نصوص أدبية

نصوص أدبية

اسف غاليتي .. غالية.. لن اتمكن من زيارتك، ليس لأنني لا اريد تلبية دعوتك، فانت تعرفين ان قدمي حفيتا من كثرة ما داستا على دروبك الصعبة، الموصلة إلى مغارتك السحرية. انني الان اتذكر تلك المشاوير التي امضيتها وانا اسعى الى مغارتك لاطمئن على انك ما زلت هناك. كنت حينها ارى الضوء الخافت ينبعث منها حاملًا الف سر وسر، فيطمئن قلبي وأعود من حيث اتيت راضيًا مرضيًا بنعمة الاياب. ايام، شهور وسنين وانا اسلك تلك الدرب، كانت تلك فترة كافية لان اعرف كل زاوية وركن واكاد اقول ذرة تراب هناك.

لا انكر انني منذ وقعت عيناي على قدك المليان الملظلظ، وعلى قبعتك الواسعة سعة الغابة المحيطة بمغارتك، وانا اشعر بانجذاب رهيب نحوك. كان ذاك شعور من الصعب عليّ استعادته الآن وقد مرت عليه سنوات وسنوات تسببت في تحول كل شيء، ودفعت جحافل الشيب لأن تغزو رأسينا. كما دفعت الزمن الى ان يوهن اقدامنا فتخف حركتنا وتثقل مشيتنا. انني الآن وانا استذكر تلك البدايات الاولى لجنوني بك وجريي وراءك، من زاوية إلى زاوية ومن ركن من اركان مدينتنا إلى آخر، اتذكر البداية البيضاء الناصعة بيننا. يومها لم اكن ارى. وربما لم اشأ ان ارى، لثقة وطول نفسي فُطرت عليهما. ما زلت اتذكر حين ارسلت نظري في ارجاء مدينتي ممرّرًا اياه عبر الازقة والحارات.. الشوارع.. القناطر . الأدراج والازقة، لأراك هناك واقفة وقفة طائرٍ خرافي خرج من الف ليلة وليلة ليحط في ذلك الركن من قلب مدينتي. يومها اقتربت منك، دنوت حد الملامسة.. ارسلت نظرة متعمقة في عينيك، فما كان منك إلا أن غضضت الطرف وارسلت موجةً من الحياء العربي المتوارث. يومها شعرت انك تقبلتني وان رسالتي الغرامية الاولى وصلت اليك. وما زلت اتذكر كيف ان كلًا منا، انت وانا، امسك بيد الآخر دون ان يمسكها، وانطلقنا في بلدتنا القديمة كأنما نحن نريد ان نطمئن على كل ما ضمته من حنان وحنو لنا ولكل ما هو جميل فيها.

ذلك اللقاء تكرر مرة ومرة اخرى اضافية، وقد بقي الامر بيننا يسير على ذلك النحو إلى أن تأكدت من أن أحدنا سيكون للآخر، فكان لا بد من ان اخبرك بجلية مشاعري نحوك، "انني أفكر فيك ليل نهار". قلت لك فرددت، "لكنني لا افكر. انني اعتبرك اخا وصديقا لا اكثر". "لماذا لا تفكرين بي؟"، عدت اسالك، فما كان منك إلا أن اقترحت ان نؤجل الحديث. لقد تركت يومها بابَ الامل مواربًا، كي يدخل الهواء النقي او شيء منه إلى رئتي المتيمتين بك.. القصيتين عنك. . وتواصلت لقاءاتُنا إلى أن عرف كل منا الآخر كل المعرفة. أنت عرفت عني انني من قرية مهجرة واحلم بالعودة اليها برفقة ست الحسن والدلال، وانا عرفت انك سر عميق بعيد الغور ويحتاج إلى ساحر من عالم اخر ليسبر اغواره ويعرف اسراره.

مضى حالي معك على هذا النحو إلى أن جئتني ذات ظهيرة تسألينني ما إذا كنت اعرف سبع البُرمبا. يومها ومض في خاطري انه من اولئك الناس المليئين جسمًا الفارغين عقلًا، إلا انني تجاهلت ما ومض..، وانطلقت وراءك حالمًا بان تكتشفي مدى معزتي لك.. ذات يوم.. فتدركين انه لا يوجد في غابتنا رجل يستأهلك مثلما استأهلك.. وانني انا الاكثر جدارة بك. قلت لي يومها ما رأيك ان نزوره في بيته. اريده ان يحضر إلى مغارتي، أريده ان يتجول في انحائها لتراه كل جميلات البلدة وليأتين بعدها واحدة تلو الاخرى ليرين جماله اليوسفي، ولتبدأ حفلتنا الابدية. استجبت لك يومها وسرت وراءك كما يسير الخروف الغض الطري إلى مسلخه ليلقى هناك حتفه.. بسكين حمله اياه ذابحه العزيز. عندما دخلنا بيت ذلك اللي ما يتسمى، تركتني ونسيت انني رافقتك إلى هناك، واندمجت مع صاحب البيت في حديث شخصي. يومها ابتعدت عنكما في محاولة مني لإتاحة الوقت لك لأن تفرحي وتسري بتنفيذ مأربك. وعندما انتهت تلك الزيارة.. عدنا معا نذرع شوارع مدينتنا وغابتها الكثيفة متشابكة الاشجار. يومها عدتِ لإشعاري بقربك مني. مجددًا.. فانتشيت.

بعد ايام دعوتني إلى سهرة خاصة، فما كان مني ألا ان لبيت دعوتك تلك وهل تعتقدين ان عاشقًا مغرمًا يمكن ان يتردّد في تلبية دعوة من اختارها قلبه ومن رأى الشمس في كفها؟. شققت يومها قلب الليل عابرًا من ظلام إلى ظلام حتى وصلت الى مغارتك. دخلتها محنيًا راسي احترامًا ومحبة.. حلمًا واملًا. لأراك هناك تفترشين سجادك العربي متكئة على طنافسك المتوارثة جيلًا بعد جيل.. ورأيت إلى جانبك زق النبيذ وكاسه. كان كل شيء يرسل نظرته الداعية نحوي، وعندما رأيتك ترسلين نظراتك إلى باب مغارتك الرئيسي اعتقدت انك خائفة من طارق طارئ غريب... وما ان اقتربت منك لأطمئنك حتى كانت المفاجأة الرهيبة بانتظاري. توقفت في مكاني متجمدًا. رايته هو سبع البرمبا يدخل إلى مغارتك بخطى ثابتة ويتخذ مجلسه جنبًا إلى جنب على سجادتك وبين طنافسك. لم أكن أنا المدعو اذن.. يا ويلي ماذا حلّ بي، وفي اي منزلق ابديّ انزلقت. الموقف كان صعبًا لذا حاولت ان اتماسك وأن أجمد استمرارًا لمحاولاتي السابقة وغرس بذور الامل في نفسينا. اتخذت مجلسي قريبًا منكما. يومها طلبت مني ان اسكب لكما النبيذ في كاسيكما ففعلت ارضاء لك وثقة بنفسي، ولم اسكب النبيذ لي لأنه لم يكن هناك سوى كأسين. عندها ادركت جانبًا مما يحدث، ولم افهمه كاملًا إلا عندما رفعت كاسك طالبة منه.. من ذلك الذي عرّفتك عليه.. بطلب منك، ونظرت نحوي متجاهلة اياي، وكأنما انا لم اكن موجودًا. يومها تجمّدت مكاني. كما كان يحدث في احلامي ايام كنت صغيرًا، فأحاول الهرب من رتل السيارات.. إلا انني اتجمد في مكاني.. فأفيق من كابوسي خائفًا وجلًا. بقيت متجمدًا في مكاني إلى أن رأيتك تدنين فمك من فمه.. عندها كان لا بد من ان اغمض عيني.. وانهار.

بعدها لا اعرف ماذا حدث.. وافقت على يدك تلامس وجهي. وسمعتُك تطلبين مني أن استفيق.. فأفقت. افقت لادرك أنني كنت في واد وأنك انت في واد آخر بعيد جدًا عنه. يومها لم اعرف ما إذا كان ما حدث حقيقة ام كابوسًا. وعدنا نمضي معًا.. لاكتشف انني انما كنت في تلك الليلة المشؤومة طُعمًا لقصة ستسجل نهايتي.

بعدها مثلما ينتهي كل لقاء غير متكافئ في بلدتنا الجاحدة هذه، انتهى لقاؤك به واقفلت حفلتك الابدية ابوابها على انفجار مدوّ، فعدت بحنكة ساحرة مدربة محنكة.. الى لعبتك القديمة.. وكأنما شيئًا لم يحدث.. إلا انني كنت قد كبرت وتغيرت.. وها انت ذي بعد العشرات من السنين توجهين إلي دعوتك الاخيرة هذه. لا يا غاليتي.. الغالية.. أنا لن اعود إليك، فمن ذبحوا قلبه الصادق الامين في مكان ما لا يعود اليه.. مثلما تفعل المجرمة القاتلة.

***

قصة: ناجي ظاهر

بهدوء الغريب

على المقعد المقابل

في القطار الذي أستقلِّهُ عادة

جلس أمامي

يتأمل عبر النافذة

ويحاول استعادة شيء من شريط المشهد السريع

غفوته وشت بالكثير الذي حفر في وجهه عميقاً

المفتشةُ التي صبرت عليه

وطلبت تذكرتهُ أكثر من مرة

انتبهَ إليها أخيراً

أحسبُها أعطتهُ فسحةً للحلم

الناس يحبون النوافذ

النوافذ تفضي الى الخلاص

الخلاص جدلٌ مختلفٌ عليه

الاختلاف يقودهُ إلى نفسه

نفسهُ تحتكمُ إلى القصيدة

القصيدة خلاص الغريب الجالس أمامي

وصلَ، وصلتُ، وصلنا

لم ننزل

بقينا جميعاً في هذه القصيدة

***

فارس مطر / برلين

لك كلُّ اغنيةٍ وشدو طيورِ

وغناءُ فلاحٍ  ورقصُ خريرِ

*

وصباحُ عشاقٍ تناهى حسنُهم

طلعوا على الدنيا بثوبِ حريرِ

*

جادوا على الدنيا الجمالَ واغدقوا

من جودِ أيديهم قدورَ عطورِ

*

طيرٌ تغنَّى في الرياضِ وما درى

العمرُ في عجلٍ وفي تدويرِ

*

انظرْ إلى سربِ الطيورِ تزاحمتْ

فوق الربى، قبلَ اندلاقِ النورِ

ومضيتُ ابحثُ في ترابِ قصيدتي

فعثرتُ حتَّى قد عدلتُ مسيري

***

فرفعتُ حرفَ رويِّها  وعدلتُ عن

كسرٍ تداعى دونَهُ التعبيرُ

*

انظرْ إلى هذه الفياقي يلفُّها

وجعٌ تناهى دونَهُ التصويرُ

*

ايام لا يرجى فراقُ ربيعِها

للآن ينتظر الرجوع بشير

*

أحببتُ حتى كنتُ من شغفي بها

انِّي إلى تلك الديارِ اطيرُ

*

عاهدتُ احبابي أزورُ ديارَهمْ

ليعودَ عهدٌ آفلٌ ويدورُ

*

يا خلُ قلبي بعد هجرِك نازفٌ

هل من لقاء يعتليه سرورُ؟

*

بالأمسِ كان الحبُ اسمى غايتي

واليوم روي  للقصيدِ حسيرُ

*

يبستْ شغافُ القلبِ بعد محبةٍ

ورجعتُ نحو رويّها المكسورِ

*

ورسمتُ نافذةً وطيرًا ساجعًا

وأميرةً تخطو بيومِ مطيرِ

*

لكنَّ وجهَكِ لم يغادرْ عالمِي

فرجعتُ ضمآنًا لماءِ غديري

*

وبكيتُ حلمًا ضائعًا وغدًا تلاـ

شى مثلَ سربٍ عابرٍ لطيورِ

*

وجدي على عمرٍ تقضَّى دونَ أيـ

ي غنيمةٍ، أو فرصةٍ لعبورِ

*

لكنَّني مذّْ أن ولدتُ بكافرٍ

في كلِّ عاصفةٍ تصيبُ شعوري

*

ساقومُ منتصابًا ورأسي شامخٌ

وعليَّ ثوبُ مهابةٍ وحبورِ

***

د. جاسم الخالدي

ثمة رابطة للشعراء الطيبين

الحالمين بضوء القمر المكتمل

والناعسين تحت أهذاب نجمة غجرية

يحسبهم الناس

من الصعاليك والمهرجين

ومن طينة البشر الضالين

ويحلمون بالعودة الى "يوتيوبيا المجانين"

*

شاعر مراهق كبير في السن

مصاب بالكآبة

تعب من الركض

وراء  ومضات الالهام الهاربة

يقود حربا ضد تجاعيد الزمن

ويؤكد لمريديه

انه ليس مسؤولا عن تصرفاته الصبيانية

حين يحضر توقيع دواوين

شعراء "السوشيو ميديا"

فهو يؤمن بالتداوي بالشعر

ويقدس الشجرة المصابة

بداء بول الكلب الذي ينخر جدعها

*

الشعراء ايضا غاوون

يحسدهم الناس

ويقولون انهم  كالارانب يتناسلون

وقصائدهم تبور تلقائيا

ومع ذلك لا يستسلمون

*

قيل  يوما لشاعر أعمى:

لا احد يعرف

لماذا تخشى الغربان

ضوء القمر

وترقص البومات

في الظلام الدامس

فأجاب:

كل شيء يمكن ان ينقلب رأسا على عقب

فاذا كانت زوجة الواعض

وخليلة رجل الدين

لا يفرقان بين الحلال والحرام

وبين الجهاد والارهاب

فما بالك بحكام العرب وشعرائهم؟

*

ويقف الشاعر على المنصة ويقول:

لم يبق للشعر الا الانتحار

لا صوت لا ايقاع لا قضية

باع كل أمتعته في مزاد علني

ثم انطلق في رحلة بلا عودة

***

بن يونس ماجن

 

يتفاخرُ أبداً

بقبيلتهِ

بماضيه الغابر

وبجريمتهِ

بما فعلَ بالأمسِ

بأخيهِ

وما يفعلُ اليومَ

ذبحاً بضحاياه

لم يعرْ أبداً

أذناً صاغيةً

لكلامٍ منطوقٍ بلسانٍ

همساً

أو ينصتُ

لأصواتٍ خافتةٍ

خائفةٍ  خرساء

أو يرتعبُ

لصراخٍ وصخبٍ هائجٍ

يصمُ الآذانَ

*

لكنَّ غِرْباناً

ليست سوداء

كأخيها الغراب الأول*

الذي شهدَ قديماً

جريمةَ قايين الأولى

أرسلت على عجلٍ

فرأتْ في ديجورِ الظلمةِ

بعدساتٍ ضوئيةٍ

فضائع قايين بغزة

*

شَهدتْ.. رَأتْ.. إلتقطتْ صوراً:

لكلِ ما تساقطَ من فوقٍ

لم يكنْ ما ينزل ُ من السماءُ

مَنَّاً أو سَلوى

بل كانتْ

أحزمةً ناريةً

وقنابلَ فسفوريةً

*

لا عجباً أن نقرأ

في القصصِ الغابرةِ عن:

إخوةِ يوسف

كانوا من قبل دهاة

بزوا أساطين كذبة اليوم

وخداع وسائل الإعلام

قالو فكذبوا

وكذبوا وقالوا

وصدق الذئبُ القولَ

ولم يتكلمْ

**

يتضورُ المسكين جوعاً

حتى الموت

ولكن يأنفُ ان يأكلَ

لحمَ أخيه

**

أضلونا كذباً

وقالوا شريعة غاب

نسبوها لحيوانٍ أبكم

ذي مخلبٍ ونابٍ

وتناسوا موتاً

يتفشى بين الناسِ

زؤاماً  أسود

**

إنتزعَ الصيادُ

نابين عاجيين

لفيلٍ مسكينٍ ميتٍ

في غابة حيوانٍ

فمن يجرأ اليوم أن ينتزعَ

في شريعة غاب بشرية

أنيابَ قايين الذرية

التي لا تبقي ولا تذر

على الأرض الخربة

بشراً ..  شجراً.. أو حجراً

**

العالمُ يرتجفُ اليوم

أن يُقدِم قايين الجديد

في سورة غضب آخرى

فيقتل حواء

حتى لا تلد الأم

أخاً أصغر.

***

صالح البياتي

.........................

* في عالم المايا يتحرك الواقع ببطء على سطح سراب ..

 

من شعر الومضة

1- حقيبة السفر

على الرغم من أنها فارغة

فما تزال تطاردني

ليتني أستطيع أن أقتلع من أعماقها

ذلك الصمت الهائل

الصمت الذي الذي يلاحقني أبدا.

**

2 - جمود

حاولت أن أتحدّث دون أن أحرّك يدي

أو

أمشي من غير أن تهتزّ يداي

لكن

راودني شعورٌ

أنّي أصبحت تمثالا سواء تحدّثت أو مشيت من دون يدين

**

3 - معتوه

في المقبرة

معتوه يعدّ القبور كلّ يوم

من الصباح إلى المساء يعدّ

يسأله الناس بخبث:

كم بلغ العدد؟

يجيب: متى تكفّ الأرض عن ابتلاع أبنائها!

***

قصي الشيخ عسكر

جـاء الـصباح وأنـت شمس صباحي

شــهــد الــزهــور حــــلاوة الـتـفـاحِ

*

وإذا سـجـى لـيـلي سـريتِ لـنابضي

فــإلـى فـــؤادكِ جـيـئـتي ورواحــي

*

وبـذلت عـقلي بـل جـميع مـشاعري

حــتــى غــــدوتُ كـمُـسـكَرٍ بــالـراحِ

*

لــولا الـهـوى مـا كـان مـني خـافقي

خـــطّ الـقـصـيدَ؛ فـرنِّـمت أفـراحـي

*

آهٍ مــن الـعشق الـذي يـَسقي الـفتى

خــمـر الـهـنـا فـــي ثـــورة الأتـــراحِ

*

قـــد كـــان لـيـلـي قـبـلـها مـتـجـهّماً

حــتـى أتــت فـضـياؤها مـصـباحي

*

نقش الهوى قصص المُنى بملامحي

نــقــش الــنـبـيّ بـصـفـحة الألـــواحِ

*

غَـمَـزت فـقـلبي مـثـل طـبلٍ صـادحٍ

فــيَــدي عـلـيـهِ خـشـيـةَ الإفــصـاحِ

*

وتـــردّدت قَــدَمـي تــروح فـابـتدي

شـــرحَ الـشـّعـور فـنـبضهُ فـضّـاحي

*

إلــزم مـكـانك قــال عـقـلي سـيـدي

إن الــهـوى يـــا صـاحـبـي ذبّــاحـي

*

فـحـبست عـقـلي والـتـبصُّرَ حـيـنها

ومـضـيت أعـشق والـبيانُ سـلاحي

*

آمـنـتُ بـالـحبّ الــذي فــي خـافقي

إيــمــانَ شــيــخٍ مــوقــنٍ بـصـِحـاحِ

*

فــأنــا الـمـتـيّـمُ والـمـشـاعـرُ أبــحُـرٌ

تــجـري بــهـا فُـلـكـي بــدونِ ريــاحِ

*

فـبـحـسبها عـشـقي ونــار تـوهـجي

لــتـسـيـر يــُـســرا دونــمــا إلــحــاحِ

*

فـالـحـبّ مــثـلُ الــيـمّ لا تـُبـحرْ بــهِ

مـــا لـــم تُـجِـدها حـرفـةَ الـمـلّاحِ؟!

*

كـــم عــاشـق غــدرت بــه أمـواجـه

لــــمّـــا تــــوهّـــم أنّـــــــهُ بـِــمـَــراحِ

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

وعَنْ بغدادَ يا وَطني سُؤالي

لماذا شَفّها داءُ الهُزالِ؟!!

*

فكمْ سَمَقَتْ على وَجَعٍ وكَيْدٍ

وأوْصَلتِ الحواضرَ بالعَوالي

*

مُدوّرة مُخلّدة وتَبقى

مُحَصّنةً بمانِعَةِ الزوالِ

*

ومِنْ أزلٍ إلى أبَدٍ خُطاها

تُنوِّرنا بآياتِ النِضالِ

*

هيَ الدنيا إذا خَلعَتْ إهابا

تُسوّرُها ضَياغمُ  مِنْ رجالِ

*

بجَعْفَرها كما انْطلقتْ تواصَتْ

بمُبْتدءٍ لحاديةِ الوصالِ

*

وهارونُ الذي أعلى رُباها

موهَجّةً بأرْجاءِ المُحال

*

تدورُ بنا وما تَعِبَتْ لهِمٍّ

وإمْعانٍ بجائرةِ الصَوالِ

*

بها بغدادُ رمزٌ مُسْتَقيدٌ

لأجْيالٍ مُحَمّلةِ الرِسالِ

*

وفيها روحُ أفذاذٍ أجادوا

بإبْداعٍ لفائقةِ المَنالِ

*

لها النُهْرانِ مِنْ وَلهٍ سُعاها

إلى خَفَقٍ بأعْماقِ احْتفالِ

*

ونَخلٌ في مَرابِعِها تَباهى

يُخاطِبُ روحَها بهوى الشِمالُ

*

شواهِدُ رحلةٍ بَلغتْ مُناها

بأيْامٍ مِنَ الزمَنِ المِثالِ

*

بها المأمْونُ نوّارُ افْتِكارٍ

وعالِمُها المُزَهى بالخَيالِ

*

أرادوها مُكمِّلةً لعَرْشٍ

وكُرْسيٍّ بآفاقِ ابْتِهالِ

*

فعاشَتْ عُرْسَ دُنياها ودامَتْ

مُتوَّجَةً برائعةِ الخِصالِ

*

فما وَهَنَتْ وإنْ جاسوا حِماها

تُدَحْرِجُهُمْ على سُفُحِ النِكالِ

*

فهلْ سألوا أعاديها وقوماً

أعانوا كلَّ مُرْتَزَقٍ مُغالي

*

وخائِنُها بلا نَظرٍ لحَقٍ

فحَيْفُ وجودِهِ شرعُ النوالِ

*

كأنفالٍ أرادوها لبَعضٍ

كأنَّ ترابَها وطنُ الخِشالِ

*

وفَتواهمْ تُدنّسها ونَفسٌ

تؤمِّرُهمْ بأشرارِ الفِعالِ

*

تُعاجِلُها النواكِبُ والرَزايا

وتَنهرها بأسْلحةِ اعْتِضالِ

*

عَزائمُها بها الأبناءُ أجّتْ

مُسَعَّرةً بأرْوقةِ الهوالِ

*

ألا صَدَحَتْ مَفاتنُها بدُنيا

وأرْشَدَتِ الحَواضرَ للبَسالِ

*

تَبغدَدتِ الخَلائقُ من رؤاها

وصارَ البغدُ عُنوانَ الكمالِ

*

بها الأنوارُ ساطعةٌ بفكرٍ

وألبابٍ بعاقلةِ الجِدالِ

*

روائعُ وَصفها أضْنَتْ يَراعا

وأعْجزتِ القوافيَ بالسجالِ

*

تُسائلني قوادِمُها لماذا

توهَّمَتِ الخوافيُ بالكَفالِ

*

ومِنْ ألقٍ بأزمانٍ أضاءَتْ

توافدَتِ البَدائعُ باخْتيالِ

*

أسودُ الغابِ قلعَتُها ببُغدٍ

وأنَّ عَرينها فوقَ الجبالِ

*

مَدينةُ عِزّةٍ بَهَرتْ بضادٍ

وعِلمٍ مِنْ أصيْلاتِ الفِعالِ

*

هيَ الشعرُ الذي فيه انْطلقنا

يُعلّمُنا مَراسيمَ انْهِلالِ

*

بقلبِ الأرْضِ نابضةٌ رؤاها

مُشعْشعَة بأرْوقةِ انتقالِ

*

قِوى زمنٍ مُؤزّرةٍ بغُنمٍ

تُباغِتها بغَزْواتِ احْتيالِ

*

فما رَضَخَتْ لعاديةٍ وأخرى

وكمْ  شمَختْ مُؤزّرةَ الرجالِ

*

تمرُ بها الحوادثُ دونَ جَدوى

فتُطعِمُها العَظائمِ بالقتالِ

*

توَهّجَ قلبُها والروحُ تَرقى

لعاليةٍ بأرْوقةِ انْثيالِ

*

سَتَحيا بُغدُنا شمساً بكَوْنٍ

وإشراقاً بداجيَةِ الليالي

*

خطوبُ مَسيرةٍ جَزعَتْ مُناها

بقاضيةٍ بمَمْنوعِ الحِصالِ

*

سَلوا عَرباً وأقواماً توالتْ

عَنِ البُغدِ السنا أمّ الأُصالِ

*

تولتْها توابعُ مُبْتلاها

مُغفلةٌ مِنَ الرُعَعِ الجُهالِ

*

ألا تبتْ يدا زمَنٍ خَنوعٍ

تُسَرْبلهُ الأسافلُ بالخَذالِ

*

تُبغددنا برائعةِ انْطلاقٍ

وتُبْهرُنا بواعيةِ الهلالِ

*

لها الدنيا إذا صدقتْ وبانتْ

بما حفلتْ بمملكةِ الجمالِ

*

تَصالِحُها معَ التأريخِ نَصرٌ

وإبْعادٌ لحاديةِ الضَلالِ

*

هي البغدادُ جَعْفرها أميرٌ

مُكرّمَةٌ بأنوارِ المَآلِ

***

د. صادق السامرائي

 

1- همسة

الإنسانْ

نهر النور

يحمل أكثر من عنوانْ

يجعل في راحته وطناً

ويضمّ الراحة في قلب مكسورْ

ويدور ..يدورْ

يبحث عن خبزٍ

عن سمك الروحِ....وعن حظٍّ

أحرقه التنورْ

**

2- ضجيج

في كلّ مكانْ

بين جبال الأفياءْ

بين البرّ... وبين الماءْ

الأنسانْ

من ثرثرة الصمتْ

يتعلم أشياءً....أشياءْ

تصلح نبضا للشعرِ

وقلباً للموتْ...!

**

3-انفعال

تشاكستْ

في داخلي الألوانْ

فانفجرتْ قصيدتي

واستشهد العنوانْ....!

**

4- محاولة

حالات الفوضى

سترتّب أيامي ...!

**

5- تشبث

في أطراف الأحياءْ

يتشبث بعض الموتى ...!

**

6- ضوء

لفّ الليل..

جميع المخلوقاتْ

أسدل كلّ ستائره

لكنّ الشاعر

أوقد في حجرته

روحاً لتضيء

حروف الكلمات...!

***

حامد عبد الصمد البصري

 

العشقُ والرغباتُ: زليخةْ

الأفعى والشَهَواتُ: زليخةْ

القمصانُ المقدودةُ من قُبِلٍ

ومن دُبرٍ: زليخةْ

النزواتُ والجَمَراتُ: زليخةْ

التفّاحُ ونسوةُ المدينةِ: زليخةْ

ويوسفٌ كانَ: الضحيّةُ

وهوَ: البريءُ، الطاهرُ، الجميلُ

وكاتمُ الأَسرارِ

وصاحبُ الرؤيةِ والرؤيا:

{ إذْ قالَ يوسفُ لأبيهِ

ياأبتِ إنّي رأيتُ

أَحدَ عشر كوكباً

والشمسَ والقمرَ

لي ساجدين }

وقدْ صدقتِ الرؤيا

وظهرَ الحقُّ

وأَشرقتِ الحقيقةُ

فطاحتْ عروشٌ

وإنبقرتْ كروشٌ

وتساقطتْ أَقنعةٌ

وتكسَّرتْ توابيتٌ

و كَنَسَ الطوفانُ

كلَّ النعوشِ والقبورِ

ولمْ تبقَ سوى ذكرى يوسفَ

وسورتِهِ وسيرتِه وأسرارهِ

في الكتبِ السماويةِ

والكتبِ الأرضيةِ

وحكاياتِ الأوّلينْ

وأوهامِ الآخرينْ

منذُ زليخةِ الأُولى

حتى زليخاتِ الزمانِ الفظِّ

وصبايا الغوايةِ والمُتعةِ

ولمْ يبقَ سوى يوسفَ

الصدّيقِ والزاهدِ والأمينْ

إلى أَبدِ الآبدينْ

آمينْ آميـنْ...

***

سعد جاسم

أوتاوا في 5 - 5 - 2024

 

‏سأكون لك مدى الحياة

‏ولكن

‏ليس قبلَ أن أجوبَ الأزقة المتعرجة

‏في روحي

‏فأنا أسيرُ بين الرياح كلَّ مساء أنقّب عن النور

أرتدي لغتي القوية درءا من العواصف

‏ألبسُ ثلاثة عشر حجاب

‏وبالكادِ أحجبُ فُؤادي

هل تحبّ مثلي الغابة الظليلة؟

أنت تعيش مثل الذئب في الغابات

‏أنا مُولعة بالكتابة، وأناملي محبرة بالقصص العتيقة، وقريبًا جدًا سأهديها للمكتبة الوطنية

‏لا أعرفُ كم أحتاجُ من الزمان لتعبيد طريقي، فكلما زادت خطاي تشعبت السبل التي يجرّني إليها شغفي بالفضول!

‏في الحكايا الأولى، لا أبحث عن الصخب

أتخيل مكانًا تكون الأرواح في سلام

حيث العمق الأزرق يغمر كل شيء،

والنجوم مراكبه الحالمة

‏وأخيرًا، أنا مدينة لحكمتي بكل أسرار الوجود

‏لأنها تهبني الاستقلال

‏فأنا أقتني من كلّ شيء نسخة واحدة فحسب:

‏قلمٌ واحد

‏ساعة يد واحدة

‏كرسي مفرد

‏كوب بلا زوج

‏وسريرٌ يتسع لظلي فقط:

‏هي أنا

‏لذلك سأرتضيك مدى الحياة

‏لكن ليس قبل أن

‏أملأ الفراغَ الأخير

‏في روحي

‏وأقرؤك.

***

ريما آل كلزلي

 

ذاتها الخدعة

من تغوي

فتتهاوى الأجساد

لبهرجة

منحتها ألوانا قانية

قتامة

تبحث عن رماد

لتذروه الرياح

غير آبهة

فثمة عيون لأجساد متهاوية

هي مستقره

*

بين هرولة

وهرولة

ثمّة أنفاس

لخطوة لاهثة

تتقاذفها الجهات

تارة نحو الشمال

وأخرى صوب الجنوب

لا يملأ فاهها البهلواني

إلّا ذرات تراب

لهرولة مزقّتها

الاتجاهات

*

أنّى لها الهداية

أقدام

آثرتها هرولة

تتقاذفها الجهات

لتهوى

وقد أنهكتها رحلة أنفاس

أضلَّت بوصلة

تزدان طهارة

***

ابتسام الحاج زكي/ العراق

كل من تعود أن يقطع الزنقة الهامشية الواقعة بين زنقة وادي الصوافين وبين الثانوية الأصيلة في عقيبة الفئرات بفاس لا يمكن ان تغيب عنه طفلة صغيرة تفترش ورقا مقوى وتعرض كل ما تلاشى مما استغنى عنه أصحابه من أواني منزلية وزجاجات فارغة، براغي ومساميروحبابات كهربائية تعطلت عن العمل..

كانت الصغيرة لا تحرص على ما تعرضه على المارة فهي لاتطمع في دخل كبير فتركيزها كان منصبا على كل ما تقرأه من دفاتر ممزقة،وكتب متلاشية، بل وحتى لفات أوراق مما لعب به الصغار ككرات ورقية في الزنقة قبل ان ينصرفوا ويتركوها لمنظفي الممر من البلدية والذين قد لا يمرون بالممر ويتجاوزونه الى الطريق الرئيسية للثانوية..

كانت الطفلة لا تطلب ثمنا او تحدد قيمة فكل ما أعجبك فهو لك مقابل أي شيء تتركه ولو كان درهما واحدا..

كثيرا ما شغلتني بمتابعة: قمحية اللون،نحيفة،عيونها لامعة بوميض،نبضات من ذكاء،وتقاطيع محياها جمال يترقب لحظة بلوغ ليعلن عن حضورآسر. كانت لاتنتبه لمن مر أو توقف بل لا تعير اهتماما لصغير أو كبير خصوصا اذا عانقت اناملها القلم واستغرقتها كتابة باهتمام..

تصنعتُ رغبة في رشاش مائي كان من بين المتلاشيات فسالتها عن الثمن؟ لم ترد بل اكتفت برفع بصرها الي ثم حركت كتفيها ويديها وهي تقول:

ـ اي ثمن تريد، باش ما سخر الله..

رميت ابتسامة رضا على وجهها، لم تنتبه وعادت عيونها لما كانت تقرأه في مجلة قديمة اسمها "هنا كل شيء ".

بعيدا عن إحراجها تركت لها خمسين درهما وانصرفت.. لكني وجدتها خلفي راكضة:

ـ سيدي الكريم لقد سقطت منك هذه..

ـ لا،لا لم تسقط مني، بل لك قد تركتها هدية مني..

ـ لكنك لم تأخذ أي شيء في المقابل..

تبسمت في وجهها وعلى كتفها وضعت يدي..

بكل لباقة وأدب ازاحت يدي وتأخرت قليلا الى الخلف:

ـ لا،أخذت، يكفيني اني تعرفت على صبية قارئة تتاجر بشرف..

أصرت على ان استعيد مالي فألححت عليها في إخفاء الورقة فقد ينتبه اليها أحد اللصوص من يتخذون من وادي الصوافين وكرا لاختفائهم ثم يتسللون الى الأحياء المجاورة عبر الزنقة بعيدا عن أنظار الحراسة..

شكرتني بعمق وعادت الى مكانها..

فضولي دفعني لادخل الثانوية الأصيلة أزور مديرتها كصديقة مهنة ثم أسألها عن الطفلة ان كانت لها بها دراية..

ما فاجأني في كلام المديرة أني من القلة القليلة التي لا تعرف خديجة التلميذة النجيبة الذكية التي تتابع دراستها حسب رغبتها دون أن تتقيد بوقت في مدرسة ابتدائية مجاورة "عرصة الشريفات "، وهي تتعاطى عرض كل قديم متلاش حتى تصرف على أمها المريضة وتشتري لوازم مدرستها.. كثيرا ما تتغيب عن المدرسة أياما لظرف قاهر قد يصيبها لكنها حين تعود لا يمكن ان تلاحظ نقصا في معلوماتها وخبرتها أوتهاونا في انجاز واجب مدرسي أسعفها به أحد التلاميذ..

ـ لا اخفيك حقيقة أننا هنا نترقب وصولها الى الثانوية فقد تكون سببا في تحريض التلميذات على الاقتداء بها خصوصا وقد بلغني ان لها باعا طويلا في كل ماهو رياضيات وهندسة..

غادرت صديقة مهنتي والطفلة تستحوذ على كل ذرة من كياني، اي توق هو يسكنها فيحرضها على تشكيل هيكلة جديدة لنفسها هي أكبربكثير مما يحرك من توفرت لهم كل وسائل التعلم فيحثها على طلب العلم بهذه الرغبة والشوق بعيدا عن الدراسة المنتظمة وعن المناهج المخططة،والكتب المقررة وعن معلم أو معلمة كلاهما قد يشهر صوته ويفرض سلطته ليقمط الأطفال في قوالب جامدة سكنت الأدمغة وصارت ايقاعا مفروضا على المتعلم أن يخضع لطاعته ويسير على منواله وإلا تعرض لعقاب، وبلقب كسول يصير له اسما ؟..

هكذا صار أطفالنا نموذجا واحدا خاضعا للطاعة والامتثال طيورا على أشكالها تقع..

في أطفالنا يغيب تجلي الخالق وتحضر ايقاعات عقول تكره ان تتغير أو يتغير لها مسار الا اذا كان التغير مادة فذلك ماهي عليه لاهثة بحرص ومتابعة..

في البيت تحدثت كثيرا مع أبنائي عن خديجة ونصحت كلا منهم أن يزورها يوما ويقتني منها ما يبرر ما يتركه لها من نقد، بل تجاوزنا الامر الى أن نلتقط لها صورا وفي تصورنا أنها لا تدري وقد تمكن أحد ابنائي وهو بالمناسبة مولع بالتصوير والإخراج السينمائي أن ينجز لها شريطا من خمسة وثلاثين دقيقة يصور حياتها اليومية الى ان ينتهي بجائزة نالتها اثر نجاحها في الدخول الى السادسة بميزة ممتاز..وقد كانت ردة فعلها في كلمة لها عبارة اطلقت تصفيقات حارة من الحضور صغارا كبارا:

 ـ أنا طفلة تتشبث بشجرة الحياة ولها تعمل بكل ما وهبها الله،لهذا كنت أغمض عيوني عما كانوا يلتقطونه من صور ففي ذلك صباي الذي لن أخجل منه، وحتى أساعدهم جعلت من نفسي طينا في يد خزاف..

هاتفتني المديرة يوما ان أم خديجة قد توفاها الله، لم اتريث وبادرت اليها بما يلزم كواجب وحق من حقوق فقير على ميسور. بعد أسبوع من الجنازة رن جرس البيت وكان الطارق خديجة..

لم تدخل البيت الا بعد إلحاح من زوجتي وما ان استوت في مكانها حتى فاجأتنا:

ـ جئت اليكم لتمنحوني فرصة أعمل خادمة خارج أوقات الدراسة مقابل ما قدمتموه لي في جنازة أمي..

جميعا سالت مآقينا دمعا حارا بل منا قد اهتزت الصدور، ارتمت عليها زوجتي وضمتها بين أحضانها:

ـ حشومة عليك أبنتي ما قدمناه فهو لله،خير من خير الله لمن هو به أحق، قدمناه بعد أن اكتشفنا فيك حقيقة جديدة: حب العلم والذي

 بدونه، ستكون الحياة على الأرض بلا جدوى ولا معنى لها.

تطلعت الى خديجة فوجدتها أنثى مطرزة بالقوة والوعي، صورة الحياة في اعماقها بحث عن حقيقة الوجود و الأشياء..

بحرارة شكرتنا قبل أن تقول:

ـ هذا بيت استعيد فيه أمي وأبي واخوتي الذين لا املكهم

نظرت اليَّ زوجتي كأنها تستأذنني ثم خاطبت خديجة:

ـ ما رأي خديجة لو ترضى بالعيش معنا ستجد متعة وألفة ومحبة بين أهلها..

تنهدت الصغيرة وقالت:

أعتذر سيدتي، إذا قبلت بطلبك سأحرك في نفسي قوة سلبية قد تدفعني الى الخلف، طموحي كبير وكبير جدا، الى الامام ساعية بتطور واكتشاف يومي لحياة جيدة اعاني في كيفية تحقيقها وتلك متعة وجودي..

أدركت ان البنت تنطق عن يقظة تضيء أعماقها، تريد أن تعاني من صباها وفي معاناتها طريق أخرى للحياة والوصول بلا مساعدة من أحد وانما بان تبذل من طاقتها ما يحقق لها تكاملا بين وجودها ووجود غيرها..

درس من طفولة خديجة أعاد ترتيب الأمور في بيتنا مما قد يحقق لنا وجودا متناغما أساسه الوعي وحرية الاختيار.

 ***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

ساورني وميض ننخرساج وهي تسرق عدة أوراق من رواية الأقدار التي خَطَها لي شخص مجهول، ثم وضعتها في زجاجة من الخمر المقدس؛ ربما أرادت أن تخفي بعضًا من حبكات حكاياتي، حتی لا تتكسر أجنحتها العذراء بمرور سرب غربان الآلهة.. كان ثمة رموز تهمي علی العباد بغزارة، حتی تصدع القمر.. ظهر نصفيه من بين ثنايا ظلام الكون، ليرتقي حجر قمري ساطع بالماء الفضي المُقَدَس والمُكَدَس بالرموز علی المسافات البينية لذراته.

"كان مكتوب عليه في زمن موغل في القدم أن يسقط علی رأسي" يقول، ثم يكتب ألغازًا أخری: هذا ما سيعرفه الشيخ نيتشة فيما بعد، أری ننخرساج تنسج السطور.. تبدأ رحلة نيتشة في عوالم العقل الباطن أثناء فقده الوعي، عنكبوت الزرقاوي ينسج خيوط الزمان والمكان، ليسافر عبرها كاشفًا فضائح قصور الملك المُطِلَة علی مكان يُسميه الشعب "مذبح النبي علی القمر".

اعترتني قطرات حبر سوداء علی أوراقي البيضاء السرية، ليتردد صوت غامض بداخلي، يخبرني أن كل قوانين الكون وخبايا ثقوبه السوداء مُسجَلَة بذاكرتي التي تجلَّت بجسد أمي، وفي نفس الوقت يتسلل العنكبوت إلی كهف اللاوعي، يدور ويدور.. يكشف السر الخطير وبصوت دفين يقول: كل بينيات الكون وأسرار فك شفرات ثقوبه السوداء وقوانين الخلق الثلاث مُدونَةٌ هُنا، حيث الظلام الضاحك الباكي.. إنها دوامة انهيار الحدود العظمی تشدني من أذرعي المتعددة، ليتوقف الزمان وعندها سُرِق شعوري بمخدر سريع المفعول كسرعة ركض مشاهد الأسطورة الأصلية وطيات أفكاري الخاصة المتلاحقة والمتقافزة علی دائرة اللانهاية.

"هل سأتلي آياتك ثملًا بخمر فردوسك؟ أم سترتلني أحبال ميزانك المقدس؟" قالها ذو الأحد عشر ذراعًا مُقلِبًا نظره بين أوراق التعويذة.

الطبيب: أتذكر هذا المشهد جيدًا، حينما تحول المُسجِل إلی كاميرا صغيرة بعينين تسجل الصراع القائم بين الشعور واللاشعور في اللوح المحفوظ، عندها ضل الزمان السبيل وضاع بين شعاب الماضي والحاضر.

أرادني  أن أقص عليه الحكاية الأصلية لبداية الخلق وكأنها لم تعلق بنافذة أذنيه من قبل.. وقف علی المنضدة وصرخ، ثم ضحك بشكل هيستيري.

"لو لم تعصِ الفرعون وتكشف للشعب حقيقة ذقنه الشامخ. لو لم تحرق أسفاره، وتكشف سر خدع معجزاته للموتی، لربما كنت سأراك جالسًا علی العرش بدلًا من أن يُحكَم عليك بالضياع في حواري القمر" قلتها له بعد أن دقت عقارب الساعة علی يده، لتبترها، فتسيل الدماء الخضراء، حتی وصلت إلی قدمي، فنمی له جناح وردي يتجدد كل عام مرتين، حتی اختفی المشهد.

رد الطبيب محاولًا أن يمتلك زمام متاهتي السردية قائلًا:

ـــ هل هذا الشخص يشبهك في الشكل؟

ـــ نعم، لكني لا استطيع أن  ألملم جميع حروفه.

تابعت السرد قائلًا: أتذكر ملمس الشفرة البكرية الوليدة من تطاحن رمال الصحراء مع الطين الأخضر، هي حقًا مليئة بالتناقضات: بكاء الأم في بطن المحيط، حرارة شمس الأصيل، وربما فلسفات نهر الفِراط بالجنة، أصوات تجانس العناصر الأولی للحياة. شخصت الشفرة في الغروب تطير في فضاءات شبكة الزمان، متحررة من مسارات قواعده، ربما ضاعت وهي تفكر في معنی البقاء.. تسكن بعقل نيتشة، ليتوغل بها العنكبوت كالمجنون الصارخ الباحث عن أحجيات معادلة الجاذبية؛ ليثبت للجميع أن ما آمن به منذ طفولته لم يكن وهمًا، فكان يعتقد أنها الخطوة الأولی لتشكيل صلصال بخضرة الطين وزرقة السماء، فيملك مفاتيح الميزان.

"سقطت سمائي ومالت كفة ميزاني اليُمنی أكثر من اللازم، عندها كان يجب عليّ أن انتحر بهدوء وأترك العالم للأم" قالها الملك وقد انتفض جسده الجهنمي علی الماء، ليتبخر البحر بأكمله.. وبعد أن شعر بالتفاف ثعبان الزمان البطيء حول عنقه كتب تعويذة مسحورة يلتف حولها الخوف ولوعة الإيمان.

كلما نحت فيها رمزًا، يُشَد العنكبوت بيدٍ خفيّة، ليعود إلی عتبات شفرة الطبيعة وقد اغرورقت مسامعه بالنسيان.. تكاد أن تتحجر أذرعه الرمادية الحائرة. أتذكر جيدًا أن وقتها حلقت روحه حول صدی المشهد الأخير من مسرحية ربه التي تلونت بالبُهُوت كما بدی وجه الملك تمامًا.

"اُنظُر هناك! إنه دخان ساحرة ألوانه يحمل صرخات بعيدة لأول فوج من البشر خُلِق بالألوان الطبيعية علی لوحة متوسطة الحجم في مرسم مَنسيّ تابع للإلهة الأم" قالها العنكبوت، ليُترجم الملك تلك الأصوات إلی آيات ذكر ذات أحبار سرية اكتشفها أثناء زيارته لعالم السَحَرَة الغُزاة.

تذكرت أيضًا أن من كان يقود الجمع هي امرأة عجوز حدباء وشعرها أزرق. تحمل في يدها اليُمنی شعلة من نيران الحديد تنير الدرب، لكن سرعان ما تخيلت الإلهة الأم ماء السماء وهو يهطل علی الحديد، فتُخمَد النيران ويحتل الظلام بسقيعه العالم.. يتسرب البروتين مرتطمًا بالحديد والمطر، يضحكان ويبكيان، ليتجسد الخير والشر وتجتمع بصمات قوی الطبيعة في اجتماع القمة مُعلِنةً عن ولادة الحياة، وقتها صدر صوت غريب من المُسجِل يشبه الصَفير المؤلم، لكني لم اهتم ولا أجد له تفسيرًا حتی الآن. هناك مشهد آخر للإلهة الأم، لكن خانتني الذاكرة مرة أخری.

"يبدو أن الملك وضع بالچينات خطوات خجولة بسيطة من أصل عدد لا نهائي من القفزات الزمكانية في الذاكرة؛ حتی لا يكتشف نيتشة وعنكبوته تفاصيل المجرات والكواكب المشتعلة وتلك الباردة، فستكون كارثة حقيقية إن كَشَفَ سر بنات وادي عَبقَر المحدوف في ركن مُتخلخل في أعمق خلية بالذاكرة" يقول العنكبوت مُستنبِطًا، ثم يُعَلل حيلة الملك برغبته في حجب ترددات نغمات آلات حناجر بنات الوادي النفخ وترية الساحرة. وفي هذه الساعة رسم الملك عدة طرائق للعنكبوت، لعله يُرشَد إلی زاوية قد تكشف لغزًا غاب عن روايته، من الواضح أن ننخرساج قد أخفت عنه بعضًا من فصولها القصيرة، بينما كتبت في أول فصل عن دورة حياة العنكبوت، حيث حكمت عليه بأن يَرتجِل حياته من الساعة صفر إلی نهاية خط العمر القصير.

بخطوات مترددة تحسس العنكبوت تفصيلات وتلافيف دماغ نيتشة الفيلسوف الملعون، حتی بلغ الزاوية المُعلَقَة. شاهد بها كائنات عجائبية الألوان والأشكال أصل موطنها كان مَثَار جدل وحديث مفتوح النهايات بعدة تخيلات: قد تكون بنات وادي عَبقَر المُخَلَدات، هذه الكائنات هي الآلهة الأصلية، البرودة والظلام سلفنا المشترك.

يلتف الجميع حول شجرة واحدة تتدلی منها كواعب العنب الأحمر الخمري. ظل سر خالقها حبيسًا في رأسي.

تتساقط منها حبات العنب ليلتقطها أطفال من وادي مسحور وقد ارتدوا رداءًا حريريًا بلون السماء الأولی.. يرتقي العنكبوت إلی العَمَدِ، ثم إلی السماء الثانية. لم يستطع رؤية ألوانها من شدة الظلام وقسوة سقيعه.. وبعد عدة ساعات من الصمت سمع صوت انفجارات لضوء مثلث معدني عملاق مُنَار باللهب الفضي وحوله الكون شديد السواد وبداخله دائرة حمراء تنبض بها الدماء، فتتمدد الدائرة وتزداد حرارتها وتلامس المثلث بحوافه الثلاث من العمق. علی اليمين في منتصف ضلع المثلث الرقم ثلاثة، ثم علی اليسار في منتصف الضلع التالي الرقم ستة وعلی القاعدة الرقم تسعة يحرسه رأس المثلث المعقوف، ثم علی جذع شجرة ذبيح في بقية الكون المُظلم الفسيح جلست لأناجي حرارة الطريق.

"البداية كانت بالبرودة والظلام، ثم علی اليمين الرقم ثلاثة وتدور الدائرة مرورًا بالرقم ستة، حتی الرقم تسعة في القاعدة الأساسية.. حتی الآن أنا تائه يبحث عن معنی العدم والوجود" قلتها مُتخبِطًا بين أفكاري العبثية ولطمات رمزيات أرقام المثلث برأسه المعقوف. وسرعان ما سجل الملك تلك الأرقام ونسج معادلته الخاصة معتمدًا علی مصباح كهربائي وقلم مغناطيسي يجذب ويحيك الأشياء المختلفة علی طريقته الخاصة.

"كانت السماء الثانية مجرد خدعة وضعتها ننخرساج للملك بحنكة العالمة بأسرار قوی الطبيعة" هذا ما سيعرفه الملك فيما بعد وتحديدًا قبل عودة العرش بثلاث ساعات فقط.

لو لم يُلمِّح الملك في مخيلته أنه مجرد شخص عادي أو فصل من فصول رواية قديمة نسي الراوي أن يضع لطياتها نهاية، ثم مات وحيدًا، حيث خطفته عصابة الديدان الزرقاء إلی عالم الموتی بأوامر من الجان، ما كان لحكاية السماء الثانية أن تكون.

"وقتها لم أعرف أن عقارب الساعة قد انكسرت علی جبال الأبدية" قلتها، ثم تابعت السرد قائلًا: لو لم يُسرَق العرش من الأم، لربما ما كان لحكاية العنكبوت ونيتشة الفيلسوف أن تكون.

"يروقني أن أخُطك بجسدي، أن أكتبك: حيرةً، يقينًا، شكًا، كُفرًا، وثمالةً من إيمان نهر قد سلمته الأم لعناق شاطيء نوراني" يقول الشيخ نيتشة للعنكبوت، ثم تتطاير الرؤی مُجددًا.

***

بسمة يحيى – قاصة مصرية

الحلقة الأولى من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور

***

سار في طريق متعرجة تحفها بيوت حجرية قديمة، وجدرانها وشبابيكها تطل مباشرة على الشارع، وعلى الرغم من قدمها، إلا انها بدت نظيفة تماماً إلا من اوراق الاشجار التي تجعل منها الريح  تدور وتدور لتقذف بها في زوايا المنعطفات.. تلك هي في حقيقتها أزقة قديمة لا تسلكها الحافلات، أنما كان للجياد نصيب فيها فضلاً عن العربات، التي تجرها الخيول في الزمن الغابر.

وهو يسير على الأرض المرصوفة بحجر اسود.. كان أولاد المدارس يتراكضون وعلى ظهورهم حقائبهم، فيما يمتطي البعض منهم، وهم قلة على ما يبدو، (دراجات) هوائية رآها بالكاد تقاوم أرضية الشارع الحجرية.. وعند المنعطف كانت هناك باحة عريضة تظللها الأشجار وفي ركنها صخرة منحوتة على شكل مصطبة يجلس عليها عادة المتعبون من كبار السن وهم في طريقهم الى منازلهم.

جلس ليستريح عناء التجوال البطيء في ذلك الزقاق الطويل المتعرج، وهو يتأمل قِدَم الأبنية والأبواب والشبابيك التي تآكلت بفعل الزمن، فيما كان ساكنوها يحرصون على دهانها بألوان جذابة كاللون الأزرق والأخضر والأحمر القرمزي، والتي تشع جمالاً من خلال اغصان الأشجار الخضراء اليانعة.

رجع بذاكرته الى طفولته الأولى حين كان يلعب في الزقاق بالقرب من بيته الذي تمر أمامه عربات تجرها الخيول، وكان يشعر بالسعادة حين يلحق بمؤخرة العربة ويجلس على القضيب الذي يربط العجلتين الخلفيتين الكبيرتين للعربة، بعدها يحاول ان لا يبتعد وينتظر أن يبطئ الحوذي حركته، واذا استمر بسرعته العادية فلن يستطع النزول والعربة تسير مسرع عكس نزوله.. وجازف مرة وترك قضيب العربة الحديدي، وسرعان ما وجد نفسه يتكور في الطريق والدماء تنزف من ركبتيه ويديه، وأحدهم يسرع في حمله لأسعافه بعد ان انهال عليه بالسب والشتم وعلى ابيه الذي سمح له بالخروج من البيت. !!

وعند ركن المنعطف حيث وجه الشمس، افترش الأرض رجل يبدو انه لم يبرح مكانه منذ فترة طويل.. اشعث الشعر يلبس كل ما لديه من ملابس ويتدثر بمعطف قديم، وكان يقضم شيئاً والى جانبه عربة حمل خشبية بدولابين وحصان هو الآخر يأكل من كيس معلق في رقبته.. تحيطه اشياؤه، مبعثرة هي حاجياته.. صحن وقدح معدني قديم معلق في مسمار الحائط  والى جواره انتصب كيس من القماش يجمع حاجياته.. والحصان ما يزال على حاله يلوك شيئاً ويحمحم بين الفينة والأخرى، وخاصة حين يمر احدهم من امامه عبر ذلك المنعطف الذي يغمره ضوء الشمس.

اخرج لفافة وحشر فيها التبغ ثم اطبق عليها بعد أن رطب نهايتها ثم لفها واوقد فيها عود ثقاب، وغاب في نفس عميق اطلق بعده حزمة من دخان ابيض تتدفق معه همومه المكدودة ، ثم التفت الى الحصان وتمتم معه ببضع كلمات لم يفهم منها شيئاً ربما قال له..لا تتعجل في المضغ لأن لدينا وقت كاف للراحة بعدها سنقوم بالتجوال معاً..التفت نحوه الحصان، ربما فهم هذه الكلمات، إلا انه اشاح بوجهه بسرعة الى جهة اخرى، أما صاحبه فقد استمر يأكل ما في الكيس الورقي الذي اخرجه من جعبته الجلدية المنتفخة الى جواره.

شعر بشيء من الرغبة في الحديث مع نفسه حين تمتم ثانية.. انه صديقي الوحيد في هذه الدنيا.. نعم ، نأكل معاً ونشرب معاً وننام في هذا الركن معاً، وهو لم يمتعض يوماً إلا مرة واحدة حين أرغمته على السير وهو لا يريد.. كان مصر على عدم النهوض، كان يود الأسترخاء والأستمتاع بشمس الظهيرة.. وما أزال اتذكر ردة فعله التي أخافتني تعبيراً عن الرفض والإذعان لأوامري.. لقد ادركت، منذ تلك اللحظة، أنه كما أنا لا اريد ان اتلقى أمراً من أحد، وفهمت ذلك.. أنا أحترمه الآن، ولا شيء يجعلني أختلف عنه.!!

حرك ذراعه وأزاح شعره الكثيف الطويل الأشعث الى الخلف ومرر أصابعه بين خصلاته ثم استدار ليعبث بشعر حصانه الذي سرعان ما استسلم بسهولة لتلك الحركة الأنسانية الودودة التي تشيع الحنان بين كائنين يتقاسمان العيش معاً في ذلك الركن المظلل لبيت قديم تطل من نافذته الأمامية زهور رائعة.

العالم كله من حوله يتحرك، وهو يراقب هذه الحركة بدون مبالآة، لأنها حركة يومية تكاد أن تكون متشابهة في بعضها، أما تفاصيلها فكانت لا  تحصى ولا تتشابه لا في الزمان ولا في المكان.

فكر مع نفسه.. ماذا لو كنت مكانه.. مكان الحصان؟ ربما سأكون أكثر سعادة وراحة وحرية.. وحين التفت اليه تسمرت عيناه في عيني حصانه الداكنتين وفكر، ما تراه يراني؟ ربما يراني مثله حصاناً.. أو مخلوقاً آخر اعتاد عليه في ذهابه وترحاله.. أشفق على نفسه وأخذ يرمقه بنظرات الحب والأحترام طالما كان معه طوال الوقت ولم يذهب مع غيره.. لقد تركه مرة ساعات في مكانه في ذلك الركن واقفاً او ممدداً يستريح عناء العمل الممل.

التفت صاحب الحصان صوب الصخرة التي يجلس عليها قاطع الطريق الجوال الذي أحب الأزقة القديمة المرصوفة بالحجر وبيوتها ذات الأبواب والشبابيك الملونة يغطيها قرميد أحمر تحول لونه الى كاكي معشوشب بحشائش تضفي جمالاً أخاذاً على بيوت الزقاق القريب من سور مدينة (Zeytinburnu) زيتون بورنو الجميلة القريبة من البحر.. وتمتم بكلام فهم منه.. أنت ، الى ماذا تحدق برب السماء؟

أدرك انه محط تساؤل، وعليه أن يجيب إن فهمه صاحب الحصان..

لاشيء لقد كنت انظر الى الحصان الجميل الذي يبدو انه يفهمك جيداً.!!

شعر العجوز بالراحة من هذه الأجابة.

وقال: هل تعلم انه رافقني منذ سنين حين هرب من صاحبه الذي يقسو عليه طوال اليوم.. لم أكن أعلم انه قد ارتاح إليَ حين ربتُ على رقبته وهو يسير الى جوار ذلك الجدار الحجري القديم المتهرئ، ومنذ تلك اللحظة تبعني الى حيث أسير.. لقد قطعت مسافات بعيدة وهو الى جواري.. من الريف الى هذه المدينة والى هذا الزقاق القديم منها.. لقد تولدت بيني وبينه ألفة منذ أكثر من ثلاث سنوات.

ومن أين تحصل على رزقك؟

ألا ترى العربة والحصان.. اني أعمل وأكسب.. ولكن ليس كل يوم.

ولماذا تفترش الشارع.؟

ألا ترى... وأشر الى الجدار الذي يتكأ عليه.. إنه بيتي.. فهو صغير ولا يسمح بدخول الحصان.. ففضلنا هذا الركن.

هل لديك زوجة أو أولاد أو أهل؟

كانت لدي صديقة.. تزوجنا ، ولم نشأ أن يكون لنا اولاداً.. ذهبنا ذات مرة الى البحر، تركتها تنزل لتسبح ثم غابت بين أمواج البحر.. ولم يرها بعد ذلك أحد.. أنتظرتها طويلاً.. إنها ما تزال تسبح هناك حيث الأمواج..!!، ألا ترى، أني ما أزال أنتظر عودتها من البحر؟ هي لم تتعرف بعد على حصاني، وأنا واثق بأنها ستحبه كثيراً.

وماذا كنت تعمل قبل ان تتعرف على فتاتك وحصانك.

أنا ادرس الأنكليزية في مدرسة المحافظة.

ولماذا غيرت مهنتك؟

أطرق رأسه الى الأرض وقال.. أنا هنا قريب من البحر، أترقب عودتها.. أنتظر عودتها.. انها ستعود ، أنا واثق انها ستعود.. ألا ترى النوارس وهي تصرخ، إنها تنبأ بعودتها أيها المغفل.. إنها ستعود.!!

***

د. جودت العاني

10/ 05 / 2024

 

شــرارُ  الــنساءِ كــبردِ الشتاءِ

أســاسُ الــبلاءِ وأصــلُ الـعِـللْ

*

تــعيدُ الــكلامَ وتـهوى الخصامَ

فــتغدو الــحياةُ كـــطعمِ الـبصلْ

*

جَشوبٌ شَجوبٌ قطـوبٌ كَـذوبٌ

بــكلِّ الــخطـوبِ تُــثيرُ الـــجدلْ

*

بــصوتٍ أجـشٍّ كوحشٍ بحرشٍ

جــمالُ الأنــوثةِ عــنها ارتــحلْ

*

كــرامُ الــنساءِ كــعطرِ الـمساءِ

وبــدرِ الــسماءِ إذامـــا اكــتملْ

*

هَــلوبٌ  عَـروبٌ لعوبٌ وهـوبٌ

تَــعَافُ  الــعيوبَ كـخطبٍ جـللْ

*

تـــردُّ  الــوفـاءَ تــزيدُ الــعطاءَ

وتــهوى  الــحياءَ بها والخجلْ

*

مَــضتْ بالمسيرِ كـهدي البشيرِ

لــتغدو  حــياةُ الــعَشِيرِ عَــسلْ

*

وشــرُّ الــرجالِ قـــليلُ الـــفِعالِ

كــثيرُ  الــجدالِ عـــديمُ الــحِيَلْ

*

حَــسودٌ كَـــنودٌ حــقودٌ صَــلودٌ

عــنــيدٌ  بــلــيدٌ شــديدُ الــكسلْ

*

رفــيقُ الـــرِعاعِ كــثيرُ الـنزاعِ

رديءُ  الــطباعِ كــثيرُ الـخَطـلْ

*

خَــلوبٌ غَضوبٌ قلـوبٌ عَـتوبٌ

عــديمُ الــمزايـا كــفحلِ الــنَّحَلْ

*

كــريمُ الــرجالِ كــشمِّ الــجـبالِ

حــميدُ  الــخصالِ كــغيثٍ هَـطَلْ

*

طــليقُ الـــمُحيّا جــوادٌ ســخيٌ

عــلا  كــالثـريا بــما قــدْ فَــعَلْ

*

حصيفٌ  شريفٌ لطيفٌ عـفيفٌ

ولــمْ  يُــرْوَ عــنه صَـديقاً خَذلْ

*

وقــورٌ حــصورٌ جسورٌ غــيورٌ

صبورٌ على الناسِ صَبْرَ الجملْ

*

فــهذي الــسجايا بــكلِّ الــبرايا

عــلــيها الــخــليقةُ مُــنذُ الأزلْ

***

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

....................

معاني المفردات

الجَشُوبُ من النساءِ: الخشنة الغليظة

امرأةٌ شَجُوب: ذاتُ همٍّ تعلق قلبُها به

القَطُوبُ: القابضُ ما بين عينيه من جِلْدٍ عابساً

خَلُوبٌ:كَذَّابٌ، خَدَّاعٌ

الهَلُوبُ: المرأَةُ المتقرِّبة من زوجها، تحبُّه وتُقصِي غيرَه

العَرُوبُ: المرأَةُ المتحببة إلى زوْجِها

العَشِيرُ: الزَّوْج

رَجُلٌ صَلُودٌ: شَدِيدُ الْبُخْلِ

خَطِلَ في كَلاَمِهِ: أَتَى بِكَلاَمٍ فَاسِدٍ لاَ مَعْنَى لَهُ

الحَصُور: الممتنع عن الانغماس في الشهوات

 

في تمام الوِدِّ

والوردةُ العاشرةْ

هَطَلَتْ نساء الثلجِ

دافئات القُبَل..

يَعْرِضْنَ تفاحةً بيضاء

زرقاء البيجامةْ

تَسُرُّ الناظمينْ !

ليست محسوبةٌ على أحد ٍ

وليس لغيرها قبولْ !

*

حين خَلعَتْ ـ تفاحة الوسامة ـ

(أسرار الليل) !

تَجَاذَبَتْها أرواح قَدَرية

بزرقةِ عيون النيل المُشتهاة !

وعذارى سَكَبْنَ

ظِلّهنَّ الوردي

على يافِعٍ في الثامنةِ

بعد العَشْرَةِ المُعَلّقةْ !

*

تُداعِبُ تفاحةٌ خضراء

فاحِشٌ لَثْمها

غزالةً ورَقية

يميزها فَوَهٌ حضاري:

وسامتُكِ

أحْدَثَتْهَا عُلْبةُ ألواني

بفرشاتي المُعارضة للسكونْ!

*

تفاحة الوسامة

ترفض تهجير التين والزيتون

وإطفاء نضوجها

بوحشيةٍ

عاريةِ الجذور والأوراقْ

وتناشد مقبرة الغزاة

مزيداً من الحياة!

*

تفاحة الوسامة

تَزُفُّني بشرى الموهوب:

(الحب عليكَ هو المكتوب

الحب عليكَ هو المكتوب)!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

في فضاء ممر الحديقة

في فصل يضم كل الفصول

كانت روحي مشدودة

تتنفس بإيقاع صامت

في مزيج من الشعر، والتعرجات على بستان الفلسفة

وفي السماء قطع من غيوم بيض، عالية جدا

وعلى فمي مذاق قريب لحلاوة نهر خوز

وبهبات صبا

رأيتُ من صرفتُ ثلث العمر معها

تقتربُ مني

انتصبتْ امامي

وكان وجهها شعاعاً لؤلؤياً

–  صباح الخير

–  صباح الخيرات والمسرّات

تراجعتْ

خطوة الى الوراء

اخرجتْ كتابا من حقيبتها

–  ليس لدي من الوقت ما يكفي

ابتسمتْ

وكأنها تقول:

- انّ روحي تحفظ حقيقة قلبك....!

وبصوت هامس جاءت كلماتها

- اتوقُ إلى  النهار جميل

احن والقلب على فطرته، كانه في طفولته

غير ان الصدأ يعلو افكاري، فلم اعد اسمع نغمة الروح

–  سلامتك امسحي الغبار عن عينيك الواسعتين

ستتمخض الأفكار عن احساس، لن ينضب الخيال فيه

ولن يجف القلب، لا ولن تموت الطفولة

– هذا صوتك الشاعري بمخارج حروفه

ووقاره القرويّ الاصيل

اشكرك على كل حال

نظرتُ اليها وعلى محياها ندى قصيدة

– وددتُ لو تبقين معي....!

نتحدث كثيرا  ...!

انك النبع المتدفق بين اشجار روحي

وعلى كل جوانب الحياة التي احبها -

اعادتْ الكتاب الى حقيبتها الكبيرة

استرجعتْ انفاسها

وكأنها تقول لي:

استمتع بهذا الفضاء وكفى

تقدمتْ خطوة الى الامام

سارت ، وكادت حقيبتها الكبيرة تضربني

لكنها لامستْ كتفي

(وهي ضاحكة)

- اعتذر منك لقد مررت على الهامش ...!

اعتذر وانحني اليك

– طريقك الى القمة...وسبيلك الى النور

تابعتْ مشيتها

تضفر الخطوات ياسمينا

والنسيم الخفيف يداعب خصلات شعرها

***

حامد عبد الصمد البصري

بين الظاهر والمستتر ثمّة هرولة أضلّت السبيل

إيه... يا أنت

يا أنتم

يا أنا

يا نحن

يا من لم تدخر جهدا

إلا وأنفقته

لتشنّها

حربا لا رابح فيها

إلا متعة تبرق

فُيمَرّغ في الوحل

ضمير ظاهر يتبجح

وآخر يستتر خجلا

والمآل ذاته

لوح خشبي يبحث لبياض

اسموه كفنا

عن حفنة تراب تواري خطيئته

فآه يا هذا

أما تكتفي؟!

ارفق بحالك

إنك الإنسان

***

ابتسام الحاج زكي/العراق

 

طال بها الانتظار، لرسالة تصلها من الحبيب البعيد الذي سافر لبعض الوقت ووعدها انه عائد اليها ليتما فرحهما بحضور الأسرة والأصدقاء، كثيرا ما جوبهت بسؤال متكرر

- ما اخبار احمد؟ الم تصلك رسائلة ويطمئنك انه سيعود الى الوطن من جديد

- لا خبر جديد

- وما زلت تنتظرين؟

- احساسي يخبرني انه صادق وسيعود

- جميل ان تشعري بمثل هذا الشعور انت واثقة بنفسك، يا ليتني كنت مثلك

 ويطول انتظارها ويكثر طرح الاسئلة عليها وكل سؤال تشعر انه يصوب إليها محاولا النيل منها والقضاء على إرادتها وقدرتها على الانتظار

 أسرتها واثقة منها وتدرك ان ابنتهم تفعل الصواب وحين تعلم ان الانتظار لا يجدي فانها حتما سوف تغير المسار

 انها ناجحة بالعمل سعيدة مع الاسرة لها الكثير من الصديقات المقربات اللاتي تثق بهن وتتبادل معهن الأفكار والاهتمامات وحتى الزيارات، يتبادلن الزيارات ويرقصن ويستمعن الى الموسيقى والأغاني ويضحكن ساعيات الى قهر التوتر الذي يشعرن به جراء العمل والروتين والكلمات الطاعنة والتي لا تأمل بها خيرا ولا ترجو منها الشفاء

- عام واحد وأعود لنتزوج ويضمنا بيت ونكون أسرة وأولاد

 والعام يطول ويتعه العام الثاني والثالث دون ان يصلها خبر واحد يخفف متاعبها الأخذة بالازدياد

في عيد المرأة هذا العام كل صديقاتها احتفلن بالمناسبة السعيدة وتلقين باقات من الورد من الأحبة الا هي فلم تتلق الورد من الحبيب الغائب بل وصلتها باقات من صديقتها سامية واخيها منير وزميلها الصديق المقرب في العمل زهير، وهذا الاحتفاء يكفيها ليبين انها محبوبة ومعها من يفكر بها ويتمنى لها السعادة والهناء

فتقرر شيئا وتقول لنفسها :

نفسي اولا وسعادتي مع أسرتي ومن يحبني هي الأولى في سلم الاهتمامات

 ***

صبيحة شبر

29 فبراير 2024

 

بمحاذاة محكمة المدينة؛ يجْلسُ العمّ "عبد الله" على كُرْسيّ مُهْترئ، تآكلتْ أطرافه، وغاب لوْنُ قصَبِهِ الأصْفر.. المِخدّةُ الرّخْوَةُ في قعر الكُرْسِيّ؛ يستخدمها العمّ "عبد الله " كقطعة طريّة، ترفع عنه آلام طول الجلوس أوْ آلامَ "البواسير".. سيّان.. ! أمَامَهُ توجد طاولة صغيرة؛ تشرّبَها الصّدأ.. فتبرْقع لونُها وبدأتْ مادّتُها الأصلية؛ تتحوّلُ إلى قشور بُنّيةٍ؛ كثيراً ما تعْلَقُ بالأوراق المتواجدة على يمين وعلى شِمالِ الآلة الراقنة. تحت الطاولة؛ توجد مؤونة العمّ "عبد الله": وِعاءُ كاظم الحرارة؛ يحفظ قهوة اليومِ كلِّهِ.. عُلْبة بلاستيكية؛ متوسّطة الحَجْم، تحْرصُ زوْجتُهُ على مَلئِها بمَا تيسّر من الأكْلِ الخفيف.. حبّاتُ بيْض مسلوق، حفنة زيتون، وقد تستبدل الوجبة بشيء من الأرز اللذيذ الذي تُزَيّنُهُ دائما بأوراق الغار.. دُونَ أن تنْسى إضافة فطيرة أو فطيرتيْن – حسب الموجود – تلفُّهُما بعنايةٍ؛ في قطعة قماشٍ صغيرة، ناعمة.

عشرون عاماً والعمّ "عبد الله" يتعاطى هذه الحِرْفة.. يُدبّرُ بها قوت عائلته على امتداد الأسبوع.. يظلُّ يوم الرّاحة لديْهِ؛ هو يوم "الجمعة" أو فترات الأعياد الدينية والوطنية؛ حيث تكون المحكمة مُغْلَقة.

تعوّدَ النّاسُ عليْه.. وتعوّد هو على هموم النّاس.. وضعَ لهُمْ كُرْسِيّاً أحسَن حالاً من كُرْسيّه، إقتناه منْ محلٍّ لِبيْعِ الأثاثِ المُسْتَعْمَل.. يتناوَبُونَ على الكرْسيّ كُلّما قصَدهُ أحدهُمْ؛ من أجلِ كتابة طلَبٍ أو تحْرير رِسالة، أو تقْديم شكوى.. وما أكثر أنواع الطّلَبَات.. ! أمّا الشكاوى فقد فاقت كلّ التّصوّرات.. ! دعاوى الطلاق والحضانة ومُنازعات الإرْث واعتداءات شباب المخدّرات وسط الأحياء الشعبية والسرقات وغير هذا كثير..

**

على أنغام الآلة الراقنة..

أصابعُ طويلة، نحيلة، حفظتْ أماكن الحروف.. فكأنّها تتراقص فوق الخانات بانسيابية لافتة، صوتُ ضغط الأصابع على الآلة الراقنة؛ يسكنُ أذُنَيْ العمّ "عبدالله"؛ يسْتَشْعِرُهُ نغَماً فريداً؛ يُلازِمه حتّى وهو في البيت.. يَفْرِكُ أُذُنَيْهِ وكأنّه يأْبى أن يختلط ذلك النغم بضجيج أهل الدّار.. العلاقة الوشيجة التي ترْبطه بهذه الآلة؛ جعلتْهُ مُدْركاً لِخباياها، عالِماً بمُكوّناتها الدقيقة وجزئياتها؛ حتّى أصبح هو منْ يُصْلِحُها كلّما أصابها عُطْلٌ ما؛ مهما كلّفَهُ ذلك من السّاعات.. يتفقّدُ خانات الحروف حرْفاً حرْفاً، يمسح ما علق بيْنَها من الغبار بريشة ناعمة؛ يحتفظ بها منذ سنوات مع أشيائه الأخرى داخل محفظة جلدية قديمة؛ تعود لأكبر أبنائه الذي توفي عرض البحر في قوارب الهجرة؛ صُحبة جماعة مِنْ شباب الحيّ.

**

نحيبُ الورق..

كانا خارجيْنِ من المحكمة؛ بعد أصبوحة ضاجّة، قضَيَاها بيْن المُرَافعات وبيْن مكاتب الإجْراءات؛ حين سمعا صوتَ ارتطامٍ قويٍّ، مصدره الشارع.. هرْولا إلى المكان ووراءَهُما جمعٌ كبير ممن سمعوا الصوت.. عقدَ المشْهَدُ الألْسِنة.. أوراق متطايرة في الهواء.. بقايا آلة راقنة مُبَعْثرة هُنا وهناك.. قهوة جارية على الطريق بعد أن تحطّم وعاء كاظم الحرارة.. رغيف خبز اختلط بالتراب.. طاولة عجنها الارتطام.. مِخَدّة تناثر صوفها فوق شُجيْراتٍ تُحيط بالمحكة.. أصواتُ المارّة تعلو: "يا لطيف! يا لطيف! يا الله.. أين العمّ عبد الله.. أين.. ؟" عيونٌ زائِغة، لا تستقرُّ على شيْء.. ينْظر "هاشم" إلى "عبد الودود" وكأنهما يتساءلان عن مصير الرّجل.. يلحق بهما القاضي "معاذ " ثم القاضية "حكيمة" ومساعِدتها السّيدة "نجاة".. تتدخل الشرطة لِفكِّ الاخْتِناق المروري بعد أن وصَل الإسْعاف. سائق ُمتهوّر في حال سُكْر؛ يتسبّبُ في كل هذا الهلع.. يحكي شهود عيان؛ أنّهم رأوا السائق يسوق بسرعة جنونية، ثمّ انفلت منه التّحكّم في السيارة فقفز فوق الرّصيف وارتطم بالحائط الخلفي ِلمُلْحَق المحْكمَة. ويحْكي شاهدٌ أنه رأى العمّ "عبد الله" قبل الحادث ببضع دقائق؛ يُساعدُ مكفوفاً على اجتياز الطريق؛ بعد أن ترك أحد زبائنه إلى جانب طاولة الكتابة، وأوصاه بالانتظار قليلاً ريثما يوصِلُ المكفوف إلى الوِجْهة الآِمنة..

**

ومع القدَر.. لا ينْفعُ الحَذرُ..

عندما رأى الزّبونُ انزلاق السيارة فوق الرصيف؛ جرى - دون تفكير- في اتّجاه الحائط؛ لكن قبل أن يصل؛ دهستْهُ السيارة وارتطمت بالحائط، ولم يعُدْ بالإمْكان رؤية شيء؛ سوى الدماء المرشوشة هنا وهناك.. صُرِعَ الزّبون.. ونجا العمّ "عبد الله".. ! إلّا أنّهُ ورغم نجاته؛ سيظلُّ أيّاماً تحت وقْعِ الصّدْمة..  كان يبكي حظَّ الزّبون "رشيد" الذي تعرّف عليْه منذ سنة؛ حين قصده لكتابة شكوى من أجل مُلاحَقة حقٍّ مسلوب.. جمعتْهُما أُلْفة جميلة؛ جعلتْهما يتشاركان قهوة العمّ "عبد الله" كلما سنحت الفرصة باللقاء. "رشيد" عامل بسيط في ورشة تلحيم الأنابيب لدى أحد الخواصّ، قضى أكثر من نصف عمره في جمْع النفايات والمُخلَّفات داخل أكياس كبيرة، ثم حمْلها إلى داخل شاحنة الورشة؛ حيث يتولى السائق توصيلها إلى ورشة أخرى للرّسْكَلة. تمضي السنوات و"رشيد" بين النفايات؛ سعيدٌ بعمله؛ إلى أن توفي الحاج "صالح"؛ صاحب الورشة.. خلَفَهُ أحد أبنائه مِنْ زوْجَتِه الأولى.. تغيّرَالنّظامُ القديم.. وتغيرتِ المُعاملة مع العُمّال.. وكأنّ الوافد الجديد؛ أراد أن يتخلّص من كل الوجوه القديمة؛ فبدأ يفتعل الأسباب ويُمارس ما تنوّعَ من الضغوطات؛ حتّى وصل الحال بالعمال إلى المُجابَهة؛ ثم الاحتجاج؛ وهو ما سيزيد من عناد صاحب الورشة؛ فيبدأ في اقتطاع أجرة أيامٍ من الرّواتب.. وقدْ يلجأ إلى درجة الطرد من العمل؛ دون تقديم تعويضات؛ في الوقت الذي كان فيه الحاج "صالح" يربت على كتف العامل المريض؛ ولا يمسُّ فِلْساً من راتبه؛ بلْ يُرْسِل إليْه ما تيسّرَ من المُساعَدَات.. فِعْلاً.. شتّان بين هذا وذاك.. ! غادر "رشيد" الورشة بعد أن اشتدّت العداوة بيْنه وبيْن مرْؤوسِه؛ ولسُوءِ حظه؛ كانت المُغادَرة خِلالَ فترة صَبِّ الرّواتب. طالبَ بحَقّه، تشاجر مع المُحاسِب، بلغ صُراخُه الطابقَ العُلْوي حيْث المكتب الرئيسي لصاحب الورشة، ليجد نفسَهُ في الأخير بين أيدي حَارِسيْ أمْنٍ؛ يجُرّانِه خارج المكان.. عاد في اليوم الثاني للمطالَبة بحقّه، أبْلغَه الحارس – وهو يتأسّف - أن صاحبَ الورْشة غادر لقضاء العطلة مع أولاده في بلاد أجنبية. اكتفى "رشيد" بالتعليق: " لن أترُكَ حَقّي للُّصوص.. " يومَها تعرّف على العمّ "عبد الله" ؛ أشهَرُ كاتب على الآلة الرّاقنة في المدينة.. أفْضى إليْه بما يشْغَلُهُ.. طمْأنَهُ العمّ "عبد الله" بِاسْتعراضِ تجاربَ مُماثلة، طال على أصْحابها الأمَد؛ ولكنهم في الأخير؛ رَبِحوا حُقوقهمْ فارْتاحتْ قلوبُهُمْ..

**

نورُ الجبّة السوداء..

عندما نصحه العمّ "عبد الله" بتوكيلِ المحامي "هاشم"؛ تردّد "رشيد" في البداية، ثم رضخ في الأخير خاصة لمّا عَلِم بأنّ هذا المحامي؛ يُنْعَتُ بأنّه "مُحامِي المُسْتضعَفين" وأنه يكتفي بمبلغ زهيد تّجاهَ أتْعابه؛ بلْ وقدْ يستغني عن أخذ الأتعاب تماماً؛ حسب أحْوال ُموَكّلِه. عُرِف في المدينة كلّها بالسِّيرة العَطِرة.. كان نبيلاً، شهْماً، مُحْسِناً، مُسْتَجيباً لِمنْ دعاه، متواضعا تحْت جُبّته السَّوْداء، لا يهُمُّهُ سوى تأدية الرّسالة التي اعْتبرَها دوْماً نُوراً يُثَبّتُ ميزان العدالة في دهاليز الظلم الإنْساني بعديد أشكاله.. شاركَهُ زميله في المهنة؛ وصديقُه في الآنِ ذاته؛ نفس الأخلاق العالية؛ إنّه "عبْد الودود" الذي أحبّهُ كلُّ مَنْ تعرّف عليْه.. يدْخُلانِ تِباعاً؛ قاعة المرافعات بالجُبّتيْن السّوْدَاوَتيْنِ وفي ضَميرِ كلٍّ واحدٍ منْهما؛ نُصْرة المظلوم ليْس إلّا. كانا يُلْقِيان التحية على العمّ "عبد الله" وهما في طريقهما إلى مرآب السيارات ويستغلّ العمّ "عبد الله" اللحظة القصيرة؛ للسؤال عن قضايا بعض زبائنِه المُقرّبين – فهُوَ مَنْ كتَبَ الشكاوى لهمْ - أصْبح يحْمِلُ همّهُمْ؛ ويستعْجلُ أنْباء الفرَج وتباشير الفرح.. إنها أنوار الإنسانية الأخرى.. تشِعُّ مهْما كانت الدّهاليزُ مُظْلِمة.. يكتفيان بابتسامة الواثق ويُتابعان سيْرهما..

مثْلَما كان العمّ "عبد الله" يبكي حظ الزبون والصّديق "رشيد " الذي لمْ يمُرْ وقتٌ طويل على فوْزه بالقضية.. كان يبكي حظه العاثر الذي أفقدَه مصدر رزقه: الآلة الراقنة.. الخسارة كبيرة.. يُضافُ إلى ذلك الشعور بالذّنْب؛ وهو ما أتْلف ما تبقّى منْ أعصابه.. فكثيرا ما كان يُردّد جهْرا وسرّاً: " لماذا طلبتُ من الرّجل أن يظلّ إلى جانب الطاولة.. لماذا.. ؟ لماذا.. ؟ ساعدتُ إنسانا وتسبّبْتُ في موْتِ آخر.. !! " تُحاولُ زوْجتُهُ ُموَاساته فتُكرّر: " لا تلُمْ نفسَكَ يا رَجُل.. أجلُهُ أخذَهُ.. لا دخْلَ لكَ في تحْديد ساعة موْته.. "

ينْتبهُ المُحاِميانِ الشّابّانِ إلى طولِ غياب العمّ "عبد الله"، فيلْجآنِ إلى الاسْتفْسار عن أمْرهِ.. يعْلمانِ سُوءَ حاله، فيهْرعانِ لتقْديمِ ما ُيمْكِنُ من المُساعَدة : يُحْضِرانِ آلةً راقنةً جديدة، وطاولةً وكُرْسييْن رَفيعيْنِ، وحُزْمة أوراق بيضاء، ثمّ يمْنَحانِهِ مبْلَغاً مالياً؛ لسَدِّ بعض حاجاته. يدبُّ الأملُ من جديد.. تبدأ الأصابع الطويلة في ُمداعبَة الحُروف.. يسْتبشرُ أصْحابُ الشكاوى بعوْدةِ العمّ "عبد الله" إلى حِرْفتِه..

**

شكوى النّزيف..

تفاجأ العمّ "عبد الله" هذا الصباح ِمنْ تواجُدِ زبونٍ صَغير؛ ينْتظرُ دوْرهُ مع المُنْتظِرين.. "عدنان"، التلميذ النجيب بإحدى المدارس الحكومية الرائدة؛ يتقدّم بخطواتٍ واثقة بعد أن حان دورُهُ.. يُقَدّمُ دَفْتَراً أنيقاً مكتوباً بخطّ اليد إلى العمّ، يطلُبُ منه إعادة كتابة مُحْتَواهُ بالآلة الرّاقنة.. قبل أن يتصفّحَ العمُّ "عبد الله" الدّفتر؛ يسْأل بِاسْتغرابٍ الزبونَ الصّغيرَ: " ما هذا يا بنيّ؟ " يُمرِّرُ "عدنان" أصابعه الرّقيقة على جبينِهِ؛ يتأمّلُ الدّفترَ وهو بيْن يديْ العمّ؛ ثمَّ يجيبُ بصوتٍ مُنْخفض؛ وكأنّه لا يودُّ أن يسمَعَهُ أحدٌ من المُتواجِدين:" كلّفَتْنا أستاذتُنا "نصيرة" بضرورة عرْضِ نشاطٍ إبْداعي جماعي؛ تزامُناً مع اقتراب نهاية الموسم الدّراسي، فاتفقْتُ مع بعْضٍ مِنْ زُملائي على أن يكون نشاطُنا عبارة عن نصٍّ مكتوب بالآلة الرّاقنة، وبعد كتابته؛ سنُصوّرُ نُسَخاً منه؛ نُوزِّعُها على الحاضرين يوم عرْض نشاطاتِنا.. " ابْتَسَمَ العمّ "عبد الله" وهو يُعَقِّبُ على طلبِ الزّبونِ الصّغير:" إعادة كتابة كل هذه الصفحات؛ يتطلّبُ الكثير من الوقت.. ها أنت ترى طابور أصحاب الشكاوى.. لا أستطيع تلبية طلبِكَ يا بُنيّ. " بِرَجاءٍ عظيمٍ وحمَاسٍ كبير؛ أوْضحَ الزَّبونُ الصّغير؛ أنه سيترُك الدّفترَ للعمّ لمُدّة أسبوعٍ أو أكثرَ، وأنّهُ باستطاعتِهِ أن يكتبَ وهو في بيْته أثناءَ العوْدة مَساءً.. هزَّ العمُّ "عبدالله" رأْسَهُ اسْتِحْساناً للفِكرة وهو يُقلّبُ صفحات الدّفتر دون أن يُركِّزَ على المكتوب، ثمَّ اقترح على الصّغير أنْ يتفقّدَهُ بعْد أسْبوعٍ كاملٍ. ابْتهَج "عدْنان" وغادرَ المكانَ وفي مُخيِّلتِه أشْياء وأشيَاء..

ليْلاً؛ يحْتسي العمّ "عبْد الله" شايَهُ المُعْتاد، ويُجَهِّزُ آلتَهُ لنقْلِ ما في الدّفْتر.. تعْظُمُ دَهْشَتُهُ وهو يقرأ الخطوط الأولى.. يُبْعِد أصابعَه ُعن الآلة، ويُتابعُ القراءة.. يتملّكُهُ شعور مُفاجئ، يتصاعدُ التّشويق.. يتزايَدُ الانْبِهار.. يُغادِرُ الكُرْسِي ويَتمدّدُ على لِحَافٍ صُوفِي وأمامَ عيْنَيْه؛ تشهَقُ الحُروف شهْقَتَها الأخرى.. يقرأ.. ويقرأ.. :

بينَ ذرّاتِ التُّراب وحُبيْباتِ الحصى البيْضاء، بيْن توْقيعاتِ الرّياح وتجاوِيفِ الصّخْر، بيْن تسبيحات النُّجوم وهُتافاتِ النّسَمات.. على كل ورَقة شجَر، ومع كلِّ حكاية فجْر، أبُثُّكَ شكوايَ جدّي.. ! أعْرِفُ أنّ رُوحَكَ الطاهرة كانتْ تُحلِّق في سماءِ بيْتنا القديم؛ يوْمَ أنْ كان لنا بيْت.. ! نحنُ في العَراء جدّي.. ومع ذلك؛ نسْتشعِرُ رُوحَكَ في هذا العَراء تطوفُ بِرُؤوسِنا، تُقَوِّينا، ترْحلُ معنا فوق ألواحِ الشّتات؛ لِتنْقشَ لحظات الموت بعطر الدّم المهراق.. أبُثُّكَ شكْواي يا جدّي بعد أن ضاقتْ بيَّ السُّبُل.. بعْد أن ضاع منّي كل شيء في الوقت الذي أصبحْتُ فيه "أنا" كلّ شيء.. ! في كل زاوية يا جدّي؛ تتناسَلُ مُوسيقى جنائزِية؛ تعْبُرُ إلى تُخومِ الروح الهاربة مِنْ شظايا المشهَد الرّهيب.. أتْرابي.. يا جدّي؛ نهشتْ أجسادَهُم الطرية مخالبُ كلابٍ مسعورة.. أتْرابي قطّعَ أوْصالَهُمْ منْشارُ الحِقْد الأعْمى.. فقدوا الرِّجْل، فقدوا اليَد، الوُجوهُ مُشوّهة.. الأضلاعُ مُهشّمة، الحروقُ شبِعَتْ من الجلود، النّدوبُ أوْجعتِ القلوب.. أبُثُّـــكَ شكواي يا جدّي.. منذ مدّة؛ قتلوا والدي، اعْتقلوا إخوتي، اليوم؛ فجّروا رأس أمّي وهي تسِيرُ بيْن الخراب، كانتْ تحْمل كيساً من الرَّغيف لِنِسْوَةٍ ثكالى؛ احترقتْ أكبادُهُنّ أمام أغلفة بلاستيكية؛ حَوتْ جثامينَ أبْنائِهِنّ.. لم تعدْ لهُنّ رغبة لا في الطعام ولا في الحياة.. اكتفيْنَ بالإنزواء والشكوى إلى:"الله".. الأنقاضُ يا جدّي؛ تسْتغيث.. تصْرخ..  حُبْلى بأشلاء العِباد، المَخاضُ يشتدّ.. رِفاقٌ فوق الأرض؛ يُحاولون الدخول تحْت الأرْض، يعلو الصراخ، تلفظُ الأنقاضُ بعْضا من الأشْلاء، ويظلُّ المَخاضُ يأكلُ الأنقاض.. ! ويظلُّ الرّفاقُ في بحْثٍ مُتعاقب عنْ بقايا.. رفاق.. !

أبُثـكَ شكواي جدّي.. مساميرُ الغصّة تنْدكُّ في حلْقي.. أبْحَثُ عن بلدي داخل بلدي.. أبْحث عن رائحة أمّي، عن مِسْبحة أبي، عنْ أحلام إخْوتي.. أبحث عن شجرة الزيتون يا جدّي.. نهبوا ميراثي.. صادروا طفولتي.. طمسوا بريق الحياة في صدري.. ولكنّهمْ لا يعلمون يا جدّي؛ أنَّهُمْ لن يتخلّصوا منّي.. ! أنا الصغير.. سأرْميهم بالطّوب، بالرّمل، بِلَعْنَة الأنْقاض، بهدير الرّعْدِ، بأشباح الليل، سأسْكُنُهُم ولن يعرفوا مكاني.. سأعيش بداخِلِهِمْ؛ أزْرَعُ بذور الخوف في جُبٍّ أوْهامِهِمْ.. أجدّدُ فتيلَ الحريق في عُقْر صدورِهِمْ.. أُطْفئُ السّراج في أدْغال أحلامِهِم..

قتلوني ألف مرّة؛ يا جدّي.. ولم يهْزِموني.. أتمسّكُ بأرْضي.. بصوامعي.. بقداسة المكان.. بشهادة التاريخ.. بحَكايا الثوار البواسل، بأهازيج ليالي النصر القادم.. أبثُّكَ شكواي يا جدّي.. أجفِّفُ دمْعي بين قبور أحِبّائي، وعلى كلّ شاهدة قبر؛ أكتب كلمتي الأخيرة:  " أنا على العهْد.. باقٍ.. يا جدّي.. ".

إمضاء: عدنان الجزائري على لسان "طارق" الغزاوي.

لم يكنْ بالمُسْتطاع نسيان هذه الشكوى؛ فقد أثّرتْ في العمّ "عبد الله"؛ إلى درجة أنّه احتفظ بنسخة منها بعد أن سلّم النسخة الأصلية للزبون الصّغير.. كان الحفل بهيجاً؛ تعانقت فيه الأعْلام.. واتّحدتْ فيه الأحلام.. ونجحت الأستاذة "نصيرة" في غرس القضية الفلسطينية في عقول تلاميذها وهي تُعْلِنُ الفوز الكامل لفريق "عدنان" بالميدالية الشرفية أمام جمهور غفير؛ كان من بين الحاضرين فيه؛ القاضية؛ "حكيمة" باعتبارها الصديقة المقرّبةُ للأستاذة "نصيرة. " وكانتِ المفاجأة الأكبر؛ دخول العمّ "عبد الله" ومعه المحاميان: "هاشم" و"عبد الودود" بعد أن دعاهُما العمُّ لمُرافقتِه؛ إثْر حصوله على إذْنٍ خاص من مديرة المؤسّسة التّرْبوية.. تكلّفَ ثلاثتهم؛ بإلصاق مجموعة من نُسخِ "شكوى النّزيف" على جدران القاعة والساحة.. ووزّعوا قُمْصاناً بألوان وطنية وأخرى فلسطينية على الفريق الفائز..

***

شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر

مع النّسيم

الشّمسُ تتأرجح

على حَبل قلائد النّعناع

قلائدُ النّعناع ظلالُها تيجانٌ

تيجانٌ تنُوسُ على المرمر

مرمرُ فِناءِ بيتِنا مُشَعْشَعٌ

مُشَعشعُ الأريج

*

في الرّكن المُقابل

جاثمًا ينتصب بَرّاد الشّاي

على الكانون

الكانونُ مُتوقّد الجمرات

أمام بيت المؤونة

أمّي جَذلى تغنّي

تغنّي وتراوح الماء بين الأواني

أواني النّحاس والبلّور

فتسّاقط قطراتُ الزّهر

قطرةً

قطرةً

*

أمّي

أمُّ الرّبيع تُقَطّر الزّهرَ

تُهديهِ قواريرَ قواريرَ للأهل

للأحبابِ

أكبرُ القوارير

تملأها تمامًا تمامْ

لحَفيدِها الجديدِ

هذا العام .

***

سوف عبيد - تونس

 

في اللاشيْ كان يغور، يبحث عن شيء لايعرفه بالضبط، وما مر في مخيلته، ولازاره كومضة كامره تخثر اللحظة وتحنطها، فقط يبحث عن شيء في اللاشيء.. ماهو.. ؟

-لا ادري.. !

- أدري انك لاتدري، مثلما اعرف انكَ لاتعرف.. !

- ومن أنا.. ؟!..

- حين اعرف من اكون، ساقول لكَ من انتَ...

وراح يواصل البحث، يلتقط الاشياء، يتأملها، ويرميها وسط الماء.. تتسع الامواج وتتصادم في صراع واشتباك.. تخرّ بعضها صريعة، والاخرى تستمر بالاتساع، والنهر يزمجر لاحتدام الامواج.. ويحسب الامواج الراكضة وهي تتنسابق..

واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، خمسة.. إلخ

بعدها، يقلد الموجة الرابحة، قلادة من محار..

ويعاود الجريان والابتلاع والتثائب.. !

رحت اساعده بالبحث والتنقيب، وأنا الاخر لا أعرف عن منْ أبحث.. !

ووجدته يصرخ بي:

هذه بقعتي لاتزاحمني عليها.. هيا انصرف وبسرعة..

قلت: أين هي بقعتك وهي لاشيء.. !

قال: بل هي شيء في اللاشيء..

قلت: وهذا صحيح،

واعتذرت له رابتا على كتفه، فتطاير الغبار الكثيف من فوق كتفه المتهدل..

حينها، إبتسم بفرح غامر وراح يطارد الغبار محاولا الإمساك به

ويردد:

شكرا لك.. شكرا لكَ

هذا ما كنت ابحث عنه.. !!

***

د. جودت العاني

24 / 2 / 202

 

ـ ملامح، شقائق، خواطر وأجنحة ـ

من يخشى على الحَمَل

لا يكون إلى مائدة ذئب.

*

ما الشأن أن تسبرَ غورَ عتمة

ولا تخرج شمسٌ ولا حتى شمعة؟.

*

الفضيلة

أقصى ملجأ الجهل

والرذيلة

أيضاً

إنتحار علني.

*

جناحُ مآلٍ أخير

مخالب، أنياب كثيرة*

وخطوات طفلة.

*

الحياة

بمقاسِ ما الموت

يسمح.

*

كلُّ جهة

ولا جهة؟.

*

مرّات

تقول وتضحك

مرّات

صخرة

ومرّات

قلب حبق.

*

ريح

تصيبُها صدفة وصدفة

وصدفة.

*

القصد

أن تسمع عيناه أيضاً

القصد

أن ترى أذناه أيضاً

الإصغاءُ جذور

والفكرُ زهور.

*

"العصيان

كثيراً هو صوتُ الذين

لا صوت لهم".

*

أنا آكلُ ـ أنا حي

مثل أنا أفكّر ـ أنا حي؟.

*

رجل دين

علمتُ منه كيف خُلِق الهرّ*

قال: أعربتِ الكائنات

وهي في سفينة نوح

فراراً إلى الحياة

لنبيِّ الله نوح

عن خوفِها الشديد

أن يقرضَ الجرذُ حبالَ السفينة

فأمرَ الله نوحاً أن يضرب بيدِه "خيشوم" الأسد

ولمّا فعلَ

عطسَ الأسدُ وخرجَ القِطُّ

من رأسِه.

*

رجل دين آخر

سمعتُه في برنامج تلفزيوني

يقول إنّ الإمام كرّم الله وجهه

كان برفقته الصحابي الجليل

في وادي النمل ـ

وأين هو وادي النمل، يا فضيلتك؟

لم يذكر ـ

كان النمل في الوادي بالمليارات

قال الصحابي ناظراً بعجب: يا سبحان محصيها

قال له الإمام ـ

وشخصيّاً لا أدري من أين تأتي مثل هذه الأخبار ـ

لا، لا تقل سبحان محصيها

قلْ جلّ أو سبحان باريها

والذي نفسي بيده إنّي أعلمُ عددَها

وأعلمُ عدد ذَكَرِها من أنثاها

ويقول له المحاوِر:

وماذا يفيد أن نعلم عددَ النمل في وادي النمل

وعدد ذكرِها من أنثاها

ولو كان النبأ صحيحاً: لماذا لم يعلم

وهو عِلمُ اللهِ عزَّ وجلَّ وحده

أنّ ابن ملجم آتٍ بسيفِه المسموم ليقتله؟.

*

لا بدَّ من موسيقى

لكي تنجبرَ العظام.

*

الأنبياء

سيقولون أنّه حرّ

والصغار

سيقولون أنّه كافر.

*

كلُّ طريق:

المُنير، الصخريّ

المهجور، القريب، البعيد*

وبيتُ القصيد

مُغلَق.

*

مع الفجر

مع النسائم

مع زيتونة تُصِرّ

مع أسراب طيور إلى أُلفتِها

وهو إلى غربته.

*

العاصفة

من كلِّ اتّجاه

بالأوراق، بالرمل

بالسمك.

*

الأجواء تُستباح ـ

أناس كثر يتدافعون.

*

الهجرة

مورد مالي

لا بقرة للذبح.

*

في

ذهابِ وإيابِ

خيبةِ صدفة.

*

الميْت أم الحيّ

هو الذي نجا؟!.

*

لا إنفجار

إلاّ من ضغط.

*

الأسف

هو هذا الأسف.

*

السياسة الإقتصاديّة

وليس النظام الإقتصاديّ؟

أنت نمله وأنا فيل

فماذا تعمل؟

وأنا سمكة وأنت حوت

فماذا أعمل؟.

*

زمانُ

عبادةِ العجل

الذهبي

أيضاً.

*

"فرسانُ الهيكل

من القرون البائدة

كانوا ـ عسكريّاً ـ

نوعاً من أعلى

صنوفِ الكلابِ

الشرسة".

*

فالمسألة

هي في أوطان

والمواطن

يريد فيها كرامة

بالمساواة

في الحقوق والواجبات

إسمحْ لي وأنتَ صديقي

أن أختلف معك

إذا الوطن يضيق*

أنا معك بعزّةِ نفسِك

ولكن أن تكون مخاصِماً

لفكرة الدولة المدنيّة، العلمانيّة

والمجرَّبة كنظام حكم

في كثير من بلدان العالم

بإيجابيّة

ولو بأشكال دنيا

فإسمحْ أن لا أوافقك

ليست المسألة شخصيّة

بل المسألة مستقبل وأجيال مقبلة

حقّها أن تعيش عزيزة، حرّة، كريمة.

*

والناس

وحدهم قائد مخلّص.

***

شوقي مسلماني

انام واحلم

بزمرد وبفضة بيضاء

وبغزلان وايايل

ترعى في السهل

الخصيب مبتسمة

وبعنادل تغرد

قرب تلال من

الكرستال واليشب

لكن الالم الالم

في خاصرة الزمان

جعلني اكتب

سيناريو احلامي

المقبلة وان اوقد

شموع الامل الاخضر

والبهجة الخضراء

في  خاصرة  الالم

منتظرا عنادل

البرق وعصافير

قوس قزح الصباح

والشفق الازرق

لتغني مع الايايل

والغزلان والكراكي

في وطني الحزين

اغنية ا البرق

واغنية المطر .

***

سالم لياس مدالو

فيوضُ الروحِ عَنْ روحٍ تَناءَتْ

ومِنْ بَشرٍ إلى بَشرٍ تهادَتْ

*

فكَمْ سَمَقتْ رؤانا في عُلاها

وجابَتْ فوقَ أنوارٍ تَلاقتْ

*

فؤادُ الصَبّ مَسْكونٌ بوَجْدٍ

توجّدَ كلهُ والنارُ قادَتْ

*

سَكبْتُ الروحَ في أنْهارِ أدْري

فكمْ جَهلتْ وما حَذقتْ وغابَتْ

*

وما حَمَلتْ رَسائلها لذاتٍ

إليها غادَرتْ روحٌ وتاقتْ

*

أ يُمْسكُها ترابٌ دونَ ذنبٍ

ويَقهرُها بأوْجاعٍ فطارَتْ

*

بأنوارٍ تَجَلتْ ثمَّ تاهَتْ

على سُفحٍ مِنَ التِسْآلِ دامَتْ

*

أراها شَعْشَعتْ , فِكراً أضاءَتْ

فأوْقدَتِ النواهيَ واسْتهامَتْ

*

أعانقُ عَرْشها والمَوْجُ يُطمى

فأغرقُ في بحارٍ إسْتقادَتْ

*

هيَ الدنيا وَميْضٌ مُسْتعادٌ

فهلْ بَقيتْ لواحِدها وطابَتْ

*

تحرّرْ مِنْ ترابٍ لا يُبارى

سَيأكلُ كلَّ شيئٍ كيفَ دارتْ

*

أسامِرُها وحُبّي حَتفُ قلبي

وأنْساها وروحي ما أصاخَتْ

*

عَجائبُ قدرةٍ مِنْ كُنهِ ذاتٍ

تُزَعْزعُها الهواجسُ فاسْتجارَتْ

*

ورُبّ خطيئةٍ برَزتْ كحَقٍّ

تبرّرُها النوازعُ فاسْتكانَتْ

*

تقدّم أيّها المَسْكونُ فينا

بواعدةٍ عَناصرها تآخَتْ

*

تُعللنا المَنايا قبلَ حَيْنٍ

بمُنتقلٍ مَرابعهُ تناجَتْ

*

فنسْعى في مَناكِبها نِياما

ولا نَدري بما فَعَلتْ وشادَتْ

*

لنا يَومٌ وأيّامٌ بغيْبٍ

تعاضدها النوازلُ فاسْتباحَتْ

*

مَرَرْتُ بها على أقوامِ باقٍ

ولا أدْري لماذا إسْتفاقَتْ!!

*

تُعلمُنا الخطوبُ جراحَ هَمٍّ

وتَنكرنا إذا وفدَتْ وغارَتْ

*

أجالسُ عَرْشها والروحُ كَلْمى

بنفسٍ عنْ مَساوئها أشاحَتْ

*

أفاضَتْ مِن جنانِ الشوقِ قطراً

يُساقي مُهْجَةً طربَتْ وآبَتْ

*

حنينُ الكونِ في ذاتٍ تَعتّقْ

فأسْكرَ خلقها والروحُ هامَتْ!!

*

على مولايَ مِنْ ألمٍ أنادي

فهلْ أُسْقى بأنوارٍ تَهادتْ.

*

سَمِعتُ صَريخها في جوفِ أرْضٍ

وأمْعنتُ التفكّر فاسْتراعَتْ

*

عَليمٌ عارفٌ كُنهَ انْطلاقٍ

وإبْحارٍ بدائرةٍ أدامَتْ

*

فلسنا مثلَ أحْرارٍ كخلقٍ

تقيَّدْنا بجاذبةٍ أبادَتْ

*

فسَلْ عنّا طيوراً في عَلاءٍ

إلى عَرْشٍ بساميةٍ تبارَتْ!!

***

د. صادق السامرائي

 

إذا استعصت بأيـــــدينا نذودُ

فما قد كان يدريه اليهــودُ

*

بـ(خيبرَ) يشهد الأعداء يوماً

بهِ هُدَّتْ بصمصامٍ ســــــدودُ

*

بهِ بابٌ له العشرون ضعفاً

بكفٍّ واحدٍ هُـــــزَّ الحديدُ

*

فسالتْ أنحرٌ عاثتْ ضلالاً

وآذتْ أنبياءً حتى يحيدوا

*

ولكنْ كلُّـــــــــــهمْ ظلّوا ثباتــــاً

على دين السَّماء .. وهم أبيدوا

*

فهل بعدَ الحقيقةِ كانَ شـــــكٌّ

وهل غيرَ الإله حوى الوجودُ!؟

*

لنا في الله عهدٌ لا يضاهى

وعهدُهمُ بهِ شــانتْ قرودُ

*

إذا قلنا ســنمحوهم جميعاً

نخافُ ﷲَ.. يكفينا الصّمودُ

*

نقاتــلُ بطشَهمْ ليلاً نهاراً

ولن نلوى.. لنا يوماً نعودُ

*

نؤذّنُ في المنائر عند (قدسٍ)

لـــــــــــه صلّى بقبلتهِ الحميدُ

*

(مُحَمَّدُ) خاتمُ الأديان منهُ

تعالـــى للسَّماءِ هو الوحيدُ

*

وعادَ بليلةٍ ضمّتْ زمانـــــــاً

على المسرى المبارك لا تعودُ

*

إذا يُجلى عن (الأقصى) يهــودُ

ففي التَّحريـــــــــــر أعراسٌ وعيدُ

*

لذا نبقى إلى (الأقصى) نصلّي

وعنهُ دائمــــــــــــــــاً إنّا نذودُ !

***

رعد الدخيلي

تعالي

لنتعلم النسيان

لننّسى أننا يوم التقينا

نتجاهل ذكريات الأمس

نكره عطرَ تعرقنا

نتناسى شفاهنا الرطبة

الاتزال رطبة من فرطِ

القبل.؟

ونحن نصطاد القبل قبلة قبلة بسنارة اللهفة

ننتهز اول أبتسامة لنمضغها

طازجة.

تعالي لننّسى الحب كما

نتناسى

النكبات التي توالت على خد الوطن صفعة صفعة

من أول الطغات

لآخر الغَزَاةٌ

علنا نفلحُ بالنسيان.

***

كامل فرحان حسوني - العراق

في سمعي يَهْتِفُ بي هاتفْ:

يــــــاولدي: (غَــزَّتنا) نازفْ

*

وعِقَــــــــالُ الفِسْقِ بِمَعْقَلِهِ

يَعتَـــــــقِلُ الفِكْرَ المُتكاتِفْ

*

وعِمَــــــــــامَتَهُ في طَيَّتِها

زُنَّـــــــار أبيهِ المُتَحـــالِفْ!

*

ظَــلَّتْ.. وأظَــلَّتْ.. وأعـاقَتْ

(وعْـــيَاً) بظلامٍ ومَخَاوِفْ

*

أَلْقَـــتْ وتَخَلَّتْ عن دِيـــنٍ

لِتُدِينَ بفتواها (مُخَــالِفْ)!

*

فاصْدَعْ ياولدي.. ماتُــــؤْمَرْ

واعْرِض عن نُظِمٍ... وطَوائِفْ

*

والْجِـــمْ نَعَــرَاتَ سياستِهِمْ

كي تُخْمِدَ عُنــفاً... وقــذائفْ

*

واقْتَـصْ مِنْ ظُـــلَّام العَصْرِ

كي تُنْــهِ الظُــلْمَ المُتضاعِفْ

*

ما وَطَّـــــأَ رأس عُروبتِـــــنا

واقتـــــادها بَعْلٌ... وزواحِفْ

*

إلا زُعمــــاء بني بَطْــــــحٍ ...

و(مَدَالـــيز*) الثَّوْبِ الـزائِفْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

18/5/2024

........................

* مَدَاليز: مفردها مدلوز / عامية تعني المُخَنَّث... وهنا كناية عن الذين يزعمون أنهم رجال الدين بجميع أصنافهم...

جلست يوما

أتفيأ بظل نصب الحرية

وأقرأ في كتاب "العبودية"

عن كيفية صياغة أحلامي المتأجلة

منذ أعوام

وأنا أصر على المشي

على حافة المنفى

أتوكأ على عصا مرخية

كلما جرفتني رياح الغربة

أحمل خطواتي فوق بساط التيه

*

فر العمر

وتركني أغازل فقاعات

على وجه ساعة متوقفة

داخل جيب سترتي

*

ها أنا الآن أهاجر

مع أوراق الخريف

وتحت ابطي مفاتيح المدينة العتيقة

وباقة من زهور ذابلة

*

مالذي سأفعل

بمخالب قطة وديعة

تجلس معي

في قاع المنفى

وما معنى أن تحرضني

سيدة مسنة

على مداعبة الأرانب السوداء

*

وعندما تراخت

الظلمة البهيمة

على مناكب الأرض

وتدلى الصدى

من أجراس خرساء

كانت أحداقي

تتشظى

وتعتلي فراغ الأمسيات

*

لعل في نباح الكلاب

ما يشفي الخيول الجامحة

في قافلة تخلت عن ركبها

*

هكذا تبقى الحياة

مجرد كلبة ذات جراء

متعددة الأعراق

*

وأنا لم أزل أحفر في تضاريس عائمة

على أعتاب العمر

أمرغ سحناتي الشاحبة

في تجاعيد الزمن

وأعاقر ما تبقى من نخب الشيخوخة

*

كنت أظن أن الحرية

نعمة من نوع آخر

فوجدتها سوى ورقة يانصيب خاسرة

تحتضر في سلة المهملات

*

كأني شبح ثمل

في حانة مهجورة

روادها كالزنابير

يتدربون على التحليق

خارج السرب

ويرقصون على نقرات

الطبول الأفريقي

أشجار الخروب

تطل من شرفات

مغروسة في الخواء

والظهيرة

مكتظة بناس

يتنكرون بمنامات بهلوانية

*

أنا الآن في سن

أصبحت فيه كعصفورمنبوذ

يتسكع خارج القفص

***

بن يونس ماجن

غدا؟

غدا !

وبتُّ أُخاتل ليْلي

أُقشِّر وجْهَ الشَّمسِ

من الغسقِ

يُقلِّبني طيفُه

على فراش الأرقِ

يُذكي ضِرامَ الصَّبِّ

يٌمزِّقُني

ثمَّ على مهلٍ

يَرتقُ مِزقي

حتَّى رقَّ لحالي اللَّيلُ

وَنهَرتْه عينُ الشَّفقِ

طرتُ له

كما النُّور من الحِدقِ

مَلأْتُه منْ حُميَّاي

وامتلأْتُ به

وَ في لجَّة عينيْه

سَكبتُ وهْج الشَّبقِ

***

زهرة الحوّاشي. تونس.

من مجموعة وميض الماء.

يقولون ،

أن الصقيع

تلاشى

وعلى أعتابه جاءَ الربيعُ

يحمل بصماته

ويسمع وقع اقدام هؤلاء الرقيع ..

مملؤة بالوحل، أشكالهم

نراها ملطخة بالنجيع ..!

**

وحين السؤال..

لِمَ كلَ هذا الهراء الشنيع..؟

لماذا المواسم ظلت جحيماً

تعاني نزيفاً ونسفاً وعصفا..؟

يجيبون ماذا ترانا نراها

فكل الذي جاء بعد هذا الهجيع

نذير تعالى

أن يديم الزمان رهانه

على مذبح الحقد والكره

حتى غدونا نسيرُ سيرَ القطيع..!

وتهنا

وتاهت بنا اقدامنا في متاهاتها

وظلت تواري سوءات

هذا المسار الوضيع..

**

يقولون هب ، ان الصواري

غدت في مهب الرياح طلاسماً للنزوح..

وماجت بها كل تلك الدروب

وتلك السفوح..

ثم انتهت مهجعاً للخلاص ..

وحارت بلاغات هذا الزمان الكسيح

ألا ترون النهار الذبيح..؟

وكيف نداوي الجروح..

بتوصيفة

النسف والعصف ورشق الرصاص

كأن العوالم باتت خواء وجدبا..

واحكامها في الحق

ماتت من القهر حد القصاص..؟

**

يقولون،

ماذا ترانا نقول ؟

نقارب الهوس المشبع بالنزيز وبالغبار..

من يبرح الفجر المدمى كلما طلع النهار..؟

ونقول ماذا ترون؟

هم يحرقون طقوسهم

ويصبون زيت النار في جوف الغيارى..

ويزهقون العابرين على الطريق

ويفر الناسُ جمعٌ في العراء حيارى..

ماذا يحل بنا لو ان بارقة

تداعت خلف هذا الهول من وهج الحريق..؟

ماذا تراه على الوجوه وجومها

تلك النقوش تحولت

نغماً يضاجعه النعيق..؟

نشروا المهازل والرذائل

والمزابل والرقيق..

وكأنهمُ يمشون كالموتى ولا أحد يفيق..!

(2)

واقول للجمع المدمى

لا ترتجون النصح من فقد المحبة والحنين

زفوا لهذا العمر صرخات السنين

شدوا سواعدكم ، فوق الركام وعند قارعة الطريق

فأن ملحمة الخلاص تصاعدت نغماً عريق..(*)

***

د.جودت صالح

22/كانون أول 2023

..........................

 (*) من وحي مقولة لفيلسوف اليونان الحكيم "بطليموس" حين سأل زوجته (ألا ترين ، أن العالم فاسد الذي نعيش فيه، لا كما نريده أن يكون)؟

التاريخ يسخر منا

والجغرافيا تنحسر

تتحول إلى مجرد كأس قهوة باردة

على طاولة مهترئة

في مقهى طاعن في السّن

ونصف سيجارة في منفضة

قديمة

الأمر يشبه اليوم حربا على طواحين الهواء

دعوني أعلن تدمري بل تمردي

على شرائع الغاب ولغة الخساسة

دعوني أجهر بعقوقي لسادة الظلام

لمن يحكمون بناموس المواربة

وفرائض الاجْتراح و الخطيئة

دعوني أعلن عصياني على ضرائب

الشيخوخة وقانون نزع الكرامة

دعوني أصرخ في وجه جُبَاةِ المكوس

وحجز لزوم الدواء والغذاء

2

أعلم أن صوتي لن يخترق الأذان الصماء

وأن تسويق كلومي مجرد هراء

وتحصيل حاصل خارج السياق

لن تتحقق نبوءة عرّافة القرية

لن تغرد عصافير المساء

لن يَلجَ الجمل في سَمِّ الخِياط

وسأقف وحيدا في وجه العاصفة

أتلو مزاميري

أرقص كديك مذبوح

أشعل شمعة سوداء

أحرق عود الصندل

وأستحم برحيق الصهيل

3

أقيم صلاة الجائع

عند الربية الخضراء

تلبسني فقاعات الاهتراء

تلسعني صفاقات التلاشي

أخرج من حلقة التكرار

أكتشف أن الحزن قدري

وأن لون قمري معتكر

رِفقا بي يا غيم المساء

دع ضراعتي تصل السماء

فأنا مالي صبوة ولا جهالة

والفجر يشهد لي أني ما كنت يوما

من الأشقياء

***

محمد محضار

كانت تحاول أن تحرك لسانه فيتكلم، يحكي، أن يستفرغ ولو قليلا مما يكتم ..

تسأله وكأنها تستشيره في بعض أمورها أو أمور تمس مستقبلها معه حتى لا تحسسه بحرج مما عنه يتكتم .يحاول ثم يتراجع، يطبق شفتيه، يتنهد بغصة حارقة..صمته لا يزيدها منه الا خوفا ..

تعلقت به لأناقته ولباقته، مظهره الذي يعكس أكثر من ميزة كأنه يتعمد إخفاءها رغم أن كلماته القليلات منه كثيرا ما كانت تفضح جذورا أصيلة، ثقافة ووعيا ..

تتعمد أن تشجعه على أن يلمس يدها، أن يبقي على احتضان كفها بين يديه، دون أن تسحبها أو تبدي اقل معارضة، كانت تلاحظ نوعا من غيبوبة تسرقه عنها كلما لمسها، تستغرقه دقائق وكأنها ترحل به بعيدا عنها، عن كل ما يحيطه ويجمعها به، يضغط على يدها كأنه يتأكد من وجودها المتفاعل معه، إذ يخشى أن يفتح عينيه فلا يجدها أوعنه تتحول الى غير ما يعرفه عنها ومنه قد تأكد ..

مرة وقد التصقت عيونه بوجهها تفجرت مقلتاه دمعات ساحت على خديه، غمرتها فرحة داخلية تكتمت عنها حتى لا تشعره بحرج قد يثنيه عن الكلام ..

سألها : "ألا تجدينني ثقيل الظل ؟.."

بسرعة ردت : ابدا، أحترم صمتك وأعلم أن في أعماقك تجيش مشاعر حب نحوي تكفيني لأحضنك ومنها أستمد سعادتي .. منذ نظرتي الأولى اليك أحسست رغبة قوية لان أرتبط بك صديق عمل ثم مع الأيام صرت محور تفكيري، حبيبا بلا اعتراض اوتوجس من غد ..إنسان صادق في إنسانيته لاتنقصه الا بسمات تمحوهذا الحزن الدفين ألذي يطل خوفا مؤثرا من هذا الوجه الذي أحب ..

ـ أخشى ألا أستطيع ترتيب أفكاري، بالدقة التي تمنح حبيبتي الصبر على متابعتي، لذا فالصمت كان افضلية مني تبقى على اسراري، أما وقد أدركت رغبتك فقد عولت على الكلام ..

ـ يكفيني هذا الإحساس الذي يغمرني كلما وجدت نفسي معك، أنا لك بحقيقة أناي بكل قيمها ومبادئها الإنسانية ..

تقولها وأعماقها تتحرق لهفة لأن تسمعه، ماذا عنها يخفي و أعماقه بسرعة تتحول الى بركان حارق هادر يقاوم شرارات غضبه حتى لا تتأثر بها وعنه قد تبتعد ..

مرة أخرى تكويه دموعه على خده، يستل منديلا من جيبه وينشف به خده ..

تتابعه بقلق تتعمد أن تخفيه، حتى لا يتبدى الحاحا ورغبة فضول على وجهها ..

ـ "كان عمري عشر سنوات حين ماتت أمي وتركتني وحيدا مع أبي تخدمنا امرأة شابة كنت أناديها خالتي متوهما أنها كانت أخت أمي..

خالتي أبعدت عني كل ما يمكن أن يخلفه موت أم في طفل صغير، تغلبت على أحداث جسيمة، عميقة بقدرة صلبة تفل الحديد.. فالبيت هو البيت كما كان في وجود أمي التي لم تكن تتحرك فيه الا وهي تستعد للاستحمام أو في مناسبات تقام في بيتنا، فكسل أمي الذي فاجأ الجميع كان قد اورتها سمنة فاقت الحد، يعشقها أبي أو هكذا كان يتخيل لي أو يمثله في حضوري؛ كانت خالتي هي ربة البيت الحقيقية، أصغر من أمي وان لم تكن اقل منها جمالا ، أملود لينة تستطيع أن تخضع لرغباتها جميع من تتعامل معهم، بدلع طفولي أحيانا كأنها أحد أترابي أو اقل، أوعبر عيون واسعة ناعسة تنومها في اثارة لا ادري ان كانت بها واعية أوغير واعية، تمارسها مع أبي كما معي ومع أي ممن يأتي لبيتنا، كانت تلبي رغباتنا في البيت بسرعة وبسمات حب وإرادة لم نتعودها من أمي حتى قبل أن تسمن وتلازم سريرها ، كل ذلك في حرص على ألا يطلع على حقيقتها أي كان من افراد عائلتنا، قليلة الكلام لا ترد الا بمقدار السؤال، ولعل ذلك ما جعلها حاضرة البديهة بصفاء لايمكن أن يكشف دواخلها الحقيقية كما أن السحر الذي في عيونها هو ما تعوض به لسانها، فهي لا تنم أحدا أو تسمح أن يذكر أحد في حضورها بنميمة أو تتدخل فيما ليس مخططا في عقلها او تبدي تهافتا لكل ما قد يحقق لها منفعة وفائدة .. هكذا كانت تظهر لي أو تجاهد النفس لتبدو كذلك، سياسة لمواقفها الشخصية لتحقيق أغراض بكفاءة جبارة ..

أحيانا كانت الغيرة من سلوكها كاستحواذية على أبي تثير حولها اقاويل عائلية لكنها كانت لا تبالي ولا تشغل نفسها برد أو عداوة :

ـ "تظل الأقوال في فم القوالين كلمات واهية هم أول من يتلطخ بها "

كانت لأمي غرفة نوم تستغلها بمفردها ولأبي أخرى قريبة منها ليس بينهما غير جدارفاصل، غرفة نومي تقابل الغرفتين وجميع الغرف في الطابق الفوقي، كل غرفة لها حمامها الخاص بها، لكن كثيرا ما كنت أنهض صباحا فاجد أبي يستحم في أحد حمامات الطابق السفلي حيث غرفة نوم خالتي .. لم أكن يومها أدرك أن غيثة خالتي هي عشيقة لأبي، أشياء لم أكن أدركها بل لم تكن تخطر على بالي خصوصا وأن معاملة غيثة لامي هي معاملة حب وأخوة وحرص من خالتي أن تكون أمي سعيدة لا تقنط من حالتها ولا تسأم، وحرص من أمي أن تكون خالتي راضية بوجودها بيننا تتصرف وكأنها ربة بيت تنازلت لها أمي عن كل ما قد يغير نظام البيت، طقوسه وعاداته اليومية خصوصا أمام كل زائر من أفراد عائلتنا.."

يصمت ثم يتنفس بقوة كأنه يزفر ما يريد أن يتابع قوله، أو أنه يرتب أفكارا تتزاحم على عقله، أو ربما يختارمن بين ما يتداحس عليه من أفكار ما لا قد يثيرني أو يوقظ تساؤلات هو في غنى عن الرد عليها ..

ـ"كلما ازدادت أمي سمنة توثقت علاقة أبي بغيثة حتى أنهما ماعادا يشعران بحرج أن أضبطهما في أوضاع كثيرا ما ابكتني، لكن غيثة بقوة شخصيتها وديبلوماسيتها كانت تمحو كل أثر قد يجعلني افضح أمرهما لأمي ..

ـ حبيبي صالح، ربما لا تعرف اني وابوك متزوجان بعقد ورغبة من أمك التي كانت تصر على ألا يصلك خبر خشية على مشاعرك الطفولية، لذا ارجو حبيبي لاداعي لاخبار أمك بما رأيت..

" كنت أثق بأقوالها، أصدق كل ما تصبه في أسماعي وياتيني هدايا من أبي يغدقها علي من أموال لم تكن له وانما هي مما استحوذ عليه من أمي بمساعدة خالتي غيثة وإمضاءات مزورة لا ادري كيف كانت خالتي تغري أمي بتوقيعها ...

تموت أمي بعد عملية جراحية لشفط الشحوم أصرعليها أبي بإيعاز من خالتي، رغم شكوك الطبيب الذي كان يخشى على قلبها ...

وثائق كثيرة وقعتها أمي ليلة العملية بإغراء من خالتي والتي على إثرها وجدت نفسي بلا أم ولا عائلة، غصن مقطوع من شجرة، طفل لقيط ولد تني رذيلة من مجهولين، لا اصل ولا فصل، جنين في سلة قمامة أتى بي أبي الى البيت بعد يأس من قدرته على الخلفة، ورغم وجودي في دفتر الحالة المدنية أحمل نسب أبي فما تركته أمي موقعا بيدها كان الحجة القاطعة أني منذ اليوم الأول لوفاة أمي صرت نغلا بلا اصل ، وحدها خالتي غيثة تحمل عبء أمي حملها لكل ثروتها ..

ضمني أبي الى صدره وقال : لا شيء سيتغير أنت ابني وذي خالتك هي أمك، في خيرها كنا نعيش وسنعيش ..

حين خلت بي خالتي توهمت ضغطات عناقها ودمعاتها التمساحية حبا يحتويني ويعوضني أمومة عشتها سرابا وهميا من وضعي الذي فاجأني باكتشاف..

بعد خمس سنوات من موت أمي صار بيتنا يغلي بخصومات بين أبي وخالتي، كراهية تسير بينهما كدلال حقد وتنابز يجهدان النفس على ألا يصلني ..

سألت خالتي عن السبب ولماذا تغير حالهما من حب وتوادد الى كراهية حيث استقل ابي بغرفة أمي وعادت خالتي الى غرفتها في الطابق السفلي ؟

لأول مرة أرى خالتي في صورة لم أكن لأتخيلها ابدا أو تخطر ولو في حلم على بالي : عيون قدت من جمرولسان يرمي بشرر بدئء :

ـ اهتم بنفسك ولا تتدخل في ما لا يعنيك أو ألحقك بها ..

انكتمت بل أخرسني وجهها الذي بدا شيطانا وعيناها سماء رمادية تحلق داخلهما النسور .. رعب مفزع يساورني في يقظة ومنام ..

حتى أبي صار لا يحرك ساكنا في حضورها، وما كنت أستغرب له أنه صار يسمن كما سمنت أمي يتركن زاوية في البيت لا يتحرك منها الا بمساعدة خادمة أتت بها غيثة لتلبي مطالبه الضرورية لان منظره صار مقرفا وكما سمعتها تقول لخادمتها يوما :

ـ افعلي به ما تشائين ماعاد يصلح لعادة ولا لعبادة وعيناي لا تحتملان الوقوع عليه .، وليس لي وقت لذلك .

صارت تقضي يومها بين فنادق حمامات التجميل والسباحة وزيارات الصويحبات ..ومولات التقليعات الحديثة ..

حين أرادت يوما أن تصالحني أتى سلوكها مخجلا لا يليق بها كأنثى ربتني وعاملتها معاملة أمي ..انسحبت فارا الى غرفتي ابكي طفولتي التي انكسرت في لحظة وعي بوجود ما كنت أدري حقيقته من زيفه، وشبابي الذي تعاظمت فيه غربتي وقد صممت أن أعالج قهري بالصمت لان لا احد صار يستحق أن يعرف حقيقتي الى أن تعرفت عليك كأنثى تشاركني مكتب عملي، وفي نفسي تقذف صورا رائعة عن أنثى لم أعرفها في بيتي ولا في معاهدي الدراسية

يموت أبي بما ماتت به أمي سمنة مفرطة والمتهم بقتله أنا ..

ادعت غيثة أني مذ عرفت حقيقتي وأنا أحمل له حقدا، من أجل ذلك تم حبسي على ذمة التحقيق الى أن كشفت الأبحاَث الحقنة التي سببت سمنة أمي ثم أبي من بعدها وموتهما ..

صمت وكأن منه الصوت قد غار و ضاع، شرعت أصابعه تتحرك بعصبية وأنفاسه كأنها كير حداد تنفخ صدره فطواه ألم جعلني ابادر باستدعاء سيارة إسعاف ..

يومان قضاهما في عيادة لم افارقه فيهما وهو ما كشف علاقتي به بين أمي وأبي، كانت تمهيدا لأن يتقدم الى خطبتي وأن يعرف أبي حقيقته فيتبناها كمحامي استطاع أن يكشف سر خالته كخادمة لا تربطها بأبيه أية رابطة موثقة، تمكنت بذكاء أن تلعب دورا في حياته وأن تقتل أمه بتأييد من أبيه ثم تستولي على أبيه لتنفرد بثروة خططت لها وكان زوجي نفسه في الطريق ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

في خضم ما يحدث في العالم لا بأس من الرجوع إلى رواية "زغب الخوخ" ولو عبر هذه الفقرات.

***

حتى أن لسانا يشبهه همس في أذنه:

- إنك تريد أن تثير هيجان هذه الألسن لتسحب بطونها ناحيتك فتلتوي على خوختك الآمنة.

عندما أصر ولم يسحب لسانه دفعته تلك البطون بالقوة، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل راحت تتحدث فيما بينها، فاتفقت على أن هذا اللّسان العربي الخبيث الذي تمكن فأسرى ليلا، قد يكون يخبئ شيئا خطيرا يمكن أن يلوث كل الخوخ في هذا الشرق الذي توسط واستعصى علينا، اتفقت أن تلاحقه في كل مكان.. أتعبها بعض الشيء، فقد قيل بأنه يختبئ وراء ألف وجه، ويتحدث بألف لسان، وقد شاع أيضا أن هذا من يخلص العالم من المكائد والشرور، حتى شاع بين البؤساء أن هناك نشدا من الصالحين يؤكد صحة هذه الإشاعة، إشاعة أحبّها الضعفاء والمهزومون والمقهورون في العالم العربي.

لكن تلك البطون التي تحالفت وشكلت أمما متحدة خافت أن يفتك منها زغب الخوخ الفائض بالماء والسكر، الطيع منه والمكره، والساذج الذي طفح بخيراته دون إرادة، وذاك العاجز عن استخراج خيراته من تحت وسادة رأسه، وكذلك أولئك الأغبياء المنتبهون جدّا إلى وعود القرية الصغيرة، خصوصا حرية الخوخ المسلوخ وحبوب منع التفكير، قرية أبو جهل التي يعرفها العرب، المنصة التي كان يعرض عليها أجدادهم جواريهم..

فعلا فقد تأكد أن من يشبه أبا جهل يسكن في بيت أبيض جميل، وتأكد أنه ينزح لإعادة بيت كان قد فقده منذ الأزل، وقد سحر الناس بلغته المشرشرة المنحدرة من حجرة غاشمة، حتى عرب قريش كفروا بلغة الله حين التوت هذه الحيّة حول جسد الجزيرة العربية.

ذهب بخياله إلى هذا المعنى، ثم جاء رويدا إلى واقعه المفروض وأخذ ينسحب تدريجيا من المكان، وهو يسير بطريقة خلفية إلى الوراء رأى العرب صرعى، وكالبركان يخرج من أفواههم سائل غازي سحري بلون اليابسة العربية ووجوهم فاحمة بالرذيلة.

رفع رأسه فرأى سماء غاضبة ملبدة بسحاب محنط لا يبشر بالمطر، وحشودا عربية تهرول بين أودية الدماء لا تدري أين تتجه، وأكثرهم يجرون لإدراك حفل دموي تحييه كوكبة من النجوم الزرقاء والخطوط الحمراء في تحالف جاهر بالمكيدة.

في فيحاء تكاد تشتعل من وهج النار صلى استسقاء للمطر كلما شعر بالعطش، لكن السماء لا تستجيب له، ربما كان عليه أن يغوص فيها غوصا تاريخيا قبل الصلاة، وكم هو مثير للأعصاب إذا جمع بين الشهوة والخشوع، ولأن له جهازا جنسيا يطغى على جميع الأجهزة، بدا كأي راغب يريد أن يصير آدم ليبني كيانه من جديد، فضل أن يُبقي عقله في جمجمة رأسه، وأن يرش روحه كل مرة بماء بارد فلا يترك من كيانه إلاّ نفسا منتصبة، تتأمل شواطئ الماء وشواطئ الشهوة كشكل من أشكال التمويه، ليرى أغصانا متدلية بخوخ مسلوخ يقطر من زغبه ماء حلو بنكهة العسل، تظاهر بأنه من جموع العرب المتلذّذين، وأنه يغض بصره عن شلّالات النفط المنهوبة، وإلّا كيف يرضي دول التحالف يا عين قلبي؟

السماء أمطرت غبارا أسود حزنا على الأبرياء الذين ماتوا وهم لا يفهمون ما يحدث، وقد كانوا من قبل يستطعمون الْحُب كما ينبغي، يعرفون الفجر كما يعرفون أبواب بيوتهم، وكم كانوا يحرصون أن يشهدوا أول قرن لشمس الحياة الجميلة كلما غمزت لتوقظ الكادحين والعصافير.. هكذا تفرح بهم قطرات الندى كلما استيقظوا باكرا، وهكذا كلما تستثيرهم إلى الحياة إذا تدحرجت على أكمام الورد الذي أباح رحيقه للنحل المخلص بالشفاء.

المتصارعون على الآدمية الغاشمة شرّدوا العصافير والفراشات، وأضافوا نصف ليلهم إلى نهارهم.. حجزوا المساء لأطفالهم، والياسمين وكل العشب الأخضر.. أرادوا الصباح لهم وحدهم.

يفعلون ذلك ولا يأبهون بمن انتخبوهم ومنحوهم السلطة ساخنة، أولئك الذين كانت تتقاذفهم الحملات السياسة هنا وهناك، يركلهم الجوع والعراء في صباح ومساء المدينة الطيبة، المساكن التي اتخذت من الإسمنت والقش والقصب قواقع لتحميهم من الأفاعي والزواحف الهائمة، ينامون في العراء ورغم ذلك لا يخافون من الموت كما يخافه هؤلاء المتصارعون، يتحسسون الموت حتى من الخربشة البسيطة فوق السطوح وتحت أسرّتهم وموائد أكلهم وشرابهم، هكذا لا ينامون نوما هانئا كلما تقوقعوا داخل قصورهم العالية، واستلقوا على أفرشتهم الحريرية، لأن قلوبهم تقطر بالسواد وتنبض بالفزع، يتنفسون الأكسجين الأحمر لأن عيونهم تتهيأ الذين ماتوا تحت جرّافاتهم المتوحشة، وهياكل الأبرياء كالأشباح تحوم في غرفهم لا تفارق أخيلتهم، عيونهم لا تهدأ من الترقب، وكلابهم في الحديقة الواسعة لا تسكت عن نباحها ولا تهدأ من حراكها.

ومع كل صباح يتفنّنون في قتلهم، لأنهم رغم النار والرصاص والسياط والماء الساخن خلدوا في نومهم، ولم يروا في أحلامهم سوى الورد والفراش، ناموا بلا حرص ولا كلاب ولا سهام تحصن محيطهم، هكذا ناموا على فراش رقيق وكثير من الرمل، لا يغطي أجسادهم إلا لحاف يتخلله كثير من الهواء البارد.. مطمئنون وراء باب مشقق يشدّه سلك واه.

يتوسدون أرغفة يابسة للصباح القادم، والصباح حلو مع قهوة سوداء، وأمام مدخنة تأكل آخر قطعة خشب تراهم يتزاحمون لاقتناص دفء البصيص الأخير، ثم يسارعون إلى أغطيتهم قبل أن تبرد أجسادهم النحيلة، هكذا يتسابقون وهم يلعبون ويمرحون، رغم أن الموت ينتظرهم على عتبة الباب المشقق.

وككل اجتياح المؤمنون متفرقون فرادى، يصلون صلاة الإستشهاء، يتمنون أن تتلبد الأرض بلحم رقيق يكسوه زغب كزغب الخوخ الطازج اللذيذ، متأهبة ألسنتهم دائما للعزف والمتعة، ويُحذرون الذين يقولون "لا" ألّا يرموا بأنفسهم إلى التهلكة.

***

عبد الباقي قربوعه

الطير غنت للسلام

وبالرثاء قصيدتي

ماذا تقول القوافي

حين تغرز الريح مخالبها بأعشاش الطيور

فتروح تندب

تستوقف الأشجار كما  كان أسلافي القدامى يفعلون مع الطلول

قد تبدو البوم سعيدة حقا

كونها في مقبرة تبدو مثل مدينة  تحيطها الأسوار

لا أحد يجرؤ على اقتحامها

وكل من فيها يبدون سعداء

إلا الزّوار يجشهون بالبكاء

وقد نسوا أنهم مثل  الطيور التي تغني للسلام تارة وتندب أعشاشها تارة أخرى

ما أضيق السراب اذن

وما أوسع الأرض اذا التوت بنظرة الوعيد

مادامت الديار لا تستغني عن الأبواب والنوافذ مثل القبور

ستظلّ تنسجها الرياح وتطمسها الرمال

حتى تظل الطيور تبحث عن اوطانها

وتظل القصيدة تبحث عن رجاء او رثاء

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

مِنْ حِنْطَةِ الْأَشْيَاءِ يجْمَعُ بِيْدَرا

وَعَلَى وَصَايَا الْمَاءِ

يَنْقُشُ مَعْبرا

*

وَيَرُشُّ دَرْبَ الْعَائِدينَ بِدَمْعَةٍ

عَشِقَتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ

كَيْ تَتَحَدَّرا

*

وَرَعاً يُسَبِّحُ بِانْتِظَارِ فَسيلَةٍ

بِعَفَافِهَا تَصْحو الضِّفَافُ لِتَسْكَرا

*

وَعَلَى الْقِبَابِ الصُّفْرِ

كَانَ شِعارُهُ:

مَنْ مَسَّ أَضْرِحَةَ الْعِرَاقِ تَطَهَّرا

*

قَصَدَ الْبِحَارَ

وَحينَ غَادَرَ عِيدَهَا

تَبِعَتْهُ أَحْلَامُ الْغُيُومِ لِتَمْطُرا

*

كَفَّاهُ كُوخٌ، يَسْتَجيرُ بِوَحْيِهِ

قَلَقُ النُّجُومِ إِذَا الضِّيَاءُ تَبَعْثَرا

*

شَفَتَاهُ آيَاتٌ،

تَوَطَّنَ فِيهمَا

أَجْرُ الْحُروفِ لِكَيْ تَحُومَ وَتُبْحِرَا

*

زنداهُ أَجْنِحَةٌ،

تَلوذُ بِصَبْرِهَا

سُفُنُ الرَّحيلِ إِذَا الشَّرَاعُ تَقَهْقَرا

*

هذي بِلَادُ الرَّافِدَيْنِ،

تُرَابُهَا يَفْتَرُّ نُوَّاراً، وَيَضْحَكُ عَنْبَرا

*

تَشْتَقُّ مِنْ غَبَشِ الْهُمومِ يَرَاعَهَا

وَتصوغُ مِنْ قَصَبِ الْمَوَاجِعِ دَفْتَرا

*

تهْفو مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لِأَرْضِهَا

عِشْقاً مُذْ اصْطَفَتِ الحُسَيْنَ وحيدرا

*

مَنْ أَنْتَ حَتَّى تَسْتَخِفَّ بِقِبْلَةٍ؟

تَشْتَاقُهَا الْعُقْبَى،

وَتَعْشَقُهَا الذُّرَى

*

يَا طَارِئَ الصَّوْتِ اسْتَفِقْ...

فَلَأَنْتَ يَا...

صِفْرٌ عَلَى جِهَةِ الشَّمَاتَةِ، لَا يُرَى

*

للهِ يَا هذَا تحجُّ قَوَاِفلي

وَنَصَبْتَ لِلَّاتِ الْمُدَنَّسِ مِنْبَرَا

*

أَنَا لَا أَكيدُ، وَلَا أُلَوِّثُ غَايَتي

بِالْكُفْرِ، وَاللَّا كُفْرِ ضِدَّ مَنْ افْتَرَى

*

لَمْ أَهْجرِ الْإِنْسَانَ، تِلْكَ وَسيلَتي

مَا أَعْذَبَ الْإِنْسَانَ يَسْكُنُهُ الْوَرَى

*

مُذْ كَانَتِ الْأَكْوَانُ كُنْتُ حَديثَهَا

وَاسْمي عِرَاقُ الْخَيْرِ،

مَا اسْمُكَ يَا تُرَى؟

***

عبد الكريم الياسري

......................

* قصيدتي المنشورة في مجموعتي "حين يحتفل القصب"

الحليب ينز من آلة الساكسفون

ريش الموسيقى يتساقط من البلكونة

شكرا أيها البهلوان

حاملا إجاصة القلق واليوطوبيا

شكرا أيتها الراقصة

ستعبر باخرة المحبة بين نهديك

سيولد ناس جدد على الخشبة

تمطر المصابيح بالحنطة والذهب

أرقصي بجناحين من العسل

لتسعد الأشباح وتهتك جوهر الأشياء

ليقوم الأموات من المقابر

النساء يتسلقن  أحاسيسهن الوعرة

بجرار مليئة بأرز الشهوة

أخطف قبعة الضوء

يطاردني عميان كثر

خيول برية من  المتناقضات

قبل أن يطل وجه الحقيقة من البلكونة

قبل أن تسقط صخرة الرب

قبل أن تستيقظ الجثة في المبغى

قبل أن تمطر السهرة بالثعالب

سأفتح النار على الوراء

أرفو قميص الوجيعة

السهرة مترعة بالذئاب والمسدسات

بعيون أفاعي المامبا

بالقوارض والعظايا

أنا المهرج العبثي

صاحب الأقنعة الكثيفة

والسيف المصنوع من القش والغبار

السهرة مليئة بالمومسات والفيلة

الغراب يلعق دم الرهبان

لا تسدلوا الستار قبل دخول المطرب في سم الخياط

قبل سطوع القباطنة في الشرفة

قبل سقوط البرج  على كتف البهلول.

قبل أن يقفز  المايسترو من شجرة الجنون

حاملا إيقاعه الحار بين أسنانه

وبراهينه تثغو مثل شياه المجرة.

***

فتحي مهذب - تونس

 

خسران

تطحَنُ السنينُ نَضيرَ العُمر، وما تبقّى، يتلفّتُ ملتبساً، يَبحَثُ عن تَعويض.

**

ارتباك

كانَ يرىٰ أنّ للّيلِ فَماً، يَشتُمُ ما فَعلَ النَهار، ولا يدري، لأيّهِما يَنحاز.

**

تضادّ

إعذروا نَزَقي، فالأشياءُ التي لا أفهَمُها، هيَ أجمَلُ الأشياء.

**

جهل

السٰاعونَ الى الجَنّة، سيَخسَرونَ صِراطَهم، إذا ظنّوها في مَوضِعٍ آخَر.

**

مَسألة

الماءُ بلا لَون، بلا طَعْم، بلا رائِحَة، جُعِلنا منَ الماء، ما الذي تَغَيّر؟.

**

غش

لم أكُن مُبالياً، لماذا يَنوحونَ قُربي، جَميعُهم، كغِربانٍ حَولَ جثّة.

**

مُحترف

قفزَ يقبّلُ ظهرَ الراقِصَة، تُغَيّرُ الأعضاءُ مَوضِعَها، بعد عَمليّات التَجميل.

**

غرابة

أفكّرُ بالحُلولِ، الناجعةِ أحياناً، وأنا أنحَني علىٰ الحِذاء، أشدُّ الرِباط.

**

عذر

أمسَكتُ الفراشةَ، أبهَرَتني، لم تُغادِر، أحبّتْ دِفءَ يَدي، واستَشهدَتْ.

**

تطوّر

حتّى دموعُ الشُموعِ اختفَتْ، لم تَعُد تَحرقُ ذاتَها، لغَيرِها.

**

لاجئ

أحلامُهُ الوَرديّة، أركَبَتْهُ البَحرَ على قِطعةِ مَطّاط، أوصلَتْهُ الى فمِ قِرش، الحُدودُ في الأفق.

**

حماسة

حَمَلَ العالمَ على ظَهرهِ، وهو يَقرأُ في كتاب، خارجَ النافِذَة، لا أحدَ يعرفُه.

**

استبداد

حُكِمَ بالمَوت، فقد قرَأَ بصَوتٍ مُرتفع، شِعراً سياسيّاً، لشاعرٍ ميّت.

**

بلاغة

مددتُ يدي بالطَعام، لذلكَ الجائِعِ على بابِ المَسجِد، أمطَرَ الشُكرَ من عَينيه، بفَمٍ مُغلَق.

**

حرمان

في سِجنهِ الإنفرادي، المُعتم، كانَ نِباحُ الكلاب ، أعذَبَ موسيقىٰ.

**

عادل الحنظل

يومُ زَفافِ القَمر..

سَأولَدُ من رَحمِ الحُلم

أستَعيدُ نُجومِيَ المُحْتَّلة

هذهِ الأرضُ ليسَتْ طمُوحِي

لا أقبَل بِنصفِ السَّماء...

في مَهدِ الخَيال زَرعتُ وَطنَا

و هناكَ في البُحيرةِ المُقدَّسَة

سَألدُ عاشِقاً

يَرقُصُ على أهدابِ النَّخيل

يَرتشِفُ الضَّوء مِنْ شَفتَيَّ

نتَحوُّلُ إلى ذرَّاتٍ معاً

في غَفلةِ الهَواء

نَقبضُ على حُلمِ جلجامش

نصنعُ كَوكباً أخْضَرَ ..

شُهباً زاهِرة

وزَخارِفَ طائِرة

لَستُ أُنثَى..

أنا طيفٌ بلونِ المَلائِكةِ  يُناغِي ..

يشربُ الرِّيح

شُعاع  ماءٍ  يُعانقُ نَهدُ السَّماء

***

سلوى فرح - كندا

 

في نصوص اليوم