هناك صلةً جاذبةً بينهُ وبين المرأةِ والأولادِ والبنات، وأنَّ التجمعَ البشريَّ ينعشُ الذاكرةَ رويداً رويداً. وكأيّ فعلٍ عفويٍّ، مثلِ الأفعالِ التي قامَ بها اليوم، بتلقائيةٍ حتّمها فقدانُ الذاكرة، كمنْ رصيدهُ صفريٌّ في هذه الحياة، فركَ، بيديهِ الناحلتين، عينيهِ التائهتينِ، بين ذاكرةِ مدينةٍ وحاضرِ صحراء، كي يطردَ عنهما نعاساً أو شكّاً من أنَّ بصرهُ قد أصابهُ الزّوغان، إذ وجدَ نفسهُ، بغتةً، في غرفتهِ الدافئةِ ذاتَ البناءِ الكونكريتي، أسرعَ للخروجِ من الغرفة، هابطاً سُلَّماً متيناً، فاتحاً باباً رئيسة تؤدي إلى فناء بيته الصغير، وهرعَ إلى بابِ البيت، فتحهُ، فذهلَ إذ رأى المدينةَ قد عادت، حاولَ أن يتذكر، حاولَ أن ...

لم يبقَ في مخيّلته سوى صحراء.. ففكّرَ في نشر سبقٍ صحفيٍّ في الصحيفةِ التي يعملُ فيها، يكون حصيلةَ عصارةِ ذاكرتهِ: تراجعُ الغزوِ الصحراويِّ للمدينة، بعد احتلالٍ دامَ يوماً كاملاً.

***

قصة قصيرة 

 باقر صاحب

خلال الفترة الأخيرة لم أعد أحتمل صوت أفكاري، أشياء غريبة تحدث معي ويبدو أنّها تقودني الى الجنون.

كانت ايزلي تنصت بانتباه الى ما تقوله حنين، زائرتها التي ظهرت من العدم وألقت على رأسها سؤالا محيّرا دفعها بعد تردّد قصير لدعوتها للدّخول. طبيعة عمل ايزلي كمعالجة نفسيّة جعلتها تتعامل بمهارة وبشيء من المرونة مع هذيان تلك الشّابّة والتّشتّت الذي بدا جليّا على عينيها وحركاتها اذ قد سبق وأن مرّت عليها عديد الحالات المشابهة لحنين وتعلم ما يمكن أن يمرّ به المرء، وخصوصا النّساء، في هذا السّنّ المُربك. فقرّرت أن تنزع تطلّعاتها لذلك المساء وترتدي ثوب الأخصائية النفسية ذلك أنّ أخلاق المهنة تجبرها على أن تستجيب لمثل هذه النداءات غير المتوقّعة.

جعلت كلمات حنين تخرج مرتعشة ثمّ تنكسر فوق شفتيها رغم محاولاتها لكبح انفعالها.

"- ثلاث مرّات هذا الأسبوع، لقد زاد الأمر عن حدّه. نوبات الهلع هذه تستنزف جسدي. في كلّ مرّة أفقد فيها السّيطرة على نفسي أشعر وكأنّ عالمي على مشارف الانهيار وأنّني أخسر كلّ شيء. فجأة تتمدّد احدى مخاوفي الّتي أستمرّ بقمعها وتغمرني بالكامل حتّى تبدو حقيقيّة ومرعبة. إنًني..

وقفت حنين وجالت بعينيها حول الغرفة ثم صمتت لوهلة وكأنّها تحاول التّذكر أو الهروب ممّا كانت ستبوح به.

خطت بقدميها الى الأمام وأدارت ظهرها كأنّما تتحاشى النّظر في وجه ايزلي بينما كانت الأخرى تتابع حركاتها بتمعّن.

- "أكملي".. قالت ايزلي محاولة الحفاظ على ملامحها المحايدة بعد أن استفزّ الصّمت المفاجئ فضولها " كلّ ما تقولينه سيبقى بيننا لا حاجة الى الخوف أو التّردّد."

أخذت حنين نفسًا عميقًا ثمّ قالت وهي تُدير خاتمها ذي الجوهرة الزّرقاء حول اصبعها:

"أعتقد أنّني أعاني نوعا غريبا من الفصام، إنّني أرى أشياء لا يُمكن أن تكون حقيقيّة. أشعر وكأنّني أعيش في عوالم متداخلة. أحداث الماضي لا ترحل يا سيّدة ايزلي انّها لا تمرّ! تظلّ تلاحقني وتلتفّ حولي كظلّ لا يغادر. تصرخ بي وتؤنّبني كلّ الأشياء الّتي لم أخترها بينما تهزأ بي اختياراتي الضئيلة.."

أخفت حنين وجهها بين كفّيها وأكملت هامسة: أصوات ضحكهم لا تتوقّف إلّا نادرا. البارحة أيقظني صوتٌ ينادي باسمي كنت وحيدة في المنزل لكنّني أعرف صوتها."

سألتها ايزلي وقد ارتسمت في عينها نظرة تجمع بين الحذر والاهتمام:

- صوتُ من؟

اقتربت حنين من ايزلي وكأنّها ستبوح اليها بسرّ ما:

"-صوتي. انّها أنا الّتي كان يجب أن تحلّ محلّي. لكنّها الآن تقيم في مكان بعيد، مكان لم أذهب اليه سابقًا رغم شعوري بأنّه مألوف جدّا."

شعرت ايزلي بقشعريرة خفيفة سرعان ما أخفتها بإيماءة مشجّعة، وقبل أن تتكلّم أكملت حنين:

"كلّما نظرت الى مرآتي، أشعر أنّ الشّخص الّذي يحدّق بي ليس أنا. أحيانا أراها أكبر سنّا وكأنّها تحمل ذكريات لا تخصّني."

شعرت ايزلي بالاختناق للحظة، لطالما راودها الشّعور ذاته، ذلك الانفصال عن انعكاسها في المرآة.. تمالكت نفسها وحاولت تجميع كلماتها بحكمة ذلك أنّه يجب عليها دائما فصل مشاعرها الشّخصيّة عن مشاعر المريض..

"-حنين، يبدو أنّكِ عرضة لضغطٍ هائل. ما تصفينه قد يكون مرتبطا بشيء دفين بداخلك، رغبة هي أو ذكرى قديمة أو حتّى خوف. فكّري جيّدا.. فلنعُد قليلاً الى سنوات طفولتك."

صمتت حنين كي تفسح المجال لذاكرتها بأن تمتدّ الى جذور الطّفولة البعيدة.. ثمّ عادت تلفّ الخاتم حول اصبعها بانفعال وقالت:

"-حين كنتُ طفلة كنتُ أهرب دائما الى الحديقة وأجلس بجانب شجرة التّوت.."

"-ممّا تهربين؟"

سألتها ايزلي بانتباه وكأنّما أمسكت بطرف الخيط الذّي سيوصلها الى حلّ لغز مهمّ. واصلت حنين وكأنّها لم تسمع السّؤال:

-" أذكر أنّني كنت أشغل نفسي بعدّ حبّاتها حتى لا أسمع صراخ أبي وشتائم أمّي " حبّة اثنتان ثلاث... فلتعلمي أنّني باشرت بالفعل باجراءات الطّلاق! لم أعد أحتمل ادمانك على الكحول ولا عجزكِ المقيت عن القيام بدورك كزوجة..

أُكمل العدّ بصوت أعلى حتّى لا تتسلّل بقيّة الكلمات الى أذنيّ "أربعة خمسة...سأترك هذا المنزل، إنّك وغد حقير لا أريد شيئا منك ولا حتّى ابنتك."

كُنت أشد على أذنيّ حتّى تؤلمانني وأنا أحاول عبثا اخراج الكلمات من رأسي. شعرتُ بنفسي عبئا قاتلا على والديّ. لم يكن هنالك أحد لينبّهني الى أنّ الذّنب ليس ذنبي بل كنت أشعر أنّ وجودي يذكرهما بالخطأ الجسيم الّذي ارتكباه وأنّني سبب شجارهما..."

نظرت حنين الى ايزلي نظرة تحمل في طيّاتها شيئا من المعنى فوجدتها جامدة الملامح ولاحظت حجوظ عينيها وقد تراءت في احداهما دمعة مُجهَضة.

كانت صورة تلك الشّجرة واضحة جدّا في ذاكرة ايزلي بل إنّ تلك الكلمات ظلّت تحفر عميقا وتتغلغل الى نقطة دفينة في عقلها..

"- سيّدة ايزلي هل من خطب ما؟"

أفاقت ايزلي من سهوها الذي سحبها منه صوت حنين. فنظرت إليها وهي تتفرّس في ملامحها علّها تقتلع من بينها جوابا على كمّ الأسئلة الذي انهال عليها دونما انذار.

"-من...من هُما والداك؟"

همّت حنين بالإجابة لولا مقاطعة صوت رنين هاتفها الخلويّ. انتفضت الفتاة بسرعة وحملت حقيبتها وقالت وهي تغادر:

"- يحب أن أرحل، سأزورك في يوم آخر. مازال لديّ الكثير لأخبرك به يا سيّدتي. الى اللّقاء."

أغلقت الباب خلفها ثمّ تتالت طرقات خطواتها على السلّم حتى انطفأت بينما ظلّت ايزلي قابعة في مكانها. شعرت بالاختناق وهي تستعرض على نفسها ما روته زائرتها.

كيف يمكن أن تكون قصّتهما بهذا التّطابق المريب؟ أتكون محض صُدفة؟ وهل يمكن للصّدفة أن تكون دقيقة حتى يصل الأمر بأن تطرق بابها وتجلس على كرسيّها؟

حاولت أن تطرد الهواجس المزعجة الّتي يُسرّ بها عقلها وبينما همّت بالنهوض وقعت عيناها على خاتم حنين ملقى على الكرسيّ الّذي كانت تجلس عليه.

"لابدّ أنّه وقع منها بينما كانت تروي لي تلك القصّة"

دنت من الخاتم حتّى تلتقطه فما ان وقعت يدها على قماش الكرسي حتّى أدركت أنّه مازال باردا، وكأنّ أحدا لم يكن يجلس عليه من الأساس..

يتبع

***

مريم عبد الجوّاد - تونس

 

نهر الحب المضيء

لن ينضب

لن ينضب

مهما ابتكرت

بنات اوى

الثعالب والذئاب

من اساليب مكر

خبث وخديعة

ومهما عوت

في البراري

والواحات

في الضفاف

وفي الطرقات

الثعالب

فشعاعي قوس

قزح الصباح

والشفق الازرق

سيعكسان على

جدار الحقيقة

نواياها

وايايل وغزلان

المرج المضيء

ستعزف على

نايات وقياثر

قلوبها

لحن هزيمة

الثعالب بنات

اوى والذئاب.

***

سالم الياس مدالو

 

إنـنـي الـمـشتاق عـيـناكِ سـلامـي..

ولـــهــذا هَــجَــر الــحــبّ كَــلامــي

*

قــد قـسـى قـلـبي فـماذا قـد يـعيدُ

نُـضـرة الــروح لـقـلبٍ فِــيَّ ظـامـي

*

حـيـنـمـا أنْــظُــرُ نــجــلا يـسـتـفيق

لـهبٌ فـي أحـرف الإحساس حامي

*

ويــثـيـر الــــروح شــجــوٌ بـنـشـيـدٍ

فـي حـنايا الـذاتِ مـن جمر هُيامي

*

فــهـلـمّـي لا تــظــلّـي مــثــل بــــدرٍ

قــد تـخـفّى خـلـفَ أســراب الـغمامِ

*

وأزيـحـي عـن رمـوشي كـلّ حـزني

حـيـنـها ســـوف تُـداويـهـا كِــلامـي

*

بــحـديـثٍ مــنــكِ حــلــو ولـطـيـف

تـسـتريح الــروحُ يــا بـنـت الـكـرامِ

*

لا تـغـيبي قــد مـللت الـصبر عـمري

سوف يدنيني التجافي من حِمامي

*

وابـعـثي لـي كـلّ حـينٍ مـنك شـيئا

هــاتـفـي يــشـتـاقُ رنـــات الــغـرامِ

*

إذ يـــرنُّ الـهـاتفُ الـمـشتاقُ قـربـي

أحـسـب الـكـفين مـنّـا فــي الـتـئامِ

*

أسـمـعُ الـصـوتَ كـلحنٍ فِـيَّ يـسري

تــنـصـت الــــروح إلــيــهِ بـاهـتـمامِ

*

يـنـشر الـفَـرْحَ بـروحـي مـثـل نــورٍ

يـرقـص الـنبض وصـوتي بـانسجامِ

*

اذكــــري حــيـن تـقـولـين حـبـيـبي

صـوتـك الـتّـحنانُ يُـهديني مـرامي

*

اذكـري الأنـفاس حـرّى فـي فـؤادي

تُـخـرِج الـبـوحَ شـعـورا مــن ضِـرامِ

*

أطــفـئـي نــــار اشـتـيـاقـي بــلـقـاءٍ

فــي رحــاب الـحبّ يـا بـدر الـتمامِ

*

عـانـقـي الـــروح بـعـشـق أدفـئـيـها

راكَــمَ الـبـعدُ شـتـاءً فــي عـظـامي

*

لـيـفيق الـزهـر فــي نـبض عـروقي

ويـفـوح الـحـرف بـالعطرِ الـخزامي

*

هـانـت الـدنـيا بـعـيني دون عـيـني

هـل أراهـا؟! قـد دنـا فـصل الـختامِ

***

صـلاح بن راشـد الـغـريـبـي

 

كان الطريقُ ضفافاً

والذكرياتُ نسائمُ بردٍ لا تهابُ

*

تقبلُ الأضواءُ شفاهَ الماء،

راقصةً

غيداءَ راكضةً

كمقبض السيفِ خصرُها

والطولُ رماحُ

*

لولا الظلامُ،

لقلت فراشةٌ بين نسائمِ العطرِ ترتاحُ

وأخرى تحنو على كلبها،

كجدولِ الماءِ رقراقُ

*

أخبرني الليل

أن النجمَ يسطعُ

وصوت الطير صداحُ

*

تيممتُ بالبرد

فحط الله بين يديَ

الشمسُ ترتاحُ

*

مللت بحور الدم قالَ

وصوت الحزنِ ذباحُ.

***

كريم شنشل - الدنمرك

 

أحدث الطيور:

أن جناحي مجرّد رماد،

لا يعلو،

ولا يُسافر.

*

أجمع كلماتي،

أحملها كمن يحمل غيمًا،

أمضي فارغ اليدين

تحت قناع غامض،

مرتعبًا من ظلي،

أنصت لخطاي تتبعني

ولا أدري،

أترافقني النجوم

أم يبتلعني

ظلي.

*

هاك بعضًا من رمادي،

أعطني شعلة،

أو غرفة ضوء،

فما لي غير النور المكسور،

وما حولي سوى بقايا

تركها العابرون بلا ظل.

*

خذ ما تريد مني،

أعطني بقايا عطرٍ لنسمة،

لأتنفس ذاكرةً وحيدة،

فأنا مذ خمسين وجعًا،

أعبر فوق الكلمات،

أجلس على موائد الغياب،

وفي كل لقمةٍ طعمُ الحنين.

*

متى يا ربّ

نتخلى عن ذكريات الأيام،

نشرب مراراتنا

ونحن مغمضو العيون،

ولا نحفظ سوى الأحزان،

وحدها تلوّن ليالي الصمت

وتحاصرنا كقرى منسيّة.

*

أيامنا غادرها الصباح،

خانها الورد القابع خلف الفواجع،

وحكاياتنا تئنّ،

نكسيها بأمل مزيّف

لغدٍ يختلس دموعنا،

حتى من أحلامنا المؤجلة.

***

د. جاسم الخالدي

 

كان الأرقَ رفيقها كظلٍّ، لا يريد ان يفارقها لذا لم تستطع أن تغفو. رغم إرهاق السفر ومشقّاته، والظروف الجوية القاسية التي رافقت رحلتها، والتي لاحت لها، كأنها تختبر صبر انتظارها الطويل الذي بدا ممتدًا كأفق بلا منتهى. 

تركها بمفردها في غرفة الفندق لفترة، بدت كاستراحة لالتقاط الأنفاس، ثم عاد ومعه مسؤول التنظيم، الذي كان زوجها نائبًا له في إدارة شؤون الرفاق في الفندق. لم يمضِ وقت طويل حتى امتلأت الغرفة بالوجوه المرحبة بسلامة وصولها. ظنًا منهم ان دفء الرفقة قادر على ان يعيد للروح طمأنينتها المبعثرة.

 سرعان ما غُمرت الغرفة بأصواتهم الصاخبة، وتزاحمت قناني الشراب وتصاعدت في فضائها سحب الدخان، كأنها تخطّ حدود عالم جديد يفتقر للهواء النقي. احست بالاختناق، واجتاحها شعور بغثيان غريب، مما جعل تفاعلها مع هذا المشهد باهتًا، كأنها غريبة عنه، او أنها كانت تشاهد مسرحية لا دور لها فيها.

انزوت في زاوية السرير، الذي تقاسموه معها للجلوس، مربكة ومشوشة تصارع الضجيج الذي انبثق داخلها. حاولت ان تلملم شتات ذاتها وسط هذا الواقع الجديد، واقعا بدا غريبًا وهي تشعره كضيف ثقيل يفرض هيبته عليها بكل قسوته وجبروته، لكنه أيضًا، يمكن ان يكون بوابة لإدراكٍ جديد، ونقطة تحوّل ربما لم تتكشّف بعد.

كان انتظار انصراف الضيوف طيف أمل يتراقص أمامها كمنقذ عاجل، حينما اجتاحها شعور مُلّح بالحاجة إلى الاستحمام، كأن الماء وحده بوابة للنجاة مما هي فيه. حين خطت نحو الحمام المشترك في الفندق، لم تلتفت إلى وجود بعض الشباب البلغار في الرواق؛ لكنها لم تلق بالًا لهم، إذ كانت خصوصية اللحظة التي منحها إياها إغلاق الباب كافية لتغمرها بشعور من الأمان المؤقت. خلعت حليّها بهدوء ووضعتها وهي ساهمة على رف مغسلة الحمام الصغيرة.  جلست على البلاط وسمحت للماء الساخن أن يتدفق بشدته عليها، أملا في تبديد ما فيها من ثقل. اختلطت دموعها المنسكبة مع تيار الماء المنهمر، كأنها كانت تطهّر روحها، وتغسل همومها، وتحرر أحزانًا لم تجد لها منفذًا سوى في هذا الخفاء الرقيق.

فجأة، اخترق الطرق العنيف على الباب هدوءها، فتشظت لحظات سلامها الداخلي كزجاج رقيق، متناثرة واياه في زوايا الحمام. ارتفعت أصوات بلغارية غاضبة تطالبها، كما فهمت، بسرعة الخروج. تسرّب إليها شعور مرير بانعدام الأمان. عادت إلى الغرفة لتجد إصبعها عاريًا، لقد اختفى خاتم زواجها، تذكرت كيف انها ارتدت ملابسها على عجل وهرعت إلى خارج الحمام، غافلةً عن اخذ حليّها. اسرعت علها تستطيع استرجاع ما نسيت، الا انها لم تجد سوى بخار الماء يتلاشى، كأن ذكرياتها القديمة تتبخر معه، تاركة خلفها فراغًا لخسارة لا تعوَّض.

حزنت لفقدان حليّها واعتبرته نذير شؤم، خاصة أن العقد كان يحمل أسم زوجها. أخبرته بما حدث، فقابلها بتجهم وصمت. طلبت منه أن يخبر إدارة الفندق علهم يعلمون شيئا عنها، لكنه اكتفى بعبارة مقتضبة: "سأفعل".

مع خيوط الصباح، سعت من جانبها جاهدة بالسؤال والبحث عنها، لكن مساعيها باءت بالفشل ومحاولاتها تلاشت كسراب. لم تجد سوى الخيبة.

بمرور الوقت، لمحت عوائل مهاجرة تتواجد في المكان الذي هي فيه؛ أطفال يلهون ونساء حوامل يخطون نحو مستقبل مجهول كحالتها. كان لهذا المشهد وقعا إيجابيا، مدعّما ومشجّعا ومخففًا عما هي فيه من توحد، كأن نبض الحياة الجماعي يربّت على قلبها ويمنحها أملًا وعزمًا على التواصل.

كانت تجربة الحياة وسط هذه المجموعة الغريبة من الرفاق تحديًا بحد ذاته بالنسبة لها، انه أشبه برحلة عبر أمواج متلاطمة، تحدٍّ لا يهدأ. صحيح أنهم كانوا يجتمعون حول فكر مشترك واحد وهدف محدد، لكن تبايناتهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية واضحًة كاختلاف بصماتهم. فقد تمايزت طباعهم واختلفت أمزجتهم، وتباعدت سبل مواجهتهم للواقع. بين من يُخفي طموحاته الانانية تحت ستار الرفقة، ومن يرى في الظروف الفوضوية المتقلبة فرصة لجني المكاسب، حتى لو داس على أحلام الآخرين وطموحاتهم التي يستحقونها بجدارة. مع ذلك، كان التعامل معهم يُشعل داخلها شعلة إدراك جديدة لقوة متطلبات التعايش الرفاقي ومرونة الروح.

كما لاحظت، مع مرور الأيام، أن من بين ساكني الفندق او زواره وجوهًا معروفة ولامعة، لا تضيء في سماء العراق فحسب، بل وتمتد بألقها إلى آفاق العالم العربي في الأدب والفن والمسرح، غير أن هذا البريق لم يبدد تمامًا ظلال التوترات والمصالح الانانية الكامنة في الشللية والنميمة، وهي تنمو كالأشواك بين الورود، والتي كانت جزءًا من يومياتهم. كما وانسلت صور التقارير الكيدية كهمسٍ مسموم يهدد تماسكهم، ويمزق لحمتهم. رغم ذلك، بقي هذا المجتمع لوحة معقدة من الطموح والإبداع، تجاهد ملامحها المتشابكة لتظل متألقة رغم التشققات والخدوش.

 كان توخّى الحذر يحيط بكل خطوة يخطوها الرفاق، خوفًا من عيون النظام العراقي التي تتربص بهم او تندس بين صفوفهم، في غفلة منهم. كما وكانت قواعد السلامة والأمان والسرية صارمة لا تقبل التأويل والاستهتار: لذا تم الإبقاء على استعمال الأسماء الحركية ليس لحماية الرفاق في صوفيا وحدها فحسب بل ولأسرهم وعوائلهم في العراق. لذا فان الرصد المتواصل للزوار الغرباء، ومنع الخروج الفردي للرفاق ملزما للجميع. ومع كل ذلك، كان في قلب تلك الظلال القاتمة والرؤيا المشوشة لحظات من التآلف الصادق، كالسهرات والزيارات العابرة، التي جلبت نورًا في ليل الغربة، وأفسحت المجال للتعارف والتآخي، فكانت راحة للقلب وسط العزلة، ونسمة هواء تنعش الأرواح.

 مرة وهي تجاذب أطراف الحديث مع امرأة كانت قد رافقتها، في أحد الأيام، مع أطفالها للتسوق، بسؤال جفلت من توقيت طرحه، ومثل لها صدمة شخصية غير متوقعة هز كيانها، الامر الذي استدعى منها، مذ ذاك، التأهب والتثبت من اسئلة الاخرين وحديثهم وآراءهم، بل والنظر الى ذلك بعين من الحذر والترقب.

قالت المرأة:

ــ في الغربة، أصبحنا أكثر حبًا وانسجامًا مع بعضنا (تقصد هي وزوجها)، مضيفة، ان هذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لما استجد من حياتنا هنا.. ولكن ماذا عنكما؟"

فوجئت بسؤالها وكأنها تغمز من طرف خفي الى شيء ما، يستوجب التوثق منه!

كانت كلمات تلك المرأة ثقيلة على قلبها كالصخور، نطقتها وكأنها تدس شيئا ملوثا بالريبة والظنون بين عباراتها.

ابتسمت، وأجابتها، دون أن تفصح عن عمق ما تحمله الكلمات من صدى في داخلها.

ــ بالطبع، الحب والانسجام كانا حاضرين دوما، ولا زالا منذ اللقاء الأول لنا، ثم أنى سأضع قريبًا طفلًا، سيعزز، بالتأكيد لحمتنا واواصر ما يربطنا ببعض أكثر فأكثر.

أسْرَت بها الذاكرة إلى مواقف قديمة، حيث تساءلت مع نفسها صادقة عن اخفاقاتها، ان كانت لديها ثمة إخفاقات، او عن أخطائها المحتملة، ربما، تلك التي ارتكبتها بمسحة العفوية، او التي تعمدتها بغموض مبطن، لتستدعي ان تطرح عليها هذه المرأة مثل هذا السؤال. هل هي من ضمن شكواه للآخرين التي طالما اعتادها من قبل. عادت لتستكشف خزين ذاكرتها وهي تستعيد شريطا متيقظًا من حياتها معه.. ما السبب يا ترى وراء اثارة مثل هذه الأمور من قبل الاخرين، اولئك الذين ما ان تتوطد علاقتهم بهما حتى تنزف الأسئلة المربكة من أحاديثهم. أهي وساوسه القاتلة ام غيرته الطائشة.. او ربما ذاك الشك الذي كان يلازمه على الدوام اذا ما ضمتنا حلقة من الأصدقاء والمعارف. انها اللحظة الفارقة، التي ربما جاءت متأخرة.. لحظة إدراكها للأمر الذي ظل مستعصيا عليها لفهم ما هي فيه، او ما هو عليه، والذي أصبح فيه الزمن شاهدًا على ما مضى..

**

سعاد الراعي 

..............................      

* رابط القسم الأول من رواية "بين غربتين"

https://www.almothaqaf.org/nesos/978832

(مُهداة إلــى من نعتني بشاعر الحب والجمال الشاعر عبد الستار نور علي، أحد الأسماء البارزة في الشعر العربي المعاصر. أقول له شكرا

وشرفٌ لي أن أكمل مسيرة شاعر الحب والجمال الأول بشارة الخوري، الملقّب بالأخطل الصغير)

***

تجلّي الصمت:

لا تشغليني بالحديثِ لأننـــــي

في الصمْتِ يشغلني الهـــوى الغلّابُ

*

وأرى الجمال َ إذا صمت ُّ مفكّرا ً

إنَّ الحديث َ عن الجمــال ِ حجـــاب ُ

*

إنَّ التفكّر َ في الجمال ِ عبادة ٌ

تجلو الفؤادَ فتُفتــح ُ الأبــــــــــواب ُ

*

الحسْن ُ معنى ً كالمحبّــة ِ ساكن ٌ

أعماقنا لا صـــــورة ٌ وثيـــــــــاب ُ

*

إنّي ليبلغني التفكّـــــر ُ نشــــوةً

أضعاف َ ما تاتــــي به ِ الأكـــوابُ

*

كُثْــر ٌمحـاريبُ الجمال ِ وإنّمـا

الكون ُ كلُّ الكون لـــي محـــــراب ُ

*

سألوا : أأنت ِ حبيبتـــي فأجبتُهـم ْ

بالصمْت ِ، فالصمْت ُ العميق ُ خطاب ُ

*

إن َّ الإجابةَ َ حين َ يفتضح ُ الهوى

عبث ٌ ، ففي بعض ِ السؤال ِ جــواب ُ

*

ولكم أثاروا في غيابــــــي شكّهم

لِم َ قدْ عشقتُك ِ؟ مـــا هـي َ الأسباب ُ

*

إنّـــــــي أحبّك ِ هكــــذا بتجرّد ٍ

معنىً ، فما الأسمـــاء ُ والأنســــابُ

*

في الحب ِّ تنصهر ُ الفروق ُ ويختفي

نَسَــــب ُ الحبيــب ِ وتسقـط ُ الألقاب ُ

*

لا شئ َ غير ُ الحــــــــــب ِّ يجمعنا معــــا ً

إنْ لــــم ْ نعشْـــــــه ُ فإنّنــــــــا أغراب

*

***

تجلّي المكاشفة:

قالت صحبت َ العشْــق َقُلْــ

ــتُ وفيهِ يوما ً مُنتهــايْ

*

فصــــلاةُ عشقي لنْ يكـــــو

نَ وضوؤها إلاّ دمــــــايْ (1)

*

أُمْنيّتــــــي يــا نجمتــــــــي

أنْ تسمعي يوما ً نِـــدايْ

*

أنْ تتركي الفلك َ البعيــــــــ

ــد َ وتنزلـي حتّى سمايْ

*

ما عادَ لي وطـــن ٌ أحـــثُّ إليـــــه ِــ مُشتــــاقا ًــ خُطــــايْ

*

مــا عاد َ لِيْ وطــن ٌ ســوى

عينيـــك ِ أُنبئه ُ أســــايْ

*

في غربتي انطفـــأتْ قنــــا

ديلي أعيدي لي ضحايْ

*

مــا مِنْ حبيــب ٍ قبْل َ هــــ

ـــذا اليوم ِ تحضنه ُ يدايْ

*

لا تسأليني مــــن أنـــــــا

فـــي أيّ أرض ِ مُبتــــدايْ

*

مــا معدنــي ما ملّــــــتي

ما وجْهــتي ما مُبتغـــــايْ

*

أنا نسمة ٌ جذلــى أظـــــــــلُّ كمـــا أنـــا ....هـــذا مُنـــــايْ

*

أنــا مُنْـــذ ُ بـدْء ِ ولادتي

الحبُّ يسكنُ فـي حشــايْ

*

مَنْ يُصْغ ِ لِـي يومـا ً يَقُــلْ

قَـدْ أُنزِلَتْ للعِشْــــق ِ آيْ (2)

*

كمْ مرّة ٍ أصبحْت ُ كهْــــ

ــلا ً ثُم َّ عدْت ُ إلى صبايْ

*

كمْ مرّة ٍ قـدْ مُـتُّ في الــ

ــدنيـــا وأحيــاني هـــوايْ

*

بين َ الورود ِ وِلدْت ُ مِــنْ

نسْــــل ِ البنفسْــج ِ والـدايْ

*

إنْ تعجبي مِنْ سحْر ِشعْـ

ــري في سروري أوْ شجايْ

*

هو َ مِنْ لِسـان ِ الغيب ِ لمْ

يَصْــدَحْ بـه ِ أحــد ٌ ســوايْ

*

لمّـــا نطقــْتُ به ِ سَـرَتْ

أنغــــــامُـــــه ُ في كلّ نايْ

*

وترددتْ أصــــــداؤه ُ

حتّــــى المجرّة ِ يـــا مُنايْ

*

إنّــي أحبّــــك ِ مُرْغَمــــا ً

وإليـك ِ تدفعُني خُطايْ

*

انــا بانتظارك ِ أنْ تقـــو

ليـها ... أتيتُـــك َ يا فتايْ

***

(1) في البيت تلميح الى قول الحلاج وهو على الصليب...

ركعتان في العشق لا يصحّ وضوؤهما إلاّ بالدم

(2) آي جمع آية والآية: العلام

..................

تجلّي الوداع:

ولمّـــا احتوانــا الطريــقُ الطويــــل ُ

وغابَ المطــارُ مـــــع َ الطــــائــره ْ

*

غفـــتْ فوق َ صدري كطفـل ٍ وضمّتْ

يـــــديَّ كعصفـــورة ٍ حائــــــــــره ْ

*

أحبّـــــك َ ــ قالــــــت ْ ــ وأنفاسُـــــها

تطــوّق ُ أنفاســـــي َ النافــــــــــــره ْ

*

لأجلك َ أعشــق ُ نخْـل َ العـــــــراق ِ

وأعشــــــق ُ أهــــــــواره ُ الساحره ْ

*

وأعشـــق ُ مصْر َ لأنّــــك َ فيـــــها

تمجّـــــد ُ آثـــارهـــــا النـــــــــادره ْ

*

صمــتُّ وحــرْت ُ بماذا أجيــــــب ُ

تذكّــــرْت ُ أيّامــــــــي َ الجائــــره ْ

*

تمنيّت ُ أنّـــي نســـــــيت ُ الوجـــود َ

ونفســــي وعشــت ُ بلا ذاكـــــــــره ْ

*

فقلْــت ُ وإنّــي أحبّـــــــك ِ جـــــــدا ً

بكُثْـــــــــر ِ نجـــــوم ِ السما الزاهره ْ

*

مكـــــانك ِ في القلْب ِ يا حلوتــــــي

وليس َ ببغـــــــداد َ والقاهـــــــــــره ْ

*

وخيّــم َ حزْن ٌ علــــــى وجههـــــا

بلوْن ِ غيــــــــوم ِ السمــــا الماطره ْ

*

وقالت حبيبي إذا غبت ُ يـــــــوما ً

فلا تحْسـَــــبنْ  أنّـنــــــــي غــادره ْ

*

ولا تحـــزننْ سوف َ أأْتـــي إليك َ

وتشعــــر ُ بي اننــــــــي حاضــره ْ

*

سيحملنـي الفـــــلُّ  والياسميــن ُ

إليــــك َ بأنفاســـــــه ِ العاطــــــره ْ

*

وســـالت ْ علــى خدّهـــا دمعة ٌ

فضقْـــــت ُ بأفكـــــــاري َ الحائـره ْ

*

نظـرت ُ إليها أريــد ُ الجـواب َ

فردّت ببسمـتهــــا الســــــاخــــره ْ

*

قصــــدْت ُ المزاح َ فلا تقلقَـنْ

خيــــــالات ُ عابثــــة ٍ شاعــــــره ْ

*

أجبت ُ هو َ البحـر منتظــــــر ٌ

يريـــــــد ُ لقاءك ِ يا ساحـــــــــره ْ

*

هنالك ّ في المـــوج ِ نرمــي الهموم َ

وأوهـــام َ أزمنـــــــة ٍ غابـــــــره ْ

*

نخـــطُّ علـــى الرمْل ِ أسماءنـــــا

كطفليْــــن ِ في دهْشـــــة ٍ غامـره ْ

*

ونرشــف ُ في الليل ِ كأسَ الهوى

تســـامرُنــــا نجمــــــة ٌ ساهــره ْ

*

ويوقظنا البحر ُ عنْـــد َ الصباح

فنصغـــــي لأمـــــواجه ِ الهادره ْ

*

ومـــرّتْ على البحْـــر ِ أيّــامنا

ســـراعا ً وعادت بنـــــا الطائره ْ

*

فقـــدْ كان َ هــــذا اللقاء الأخير

فقــدْ رحلـــــتْ جنّتـي الناضــــرهْ

*

وليس سوى الجرْح يحيـــــا معي

كوقْـع ِ  السكاكين ِ فــي الخاصره ْ

****

جميل حسين الساعدي

قصيدتان ..

(1) أيا مصرُ!!

اذا ضجَّتِ الأنوارُ وارتفعَ البدرُ

فهلْ تدفنينَ الرأسَ في الرملِ يا مصْرُ؟

*

عهدناكِ أُمّاً قلبُها يوسعُ المدى

وأطفالُها دهرٌ يلاعبُهُ دهرُ

*

وانْ سارَ خطبٌ للبلادِ أتى لَهُ

ـ ليرجعَ مقهورَ الخطى ـ فتيةٌ سُمْرُ

*

أيا مصرُ مَن قالَ: الكريمُ مودِّعٌ؟

وفي كلِّ قلبٍ مِن مكارمِهِ ذِكْرُ

*

سلي دورةَ النيلِ العظيمِ وما سرى

لَهُ مِن فراتِ الله هل ينتهي السفْرُ؟

*

وقد كانَ في أصلِ الوجودِ بيانُهُ

واِقدامُهُ سرٌّ يَحارُ بِهِ السرُّ

*

اذا لمْ تكنْ شمسٌ يعزُّ بِضوئها

فتىً في ربى مصرٍ فلا أشرقَ الفجرُ

*

وماذا اذا غنّى المغني وصوتُهُ

ذليلٌ وفيهِ الليلُ خمرٌ ولا أمرُ

***

(2)      لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ ..

لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ

أمّا اعتراضُكَ أسبابٌ لَهُ عجبُ

*

لأنك العينُ ما خَلَّ الظلامُ بِها

ولا المظالمُ والتسويفُ والكَذِبُ

*

يا أيُّها المبصرُ الحاني وقامتُهُ

فوقَ العواصفِ مهما زختِ السحبُ

*

ويا فؤاداً بِكبرِ الكونِ، يارئةً

تنفَّسَ الخلقُ منها والردى يثِبُ

*

على البيوتِ فتغدو الأرضُ مقبرةً

وأنتَ فيها فضاءٌ أخضرٌ رحبُ

*

ضاعَ الكلامُ و باعَ الصحبُ أتعسَهُ

الى العدوِ، ولمْ يفقهْ بِهِ العربُ

*

وجرجرتْ زمرُ الاعرابِ خيبتَها

الّاكَ انتَ بسيلِ النورِ تنسكبُ

*

أرادَ يكتبكَ الكتّابُ أغنيةً

فما أنوصفتَ، وما كانوا، وما كتبوا

***

شعر: كريم الأسدي

عد خيبتين إلى الوراء، وتذكر،

كل الذين تركوك نصف فرحة، واعتذر

*

واكبر وحدَك، هذا ما قالته

لك الحكايةُ فإن نسيت، اعتذر

*

ولا تُحص هدايا انتظرتَها

ولم تصل أو قُبل

لا شيء لك، واعتذر

*

وقل للأغاني كفى ليلا

واحكِ للورد عن يأسك العاشق، واعتذر

*

وإذ تمشي إلى الذكريات ولا من أثر

إلا بقايا كذبٍ صدقته، اعتذر

*

اعتذر لمن خذلوك

قناعا، قناعا

ولا تعتذر لنفسك

***

فؤاد ناجيمي

 

دَعْ بلابلَ الشمس تُولدُ مِن حَنجَرَتي

لتُغرِّدَ نشيدَ السعادَة...

جُذوري من سُلالةِ الفرحِ

ومُنذُ ولادةِ فَجرِيَ

أَلِدُ النَغَمَ تِلوَ النَغَمِ

وأُحَوِّلُ الصمتَ إلى مِهرجان..

دعْ فراشاتِ نَيسانَ تَرفُلُ مِن عُروقي

لتُعانِقَ زَهرَ الَليمونِ

و حَمامُ الوداعَةِ يَرفُّ مِن فمي

لينشُرَ سَلاماً جَديداً

ويوقِظَ النائمينَ في كُهوفِ الظَلامِ

اِسمحْ لعصافيرِ القمرِ

أَنْ تُزَقزِقَ حُرَّةً

كي أَستَخرجَ أَيقوناتِ الفجرِ

من ذاتِيَ عَلى إيقاعاتِها

كيف أَشرحُ لك مشاعِري؟

وقَد وَأدتُها قبل أَنْ تولدَ؟

كيف أُغازلُكَ

ورَذاذُ الثلجِ

يُغطِّي مساحاتِ جسدي؟

سنونوات الحلم تنزف جريحة

على أعتاب قلبي

وزَهرُ الجُلَّنارِ يُحتَضَر

على وقعِ شهَقاتي

عطرُ إكليلِ الغارِ غادر جسدي

لا أستطيعُ عشقَكَ أَيُّها التائهُ عن ذاتكَ

أَنتَ مَن كسرَ أَجنِحَةَ الطيورِ

في خَفْق ِ قَلبي

وسرقَ نفحاتِ القَرَنفُل

من ربيعِ أيَّامي

جَفَّ رَحيقُ الزهرِ على شِفاهِ النَّحل

أَيُّها المُزَيَّفُ...

أَنا لا أُحسِنُ سِياسَةَ النِفاق ِ

وَلا كَياسَةَ التَنميقِ

ولا أُجيدُ أَدوارَ التَمَلُّق

ولا أُبدعُ في اِرتداءِ أَقنعَةٍ

لا تُناسِبُ استدارَةَ وجهي

***

برعمَ زهرٍ أَغفو بين أَكمَام النَّدى

لا تتفَجَّرُ يَنابيعُ أنوثتي

إلاَّ في أَحضانِ وطني

أَخافُ الاِقتِرابَ منك وخطُواتي

مُطَوَّقَةٌ بأَشواكٍ

رسَمتْ لوحَةَ دِمائي النازفةِ ...

حُرّاسُكَ يَحرقونَ ياسمينَ خاصِرَتَي

وَأَسلِحَتك تَقصِفُ أَعوادَ الرَياحين

بأَيّ حَقٍّ تُجَدفُ في بحاريَ

وتَصطادُ اللُؤلؤَ مِن يَمِّ أَحلامي؟

لَنْ أقبّلَكَ

وأَنتَ تَسرقُ كُلَ صباحٍ

شَقائقَ النُّعمانِ مِن دَمي

وتخطفُ عطرَ البخورِ مِن أنفاسي

أَيُّها الحالِمُ ...

لن أَذوبَ مثلَ الشَّهدِ بين شَفتَيكَ

وأَنتَ تَقطفُ كُلَّ مساءٍ الحَبَقَ مِن بَسَماتي

ولن أُؤمِنَ بكَ وأَنتَ جَلادٌ مُحتَرِفٌ

أَيُّها الغاضِبُ مِن سُلالَةِ نَيرون

كيف أُضيءُ شُموعِيَ في مَخدَعِكَ

وأَنت تُطفئُ نورَ أَفكاريَ

وَتَحبسُ هواء حُريَّتي؟

تَفصلُ بيني وبينكَ ..

مئَةُ سَنةٍ ضوئيَّةٍ وآلافُ القُرونِ

أَنت خانِقُ الأَرواحِ

وأَنا سَلوى المُعَذَبينَ

لا نلتَقي تَحتَ سَماءٍ واحِدَةٍ

ولن أَمنَحَكَ قَلبيَ وَأَنتَ جَزارٌ ماهِرٌ

في جرح المَشاعرِ والأَحاسيسِ

وَفنانٌ بارِعٌ في تَتبيلِ خَلطَةِ الذُّلِ في صُحونِ الغشّ

روحي خالِدَةٌ مُنذُ الأَزَلِ وما تَزال

لن أَركعَ في محرابِ ذُكورَتِكَ

ولَنْ تَحلَمَ بقَطفَةِ زَيزَفونٍ مِن عُنقِي

اِرحَلْ عني أَيُّها الجاهِلُ

أَنا لَستُ نَعجَةً طَريَّةً للاِلتِهامِ

لَحمي مُرٌّ وزُعافٌ مُميتٌ لحَضارَتِكَ الزائلةِ

لنْ أَسمَحَ لكَ

بالزَّرعِ في أَرضِي وَأَنتَ مستعمرٌ دخيل..

ارحل ودَعِ اليَماماتِ تُحَلِّق

إلى ما فوق النُّجومِ عَزيزَةً

وأَعِدِ القَمرَ لإمارَتي المَسلوبَةِ..

اِرحَل.. لقد ولَّى عَهدُكَ

وماعادتْ لنعناعِكَ نَكهَةٌ في مَذاقي

***

سلوى فرح - كندا

 

جَنى المأمونُ فيها دونَ حِلْمِ

فترْجَمَها وفلسَفها بظلمِ

*

بتأويلٍ وتَعقيلٍ وجَبرٍ

وإمْعانٍ براعيةٍ لوَهمِ

*

دَعى شُهبا لمُعتَزَلِ النوايا

ومَنْ يأبى تولاهُ بنَقمِ

*

ومِحْنةُ خلقهِ فتكَتْ بجيلٍ

بمُعْتصمٍ وواثقها بتُهمِ

*

وإبْن سَليطها أفتى بقتلٍ

لمَنْ أدْلى بصادقةٍ وفهمِ

*

عَجائبُ فكرةٍ أزرَتْ بقومٍ

أصابتْ مَن يُعارضها برجْمِ

*

رموزٌ لامعاتٌ في رُبانا

توسّدتِ الثرى والسيفُ يُدمي

*

تبعْثرَ لبّنا والناسُ حَيْرى

تشوّهَ رأيُها ومَضى لعُقمِ

*

عَباقرةٌ تُضللها الخَطايا

فتحْسَبُ إثمها مَيدانَ عَصْمِ

*

إذا بلغتْ نواهيُها مُناها

تحيّرتِ المَزاعمُ بعدَ شكْمِ

*

تَجبّرَ واثقٌ وسَعى لنَطعٍ

وسيّافٌ يبادُرها بصَلمِ

*

ومُفتيها المُبجلُ باعْتزالٍ

يُسائلهم ويَدعوهم لختْمِ

*

فكمْ قتلوا إذا نَكروا لخلقٍ

فلا أزلٌ ولا قولٌ بعِلمِ

*

تراهمْ في بلاطاتٍ كبارا

عقيدتهمْ تبارتْ نحوَ حُكمِ

*

ومِنْ جورٍ إلى جَورٍ شديدٍ

كأنّ رجالها أفتتْ بجُرمِ

*

مَعاذ الله مِن خبَلٍ مُقيمٍ

أصابَ وجودَنا فيها بقصْمِ

*

تَمحّنَ خَلقها ورأى عَجيبا

خليفتهمْ يسائلهمْ بزَعْمِ

*

توارثَ جيلُها مَعنى كلامٍ

وعَقلٌ فاعلٌ يَحظى بدَعْمِ

*

هوَ المَخلوقُ لا شكٌ تَدانى

فأوّلْ مثلما وفدتْ كعجْمِ

 *

بواصِلها وجاحِظها وحادٍ

لمَثلثةٍ مُخنّعةٍ بدَهْمِ

*

ومأمونٌ ألا أوْصى عَقيبا

فكنْ سنداً ومأمورا لعَمِّ

*

ألا شهدتْ بسامراء حَيفا

خلافتهمْ أباحتْ كلَّ شؤمِ

*

بها نَطعٌ وسيّافٌ ألوسٌ

يَجزّ رقابَهمْ وَحشٌ بنَهمِ

*

بجَعْفرها تعافتْ من ضَلالٍ

فغابَتْ مِحْنةٌ نزلتْ بقومِ

*

فهلْ عادتْ إلى رُشدٍ نُهاها

وهلْ فازتْ بما نظرتْ لخَصمِ؟

*

تعوّقَ عَصرها برؤى اعْتزالٍ

فغاصَتْ في مَتاهاتٍ ونوْمِ

*

عذابُ ضميرهِ أزرى بعَهدٍ

فأعْطاها لمُعتصمٍ بسَأمِ

***

د-صادق السامرائي

مهداة الى استاذي العلامة

الدكتور فاضل صالح السامرائي

تحية تجلة وإكبار

***

زَهــا، فــي كـلّ قافـيـةٍ نَـشـيـدُ

يُـبــاركُ نــهْـجـَكم وبه يـشـيـدُ

*

يُـفاخِـرُ بعضُ مَـن يعلو بمَجْـدٍ

ونَـبـْعُ عُــلاك قــرانٌ مَـجـــيـدُ

*

سَــماواتُ الــبيانِ رأتْـكَ فيهـا

فـطـوَّعَـت الحروفَ كما تُريدُ

*

تــحـيّـاتُ الــثريّـا مُــسْـبِـغات

لـِـجُـهْــدٍ قـاده فِـكْـرٌ رشــيــدُ

*

يـُـقَـرِّبُ فـهْمَ مضمونٍ فَيَسْمو

بــإبـــداعٍ ، لــه عَـبَقٌ مـديــدُ

*

بتـفسير الكتاب أنَـرتَ فِــكرا

بإســلوب بــه قَـرُبَ البعــيـدُ

*

لـمَسْـتَ بـيانَه فازددتَ نـورا

فَــنَـوّرتَ العـقـولَ بما يـفـيـدُ

*

وللأذهـانِ قَــرّبْــتَ المـعـاني

فَـشاعَ بجـوِّهــا فـهْـمٌ عَــتِـيدُ

*

يلائـمُ كلَّ مـَن يشكو وصولا

لإدراك النصوص بما يجـيـد

*

تَـرَنّـمْـتَ المقالَ فزاد حُـسنا

لِـمـا قــد زانـهُ رأيٌ سَــديــدُ

*

بـمَـوْهِبــةٍ حَـبـاكَ الله فــيـهـا

حُـروفُ عطائها ، دُرٌ نَضِـيـدُ

*

وفي (اللمساتِ) للتأريخ قولٌ

وتـوثــيــقٌ وذِكـْـرٌ لا يـَـبــيــدُ

*

بهــا جسَّــدتَ أبعادا تســامت

وبَـحـثـك فـــي تـناوله فَــرِيـدُ

*

رعـاك الله ، يا أفـقـاً تـجَـلّى

بــضوء عطائه نهْـجٌ جَـديـدُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

في الصباحِ المكللِ بضوءِ الشمسِ

المكللُ بزرقةِ السماءِ

المكللُ بالوانِ الخريفِ

الجالسةُ بأوراقِ الشجرِ

أعينُ قوامَ الأملِ

للخروجِ من كوابيسِ الليلِ

نشرات الأخبارِ

وأكاذيب الساسةِ

في الصباحِ المكللِ بضوءِ الشمسِ

بينما المحاولة ُفي أوجِها

لإستذواقِ كوب َ الشاي بزيادةِ سكرِهِ

والتغلب على فقدانِ الشهيةِ

برائحةِ الخبزِ الحارِ

بينما أحاولُ كسرَ حدةَ المنفى

بضوءِ الشمسِ وبالصورِ القديمةِ

لتجنبِ سفالةَ الحاضرِ

وبراغيثَ اللحى

بينما كلَّ ذلك في الصباحِ

المكللِ بضوء ِ الشمسِ

أعينُ الأملَ للأبتسامِ

مرةٌ آخرى

**

من مشاغلِ حسين الموزاني

يتذكرُ الموتي

يتذكرُ موتى المنفى

يَعِدُهمْ واحداً بعدَ الاخرِ

ويحثُنا خشيةَ النسيانِ

كأنه يرصفهُم أمامُنا

. ليأخذَ مكانَهُ بينهمْ

**

حلولية

مع سبق الإصرار والترصد

أقول : وأنا أنظر بماء نهر شبريه (Spree)

أنت دجلتي

باصرار من على جسر فردريش

أبادل الأسماك ، الزوارق ، طيور الماء

على جسر الشهداء

أبادل الهنا بالهناك

أبادل الهناك بالهنا

.  بلا مفرِ

**

وجوه الليالي

وجهُ يائسٍ

أطلقَ القصائدَ في الريحِ

وأشارَ لأعاليَّ الشجرِ

هناكَ تغتسلُ أو تكتملُ

عندما يهطلُ المطرْ

وربما تقصُ تحتَ الشمسِ

أمٌ لصغارها بعضَ أوهامِ البشرِ

**

ليلة الجدل الطويل

ألم ترَى

على أية رابية لم يجلس الذئب

وبأية زاوية لم نلتم

على نصاعة أسنانه

ألم ترَى

كيف نفعل بالروح الجالسة

لنا بالمرصاد في مجريات الأيام

محفوفين بوقت مصاب بداء القلب

نتمدد بأسرة على قدر ألامنا

ليس بدعة أن أصرخ حتى الملل

وليس بدعة أن أجر قوادم الذئب

لشرك حياتي

ليلتهم صوتي النافر

هكذا تكون الخيوط محكمة بين شاهقات الضياع

**

إصرار

لا يعرفُ الطيرُ قاتلهُ

لا يعرفُ الرصاصةَ

والرصاصةُ لا تدري وقت إيابهِ

غير أن المنايا

شاخصةٌ والطريق سفر

والقاتل يترصدُ

ورغم كل الخفايا

نسمع أجملَ الأغاريدِ بزفةِ الفجرِ

ويأتلقُ الريشُ في النهارِ

يرقصُ بين الرياحِ طَرِبُ

ليبني في السماءِ عشَهُ

***

رضا كريم - شاعر

 

فقدوا أباهم البريء

بطعنةِ غلاءٍ غادرة

أيتام الرغيف!

*

الجوع كافر

والشِّبْعُ مُسْلِمٌ لا يتعاهد

جيرانه!

*

كرش مترهلة

تَسُدُّ رَمَق شِبْعِهَا

لقمةٌ جائعة!

*

كِسْرَة يتيم

تُسدد فاتورة جوعها

حِرماناً!

*

على الرصيف

يبكي وطناً جائعاً

رغيفٌ شاحب!

*

شاهد عيان

على معاناة الجياع

برميل القمامة!

*

في دائرة الجياع

فاز الرغيف على خَبَّازِهِ

بالأغلبية!

*

في معركة الجياع

فقد ساقه اليمنى

رغيف مناضل!

*

رواتب الحكومة

يدفعها من عَرَقِ جبينه

رغيفٌ أسمر!

*

حملة أغذية وأدوية تبعثها

دعماً لغزة ولبنان

نخوة أرغفة!

*

بدون دعوة رسمية

يشارك فيها الذباب.. والجوعى

وليمة القمامة!

*

لتعليم الزعماء

يقتطع الرغيف من إنسانيِّتهِ

درساً!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

9/12/2024

 

مهداة الى شاعر الحبِّ والجمال

جميل حسين الساعدي

***

صديقي، ما لديكَ، وما لديَّا

قصائدُ تعزفُ اللحنَ الشَّجيَّا

*

فبيتُ الغُرْبِ صارَ لنا ملاذاً

وبيتُ الأهلِ جبَّاراً عَتيَّا

*

هجرْنا صُحبةَ النَّخلِ الظَّليلِ

صحِبْنا الظِّلَّ ليلاً أجنبيَّا

*

وما كانتْ بأيدينا، ولكنْ

بأيدي مَنْ طغى وازدادَ غَيَّا

*

نشيجُكَ يملأُ الخِلَّ المُعنَّى

بحزنٍ لم يزلْ غضّاً طريَّا

*

غريبانِ استفاقا ذاتَ ذكرى

فكانَ الشَّوقُ خفّاقاً نديَّا

*

أهاجَ مواجعي وأقامَ فيها

بجمرٍ زادَ مِنْ لَهَبٍ عَلَيَّا

*

ذئابُ الليلِ تعويْ في سريريْ

لتملأَ مَضْجَعِي أرَقاً سَخِيَّا

*

فعاقرْتُ الكؤوسَ وما غفوْتُ

فبتُّ معَ الكؤوسِ فتىً عَصِيَّا

*

أداويْ خيبةَ الأيامِ فيها

بأخرى داؤُها يشتدُّ كَيَّا

*

هي الأحلامُ لا تُغُنِي ولكنْ

سرابٌ قرَّبَ الأمسَ البَهيَّا

*

شربتُ الرَّاحَ حتى كَلَّ قلبي

ولمّا كلَّ، كلَّ العمرُ فيَّا

*

تداوَيْنا بمَنْ يُغْنِي ويَشفي

ويأخذُنا إليهِ ذُرىً عَلِيَّا

*

إلى مَنْ يملأُ الأرواحَ أمْنَاً

ويغمرُها سلاماً سرمديَّا

*

هو الوطنُ الرَّحيمُ الحقُّ يعلو

هو النُّورُ الَّذي يَهدي الشَّقيَّا

*

وما آوي إلى مَنْ حَدَّ سِنَّاً

فيرميني إلى الذُّؤبانِ حيَّا

*

وباسمِ الله يحكمُ مُستبيحاً

حقوقَ الخَلْقِ نشَّالاً رَدِيَّا

*

أيحكمُ مارقٌ مَنْ كانَ حرّاً

أبيَّ النَّفْسِ مخلوقاً نقيَّا!

*

فكمْ مرَّتْ علينا مِنْ دُهورٍ

صحائفُ أرَّخَتْ زمناً فَرِيَّا

*

ليحكمَنا الأقاربُ والأعادي

خبيثاً، أمْ سَفيحاً، أمْ بَغِيَّا

*

سلاماً أيُّها الوطنُ البديلُ

فقد أهديْتَنا وطناً سَوِيَّا

***

عبد الستار نورعلي

تموز 2024

.....................

* كتبتُ الأبيات الأربعة الأولى تعليقاً على قصيدته (أرق) في صحيفة المثقف بتاريخ الأربعاء 19/6/2024، ثمَّ أضفْتُ عليها بعد ذلك لتكتملَ بهذه القصيدة.

اطلع على صحف غربية خلال سفراته العديدة فوجد عندهم فنا قائما بذاته وقد انتشر في كافة الصحف اليومية والمجلات انها رسومات كاريكاتيرية لمجموعة من الرسامين المبدعين لشخصيات سياسية وبإشكال مثيرة للسخرية والتهكم رسمتها ريشة هؤلاء العباقرة الموهوبين بهذا المجال وتحت كل صورة كُتب التعليق المناسب الذي يليق بتلك الشخصية وما وعد به صاحب الصورة من وعود قبل انتخابه لكنه حين تسنم السلطة لم ينجزها أو انجز الكثير منها وأهمل واحدة منها فقط وبما انهم يمتلكون مصداقية الوعود واحترام شعوبهم فتكون مهمة الرسام الكاريكاتيري ان يذكّر اياهم بتلك الوعود التي لم تنجز.

وبما ان صاحبنا رسام كاريكاتيري معروف وحاذق ويعرفه القاصي والداني في بلده التي لا أعرف اسمها على الخريطة فربما هي مدينة الواق واق أو كما أظن كوريا الشمالية أو غيرها لا أدري.

قد تصدرت رسوماته سابقا الصفحات الاخيرة من الصحيفة الورقية التي يعمل فيها في بلده حيث ان القراء يبحثون عن رسوماته بشغف دائم قبل اطلاعهم على الاخبار السياسية وكانت جلّ مواضيع رسوماته تخص اقتناص احدى سلبيات مجتمعه مثل عالم السحر والشعوذة والسحارين وأكاذيبهم ورسومات تخص البعض من الشباب ممن يقلد ملبس النساء أو بالعكس والكثير من اخبار الدلالات مواضيعه تشبه الى الى حد ما رسومات الرسام الكاريكاتيري المعروف عندنا عباس فاضل في الثمانينيات والتسعينيات ورسوماته عن الدلالة أم ستوري وقد نجح فيها عباس فاضل نجاحا باهرا واكتسب شعبية محببة من قبل القراء. نعود الى رسام الكاريكاتير الذي تأثر برسومات الغرب إذ إنه لم يجرب.

 فكرة رسم الشخصيات السياسية في بلده وقد راقت هذه الفكرة لذائقته المتعطشة للإبداع في هذا المجال فقرر ان يجرب حظه لعلها تثير اعجاب القراء وان يدون اسمه انه رائد هذه الفكرة في بلده وتمنى ان لا ينزعج منها رجال السياسة كونها تجربة عالمية تغص بها الصحف والمجلات الرصينة في كل انحاء العالم.

وبعد عودته حاول ان ينشر أولى رسوماته وقد عكف على رسمها لعدة ايام وبذل جهودا جبارة في إظهارها بالشكل المناسب وقد حاول قدر الإمكان ان يجعلها أخف وطأة عما شاهده هناك في تلك الدول الغربية مشيرا مع كل صورة بتعليق يناسب صاحب الصورة الكاريكاتيرية مذكرا إياه ببعض المشاكل التي يعاني منها جميع الناس.

نعم انها فكرة جذابة للقراء وقد اعتمدها الفن الغربي لامتصاص نقمة الناس وبذلك ستكون فكرة ذكية لفائدة تلك الحكومات.

اما بالنسبة لهذا الرسام الذي حاول ان يجرب حظه فهي تعتبر بمثابة إنجازا كبيرا ومهما ليثبت جدارته بهذا الفن ان نالت إعجاب القراء، ورضا الطبقة الحاكمة الا ان رئيس التحرير في تلك الصحيفة بعث بطلبه قبل نشرها وحذره من مغبة هذه الرسومات على الصحيفة وعلى من رسمها بالذات الا ان الرسام الكاريكاتيري وصاحب الفكرة كان متفانيا بالرد على كل صغيرة وكبيرة بشأنها وشارحا له ان تلك تجربة ناجحة وتمتلك صدى كبيرا بين صفوف الناس هناك في بلاد الغرب ولا نخسر شيئا ان قمنا بتطبيقها هنا ونحن لا نختلف عنهم بشيء. وتلك مسألة ليس عليها غبار فاستطاع الرسام بأسلوبه المقنع وطريقة دفاعه المستميتة عن فكرته ان يجعل رئيس التحرير يرضخ لفكرته ثم انها راقت له ايضا وبرأيه ان مجتمعه بأشد الحاجة الى هكذا مواضيع مقارنة بالدول الغربية التي تنعم بالراحة والاستقرار.

 قال رئيس التحرير: إذن لنجرب هذه المسألة مع اعتقادي انها لا تمتلك مقبولية حسنة، ليس من قبل القراء انما من قبل الأشخاص الذين رسمتهم ولكن لنجرب وأقسى عقوبة نحصل عليها ستكون إنذار أولي للصحيفة ان لم تعجبهم .

بعد اسبوع من نشر تلك الرسومات لبعض الشخصيات المؤثرة في ذلك البلد

أختفى الرسام الكاريكاتيري ولم تجد اسرته أثرا له.. وبعدها أغلقت تلك الصحيفة الى الأبد. ولوح رئيس التحرير لكلبه الذي ودعه من مدرج الطائرة.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

البرق الساطع

فرط عقده

وخرزاته ضاعت

في حفر الشك

واليقين ويماماته

وعصافيره استمالتها

النسور الصقور

الحدات والبزاة

والعنادل العنادل الغريدة

فرت فرت

وما عادت تلمع

مرايا البرق الساطع

فرت صوب

حقول  حلامها

امنياتها

ورؤاها

وهناك هناك

على تلة من

مسك وعبير

عزفت على

قياثر قلوبها

لحن الينابيع المضيئة

لحن الخصب

ولحن المطر

***

سالم الياس مدالو

 

ليلة سقوط طاغية

وهروبه الى المجهول

 ***

لا شكراً لكَ

أَيُّها الرئيسُ الفارُّ

والهاربُ كجرذٍ أَحمقٍ

من جحرِكَ الدمويِّ

لا من عرينِكَ

الذي كنتَ توهمُ نفسَكَ

بأَنَّكَ أَسدٌ فيهِ

وبلادكَ غابةْ

*

ليسَ شكراً لكَ

أَيُّها الرئيسُ المخلوعُ

لأَنّكَ كنتَ مُتَخلّفاً ومتأخراً

بأَكتشافِ اللعبةِ ،

لعبةُ تلويثِكَ بالسياسةْ

لعبةُ توريثِكَ للرئاسةْ

ولعبةُ توريطِكَ بوظيفةِ الجلّادِ

بدلاً من حكيمٍ لمعالجةِ

عيونِ الناسِ والبلادِ

التي كانتْ مُبتلاةً

بمخالبِ ومخارزِ

وسكاكينِ وحوشِ أَبيكَ

الديكتاتورِ الطاعنِ بالدمِ

والخديعةِ والطغيانْ

وما كانَ حافظاً

لياسمينِ " الشامِ والغوطةِ

وقاسيونَ والضيعاتِ

وتُرابِ الجولانْ ".

*

لا شُكراً لكَ أَبداً

أَيُّها الرئيسُ المخدوعُ

بأَمجادٍ وهمية

ونياشينَ صدئةٍ

وزنازينَ مُكتظةٍ بأَدواتِ القمعِ

وسواقي الدمعِ

وغياباتِ الموتِ السوداءْ

*

أَيُّها الرئيسُ الموهوم

لا شكرَ لكَ ولا هُمْ يظلمونْ

إِذهبْ وحيداً وبعيداً

وغيرَ مأسوفٍ عليكَ

ولا على زمنِكَ الفاجعِ

إِذهبْ، حيثُ ينتظرُكَ

مصيرٌ أَسودٌ

وتُطاردُكَ كوابيسُ ضحاياكَ المساكين

وصرخاتُ أُمهاتِهم المنكوباتِ بالقهرِ والفقدانْ

ودموعُ آبائهم المفجوعينَ باليُتْمِ النازفِ

والخساراتِ والحرمانْ

*

إسمعْ أَيُّها الرئيسُ الطويلُ الطاغي

المتورّطُ بما لا تَفقهُ وتُدركُ جوهرَهُ

ومعناهُ ورسالتَهُ الكونية

إِيّاكَ أَنْ تُفكِّرَ بالعودةِ ثانيةً

الى البلادِ التي خرّبْتَها

وشوّهتَ صورتَها الجميلةَ

وسحقتَ ياسمينَها الرهيفَ

ببسطارِكَ الروسي وجنودِكَ القُساةِ

وثعالبِكَ المتوحشينْ

وإيّاكَ أَنْ تُفكِّرَ بالإعتذارِ

من شعبِكَ الذي أَهنتَهُ

وأَدميتَهُ وجوَّعتَهُ وقتلتهُ

وشرَّدتَهُ في كلِّ منافي العالم

وخرائبِهِ وزرائبِهِ وبحارِهِ

ومستنقعاتِهِ وغاباتِهِ البدائية

*

أَيُّها الرئيسُ الفارْ

كجرذٍ أَبلَهٍ أَو فارْ

عليكَ لعنةُ الأُمهاتِ

الاطفالِ والشيوخِ

والضحايا والشهداءْ

حيثُ كانوا كلُّهم شهوداً عليكَ

في ليلةِ سقوطِكَ الدراماتيكية

وهروبِكَ المُضحكِ، المُبكي

نحوَ المجهولِ والغامضِ

واللا شيءِ واللا أحدْ

*

يااااااااااااااااااهٍ منكَ

وآآآآآآآآآآآآآآآآهِ عليْكَ

ياآبنَ آدمَ الخطّاءْ

ويا ماءَ الخطيئةِ

وطينةَ الاخطاءْ

كمْ أَنتَ طاغيةٌ

وأَحمقٌ وببغاءْ

أَنتَ لمْ تَعدْ رئيساً

لأَنَّكَ لسْتَ جديراً

بمهنةِ الرؤساءْ

لا اليومَ ولا غَداً

ولا بعدَ بعدَ الغدْ

وحتّى نهايةِ الوجودِ

والكونِ والأَشياءْ

***

سعد جاسم

2024-12-8

قصيدة بثلاث لغات

(يا أيُّـها الرجلُ المُـرخي عِمامتَـه)

شُدَّ الرِّحالَ فإنَّ القـــومَ فــي ظَعـَنِ**

*

هيهاتَ تسعَـدُ في الدّنيـا وبهجـتـها

من قوتِ شعبٍ ذوى جوعاً ولمْ يَهُــنِ

*

هيهاتَ تبقى طَوالَ العُمــر في دَعةٍ

فالمـوجُ يقـذف بالأصدافِ والعَـفـنِ

*

لا تحسبنَّ ليالــــي السُّحتِ نـائــرةً

دوما وغيرُكُ في ليلٍ من الدُّجَــنِ

*

صبراً، سيأتيك إعصارٌ بلا مهــلٍ

فاحْـزِمْ حقائـبَـكَ الملآى مـن الدَّرَنِ

*

وغادرِ الوطنَ المنكوبَ في عجلٍ

لا أنْ تــغــادرَهُ روحـــــاً بــلا بـَـدنِ

*

أما تَـرىَ أنَّ مَـنْ سادوا ومَــنْ حكمـوا

قد فارقوا هذه الدَنيــا بلا كـفَـنِ

*

هلّا اعتبرت بصدّام وعصبتـــه

كيف انتهتْ ساحةُ الأفـراح في شجــنِ

*

فلستَ أحسنَ حظّــاً منهـــمُ أبــداً

يا سارقَ القوتِ باسم الدّين والوطــنِ

*

لقد حسِبْتُ بأنَّ الدِّيـنَ يغمـرُكــمْ

بالزُّهـدِ والعَطْفِ والإحسانِ والمِنـــن

*

فخاب ظنّـيَّ لمّا قــدْ رأيتُكـًـمُ

عُمْـيـاً، وفــي سَمْـعِـكـُمْ وقـرٌ بلا وهَـــنِ

*

إنْ كانَ ذا الشَّعبُ يغفـو في تعاستِهِ

فسوف يصحو من التخديرِ والوسَنِ

*

رُدّوا الذي قد نهبتُمْ من خـزائـنِـه

مِن قبلِ أن تُبتَـلـوْا بالرُّزْءِ والمِحَــنِ

*

غــداً سيأتيكـمُ العاتــي فيسلبُكمْ

فـتَرجعــونَ كمــا كنتُـمْ بلا سكَــنِ

***

د. بهجت عباس

.......................

* صدر لبيت الشاعر جرير المشهور بهجائيّاته للفرزدق.

يا أيّها الرجل المُرخي عِمامتَه **هذا زمانك إنّي قد مضى زمني

** ظعْـن: ارتحال، والفعل ظعن يظعن

........................

English

O You, who is hanging down his turban”

Translated by Bahjat Abbas

O You, who is hanging down his turban”

Be ready to go, since the people are leaving.

You would never enjoy life and its pleasure

From the food of people,

Who withered from hunger and didn’t kneel.

You would never thrive in your whole life,

And the wave throws away the shells and mold.

Don’t think that the nights of the unlawful are always bright,

And others have a night of darkness.

Hold on! A storm will come to you soon,

Pack your bags full of dirt,

And hastily leave the ruined land,

Rather than you depart as a soul without body.

Don’t you see those, who dominated and ruled,

Left this world without a shroud?

Wouldn’t you learn from Saddam and his gang,

How they left the ground of joy in sorrow?

You are never luckier than them,

You, who stole the food by name of religion and country.

I thought religion will overwhelm you

With asceticism, sympathy, friendliness and generosity.

I was disappointed to see you

Blind and deaf.

If these people sleep in their misery,

They will wake up from drugging and sleep.

Give them back what you stole,

Before you’ll be inflicted with disaster and ordeals.

Tomorrow, the tyrant will come and plunder you.

And you’ll be without shelter as you were.

................

Deutsch

O du, der seinen Turban herunterhängt,

Sei bereit zu gehen, denn die Leute reisen ab.

Du würdest das Leben und sein Vergnügen nie genießen

Aus der Nahrung von Menschen, die vor Hunger

Verdorrten und nicht knieten.

Du würdest nie während deines ganzen Lebens gedeihen,

Da wirft die Welle Schalen und Schimmel weg.

Denke nicht, dass die Nächte der Rechtswidrigen immer hell sind,

Und andere haben die dunkle Nacht.

Wart mal! Bald kommt ein Sturm auf dich zu,

Pack dein Koffer voller Dreck,

Und verlasse hastig das zerstörte Land.

Stattdessen du nur mit Seele ohne Körper gehst.

Siehst du nicht diejenigen, die dominierten und regierten,

Verließen diese Welt ohne Leichentuch?

Würdest du nicht von Saddam und seiner Bande lernen,

Wie sie den Boden der Freude in Trauer verließen?

Du hast nie mehr Glück als sie,

Du, der die Nahrung mit Namen der Religion und des

Landes gestohlen hast.

Ich dachte Religion würde euch überwältigen

Mit Askese, Sympathie, Freundlichkeit und Edelmut.

Ich war enttäuscht, euch zu sehen,

Blind und Taub.

Wenn diese Leute in ihrem Elend schlafen,

Würden sie von Drogen und Schlaf wieder aufwachen.

Gebt ihnen zurück, was ihr gestohlen habt,

Bevor ihr mit Katastrophen und Qualen konfrontiert würdet.

Morgen würde der Tyran zu euch kommen und plündern,

Da würdet ihr zurück, ohne Obdach sein, wie ihr wart.

 

كانت غارقة في متاهات أعماقها، تنظر إلى الفراغ الممتد أمامها وكأنها تستعرض جروحًا قديمة تنزف بصمت، فجوات داخلية لم يشفها الزمن رغم عقود مضت. اقترب منها بحنان وطبع قبلة على جبينها، فأفاقت من شرودها واعتذرت:

ـ عذرًا، كنت شاردة الذهن.

ــ لا بأس، حبيبتي. أين كنتِ؟

ــ رحلتُ قليلًا إلى الماضي... ظننتك منشغلًا بقلمك.

ــ ولماذا أرى الحزن جليًا في عينيك؟ حدّثيني، فأنا هنا لأصغي.

ــ إنه الجرح القديم...

ــ الم يكن بيننا اتفاق على دفن الماضي والمضي قدمًا؟

ــ ليس بهذه السهولة يا حبيبي.

ــ إذن لدي اقتراح: جربي الكتابة.

ــ الكتابة؟

ــ نعم، عبّري عن كل ما يُثقل روحك على الورق. اجعليه قالب ذكريات تستعيدينها أو تحاورينها بصدق وانفتاح.

أعاد اقتراحه إلى ذهنها ذكريات عملها السابق كمترجمة في عيادات الطب النفسي، حيث كان يُوصى المرضى باستخدام الكتابة كعلاج للصدمات. فكرت للحظة وقالت:

ــ فكرة معقولة، لكن كيف سأوفق بينها وبين التزاماتي اليومية؟

ــ سأساعدكِ وأوفر لكِ وقتًا من يومك.

ــ شكرًا، لكنني لا أريد أن يكون ذلك على حساب وقتك.

ــ لا تقلقي، سنتجاوز هذه الصعوبة معًا. فقط ابدئي، وأنا معك.

ــ نعم... دائمًا تكون البدايات هي الأصعب.

بدأت تبحث في أغوار ذاكرتها، مستعرضةً محتويات صندوق باندورا الخاص بها. وجدت أول خيوط تجربتها الأولى في الحب والزواج، وشرع قلمها يقودها بحذر بين أروقة الذكريات، مستكشفًا تلك الجراح القديمة التي كانت تنتظر أن تُحكى...

**

المكان: صوفيا

الزمان: أواخر السبعينيات، بعد ظهر أحد أيام يناير.

أعلن قائد الرحلة عبر مكبر الصوت وصول الطائرة إلى مطار صوفيا، قادمة من بغداد. وأتبع ذلك بإعلان الساعة المحلية: الثانية بعد الظهر، مع درجة حرارة تصل إلى 10 درجات تحت الصفر. شهقت بدهشة، ثم حدّقت من نافذة الطائرة. أمام عينيها امتدت بُسُطٌ من الثلج الأبيض الكثيف، تغطي كل شيء في الأفق وكأنها عالم جديد لا تعرفه. كانت تلك المرة الأولى التي تشاهد فيها الثلوج بهذا الحجم والطغيان، ولم يخطر ببالها أنها ستواجه شتاءً بهذا القسوة.

لم يخبرها زوجها، في آخر اتصال له، عن ضرورة الاستعداد لمثل هذا البرد القارس، خاصة وهي تحمل في أحشائها جنيناً نابضًا بالحياة وموعودا بالبدايات الجديدة.

أدارت رأسها ببطء، تتفحص الركاب بعينٍ قلقة تسبر الجلبة التي احدثوها، فإذا بهم جميعاً يرتدون معاطفهم الثقيلة، وشالاتهم الواثقة حول أعناقهم، وقبضات أيديهم تستكين في دفء قفازات تحارب صقيع صوفيا القارس، بينما وحدها هي لا زالت ترتدي فستانها الأبيض القصير مع حذاء بكعب، كما لو أنها في يوم عادي في بغداد. لم يكن لديها أي تصور مسبق من انها ستقف أمام لهيب البرد الصامت.  لم يكن لديها أي تصور مسبق عن قسوة شتاء بلغاريا، ولم تكن تمتلك الأدوات التي نمتلكها اليوم من وسائل التواصل والبحث لتستعد لهذا الموقف.

بدا مشهدها وكأنه يمثل غربتين في آن واحد: غربة المكان، حيث الثلج صديق قديم للجميع هنا، إلاها، وغربة التجربة، وهي تتأمل عالَمًا بدا، كليًا مختلفًا عنها.

 هذه الأفكار وسواها كانت تدور في ذهنها حين صفعها الهواء البارد وهي تنزل. انزلقت خطواتها على سلم الطائرة، مسرعة بنبض لهفة يسبق قدميها، تتأرجح بين لهفة اللقاء المنتظر، أو غارقة في ارتباك اللحظة التي احست فيها ان المسافرين يتطلعون اليها بدهشة تكسوها علامات تعجب، حول ملابسها الخفيفة التي تبوح بتناقضها الصارخ مع قسوة الشتاء الثلجي الذي يحتضن المطار. تشبثت بحاجز السلم في محاولة لاستعادة توازنها، وكأنها تحمي تماسكها الداخلي من الانهيار. كل تفصيل في حركتها كان يعكس صراعًا خفيًا بين هشاشة ما كانت فيه، وعزم الروح على المضي قدمًا. أكملت إجراءات المغادرة بشيء من الارتعاش المكتوم، وكأنها تطوي صفحة خوف قديم. حين خطت إلى الخارج، تنفست الصعداء؛ نسمة حرية لامست قلبها، وابتسامة صغيرة شقت طريقها إلى شفتيها، إشراقة فرح ممتزج بترقب القادم. كان اللقاء بزوجها الحبيب بعد غياب يلوح كدفء تنتظره الروح وسط زمهرير الذاكرة. ستجد حتما في هذا اللقاء أمانًا مؤقتًا لحياتها التي خيم عليها هاجس الفقد والهروب من مصير مروّع. كل خطوة هنا هي نجاة من الاختفاء القسري الذي ابتلع رفاقها، كل بتلة نفس هنا هي دليل على النجاة من أقبية التعذيب التي غيبت الكثيرين.

توجهت مباشرة الى صالة الاستقبال، بحثت في وجوه المستقبلين، لكنها لم تجده. انطلقت الى خارج المطار علها تجده هناك في انتظارها، خاب مسعاها. دفعت العنوان الذي احتفظت به لمثل هذه الأوقات للسائق، وبنبرة تحمل بين طياتها أملًا هشًّا. أومأ برأسه بابتسامة ودودة، ثم خطا خارج السيارة متجهًا نحو مؤخرتها. لم يجد الحقائب التي توقع ان يضعها في الصندوق الخلفي، فالتفت نحوها بنظرة تملؤها التساؤلات الممزوجة بالقلق. ابتسمت بخفة، ورفعت كتفيها في إشارة عفوية.

همست: "أنا هنا بلا حقائب."

لم تكن قد حملت معها شيئًا عندما غادرت العراق سوى حقيبة كتف نسائية. تركت كل شيء وراءها، متوقعة أن يُلقى القبض عليها قبل أن تصل إلى الطائرة. هي مطلوبة من الأمن العام لنشاطها السياسي المعارض للنظام. عادت بها الذكرى إلى وجه أمها عند صالة المغادرة، شاخصة ببصرها المليء بالدعاء، تهمس بآيات من سورة يس، متشبثة برجاء ان تصبح الكلمات جسرًا من الأمل يعبر بابنتها الى السلامة. كانت الأم تلتقط الأخبار من بعيد، مترقبة لحظة إقلاع الطائرة كعلامة على عبور ابنتها نحو الأمان.

 كانت المدينة تستقبل عينيها بفيض من الأضواء والألوان التي ما زالت تحمل عبق احتفالات رأس السنة. راقبت كل شيء يمر أمامها بفرح طفولي وفضول متقد، وكأنها تبحث عن إشارات تُنبئها بشيء خفيّ من المبتغى. تساءلت في أعماقها عن سر غيابه، وهو الذي كان يعلم تمامًا توقيت وصول طائرتها. ربما أصابه عارض، أو أعيته علّة قديمة كان يُصارعها بصمت. لم تشأ أن تستسلم للقلق، بل احتفظت ببارقة أمل تشعلها الاحتمالات المطمئنة.

دفعت الباب الدوار للفندق، كان يعج بالأرواح القلقة، حيث تجمعت حكايات منفى حزينة في وجه المهاجرين السياسيين العراقيين الهاربين من قبضة الديكتاتورية الدموية. في وجوههم انعكست حكايات منفى مشتركة، ووجع واحد يسكن الملامح. شعرت وكأنها جزء من هذا الزحام، كأنها تحمل ذات الندوب، وذات التوق للأمان والطمأنينة. *

في قاعة الاستقبال، حيث تغمرها موجة من الترقب والاضطراب، حاولت استعادة نبضها الذي أرهقه الانتظار وسط ضجيج الرفاق الذين كانت حركاتهم تشبه عاصفة من النشاط والتواصل. كانت أجواء القاعة تختلط بين حرارة الترحيب وبرودة التساؤلات المبطنة التي قرأتها في عيون ممن حولها. لمسات الترحيب الحزبية من رفاق قدامى، أو من العارفين لزوجها في الداخل، منحوها لحظات دافئة في هذا المكان الغريب، قدح من الشاي العراقي الساخن الذي قدمه أحدهم والذي بدا كهدية من الوطن، يلامس شغاف قلبها. جلست تنبش في دفء الشاي الذي لم يسعفها في محو التوتر ولم يستطيع اختراق القلق الذي يتأجج في أعماقها. غمرتها قشعريرة خفيفة، وجدت نفسها عاجزة عن إمساك القدح، وضعته على أقرب مائدة اليها وجلست.

كان الحضور حولها يتحركون في دائرة من التساؤلات الصامتة. تهامس البعض بنظراتٍ غير خفية. هل أخبر أحدهم زوجها بوصولها؟ لماذا تأخر إن كان يعلم؟ كل هذه الأسئلة تضغط على روحها، تملأ رأسها المتعب، وكأنها دقات طبل في عقل مشوش. احاطت قدح الشاي بأصابع مرتجفة، تبحث عن دفء حقيقي ليس فقط لجسدها، لكن لطمأنت الروح التي أثقلها الإعياء وقلق الانتظار.

كانت هذه اللحظات بمثابة مشهد تجسدت فيه الغربة بأقسى صورها؛ قاعة مكتظة بالوجوه، لكنها وحيدة في تساؤلاتها، وأصوات تتحرك من حولها، لكنها صامتة أمام قلقها. الرفاق يدورون حولها، ليس فقط كحضور مادي، ولكن كمرآة لتلك التساؤلات التي زادت من حدة الصداع الذي بدأ يستولي على ذهنها نتيجة للإعياء والبرد وتعب الرحلة القلقة، الامر الذي أدى الى شعورها بالدوار والترنح في حالة من الغثيان والاغماء. أحضَر لها أحدهم قدحًا من الماء، كأنه أدرك أمنيتها الصامتة. رغم برودته، تناولته، علّه يُنعش روحها المنهكة، ويغسل عنها إرهاق اللحظات الثقيلة.

كان الليل قد حل، مرحبًا بها بطريقته، فيما أضواء القاعة تُبدد ظلام الانتظار. لم تُعِر انتباهًا للخطوات التي تقترب، لكنها عرفت وقعها كما يُعرَف نداء الحبيب من بعيد. كان يهبط السلم نحو القاعة بخطواته التي حفظتها ذاكرتها. نهضت فجأة، كأن الحياة بثّت في أوصالها نبضًا جديدًا. نسيت نفسها وما حولها، حتى قدح الماء الذي أفلت من يدها، سقط مرتطمًا بالأرض، ليبلل قدميها الباردتين، لم تكترث، وقفت بشموخ يليق بها، تُعلن حضورها بكبريائها.

دخل القاعة بهدوئه المعتاد، كانت المسافة بينهما تشبه تلك البرودة التي لم تعرف لها سببا ولم تألفها فيه من قبل، وابتسامة مُتكلّفة رسمها على وجهه، كأنما ليغلق باب الأسئلة. بادلته بعض الخطوات، ثم ارتمت في حضنه بكل ما تبقى فيها من حب وفرح، ناسِيةً معاناة الرحلة والانتظار. لم تبحث عن العتاب، ولم يسعَ هو لتقديم الاعتذار. كان اللقاء، بحد ذاته، كافيًا ليختزل كل شيء.

وحين استقر بهما الحال داخل الغرفة، انطلقت كلماتها كخيوط ضوء تتلمس طريقها، وهي تسعى جاهدةً لنسج تفاصيل أيامها المتناثرة منذ غيابه، محاولة أن تجمع شتات حكاياتها وصدى ذكرياتها المبعثرة على صفحات يومياتها بعد سفره، عن انقطاعها عن العمل، وتخليها عن الدوام الجامعي المسائي، وعن تلك الايام الصعبة التي أمضتها بين شراسة مضايقات رجال الأمن وفظاظة تهديداتهم المستمرة. أخبرته عن اختبائها وتغيير سكنها، وكيف نقلت، لوحدها أثاث منزلهم إلى بيت اهلها، في ليلةٍ واحدة، بحيطة وحذر يشبه من يمشي على خيطٍ رفيع خشية السقوط.

 أخبرته عن اخر ما كان عندها من التوصيات والمعلومات الحزبية وأشارت الى انهم قد طلبوا منها بضرورة الاسراع في السفر لدواعي امنية ملحة. سلّمته بقية المال الذي تدبرته للرحلة، وجواز سفرها الذي ينبغي ان يصل إلى الرفاق. قالتها وعيناها ممتلئتان بفرحة النجاة، بنفسها وبجنينها. سألها عن والدته، وعن أحوال عائلته. طمأنته، وأخفت عنه تفاصيل المواجهة الشرسة التي خاضتها نيابة عنه، وعن قسوة تهديداتهم لها، وحتى عباراتهم التي وصلت حد الإنذار، استدركت بصوت يختلط بين الأمل والوجع: "كان لديهم يقينًا بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم، وكأنهم لم يفهموا!".

شعرت فجأة بالحاجة إلى شيء من الدفء. لم تجد في خزانة ملابسه ما يناسبها، فاستعارت إحدى ستراته. التفتت إليه وسألته: "وكيف أنت؟ كيف هي الأحوال هنا؟". نظر إليها مطولًا، كأنما يقيس وقع كلماته قبل أن يقولها: "لقد تغيرت هنا كثيرًا!... لم أعد الشخص الذي كنت تعرفينه!" قالها بوضوح كالسيف، ثم كررها وكأنه يريد أن يثبتها امامها في الهواء. انتظرت منه تفسيرًا، لكنه اكتفى بمراقبة ملامحها. لم تسأله. لم تشك بسلبيته. كانت تحبه حد اليقين الذي لا يهتز. لم تفهم إشاراته ولا بروده، من عدم استقباله لها في المطار، إلى تأخره وفتور استقباله لها في الفندق. ظنت أن الوقت سيعيد كل شيء إلى طبيعته، لكنه باغتها بعبارات واضحة وصريحة، كأنها سهمٌ أصاب قلبها دون رحمة. صمتت، تركت كلماته تُعيد صداها في رأسها، وراودها شعور غريب لم تستطع استيعابه او تسميته.

أرهقها التعب، فاستلقت مكانها، تحضن جنينها، واستسلمت لغدٍ مجهول المعالم، كأنما حياتها كلها أصبحت مُعلقة على حافة غربتين، غربة الوطن وغربة الوحدة.

***

سعاد الراعي

فصل من رواية تحت الانجاز

............................

* تجلت مواقف جمهورية بلغاريا كملاذٍ آمن للشيوعيين العراقيين، ففتحت أبوابها تضامنًا مع أرواحهم المثقلة بالاضطهاد ومصائرهم المهددة. كان ذلك تعبيرًا إنسانيًا لافتًا في وجه موجات القمع والتصفية التي تفاقمت خلال النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، حيث امتلأت السجون والمعتقلات بأجساد النشطاء، وشهدت أعواد المشانق كوكبات من المناضلين. جاء هذا الحِراك تضامنًا مع الديمقراطيين والمثقفين الذين وقفوا بشجاعة ضد ممارسات السلطة القمعية التي استباحت الحريات، والتي كانت فيما سبق محمية بظل تحالف سياسي هش سرعان ما تحول إلى سجنٍ آخر.

"حبيبي الغائب عُد، إن لم تكن مقيدًا بالأغلال أو غادرت روحك جسدك، كما غادرتنا براءة الصبا وزهو سنوات الشباب دون العثور على غصن زيتون تستظل به أمانينا، وإن قررتَ الرحيل عن بلادنا المحترقة تحت أقدامنا خذني معك.

لا... لم ولن أعتاد لوثة الفقدان في وطن الفقدان.

حبيبي صرتُ وحيدة، وحيدة تمامًا، في انتظار أية إشارة تلَوِح لي بابتسامة غدٍ لا تلوثة حمرة الجنون، ودون أن يستلب النفي داخل أوطاننا ما تبقى لنا من نبض الحياة.

حبيب عمري عُد، عد قبل فوات الأوان، علنا نستطيع أن نخاتل زماننا وننتشل بقايا خفقات حلم حلمناه يومًا ولم يقتنصه رصاص الحروب بعد.

أكتب إليك من خلف السواتر التي تهبنا للدمار كل حين، من تحت الخيام المحروقة عند كل غارة لا تنتهي إلا لتعود مع شبح الموت من جديد، من بين الصياح والعويل... من شاطئ البحر المُدمى الذي كنا نخطو فوق رمله سوية، تحوطني بذراعيك وتدفئني بصهد أنفاسك، وأعذب القبلات، قبلات لا تنصت للعلعة الرصاص كل حين.

جسدي المشتاق إلى لمساتك الحانية مهما استبدت بها رعدة الزناد اليوم ذوى مثل أشجارنا اليابسة، لم يعد كما كان، حلم الراقصين في أمسيات الحصاد، عربدت به ريح البارود العاصفة مثل كل محاصيلنا، عامًا بعد عام وعقدًا تلو الآخر. انتهت كل أمسياتنا وتلاشى من الأسماع شدو أغانينا وانطفأت مصابيح أفراحنا، مثلما انطفأ كل وهج عشناه وحلَ محَله الحطام في قلبي، ومثلما نزعت مدننا وقُرانا حُلة أمانها ولبست ثوب أجيال من الحداد.

لكن رغم كل شيء، كل مدامعي وعويلي ما بين النيران، أهجس أنه ينمو بين أحشائي، جنين عشقنا المتخفي عن عيون القناصة وفوهات المدافع وومض الصواريخ. أظنه سوف يولد مع تهاليل الربيع الذي تحب أن تبصره في قسمات وجهي، في الأرض البراح التي تتشرب رماد الحرائق مثل رذاذ المطر. أتمنى عودتك قبل الولادة، أن أبصر في وجهك فرحة الظفر رغم كل حرائق عمرنا الفائت، كما أتمنى أن يمتلك ابننا حرية الاختيار، دون أن يُفرض عليه قرار الموت، ولا خضوع الاستسلام."

*

لم يتم إرسال الرسالة إلى جدي المتوفى من قبل ولادة والدي. وجدتُها مصفرة، بخط مهتز اهتزاز الأرض مع دويّ الانفجارات، تحت وسادة جدتي المُستبقة الرحيل برحيل، كما لو أنها كانت ترغب بالتكتم على سر عشق مطارَد، حرصتْ أن تخفيه عن الجميع مهما توالت العقود.

خلَفتُ الورقة المهترئة من كثرة الطيّ في دارنا، فلم أرضَ أن تشهد المزيد من الاغتراب، ثم مضيتُ بخطى وئيدة تحت وطأة الحَبل نحو نزوح جديد، دون أن أدري متى يحين أوان العودة، لعل هناك من يجدها بين الأنقاض.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

22 ـ 10 ـ 2024

إليها في تجليات الجلاء عن كل موت...

سنى ليل قابع خلف كآبة خرجت بأحمر شفاه من بين رواية كورية لعينة. صهيل معتم بتسارع نبض هزل بسبب ما عاشه خلال عام. قطة صغيرة تتلوى خلف الباب وترقص رقصة زوربا الهرية لتنجح في طرد نشيد الموت بعد ارتشاف جرعة سم لذيذة.

نجاة أولى واحتراق \هنيئ بموت آخر خرج يطفو عليها من بين سواد ليل القرية وغبار الوحدة السحيق.

- هل ماتت الهرة؟

لملمت سكرات موتها، وعاشت بأعجوبة مرغت أنفها في تراب الحياة. وموت آخر أُهْمِل على رف السرد كماء  آسن ماتت أوكسيجانته. اختار حيزه الروائي وارتدى ملابس السهرة الحمراء ووقف على وسادتها دافئا، أو تعمد أن يبدو كذلك لاغواء ما. "يونج هاي" المرأة الشجرة واقفة كغصن افتراضي صنعته "هان كانغ" كما لو كانت ذكاء اصطناعيا بارعا. مواء قطة يشتد في راسها وتتلاشى فرحة النجاة، وتتسمر الشجرة التي ظنت أنها خضراء والتي تعاند في استقبال الموت القادم من شبح تسلط عليها لكي لا تأكل حتى الرمق الأخير من الموت المذهب بلهيب من حولها.

- هل أنا شجرة؟

قال الليل المتخفي للشبح الخارج للتو من قبر ثنايا رواية "النباتية".

-    لا تقرأني أرجوك، ودعني أصير شجرة على نار هادئة وأعذب من قربي ليشهد موتي الذي أغازله كصبايا بادية أصيلة.

تدور يمينا، و هي تقول للكتاب، لا ليست رواية صادمة، ولا فيها أي دهشة أو جديد أو احتفال جميل بالموت. تمرد نسائي وضع على بياض الورق على  شكل مأساة تبكي شجر كل الغابات.

تتقلب يسارا وهي تنشد من وحي لحظتها:

بطلة حقيرة

تموت بعذوبة

ولا من يمنع موتها المنة

لا والدها

ولا أمها

ولا أختها

التي ماتت قبلها

كمدا

حتى القارىء يا سادة

لا قدرة له

لمنع هذا الموت المحتم

إلا بالاجهاز على صفحات الرواية

تشد على هاتفه، وهو يعترف بفشله في منع تلابيب الموت الورقي منها، قبل أن تنهار بكاء داميا، وصل شهيقه إلى قلب الكاتبة بسيول قبل أن تفتح قنينة جعة صفر كحول.

- لا تبك قالت الشجرة، نحن نلعب، وهذه مجرد رواية صديقتي الجميلة!

- لكني أكره الموت، سلبني أعز من أملك ولازالت اللائحة تطول.

- موت الحياة يا عزيزتي غير موت هذا الكتاب.

وقبل أن تلتفت لتر الكتاب كانت الشجرة بوسط منزلها الصغير بالقرية البعيدة قد سالت مع ما تركته دموعها من سيول وفيضانات فاتق سيول مدينة فالينسيا الأخيرة. ولم تشأ أن تخبره أنها حزينة حد الموت في فسحة احتضار محتمل لجدتها المتبقية من إرث والدها الراحل. فالأقوياء لا يعترفون قالت القطة وهي تتلمظ بحليب منقذ.

***

عزيز ريان - كاتب وناقد من المغرب

شفشاون ذات سيول

‏منذ الخطوة الأولى

بدا حذائي مريحاً جداً هذا الصباح

أيتها الكرة الأرضية

هل عليَّ أن أخبركِ..

أنني أكملتُ شهراً في عملي الجديد

أستغربُ وأنا امرُّ بجانب تمثال كارل ماركس*

الذي ينظر الى مباني الاسمنت والزجاج والفولاذ

ويُرَبِّي ساعات العمل الطويلة

مديراً ظهره للنهر..

نهر  ال Spree* الذي أعبرهُ

الى حيث أعمل بالقرب من ضفته الأخرى

‏في المساء أعود مستقلاً قطار الأنفاق

المحشو بالركاب والأصوات والمعاطف والحقائب والكلاب ‏

قبل أن أدخل بيتي،

أتفقد صندوق البريد المحشو بالفراغ

‏بعد أن أدخل،

آكل شيئاً لأجلِ أدوية المساء

ثم أستعيد ساعات العمل الثمانية

وطيلة نومي القليل المتقطع أرمم بها فجوة النهار

‏في صباح اليوم التالي، بقطار الأنفاق

أحشر نفسي بصمت مع الصامتين والصامتات

أصلُ إلى محطتي ‏

أمر بجانب تمثال كارل ماركس متأملاً فَكَّهُ الكبير

أعبر النهر إلى الضفة الأخرى

وأعملُ لأَسُدَّ فجوة الليل

فارس مطر، موظف بدوام كامل في الموات

وبحلم مضاعف في القصيدة

***

فارس مطر/ برلين 5.12.2024

.........................................

* كارل ماركس، يقع تمثاله وسط العاصمة الألمانية برلين في حديقة عامة، وخلفه نهر الشپري.

* نهر الشپري الذي يمر خلال العاصمة الألمانية برلين

 

(هل تتذكر فان جوخ؟)..

خرج الفنان الشيخ وديع الفادي من باب كوخ أخيه، تاركًا وراءه بابًا موصدا، آلامًا تنوء بحملها الجبال الشماء، وحالمًا بآمال عظام تغطي المحيطات والبحار وتطوي فترت التاريخ المتلاحقة طيًا بالضبط مثلما طواها عظماء الماضي. مثل كلّ يوم كان الفنان يغادر ذلك الكوخ الفقير.. منذ ساعات الصباح المبكرة كي لا يثقل على أخيه وابنته الصغيرة وكوخهم الوحيد المتواضع. وكان كثيرًا ما يقطع الأرض طاويًا المسافات الطويلة، منطلقًا بين السهول والمرتفعات حاملًا حلمه وأمنيته الخالدة في العيش السعيد والبقاء الرغيد، إضافة الى ريشته والوانه.. وكثيرًا ما كان يتوقّف عند هذا المنظر او ذاك المشهد، حالمًا في تلبية رغبة خضراء في احتواء هذا اللون أو ذاك في لوحة يخاطب عبرها الدنيا ويطلعها بالتالي على مكنونات قلب لم يعرف إلا الحب وانطبق عليه ما ردّده بينه وبين نفسه وهو "لا وقت لديّ لأن أكره أحدًا لأنني مشغول بمن أحب".

بعد مسيرة طالت هذه المرة وأوشكت أن تصل إلى أميال تساوي سنوات عمره السبعين، توقّف قُبالة سهل تمايلت في ربوعه السنابل واحدة إلى جنب الأخرى، معلنة عن اكتنازها بذور الحياة، وراح يتأمل بها.. "في كلّ سنبلة من هذه توجد العشرات من الحبوب الحيّة النابضة.. انها تشبه الألوان الهاجعة في قلبي، روحي وعيني". وتابع" على من لم يحالفه الحظ أن يصبر.. فما بعد ظلام الليل إلا نهار ونور"، هذه الكلمات الذاتية دفعته لأن يتذكّر ما قاله وردّده لأخيه حول الصبر وأهله المحظوظين. هو يعرف أنه إنسان محظوظ ولو لم يعرف هذا منذ البداية ما كان سلك طريق الفن المُتعب العصي والطويل سُلّمه..، بين كركدنات الفن الكبار أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف يبيعون اللوحة تلو اللوحة لمن يعرفون انه يشتريها، ناعمين ومتنعّمين بما يُسبغه عليهم بيعهم هذا من راحة. "منذ وعيتّ على الدنيا وأتيت إليها في ليلة باردة شديدة البرودة آليت على نفسك أن تبعث الدفء في صقيع هذا العالم"، هتف به صوت انبعث من أعماق أعماقه البعيدة. فهل تعبت الآن؟.. هل أرهقتك السنون.. هل حانت نهايتك دون ان يشعر بحلمك أحد".. هتاف هذا الصوت طالما استنهضه وأراد ان يساعده في إشعال شموعه النائسة في رياح لا قدرة لها على مواجهتها.

سار الفنان الشيخ بخطى مُتعبة مُرهقة مُتجنّبًا ما أحاط به من سنابل، وتابع سيره بحذر مُحبّ مُدنف لهذه النباتات، التي احتضنت خضرتها ويناعتها في أعماقها وتصاحبت مع شمس الحقيقة والحياة، وهناك في أعماق قلبها ورحها استلقى مُفكّرًا فيما عساه يفعل كي يُبدع لوحته المُعبّرة المميّزة والمؤثرة أيضًا. وشرع بحالة تُشبه لحظات الولادة والموت يرسم بألوانه الساكنة في قلبه وروحه، كان يرسم بجنون، وببراعة مَن أراد أن يركض فيسبق ظِلّه. يرسم .. ويرسم.. ويرسم مغترفًا كلّ ما بداخله من مشاعر وأحاسيس، إنه يرسم ما يراه وليس ما هو ماثل قُبالته، لهذا كان منفعلًا شديد الانفعال وقد بدا عالمه الداخلي في مُحيّاه الشيخ الوسيم الآن، الشاب الذي كانه في الامس القريب. ونسي الفنان ذاته فقد استولت رسمته عليه وأنسته كلّ شيء حوله.. متنقلةً به من لون إلى لون ومن جوّ إلى جوّ.

عندما اقترب المساء أرسل نظراته الحالمة إلى هناك.. إلى البعيد.. البعيد، إلى حيث تلتقي السماء بحفاف الجبال العالية، أيقظ ذلك المنظر كلّ ما هجع في داخله.. وهناك.. في أعماقه السحيقة مِن حُلم وحِلم. فسعى إلى حقيبة ألوانه وتناول فرشاته وراح يرسم ذلك المنظر البديع شاعرًا أنه بات مُمتلكًا لقدرة إله.. كانت الألوان مُنصاعة إليه تحمله حينًا ويحملها آخر إلى حيث يُفترض أن يحمل أحدهما الآخر. وكان في تلك اللحظة الفريدة يرى الى وجهه وعينيه وهما تلمعان رغبةً وحبًّا في الحياة " ما أجمل هذا العالم حينما يمكّنني من تكوينه.. إنه يتكوّن لحظة إثر لحظة يا أخي.. لقد وصلت إلى الذرى العالية.. وصلت إلى هناك.. إلى تلك القمة الشاهقة التي وقف عليها بازات الفنّ وصقوره. الآن بإمكاني أن أقول إنني وصلت ألى أعماق الخالق الصغير.. الانسان الفنان.

تحرّك الفنّان الشيخ مِن هجعته تلك شاعرًا بنوع من الاسى والخسارة. وعاد إليه الماضي بكلّ ما حمله اليه من معانيات، انتظارات وترقّبات لِما لم يات. نبقت في فكره وقلبه المُرهف عيون لامعة صافية اللمعان، تقول له هذه ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها مثل هكذا حالة. لقد عشت مثلها العشرات والمئات من المرّات، وأنت لم تتمكن من بيع أيٍّ من لوحاتك العزيزة الغالية.. فعلام تحزن. هذا قَدرك. اختصرت تلكما العينان عيني أخيه زوجته وابنته الصغيرة وكوخهما الصغير.. والآلاف وربّما الملايين من الاكواخ الصغيرة والعيون التي ترى جمال عالمه.. الذي يرى ولا يُرى...

استفاق الفنّان الشيخ وديع الفادي على نفسه وقد حلّ الظلام على السهول والجبال، وأطبق بفكيه الفظّين القاسيين على كل شيء حوله وفي سمائه، فنهض من مرقده وانطلق عائدًا باتجاه كوخ أخيه حيث الألم والامل ينتظرانه.. يرافقهما عذاب أطلق عليه ..منذ سنوات بعيدة.. صفة سرّ البقاء.

***

قصة: ناجي ظهر

في نصوص اليوم